![]() |
يوم لا كالأيام..!
د. حسن بن فهد الهويمل لست مع الصامتين، ولا مع الذين يقتصرون في مشاركتهم بالمناسبات الوطنية على التمجيد والثناء، وإن كان لوناً من ألوان الوفاء، و(اليوم الوطني) يمر بنا كل عام، وقد لا نتذكره إلا من خلال وسائل الإعلام، والناس في بلادي لم يتعودوا على لغة الشعارات وهتافات الانقلابات، وإن كان حقاً عليهم أن يلهجوا بالثناء والدعاء لمن أنجز لهم هذا الكيان السياسي وأحكم صنعه. وإذا كانت الخطابات الثورية تحلم بوحدة شاملة وتَعِد بها ويدعيها من لا يفتأ يفرق شمل أهله فإن الملك عبدالعزيز قد أنجز وحدة ماثلة للعيان دون أن يسبق ذلك بقول، وكأني به يردد: (ماترون لا ما تسمعون) لقد أنجز وحدة إقليمية وفكرية يَتَقرَّاها القاصي والداني. ولو أن أبناءنا الذين ولدوا في أحضانها ولم يشهدوا مخاضاتها المؤلمة عرفوا أحوال أمتهم يوم أن كان الملك عبدالعزيز شاباً يتوقد ذكاء وحماساً في ملجئه في الكويت، ويوم أن عاد خالي الوفاض إلا من مشروعية فعله وحسن سمعته لكان لهذا اليوم طعم ونكهة لا يماثلهما شيء، لقد قضى ثلاثة عقود في معركة البناء يمده الناس بالسلاح والمقاتلين ويلتفون من حوله لأنه جاء على قدر، ولما ان لملم أطراف البلاد ووحد كلمة الأمة خلع لامة الحرب ولبس بردة البناء، فكان اليوم الوطني هو اليوم الفاصل بين معركة التكوين ومعركة البناء ويوم يفرغ فيه الملك عبدالعزيز ورجاله من مهمة شاقة ويتحرفون لمهمة أشق جدير بأن يقف الناس جميعاً لينظروا كيف أنجز هذا الكيان وما مراحل إنجازه، إنه يوم حقيق بالتذكر الإيجابي، ولن تتأتى الإيجابية إلا حين نسأل أنفسنا: ماذا صنعنا لهذا الوطن؟ وهل فرغنا لرد الجميل؟ لقد ظل وظننا يعطي ويعطي ونحن نرفل بحلل الأمن والرخاء. وها هي الذكرى السعيدة تمر بنا والوطن يتعرض لاختراقات مؤذية بالسلاح والكلام، وكأن لسان حال البعض منا يقول لرجل الأمن ولحملة الأقلام الشرفاء: اذهبوا أنتم وحدكم وقاتلوا إننا ها هنا قاعدون. أحسب أن هذا اليوم الاستثنائي يمر بظروف استثنائية ومن ثم فهو بحاجة إلى قراءة متأنية لتاريخ البلاد في أمسها يوم أن كان لا جيش ولا عتاد بل كانت عزمات مخلصة صادقة وإلى قراءة حذرة للأوضاع المحدقة بالأمة، والخروج بموقف موحَّد نضع فيه أيدينا مع بعضها. ينطلق الأستاذ إلى قاعته والعالم إلى منبره والإعلامي إلى محطته والصحفي إلى صحيفته والمفكر إلى صومعته لنقول كلمة واحدة: (العقيدة والوطن) منهما ننطلق وإليهما نعود لا نزايد ولا نقامر فهما وجهان لعملة واحدة فمن نال من أحدهما فقد نال من الآخر، وإذا كان آباؤنا قد وفوا للقائد الباني وأنجزوا معه هذا الكيان العظيم فلا أقل من أن نفي لقادتنا لنجتاز هذا المنعطف الخطير بأقل الخسائر وأيسر التكاليف وكل عام وأمة الإسلام بخير. |
المثقف بين الحقوق والواجبات..! 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل كلما أوغلت الأمم في الماديات، وحقق علماؤها مزيداً من الاكتشافات في الآفاق وفي الأنفس، أعاد علماء (المعارف النظرية) قراءة مسلّماتهم. وثورة المعلومات والاتصالات هزت يقينيات كثيرة، وغيّرت ترتيب الأولويات، وشفَّت عن معميات بطأ بها اختلاف المفاهيم واختلاط الأصوات. وإذا كانت المرجعية مترددة في مشروعية التفاعل المنضبط مع المستجد، كان احتمال تجاوزها ممكناً. والمؤسسة الدينية بوصفها المهيمنة إن لم تتمكن من تجديد مناهجها وآلياتها ومجال تناولها، أصبح من الصعوبة بمكان احتمالها لمواجهة المستجدات المتلاحقة. ولأن القرآن الكريم من عند الله، ومبلّغه لا ينطق عن الهوى، والكون كله خلق الله، فإن محكم التنزيل وصحيح السنة قادران على استيعاب النوازل. وما يتبادر إلى الأذهان من تفاوت فإنما مرده إلى عجز المتلقي، أو إلى خطأ التأويل. فالنوازل تتطلب مبادرة وقدرة، لاستنباط حكمها من النص الذي يحتمل أكثر من تأويل، ويستجيب لأكثر من نازلة، ويتسع لأكثر من رأي، وطبعي أن تجعل الثورة المتعددة المثيرات وضع المثقف معقّداً ومهمته عصيّة. ومهما حاول ترويض نفسه، وتطويع واقعه فإن الأمر جد عصي. وكيف لا يكون وضعه عسيراً، وهو يعيش وسط متغيرات: اجتماعية واقتصادية وسياسية، ويعايش ثورة معلوماتية، ويغالب مذاهب وتيارات فكرية ودينية ذات مناهج متعددة، ومقاصد متنوعة، وتتنازعه (ايديولوجيات) متناقضة، الأمر الذي ضاعف مسؤولياته، وعقّد أوضاعه، ومما يصعّد إشكاليته أن الوضع المعاش وضع مضطرب، تسوده القوة، وتقمعه الغطرسة، ويثنيه عن عزماته الاستبداد، ويقعد به تسلط القوي على الضعيف من الأناسي والدول. حتى لقد لجت تلك الكوابح في عتو ونفور، لتضعه على مفترق طرق، بحيث لا يعْرف معها أين المفر. فيما لا تزال بعض الرؤى المستشرفة للمستقبل متعثرة بعقدة الأبوية وألوهية الهوى وذهاب كل معجب بما يرى. وفي ظل هذه الظروف فهي أحوج ما تكون إلى مطابخ مؤسساتية بما تملكه من مجسات ومسابير واستشارة واستخارة لكي تهدئ الروع، وتبعث الثقة، وتحْسم الفرقة، وتقر في الأذهان صائب الآراء وصحيح المفاهيم. وفي ظل هذا الواقع المأزوم نسلت مذاهب وتيارات، ونجمت على إثرها صحوة عقلية واعية، حفزت المؤسسة السياسية إلى التحرف الصادق لمواءمة المستجد. ولما كان المثقف أول الفاعلين، وأسرع المتأثرين، وأشد المأزومين بهذه التحولات: العلمية والسياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية والثقافية، فإن مسؤوليته تزداد اتساعاً وتعقيداً، ورؤيته تشتد اضطراباً وتردداً، وليس من السهل القول في الحقوق والواجبات، دون سبر الأغوار ورصد الآفاق. والحقوق والواجبات في ظل هذه المتغيرات تتبدل ويتبدل معها تراتب الأولويات. والقول فيها لا تتحقق معه الجدوى بالاستدعاء المجرد، بل لابد من إرجاع البصر والبصيرة في التليد والطريف، إذ لكل زمان خطابه. وما أضاع الفرص إلا الثبوتية والتكرار. ومع مشروعية القول في عموميات القضايا وكلياتها فإن المواءمة دأب العالمين ببواطن الأمور. ولا مراء في أن حفظ التوازن أولى خطوات التخطي. وما استعصى على قوم منال إذا أسسوا بنيانهم على القيم الحضارية اليقينية الثابتة، ووطؤوا لذلك بتحديد المطلوب، وتحرير المفهوم، والخلوص من غبش التصور واضطراب الرؤى. وما أوهى اللقاءات الحوارية إلا ذهاب كل متحدث بما يرى، دون إفساح المجال للآخرين. وأحسب أن النفي والمصادرة والتهميش وواحدية الخطاب لا يتسع لها عصر المؤسسات والمجتمع المدني. والتعايش الواعي مع المستجدات: محلياً، وعربياً، وإسلامياً، وعالمياً، يكشف عن مسلّمات وثوابت ليست على شيء من المشروعية، ومع ذلك فإن المساس بها مدعاة لإثارة (الرأي العام) الذي تشكّل عفوياً على هذه القناعات، ولم يعد بالإمكان ممارسة التصحيح والإصلاح دون تحرّف حذر، يعتمد الحلم والأناة وطول النفس والتحول المرحلي. ومن حق (الرأي العام) الذي تشكّل في ظل ظروف غير سوية، ألا يواجه بالحقائق عارية من المداراة والاتقاء واللين والتراخي. ولقد أشار الذكر الحكيم إلى نتائج اللين {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، فسواء غفل المثقف عن (الرأي العام) في مراحل التشكل، أو أسهم في تشكيله الخاطئ فإن على النخب المثقفة بوصفهم دعاة مصلحين كفلاً من المسؤولية. وتنصل الخطاب السياسي أو الديني أو الثقافي من المسؤولية مؤذن بتسلل خطاب متربص، ينساب كالخدر، ليعمّق المأساة، ويعقّد الحل. و(الرأي العام) حقيقة ماثلة في كل المجتمعات: المدنية والبدائية. وإذ تكون كينونته تطورية، وليست انبثاقية، فإن مسؤولية المتحكمين في شأنه ألا يتصوروه إناء يفيض بالرؤى، وأن بالإمكان إفراغه الفوري من محتواه وملأه بالمراد. إن الجهد والوقت اللذين استغرقهما (الرأي العام) في تشكّله وأخذ وضعه مساويان للجهد والوقت اللذين يتطلبهما المصلحون لتحويل مساره، وتغيير تصوره، وتحديد مواقفه من الأشياء حين يتعلق الأمر بالمتغيرات السياسية بوصفها لحظية، مصلحية، وليست موقفية. حتى لقد عرّفها البعض بأنها:-(فن الممكن) تكون مفاجآتها التحولية عقبة دون الاستيعاب والاستجابة الطوعية. وقدر المثقف المأزوم اختلاط الأصوات السياسية والفكرية والدينية والإسراف في (الأدلجة) والتسيس لكل المشاهد. وحين نحاول استبيان (حقوق المثقف) و(دوره في التنمية) في ظل هذه الظروف، يجب أن ننظر أولاً إلى الحيز الأدائي الذي يشغله إلى جانب المؤثرات الأخرى المسهمة معه في تشكيل الوعي الجماهيري، كالمؤسسات: التربوية والإعلامية والدينية والمعلوماتية، بوصفها شخصيات اعتبارية متشكلة من منظومة بشرية متخصصة، تتوفر على قسط كبير من الثقافة، ومن لم يحسب لثورة المعلومات والاتصالات ما يليق بها أدركه الغرق في طوفانها. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، ونحن بصدد القول في (الحقوق) و(الواجبات) بوصف الدور المؤمل من المثقف في التنمية عين (الواجبات): مَن المثقف؟ ومَن الذي يملك تحديد الحقوق وتفعيلها وحمايتها؟ ما نوع التنمية التي يمكن أن يسهم المثقف في تفعيلها؟ أهي خطط التنمية المتداولة؟ أم هي تنمية معنوية، تتحقق معها ثقافة المجتمع المدني المتجه صوب التشكل المؤسساتي؟ وفي ظني أن إثارة التساؤل لتحفيز الانتباه غير كافية، بل لابد من التحديد والتحرير والتأصيل. تحديد المجال، وتحرير القضية، وتأصيل المعرفة. ولو مضينا في تقصي ذلك، لخضنا في بحر لجي من الاختلافات. ويكفي أن نشير إلى أن (الثقافة) مصطلح لم يعد جامعاً مانعاً، فما توصّل أحد بعد إلى تحديد مفهومه. وما أكثر المصطلحات السهلة الممتنعة، التي لا تبرح المعهودات الذهنية، يتصورها المهتم، ولا يقدر على تحديدها أو تفسيرها، وإن فعل فإنه كمن فسّر الماء بعد الجهد بالماء، ويأتي على شاكلة (الثقافة) (الحب) و(السعادة) و(الجمال) و(الشعر). واضطراب المفاهيم لا يشكل عقبة في طريق المستدعين لمثل هذه المصطلحات. وليس مهماً التوصل إلى مفهوم دقيق محدد مادام أن المعهود الذهني كافٍ للإجابة على الأسئلة الأولية. ومصطلحات (الحقوق) سواء كانت مضافة إلى (الإنسان) أو إلى (المرأة) أو إلى (المثقف) أو إلى (العمال) أصبحت لوثة ألسنة ومزلق أقلام. ولقد وسعت المجتمعات المدنية منظمات ومؤسسات وروابط ونقابات، تدافع عن حقوق الإنسان والحيوان. ولم تكن (حقوق المثقف) صارخة ولا فاقعة اللون كما هي في (حقوق الإنسان) و(حقوق المرأة) على سبيل المثال. وليس هناك ما يمنع من التفكير الجاد بالحقوق مضافة إلى أي فئة، فهي من متطلبات (المجتمع المدني) وليس بالإمكان التشكل المجتمعي بمعزل عن العالم، ولاسيما أنه بسبب المكتشفات وتطور (التقنية) أصبح قرية صغيرة متفاعلة. وخيارات التجانس والتعايش والتعاذر خيارات صعبة، لا تقل صعوبتها عن خيار التدابر والتنازع والتدافع والأثرة. إذ كل فعل له رد فعل مساو. وقانون التحول المجتمعي نافذ، شئنا أم أبينا، وأولى لنا أن نستشرف المستقبل، وأن نحدد الحقوق والواجبات لقادة الفكر وزعماء الإصلاح ورواد النهضة، مثلما نحددها للنساء والعمال والحيوانات، وما لم نستطع استبانة الطرق، تفرقت بنا بنياتها. ومن الخير لنا أن نعي المراحل الحساسة، مراحل التحول الحتمي، فإذا تمنعنا عن الاستجابة أو ترددنا معتمدين على عقدة الأبوية فاتنا الركب. وإذا ترددنا معتمدين على اضطراب المفاهيم حول الثوابت والمتغيرات وحجم اليقينيات والقطعيات وقعنا في إشكالية التنازع. وإذا سهل انقيادنا للآخر الأقوى في مادياته وراهنه، ولم ننظر إلى مواقع إقدامنا دخلنا مرحلة المسخ والاضمحلال. إذاً فالمعادلة صعبة، والإقدام والإحجام يقتسمان الخطورة والأهمية. والرأي السديد لا يعتمد الثنائية الصارمة في مجالات الفكر، بحيث لا تكون هناك مناطق وسط. وعلى ضوء ذلك فليس هناك إقدام محمود على إطلاقه، ولا إحجام مذموم على إطلاقه، وإذ تكون هناك قطعية: ثبوتية ودلالية، تكون هناك ثوابت ويقينيات. والقواصم في تضارب المفاهيم حول الثوابت والمتغيرات، وقدرنا الحميد أن لنا حضارتنا بكل سموقها ونديتها وتأثيرها على سائر الحضارات وإرثها لكل ما سبق منها، وتجاربها الناجحة على كل المستويات. وفي ظل هذا القدر المقدور، فإن استقبال الآخر دون شعور بأحقية الكينونة المتميزة يعني الذوبان، وليس من لوازم ذلك إقصاء الآخر، أو الاستغناء عنه. ولو فعلنا ذلك لوقعنا بما وقع فيه (اليهود) من دعوى نقاء (العنصر) و(المعتقد)، وفي ذلك إخلال بمتطلبات (عالمية الإسلام) ومرونته وتفاعله. ولأن المثقف يمثل شريحة متميزة وقليلة في المجتمع - أي مجتمع - كان لابد من مقاربة مفهوم (الثقافة) و(المثقف) وتبيّن دوره في الحياة كافة، وفي التنمية على وجه الخصوص، ولاسيما في زمن الخلطة الفكرية والتواصل الجبري عبر القنوات ومراكز المعلومات. والحقوق أي حقوق تكون عامة للإنسان بسبب آدميته، وللمسلم بسبب إسلاميته، وللمواطن بسبب مواطنته، وللمثقف بسبب ثقافته. و(حقوق المثقف) مجال الحديث هي تلك الحقوق التي لا يشاركه فيها غيره. فحق الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والأمن حقوق مشتركة لكل مواطن، وليست للمثقف وحده. وتكريم الإنسان، وتمكينه من تحقيق الخلافة في الأرض حق مشترك للمثقف ولغيره من الأناسي. إذاً فالحقوق التي ينفرد بها (المثقف) دون غيره من شرائح المجتمع سواء استحقوها بالإنسانية أو بالإسلامية أو بالمواطنة أو بالفئوية أو بالنوعية تحتاج إلى تحديد وتوصيف. وكم نسمع ب(حقوق المرأة) وهذه حقوق نوعية، ونسمع ب(حقوق العمال) وهذه حقوق فئوية، ونسمع ب(حق المسلم) على المسلم وحق الجار وذوي الرحم، وتلك حقوق إضافية. وهناك حقوق وضعية عارضة ك(حقوق المسافر) و(المعوَّق)، وحقوق أخلاقية ك(حق الطريق). ولن نمضي في استقصاء أنواع الحقوق إلا بقدر ما يساعدنا على تحرر مصطلحاتنا ذات العلاقة. ولعل أولى هذه الحقوق (الحرية) وهي وإن كانت حقاً عاماً إلا أنها ذات خصوصية في جانب المثقف. فالمثقف يحتاج إلى لون خاص من ألوان الحرية، لأنه يعالج الأفكار والآراء والتصورات، ويبدي رأيه في الثوابت والمتغيرات على كل الصعد، يفعل ذلك لأنه يرى أن مسؤوليته في أن يرسم للأمة طريق الخلاص، وهو بسبب ممارسته القولية واقع تحت طائلة سلطات متعددة: سلطة الدين، وسلطة المجتمع، وسلطة الدولة، ولكل سلطة حقها في مساءلة المثقف حين يواجه القضايا العامة أو الخاصة، وليس هناك أصعب من تحديد الحرية تحت طائلة السلطات الثلاث. وكثير من المثقفين يطلقون لأقلامهم وألسنتهم العنان، ويصرون على أن من حقهم أن يقولوا ما يشاؤون، متى شاؤوا، وفي أي قضية تعن لهم. وقليل منهم من يفهم الحرية على وجهها، ويتصور المجال بكل أبعاده وحدوده. وللمفكرين آراء متضاربة حول (مفهوم الحرية) ومقتضياته ومجالاته. ومن الخير للمثقف المسلم أن ينطلق من المفهوم الإسلامي للحرية، ذلك أن بعض الرؤى الغربية ترى أن سلوك الفرد حيال الآخر محكوم بالقانون الوضعي المتفق عليه، فيما يكون سلوكه حيال ذاته مطلقاً لا يحكمه قانون، ولا تحده قيم، ولا تضبطه أعراف، والرؤية الإسلامية لا ترى ما يراه الغرب. ولكل حضارة رؤيتها، ولا مشاحة مع الاصطلاح، وإذا كانت الطرق كلها تؤدي إلى المراد، فليس هناك ما يمنع من تعددها واحترام هذا التعدد. |
المثقف بين الحقوق والواجبات..!! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل ولما كان المثقف يشترك مع غيره من الأناسي بحق (الحرية) العامة، كان له مجال ينفرد به، وهو (حرية التعبير)، وإشكالية هذا الحق تضارب الآراء حول إمدائها ومجالاتها وحدودها. فالمثقف حين يتناول القضايا والظواهر والمذاهب بالكتابة أو بالخطابة، أو حين يبدي صفحته، ويشيع فحشه، أو حين يمس المقدس، ويهز اليقين ينازع المالكين لحق الأطر حقوقهم باسم الحرية دون استذكار ما للكافة من حسيات ومعنويات من حواضن ومرجعيات وأنساق وسياقات. بمعنى أنّ الحرية مخاض حضارة لا تدعها غير منضبطة، ولا غير مصطبغة. وكل مثقف فهم الحرية على غير مراد حضارة الانتماء يخل بمقتضيات (العقد الديني) المقابل ل(العقد الاجتماعي) كما هو عند (جان جاك رسُّو). إذ كل مجتمع له قوانينه، وهي في بداياتها مواضعات عفوية وأعراف توارثية، سلَّمت لها العقلية الجمعية، ثم أصبحت شرطا للكينونة، ومؤشراً لوجود الحرية. ومهمة المثقف تشخيص المواضعات والأعراف والتمهيد للتغيير بالتوعية لا بالتسلط. والحياة السوية تقوم على نظامين: حسي ومعنوي. ف(الحسي) ثبوتي، عبّر عنه الوحي بالسنن الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول، وهو نظام الكون الذي استمد منه العلم قوانينه ومكتشفاته، ومحاولات اختراقها بأيِّ تصرف إخلال خطير بنظام الكون، لا يغير السنن، ولكنه يسيء التعامل معها، ولهذا جيء ب(أخلاقيات الطب) وضوابط (التلوث البيئي) فالنار والماء والطاقة نعم تتحول إلى نقم، إما بالتدبير الإلهي أو بالخطأ التعاملي. أما (المعنوي) فهو إما ثبوتي أو تحولي، واكب بدايات التجمع الإنساني.ومصدريته إما: تشريع وضعي أو تكليف رباني. ولن نمضي مع التفاصيل الدقيقة لحراك التشكل ومراحل التحول، وحق الإنسان في التدخل. ومن إشكاليات الحرية على مختلف مستوياتها ومرجعياتها، اختلاف الناس حول (المفهوم) و(المقتضى) و(المجال) و(الثابت) و(المتغير) و(حق الإنسان فيها): تشكلاً وتمثلاً. والإغراق في التفاصيل الدقيقة للحرية وحق التدخل في الأنظمة وحدودها يفضي بنا إلى متاهات الجدل السوفسطائي. والحرية في ظل كل المفاهيم حق مشروع لكل الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولا بد من كفالتها وحمايتها. و(الحرية) و(التسلط) و(الاستبداد) و(السلطة) المشروعة قيم سلوكية، تستوي بما تحتاجه من جهود وإجراءات ودعم. وفي الحديث: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) فهناك (غدو) يرمز إلى الجهد، ومصيره إلى النجاة أو الهلاك، وهناك (عتق) وهو الحرية. ومثلما يُستعبد الإنسان من إنسان مثله، يُستعبد كذلك من قيم فكرية أو سلوكية. وليس هناك أخطر من تأليه الهوى، وفي القرآن الكريم {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} فلا حرية مع الأهواء، ولا توازن مع العواطف، ولا سلامة مع العنف. والمجتمع السوي من يحمي الحرية وييسرها للتمتع. والمهم أن تكون الأمة واعية تحسن استعمال الأشياء وفق مقتضياتها. وإذا قلنا بحق (الحرية التعبيرية) للمثقف وكفالتها، فإننا لا ننفك من النسق والسياق. فما النسق الثقافي والديني والاجتماعي والسياسي للمتمتع بحرية التعبير والتفكير؟. إن المتعقب للرؤى والتصورات يُرِيانه أن مفهوم الحرية أصبح إشكالية، تَضَخَّم معها التنظير، وضاق حيز الممارسة. والناس قد يتمتعون بقسط لا بأس به من الحرية، ولكنهم لا يشعرون بذلك، لأن عيونهم تعدو إلى حريات أوسع تقترب من هاوية الفوضوية، وهذا التفاوت يعد إشكالية أخرى، لم يحسمها المغرمون بالتنظير. وأسوأ شيء في المفاهيم الخلط بين حرية السلوك وحرية الفكر وحرية التعبير. وأحسب أن كفالة الحرية لكل من هب ودب وقوع في العبودية، فكل شيء تجاوز حده ينقلب إلى ضده، وإظهار الدين يقوم على مبدأ الأطر على الحق والإذعان للسلطة الشرعية، ومن مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية، والمسلم مطالب بالمصير إلى جماعة المسلمين. وليست الحرية أن يمكن المثقف من التعبير عن وجهة نظرة وحسب، وإنما هي في تحديد المجال ودرء الضرر اللاحق به من (الرأي العام) حين يعبر عن وجهة نظره، وتوفير الأجواء الملائمة للتفكير والتعبير، والعمل على تثمين جهده الفكري، وتعويضه عنه متى شحت موارده. فإذا كان للجهد العضلي ثمن، فإن الجهد الفكري أولى به، وإذا كنا نتيح للمثقف أن يقول، ثم لا ندرأ عنه ما يناله من الآخر، لا نكون وفيناه حقه، وحق الحرية الشمولي يفضي بنا إلى حق آخر لا تكتمل الحرية إلا به، ذلكم هو ضمان العيش الكريم للمثقف، وإذا كانت حرفة الأدب طريقا للعوز فإن من حق المثقف أن يتوفر على مستوى معيشي مناسب، لا يكون به طاعما كاسياً، يمنُّ عليه غيره. فرب عيش أخف منه الحمام. ولن يتوفر العيش الكريم حتى تحفظ حقوقه الفكرية، وتكون بمنزلة غيرها من الجهود، ف(الرياضي) أو (المغني) و(الممثل) تتخطفهم وسائل الإعلام، ويتلقون أثمانا باهظة لجهودهم، بينما يظل المثقف يعطي ولا يأخذ، وهو فيما يقول عرضة للاتهام والمساءلة. ولكي يحصل المثقف على حقه، لا بد أن تتشبع ذهنيات المجتمع بالقيم الحضارية، لترى قيمة للكلمة: فكراً وإبداعاً، مثلما عُرفت القيمة (لقدم الرياضي)، و(أنامل الموسيقي)، و(حنجرة المغني)، و(جسم الممثل). إذاً هناك: - ضمان الحرية. - وتوفير الأجواء. - ودرء الضرر. - والتعويض. وإذا ضاع جهد المثقف، ونيل من سمعته فقد ضاع معه المفهوم المحدد لحريته والمتعقب للمفكرين والفلاسفة والعلماء الشرعيين، ممن عنوا بأمر الحرية على كل مستوياتها وانتماءاتها، يجد أكثرهم مرتبطين بقواعد معارفهم ومقتضيات انتماءاتهم، على حد: (وما أنا إلا من غزية) وهذه الكينونة الفئوية لا يمكن معها تحرير مفهوم الحرية، لتكون مفهوما وإجراء متجانسين. وحين نقول بحق الحرية فإننا نستصحب الحدود والقيود التي لا تتحقق إلا بامتثالهما. ومثلما اختلف الفقهاء حول مقتضيات (سد الذرائع) و(درء المفاسد) وقاعدة (دفع المضرة مقدم على جلب المصلحة) فقد اختلفوا حول حقيقة الحرية، وعلى كل التوقعات، وفي ظل كل المحاذير فإن طلاب الحق قادرون على تحرير مسائلهم، ومن أهمها مسألة (الحرية). ولما كانت الحرية لا تتعارض مع قيم الحضارة، فإنّ على المثقف ألا يكتفي باحترامها، وإنما عليه أن يدعو إليها، وأن ينافح عنها، ومهما اختلف الناس حول أهمية القيم وتراتبها في منظومة الأولويات، فإن الاختلاف لا يعني مشروعية المواجهة ما دام أن هناك حواراً يسبق الصراع والصدام، والأخذ بالأيسر مطلب شرعي. ومتى تبين للمثقف وجه الصواب، وجب عليه أن يتحقق من إمكانية المتلقي وقدرته على النهوض بالمبادىء التي يطرقها، ومن أهم واجباته: أن يعرف ذاته ومدى قدرته على تلقي النوازل وطرح الحلول المناسبة، بحيث لا يقع في خطأ التقدير أو التوقيت، والمساس بما لا يجوز المساس به، كالعزوف عما يجب التعاطي معه، وتقحم القضايا دون استعداد معرفي تجريبي يعرض المجتمع إلى الارتباك وينزع الثقة بالمثقف. ومتى سقطت أهليته وهيبته أصبحت القابلية للصدام قائمة، ومن ثم يتحول الأداء إلى داء. فالواقعية والمثالية والوُسْع ممارسات وتكاليف متفاوتة في القدر والمشروعية والحظر. ومتى استطاع المثقف فقه الواقع وفهم القضايا وأدرك الأهمية تمكن من معالجة الأشياء بإجراءات مناسبة. ولن تتحقق التنمية المعرفية والفكرية وسائر متطلبات الحياة في ظل التعنت والشطط. ومتى تبدّى للمثقف اختلاف في وجهات النظر ومشروعية هذا الاختلاف، وجب عليه تحامي الاندفاع العاطفي، وترويض نفسه وتمكينها من الدخول على القضايا بروح عملية وعقل متزن. ذلك أن القضايا الخلافية لا تستدعي الحماس ولا التشنج العاطفي، وما أكثر الذين يفقدون أدوارهم بالاندفاعات غير المحسوبة أو بالمثاليات غير الممكنة. ونحن بهذا نضيف إلى الضمان والأجواء والدرء والتعويض (التوازن في الممارسة)، والتوازن لون من ألوان الرفق، وما دخل الرفق في شيء إلى زانه. إن أثمن شيء تحققه السلطات المتعددة: سلطة الدين، وسلطة المجتمع، وسلطة الحكومة هو (حرية الفكر والعمل والتعبير) ولن تكون الحرية سليمة ما لم تنسجم مع تلك السلطات الثلاث، وما لم تعرف حقها في ضبط التصرف والتعبير. ومتى اختلت العلاقة بين الحرية والسلطات الثلاث، استفحلت الفوضوية، وتقلصت الفضائل، وقام الاستبداد مقام العدل، والعاطفة مقام العقل، وتلك سمة سادسة تتمثل ب(الانسجام مع سلطات المجتمع)، وهنا نكون أمام: - ضمان للحرية. - وتوفير للأجواء. - ودرء للضرر. - وتعويض للجهود. - وتوازن في الممارسة. - وانسجام مع السلطات. وليس شرطاً أن يكون الخلل من جانب السلطة، إذ ربما نفهم الحرية على غير مراد المشرِّع، فيكون المجتمع نفسه هو الذي يصنع العبودية، مثلما يصنع الفقراء الفقر. حتى لقد أدرك بعض المفكرين ما يسمى ب(قابلية الاستعمار). وقد تسلب الحرية بقوى خارجية، تفرض رؤيتها ومناهجها ومفهومها للحياة والسلوك والكون، والمثقف ليس بأقل أهمية من المحارب المدجج بالسلاح لمواجهة الغطرسة، ذلك أن حرب الكلمة أهم من حرب السلاح، وفي البدء كانت الكلمة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. وإشكالية المثقف العربي فيما أشرب في قلبه من حب للثورة والتمرد، والخلط بين مفهوم السلطة والتسلط، ومن ثم لا يجد المتعة إلا بمقاومة السلطات الثلاث، متصورا أن وجودها مؤذن بغياب الحرية. فالخطاب المعاصر تتنازعه (ثورية) عنيفة تجر إلى الصدام أو (راديكالية) صاخبة تجر إلى الصراع أو (ليبرالية) منفلتة تجر إلى الفوضى والاستخفاف بالعهود والمواثيق. وجهل مقتضيات العهود والمواثيق ك(البيعة) مثلا تحمل الأطراف على تعطيل الحرية. وإذا تضخمت في الأذهان سلطة دون أخرى، غفل المعنيون عن سلطة المجتمع أو سلطة الدين أو سلطة السياسة. فالعادات والتقاليد والمسلمات والثوابت واليقينيات والمقدسات التي ما أنزل الله بها من سلطان تلح المجتمعات في تكريسها وتقديسها، وإذا انبرى مفكر أو مثقف لتصحيح المفاهيم، قمعته واحدة من تلك السلطات، وأخطرها سلطة المجتمع متى حدَّت من حرية التعبير، ومع خطورة هذه السلطة إلا أن لها أدواراً إيجابية، فما كل خارج على سلطة المجتمع مسدد الرأي صائب القول، ولو أن المجتمع والمثقف أذعنا عند الاختلاف لحكومة الدين والعقل والمنطق والعهود والمواثيق والأنظمة، واطَّرحوا جميعا الوهم وعقدة الأبوية لكان أن وجد المثقف طريقاً قاصداً لتصحيح الأفكار والمفاهيم. ولما كانت الدولة في إطار الإصلاح الشامل سباقة في بلورة (المجتمع المدني)، ولما كان تحققه لا يتأتى إلا من خلال التشكل المؤسساتي فإن جماعة المثقفين أولى بهذا التجمع، والفئات الثقافية في العالم المتحضر تعتمد (النقابات) و(الروابط) و(الاتحادات)، ولها تجاربها في التنظيم والهيكلة والتشكيل والوسائل الانتخابية. ومن حق المثقف أن يجد ملاذا فئوياً، يوفر له أجواء ملائمة للطمأنينة على مستقبله، ويهيىء له العطاء المناسب لمجتمعه. ولن تتوفر الأجواء بالتفرق، واعتماد كل مثقف على جهده الشخصي، وإذا كانت يد الله مع الجماعة، فإن العيش الكريم والأمن بكل شعبه لن يتوفر شيء منه إلا بتشكيل كيانات قوية ترود، وتحمي، وتدعم، وتهيىء الأجواء، وتوفر الحياة الكريمة للمثقف ولأسرته. وإذا كانت هناك تطلعات إلى بدائل محدودة ك(صندوق الأديب) أو (مشروع التأمين) أو (الضمان الاجتماعي) فإن مثل هذه البدائل لا توفر الأجواء الملائمة للعطاء، وإن تحقق من خلالها جانب لم تتحقق الجوانب الأخرى التي ربما تكون اكثر أهمية. وهذا الحق يدخل في الحماية والتعويض كسمتين أوليين للحرية السوية. ولأن المثقف قد لا يستطيع إيصال صوته إلى شرائح المجتمع المتعددة، فإن من حقه أن تيسر له قنوات التوصيل، ليسهل تداول آرائه وأفكاره، وأحسب أن تلك مسؤولية المجتمع والسلطة. فإذا كان من واجبه المبادرة في قول الحق، فإن من حقه تسهيل الطرق، ليقول هذا الحق، وليصل هذا الصوت إلى أكبر عدد ممكن من شرائح المجتمع، وقنوات التوصيل، وبخاصة الاعلامية منها بعض سبل النفاذ إلى الآخر، ولكن الأهم من ذلك، إيجاد (دور النشر) القوية ودعمها، فصناعة الكتاب دخلت فضاء الدعاية والإعلان وحسن التسويق، ولم يعد إنجاز المادة وحده كافياً، بل لا بد من الإخراج والدعاية والتوصيل، ومعضلة المعضلات في الوسط الفكري والأدبي عملية التسويق. والأدباء والمفكرون لا يجدون من يطبع إنتاجهم، وإذا طبعوه على نفقتهم، كسد في أيديهم، وإذا تولت دور النشر الضعيفة طباعة الكتاب، فإنها لن تحسن الطباعة، ولن تتقن الاخراج، ولن توفر الدعاية، ولن تقدر على التسويق. وتلك عقبات تحول دون إيصال الآراء والأفكار. وفوق كل ذلك فإن مجرد الإصدار والتسويق وحدهما غير كافيين، بل لا بد من الاستحضار وإثارة الانتباه، ولا يتم ذلك إلا بالحركة النقدية التطبيقية التي تكشف عن الآراء وتصحح الأخطاء، وتثري الفكر بالتلاقح، والمشاهد تكاد تكون خاوية على عروشها، فالأدباء والمفكرون يفضون بما لديهم، ولكنهم لا يحسون بمستقبل متفاعل، وهذا الحق داخل بحق التعويض والتمكين والأجواء، وتحقيق الفاعلية عصي المنال ما لم يكن هناك إقدام ومبادرة مشتركة. والمجتمعات المتحضرة توفر لمثقفيها الأجواء الملائمة لتواصل العطاء. ومدار كل شيء على العلم قبل القول والعمل. لقد أطلت الحديث عن (الحرية): مفهوماً وممارسة، لأنها جماع الحقوق والواجبات. ومتى فهمت على حقيقتها، ومورست وفق مقتضياتها، بلغت السفينة شاطىء السلامة، وتحقق ما سواها من حقوق، ومتى دعونا إلى التحول المؤسساتي لتجميع الجهود وحفظ الحقوق وتفاعل الآراء كان علينا أن نضع كل الأهمية للتجمعات التي لا تكون سوية، وقد بدت بوادرها السيئة في تشكيل ذهنيات متشددة أو منحرفة، تنذر بخلل الوحدة الفكرية للأمة، وآخر دعوانا ألا نستخف بالمخاضات، وألا نستهين ببوادر الخطابات، والمثقف خير من نندبه لمواجهة النوازل والملمات. |
لم تنته اللعبة يا دوري..!
د.حسن بن فهد الهويمل الأستاذ الدكتور (محمد الدوري) المندوب الدائم لحكومة (صدام حسين) لدى الأمم المتحدة (دشن) كتابه (اللعبة انتهت) متعجلاً إصداره في ست وثمانين ومئتي صفحة. محاولاً فيه عقلنة الحديث وتقنينه، تمشياً مع تخصصه وأستاذيته للقانون الدولي في (جامعة بغداد)، قبل أن يلتقطه حزب القبيلة، ليكون لسان حالها ومقالها في أروقة الأمم معذراً ومبرراً خطيئاتها. وأحاديثه المتلفزة بين الحين والآخر، وبخاصة ما قدمته إحدى القنوات على مدى عدة حلقات، تستمرئ أخلاف الواقعية الحذرة، وتتقي لعنة التاريخ، وتفيض تحسراً ومرارة بعد فوات الأوان. ولا أحسبه الأول الذي حاول النفاذ بجلده من سبة الدهر، ولن يكون الأخير، ذلك أن فصائل الانقلابات يتقاذفون كرة الخطيئة، كي لا تستقر في شباك أحدهم، لأنها متى استقرت تشرذم الفريق بين قتيل وسجين ومشرد. ولقد كنت مغرماً بمتابعة اللقاءات الموسعة مع عراقي الشتات وفلول الانقلابات، ممن أفلتوا من قبضة النظام، أو اختطاف المحتل، وكانوا من قبل من آلية النظام التي طحنت كل شيء أتت عليه: يقتلون، ويسجنون، وينفذون أقسى العمليات بمبادرة منهم، أو بأمر من الحاكم المتسلط. وما من أحد منهم اعترف بجنايته على أمته وجيرانه، وطلب من المعذبين في الأرض الصفح والمغفرة، والتنصل سجية محترفي السياسة، يقتلون البريء، ثم يمشون في جنازته، ويحضرون مأتمه، ويتقبلون أحرَّ التعازي بفقده. وإذا لم يكن الهدف من قولنا الشماتة، ولا حز الرقاب، فإننا نود أن تقال الحقائق، وأن يتوقف نزيف الكذب والإسقاط وتبادل الاتهامات، وأن يتحمل المقترفون ما اقترفوا، وأن يطلبوا من شعوبهم الصفح، وأن يعظوا الممسكين بأزمة الأمور، فما عادت الأكاذيب قادرة على طمس الحقائق، وما عادت الشعوب قادرة على احتمال مزيد من العذابات. والذين لطخوا أيديهم، ودنسوا سمعتهم، ثم نجوا بجلودهم، وما زالوا يبتغون الفتنة من بعد، ويقلبون للمتابعين الأمور، لا يليق بمثلهم مواصلة الأكاذيب والمغالطات، ولا يحق لهم أن يبرروا مقترفات الأنظمة الظالمة، ولا أن يبرئوهم من الجرائم الوحشية، ولا أن يشرعنوا لغطرسة المحتل. لا مراء في أن إسقاط النظام المنيخ بكلكله على صدور المواطنين فرج بعد شدة، ولا مراء في أن حضور المحتل بخيله ورجله أذية غير محتملة وسبة دهر لا يزيلها إلا رحيله غير مأسوف عليه، ذلك أن الاحتلال - أي احتلال - لا مسوغ لتبرير وجوده. وما يعانيه الشعب العراقي اليوم إن هو إلا حصائد ما زرعته أيدي النظام البائد. وهل عاقل يرضى بما يلاقيه الإنسان العراقي من قتل همجي وإذلال مهين؟ وهل أحد يتوقع لعراق الحضارة والأمجاد عوداً حميداً في عاجل الأيام؟ لقد اقترف أزلام النظام البائد أبشع الجرائم: تقتيلاً وتنكيلاً، ولما يزل الشعب المغلوب على أمره، يتخبط في حمامات الدم، وتلك مرحلة ليست بأحسن حالاً مما كان عليها من قبل. ومع هذا يطلع علينا المرجفون القنواتيون بين الفينة والأخرى بمقترفين، يبرئون أنفسهم، ويزكون أعمالهم، ويعذرون للمعتدين، ولا يضعون أصابعهم على مكمن الداء. فسقوط أي نظام مهما كان سيئاً مؤذن بفساد كبير، يؤدي إلى فراغ دستوري، ويستدعي تدخلاً عسكرياً، يحول دون استشراء حروب أهلية. وصدق القائل:( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). و (الدوري) الذي أفضى ببعض ما لديه، تطوع الصحفي اللبناني (جورج فرشخ) بتجميع الكتاب من اللقاءات المتلفزة من قبل ومن بعد، مع شيء من الإضافات والتشذيبات الملائمة للتحولات المفاجئة. وليس المؤلم إنكار المقترف خطيئته، ولكن المؤلم أن يساير المقولة من دون قائلها في الفقه السياسي، ممن يتقحمون أتون المشاهد السياسية دون أهلية، ثم يقطعون مع القائلين: بأن اللعبة الكونية قد انتهت. ولو أن الفضوليين المجازفين لا يضلون إلا أنفسهم لهان الأمر، ومع ذلك فلسنا نتهم القائلين ولا المتلقين بالخيانة العظمى، فلربما يكون مبلغهم من العلم ما توصلوا إليه من مثل هذه النتائج. وكل ما نريده الكف عن تضليل (الرأي العام). وإذا كان البعض يرى أن اللعبة قد انتهت، ثم لم يتبع قوله توقعات لما سيكون، فإن آخرين سايروه بنهاية اللعبة، ولكنهم جعلوا النهاية بداية للمأساة. واحتلال العراق من قبل قوات شقت عصى الطاعة، وفسقت عن أمر المؤسسات الدولية، التي أريد لها صد الظلم وإقامة العدل، وكف أيدي الناس الأقوياء عن الاعتداء السافر، وحفظ حقوق المستضعفين في الأرض، يعد ذلك أو بعضه بداية لعبة جديدة تسكر العقلاء وتذهل المرضعات، فهي مع آثارها السيئة ستكون مغرية للمتمردين لممارسة احتلال عسكري، يسلب الحق، ويشيع لغة القوة والغطرسة. وهذا التعدي يفوق ما تركته اللعب القاصمة في (حروب الخليج) كلها. وقضاء الأمة العربية أنها تخرج من لعبة مصمية، لتدخل في لعبة أدهى وأمر. وما الحروب والانقلابات والنزاعات والتصفيات إلا لعب يأخذ بعضها برقاب بعض، والشعوب المهمشة تدفع (فاتورة) الحساب من قوتها وأمنها وحليب أطفالها، بحيث لا تجد من يطعمها من جوع، ولا من يؤمنها من خوف. ومن ثم تصبح وقود الصدامات: العسكرية والفكرية. وليست اللعبة وقفاً على إسالة الدماء، وإنما هي في إسالة الأحبار أيضاً، وما الأحبار إلا قطرات تحيي موات الفتن، وتنبت أفتك الأسلحة، مع أن مراد النفوس أهون من التعادي والتفاني - كما يقول المتنبي -. وكم من لاعب بلاغي أودى قلمه بحياة الآلاف من الأبرياء. والأصنام لا يحكم صنعها إلا الإعلام المتواطئ، والأقلام المرتزقة، وأنكر الأصوات. وهل أحد يجهل مقترفات الكتاب الذين كذبوا على أمتهم، وأضلوها سواء السبيل؟ وهل يستطيع مغتصب أن يبني أوهامه إلا عن طريق الأقلام التي تستمرئ الكذب؟. والضالعون في التبرير والتعذير والترويض فئام من جهلة، أو متسرعين، أو مواطئين، والله وحده العالم ببواطن الأمور. وإذا كان (الدوري) الرجل الضالع في اللعبة قد روى ل(جورج فرشخ) عن نهايتها فإن (هشام عليوان) ألف كتاباً مماثلاً، وكم هو الفرق بين لاعب في المسرح السياسي ولاعب في المسرح الإعلامي، وإن كان لكل حقه من الخير أو الشر. وبين الكتابين تباين واضح، فالأول يحاول تخفيف حدة الغضب على النظام البائد بالتأكيد على خيانة السقوط، وإن كان يدينه في كثير من المواقف، فيما يأتي الكتاب الثاني راصداً للتحولات والمصائر، موغلاً في الإدانة وتضخيم الأحداث تبعاً لما وقف عليه من فيوض الإعلام. الكتاب الأول تحت عنوان (انتهت اللعبة)، والثاني تحت عنوان (نهاية اللعبة) ولم يكن الحديث عن اللعب السياسية جديداً، فلقد سبق أولئك شرقيون وغربيون، كتبوا عن لعب كونية وأخرى إقليمية، فجاء بعضهم مدلساً، فيما جاء البعض الآخر سافر الكذب، وقليل منهم من أسر النجوى في قول الحق. وكان قدري أنني فتحت عيني، وعقلت أمري على أحداث دامية وأقلام راعفة، تصف الانقلابات بالثورة، وليس ما يحدث في الوطن العربي، حقيقاً بأن يوصف بالثورية، وإنما هو انقلاب عسكري، يتراوح بين الدموية وحمامات الدماء، وقل أن يكون انقلاباً أبيض، لا يشوبه عنف، ولا يدنسه ظلم. والفرق بين (الثورة) و (الانقلاب) أن (الثورة) إحداث نظام، و (الانقلاب) اختلاف حكام. بمعنى أن الثورة رؤية و (أيديولوجية) وشرعة ومنهاج، فيما يكون الانقلاب تنازعاً على التسلط لا على السلطة، يكون فيها الشعب ومثمنات الوطن غنيمة. والمتحدثون عن اللعب السياسية من أربابها الذين فرغوا من أداء دورهم الغبي، قد يصدقون، لأنهم يفيضون بما لديهم، وفي حسابهم من يرصد لهم من مؤسسات وأناسي، ولقد بدأ وعيي السياسي مع كتاب (لعبة الأمم) ل (بوكلاند) فكان أن رسخ في نفسي أن كل شيء قابل لممارسة اللعب، وأن لكل لعبة قانونها المعرفي والإجرائي، ومن لم يتقن قانون اللعبة لا يحسن التمييز بين ما هو عمل ظاهره كباطنه، وما هو غير ذلك، وليس أضر على (الرأي العام) من الخلط بين الأحداث المختلفة الأسباب والدوافع، أو الخلط بين الظواهر والوقوعات. استهل ( الدوري) كتابه بمقدمة في اثنتي عشرة صفحة، تبدت فيها أنات المذنبين وحرقة المفلسين وتبرير المخطئين، وما كنت لأفسد الحديث بسوء الظن، ولن أستبق الحكم قبل قراءة الفصول التي جاءت على شكل إجابات على أسئلة (الدوري) بحيث جاء الفصل الأول إجابة على التساؤل عن كيفية استعداد اللاعبين. و ( الدوري) أطلق كلمة (انتهت اللعبة) أو (اللعبة انتهت) في التاسع من أبريل عام 2003م، وهو قد تعمد تخفيف حدة الدعوى، بحيث وصف النهاية بأنها تعني (انتهاء المسرحية التي استمر عرضها سنوات طويلة على مسرح الأمم المتحدة). ولست هنا معنياً بالربط بين مسرحي: الواقع الذي يقوده (صدام) والمرافعات في هيئة الأمم المتحدة التي يقودها (الدوري) ، وكون أحدهما يجهز للآخر، ويدفع إليه. فاللسان والسيف كلاهما صارمان، وقد لا يبلغ السيف مبلغ اللسان، وكل الذي أوده التأكيد على أن اللعبة شبكة من الحركات والفصول، تختلط فيها الحروب الباردة والساخنة. وعند إطلاق كلمة (اللعبة) يكون هناك نسيج قوي التماسك دقيق التداخل متعدد الفصول متنوع الشخصيات. فاللعبة رواية مطلقة، وليست أقصوصة مقيدة ببطلبها وزمانها ومكانها. إن هناك عدداً من اللاعبين الأذكياء والأغبياء والظاهرين و (اللوبيين)، وإذا تكتم (الدوري) على بعضهم أو على بعض الأدوار فإن قراء السياسة يعرفونهم بسيماهم. وقدر الشعب العراقي والأمة العربية والإسلامية من ورائه أن اللعب كالظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض، فها نحن نسمع ب (الصدر) ونراه، ونسمع ب(الزرقاوي) ولا نراه، وما الحرب إلا ناتج لعبة أو بداية لعبة. لقد جاءت أحاديث (الدوري) في الوقت الضائع محاولاً ارتهانها في الوسطية، متحامياً القطعيات والحديات، متيحاً فرصة الاحتمالات ورياضة الفكر، والقارئ بهذه التعمية المتعمدة يلتاث عليه الأمر، فلا يحسم امراً في الشأن العراقي. والمذكرات والذكريات واليوميات والسير الذاتية السياسية، يمارس أصحابها لعبة التطهير والتدنيس في آن: تطهير الذات، وتدنيس الآخر. فيما يأتي حديث (الدوري) محاولاً المخادعة بالحيادية. والحيادية التي حاول التمويه بها لم تخلصه من شوائب الانفعال والافتعال، ولهذا حول كل الأفعال إلى مفردات في متن اللعبة الكونية. ولأن السياسة هي (النص) الحقيقي الذي يشتمل على ظاهر وباطن، وقد يتسم الظاهر بالرحمة والباطن بالعذاب، فإنه لا يحق الحق في مثل هذا اللبس إلا أن نفقه قواعد اللعبة، فهي التي توفر القدرة على قراءة الحدث السياسي وفق توجيه القواعد، متى استمدت كينونتها من المنطقية والعلمية. والذين يعوِّلون على وسائل الإعلام في تفكيك الحدث السياسي، لا يتجاوزون ظاهر الرحمة، وبذلك يهيئون أنفسهم لباطن العذاب. وليس أضر على الأمة من نمطية القراءة والتسليم لمقولة اللاعب الذي ربط القول بالفعل. وكل لعبة يؤرخها قوم، ويصفها آخرون، وتحللها فئة، وتقومها فئة أخرى. وإذا لم يتوفر المتعاطون معها على فقه الأحداث وقواعد الفعل وآليات التفكيك ومناهج التحرك فإن احتمالات التضليل أقوى من احتمالات التنوير، ولقد أشرت إلى المعولين على وسائل الإعلام ومثقفي السماع. والإشكالية أنهم الأكثر حضوراً والأندى صوتاً، وفيهم ومنهم تتشكل الرؤى والتصورات، وناتج ذلك أن الأمة لما تزل في مرحلة التيه، ولن ينجيها من عذابات اللعب وتتابعها ونمطيتها إلا أن تقوي إيمانها بأن الأحداث لا تقرأ وفق رغبة الصانع للحدث أو منفذه، وما أحوج القراء إلى (موت المؤلف) ليخلوا للمتلقي وجه الحدث. والكتابان (انتهت اللعبة) و (نهاية اللعبة) يقعان تحت طائلة تلاحق الأحداث التي قد تصنع نفسها، إذ لم تكن كلها ناتج إعداد مسبق، ومن ثم فقد يكون للأحداث المفاجئة دورها في نهاية دور الكتابين. (هشام عليوان) مؤلف كتاب (انتهت اللعبة) متابع للأحداث من الخارج، وراصد لها بالحرف والصوت والصورة، وهو قارئ للحدث من الخارج، فيما يكون مؤلف (نهاية اللعبة) (محمد الدوري) من منفذي الحدث غير أنه يتحامى قول الحقيقة عارية من لغة السياسة المراوغة. وإذ يجزم (عليوان) بأن لعبة جديدة قد بدأت، يقطع (الدوري) بأن اللعبة الكبرى قد انتهت، وأن ما يليها حصادها. فالمتغيرات في نظر البعض نتائج، وليست لعباً جديدة، والإشكالية أن بعض قراء الكف السياسي يرون الفصل بين لعبة وأخرى، وأن كل لعبة لها ذيولها ونتائجها التي تستأثر بالمشهد السياسي، فيما يذهب آخرون إلى أنه لا مجال للفراغ، فاللعب كحلقات السلسلة، والنتائج لا تحول بين اللعبة وتاليتها. ويبدو لي أن (الدوري) يقول بنهاية اللاعبين، وليس معنياً بما يليهم، إذ ليس شرطاً أن يتلقف فريق اللعبة المنتهية راية اللعبة اللاحقة، ومن ثم فإن اللعبة بالنسبة له منتهية لأنه يربطها باللاعبين. وعلى كل الأحوال فإن (الدوري) لا يكشف المخبأ، ولا يستحضر الغائب، ولكنه يكشف عن نفسه، ويستحضر دوره، وهو كشف واستدعاء يلتحفان رداء التطهير الذاتي. كل الذي نوده، ونحن نرثي لأحوال اللاعبين المنبوذين ك (الدوري) أن يكفوا عن ترميم السمعة المدنسة، وأن يدعوا للتاريخ فرصة ملاحقة (الأحداث، ليدونها بصدق وأمانة، وإذ لا يقدر العالم العربي ونخبه المتشرذمة على درء الضرر، فلا أقل من أن يتعظ الجميع بما يجري، بحيث لا تكون الأمة ونخبها كمن عُمِّيت عليهم الأمور، فصاروا وليمة مرتقبة لأكلة نهمين. فهل نتعظ بالآخر. أم نتعظ بأنفسنا، أم لا نتعظ بشيء، ونكون كالسائمة ترقب فراغ الجزار؟. |
لماذا المساس بالعلماء والتشكيك بالثوابت؟(1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل ما من عصر أو مصر إلا ويخلو فيهما من يربك المسيرة، ويصدِّع التلاحم، ويضع الأمة على مفترق الطرق، حتى لا تدري أين المفر. وما تفرقت الأمة إلا من بعد ما جاءتها قوافل المستغربين، تحمل رايات التزهيد بتراث الأمة، والتشكيك بقطعيات الدلالة والثبوت، وحتى التاث أمرها بأنصاف المتعلمين، ممن احتلوا وسائل الإعلام للقول في سائر الشؤون، فكان أن ضيق عليها المتنطعون، حتى التقت أضلاعها، ووسع لها المتعلمنون، حتى فقدت ضوابطها، وأضلها الجاهلون حتى حارت بعد الكور. وضاع الوسطيون في ضجة الإفراط والتفريط، ولقد ظاهرت دعاة الاستغراب موجات الغزو والتآمر المتدفقة من كل حدب وصوب، مؤدية دورها المرسوم وتدبيرها المحكم. ومما صعد الإشكاليات فهم الأشياء على غير وجهها وذهاب كل مفكر بما يرى، دون بصر أو بصيرة. واشتغال غير أولي التخصص والتأصيل المعرفي بما سلف من علم شرعي أو بما خلا من علماء أجلاء، أقيمت على جهودهم حضارة أمة، قبست منها كل الحضارات. والحائمون حول الحمى: إما جهلة يفتقرون إلى معلمين، أو ضالون يتطلبون مرشدين، أو مواطئون يحتاجون إلى محذرين أو إلى متعقبين، يتجاوزون لحن القول إلى ما تخفي الصدور. ومما يعكر صفو الحيوات الفكرية والحضارية، ويذكي أوار الارتياب والشك ما يتعمده ذوو القامات القصيرة والمحصول السمعي المضطرب من استدعاء غير مبرر لأساطين الفكر وجهابذة العلم، ممن جددوا لهذه الأمة أمر دينها، وتعاملوا مع النوازل بعلم غزير، وفقه دقيق وإلمام بمتطلبات المرحلة التي عاشوها بكل ظروفها وملابساتها، وخلوا بما كسبوا واكتسبوا. واستدعاء العلماء الأفذاذ، لا يكون بابتسار مفردة من مفرداتهم التي خالفوا بها الإجماع، وأجمع خلفهم على انفرادهم بها، وكانت في النهاية من خطأ الاجتهاد، الذي لا ينفك منه عالم نذر نفسه لمواجهة النوازل وعالم أتقن العلوم وأصولها ونازل أساطين الملل والنحل، وفند أقوالهم، لا تسقطه مخالفة في الفروع، فلكل مجتهد مطلق أو مقيد، ولكل مذهب يحيل إلى الأصول والقواعد الخاصة به مفردات لا يعضدها إجماع، ولكنها تظل شاهداً على الحراك السليم للاجتهاد المشروع. وكيف نتأفف من خطأ الاجتهاد، والصحابة رد بعضهم على بعض، وخالف بعضهم بعضاً. وكم كنت أتمنى من أولئك المغرمين بإيقاظ النوم، وإزعاج الآمنين، أن يدعوا من ودعهم من سلف الأمة، ممن لم تكن لهم مواقف أو آراء تناقض ما علم من الدين بالضرورة، وإن كان ثمة فضلة من جهد أو وقت، فإن عليهم إنفاقها في البحث عن منقذ للأمة، مما هي فيه من تخل عما يحييها، وتقاصر متعمد عما في أيدي الناس من مهارات، وما في أدمغتهم من معلومات عن ظاهر الحياة الدنيا. وعلماء السلف الذين يستمرئ الجهلة المغامرون النيل منهم، لا يمنعون من علم، ولا يحولون دون اجتهاد، ولا يضيقون واسعاً، ولا يدعون إلى رهبانية، ولا يحبذون انكفاء على الذات، ولا يصدون عن إعداد أي قوة: حسية كانت أو معنوية. وإذا كان قدرهم قد ألقاهم في آتون الفتن، وجاء بهم في زمن التداعي على الأمة، مما شغلهم بالتصدي والتحدي والصمود، فإن ذلك لا يعني عنفهم ولا صلفهم، وإنما يعني الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة الأمة، وأين الناقمون من حملات الصليبيين، وعنف التتار وجور المقتسمين لتركة الرجل المريض التي تمخضت عنها اتفاقية (سايكس بيكو)؟.. وأين هم من غطرسة القوة ووحشية المحتل؟ فأي فترة من فترات الإسلام فعل فيها الحكام والعلماء ما يفعل بالمسلمين القابعين في ديارهم؟.. والناقمون على علماء الأمة تمتد نقمتهم إلى تراثها، وكان عليهم إذا اتجهوا صوب الموروث العلمي أو الفكري أو الأدبي أو إلى أحد من رجالات هذه المعارف أن يكون ذلك لاستيعابه أولاً، وفهم أنساقه وسياقاته وظروف تشكله، ثم استصحاب ما تقوم الحاجة إليه، وما لا يتحقق الوجود الكريم إلا به. فما من حضارة إلا ولها كتابها المنزل، وشرعها المستنبط، ومنهجها المحكم، وحملة تلك الأمانة. وليس منتمياً من لا يتمثل الثوابت، ويظهر الدين: سلوكاً وشعائر ومنهج حياة. وبخاصة أن الدين الإسلامي: شرعة ومنهاج وشمول. ولن تأخذ الحضارة الإسلامية حقها المشروع حتى تكون بادية للعيان: بشعائرها ومشاعرها وأوامرها ونواهيها وأنظمتها ورؤيتها للكون والإنسان والحياة. وليس بمسلم من يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض وإذا استحر الهجوم على الإسلام ومؤسساته وعلمائه من الإعلام الغربي، فالواجب أن نكون ردءاً له، ندفع بالتي هي أحسن، ومتى استقاموا لنا استقمنا لهم، وابتدرنا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا نشايع معتدياً، ولا نسكت على باطل، ولا نقع تحت طائلة الانفعال والافتعال، نصدق القول الجائر، ونقبل الدنية في الدين. وإذا فهم المتنطعون والمتطرفون قضايا الدين على غير وجهها فإن ذلك لا يحمل الوسطيين والميسِّرين على إسقاطها أو الامتعاض منها، ف(التكفير) و(الولاء) و(البراء) و(الردة) و(الجهاد) قضايا إسلامية، يعد المساس بها كالفهم الخاطئ لها. وإذا كان قدرنا - وهو قدر حميد - أن ولدنا على الفطرة، وأن آباءنا أسلمونا، مثلما هود غيرنا أبناءه أو نصروهم، فواجبنا أن نكون كما أراد الله لنا متمثلين للإسلام، كما أراده الله، محتملين تبعاته في المنشط والمكره، مقتفين أثر السلف الصالح في تقدير الأشياء قدرها، كافين عن الخوض بما لا نعلم، عافين عن أعراض العلماء، فالعلم قبل القول والعمل. ووسط ضجة المتعالمين والمتعالقين مع الآخر لابد من احترام التخصص، والتضلع من العلم، والتزود بالخبرة، والتعامل مع المستجد وفق المقاصد والمقتضيات الإسلامية، وعلى ضوء المناهج والأصول والقواعد إذ ما كان بمقدور سلفنا إنجاز تلك المعارف والفنون، لولا ما توفروا عليه من علم غزير، وفهم دقيق، وخبرة واسعة، ومنهج واضح، وآلية مرنة، ومعرفة كل شيء عن مجال الاجتهاد وآليته ومنهجه. والمؤذي أن طائفة من الأحداث استدبروا النوازل، وأنشبوا أظفارهم بما كفوا مؤونته من كليات ناضجة، وبما خلا من علماء أفذاذ. وهذا التحرش بالثوابت وبالعلماء أخلى الثغور لمن مالوا على الأمة بأفتك الأسلحة، وأحد الألسنة، فأهلكوا الحرث والنسل، وأيقظوا الفتن، وفرقوا الشمل. وكلما نهض الغيورون لفك الاشتباك، وإيقاف التدهور، وصفوا بضيق العطن، واتهموا بالحد من الحرية. وما علموا أنه من حق كل مقتدر مساءلة أي مشتغل بحيازات الأمة، فكان منه الإفراط أو التفريط وليس هناك ما يمنع من تلقي التراث، وقراءته بعيون العصر وإرادته، ولكن دون تنقص أو إسقاط. ولن تكون القراءة لحضارة الذات سليمة، ما لم يتزود القارئ بالمعرفة والخبرة والصدق والتقوى، ولن تستوي الحضارة ما لم تتزود بما ينقصها من حضارات الغير، مما لا يتعارض مع المقاصد والمقتضيات. والصفقات الخاسرة في اشتغال الخلي بالتشكيك في بناة الحضارة، من علماء متمكنين، ومفكرين مقتدرين، ومصلحين ورعين. وهو بعد لم يسد المكان الذي سده أولئك، ممن أصبحوا مجالاً للاتهام والتجريح والسخرية والاستهزاء. ولو أن علماء السلف الذين شيدوا صرح هذه الحضارة، كان ما تركوه من تراث عقبة في طريق التحضر والتمدن، لباركنا لهؤلاء مساسهم بهم. ولو كانت المراجعة لموطن خلاف معتبر، ما كان منا امتعاض، ولا تذمر، ولا ارتياب. ولو أن أخذ العالم بالمسألة على رأي يترتب عليه اضطراب في المفاهيم، لكان لزاماً على من خلف تدارك ما سلف. ولو أن مقاصد المراجعة لرأب الصدع وإعادة الوفاق بين أطياف المذاهب، لكان مثل ذلك داخلاً في إصلاح ذات البين، وتنقية الدين مما علق به من دواعي الفرقة والتنازع. ولو أن المراجعة تمت دون المساس بأهلية العالم أو التشكيك بقدرته أو الطعن في أمانته، لكان ذلك داخلاً في الاختلاف المشروع. ولو كانت المراجعة لتخليص الأمة من حرج، أوقعها فيه العالم، لكان في ذلك تفريج لكربة الأمة، وتيسير عليها. وما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر. ولو كانت المراجعة من عالم متخصص، يشتغل في مجاله، ويستكمل رؤيته، وفق النوازل والمعاصرة، لما كان في ذلك محذور، فباب الاجتهاد مفتوح. لكن الأمر غير ذلك كله، وكل الذين يتجرؤون على علماء الأمة ما هم منهم، لا في علمهم، ولا في ورعهم، ولا في حملهم لهم الدين والدنيا، ولا في صدعهم بالحق. وما تلك الزوبعة إلا من اللغط الإعلامي الذي يسد فيه الكاتب أو المتحدث فراغاً، أو يكسب فيه شهرة، أو يحصل به على ثمن بخس من لعاعات الدنيا. وقراءة التراث قراءة مريبة، تقاطر عليها مستشرقون ومستغربون، كانوا خليطاً من متمكنين ومتسطحين، وباحثين عن الحق، ومضلين عنه. وتعشق الحديث عن المسكوت عنه عفة أو تفويضاً مؤذن بفساد كبير، وقد يكون المسكوت عنه من المتشابه، والراسخون في العلم لا يزيدون على الإيمان أو التفويض. والمريب أننا لا ننفك من طلعات موجعة، تشكك في اليقينيات والثوابت، وتستدعي المتشابه والمسكوت عنه، وتقدح بثقات أجمعت الأمة على عدالتهم وأهليتهم. وكيف تسلم الأمة عبر حقبها التاريخية لمتكلم، أو محدث، أو فقيه، أو مصلح. ثم يأتي نكرة لجوج يخرج على الإجماع، فيطعن في الأمانة، أو يقلل من المعرفة، أو يصف بالسفاهة. والمتابع لفيوض الإعلام، ينتابه الخوف مما يعتري قضايا الأمة ورجالاتها من سهام أبنائها. ومصميات الأمة أن كل انتهاك لقطعيات أو تجريح لعلماء يسوغه المنتهكون بدعوى الحرية وحق الاجتهاد، وتلك شنشنة لا ننفك نسمعها من كل أفاك أثيم. وإذا كان تراثنا مليئاً بالقول والقول المناقض فإن بإمكاننا أن نتخول الزمن المواتي والأسلوب المحكم، فالوضع المعاش مثقل بكل العوائق. وإذا استطاعت الأمة احتمال المواجهة فإن علينا أن نستعرض مفردات الحضارة على مهل، ثم نأخذ بأحسن النتائج فليس كل ما خلفه علماؤنا مما تقوم الحاجة إليه، وليست العصمة لأحد غير الرسل، فكل عالم راد ومردود عليه، ولكن المواجهة مركب صعب، لا يؤتاها إلا الأفذاذ، وليس من الاقتداء السليم أن نأخذ كل ما توصلوا إليه بحذافيره، ولا أن نتمثله كما لو كنا معهم في زمانهم. وكيف يتأتى ذلك و(عمر بن الخطاب) قد استحضر تغير الزمان، وأكد على أن أبناء معاصريه خلقوا لزمان غير زمانهم، و(الشافعي) قد استحضر تغير المكان، فكان له مذهبه القديم والجديد، وما تحفظنا إلا على ما نراه من نسف للتراث، وإدانة للعلماء، أما أن نعيد قراءة التراث بعيون العصر وإمكانيات الحاضر، فذلك عين الصواب، غير أن ما نسمعه، وما نراه، يختلف عن ذلك كل الاختلاف. وكيف يحتمل (الرأي العام) من يتكئ على أريكته باسترخاء، ثم يصدر أحكامه بكل برودة أعصاب وسوء قصد، فيحكم بكفر عالم أجمعت الأمة على جلال قدره، وحفل التاريخ ببطولاته، وماذا يضيف منكر القول إلى أمة مثخنة الجراح مهيضة الجناح. ومتى كثر لغط المبتدئين، وتعالى صخب المتعصبين، فإن من حق الشركاء في السفينة الأخذ على يد السفهاء والمجازفين، الذين يهزون الثوابت والمسلمات، ويشككون لداتهم في يقينيات الأمة. والأدهى والأمر أن ذلك كله يتم دونما حاجة قائمة، وفي ظل ظروف غير ملائمة. فالأمة متوترة، والأعداء متحفزون، والقول في حق العلماء لا يحل إشكالاً، ولا يزيل عقبة، ولا يؤلف قلوباً، ولا يقيل عثرة، وما أتيت الأمة إلا من جهلة يتعالمون بقول معار أو معاد، وكل ما يقال لا يعدو كونه اجتراراً لما فرغ منه المستشرقون والمستغربون والمتعصبون لمذاهبهم وما تلقفه المستشرقون، وبنوا من ذراته قباباً، لا ينخدع به إلا الفارغون من المعرفة أو الغافلون عن مكائد الأعداء. والمتعقب للطرح المستفز، لا يجد فيه إلا طبيخاً مغباً أعيد تسخينه. فما ترك المستشرقون والظلاميون قولاً لقائل، لقد قالوا عن الله وفي الله ما يتعالى الله عنه علواً كبيراً، وقالوا عن رسوله، وعن مصدري التشريع، وعن سلف الأمة ما لا تحتمله الجبال الراسيات. وما أضر بالمسيرة الفكرية للأمة إلا الذين تصوروا أن كل قول يقال يمتلك الشرعية، وتحميه حرية القول، وإلا الذين لا يقرؤون أطروحات العصر وتقلباته الفكرية، وإلا الذين لا يفقهون المتغيرات، ولا يحسبون للواقع حسابه. إذ ما يقال في زمن القوة والتماسك لا تحتمله الأمة في زمن الضعف والتهالك. وأحوال الأمم كأحوال الأجسام، تتعرض للأمراض، ثم لا تقدر على الحركة ولا على الاحتمال، ومن عرض الجسم المريض لما لا يقدر على احتماله، فقد حمله ما لا طاقة له به. والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها. وهل من عاقل رفيق يرى أن أمته بوضعها الحالي قادرة على الإمعان في بلبلة فكرها وإثارة شكوكها بآراء وتصورات ومواقف ليست من متطلبات المرحلة؟ وإذ نؤمن بأن بعض العلماء قد يتعرضون لإشكالية الخلط بين الثوابت والمتغيرات، وقد لا تدق رؤيتهم، بحيث لا يفرقون بين الشرائع والأعراف والسوائد والمسلمات فإن معالجة تلك الإشكاليات لا تكون بالنيل منهم والسخرية بهم، وإسقاط عدالتهم، والتشكيك بأمانتهم، وإنما هي بإرشاد ضالهم، وتعليم جاهلهم، والتماس العذر لمخطئهم، ذلك أنهم اجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد، وحين لم يحالف بعضهم الصواب فإن من واجبنا أن نستدرك إخفاقاتهم، مع الترحم عليهم، والاستغفار لهم، وحسن الظن بهم، وعدم الجزم بصواب ما نرى وخطأ ما يرون. فقضايا الاجتهاد مجال للأخذ والرد، ومن خلط بين اليقين والاحتمال، وقع في تأليه الهوى. وليس من الحصافة أن نتبع سنن الأعداء، ولا أن نسلم لكل دعاويهم. لقد نالوا من مرجعيات الأمة: الكتاب والسنة، وطعنوا في حملة الرسالة وورثة الأنبياء، وكرسوا الطائفية والمذهبية، وعززوا جانب التعصب، وباركوا تنازع العلماء، ونقبوا في تراث الأمة بحثاً عن المتشابه، وكل من في قلبه زيغ يتبع ما تشابه منه. ولقد تلقت طائفة من أبناء هذه الأمة راية الطعن والتشكيك، واستمرؤوا الخوض في آيات الله بغير علم، واستحلوا تجريح علماء الأمة، وأحلوا قومهم دار البوار، فكان أن هددت حصون الأمة من الداخل. |
لماذا المساس بالعلماء والتشكيك في الثوابت؟ 2/2
د.حسن بن فهد الهويمل ومعاذ الله أن نكون من المرجفين، فنتقول على غيرنا كل الأقاويل، أو أن نكون وجلين لا نحتمل النقد ولا المساءلة، أو أن نكون مسكونين بالأثرة، مقترفين لجريرة الإقصاء، لنستأثر بالمواقف كلها، بدافع التعصب المُعمي والمصمي، حتى لا نقدر على رؤية حق، ولا نتمكن من سماع رأي، وما احتدمت مشاعرنا، وما توترت أعصابنا إلا من بعد ما رأينا خلال الرماد وميض نار. فالمتابع للإعلام المقروء والمسموع والمرئي، والداخل على مراكز المعلومات، تخيفه الجرأة الوقحة على علماء الأمة ورواد الإصلاح وقادة الفكر، من مختلف المذاهب، ممن شهد لهم القائمون بالقسط من علماء معاصرين لهم أو تابعين لهم بإحسان. وإحالة التعديات السافرة على حرية التفكير، وحق التعبير، وحتمية التنوير خطأ في فهم الحرية ومقتضى التنوير، فالحرية لا تكون إلا بضوابطها، والتنوير لا يكون إلا في تجديد الدين. أما الأخذ بالمكتشفات والمخترعات وإعداد القوة الحسية والمعنوية والاستفادة من تجارب الأمم وطرائقها فإنما هو استجابة متأخرة لأمر الله وأمر رسوله، وفريضة غائبة بسبب سوء الفهم لمقاصد الإسلام، كما أن الحرية المنضبطة لا تعني إطلاق اليد واللسان فيما يعن، ولو أخذ المتحدثون بهذا المفهوم، لفسدت أمور الناس. ومن حق كل راصد لحراك المشاهد الفكرية والسياسية حريص على مصالح الأمة رؤوف رحيم بها أن يتعقب المتجرئين على يقينيات الحضارة وعلى ورثة الأنبياء، وأن يتعرف على المخبّلين والمسرعين خلال الأمة لزرع بذور الفتنة، لإماطة الأذى وإيقاف التدهور، والكشف عما يعتمل في نفوسهم من ضغائن. فما من ظاهرة فكرية أو موقف متكرر من قضية أو مذهب أو عالم إلا وتكون وراءها مقاصد مشبوهة وجهات خفية تؤز الخلاف، وتذكي الشكوك، وهي مكائد قد لا يعلمها المثيرون أنفسهم. وكم من أحداث سذج جرّت أقدامهم، وأغريت ألسنتهم، وزين لهم سوء أعمالهم، حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن، ومضوا فيه، وفي اعتقادهم أنهم سباقون لإنقاذ أمتهم من موارد الهلكة، وحقيقة الأمر أن ما يفعلونه عين الهلاك وحقيقة الضلال، وكم من مبتدئ تصور أن لا مكان له في المشاهد إلا بإثارة الزوابع، وتحشيد المشاعر، وما علم ذلك المسكين أن تعشقه للأضواء كتهافت الفراش على اللهب، والمتدافعون على بؤر التوتر، حين لا يؤخذ بحجزهم، ويؤطرون على الحق أطرا، يثيرون (الرأي العام)، أو يضلونه، وقد يفقدونه صوابه، ويجرون قدمه لفتنة عمياء، وليست الوحدة الفكرية بأقل أهمية من الوحدة الإقليمية، واستفزاز (الرأي العام) مسايرة للأعداء، واستجابة لضغائنهم، وهو في النهاية مؤذن بتصدع الوحدة الفكرية. والباحث عن المعرفة وتحرير المسائل، وإحقاق الحق، وتنقية المسار من شوائب الفرقة، يجب عليه الا يخلط بين مقاصد المذهب وممارسة الاتباع. ذلك أن المذهب أي مذهب، لا يتحمل أي مقترف باسمه، لمجرد الادعاء. وكم من مفتين أو متصدين لأي ظاهرة يخفقون، أو يخطئون في فهم مقاصد مذهبهم ومواقفه من القضايا، ثم لا يتورعون من إحالة مواقفهم على قواعد مذهبهم وأصوله ومناهجه. وكم من متعصب متماكر يتصيد أخطاء الأتباع، لينال من قواعد المذهب وأصوله، والتربص مؤشر على فقد المصداقية، وضعف الأمانة والإيمان. والمنقب في كتب المذاهب والمناقب، يقف على مرافعات، يمدها التعصب، ويؤزها حسد العلماء وأثرتهم، ولكن ذلك كله جاء في أضيق نطاق، وفي زمن القوة والتآلف والازدهار، فاحتمله جسم الأمة، كما يحتمل البحر اللجي ما يلقى فيه، فيحوله إلى زبد يذهب جفاء. وفوق ذلك فالمتنازعون إذ ذاك يعملون لحساب الإسلام، وإن بدرت من بعضهم مخالفات، كشفها العلماء في وقتها، وأزالوا لبسها. أما جدل اليوم فمختلف جداً، إنه عمل غير صالح، والمشاهد الفكرية تموج بمثل أولئك الذين يفسدون باسم الإصلاح، ويدفعون بالناصحين المتألفين للقلوب إلى الوقوع في التنازع والتنابز والتدابر. وذوو الألباب ينظرون إلى الظروف والأوضاع، ولا يوغلون في التأزيم، وبخاصة حين تكون الغلبة لأعدائهم. وإن تعجب فعجب ما يتداوله أبناء السلفية من قول، استمدوا وقوده من وقوعات تاريخية، أرادوا من استدعائها إدانة السلف الصالح، وفي الوقت ذاته عموا وصموا عما تفعله الحضارة المتعلمنة المتعولمة في ديار المسلمين من تقتيل وتشريد وهدم، وطمس للتاريخ وإلغاء للذاكرة، وعما يكتبه الساسة والمفكرون الغربيون من افتراءات، يتلقاها عرابات الحداثوية والعلمانية باليمين، ثم لا نجد أحداً من مروجي قالة السوء عن الإسلام وحملته من امتعض أو ثار أو تمعر وجهه من أجل الحق. ومن المثير للتساؤل مقابل هذا الصمت المريب، ما يتخذه أولئك الأبناء من أقوال علمائهم في قضايا (الفقه الأكبر) والذي عليه مدار الحياة تزلفاً وتملقاً وإرضاءً للأعداء. وكم يبَّيتون ما لا يرضي الله من القول. وقد يكون (شيخ الإسلام) الأكثر تداولاً على مختلف الصعد الإعلامية، فلقد تعمدوا تصيد أقواله المبتسرة من سياقها والمفصولة من أنساقها، لتكون وثائق إدانة، ولم يترددوا في دعم ملصقي الإرهاب بالإسلام بما توصل إليه علماؤنا من قبله ومن بعده في قضايا (الولاء) و (البراء) و (الجهاد) و (إظهار الدين) و (الحكم بما أنزل الله) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مما هو واجب الذين مكن الله لهم في الأرض، ولأن المصلحين والعلماء يحيلون إلى اختيارات (شيخ الإسلام)، ويسترفدون (مفرداته)، فقد وجد المغرضون أن إدانة هؤلاء، لا تتم إلا بنسف أصولهم، وقطع صلتهم بمرجعيتهم، وإذا كنا نمقت الغلو، وندين التطرف، ونبرأ من مفارقة الجماعة، ونرى عصمة الأنفس المسلمة والمعاهدة والذمية، ونحفل بالوسطية والرفق والتيسير، والتعايش، والاتقاء، والوفاء بالعهود والمواثيق، فإن طريق ذلك لا يكون بإدانة العلماء، ولا باتهام المذاهب، وإنما يكون بالمراجعة والتصحيح، ورد كل حدث إلى مُحدثه، وتقصي الظروف والملابسات. وأعجب من هذا التحرك المنظم، والتشايل المشبوه بين بعض طوائف الأمة الإسلامية لاستعادة ما وسعته صفحات التاريخ، وطواه التقادم من خلافات في علم الأصول أو الفروع، وهي خلافات لها سياقاتها وأنساقها وظروفها، والأطراف المتجاذبة لها في الحكم يرد أمرهم إلى الله وإلى الرسول، وبخاصة ما كان (ابن تيمية) طرفاً فيه، سعياً من أولئك البرمين من قول الحق، ورغبة في مظاهرة المتقولين عليه، وافتراء القول بأنه بتصديه للملل والنحل المخالفة لمذهب السلف، يؤسس لإرهاب منظم، نام كما أهل الكهف في صفحات التاريخ، حتى أعثر الله عليه المحتقنين منه الناقمين عليه. ولم يكن هؤلاء بالمنصفين، فاستدعاء عالم أو مذهب للمساءلة، يلزم معه معرفة خطاب المذهب الآخر وأسلوب مواجهته لخصومه. ولو أن المستدعين (لابن تيمية) تساءلوا فيما بينهم: لماذا سجن وعذب، ولم يسجن خصومه؟ أليس ذلك مؤشر عنف أشد، وتسلط أعنف ومصادرة للحرية من جانب واحد. ولست أشك أن هذه الحملات الكلامية مكيدة حاذق، سربت خيوطها، ليأخذ بها المواطئون والجهلة، ويتحقق من وراء ذلك هدفان: الأول: - تحميل (الفكر السياسي الإسلامي) مسؤولية ما يعانيه العالم من اضطراب في الأوضاع كافة. الثاني: - تشكيك الأمة الإسلامية في علمائها الذين تركوا من ورائهم أصولاً وأحكاماً وآراء، لو ابتدرها من بعدهم، لكان أن تخطوا بأمتهم كل العوائق. وحين يعزز المتهم بالإرهاب مقولة المدعي بالاعتراف، تتحقق مكائد الأعداء، لأن ذلك يشرعن لوحشيته الفاعلة ولتحريشه القاتل، ثم يكون بأس الأمة بينها شديد. ومتى ألهيت الأمة بالشقاق، أصبحت مهمة الأعداء مقتصرة على تغذية الخلاف، وجني الثمار. وذلك ما نراه بادياً للعيان، فبأس الأمة بينها شديد، وما من متابع للصحف والمجلات وسائر الإذاعات والقنوات ومختلف المؤسسات إلا ويجدها تؤز الفتنة، وتحرش بين أبناء الملة الواحدة، وتهيئ الأجواء لعشاق الأضواء، ليتبادلوا الاتهامات فيما بينهم، والتنقيب في صفحات التاريخ. وما من حضارة إلا وينطوي تاريخها على فترات مُضيئة وأخرى منطفئة، وما عهدنا تلك الفئات سباقة إلى نقد الذات، ومساءلة المنجزات، والكف عما بدر بين علماء الأمة من خلافات طواها التاريخ، فتلك أمم قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وإذا لم يكن في الاستعادة جدوى، ولم يكن من إهمالها مضرة، فإن القول فيها مؤشر مكائد، أحكم صنعها الأعداء، وتطوع لتنفيذها المغفلون، واستخف بخطرها الجهلاء. ولما كانت الأمة في حالة من الضعف الحسي والمعنوي، فإنها أحوج ما تكون إلى فترة نقاهة واستجمام، يتجه فيها الأبناء إلى المتفق عليه، ويدعون المختلف فيه. وماذا يفيدها حين يلتقي أبناؤها المنتمون إلى طوائفهم على مسمع ومرأى من أعدائهم في العقيدة، فيلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً، تاركين المساحات المشتركة لمن يكيد لهم، ومن ذا الذي يسره أن يرى وسائل الإعلام سباقة إلى بؤر التوتر، تذكي أوارها، وتعيد مراحلها التاريخية المليئة بالشقاق والاختلاف، وإذا كانت فتراتها المنطوية مرت بها في زمن القوة والصدارة، فإن إعادتها في زمن الضعف والتخلف، مؤذن بفساد كبير. والذين ينقمون على (ابن تيمية) أو على تلميذه (ابن القيم) أو على (ابن عبدالوهاب) أو على أي عالم من علماء الأمة، من مفكرين ومصلحين ودعاة متقدمين أو متأخرين، ممن قالوا ما يعتقدون، وفندوا أقوال خصومهم، لا تراهم يستحضرون ما قيل بحقهم وحق العلماء الذين يأخذون عنهم، فإذا كفروا قولاً أو طائفة فإن غيرهم أعادوا الكرة عليهم، وحكموا عليهم بمثل قولهم، بل كفروا المذاهب التي ينتمون اليها، والعدل والإنصاف يقتضيان استحضار القول والقول المضاد، ليؤخذ كل مذهب بما اقترفت أيدي أصحابه، والعقل والحكمة يقتضيان الخلوص من نبش الماضي، والصواب تحامي الخلاف ما أمكن ذلك، إذ ما من أحد من العلماء إلا وله خلافاته مع لداته ومعاصريه من العلماء. والمنصفون لا يستدعون الخلاف لإذكاء المذهبية، وتصعيد التعصب، ومصلحة الأمة الآني في إرجاء تلك الخلافات، أو تركها للعلماء المشتغلين بها بعيداً عن وسائل الإعلام. فالعلماء يحتملون الاشتغال في مثل ذلك، ويرونه طبعياً، أما إقحام الرأي العام، وتحشيد مشاعره فأمر مريب، ومن رغب الوقوف على التاريخ العلمي أو الفكري أو الحضاري للأمة فليطلبه في طيات الكتب وفي أروقة الجامعات، ثم ليدعه حيث هو، إذ الخروج به عن مضاميره تفريق وتصعيد لعداوات الأمة. وحين يكون الاختلاف في فترات الازدهار مؤشر ثراء معرفي يكون استحضاره اليوم للإدانة والإسقاط، ولم يكن (ابن تيمية) بدعاً من الأمر، فما قاله من آراء، وما اعتقده من أقوال سبقه إليها غيره، ولحق به من بعده، ولخصومه أقوال وعقائد لها وعليها فلماذا يتعالق أبناء السلفية السمحة مع غيرهم، ولا ينظرون إلى ما قيل في حق علمائهم وأصول مذاهبهم؟ وكان حقاً عليهم أن يقولوا لمن حولهم من المتعصبين لمذاهبهم والرامين لغيرهم بدائهم: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، نستعرض ما قاله كل عالم في خصومه، ثم نطويه، بوصفه وثائق تاريخية للحراك الفكري والعلمي، ونستأنف حواراً جديداً ينشد الوفاق، فإن لم يحصُل فلا أقل من التعاذر والتعايش، فما عاد الزمن قابلاً لإذكاء الخلاف، وإيغار الصدور. ولو أن الناقمين على الإسلام غفلوا عن (ابن تيمية) لما استدعته الألسنة والأقلام التي تمارس هدم كياناتها بأيديها، تاركة فرصة للشماتة والتشفي، وما من عاقل رشيد، يستسيغ ما يقال بحق علماء الأمة بشكل تعميمي وبأحكام مجازفة، كما لا يستساغ تحميل المذاهب الإسلامية جرائر الإرهاب الوحشي الذي لا تقره ديانة، ولا تحتمله إنسانية. و (ابن تيمية) له رؤية: عقدية وفقهية، مارس حقه فيها، كأي عالم يخالفه في الرؤية، فلماذا يخص بالتجريح والتجريم، ولما تكن له أقوال مجتثة، وليست له مبادرات منفصلة عن أصول اعتقاد السلف الصالح، فما ذهب إليه منتج استقراء للنصوص، وفق أصول المذاهب السلفية وقواعدها التي ينتمي إليها، ووفق متطلبات المرحلة العصيبة التي عاشها، وما يقال عنه يمس السابقين واللاحقين والمتعقب لاختياراته في الفروع يجده محصلة لعالمين جليلين هما (ابن عبدالبر) و (ابن حزم) ومع اختلافه الواضح مع الظاهرية في الفروع والأصول، فإنه يترحم على ابن حزم، ولا يذكره إلا بكنيته، أما في الأصول فهو امتداد للمحدث والفقيه (أحمد بن حنبل)، والذين يختلفون معه من فلاسفة أو متكلمين أو طائفيين، يجب عليهم مساءلة المذهب الذي ينتمي إليه، والسعي لنقض قواعده وأصوله، ومتى استطاعوا نقض القواعد والأصول بحجة شرعية وقول محكم، سقط (ابن تيمية) ومن سبقه ومن لحق به، دون التنصيص عليه أو النيل منه، وإذا كانت الأحكام والآراء التي توصل إليها مناقضة لقواعد مذهبه وأصوله فإن علماء المذهب اللاحقين به، سيكونون الأسبق إلى الرد عليه ومساءلته، وهذا المحدث السلفي (ناصر الدين الألباني)- رحمه الله-، تعقب بعض كتب (ابن تيمية)، وتقصى أحاديثها، وفرق بين الصحيح والضعيف فيها، وما نقم عليه أحد، وما اتهمه أحد، ذلك أن الحق ضالة المؤمن، كما أنه تعقب بعض علماء الدعوة، واستدرك عليهم في الحديث والفقه وغيرهما، وما ثار أحد في وجهه، وما أحد من المعتدلين ادعى عصمة لعالم، ولا قطع بصحة قوله. ولقد أثر عن الشافعي أو عن غيره قوله:( إذا صح الحديث فهو مذهبي) وقوله أو قول غيره:( قولنا صدق يحتمل الكذب وقول غيرنا كذب يحتمل الصدق)، ومثل هذا القول وإن كان عليه ما عليه من التحفظ، يفتح الباب أمام المراجعة والمساءلة والنقد، ويستبعد العصمة التي يدعيها الجهلة والمقلدون وأنصاف المتعلمين. ومما فات كل المتجادلين حول مسلمات (ابن تيمية) ، أنساقه وسياقاته، فالنسق المعرفي له، لا يمكن تصوره من تلك الابتسارات، ومواجهة (ابن تيمية) لا تكون بانتزاع الأقوال من سياقاتها وأنساقها، ذلك أنه يحيل إلى ضوابط وقواعد، وينطلق من ظروف خاصة، مسه فيها الضر، ومس أمته الهوان من (التتار)، والمبتسر يناقض الضوابط والقواعد وأدبيات الحوار، وليس من المعقول أن يناقض عالم مثل (ابن تيمية) مذهبه الذي يجالد ويجاهد من أجل إشاعته، فالذين يقولون إنه مجسم حشوي مكيف، وأنه ناصبي أو مبتدع، ثم يلتقطون جملة أو عبارة توهم بذلك، يرد ابتسارهم وقولهم إلى أصول مذهبه، الذي لا يرى التجسيم، ولا الحشوية، ولا التكييف، ولا التشبيه، ولا التعطيل، ولا يبتدع ولا يناصب آل البيت. والذين يجعلون أحكامه وفتاواه موطئة للإرهاب، لا ينظرون إلى ما لقيه شيخه أحمد بن حنبل من عنت وتسلط، ولم يكن منه إلا التسامح والدعاء لولي الأمر، وما لقيه (ابن تيمية) نفسه من نقد وظلم. ومن نسب إليه من أقوال يخالف فيها مذهب السلف فقد افترى عليه الكذب، والذين يقترفون العنف، ويوغلون في الدين بغير رفق، ويغلون في دينهم، ثم يبررون ما يذهبون إليه بقول (لابن تيمية)، يتحملون تصرفهم الخاطئ وإحالتهم الكاذبة. و (ابن تيمية) براء منهم ومن غلوهم، ولا يتحمل نتائج الفهم السقيم، ولم يكن وحده مجال الشجب والاتهام، ولكنه واحد ممن أسيء إليهم، واستدعاء القضايا والأناسي مما خلا، واستدبار النوازل مؤذن بتخلف فوق تخلف، ولقد نهينا عن الجدل العقيم، وعلى الذين اتخذوا الإثارة سبيلاً لتثبيت الأقدام، وتسويق الذوات في نخاسة الإعلام أن يلطفوا بأمتهم، وأن يرحموا ضعفها وهوانها على الناس، وأن يلتمسوا مصادر شهرتهم وكسبهم من مجالات أخرى، لا تعرض مثمنات الأمة للضياع، ولا تعرض الأمة للصَّغار. |
مأسسة الثقافة وثقافة المؤسسات..! 1-2
د. حسن الهويمل لكي تتضح رؤيتي، ويتحدد مفهومي، أشير إلى أن همي منصب على تيسير التفاعل بين الأمة وسائر مؤسساتها.. وتوقعي أنه لن يتم التفاعل الإيجابي حتى تُهيأ الأذهان.. وتقوم الثقة والألفة، وتتم المعرفة، وتجسر الفجوات، وتُنقى الأجواء، وتتحقق الغاية من الشفافية.. ويقيني أنه لم يتحقق أيسر المطلوب.. ولقد سميت التهيئة والتجسير والثقة والمعرفة والشفافية ب( ثقافة المؤسسات)، وما أردت إلا التوفيق بين طرفي المعادلة: الإنسان والمؤسسة.. وما كنت في شأن من شؤون الحياة مثلما كنت في تطلعي لإشاعة (ثقافة المؤسسات)، ليكون الناس على بيّنة من أمرهم، ولتكون الأجواء ملائمة، تتمكن في ظلها أيُّ مؤسسة في أي حقل: معرفي أو إجرائي من استغلال أقصى طاقاتها، وتحقيق رسالتها المنوطة بها، وتعويد الناس على انسيابية التعامل معها. فنحن - مثلاً - أحوج ما نكون إلى إشاعة (ثقافة الانتخاب)، و(ثقافة الشورى)، و(ثقافة الحوار)، و(ثقافة حقوق الإنسان) بوصفها ذات مهمات طارئة، لم يألفها الناس.. وكل مؤسسة تمس الشأنَ المحليَّ ومصائرَه، وتنشق عنها طموحات العصرنة، تحتاج إلى مقدمات: معرفية وتأهيلية، تُمكِّن الإنسان من التصوُّر السليم لها، والتفاعل الإيجابي معها، وتثبت أفئدة المترددين في قبولها، وتربط على قلوب الوجلين.. وتزداد أهمية ذلك، حين تمارس الدولة مأسسة كلَِّ شيء أتت عليه، بما في ذلك ما يفضِّل المجربون تركه طليقاً كالمهرة في الفلاة، وبخاصة ثقافة: الفكر والإبداع.. والمدنية والحضارة لا يستوي وضعُهما، حتى تُضم الأشباه والنظائر إلى بعضهما، وحتى توحَّدَ المرجعيات، التشريعيةُ والتنفيذيةُ، وحتى لا يكون أمر الناس عليهم غمةً. وحركة الإصلاح والتطوير والتغيير التي تخوضها الدولة على تخوف وتردد، لن تحقق أهدافها المضمرة أو المعلنة، حتى تمس أدمغة الناس وأفكارهم، قبل أن تمس أحوالهم.. فلكي تتخلص الأمة من الانفعال إلى الفعل، لا بد أن تعي الآذان الواعية ما يقال، وتتقبل النفوس المطمئنة ما يُفعل، وحتى يَثْقَف الناس المهمة والهدف وأسلوب التعامل لكل ما يجد.. والتحرف للإصلاح الإداري، تمخض عن دمج وإلغاء وإحداث.. وتلك خطوة وئيدة، تتجه صوب الإصلاح والتفعيل المنظم.. وإيقاع الدولة المتسارع في المأسسة، وتحديث الأنظمة وإحداثها، وانشغال مجلس الشورى بالأحداث والتعديل، يتطلب: مهاداً واستقبالاً واستيعاباً واستجابة.. وتحقيق ذلك مُرتهن بإشاعة (ثقافة المؤسسات) لتنشئة الثقة والمعرفة، ولتمكين المؤسسة من تلمس أيسر الطرق وآمنها إلى شرائحها المقصودين بخدمتها، وتوفير الإفادة والاستفادة، والتعريف بمجال الأداء، وحجم الانتفاع.. ومتى شئنا تضافر الجهود المتجانسة واستقطابها، وتأدية مهماتها بشكل جماعي منتظم، فلا بد من تيسير النظام للمستَهْدَف، وتسهيل المجال للفاعل، والتعريف بمحاذير الاعتزال.. وسبيل ذلك كله أو بعضه مادة (التربية الوطنية) التي لم يجوَّد إعدادها، ولم يفعَّل أداؤها، وسائر المنابر: الدينية والثقافية والإعلامية، التي ما فتئت تجتر قضايا ثانوية، وتسخن ظواهر باردة، وفي الأحشاء ما فيها من لهيب المشاكل المصيرية. والمؤسسات غير الواعية أو غير المستوعاة، تتآكل مع الزمن، لأنها لا تزرع الثقة، ولا توطئ أكناف التواصل، ولا تحقق المراد بأيسر الجهد وأقل الوقت. وتلك خليقة الشعوب النامية، المصابة بداء الشكلية العقيمة، و(البيروقراطية) المعيقة.. ومصلحة المستشرفين للمستقبل، تكمن في رفض الاستسلام لتلك الخليقة.. وليس هناك ما يمنع الخلوص من تلك الأدواء المستوطنة، والتي أصبحت سمة بارزة في أداء العالم الثالث، والرقي بالوعي إلى مستوى المؤسسات، وتفعيل الواقع المعاش من خلالها، يتطلب الإلمام بأبجديات النظام والمنهج والآلية والمقاصد والمفاهيم، وهضم طبيعة المؤسسة ومهماتها.. وكم من مؤسسة كما البئر المعطلة، وكم من نظام مجهول أو معقد، وكم من تعليمات غامضة، عوّقت الأداء، وأطفأت وهج التفاعل.. وواجب المشرعين والمنفذين العمل على التفعيل والتعريف والتسهيل والتوضيح، ولا سيما أن ذلك كله هم وهدف كامنان في أعماق المشرعين. إن قيام مؤسسات: دينية وشورية وأدبية واجتماعية وإعلامية وتربوية وادعائية وحقوقية وسياحية ومجالس عليا: للتعليم والاقتصاد والبترول والشؤون الإسلامية وأخرى لم تأت بعد.. وإنشاءَ روابط وهيئات وجمعيات ونقابات ومنظمات، يعني الاتجاه السليم صوب استكمال متطلبات المدنية والتحضر، وظهور المجتمع المدني، والاستعداد لمواجهة طوفان العولمة، ونوايا القطب الواحد، ومضمرات المشايعين له.. ولن يحقق الحراك المنظم هدفه المنشود، حتى يتوفر المُستهدف بهذه الخدمات على وعي سليم، وتمثل حضاري سديد، يستبعد الاعتزال والتعالي والتمارض واللامبالاة، ويوقف استفحال الأثرة، وينمي روح العمل الجماعي، أو ما يُسمى ب (روح الفريق الواحد)، وحتى يعرف القومُ ما هم عليه، ويفقهوا واقعهم على حقيقته، ويتصوروا إمكانياتهم الذهنية، وحجم مهاراتهم، ومدى توافق ذلك كله، وتكافئه مع حركة المؤسسات.. وكم نتابع الألعاب الرياضية الجماعية، وننظر كيف يتحقق النصر بالتفاهم والتعاون والانسجام، وتبادل المهمات والمواقع بانسيابية وفورية وتنسيق للجهود، ثم لا نعتبر. إن فئات المجتمع في مضامير المؤسسات أشبه شيء بعمال المصنع أو بأفراد الفريق، لا تنتظم مهماتهم إلا بالتعارف والتعاون والتفاهم والتكتل.. ولن يظفر أي فرد أو جماعة بشيء من النجاحات المأمولة، حتى تقوم الألفة والمودة والثقة والإيثار بين الأفراد من جهة، وبينهم وبين المؤسسة التي ينتمي إليها كل فرد: عالِماً كان أو أديباً أو مفكراً أو معلماً أو عاملاً في أي حقل: معرفي أو مهني.. وأهمية الثقافة تزداد حين تستبق الدولة الزمن في سبيل التحول المؤسساتي.. والأطياف المتجانسة حين تثبطها اللامبالاة، أو يقعد بها الجهل، أو يعوقها الاسترخاء والتسويف، تقع في إشكاليات تعوِّق المسيرة، وتشل الحركة.. ولن يتأتى الوجود المثالي لأي مؤسسة إلا بالتحامها مع من أُنشئت من أجله، وتمكينه من إدراك رسالتها، وحدود مسؤوليتها، واستيعاب الأسلوب الأمثل للتعامل معها، والوقوف على إمكانياتها، وفهم نظامها، واحترامه، ومعرفة ما تقدر على تقديمه لذويها.. والمتابع لكثير من مؤسسات الحكومة المدنية، يحس أنها لا تستغل أدنى حد من طاقتها: إما لسلبية ذوي الشأن، أو لعملهم بمعزل عنها، واستغنائهم عن خدماتها.. وأضر الأسباب وأخطرها توهمهم أنها تشكِّل عقبة في طريق انطلاقهم، وتخوفهم من أن ارتباطهم بها مثبط لحركتهم، قامع لتصرفهم، مطامن لوجودهم.. وللتغلب على هذه الأحاسيس، تقع المؤسسة في مأزق التنازلات المخلة، أو الادعاء العريض، وقد لا تجد قبولاً ولا إقبالاً ولا تصديقاً.. وتناولي لهذه الإشكاليات، لن يكون رهين الإقليمية، فلقد تعوّدت التخلص من الاحتباس في الشأن المحلي. وإذا كان الأقربون أولى بالمعروف، فإن للسياق العربي أثره، وليس بمقدور أحد أن يأوي إلى جبل يعصمه من أخطاء المتماسين معه إلى حد الخلطة.. فالعالم العربي بجملته يفتقر إلى هذا اللون من الثقافة، فيما تفتقر مؤسساته إلى الواقعية، ومرونة التعليمات، والشفافية.. والإنسان العربي: إما مُرْهِق للمؤسسة بتحميلها ما لا تحتمل، أو مجبول على مواجهة السلطة، والوقوف منها موقف المنابذ المتمرد، وليس موقف المناصح المعارض.. وأحسب أن هذه الخليقة بقية من رواسب الخطابات الثورية، التي زرعت في الأعماق العداء للسلطة، وأعني به العداء غير المبرر وغير المشروع.. مع أن الحضارة والمدنية لا يقر لهما قرار إلا في ظل سلطة قوية عادلة، وأمة واعية فاعلة. ومن ظواهر التعويق ما جبل عليه مؤسسو المؤسسات وواضعو أنظمتها، من مثاليات لا تطال، أو من تعليمات لا تُفهم، مما يؤكد على أن الإشكاليات عقبات مشتركة، وليست ناتج جهل وحسب، ومثل ذلك يتطلَّب المكاشفة ومواجهة التقصير بثقة وتحامي الإسقاط. ومن المسلّمات أن كل نظام في الحياة له ثقافة: معرفية وإجرائية، تنظِّم أسلوب التفاعل المتبادل بين إنسانه ومؤسساته.. وما لم يتقن المجتمع ثقافة نظامه القائم، فإنه يدخل تحت طائلة الانفصام الشخصي.. ولا فرق بين الأنظمة في قيام الحاجة إلى الثقافة.. فالنظام من حيث هو، لا يتأسس إلى على تواطؤ، وتوافق، ورضا، يعقبها فهم واستجابة.. فلا قيمة للفهم بدون استجابة، ولا قيمة للاستجابة بدون فهم. فالأنظمة السلطوية المستبدة. والأنظمة العادلة القوية. والأنظمة المدنية المتحضّرة. والأنظمة البدائية المتوحشة. والأنظمة المادية المتعلمنة. والأنظمة الشورية المتأسلمة. كلها لا تنهض من فراغ، ولا تعمل في فراغ.. إنها بحاجة إلى: مرجعية تقبل بها المجموعة، وتسلم لها على ضوء مستواها المعرفي وانتمائها الحضاري، وإلى أنظمة مفهومة يستجيب لها المستفيد، وإلى أمة عازمة حازمة تستمد من المفيد.. وحين ترضى الأمة بنظامها على أي شكل كان، يجب أن تمنحه المشروعية، وتتبناه في المنشط والمكره، وتتكفل له بالحماية والإشاعة.. وحين ننطلق برؤيتنا من مفهوم النظام، لا نتصوره طوباوياً مغرياً، ولا واقعياً محبطاً، وإنما نتصوره وجوداً فاعلاً على أي نمط، ونتلمس شكل العلاقات المتبادلة بين مؤسساته وأناسيه. ولكل أمة ( عقدها الاجتماعي) الذي يحكم حراكها على كل مستوياتها: الدستورية والتشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية.. وكل كيان في بنائه الرأسِيِّ أو الأفقي، يصدق عليه المفهوم المؤسساتي، وإن تفاوتت ممارسته بين الفردية والجماعية، والكثرة والقلة.. وكل أداء منظم إن هو إلا علاقة متوازنة بين (الإناسة) و(المأسسة)، ومتى انفض سامر الناس من حول مؤسساتهم، لأي سبب مبرر أو غير مبرر، وسعوا وراء مصالحهم الذاتية بإرادة فردية، ولم يرضوا بما عقدوا الإيمان عليه، دبّ فيهم الضعف والوهن، وفشا فيهم الجدل العقيم، واستوت عندهم الأنوار والظلم: (وما انتفاع أخ الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم) |
مأسسة الثقافة وثقافة المؤسسات ..! 2-2
د. حسن الهويمل ولقد يكون من الأهم أن نشير إلى ما تتداوله المشاهد من نقص في أهلية المؤسسات، وهو نقص يحال إما: إلى أنظمتها، أو إلى تنفيذها، وقلّ أن يحال إلى سوء التعامل معها أو سوء فهمها. ولربما يكون لذلك بعض الصدق أو كله، وقد يكون من باب تقاذف الكرة، والتخلي عن المسؤولية، فما عهدنا أحداً يحتمل الاعتراف بالخطأ. ولو جنحنا إلى التفصيل، وجدل التنصل من المسؤولية، ورد كل قول إلى مصدره لبعدت علينا الشقة، وفوتنا على أنفسنا ما نحن بصدد الحديث عنه. وما أردنا في حديثنا هذا استنزاف طاقاتنا في المماحكات عن ظواهر لسنا معنيين بها فيما نقول. ومع هذا العدول الوقتي فإن المتابع الناصح الواعي لا يكون خِبَّاً ولا يخدعه الخبُّ. إن هناك تقصيراً لا يماري فيه إلا فضولي، وهناك شيئاً من الارتباك لا يستبينه إلا المتماس، وهناك نقصاً في الكفاءات لا يكتوي به إلا ذوو الحاجات، ولكن هذا كله لا يبرر النقص الكبير في (ثقافة المؤسسات)، وهذا النقص فيما أرى رأس كل خطيئة. ولو استطعنا تلافيه، لأمكنت السيطرة على البواقي، إذ ستكون المواجهة بين المؤسسة وإنسانها مواجهة حضارية، تقوِّم الاعوجاج، ولا تصدع العلاقة. ومع هذا أو ذاك فإن تمثُّل ثقافة أي نظام تمثُّلاً منتجاً يعني فهمه فهماً حقيقياً وممارسة التفاعل معه، تفاعلاً يمده بالقوة والثبات والعطاء. ومعالجتنا ل(ثقافة المؤسسات) لا تفرض علينا النقد والتقويم، فهدفنا هنا منصب على نقص ثقافة المستفيد لا على تقصير المفيد، ومرادنا التوفيق بين المؤسسة والمقصود بخدمتها. وفَقْد الثقافة قد لا يرتبط بالنقص ولا بالتقصير، ولا ينشئه الرفض ولا الاستياء، إذ ربما لا يكون بين الطرفين أيُّ خلاف في المبادئ، أو اختلاف في وجهات النظر، ومع ذلك لا يكون بينهما انسجامٌ ولا تفاعل. وحين نفتش عن السبب، نجده نتاتج فَقْد ل(ثقافة المؤسسة). وحاجتنا الملحة لا تستدعي التزكية ولا الإدانة. إذ همُّنا الآلي، يحركه حرصنا على توفير آلية التفاعل المثمر مع كل مؤسسة، أريد لها أن تخدم طائفة من المجتمع. وعندما يكون الاعتزال ناتج ضعف في أداء المؤسسة، أو ناتج خللٍ في نظامها، فإن لذلك شأناً آخر. ومجال حديثنا حول القطيعة الناتجة عن قصور في الفهم أو خطأ في المفهوم. ولن تتحقق جدوى أيُّ مؤسسة إلا بالتنسيق بين المنتج والمتلقي، واستيعاب كل طرف للآخر: استيعاب أداء، واستيعاب فهم. وحين نعدل عن تحديد سمة المؤسسة ومجالها، فليس ذلك استغناءً ولا استخفافاً، ولكنه انشغال بالمفضول، بوصفه مجهزاً للفاضل. كما أننا نركز على الخلل الواقع، نتيجة ضعف التبادل المعرفي والأدائي بين طرفي المهمة. وليس بالضرورة أن يكون العزوف ناتج الطعن في أهلية المؤسسة، أو التناقض معها مبدئياً، أو تقصير المؤسسة في توصيل المعلومة المرتبطة بشكل العلاقة وأسلوب أدائها. إننا نحمل المواطن قسطاً من المسؤولية، فهو قد لا يبالي في تلقي المعلومة المنظمة للتواصل والتفاعل، وإذا تلقاها قد لا يتمثلها. وسأضرب مثلاً بعلاقة المواطن ب(البنوك) بوصفها مؤسسات لها ثقافتها وأسلوب التعامل معها. لم لا يكون هناك ارتباك ولا تهميش من أحد الطرفين للآخر؟ مع ان (البنوك) لا تملك سلطة المؤسسات الغائبة أو المهمشة، علماً أن الذين يقفون بمعزل عن تلك المؤسسات، قد لا يشكُّون في سلامة مقاصدها، ولا في نزاهة منازعها، ولكنهم يفتقرون إلى مغريات التعامل، وتقنية التواصل، ومعرفة الأهمية. وهذا ما يفعله قطاع (البنوك)، وقد لا تفعله بعض المؤسسات. وإذ يكون من المهم استباق الحديث عن (التأسيس الثقافي) فإن الأهم النظر في تفعيل الممارسة من خلال المؤسسات المنوط بها استقطاب القادرين على الأداء، والمستحقين لناتج الأداء. فالمؤسسة فاعلة من خلال أطيافها، ومنتجة لحاجة هذه الأطياف. وإذا لم يكن هناك توازن في تداول (الحقوق) و(الواجبات)، فإن المؤسسة تفقد من أهلية وجودها وفاعلية أدائها بقدر اختلال التوازن. والحديث عن تكافؤ الفرص بين (الحق) و(الواجب) والتوازن بين (الأخذ) و(العطاء) يفضي بنا الى ما يمكن تسميته ب(ثقافة الثقافة)، وهو المنظور الاجتماعي للثقافة ف(علماء الاجتماع) حين تقحموا معمعة الإشكالية المأزومة لمفهوم الثقافة، التقطوها من جانب (التمثل والممارسة). ذلك أن الثقافة: معرفة وحذق وممارسة. ولسنا معنيين بنوع المعرفة، ولا بالقدر المدْرَك يكون المدْرِكُ مثقفاً، وإنما يعنينا سلوك المثقف على ضوء مكتسبه المعرفي، تمشياً مع رؤية (ابن مسعود) رضي الله عنه المتمثلة: بالحفظ والفهم والعمل. و(العلاقات العامة) طرفٌ أهم في السلوك. ولهذا عول (علماء الاجتماع) على التفعيل السلوكي للثقافة. وهل تنتفع الأمة من علمائها ومفكريها ومثقفيها، إذا لم تُفعَّل إمكانياتهم، وتترجم إلى عمل، وما لم يبدُ أثرها في سلوك الفرد؟ وكأن لسان حال المؤسسات يقول: (وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا.. ودون الذي أمَّلت منك حجاب) وكل هذه الإشارات المتناثرة، تصب فيما نقصده ب(ثقافة المؤسسات). وجماع أمر هذه الثقافة: أن يَفْعل المعنيُّ من خلال المؤسسة، بعد استكناه المسطور من نظامها، وأن يفعل من أجلها ، بوصفها منطلق الأداء المنظم، وأن لا يسبقها بالفعل ولا بالقول، إلا حين يُجمع أهل الشأن على عجزها عن مسايرته، أو حين تخالف إيقاعها المطلوب، وحينذٍ لا بد من وضع آلية لأسلوب المخالفة، إذ لا يجوز ترك الأمر لسائر الأمزجة والرغبات. ذلك أن الحياة لا تكون سوية إلا بالنظام وتحديد السلطات. ولا بد والحالة تلك من دخول المعمار، وإصلاحه من الداخل، وكل عمل خارجه أحسبه ك(مسجد الضرار)، لا يزيد الأمور إلاّ تعقيداً على أن لكل حدث حديث، ولا مجال للإطلاقات والتعميمات والنمطيات الرتيبة. ولقد كانت المبادرات الفردية، وذهابُ كل راءٍ بما يرى سبباً في وهن الأداء وتسيبه، وتشتت جهود المؤسسة. ولو ضربنا مثلاً ب(المؤسسات الدينية)، ك(الإفتاء) و(الحسبة) أو ب(المؤسسات الأدبية) ك(الأندية الأدبية) و(الجمعيات)، أو ب(المؤسسات الوطنية) ك(مركز الحوار) و(حقوق الإنسان) لوجدنا أن مدار استدبار البعض لها: إما على الجهل أو الاستغناء أو الشك في المصداقية أو الاضطراب المفهومي. ولا أشك أن حسم مثل هذه العوائق رهين الإلمام بالثقافة الغائبة، وتحمل مرارة الاعتراف بالواقع، فادعاء الصحة مع استشراء المرض مؤذن بالهلاك الناجز. وممارسة مهمات المؤسسات خارج إطارها من قبل أفراد مجتهدين، أو مستبدين، سيؤدي في النهاية الى التخذيل والوقوع في الفوضى. وقد يؤدي الاستبداد الى الازدواجية أو الصدام. ودعك من المجازفين والخارجين على السلطة، فلأولئك شأن آخر، ليس هذا مجاله. ومكمن إشكالية المؤسسات ان كل فرد يجانس فعله فعلها، يرى أنه أمة وحده، وأن أطره ضمن العمل الجماعي المشترك، يعني إفشال توهمه الأممي. وحتى لو ترك يخوض في أوهامه، ما كان منه ان يعمل بمعزل عن أداء المؤسسة، بحيث لا يؤثر على مجال أدائها، وإنما سيكون منه سلقٌ وإزلاقٌ، ونزعٌ للثقة، وطعنٌ في الأهلية. الأمر الذي يعيق حركة المنشأة، ويغري من بداخلها على ان ينفضوا من حولها، وقد تتحول تلك المخالفة المقدور على تلافيها بالإجراء العملي الى ظاهرة عصية. فكل إنسان يود أن يكون أمة واحدة، يستبد بآرائه وإرادته . وليس من مقتضيات الثقافة أن يكون المقصود بخدمة المنشأة إمَّعة، لا يفرق بين السلب والإيجاب، ولا بين النجاح والإخفاق، ولا أن يكون كشاعر غزيه في غوايتها ورشدها، فالثقافة لا تكتمل حتى تتوفر الندية، وحرية القول المسؤول، والشفافية، واحتمال المساءلة. وحتى تُحفظ الحقوق، وتُؤدى الواجبات. ولكل فعل أو قولٍ ضوابطه وأهله. إذاً ثقافة المؤسسات ذات شعب ثلاث: - الفهمُ أولاً. - والعملُ ثانياً. - والوفاءُ بالعقود ثالثاً. وكل ذلك تحكمه ضوابط وأدبيات وآليات للتعامل مع المؤسسات، متى فُقدت، أفضى ذلك إلى فقد الهيبة والاحترام، ومؤدى ذلك إعاقة الأداء، وتعطيل الحركة. وخلل التواصل غير المقصود، يتطلب التجسير والتيسير، وإزالة العوائق. وما منيت القيم بمثل ما يعرض لها من انكفاء على الذات. وظواهر الاعتزال التي قد لا يلقي لها البعض بالاً، تؤدي في النهاية إلى فقد المؤسسات رسالاتها. وفي النهاية تتحول إلى هياكل خاوية، وتصبح شكليات غير فاعلة، والدولة مجموعة من الأناسي والمؤسسات المحكوم تفاعلها بعقد مكتوب أو معهود. و(ثقافة المؤسسات) إضافة إلى ما سبق تعني: - الفهم الدقيق لرسالتها، والثقة التامة بها، وممارسة العمل من خلالها، والاستفادة من خدماتها، والعمل على ترشيد أدائها، وتقويم عوجها بالحكمة والجدل الأحسن، وتقديم المشورة لها, ومصداقية التعامل معها، ومن خلالها. - التفاعل الإيجابي بين كوادرها والمقصودين بخدمتها، وتكافؤ الفرص، وتداول المسؤولية، وتفادي الأثرة والإقصاء، وحدية المفهوم والأداء. - إتاحة الفرصة لآلية المؤسسة، لكي تعمل في مجالها، وتهيئة الأجواء الملائمة لمزيد من العطاء. - مرونة التعليمات، وقابلية التطور، وسرعة التكيف مع المتغيرات. - إطراح التنافس حول سدة المسؤولية، والفراغ للأداء السليم، والتنافس في الإنتاج لا في السيطرة. - الدقة في تحديد مسؤولياتها، ومدى قدراتها، تفادياً لتحميلها ما لا تحتمل وإدانتها بمسؤولية غيرها. إن أمامنا ثلاثة مفاهيم: - ثقافة المؤسسات. - والتأسيس الثقافي. - ومأسسة الثقافة. ولكل مفهوم مقاصده ومقتضياته. واهتمامنا منصب على (ثقافة المؤسسات) وإن كان التأسيس والمأسسة من الأهمية بمكان. - ف(ثقافة المؤسسات) أن يعي المعني ما يراد به، وما يراد له، وما يراد منه من خلال تلك المؤسسة، وأن يستشعر أهليتها في ممارسة حقها، وأن يتحرج من الخروج عليها.. متى التزمت بنظامها، ونهضت بمسؤوليتها. - و(التأسيس الثقافي) يعني استكمال البنية التحتية للثقافة السائدة المهيمنة، بحيث يستوعب المنتمي ثوابت الحضارة التي ينتمي إليها، ويلم بيقينياتها، ويعرف نواقضها، ثم ينطلق في آفاق المعرفة الإنسانية, كما النحلة، يلتقط من حضارات الغير بندية وتكافؤ ما لا تقوم الحياة الكريمة إلا به. - أما (مأسسة الثقافة) فيعني تحول الحراك الثقافي الطليق إلى مرجعية إدارية تنظم تحركه، وترود له، وترسم مساره، وتضبط إيقاعه. وإذ نتفق مع المفهومين السالفين: (ثقافة المؤسسات)، و(التأسيس الثقافي). فإننا لا نجد حرجاً من قبول التحفظ على (مأسسة الثقافة)، ممن يخشون ضمورها، حينما يؤطرها نظام، ويحكمها إجراء. ولما لم نكن معنيين بقضايا المفاضلة، فإننا لن نستعرض وجهات النظر، وإن لم نجد بأساً من التفاوت في القبول بين المطلق والمشروط. وكل الذي يشغلنا ما نعايشه من غياب معيب ل(ثقافة المؤسسات)، بين كافة المنتفعين والمعنيين، وما نراه من تعرض بعض المؤسسات للفشل الذريع، لا لعلة كامنة في نظامها، ولا لنقص في كفاءة مسؤوليها، ولكن لانقطاع المقصودين بخدمتها، واشتغالهم خارج أروقتها للأسباب التي أشرنا إليها سلفاً. وإذا كان الحكم على الشيء فرعاً عن تصوره، فإن العمل من خلال الشيء محكوم بثقافة إجراءاته وتعليماته، ويوم أن نفقه (ثقافة المؤسسات): معرفة وإجراء، تنحل أعقد المشاكل استحكاماً، وتزول أقوى العقبات رسوخاً، وتُقبل الأطياف للفعل والتفاعل تحت قبة المؤسسة. أقول ما تقرؤون، وعندي كل الثقة بأن في إمكاننا تخطي العقبات، فنحن أمة تمتلك مقومات العيش الكريم، وحاضرها مليء بالفرص، مستقبلها يفيض بالوعود الباسمة. |
المحو والإثبات بين خطاب الكسب وكسب الخطاب 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل عاصفة الانتخابات الأمريكية تجتاح المشاهد السياسية كافة، حتى لا تدع رجلين على قلب رجل واحد، ولا تنفك وسيلة إعلامية من الامتلاء بالقول ونقيضه. ففي كل أربعة أعوام، تندلق الألسنة بالرهانات، وتجري الأقلام بالاحتمالات، فلا تسمع إلا صراخاً لا يفيق، وإلا صريراً لا يهدأ. وكأن المصائر معقودة بناصية الرئيس المنتخب، فيما لا تثير أي انتخابات أخرى أدنى اهتمام. وقبل أيام وضع اللزز الانتخابي أوزاره، والتقط اللاهثون وراء المتسابقين انفاسهم وتحول الفائز من خطاب الاستدراج المكشوف لكسب الناخبين، إلى خطاب التملق الممجوج، لكسب الساخطين من الأصدقاء. وإسكات عويل الضعفاء من الاضطهاد. وتخفيف ضجر الصامتين من الأنداد. وذلك التلون الحرباوي يستدعي عملية مرهقة من المحو والإثبات، وخدر الأعداء والأنداد ببوارق الأمل. ولسان الحال والمقال لوافد الحزب يقول: ما فات مات، ولك اللحظة التي فيها. والذاكرة العربية المعطوبة بنت لحظتها، لأن كلام الليل يمحوه النهار. ولو أن المستهدفين بالمحو والإثبات يستحضرون ما قيل بالأمس وما يفعل بهم، لما كان بإمكان اللاعب أن يستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأمريكا التي تذم بكل لسان، ويتملق لها كل إنسان، ستظل مشروع قراءة متعددة المناهج والآليات ونظريات التلقي. لأنها نص مفتوح، يتسع لكل القراءات. ولقد كنت مهتماً بهذه الرياضة الفكرية، منذ حملة الانتخابات ل(جون كندي ت 1963م)، الذي لم يكمل مدته، حيث اغتيل، وظلت عملية الاغتيال غامضة إلى يومنا هذا، وظل الحادث مشروع دراسات وتأبينات تثير الفضول، وما الغيلة إلا نتيجة متوقعة لكل مغرد خارج السرب، فأمريكا تحكمها المؤسسات السرية والعلنية، ولا مكان فيها للاستبداد الفردي، وبإمكان المتردد استعراض قائمة الاغتيالات التي اتهمت بها المؤسسات المعنية بتصفية أي عنصر يشق عصا الطاعة. والحملة الانتخابية في أمريكا بالذات وجبة شهية للخلي وللشجي، ولهذا كانت رغبة الكتابة عن ضجتها تساورني منذ البدايات الأولى لها، ولا سيما بعد أن طالها شك التزوير، وخضعت للمراقبة الخارجية لأول مرة. ولما أزل أمني النفس بالحديث عن أمريكا خارج ظروف الصخب الانتخابي، بوصفها الفاعل الرئيس في كافة المشاهد، والموضوع الأهم لكافة المتحدثين ولقد أحسست أن الحديث عنها مطلب لكل المكتوين بنار انحيازها المكشوف والمسحوقين بجرائر حربها الظالمة، ولما كنت أحوج ما أكون إلى قراءتها بلسان قومها، بعيداً عن تشنجات الساخطين، ولغط الاعلاميين، وهلوسة المبهورين، كان لا بد من الإصاخة للشاهد من أهلها، والوقوف على آراء الساسة والمفكرين الغربيين، ومن ضارعهم في التجربة والمعرفة من محترفي السياسة وقرائها العرب أمثال (هيكل) وبخاصة في كتابه الأخير (الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق). ولهذا كان همي متجهاً صوب ما ترجم من مؤلفات اساطين الفكر والسياسة الأمريكية وكافة الناشطين في البحث عن تجليات الحرية، و(الديمقراطية)، وحقوق الإنسان المتداولة إعلامياً على ألسنة مسؤوليها في سبيل تبرير تدخلاتها. وأمريكا لا يستوعبها الناظرون إليها من خلال مطل (البيت الأبيض)، ولا الذين يمتعون أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم بممارستها للديمقراطية وللحرية وتوفير حقوق الإنسان الأمريكي الأبيض، ولا الذين تبهرهم منجزاتها العلمية والمعرفية، ويشدهم استقبالها لكل المفكرين والعلماء، ويعجبهم احتفاؤها بالنظريات، وحفولها بالتجارب، وهيمنتها على اقتصاد العالم. إنها أطياف كما (قوس قزح) أو كما (المرآة في كف الأشل). أمريكا عوالم لا تحسم أمرها صرخات المقهورين ولا هتافات المبهورين ومع هذه الاستحالة فقد هيئت لي في صيف هذا العام إمكانية المرور بأكثر من عاصمة عربية، والمرور بما أقيم فيها من معارض دولية للكتاب، وحضور ما نفذ فيها من مؤتمرات: فكرية وسياسية وأدبية، وما احتدم من مناقشات في (اللوبيات) بلغت أقصى حد من التناقض، فمن لاعن مشيطن إلى مسبح مقدس. فكان أن اتخمت بما سمعت ورأيت، وعدت بجر الحقائب من الكتب التي تتخذ من السياسة الأمريكية مجالاً لها، وبخاصة ما كان مكتوباً بأقلام ابنائها: المختلفين مع سياستها الخارجية، أو المثقفين معها: من مأجورين أو ناقمين على ردود الفعل العالمي، ممن يميلون معها كل الميل. ومن منصفين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا يجدون حرجاً في أنفسهم من أن يقولوا كلمة الحق، ويشهدوا ولو على أنفسهم. والمتابع للراصدين والمحللين يذكر (روجيه جارودي) في شعرات الكتب، ومن أهمها ثلاثيته (قضية إسرائيل)، وإن كان فيما بعد قد ضل الطريق، ووقع في نخاسة الفكر، و(نعوم تشومسكي) في كتبه: (قراصنة وأباطرة) و(الأمريكية) و(ضبط الرعاع) و(تواريخ الانشقاق) وهما كتاب واحد ترجم مرتين، و(الصدمة 11-9) اضافة إلى الكتب التي ربما أنها أحدثت تحولاً في الرؤى والتصورات، مثل (صدام الحضارات) و(نهاية التاريخ) و(غطرسة القوة) و(درب السلام) و(العراك الدولي لتحقيق المزيد من المكاسب) و(من يجرؤ على الكلام) و(الاستعداد للقرن الحادي والعشرين) و(لعبة الأمم) و(اللاعب واللعبة) وكتب أخرى وكتاب آخرين، قد نستدعيهم كشواهد إثبات. وكل هذه الكتب تستمد مادتها من مطابخ (البيض الأبيض)، وقد تشكل عمليات الانتخابات جانباً من المقبلات، فالفترات الرئاسية حواضن التجليات أو الاخفاقات وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة من أي فترة رئاسية يكون مرشح الحزب قد أخذ طريقه إلى منازلة الخصم، وذلك مدعاة لانشغال وسائل الإعلام بمخاضات الانتخابات التي تشكل ما بعدها - كما يتوهم البعض - ومع حدة الجدل، لم يلتفت أحد إلى الطرف الآخر (العالم الثالث)، ليسأل عما يفعل بعد أن يجد الرئيس المنتخب طريقه إلى (البيت الأبيض). ولهذا لم أكن أرى مبرراً لهذا الاهتمام بهذا الحجم، وإن كنت لا أجد بداً من متابعته، إذ فيه على الأقل رياضة فكرية، والرئيس الفائز مرتهن لذوي الفضل والإحسان عليه ممن أدخلوه البيت الأبيض، إلا أن له دوره الترجيحي أو الإقناعي أو الترددي في بعض القضايا، كما أن له دوراً في تشكيل حكومته المستجيبة لجماعات الضغط، فإما أن يجعلهم صقوراً أو حمائم أو يزاوج بينهما وتبقى القرارات المصيرية من شأن المجالس والهيئات المخترقة بأكثر من حيلة. والتعويل المطلق على (أجندة) الرئيس الانتخابية بناء على جرف هار. وإخفاقات الرهان على الفوز مرده إلى أن المراهنين يحلون أنفسهم محل الناخب الأمريكي، ويحملون معهم همومهم الاقليمية ويتصورون أنهم القضية الأهم في (الأجندة) الرئاسية يطلبون الحل، ولا يناشدون التخلي، فأمريكا لو تركت الشرق للشرقيين، لكان أن قام الصراع بين أقطاره وتياراته، وفي النهاية فالبقاء للأصلح أو للأقوى. وأضعف الأحوال أن تكون العملية بيد صاحب الشأن على حد: (يبدي لا بيد عمرو) ولما كان العرب والمسلمون مكتوين بنار الحروب الاستباقية التي استعرت بعد الحادي عشر من سبتمبر. ولما كان (البيت الأبيض) مرتهنا لضغوط اللوبي الصهيوني، ومتشبعا بقناعات اليمين الإنجيلي الذي يرى تجمع اليهود في فلسطين قضية عقدية، ولما كانت الحربان الشرستان الظالمتان في (أفغانستان) و(العراق) لم تحققا للشعبين المسلمين أي مكتسبات، فإن التخرصات حين لا تكون مرتبطة بهذه الأحداث، تكون من الرجم بالغيب. والرهان العربي لم يجد التخفيف من معاناته إلا بالمرشح الديمقراطي (جون كيري)، إذ لا يمتلك أحد منهم مبادرة ذاتية، يستغني فيها عمن سيدخل البيت الأبيض. والرهان على المرشح (الديمقراطي) حفز الأقليات العربية والإسلامية في امريكا على التطوع في الحملة الانتخابية لصالحه، وكان التعويل على فوزه. وأخشى أن يعود انحيازهم بموقف متشدد من (بوش) يحول دون تمتعهم بأبسط حقوقهم. ولأنني أعيش حالة من الإحباط واليأس، فقد تساوت عندي الليلتان، على حد: (ما أشبه الليلة بالبارحة)، وكلما دارت حول الرجلين مقولات عاطفية، تذكرت (شهاب الدين) و(حسام الدين)، فالمسألة بكل المقاييس داخلة ضمن خيارين أحلاهما مر. ومصائب الأمة العربية ليست حصراً على الرئيس المنتخب، بحيث تضع الأمة كل بيضها في سلته، إنها أعمق وأعقد من ذلك كله. ومتى علقت الأمة آمالها على الرئيس القادم، أصبحت كمن يلهث وراء سراب القيعان. وأذكر انني ذات يوم كنت أتحدث مع مجموعة من المهتمين بالشأن الانتخابي، ولم أكن أكثر من مثير ومستمع، ويومها قال أحد المتابعين: إن الفوز سوف يكون للرئيس (جورج دبليو بوش) واستغرب البعض هذا التوقع، تحت تأثير الكره المتأصل في النفوس، مع ما يعيشه (بوش) من اخفاقات كثيرة على المستويين: الداخلي والخارجي، غير أن صاحبنا المتابع ساق طرفاً من المبررات اللافتة للنظر، كالقول بأن (كيري) يهودي متنصر، ومغرم بالأرامل الثريات، فليس له قبول ديني ولا عشق نسائي. ومع أن الرئيس (بوش) قد فاز فعلاً، إلا أن تلك الحيثيات قد لا تكون السبب الرئيس في النجاح. كما أن الفوز لم يكن كاسحاً، لا في الفترة الأولى، ولا في الثانية. واضطرابات الفوز التي تعرضت لها عملية الانتخابات الأولى، كادت تعود مرة ثانية، لولا ان حسمها (الديمقراطيون) بإعلان الهزيمة في وقت مبكر. ولم أعهد رئيساً من قبل تعرض لمثل هذه الاحتمالات، مثلما تعرض لها (بوش). وبهذه البوادر المخيبة للآمال، لم يكن هو الخيار الوحيد للناخب المكره، وكل الذي أتصوره أن خيار الشعب الأمريكي محصور في سببين: الأول: أن (بوش) بدأ حرباً غير شرعية، وهي لما تزل في ذروتها، والشعب الأمريكي مع خيبة أمله، لا يريد مزيداً من الترديات فيما لو جاء رئيس جديد، فالشعب يريد أن ينهي الرئيس مغامرته بنفسه وعلى مسؤوليته. الثاني: أن (الديمقراطيين) لم يكونوا موفقين باختيار مرشحهم، فأصبح خوف الأمريكيين من دخول (كيري) للبيت الأبيض، وهو دون المستوى المطلوب ملجئاً إلى الرئيس (بوش)، ويمكن استذكار خطئهم عندما اختار (آل جور) نائباً يهودياً فاليهود وإن كانوا من أقوى جماعات الضغط إلا أن الشعب الأمريكي لا يقبل دخولهم البيت الأبيض كرؤساء وذكاء الحزب الجمهوري أبقى على خلافات الحكومة حتى فاز بفترة ثانية، ثم تلاحقت الاستقالات، وبالذات وزير الخارجية الذي يعد حمامة في جماعة الصقور. وإشكالية زعماء العالم المعاصر كافة أن ثورة الإعلام والاتصالات، والتوفر على أدق التفاصيل بالصوت والصورة وبشكل فوري وميسر، كشفت المخبوء، واسقطت كل الأقنعة، وأطفأت ألق الزعماء المصطنع، ولم يعد أحد منهم وراء حجبه الخادعة، مما زهد الناس بهم جميعاً، وأذهب هيبتهم، وحولهم من التصنيم إلى الأنسنة. ولو عاد عمالقة الخمسينيات والستينيات إلى المشهد السياسي من جديد، لكانوا كما (بلير) و(بوش) و(شيراك)، ذلك أن زمن الاحتجاب ليس كزمن التجلي، وفي المثل (أزهد الناس بالعالم أهله) لمعرفتهم الوجه المحجوب عن العامة. ولعل تخلي من يحق له الانتخابات عن حقه دافعه الإحباط، فالجاذبية الشخصية لم تكن ممكنة في ظل الوهج الإعلامي. ومع كل الإمكانيات المتاحة فإن مفاجآت الانتخابات تلجئ الحيارى إلى قراءة الكف السياسي والاستنجاد بالمشعوذين، وتحمل متاعب البحث عن أدق التفاصيل لفك الشفرات المطلسمة ومهما حاولنا التنبؤ فإن نبض الشارع الأمريكي مخادع، ومخالف لكل التوقعات، الأمر الذي جعل الرهانات عليه تبوء بالفشل الذريع، فهو لا يختار بالفعل رئيسه بمحض إرادته، بحيث يستدعيه من الظل، بعيداً عن جاهزيات الأحزاب واللوبيات والشركات المتعددة الجنسيات. إن أقصى ما لديه أن يفاضل بين مرشحي الحزبين الرئيسيين، وقل أن يظفر مستقل بالفوز، ذلك أن مرشحي الأحزاب حملوا بمحفات نسجتها أطماع الشركات. فالطريق إلى (البيت الأبيض) تمهده مئات الملايين من الدولارات التي لا يقدر على توفيرها مستقل لا ينتمي لحزب، ولا يمالىء شركة، ولا يسيطر على إعلام، فمئات الملايين تملكها الشركات العملاقة، والكلمة النافذة تملكها المؤسسات الإعلامية القوية، والمسألة في النهاية: (مادة وإعلام)، ومقال (تشارلي ريس) الديمقراطية في خطر) (الوطن 5-10- 1425هـ) تعبير صادق عن زيف الانتخابات وارتهان الرئيس للممولين. ولما كان اليهود أكثر الأقليات امتلاكاً لهذين العنصرين، فقد كانوا من أقوى جماعات الضغط ومثلما قيل عن (المال) و(الإعلام) قيل عن اليمين المتطرف، وعن الأصولية، وعن المتدينين، الأمر الذي أدى إلى تهميش العنصرين : المادي والإعلامي في خطاب المحللين، وإحلال العنصرين: الديني والأخلاقي. وهذه الرؤية وإن كانت محتملة لا تأخذ مكانها في سياق رؤى مماثلة وهؤلاء الذين يمترون أخلاف المؤشرات ما ظهر منها وما بطن، يأخذهم شيء من التفاؤل الحذر، فالاعتدال والأخلاقيات، وتمتين العلاقات مع الأصدقاء التقليديين، هي بعض (أجندة) الأصوليين الذين ثبتت الكنائس أقدامهم، وكثرت سوادهم باستغلال العاطفة الدينية المسيطرة على أكثر من أربعين بالمائة من الشعب الأمريكي ولو صدقت هذه الرؤية - مع أننا لا نقلل من شأنها - لكان الفوز كاسحاً ولما لم يكن كذلك فإن الأسباب الرئيسة والحاسمة غير ما أشار إليه المحللون والراصدون، والمسألة في النهاية ستكون مثل (كرة الثلج) تزداد بالدحرجة. |
من شرم الشيخ إلى شرم الأنوف..!
د. حسن بن فهد الهويمل هاجسي أبداً مع اللقاءات، مهما تواضعت عوائدها، فالملتقون على الموائد المستديرة، قد ينقلون لغة التخاطب من دويّ المدافع إلى همس الحوار، أو على الأقل يخففون من الاحتقانات المحتملة للانفجار. وكل متابع لا تعدو عيناه إلى ما يملكه أصحاب القرارات النافذة، يظل قانعاً بما آتاه الله، فلا يكلّف المؤتمرين فوق طباعهم، فيكون كملتمس في الماء جذوة نار. والمؤتمرون أخلاط من الأقوياء ك(الثماني الصناعية)، والأقوى ك(أمريكا)، والضعفاء ك(منظمة المؤتمر الإسلامي)، والأضعف ك(جامعة الدول العربية)، و(دول الجوار). والمقبلون على الاجتماعات أناسيّ، تحكمهم ظروف دولهم وواقع أمتهم، وهم مرتهنون لواقع يمتد ضعفه وتخلّفه منذ (المُلْكِ العضوض) الذي أخبر به من لا ينطق عن الهوى. والمؤتمرون في ذواتهم ليسوا ملائكة ولا شياطين، وكل وافد منهم بائع نفسه فمعتقها أو موبقها. ومن الصعب ان تقوّمهم كلمة واحدة جامعة مانعة، أو ان يشملهم حكم مطلق، فلا يندّ أحد بسابقة، ولا ينجو منتد بشعور. وإنما يحاسبون على نيّاتهم، ويقوَّمون على أساس مقاصدهم، وما بدر منهم، أو من دولهم من قول أو فعل. فمنهم المخذِّل، ومنهم المداهن، ومنهم الحريص على تأزيم المشاكل، ومنهم الساعي لإفشال اللقاء، ومنهم الملمِّع لنفسه على حساب الأشلاء والمستضعفين، ومنهم الغبي والمتغابي ومغسول المخ والخادع أو المخدوع باللعب السياسية. وقليل منهم من يحمل هماً إنسانياً، ويعرف كل من يلقى بسيماه، ويفرز الناس من لحن القول. ومع تداعيات الإحباط لا يني في السعي لحقن الدماء، ودفع الضر عن المتضررين. وشعوره بما هو عليه من شح في الإمكانيات، وهوان على الناس، ويكون كمن لا يحملون أنفسهم، ولا يجدون من يحملهم، فيتولون من المؤتمر، وأعينهم تفيض من الدمع حزناً. وكل مقبل تحكمه إمكانيات دولته، ومدى قدرته على إسماع صوته. ولهذا لا نزكّي الجميع ولا نجرّمهم، ولا نريد من حديثنا ان نحبط، ولا أن نخذل، ولا أن نشمت، وفي الوقت نفسه لا نريد من المتابعين ان يتصوروا ان مؤتمر (شرم الشيخ) سيندّ عما سلف من المؤتمرات، أو أنه يمتلك القدرة الخارقة على تصفية الخلافات، وفك الاشتباكات، وإعادة السيادة لكل من سُلبت منه ظلماً وعدواناً، وإرغام الناس على استتباب الأمن، مع صلف المحتل وعنته، ولا أن يظنوا الائتمار عملاً بطولياً، داخله مفقود وخارجه مولود، ولا أن يعدُّوه نزهة ساحلية في بلد توفرت فيه كل متطلبات الرفاهية. لقد تداعت الأمم له، ولكل مهاجر إليه مقاصده، وما أكثر مهاجري (أم قيس). إنه في النهاية لقاء، كأي لقاء سلف، يتعثر بتعارض المصالح وجور الرغبات، وأقل ما يصفه به المتفائلون، انه محاولة متواضعة للخروج بتوصيات متوازنة، تراعي مشاعر كل الأطراف، وتحاول التقريب بين وجهات النظر. وقد يكون لمجرد تخدير الأعصاب، وتفويت أي فرصة لمزيد من الانفجارات المؤلمة. وإشكاليته المستعصية ان المؤتمرين جاؤوا لاستعادة الأمن في العراق، وتهيئة الأجواء للانتخابات، ودعم الحكومة، وتأييد المحتل، متزامناً مجيئهم مع اجتياح (الفلوجة) وتضارب المواقف حول مشروعية اقتحامها، وهدم البيوت على الساكنين، وتقويض المساجد على المصلين، والإفراط في استخدام القوة والقصف العشوائي، إضافة إلى واقع عربي غير سويٍّ، فيه ضعف وتفكك، وكل قطر يفيض بالمشاكل، وتخنقه الأزمات، وتخيفه المصائر. وكل وافد له تغريده الذي لا يناغم غيره، إذ ليس هناك سرب واحد، بحيث يحتمل تغريد البعض خارجه. وفوق ذلك كله ف(أمريكا) التي تحتل العراق، ثم لا تقدر على إقامة أدنى حد من الاستقرار، ولا تستطيع ان تحدد موعداً لحسم المشاكل، ولا زمناً للخروج منه، وتسليمه لحكومة شرعية قوية، تملأ الفراغ السياسي الذي أحدثته باحتلالها، وتعيد له بعض عافيته التي سلبتها غطرسة القوة. هذه الدولة القوية العاجزة، جاءت لتقرأ التوصيات قبل إعلانها، ولتفرض إرادتها على المؤتمرين. وكل مشارك إما راغب في كسبها المشوب بالحذر، أو خائف من غضبتها المضريّة الضرر. لقد عصفت رياحها، ولكنها لم تقتلع أحداً، لأن الجميع انحنت رؤوسهم، ولسان حالهم يردد: (اللهم لا أسألك إلا نفسي) الأمر الذي مكّنها من حمل المؤتمرين على دعم الحكومة العراقية، وتأييد الفعل الأمريكي، وتعليق الخروج من العراق. حتى لقد جاءت الصياغة حمالة لأكثر من قراءة. وجاء (كولن باول) في اللحظات الأخيرة من عهده، ليلقي في روع المؤتمرين ما يريده فريق الصقور الزاحف صوب (البيت الأبيض). لا نقول هذا تطاولاً على حدث عالمي، ولكنه (البدُّ الذي ليس منه بد). وما أكثر الكتّاب والمحللين الذين سيسخرون من البيان، ويشمتون بالمؤتمرين. ولو ان أحدهم تصدّر الجلسات، لسوّغ لنفسه التوقيع على بياض، وذلك مصدر الارتباك الذي يتخبط به المتابع العربي، فراكب الموج العاتي لا يقاس بمن رسا قاربه على شط الأمان، ومن رجله في الماء، ليس كمن رجله في النار، إنه زمن العض على جذوع الشجر. ومع هذا فلا بد من التفكير في مخرج، ولو كان كسَمِّ الخِياط، ولن يتحقق شيء من الانفراج إلا بالصبر والمصابرة والمرابطة والثبات على المبادئ، وما جاء نصر الله حتى استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا. وفي ظل كل هذه الظروف غير السويّة فإن البيان لم يكن عنترياً ولا عاطفياً، ولم يكتب بإرادة عالمية حرة، إنه وسطي حمّال، كل قارئ يتصور نفسه فيه، وكل توصية فيها أكثر من قول. والتوصية التي ليس لها طعم ولا لون ولا رائحة التوصية العاشرة التي تنص على (أن ولاية القوة المتعددة الجنسيات ليست مفتوحة إلى ما لا نهاية، وأنها ستنتهي وفقاً لما هو منصوص عليه في الفقرتين (4 ،12) من القرار 1546 أو مع انتهاء العملية السياسية). إنها توصية تطمينية للمغلوب، وإغرائية للغالب. ثم إن البقاء الأبدي الذي تنفيه التوصية، ينفيه التاريخ والواقع والفاعل، فليس هناك إضافة جديدة، وربط القوة بالتعدد الجنسي مجاملة زائدة لأمريكا، لأنها الكل في الكل، والتعويل على قرارات هيئة الأمم كالضغث على الإبالة، وفي النهاية فإن مثل هذه التوصية لا تسمن ولا تغني من جوع. ومن الأجدى الاستغناء عن مثلها. والتعويل على قرار مجلس (تيمي) تقضى الأمور بغيابه، ولا يعتبر حضوره تعويل سرابي. فالمجلس لم يعد قادراً على حماية قراراته، وأحباره لمّا تزل رهينة الورق، ولا يتلقاها بالقبول المكره إلا الذين ترقبهم العقوبات والمقاطعات والضربات التأديبية، أما الشرذمة المدلّلة فمن حقها ان تقبل وان ترفض، ولديها من (الفيتو) نسخٌ موقّعة، تستلّ منها ما شاءت متى شاءت. وإذا كانت (الحرب العالمية الثانية) حملت على حل (عصبة الأمم) وإحلال (هيئة الأمم) مكانها لتتابع الاخفاقات فإن هذه الحروب الظالمة مدعاة لحل (هيئة الأمم) وإنشاء منظمات عالمية جديدة، تستأنف أعمالها، مستدبرة المؤسسات السابقة بكل ما تنطوي عليه من اخفاقات ومقترفات، فما عاد بالإمكان ترميم السمعة وإعادة العافية. وما جدوى النازفين دماً، والمزهقين أرواحاً، والمسلوبين حرية من توصيات أُقرت قبيل الاجتماع، وتسرّبت قبل اكتمال الحضور، وفي ظل الوضع العالمي المتردي. وذلك بعض ما حفز (هيكل) على الانحاء باللائمة على الأمة العربية، ومؤاخذة مصر على تراجع دورها في آخر تأوهاته. وكل وضع حرج يحتاج إلى قرارات قوية صارمة، وتصرف حكيم حازم، يردع الظالم، ويوقف فوضى التصرف المخلّ بسلامة الأمة العربية وأمنها. لقد مجّت الشعوب العربية كل شيء، ولم يعد بوسعها أن تحتمل مزيداً من التردّيات. واللاعبون الذين أسرفوا على أنفسهم في استغلال الغباء المعتق، لم يدعوا بقية من أقنعة، حتى لقد سقطت ورقة التوت، كما يقول (التوراتيون) وبدت سوأة اللاعب، وليس من حوله ورق أشجار يخصف منها. لقد أوجف العالم كله بالخيل والرجل والأقلام والألسنة لمواجهة الإرهاب، حتى لقد أصبح كل شيء في نظر الغرب إرهاباً، واقبل بشراسة يهدم كل شيء أتت عليه يده أو لسانه، هدماً معنوياً وحسياً، وتطوع الأغبياء النافعون - كما يصفهم (نيكسون) - بالاستجابة الطوعية لأخذ المقيم بالظاعن. إن هناك إرهاباً متعدد المصادر والاتجاهات والمستويات، وكل دولة لها مصالحها و(استراتيجياتها) ومواقفها من هذه التصورات والإجراءات. وقد لا يكون بإمكانها تمرير خطابها إلا عبر التنظيمات السرية والعمليات الإرهابية. ومكافحو الإرهاب بهذه الهمجية هم صانعوه. والمتَّهمون به قد لا يكونون الفاعلين له بمحض الإرادة. إن عالماً يواجه مثل هذه الأوضاع لجدير بالوصاية، ولن تنهض بها إلا مؤسسات عالمية مدعومة، توقف التدهور المضاعف. ومؤتمرات ضعيفة مهزوزة لا يمكن ان تشفي النفوس، ولا أن تعيد الثقة المثبتة للأفئدة. لقد عجز المؤتمرون عن احتمال أفراد من المعارضة العراقية، ممن جاؤوا ليبلغوا صوتهم للمؤتمرين بصفتهم مراقبين أو متظلمين، وليس بصفتهم مشاركين. ولأن المؤتمر يبحث عن (مستقبل العراق) فإن أبسط أدبياته أن يسمع كل الأصوات، وليس شرطاً ان يذعن لها، ولا أن يأخذ بتطلعاتها. لقد خرجت المعارضة من مصر، وهي تشكك بالمصداقية والأمانة، والشعب العراقي ليس على قلب رجل واحد، ومن ثم فإن خطاب المعارضة سيقلل من أهمية المؤتمر والتوصيات التي تمخّض عنها. والدعوى بأن الدول المشتركة قد تسامت فوق الخلافات، والتقت على الود والمحبة دعوى لا شاهد لها، فالذين دخلوا المؤتمر دخلوا متوتّرين، يحبسون أنفاسهم، وخرجوا ممتلئين، لا يلوون على شيء مما قالوا، فهم قد أذعنوا، بل انحنوا للرياح الأمريكية. والإذعان أو الانحناء لا يعنيان الرضى والقبول، وإنما يعنيان التسليم لواقع لم يتزحزح قيد أنملة صوب الانفراج. والأمين العام لجامعة الدول العربية قال بأن هذه التوصيات تمثل الحد الأدنى للتوافق. وأحسب أن هذه المقولة مبالغ فيها، وفوق الطاقة، فالمسألة ليس فيها حد أدنى ولا حد أعلى، لكنها تسليم لا إرادي. لقد كانت له رغبات وسطية، فيها شيء من الواقعية، دفع بها إلى المؤتمرين على استحياء وتردد، ولوّح بها إلى صاحبة القرار النافذ طوعاً أو كرهاً، ولكن التعنت ضرب بها عُرض الحائط. إن هناك مسلّمات تكرر في كل مؤتمر، وهي أشبه ما تكون بفواتح الشهية، فالاستقرار، والإعمار، والوحدة الوطنية، والسيادة، ودور الأمم، وإدانة الإرهاب بكل أشكاله، وحسن الجوار، وخفض الديون، والمساعدات الإنسانية، كلها أحلام وتطلّعات طوباوية. فالاتجاه الغربي والرغبة الصهيونية عكس ما يحلم به كل مؤتمر يبحث عن إنقاذ الأمة العربية من أزماتها الخانقة. وتلك فواتح شهية ومقبّلات لم تعد مثيرة ولا مطمئنة. وما هي إلا استهلالات تفاؤلية، كالقول للمريض الذي نفض الأطباء أيديهم منه (شِدّة وتعدّي). نحن أمام واقع مظلم، تتضاعف فيه المشاكل، وتدلهم فيه الأجواء، وتطمس فيه الهوية، ويدمّر فيه الحرث والنسل، ويستفحل فيه الفساد، وليس هناك بوادر انفراج، فكل شيء يتجه صوب الهاوية، وكل الطرق تؤدي إلى مزيد من الدمار. ومع كل تلك الظلمات، فلسنا مع المتشائمين المردّدين لمقولة: (ليس بالإمكان أفضل مما كان). نعم لا نريد للشعب العراقي ان يتآكل عبر عمليات مقاومة عشوائية، ولا أن تُجرى الانتخابات في غياب طائفة مهمة كما أشار وزير الخارجية (سعود الفيصل)، ولا نريد لأمريكا أن تستسيغ العدوان مرة ثانية على بلد آخر ك(إيران) و(سوريا)، ولا نراهن على أن الحل الوحيد مرتبط بخروج القوات المحتلة قبل إعادة الأوضاع إلى حالتها الطبيعية. لقد أسقطت أمريكا الحكومة الدكتاتورية، ولكنها أحدثت فراغاً سياسياً مليئاً بالطائفية المتوترة، والقومية المتشنجة، والإسلاموية المتعنتة، و(الراديكالية) المتطرفة. وكل هذه الأطياف وضعت العراق في حالة من الفوضى، لا يمكن معها نفض اليد والخروج منه قبل إعادة ما فقده من أمن واستقرار، وإعادة كل خشاش إلى جحوره. لقد خلق الغزو أوضاعاً مستعصية، ولا بد للساحر ان يحل سحره. لقد كانت حكومة صدام ظالمة جائرة مدمّرة، ولكنها مسيطرة، والناس لا يصلح أمرهم بالفوضى، و(نظام جائر أفضل من لا نظام)، ولا يمكن ان نقول: إن الحل يكمن بالمقاومة على إطلاقها، ولا نقول: بأن الحل لا يكون إلا بعد خروج القوات الأمريكية، وليس من حق المتكئين على أرائكهم ان يصدروا الأحكام والتوجيهات، ولا أن يحرّضوا على القتل العشوائي، ومن الخير لكل مستاء من الأوضاع ان يتوفر على مثلث الوعي: فقه الأحكام والواقع والأولويات، وان يحترم مثلث السلطات: الدولة والدين والمجتمع، وان يعرف مقاصد الفاعلين ونوازعهم وخفايا اللعب وتماكرها. إن علينا ان نتجاوز المقاومة والوجود الأمريكي، لنقدم للعراق حلولاً جذرية، تمكّنه من استعادة ما فقده بهذا التدخل الظالم. وعلى الأمة العربية قبل هذا وبعده ان تفكر بأدوائها، ففاقد الشيء لا يعطيه، وكل نظام لا تحميه الشرعية، ولا يحكمه النظام، ولا يسيّجه العدل معرض للسقوط عند أول عارض وبأي سبب مهما كان صغيراً. وأزمة الشعوب العربية أزمة أنظمة أغرت الطامعين، وهيأت أجواء التدخلات تحت غطاءات زائفة كتوفير الحرية و(الديمقراطية)، وعلى كل مستيئس استذكار {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}. |
المحو والإثبات
بين خطاب الكسب .. وكسب الخطاب 2-2 د. حسن بن فهد الهويمل ومهما اقتربنا أو افترقنا في وجهات النظر فإن نتائج الانتخابات تدل على أن الشعب الأمريكي يعيش حالة من الإحباط والتردد واليأس واللامبالاة، إذ لو حسم أمره، لكان كل من يحق له الانتخاب متمتعاً بحقه في التصويت، ولكان أحد المرشحين مكتسحاً للآخر، ولست مع الذين يحتجون بأن (بوش) فاز بالأصوات الشعبية، بحيث فاق خصمه بأكثر من ثلاثة ملايين صوت، وهي التي لم يحصل عليها مع (آل جور) ، وهو قد فاز بالولايات أيضاً، ففوزه في نظر المحتجين مضاعف، ولست مع الذين يأنسون بارتفاع نسبة الناخبين عن ذي قبل. تلك الرؤى وإن كان لها ما يبررها، إلا أنها رؤى تواجه برؤى أخرى تفلُّها، وقد تضعف من قيمتها، ولقد قيل إن السباق إلى (البيت الأبيض) تجاوز التنافس الشخصي إلى التنافس الحزبي، فالشعب الأمريكي فاضل بين الحزبين، ولم يفاضل بين المرشحين، والقائلون بهذا ينظرون إلى ظفر الحزب الجمهوري بأكثر المقاعد التشريعية، والمعروف من خلال تعاقب الحزبين أن اهتمامات (الجمهوريين) خارجية، وذات نفس إمبراطوري، فيما تجيء اهتمامات (الديمقراطيين) داخلية، وذات نفس تحرري، يتعلق بالأحوال الشخصية، وليست السمة على إطلاقها، ولكنها قائمة ومتداولة، ولو أخذت فترات (ريجان) و(البوشين) : الأب والابن بإزاء فترتي (بيل كلنتون) لكان أن تجلت الفوارق الجذرية التي قد لا يرصدها إلا من دقت ملاحظاتهم وبعدت نظراتهم. و (بوش) الذي يستقبل فترة رئاسية ثانية، بفضل (الحزب) أو (الدين) أو (الحرب) الملوحة بشبح (الفتنمة) تواجهه إشكاليات، لم تحصل لمن سبقه، أخطرها: تخفيف حدة التصدع المخيف في الوحدة الموقفية الأمريكية من فلسفة الانتخابات واتجاهاتها، والخلوص من مآزق التدخلات العسكرية المأساوية التي ضاعفت الخسائر البشرية والمادية وأضعفت السمعة، وتخليص النظام العالمي الجديد من عقدة الولاء المطلق لأمريكا، والتخلص من نعرة القوة ونشوة القطبية، وتحديد مفهوم الأمن القومي، بحيث لا يشمل (إسرائيل) والأطماع ومواطن النفوذ، وفك الاختناقات الاقتصادية، والعودة الطوعية لسلطة المؤسسات العالمية، وحماية قراراتها واحترامها، وفوق كل ذلك تحقيق أفكار الدستور الأمريكي ومُثُله، وتمثله عقيدة ومنهج حياة، كما هي مفصلة في كتاب (مورتمرج أدلر) (الدستور الأمريكي أفكاره ومثله) ، وكل واحدة من هذه الإشكاليات تحتاج إلى فريق عمل يختلف عما سواه، ولا أحسب فريق الصقور المندفع بقادر على أن يحسم هذه الأولويات الملحة، ولا أحسبه مستعداً لنقل القضايا من ميادين الحرب إلى قاعات المناقشة. إن انتصار (بوش) المتواضع في الفترتين مؤشر اضطراب وتردد في الفكر الأمريكي، وخوف من عقابيل الحروب التي كاد ينفرد بها (الحزب الجمهوري) وفريق الصقور الذي ظهر استئثاره بالحقائب المهمة بعد موجة الاستقالات، واستبداده في التصرف إلى حد جعل الكتّاب والمحللين الأمريكيين يوغلون في الذم، والسخرية والتخوف، وتلك سابقة غير معهودة من قبل، وحين نستدعي الفترتين الرئاسيتين ل (كلنتون) نلفيهما قد شهدنا ضربات خاطفة، مع ما تحقق من فائض فاق الأربعمائة مليار دولار، فيما تجاوز العجز في فترة (بوش) الستمائة مليار، إضافة إلى حرب خاسرة: على الصعيدين الحسي والمعنوي. وقد يتفاقم تصدع الذهنية الأمريكية بعد فشل الحكومة في محاربة الإرهاب، وذهاب السمعة، واستفحال الكره العالمي، ليكون بداية حرب ثقافية على الأقل، وكل حرب أهلية أو اضطراب داخلي، لا يمكن أن يأتي من فراغ، وفوق هذا فإن أصحاب القرار في المؤسسة الأمريكية يتعرضون بممارساتهم التوسعية والعسكرية لأسباب سقوط الإمبراطوريات، فكل الإمبراطوريات أنهتها الحروب التوسعية وتصعيد العداوات، ومن تعقَّب أسباب سقوط الدول وجدها ربيبة الظلم وغطرسة القوة، والشعب الأمريكي المختلف حول أهلية المرشحين بهذا القدر لن يدع الأمور تمضي كما يريد الحاكم بأمره، إن هذا الوضع غير السوي ينطوي على حرب شرسة: ثقافية وسياسية. ولن يطفئ لظاها إلا شخصية تنتزع الثقة, وتكتسح الخصم من أول يوم. أما أسلوب الضربات الترجيحية فإنها تشكل عذابات للضمير الأمريكي المرتبك، وحين لا يكون الانتصار كاسحاً، يعيش الطرفان حالة من الإحباط، وبراعة الأحزاب في دراسة النفسيات، وإتقان الفن الدعائي يأتي بالعجائب، ولكن تكافؤ الفرص والإمكانيات تكون كما سباق الجريمة، كلما خرج المكافح بأسلوب حاذق جاء المجرم بحيلة أحذق، وهكذا. والحزب الجمهوري لا شك أنه ببراعته وتجربته استثمر أخلاقيات اليمين المتطرف، لكسب العاطفة الدينية، وبخاصة أنه سيقف ضد مشروعين قذرين: (مشروع الشذوذ) و (مشروع الإجهاض) . إلا أن أولويات الشعب الأمريكي فيما رأى، تتجه صوب شيئين آخرين هما: (الاقتصاد القوي) و (الأمن القومي) . وهو ما لم يكن من أوليات الرئيس (بوش) وحزبه، وبخاصة أنه يعيش حالة الحرب الخاسرة على كل الصعد، وهي حرب تصب في صالح الصهيونية وتفقد أمريكا زعامتها النزيهة للعالم، وإن صمت الكبار، وشايع الصغار، فيما تتضاعف ديون الدولة بمئات المليارات، ولمَّا يستفد (بوش) وإدارته من المعالجات الحكيمة التي مارستها الحكومات الأمريكية السابقة، وحققت لها ولحلفائها مكاسب لا تخطر على البال، دون إراقة الدماء، أو تعميق للكره، فهذا (هنري كيسنجر) مهندس أعنف الحروب الباردة ينجح في فرض إرادة حكومته في قبول طريق السلام، وتنفيذ أخطر اللعب السياسية، ولقد جسد بعض ذلك في كتابه (درب السلام الصعب) ومن قبله (روبرت مكنمارا) في كتابه (ما بعد الحرب الباردة) والذي ذهب فيه إلى أن الأمن الحقيقي هو المؤسس على (قواعد القانون) الذي يحكم علاقات الأمم، ولا يحتاج إلى ضربات وقائية أو استباقية، وهو ما لم يأخذ به (بوش) ، وكذلك كتاب الرئيس (ريتشارد نيكسون) (السلام الحقيقي) ، وكم أتمنى لو تمكن (بوش) من استظهار هذا الكتاب الذي يعد عصارة تجربة رئاسية عظيمة، لم يكتب لها الاستمرار، بسبب ممارسة بسيطة، أعطيت أكبر من حجمها، فأسقطت أحكم وأنجح رئيس معاصر، إن فائدة هذا الكتاب قائمة على الرغم من ذهاب (الاتحاد السوفييتي) الذي يضرب به الرئيس الأمثال. والذين يتحسسون عن أسباب نجاح (بوش) بالانتخابات في ظل أوراقه الخاسرة، تضطرب مفاهيمهم وتختل مقاييسهم، فهل كان (بوش) بطلاً قومياً انتصر لأمته يوم أن ضُربت قوتها: الاقتصادية والعسكرية؟ أم كان مغامراً ينكبّ عن ذكر العواقب جانباً؟ إن مواجهة (بوش) للإرهاب لم تكن متأنية ولا محدودة، ولا مدروسة، ومن ثم أصابت أقواماً ليسوا مع الإرهاب، فضلاً عن أن يكونوا فاعلين له، إن خسارة (بوش) بهذه المغامرة الخطرة، وبما مهد لها من تصريحات استفزازية ومواقف حدية، وخطابات اشمأز منها العالم الإسلامي، وتوقع منها كارثة عالمية، حتى لقد استساغ الكتّاب الأمريكيون أن يقولوا عن (بوش) وفريقه: إنهما الوجه الآخر للإرهاب، أو أنه و (ابن لادن) وجهان لعملة واحدة، ومثل هذا القول ينطوي على خطورة ذهنية، لأنه لا ينطلق من فراغ. وتداعيات هذه الأقوال تحيل إلى خروج (بوش) على الأعراف السياسية، وقفزه على المؤسسات العالمية، لقد غامر في خوض حرب شرسة، أدت إلى فراغات دستورية في دولتين منهكتين من قبل، فهو في أفغانستان يطارد أشباحاً ويصب جام غضبه على الكهوف والمغارات والأودية ومنابت الشجر، وتلك الحرب مدانة عالمياً، وإن سايرها البعض رهبة لا رغبة، ولا أحسب الشعب الأمريكي من الغباء بحيث ينظر إلى (بوش) على أنه بطل قومي، وأن هذه البطولة مكنته من الفوز. ولقد عمد البعض إلى تلمس الروح العدوانية السلطوية الإبادية عند الشعب الأمريكي، واتخذ طريق الفلسفة التحليلية الاسترجاعية، جاء ذلك في مستهل كتاب (هيكل) الأخير عن أمريكا، وفي ذلك تمحل طريف، لقد خاض (بوش) حربين مجانيتين، فقَدَ فيهما المال والرجال والسمعة، ولم يكن العائد متكافئاً مع ما أنفقه من مال، وما أزهقه من أنفس، وما قضى عليه من بنية تحتية، ستظل أطلالها شاهد بشاعة ووحشية، ولا أحسب تلك المغامرة غير الإنسانية إلا معجلة بالوجود (الصيني) و (التكتل الأوروبي) ليكونا بديلين عن (الاتحاد السوفييتي) المنهار، وسوف يعجل الخصم الإسلامي بظهورهما، كما عجل من قبل بسقوط (الاتحاد السوفييتي) ، وكل مستخف بالقوة الإسلامية المعنوية والبشرية لا يمكن أن يظفر بقيادة العالم، وبظهور الأنداد تفقد أمريكا لذة القطب الواحد، ثم لا يكون لعمليتي (المحو والإثبات) أي قيمة، وبالفعل فإن القول بجلب الديمقراطية والحرية وتخليص الشعوب من تسلط الحكام، تكشفت عن خدعة ممجوجة، لا تثبت أمام الحقائق الدامغة، وإن انطلت على البسطاء من الناس والمتسطحين من الكتبة، وما أضر بقضايا الأمة إلا المختصمون حول الضحية، والعدول عن المعتدي، وتلك الخليقة من مؤشرات قابلية الاستعمار، ومن المؤلم للناخب الأمريكي أن تتحرك أقوى آلة عسكرية في العالم لمواجهة أمتين إسلاميتين منهكتين، تحت أغطية زائفة، كمكافحة الإرهاب، أو منع سباق التسلح، أو تعزيز الأمن القومي، أو تغيير الأنظمة أو إصلاحها، والحق أن تحريك تلك الأساطيل المرعبة ما كان إلا لحفظ التوازن بين دول المنطقة و(إسرائيل) ، واحتواء المغردين خارج السرب بالقوة، وهل أحد يقبل أن يكون دون إسرائيل في القوة، وهي لا تشكل نصف سكان عاصمة عربية واحدة ك(القاهرة) . وحين نسلم بأن (بوش) ليس بطلاً، وإنما هو مغامر بقوته وسمعته ومجازف بعلاقاته مع الأصدقاء والحلفاء، فإن طائفة أخرى ترى أن فوزه بوصفه الرئيس المتدين الأخلاقي الذي لن يعرض أخلاقيات الشعب الأمريكي لدعوات الشاذين جنسياً والمتوحشات الداعيات إلى الإجهاض، وهذا التعويل الساذج يواجه بفوز (كلنتون) لفترتين رئاسيتين، وهو رجل لا أخلاقي، لا في سلوكه، ولا في اهتماماته لدى الناخب الأمريكي. وحين نسقط السببين السابقين، أو حين يسقطان أمام ضربات الحقائق، تبقى حيثيات واهية، لا تستحق الاستعراض، لعل من أهمها اللعبة الإعلامية التي زرعت الرعب في قلب الأمريكي من ضربات الإرهاب في عمق الأراضي الأمريكية، و (بوش) الذي كذب على الأمة الأمريكية بمبررات التدخل العسكري في (العراق) لم يحاسبه الرأي العام الأمريكي على كذبته، وهو قد أرهق (كلنتون) في كذبة إنسانية، لأنه أراد المحافظة على صفاء العلاقة الزوجية، وأرغم (نيكسون) على الاستقالة في أعقاب عملية (التصنت) ، والسبب بسيط، ذلك أن وراء الأكاذيب (لوبيات) تضخم ما تشاء، وتهون ما تشاء، للإبقاء على ما تريد، ونفي ما لا تريد، والشعب الأمريكي عاطفي، يلهث وراء الإعلام، وأحسب أن كلاً من (ماكس سكيدمور) و (مارشال كارتر دانك) بحاجة إلى إعادة النظر في كتابهما (كيف تُحكم أمريكا) ، ذلك أن الحاكم المستبد هو (اللوبيات) و (جماعات الضغط) و (اليمين المتطرف) الذي يمثله جماعة الصقور، ولم يكن شيئاً غير ذلك، وإن كانا قد تحدثا عن (مجموعة أصحاب المصالح) وتأثير جماعات الضغط في السياسة. إن الفترة الثانية ل (بوش) ستكون رهينة المجازفات العسكرية في الفترة الأولى، وهي فترة ستسبب له ولحكومته وللعشب الأمريكي الكثير من المتاعب والكثير من الخسائر: المعنوية والحسية. لقد أومأ (روبرت مكنمارا) إلى جرائر خمس وعشرين حرباً دائرة في العالم خلال عام 1988م وكانت ممولة من القطبين. إن من يقرأ كتابه يتصور أنه يتحدث عن فترة (بوش) الأولى، وأياً ما كان (المحو والإثبات) و (خطابات الكسب) و (كسب الخطاب) فإن الشعب العربي بحاجة إلى أن يرتد إلى الداخل في عملية مكاشفة شجاعة مع النفس، وتقويم منطقي للواقع والمستقبل، ومراجعة جريئة للمناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعلامية، وبحاجة ماسة إلى تنازلات في الآراء والتصورات والمواقف ليكون في مستوى الأحداث الرهيبة القائمة والمرتقبة، وهي أحداث لا يستخف بها إلا خلي يتصور الثبات في الأحوال، وبخاصة أن أمريكا ومن ورائها الصهيونية العالمية ترى أن الأمن القومي ذو ثلاث شعب: (أمن قومي) و (أمن صهيوني) و (أمن مصلحي) . وأن الضربات الاستباقية والوقائية ستطول كل من تسول له نفسه التأثير على الأمن القومي بمفهومه الجديد، ولابد -والحالة تلك- من اتخاذ موقف متقارب، ينطلق من الواقع، ويحسب للإمكانيات حسابها، لعل ذلك يحد من تدهور العلاقات العربية العربية، وعلاقاتهم مجتمعين مع الآخر، ويفكر بالتخلص من بدائية المؤسسة السياسية واستبدادها، ثم يصوغ خطاب المواجهة، لتجميع الأشلاء، وتنقية الأجواء، واحتماء الاعتداء في زمن الصمت العالمي المداري إلى حد الخوف، ولا بد أن يكون من أولويات الصياغة الدفاع عن الإسلام ومؤسساته الدعوية والخيرية بوصفه القوة المعنوية التي لا تقهر، والمشروع الحضاري الذي لا يتسع للعنف، وليس في يد الأمة ورقة رابحة إلا الخطاب الإسلامي الوسطي التسامحي الجانح للسلام، الخطاب الذي يستبعد العنف، ويتخلص من مأزق المفاضلة والتصدير، وليس الطائفي الحزبي الثوري التصادمي المتشنج، ولن يتحقق الاعتراض الشجاع من الدول الكبرى، حتى يسمعوا أصواتاً عربية متداعية، تمثل حضارة تشاطر العالم في بناء الأمن والاستقرار العالمي، فالإسلام لا يريد للإنسانية أن تعيش الخوف والتسلط والعبودية والاستبداد، الإسلام ينطلق من تكريم بني آدم أولاً، ثم دعوتهم إلى ما يحييهم ثانياً، وإبلاغ كل سامع لكلام الله مأمنه، إنه خطاب إنساني حضاري ينبع من فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأي خطاب قطري أو طائفي أو قومي سيكون في النهاية لقمة سائغة للآخرين. |
عضو هيئة التدريس من التكريم إلى التكريس..!
د. حسن بن فهد الهويمل لفت نظري الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن العثمان، وكيل وزارة التعليم العالي، إلى مبادرة كريمة كنت أعرف أطرافاً منها، وكغيري كنت كمن لا يطربه زامر الحي، ولكن هذا التذكير أثار كوامن النفس وهوامد الشعور، وكيف لا تحرك الإنجازات الحضارية مشاعر المسكون بهم أمته؟ في زمن تداعت عليها الأمم، ومسها الضر من دخن الفتن، وقضايا الأمة المصيرية لا يمكن أن تمر كسحابة صيف، ولا سيما في مخاضات التحولات، ومبادرة التكريس للمحطات المضيئة في حياة أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المحلية، لقاء ما اخترعوا من أعمال استثنائية، وما قدموا لوطنهم من إنجازات علمية، ولقد كنت من قبل أعيش مرارة ما يشاع حول خلو قائمة الجامعات العالمية المتميزة من أي جامعة عربية، على الرغم من أن القائمة نيفت على الخمسمائة جامعة متفوقة، فيما جاءت بعض مؤسساتنا المالية في صدر القائمة (البنكية) الأكثر تداولاً للمال، وجاء رجال الأعمال ينتهبون الخطى صوب الصدارة، وتلك مفارقة أرجو ألا تمر دون إيقاف ومساءلة وتأمل، ومبادرة التكريم التي تفضل بالتوجيه إليها ورعايتها ولي العهد - وفقه الله - تشفي نفوساً مكلومة، لأنها ذات أبعاد: تثمين لجهود المتميزين من الأناسي والأعمال، وتذكير للغافلين والمتغافلين بأن في بني عمهم مَنْ ينافس على المقاعد الأمامية في صفوف العلماء العالميين، وأننا لم نكن دولة نفط، مرت ركائبنا على آباره، فشربناه شرب الهيم، وتكريس للمتميز، من أبناء البلاد للذكر والشكر والاقتداء. والمكرمون سبعة عشر من ثلاث جامعات، جاءت اختراعاتهم ذات أنواع مختلفة في حقول العلم، ك(العلوم الطبية)، و(الهندسية):- (المدنية) و(الكيميائية) و(الفيزيائية) و(الميكانيكية) و(البترولية). و(هندسة) (الحاسبات) و(كيمياء البترول) و(الطيران). وقد حصل كل واحد على (براءة اختراع) من أرقى الهيئات العلمية في العالم، حيث تميزوا بالتخصصات الدقيقة، وأسهموا في تطوير الحركة العلمية والصناعية والبحث العلمي، وتوجوا جهودهم بالحصول على تلك البراءات، فمكنوا جامعاتنا من اختراق أجواء المحافل العلمية الدولية، وهو اختراق له ما بعده، وليس من السهل أن يتمكن عدد من أساتذة الجامعات في المملكة من الحضور العلمي المشرف في أرقى دول العالم، مع بقائهم في جامعاتهم، يواصلون بحوثهم وتجاربهم وتعليمهم، ويستنهضون مَنْ حولهم مِنْ الزملاء، ليصنعوا مثل صنيعهم، وهذا التميز لن يكون مرتهناً لحساب جامعاتنا، ولكنه فخر لكل عربي، وبخاصة حين تذعن لهم المحافل العلمية العالمية، وتتقبل مخترعاتهم بقبول حسن، وتمنحهم راضية مطمئنة (براءة الاختراع) والبراءة لا تمنح إلا لمن تمخض تفكيره عن منتج جديد، أو طريقة جديدة: لصناعة آلية جديدة، أو تحسين منتج سابق في ذاته، أو في طريقة صنعه، ولا يتحقق شيء من ذلك بالصدفة، ولا يتأتى لكل إنسان، إنه نتيجة عمل دؤوب، وتجارب متعددة، وصبر وإصرار وثبات، ودقة ملاحظة، وصفاء ذهن، وإرجاع بصر، وعدم استسلام للرتابة والنمطية، إنه فعل استثنائي من رجال استثنائيين، ومثل هذا الإنجاز يعد إضافة متميزة في عالم التقنية والطب والهندسة ومجالاتها، وإسهاماً متميزاً في بناء الحضارة العالمية. والنبوغ ليس وقفاً على جنس دون آخر، إنه موهبة وأجواء، تسهم في تفعيل القدرات، وتكريس المهارات، والجنس العربي كأي جنس إنساني له نصيبه من المواهب التي ترقب الحواضن، لتندلق كما العبق: زكاءً ونماءً، والعبقرية العربية كامنة في أدمغة الموهوبين، وتخلف الأمة العربية عارض، وليس خليقة وما يمارسه بعض الكتبة الغربيين من التيئيس والإحباط والتعالي والقول بنهاية التاريخ، والتشبث ب(نظرية الأجناس) إن هو إلا حيلة غبية، لمنع الأمة من تكريس وجودها وحملها على التسليم وقبول التخلف، وكل ما تحتاجه كوامن الإمكانيات في الذهن العربي محفزات وحواضن، والتكريم من لدن (ولي الأمر) مؤشر إيجابي، وإذ لا نستغرب التكريم، لا نستغرب معه النبوغ، فالطرفان يستلهمان عقيدة متوازنة، تأمر بإعداد القوة، وتنهى عن نسيان أنصبة الدنيا، وتحث على السعي في مناكب الأرض، وتبيح الانتشار لطلب الرزق، والتاريخ الحضاري للإسلام شاهد إثبات، تجلَّى ذلك في (سير أعلام النبلاء) و(طبقات الأطباء) و(نوابغ العرب)، فلقد كانت للحضارة الإسلامية تجاربها العلمية، التي سطعت على الغرب والشرق وأضاءت سبحاتها آفاق المعمورة، لأنها كوكب دري يوقد من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، وكثيراً ما يتداول الكتاب والمحللون عجز الأجواء العربية عن تفجير المواهب، وشد أزرها، وتهيئة الظروف المواتية لاستغلال طاقاتها، واستثمار قدراتها، وكثيراً ما يتداول الممتعضون ظاهرة (هجرة الأدمغة) إما عن طريق الإغراءات المالية، أو عن طريق توفير الأجواء الملائمة للنوابغ، وتحت تأثير عوامل الطرد والجذب. والكتب التي ألفها المفكرون عن ظاهرة الهجرة تنضح حسرةً وألماً، فالكفاءات العلمية تسهم في بناء حضارة الضد، فيما تعيش دولهم عالة على لعاعات يعقبها المنُّ والأذى، ولو أن رعاة التعليم العالي في الوطن العربي فكروا وقدروا، لكان أن طوروا المناهج والوسائل والمقرات والمقررات، وامتصوا نسغ الحضارات، وبنوا كما كانت أوائلهم تبني، وصنعوا فوق ما يصنعون، وليس هناك ما يمنع من استئناف التفكير والتقدير، فما زال في الزمن بقايا لتدارك الأمر. ومبادرة (ولي العهد) وتكريمه للموهوبين تخفف من حدة النقد الموجه للأجواء العلمية في العالم العربي، وتحفز القادرين المترددين، وهي في النهاية إذكاء للحماس، وشد للأزر، وحفظ للساقة، وريادة للمقدمة، وعيبنا أننا ننطوي على كثير من الإمكانيات، ولكنها حبيسة الأروقة الجامعية المحلية، لا يعرفها إلا القلة القليلة، والرأي العام في معزل عنها، والذين يملكون الحديث عن التعليم، يوسعونه ذماً، ويستحثون الجهات المعنية على قلبه رأساً على عقب، وما أحد منهم أشاد ببعض التجليات، ومع الإيمان بحتمية التطوير والتجديد والحذف والإضافة والتقديم والتأخير، إلا أن ذلك يجب أن يكون طبعياً، وغير مسبوق بالذم والتجريح والإدانة، وتحميل التعليم مالا يحتمل من الاتهامات، إننا نتطلع إلى إرادة قوية، ذات عزمات، لا يقعد بها القمع، ولا تهن بالتردد، ولا تحزن بفوات الركب. والدول المتحضرة لا تحتبس العمل الجامعي في الأروقة، ولا تعتمد الحشوية والتلقين، إن الجامعة مدينة فاضلة، فيها المعمل والمصنع والمختبر والمكتبة والساحات والصالات وكل متطلبات الأجواء العلمية، أو هكذا يجب أن تكون، إنها منارة تضيء عتمات الطريق، ومصنع تمد المجتمع بما هو في حاجة إليه من علماء وأدباء ومفكرين وأطباء ومهندسين وغيرهم، ومتى انفصل التعليم عن خطط التنمية، وقعت الأمة في غزارة الإنتاج وسوء التوزيع، وارتباط رجالات الدولة بالجامعات، ودعمها، والتحسس عن حاجاتها، والأخذ بيد الكفاءات المتميزة من رجالاتها مؤذن بنجاحات متعددة، وذلك ما نراه ونعايشه بين الحين والآخر، فمثل هذا التكريم ليس مجرد مناسبة احتفالية، تنطفئ مع انطفاء أنوارها واقتلاع سرادقاتها، وإنما هو مؤشر وعي بأهمية المحفزات لمزيد من العطاء، وتلك الأحداث الحضارية في الزمن المسكون بالانكسار، يجب ألا تمر كأي حدث استهلاكي، بل لابد من التنويه والإشادة والاستثمار، فالتعامل معها لا يقف عند حد الثناء، وإنما يتجاوز ذلك إلى التساؤل، ومعرفة المتألقين من أبناء البلاد، وتكريسهم في الذاكرة، فنحن من قبل لا نعرفهم، ولا ندري ما العلم الذي أسهموا في تطويره، وهم قابعون وراء أجهزتهم ومعاملهم ومختبراتهم، يجودون بكل ما يملكون من جهد ووقت ومال، لتكريس حضورنا في المشاهد العلمية العالمية، إن الإشادة والتكريم لكفاءات الوطن فرض عين على كل مقتدر، ونهوض (ولي الأمر) به، يسقط شطراً منه، ويبقى حق الإشادة باللسان والمحبة بالقلب لكل من منح أرضه وأمته ما يقدر عليه من عطاء، وإذا لم يكن عندنا خيل نهديها ولا مال نجود به، فلا أقل من أن نضج بالإشادة، وذلك أضعف الإيمان، وكل مواطن على ثغر من الثغور، متى حفظه، كان مجاهداً جديراً بشرف المواطنة، غير أن (فقه الأولويات) يجعل هؤلاء في رأس القائمة، ومن أحسن فعلاً ممن تخطى بأمته إلى عتبات التاريخ العلمي الحديث، وأشاع ذكرها في المحافل العلمية العالمية. والتكريم الذي ناله المتميزون في عملهم الأكاديمي محفز قوي للتنافس الشريف بين الجامعات من جهة، وبين أعضاء هيئة التدريس داخل أروقة الجامعة الواحدة من جهة أخرى، وإذ اقتسمت المجد ثلاث جامعات هي:- جامعة الملك عبد العزيز- و جامعة الملك سعود- و جامعة الملك فهد، فإننا نرقب المزيد، ونتطلع إلى التنافس الشريف، وليس هذا العدد من المخترعين محصوراً في إطار مخترع واحد، وإنما لكل واحد من السبعة عشر اختراع علمي مسجل في الولايات المتحدة أو في أوروبا، وكم كنت أتمنى أن يكون ل(مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية) دور أكبر تفعيلاً للدعم والدعاية والتبني والتشجيع وإشاعة بوادر التفوق والمتابعة، وبسط ذلك في دوريات تصل إلى المختصين والمسكونين بهم وطنهم، ولن أبيح لنفسي أن أكون شاهداً لم ير شيئاً، ولن أسمح لقلمي بالقول بأن الجهل بالشيء علم بالعدم، فكم في مؤسساتنا من إيجابيات لا نعلمها، ولما كان النوابغ في العالم بحاجة إلى أجواء ملائمة، لاستغلال نبوغهم، وبحاجة إلى دعم مادي ومعنوي، يشد من أزرهم، ويذكي حماسهم، ويحفظ حقوقهم المادية والمعنوية كان على كل مؤسساتنا شطر من المسؤولة قل أو كثر، فالأمة العربية مشروع حضاري، يرقب من يتلقف رايته باليمين، ليخوض به معترك التسابق العلمي المحموم. والتكريم ظاهرة حضارية، ومفردة من مفردات الدعم المتعدد، والدولة حين تعيش حضوراً فاعلاً في مثل هذه الأجواء، تبعث الثقة والدفء في نفوس الصفوة من الكفاءات الوطنية، وتشعرهم بأن هناك مَنْ يرعى، ويبارك، ويدعم، وما نتطلع إليه أكبر وأكثر، وفعل الدولة المباشر أو من خلال مؤسساتها المعنية جزء من مسؤوليتها، فما نريد من الشكر والثناء أن نثبط العزائم، ولا أن نلهي بالمدح، ولكننا نشيد بالفعل المتميز من كل الأطراف، ونستحث المسيرة، ونرقب مزيداً من المبادرات، وبسط الأيدي بالعطاء، وكم نود أن يتوفر الوعي الحضاري والإحساس الديني والوطني لدى (رجال الأعمال) و(المؤسسات الاقتصادية)، بحيث يكون هناك تبنٍ ورعاية ودعم لنوابغ آخرين ومجالات أخرى، وإذا كان الأثرياء سباقين إلى مجالات العطاءات التقليدية: كالصدقات العينية، وبناء المساجد، ورعاية الأسر، ودعم الجمعيات الخيرية فإن هناك واجبات أخرى، لا تقل أهمية عما سبق، فالإسلام يحث على إعداد القوة: الحسية والمعنوية، والأمر كما هو عند الأصوليين يقتضي الوجوب وهل هناك في مجال القوة ما هو أهم من الاكتشاف العلمي؟ الذي يغني المسلمين عما سواهم، ويمكنهم في الوقت نفسه من خدمة الإنسانية، والإسهام في صناعة الحضارة، ولهذا فليس بكافٍ دعم الدولة لمثل هذه المناحي العلمية، إذ إن هناك فريضة غائبة، مع إمكان حضورها، تتمثل بدعم (رجال الأعمال) للبحث العلمي، ورعاية الموهوبين، وكيف يترددون؟ والدعم يعد من الإنفاق في سبيل الله، حتى لقد نظر كثير من الفقهاء إلى هذا الصنف الأوسع، بحيث شمل أعمال البر التي تنفق في سبيل الله، فبناء الملاجئ، وعمارة المساجد، وطباعة الكتب، ودعم الجمعيات والمنظمات والمراكز الدعوية، ورعاية الموهوبين، والإنفاق على بحوثهم، ورعاية المخترعين، وتفريغهم، وتوفير المعامل والمختبرات، كل ذلك مع النية الصالحة والمقصد الحسن يعد من الإنفاق في سبيل الله، لأنه من القوة والعلم، إن على أهل الدثور أن يشدوا عضد المقتدرين علماً وفكراً ومهارةً، وأن يؤازروا دولتهم في الدعم الحسي والمعنوي، وعليهم أن يعرفوا أن الأقربين أولى بالمعروف، إذ لا نريد لنهضتنا أن تكون قلاعاً من الخرسانات، ولا طرقاً من الأسفلت، ولا نفطاً يترفنا حتى نؤخذ بالعذاب، بل نريدها إنساناً منتجاً، يشاطر العالم في صناعة الحضارة، وبإعداده تستطيع الدولة أن توازن بين مصادر الثروة القومية. وليس من اللائق ولا المقبول أن نذكر أثرياءنا بأثرياء الغرب الذين ينفقون أموالهم بسخاء على مثل هذه المجالات، ويوصون بالإنفاق على التجارب العلمية ورعاية العلماء، إذ يجب أن يكون أهل الدثور من المسلمين كمن سلف يذهبون بالأجور، وأن يكونوا قدوة للآخرين، وأن تتسابق المؤسسات والشركات والأعيان في تمويل المعامل والمختبرات والتجارب، وليس من الصعب اضطلاع (البنوك) و(الشركات) و(رجال الأعمال) بمثل هذه الأمور، وما دام بين أظهرنا نوابغ وموهوبون وباحثون ومكتشفون، فإن واجب الجميع احتضانهم، وتسهيل مهماتهم، وحفظ ساقتهم، وبذل المال لهم، وتهيئة الأجواء المناسبة لمزيد من عطاءاتهم، وقد بادرت الدولة بإنشاء مؤسسة لرعاية الموهوبين، وشرفتها بنسبتها لباني هذا الكيان ولرجاله، وبدت بوادر ثمارها، وتلك المؤسسة أحوج ما تكون إلى الدعم والمؤازرة، لقد شرع الإسلام (الأوقاف) وهي ممتلكات يحبس أصلها، وتسبل منافعها، وليس أجدى ولا أهدى للأمة من عبقري ينطلق في الآفاق أو في الأنفس، ليرى آيات الله، ويحقق من خلال ذلك ما فيه عز للإسلام والمسلمين. وإذا كان الغرب قد سبقنا بالاكتشافات، وهيأ الأجواء الملائمة للبحث العلمي، رعايةً وتشجيعاً وإنفاقاً وتكريماً واستكمالاً لمتطلبات النابغين فإن بقاءنا خارج المتن، وانتظارنا لإنجازات العالم العلمية يعد من الإبطاء، ومن بطأ به عمله لم يسرع به ادعاؤه، وكم هو الفرق بين العصامية والعظامية، ونحن في النهاية أبناء حاضرنا، ولسنا أبناء تاريخنا، لا نقول: كان آباؤنا، بل يجب أن نقول: ها نحن، وواجبنا جعل هذا التكريم مدداً لتحرف سليم، يُعزُّ فيه أهل النبوغ والعبقرية وتُحفَّز به الهمم الخائرة، والعيب ليس في أن تأتي متأخراً، وإنما هو في ألا تأتي، وواجبنا ألا يستمر الإذعان لهذا السبق غير المبرر. وإذ نبدئ ونعيد الشكر والتقدير لكل من وضع لبنة في صرحنا المعرفي، وكرس حضورنا في المحافل العلمية العالمية، نصل ذلك لكل نابغة يدوك ليله، ويحفد نهاره، لرفع رأس أمته، ناسياً ذاته في سبيل مصلحة الأمة الإسلامية، ولما أن كانت (وزارة التعليم العالي) ورجالاتها ممن فعل الخير أو دل عليه، ورعى الاحتفالية فإنها الأحق بالشكر، لقد مرت هذه المناسبة دون استثمار، ولأنها من الباقيات الصالحات فقد كان لزاماً على الأدباء والمفكرين والإعلاميين ركوب موجتها، واستنهاض الهمم واستدرار العواطف الدينية والوطنية للمبادرات الصالحة، والتخطي بأعضاء هيئة التدريس من التكريم إلى التكريس. |
أخطر ظاهرة استعمارية..! ( 1 - 2)
د.حسن بن فهد الهويمل تمر الشرعية الدولية بأزمة لم تعهدها من قبل، ولا أحسب أن لها سابقة مماثلة في التاريخ الحديث، صعّد هذا التأزيم، أو ساق إليه استهلال الولايات المتحدة الأمريكية أعراس قطبيتها وأحلام إمبراطوريتها بالاحتلال العسكري لدولتين إسلاميتين، وإسقاط السلطة فيهما، وتعريضهما لفراغ دستوري خطير، هيأ الأجواء لاختلاط الإرهاب بالمقاومة، وكان الاحتلال مداوة بالتي كانت هي الداء. ولقد سوغت اجتياحها البغيض بحجة المكافحة المشروعة للإرهاب، أو الحيلولة دون إنتاج أسلحة الدمار الشامل. وإذ تكون مثل هذه الأنظمة المسقطة أنظمة مستفزة، ومغرية بالتدخل، ومفتقرة إلى أدنى حد من مقومات البقاء؛ فإن معالجة أوضاعها بهذا الأسلوب كمن يصب الزيت في النار. وهذا الإسقاط التعسفي الذي تعدى السلطة إلى مؤسساتها، أدى إلى فراغات دستورية، هيأت الأجواء لهدم وحرق وقتل عشوائي. وأغرت الأقليات: الطائفية والعرقية والإقليمية بتصفية حساباتها، وحملتها على التفكير الجاد في الانفصال، مما سيؤدي إلى تمزيق الكيان الواحد، والعودة به إلى الكفر الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ضرب بعض الأمة رقاب بعض. والخطورة ليست في نفاذ الإرادة القوية، وليست في الضربات الخاطفة التأديبية، وليست في استمرار الصراع العالمي، فكل ذلك من سنن التدافع والتداول والابتلاء، ولكنها في أشياء كثيرة، يتجرع مرارتها مبتغو الفتنة والساقطون فيها، ومن يفضلون الجنوح إلى السلام العادل، وإنما هي في اختلاف المغلوبين على أمرهم فيما بينهم حول الموقف من الغالب وأسلوب التعامل معه تعاملاً حضارياً، يكرهه على مراجعة حساباته، والتخلي عن خلط الأوراق. وأمريكا التي فتحت شهيتها بالقنبلتين النوويتين، حين أرادت تخطي عزلتها، والتحول من دولة محايدة إلى دولة متحكمة، وأتبعت ذلك بأكثر من مائة وعشرين ممارسة عسكرية خاطفة أو طويلة الأجل، طالت كل أرجاء العالم، أغرت نفسها بغزو سافر خلّف الدمار الحسي والمعنوي. وأخطر من كل هذا وذاك: شرعنة هذا التدخل وتبريره من ضحاياه أو من المكتوين بناره، وإيهام المؤسسات الدولية بأنه حق مشروع. واضطراب المواقف السياسية والفكرية حول حدث لا يحتمل إلا رؤية واحدة مؤذن باستخفاف المعتدي وركونه إلى المعذرين. والمتابعون لملفوظ القانون الدولي وملحوظه، يشهدون تركيزه على (مبدأ عدم التدخل) وتأكيده على منع استخدام القوة فيما يمكن حله بالطرق السلمية. وميثاق الأمم المتحدة الذي أنشأه وسانده المخالفون له في وضح النهار، تنص مواده على احترام سيادة الدول. واللافت للنظر أن الخطاب الممهد للاعتداء عكَس المادة، وقلبها رأساً على عقب. إذ طرح المحتلون مبدأ (حق التدخل) . وخطورة الفعل أنه لم يكن دبلوماسياً، ولا حرباً باردة، ولا تسليحاً للفصائل المتناحرة، وليس تأديبياً خاطفاً، مقتصراً على ضربة جوية أو صاروخية، وإنما هو غزو عسكري، ومصادرة للحرية، واحتلال للأرض، وانتزاع للسلطة، وإلغاء للسيادة، واستخدام لأفتك الأسلحة من دولة قوية مهيمنة، ينظر إليها العالم على أنها راعية للحرية والعدل والمساواة. وما كان اعتداؤها لإنقاذ مظلوم، ولا لإزالة خطر عالمي، وإنما هو لفرض إرادتها، وإشاعة حضارتها، وتأمين مصالحها، واستغلال خيرات البلاد، وضمان تفوق ركيزتها في المنطقة. وهذه السابقة الخطيرة التي يستخف بها البعض، ويراها حدثاً طبيعياً، يؤدي الاختلاف حولها إلى شرعنة ممارسات مماثلة، مع أنها عمل غير صالح، لمناقضته لأبسط القوانين العالمية. وكيف يحق لدولة تتقدم العالم في إمكانياتها ومبادئها، أن تستخدم القوة في مواجهة شعوب ترفض التدخل في شؤونها، شعوب لم تطلب المساعدة ولا المساندة بهذا الشكل. وإذا كانت السلطة العراقية البائدة قد نفذت أقذر اللعب وأخطرها، ومسّ شعبها الضر الذي لا يُحتمل، وشكل وجودها خطراً على أمن المنطقة واستقرارها؛ فإن التعامل مع إرادة شعبها وحريته لا يكون بهذا الأسلوب. لقد أشار (جاك شيراك) قبل زيارته (لبريطانيا) إلى أن إسقاط (صدام) عمل إيجابي، ولكن تصعيد المواجهة مؤذن باستفحال الإرهاب الذي تتذرع أمريكا بمواجهته، الأمر الذي حمل أمريكا على الرد الساخر، والتأكيد بأن الإرهاب قائم قبل التدخل، وهذا صحيح، ولكن (شيراك) لم يقل بعدمه، وإنما قال باستفحاله. والمجازفة العسكرية جاءت بمبادرة فردية من دولة قوية، يفترض أن تكون صمام أمان، وقوة ردع لكل من ينتهك الشرعية الدولية، أو يعتدي على سيادة الدول الصغيرة. لقد كان مقبولاً منها قيادة الحملة العسكرية العالمية لتحرير (الكويت) وقبول ذلك، لا لمجرد الفعل، ولكن للتوقف عند انتهاء المهمة، كما رسمتها قرارات هيئة الأمم المتحدة، وللانسحاب الفوري بعد تحرير (الكويت) . وبمثل هذه الأحوال يكون هناك مسوغ لتدخل محدود، وفي أضيق نطاق، ومثل هذا التدخل تضمّنه ميثاق الأمم المتحدة. وقد حاولت أمريكا التقنع به، حين أعادت الكرّة، ولكن شتان بين إجماع دولي واستبداد فردي. فميثاق الأمم المتحدة يجيز التدخل متى هُدد السلام العالمي، أو كان هناك اعتداء مُجْمَع على عدوانيته من دولة على أخرى. ولا يتم التدخل المباشر إلا بعد أن تستنزف المؤسسات العالمية كل الوسائل السلمية. ولو ضربنا مثلا بقضية (العراق) لوجدنا الولايات المتحدة قد مارست التدخل العسكري أكثر من مرة، تمثل بالضربات التأديبية والاستباقية. وتحرير (الكويت) خاضته أمريكا مع خمس وثلاثين دولة، ولقي فعلها ارتياحاً عالمياً، ولم يتحفظ عليه إلا طائفة قليلة، رأت أن معالجة الوضع يجب أن يكون عربياً، فيما ذهب المتعرضون للخطر إلى أن الأمة العربية غير قادرة على حسم الموقف، لضعفها أمام القوة العراقية، ولاختلافها حول الغزو، كما أن العرب من خلال جامعتهم لم يفلحوا في حل أي قضية، ولم يحققوا فض أي نزاع، ولا فك أي اشتباك. ومع هذا فإن الغزو والإخراج ألحقا أفدح الضرر بالأمة العربية، على حد (وقع السهام ونزعهن أليم) ، وليس ببعيد أن يكون الفعل ورد الفعل لعبة موجعة للأمة، ولكن لا بد مما ليس منه بد. وبعيداً عن الشرعية يأتي التدخل العسكري الأمريكي البريطاني في العراق وإسقاط النظام، فمثل هذا الفعل يهدد أمن العالم، كما أنه تعويل ساذج على مواد (الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة) . ولقد أضافت أمريكا إلى هذا المسوغ (ضعف الأمم المتحدة) . وأياً ما كان الأمر فإن تلك بادرة خطيرة، سيتجرع العالم العربي مرارتها لعقود طويلة، ولا يمكن قبولها، وإن ضلت فيها أفهام، وزلّت فيها أقلام، واحتدمت حولها الرؤى والتصورات. ولو كانت لهذه الممارسة الخطرة أقل نسبة من المبررات، لقيل بأن أمريكا تسرعت في استرداد كرامتها بعد أحداث (الحادي عشر من سبتمبر) ، وكان عليها التحري، وتحديد المعتدي الذي مارس الإرهاب ضدها وضد غيرها. لقد اهتاجت كما الأسد الجريح، واتخذت من شرعية محاربة الإرهاب سبيلاً لفرض إرادتها، ومن ثم انفردت بالرأي وبالتصرف، ولا عبرة بالمشاركات الرمزية من بعض الدول المغلوبة على أمرها. ومؤشرات الأحداث تشي بأن أمريكا ستقف أمام نفسها، وتقر بخطئها في إسقاط مؤسسات النظام وإعلان الاحتلال واجتياح المدن، ولكن بعد فوات الأوان وخراب العراق ومن حوله. إن حرباً ضارية بهذا المستوى لا تكون إلا إذا هدد أمنها واستقرارها، والعالم العربي أضعف من أن يهدد أمن (إسرائيل) فضلاً عن أمريكا. والحق أن المسألة كلها لتحقيق التفوق الصهيوني، الذي لا يريد للدول المحيطة به قوة ولا أمناً ولا استقراراً ولا وحدة. وفي هذا السياق جاءت الحرب (العراقية الإيرانية) مضعفة الدولتين المتحاربتين، ومعمقة الأضغان، ومستنزفة أموال الدول الخليجية التي ما فتئت تمد القضايا العربية المشروعة بالمال، وتدعم الأقليات الإسلامية في العالم، وتبادر في إقامة الجمعيات والمراكز الدعوية. وقد سبق هذه الحرب المدمرة حروب: أهلية وحدودية وطائفية، من أخطرها (أيلول الأسود) و (اجتياح لبنان) و (صبرا وشاتيلا) ودعك من (نكسة حزيران) وما لا حصر له من اللعب المصمية التي أتت على مقدرات الأمة العربية. وكل هذه اللعب المدمرة التي مارسها البعض بالتغرير أو بالاستدراج أو بالمواطأة، تصب في صالح إسرائيل. والأغبياء الإعلاميون ناضلوا بأقلامهم لتصنيم المغامرين والمقامرين، والأكثر غباء منهم من جاؤوا يعذرون للمحتل، ويبررون غزوه، ويرقبون معسول الوعود. وما فتئ الواقع العربي والإسلامي قابلين لمزيد من اللُّعَب التي مهدت لها ثورات دامية، وحروب أهلية وحدودية عنيفة، وصراعات فكرية وطائفية وعرقية، واختلاف مستحرّ حول الأسلمة والعلمنة والعولمة والمركسة والغربنة والحدثنة، ولقد استغلت لذلك عواطف متعددة من أهمها العاطفة الدينية، إبان الحرب في (أفغانستان) ، وفيما انسلخ من قوميات من الاتحاد السوفييتي. وكانت المخابرات الشرقية والغربية وراء ذلك التحريض والتجييش. والدول الصغيرة أو الضعيفة المتناحرة مع جيرانها، أو التي تتعرض لحروب أهلية، مهيأة لهيمنة الدول الكبرى، فالنزعة الاستعمارية كالجراثيم، لا تستفحل إلا في الأجسام الضعيفة. وفي ظل هذه الظروف الشاذة يعود الاستعمار البغيض الذي أخرجته الشعوب بالدماء والتضحيات. وقيام الحكومات المتسلطة على شعوبها، واستفحال الأزمات، وتتابع الإحباطات، وغياب المنظمات، وخفوت الأصوات المنصفة، مُؤْذِن بانهيارات أمنية، تصيب الفاعل والمعتزل، وتعمق المآسي، وتشيع الفقر والجوع والخوف. والمنظمات العالمية من واجبها أن ترمي بثقلها في مثل هذه الظروف العصيبة لإيقاف التدهور، ورد المعتدي، واستنهاض همم الصامتين عن قول الحق. وكيف لا تنهض بواجبها، وهي تشهد القتل الهمجي والتدمير الوحشي. وإذ لا يكون باستطاعتها أن تثني المعتدي، فإن عليها - على الأقل - أن تضعه أمام نفسه، وأن تحمله المسؤولية التاريخية، وأن تستثير إنسانية الصامتين المعتزلين للفتنة، ليمارسوا واجبهم للتخفيف من حدة الانتهاكات. وإذا كان المتداول في أروقة الأمم المتحدة عدم التدخل، وعدم اللجوء إلى القوة، وعدم التعرض لسيادة الدول وسيادة القانون الدولي، فإن ذلك كلام لا تحميه قوة، ولا تترجمه إرادة عالمية. ولم يفسد الهيئات والمؤسسات العالمية إلا ما يمارسه الصهاينة والمتصهينون من ضغوط في أروقة الأمم، ومؤسسات التشريع الأمريكي، وما تقترفه (إسرائيل) على الأراضي الفلسطينية ذات السيادة من قتل وهدم وتشريد، وما تمارسه الدول الكبرى من صمت مُدان أو تبرير كاذب، وما تنهض به وسائل الإعلام من تناول متمارض، واختلاف بيزنطي. كل ذلك جعل القطعيات احتماليات، رققت المصائب، وجعلت بينها وبين المنكوبين إلفاً، حتى لا تجد من يتمعّر وجهه غضباً للحق. وما يقترفه الكتَّاب من تردد واختلاف حول قضايا قطعية الدلالة والثبوت، إنْ هو إلا ناتج الهوان: (ومن يهن يسهل الهوان عليه... ما لجرح بميت إيلام) . وإذا فقدت المؤسسات العالمية المصداقية، قلّت هيبتها، وضعف احترامها، وسقطت من حساب المتسلط والمستضعف، الأمر الذي يلجئ المقهورين إلى المقاومة الممكنة والإيمان بمبدأ ( عليَّ وعلى أعدائي)، وقد يستغل الغضب، لتنفيذ لعب كونية، أو لتصفية حسابات قديمة، وذلك ما نشهده الآن في بقاع كثيرة من العالم. ولما كانت الحياة فلسفة، وليست مجرد وجود، تحول المقهورون إلى عبوات ناسفة من السهل استغلالهم، وتوظيفهم لتنفيذ أقذر العمليات. إن اليأس والإحباط مُؤْذنان بانفجارات مدمرة. والمواجهة غير المتكافئة مؤذنة بكسر العظام وإحراق الأرض. والخضوع والاستسلام مدعاة لمزيد من الإهانة. وحفظ التوازن بين اليأس والمواجهة والخنوع محك الاقتدار. وعلى الذين يملكون فك الاختناقات، أن يحذروا مواصلة الضغط على المستضعفين، إن ما نشاهده في العراق من تمرد وحقد وانتحار وقتل بشع للمخطوفين دليل على أن الفوضى لا تحكمها القوة، وأن انفلات الأمن فوق قدرة البشر بكل ما أوتوا من قوة. ولو أن القوة تحسم المشاكل، لَمَا كانت العراق مستنقعاً يتسع ويتعمق، ولَمَا كانت (فيتنام) من قبل مصيدة أذلت أمريكا. لقد جُرت قدم أمريكا ل (فيتنام) فزلّت، وجرت قدم الاتحاد السوفييتي (لأفغانستان) فسقط، واندفعت أمريكا بعنف في (العراق) فتورطت. إن عمليات الاغتيال والخطف والتفجير ترجمة للإحباط والفوضى، وقد تكون خليطاً من الإرهاب والمقاومة وتصفية الحسابات بين دول لا تملك القدرة على المواجهة العسكرية. إنها لعب قاتلة أو بقايا لعب كونية، رضي العالم العربي أن يكون مسرحاً لها. والمتابعون لا يفرقون بين (الإرهاب) و (المقاومة) و (المواجهة) الخلفية بين الخصوم الألداء. وليس أدل على ذلك من القول بأن (شارون) رجل سلام، وأن الصراع مع الصهيونية صراع حضاري، وأن منظمات التحرير الفلسطيني منظمات إرهابية، وأن مقاومة العالم الثالث رفض للحضارة والمدنية والحرية، ومباركة منح جائزة نوبل مناصفة بين المقاومة والاحتلال. والمؤلم أن يستمرئ بعض الكتبة جَلْد الذات والتعذير للغزاة، وانتظار ما لا يأتي من وعود طوباوية، هذا الاضطراب في المفاهيم والمواقف سوغ أعمالاً لا تحتمل إلا تأويلاً واحداً. وبهذه الظواهر يكون العالم كله مداناً، ومعرضاً لغضبة ربانية، لا تقل عما أصاب قوم (نوح) أو قوم (صالح) أو آل (فرعون) أو أصحاب (الفيل) ، فالله حرَّم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرماً، ولو تكلم الصامتون، وكف اللاعبون، لعرف الناس طريقهم إلى السلام العادل، وعرفوا الإرهاب، وأسبابه، ومصادره، وطرائق مواجهته. |
أخطر ظاهرة استعمارية..! (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل وأخطر من الإرهاب تضارب الآراء في فهمه، وافتراء الكذب في البحث عنه في الكهوف والمغارات، وحصره في نحلة أو ملة أو عرق، والحق أنه أقرب إلى الفهم من حبل الوريد، لو أريد استئصال شأفته دون استغلاله لمكاسب ثانوية، واتخاذه قناعاً لمآرب أخرى. والتقنع أودى بحيوات كثيرة، فكان كما الأكلة التي منعت أكلات كثيرة. إنه في مواقع كثيرة مولود طبعي للتدخلات في أخص الخصوصيات العالمية، وردة فعل لاستخدام القوة دون مبرر، ورفض معلن للعنف الصهيوني وللوحشية في مواجهة المخالف. وذلك بسط لما قاله (شيراك) قبل زيارته ل(بريطانيا). ومن أراد للإرهاب أن ينزوي في أضيق نطاق، فعليه أن يكف عن الظلم وعن التدخلات، وعليه أن يمارس العدل والإنصاف والحياد الإيجابي. وإذا أكدنا على ما سبق فإن للغلو الديني، والتعصب الطائفي، والتأويل الباطل لنصوص التشريع، وفوضى الإفتاء، والخروج على الشرعية أثرها في تنامي الإرهاب واستفحاله. غير أن التطرف الفكري لا يواجه بذات العنف، لأنه ناتج تربية خاطئة أو مؤامرة دنيئة، حشدت المشاعر، وعبأت الرأي العام، حتى إذا آذن بالانفجار لاذ المخادعون بالفرار، يحملون الغنائم، وتركوا الحابل يختلط بالنابل. وللخلوص من ويلات الإرهاب لابد من معالجة الاحتقانات، والتعبئة الذهنية بذات الطريقة التي كونته وحفزّته. لقد تهربت الدول الكبرى من مسؤولية الإرهاب بإضافته إلى الإسلام وإلى مناهج الدراسة عند بعض الدول الإسلامية، وإلى بعض الطوائف الإسلامية، وإلى طائفة من المصلحين الذين كان لهم كل الفضل في نفي ما علق بالدين من تأويل المبطلين وانتحال الغالين وغلط الجاهلين، وشايعها في هذا التهرب الجهلة والمغفلون والمجندون. وتحت تأثير المغالطات أوقفت الجهود الإسلامية المعتدلة، وأغلقت المراكز الدعوية، وقلصت الجمعيات الخيرية المدعومة من دولة عرفت بالوسطية والدفع بالتي هي أحسن، والدعوى إلى سبيل ربها بالحكمة والموعظة الحسنة. والدول التي واجهت الإرهاب بالأساطيل، شككت العالم بالمسلمين على كافة الطوائف، وحملته على التحفظ على كل عمل إسلامي أياً كان. وما الإرهاب في حقيقة الأمر إلا مولود مبتسر لغطرسة القوة، والتنكر للشرعية الدولية. والذين يمارسون العدوان السافر، ويجتهدون في منح عدوانهم شرعية دولية يغذّون الإرهاب والعنف، ويساعدون على استفحالهما. والمزعج أن الدول التي تمارس القوة في فرض إرادتها، لا تفتأ تحرض على احترام الشرعية، وتدعي حمايتها لقوانين هيئة الأمم، والمكتوون بنار اللعب الكونية والقمع المتعسف يصرخون في أودية سحيقة، لا تؤوّب معهم إلا الجبال، مؤكدين على أن الكبار هم أول من اخترق الشرعية، وعطل القانون، وحرض على الكرة والعنف. وكيف تسوّغ أمريكا لنفسها التدخل العسكري في (العراق) وهي حين اسقطت حكومته الظالمة، أعلنت أنها (محتلة) والاحتلال مفهوم له مقتضاه البغيض. وحين انتشر جنودها في أرجاء (العراق) هبت المقاومة، واندس بينهم أصحاب الثارات، وانتفضت كل التنظيمات السرية العنيفة، تنسل من كل حدب. فأمريكا وإن كانت تملك بصيصاً من الدافع الإنساني لتخليص الشعب العراقي من حكومته الظالمة، إلا أنها لم تحسن الدخول، ولم تضبط الممارسة، ولم تدع مجالاً للتفاؤل والثقة. وتصريح قادتها والتهديد والوعيد لدول الجوار يبعث على الخوف من العواقب الوخيمة. لقد فرضت على الشعب العراقي فتنة تتفاقم ساعة بعد أخرى، فتنة عمياء، وقودها الأنفس والأموال والحرث، وهل أحد يرضيه ما يحصل للشعب العراقي؟ وهل يود عاقل أن تؤول بلاده إلى ما آلت إليه الأوضاع في العراق؟ ومغامرة أمريكا أضرت بها، وأضرت بالمنطقة، وأسقطت الشرعية الدولية. ولو أنها حين أسقطت الحكومة الظالمة، سلمت البلاد لهيئة الأمم ولجامعة الدول العربية، لترتيب الأوضاع وفق مصلحة الشعب، وظلت ترقب الأوضاع من بعيد، لكان في ذلك حسم للفتنة، واستساغة وقتية محدودة للتدخل. ولكن حيثيات التدخل الواهية، وما نشأ عنه من تدمير بشع أسقطت معقوليته، وعمقت الشعور بالرفض وعلى افتراض وجود أسلحة دمار شامل، أو ضلوع في دعم الإرهاب، فإن رد الفعل أخطر من الفعل. وفوق ذلك كله فإن تدخل أمريكا لا يعد من باب الدفاع عن النفس، وكيف يكون ذلك، وهي الأقوى والأبعد، و(إسرائيل) ليست مهددة في ظل القوة الأمريكية والضعف العربي، والخوف كل الخوف من مؤامرة تصيب الدول كافة، وتزيد في اشتعال الفتنة واتساعها، حتى إذا استحكمت، وظنت أمريكا أنها غير قادرة على الحسم، ولت هاربة، تاركة الأشقاء يقتتلون، كما فعلت في (الصومال) وفي (لبنان) ومن قبل ذلك في (فيتنام)، وكل حرب ظالمة تترك آثاراً سيئة يصعب حسمها. لقد تعرض أبناء الشعب العراقي على يد أبنائه من عصابة القبيلة وفلول الحزب للقتل والسجن والتعذيب والتشريد، ولقيت أطيافه تهميشاً ومضايقة ومطاردة، وفقد الشعب العراقي زهرة شبابه بين قتيل وسجين ومعوق ومهاجر، وحرم إنسان العراق بكل ما ينطوي عليه من شجاعة وحضارة من أبسط حقوقه على يد الطغمة الحاكمة، وتعرض جيران العراق للإيذاء، وتمنوا سقوط النظام الذي جر المنطقة كلها إلى حافة الهاوية، وفي ظل هذه الأزمات وجدت أمريكا مبرراً لتدخلها، من حيث هو إماطة للأذى، وإزاحة للكلكل المنيخ على صدور الشعب العراقي، غير أنها لم تضع ذلك في اعتبارها، ولو وضعته، لكان أن تدخلت قبل هذا الوقت، ولكان أن تدخلت في شأن دول أخرى، تعرضت شعوبها لويلات مماثلة. وما تعرضت له (العراق) أثناء الغزو، وما يتعرض له الآن أسوأ مما ناله من قبل، وما يرقبه من مصائر مظلمة تنذر بالخطر، وما ترقبه دول الجوار من انفلات في الأمن واستشراء في الإرهاب أنكى وأمر. فالعراق معرض لحروب أهلية طاحنة، ولتقسيم طائفي وعرقي خطير. وهو قد تحول إلى ساحة لكل متوحش يفسد في الأرض، ويسفك الدماء. وفي ظل هذه الفوضى فإن لكل دولة مصلحة وثارات، وأجواء (العراق) مناسبة لتصفية الثارات، وتحقيق المصالح. فكل من في ذمة أمريكا له مظلمة، يجد الوقت مناسباً لرد الصاع صاعين. وهذا هو حال العراق اليوم، قتل عشوائي، وتفجير عنيف، وذبح متوحش، وتسلل أجنبي، وتسريب للأسلحة، وتداخل بين الإرهاب والمقاومة. وإذا كان الشعب العراقي يهرول نحو الهاوية، فإن المنطقة بأسرها مشروع فوضى مستحكمة. وأمريكا هي الخاسر الأول، لأنها تحرج الأصدقاء المعتدلين وتخيفهم، وتفقد الأفضلية من الدول الغنية بثرواتها الطبيعية التي تعطيها الأولوية في الاتفاقات والصفقات، وتمنحها كثيراً من التسهيلات والامتيازات. وقد يؤدي عنفها واندفاعها وحساباتها الخاطئة إلى توريط المنطقة، وتدمير مصادر الثروة وشغلها عن التنمية والإنتاج، مما يعود أثره السلبي على الجميع، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وكل عمل لا يملك مشروعية، يتسع لعشرات الأعمال المماثلة. فأمريكا دخلت دون أن يكون لدخولها أي مبرر، وكان بإمكانها أن تصيخ لتحذير الناصحين، وأن تتخذ مساراً يُضيق الخناق على الأنظمة المتهمة، ولا يعرض الشعوب للفتنة، وهذا التدخل السافر قد يغري كل متردد على ممارسة الكسب غير المشروع، لقد أصبح هذا التدخل بادرة سيئة، ستعقبها بوادر أخرى، ليست بأقل خطراً منها، لقد جاءت (حرب الخليج) الأولى مغامرة طائشة أنتجت احتلال الكويت، ثم تتابعت الفتن، وتزامن مع ذلك قلب الحقائق وافتراء الكذب. وقلب الحقائق والإذعان لما يسوّق إعلامياً من كلام مخالف للحقيقة يعني استمرار الظلم والقبول بالمغالطات. وإذا لم يتدارك عقلاء العالم الأمر فإن المنطقة ستكون مسرحاً لأحداث دامية، يمتد أثرها زماناً ومكاناً. وليس أمام أمريكا إلا أن تنقل القضية إلى هيئة الأمم، وأن تصدق في استفتاء الرأي العالمي، وأن تحتمل ما يقرره من خلال منظماته، لا أن تفتح ملفات ضد الأمين العام لطرده من المنظمة لمجرد أنه قال بعض الحق. فالواقع المؤلم للعراق وللمنطقة بأسرها لا يمكن أن تضطلع أمريكا وحدها بحله، وليس باستطاعتها ترتيب الأوراق دون مشاركة عالمية، تعيد للعراق وضعه الطبيعي، وتخلّص نفسها من هذا المستنقع، وبخاصة أن سمعتها لم تكن على ما يرام، والذين يسايرونها في مغامراتها، إما ماكرون أو مكروهون، وإذا كانت الأمة العربية عاجزة عن رد الظلم، وهي عاجزة ولا شك، فإن على نخبها وإعلامييها ألا يزيدوا الارتكاس بالاختلاف غير المحتمل، والنهوض بمهمة التبرير، وترويج المغالطات، والانحاء باللائمة على الشعب المقهور. إن على النخب المنهكة أن تقول خيراً أو لتصمت. وليست معذورة حين يكون هناك تباين بين الفعل والقول الأمريكي. لقد ادعت أمريكا الرغبة في التوازن، وباستطاعتها تحقيق ذلك دون تدخل يقلب الموازين. ثم إن استعمال القوة للقضاء على سلاح الدمار الشامل يجب أن يبدأ من (إسرائيل) التي تمتلك أفتك الأسلحة، واستعمال القوة لأهداف إنسانية يجب أن يبدأ من (إسرائيل) التي تمارس أبشع صور الاعتداء والقتل غيلة والهدم غطرسة، والخطف والسجن والتشريد والتسميم مهنة. إن ممارسة أمريكا عرّضت سلامة الأراضي العربية للخطر، وعّرضت الاستقلال السياسي للإلغاء، ولم تحقق أمناً ولا وحدة، ولم تملأ الفراغ الدستوري الذي أحدثته. وإذا لم يكن التدخل العسكري لحماية رعايا الدولة المتدخّلة أو لحماية الأقليات العرقية أو الدينية حين تسلب حقوقها - مع أن ذلك لا يسوغ إلا بتخويل من هيئة الأمم ومؤسساتها، وتحت إشرافها وقيادتها -، فإنه يعد اعتداء سافراً لابد من التصدي له، ولو بالضغط السياسي، والاستنجاد بالدول المحايدة ك(فرنسا) مثلاً لممارسة الضغوط، وإنقاذ الأمة العربية من انهيارات سياسية واقتصادية وأمنية، فالغزو العسكري مرفوض على كل لسان وبكل نحلة، ومواجهته مشروعة بمختلف الإمكانيات الممكنة، وإن لم تكن استطاعة فلا أقل من قول الحق أو الصمت وذلك أضعف الإيمان. وإذ يكون في (العراق) ملل ونحل وأعراق تمثل أقليات مضطهدة ك(الأقلية الكردية) فإن إشكاليتها ليست قصراً على (العراق)، ف(الأكراد) موزعون بين خمس دول، وقضيتهم أصبحت مجالاً لللاعبين الكبار، والأكراد أصبحوا يتخبطون في قضيتهم. أما (الشيعة) فليسوا أقلية، وإن مسهم الضر، ولما تكن لهم قضية في أروقة الأمم، وحتى لو كانت لهم قضية فإن معالجتها سلمياً أفضل، وأوضاع العراق داخلية، وليس من حق أحد أن يرمي بثقله. فالشأن العراقي، يجب أن يتداوله أبناؤه، وما على المتعاطفين إلا النصحية، والحيلولة دون الحروب الأهلية. لقد مر العالم بتدخلات خاطفة، لإضعاف الخصم، وخضد شوكته، وانتهت بالانسحاب الفوري، ونقل القضايا المستعصية على الحل إلى أروقة الأمم، ولكن ما نعايشه في قضية (أفغانستان) و(العراق) يعد احتلالاً طويل الأمد، فلا هو من باب التأديب، ولا هو من باب الاحتواء، ولا هو من باب حماية المصالح، ولا هو من بال مواجهة الإرهاب، إنه عمل خطير ومخيف. وإذا كانت أمريكا تتذرع بشيء من ذلك فإن العالم بأسره مع التصدي والصمود في وجه الإرهاب، فالأمة المنصفة الحضارية ترفض القتل، وترفض التدخل، وترفض اختلال الأمن، وتحترم سيادة القانون. ولكن من ذا الذي يملك تحديد الإرهاب ومواطنه، وأسلوب مواجهته. إن هناك إرهاب دولة، وإرهاب منظمات، وإرهاب طوائف، وإرهاب أفراد. وهناك مقاومة وحتى هذه اللحظة لم يشأ العالم أن يصل إلى تحديد مفهوم جامع مانع لما يمكن أن يسمى بالإرهاب فالمسائل نسبية، ولكن الحق أبلج، وما من أمة إلا وتعرف المحق من المبطل، ولو صدق الناس، وأنصف الأقوياء، لاستراح العالم، واستقرت الأوضاع. وهل أحد لا يعرف الإرهاب؟ الإرهاب الحقيقي هو ممارسة القتل والتفجير على أرض دولة شرعية متصالحة مع شعبها، ومسالمة مع جيرانها، محترمة للعهود والمواثيق، وليست لها أطماع، وليست لديها تدخلات في شؤون الغير. ولنضرب مثلاً على ذلك ب(المملكة العربية السعودية) التي واجهت إرهاباً عنيفاً متعدد المواقع والأساليب والأهداف. فالمملكة ليست معتدية، وليست دولة تسلطية، ولا تمارس تصدير الإرهاب، ومع ذلك تعرضت لأبشع العمليات الإرهابية، واتهمت بصناعته، وحيل بينها وبين الدعوة والدعم السلمي، وحتى حين كانت تستعدي دول العالم على الإرهاب، كان البعض يسميه معارضة مشروعة، وحين كشر عن نابه خف الجميع للمواجهة. لقد مارست إسرائيل أبشع صور الإرهاب، بحجة الدفاع عن النفس، وتأمين الحدود، ومنذ عام 1967م وهي تحتل أراضي الغير على الرغم من قرارات الأمم المتحدة. وهي قد ضربت المفاعل النووي (العراقي) على الرغم من أنها تمتلك سلاحاً نووياً، وهي الآن تتحين الفرصة لضرب المنشآت النووية السلمية في (إيران)، وتمارس ضغوطها على الهيئات والمؤسسات لمنع إيران من أبسط حقوقها، ولم تجد أي رادع أو مسائل، إن هذا الاعتداء السافر والتأييد الظالم مؤذن باستفحال الإرهاب، والأمم الآمنة المطمئنة لا تريد العنف، ولا الرد الأعنف، وما يمارس على الأراضي العربية هو عين العنف والرد الأعنف. واجتياح العراق، وإن لم يكن الأول بالنسبة لأمريكا، إلا أنه الأعنف، يعد من الأسباب الرئيسة لتنامي الإرهاب وتنوعه واستفحاله، وهو ما لا يريده العقلاء في كل أنحاء العالم. إن هناك إرهاباً وهناك أجواء ملائمة للإرهاب، فالاحتلال، والانحياز للمعتدي، وسكوت القادرين على الكلام من الأسباب القوية لوجود الإرهاب. لقد كان لأمريكا تدخلات عسكرية خاطفة، لم تكن بحجم التدخل في العراق، ولهذا لم تصعد العنف في الأوساط العالمية، ولعلنا نذكر ضرب (ليبيا) و(نيكارغوا) والتدخل في (الصومال) و(لبنان) ومناطق أخرى، ولأنها لم تكن احتلالاً عسكرياً، فقد مرت دون أن تكرس الاستياء أو أن تستدعي المواجهة، وقد يكون الضرب الخاطف من باب الاختلاف الحاد حول وجهات النظر والمصالح. وقد يكون ذلك بدافع قمع بعض الدول عن ممارسة الإرهاب الدولي أو دعمه. المهم أن هناك اعتداءات تنفرد فيها أمريكا، متخذة لذلك أي مبرر، لكن ضرباتها الخاطفة، لم تكن بحجم اجتياح (العراق) و(أفغانستان) ولا بحجم اجتياحات إسرائيل للأراضي الفلسطينية. و(ليبيا) موّلت عمليات إرهابية، واغتالت شخصيات سياسية ودينية، واعترفت ببعض مقترفاتها، وتحملت تعويضات مادية باهظة، وقد اتهمت بعمليات كثيرة من أهمها (لوكربي) و(ملهى برلين)، وهي أخيراً بعد تعهداتها تورطت بالتخطيط لاغتيالات خطيرة، لعل من أسوئها التخطيط لاغتيال زعيم عربي، أنقذ ليبيا حين ادلهمت عليها الأمور، وهي من قبل قد اتهمت (حركة الإصلاح الديني) في نجد بالإرهاب، وكأني بها تنتقل من (اتهام المصلح) إلى (اغتيال الأصلح)، وكنا نود منها ومن (العراق) في عهده البائد ومن أي دولة ثورية تلعب بالنار تحامي الاستفزاز، والتخلي عن العنتريات، وخطابات التهديد والوعيد، وتصدير الثورات والنظريات، فبعض الزعامات المتهورة تثير الغضب، وتستفز الدول الكبرى، وتوجد أمامها مبرراً لممارسة الضغط والحصار والمقاطعة وكسر العظم وإحراق الأرض وقتل الأنفس. وقد تحمل على المواجهة العسكرية، أو تدبير لعب موجعة، تجر المنطقة إلى مستنقع الفتن. ومثل هذه الممارسات محرض للضربات التأديبية. إن المنطقة العربية مقبلة على أوضاع عصيبة، وليس أمام زعمائها إلا الالتقاء على كلمة سواء. |
الساعة الآن +4: 04:22 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.