![]() |
الإصلاح السياسي بين (الديمقراطي).. و(الثيوقراطي).. ! 1/3
د.حسن بن فهد الهويمل الهدف الأسمى لهذه المقولة لملمة أشتات الرؤى والتصورات التي يدرك بها البعض ليل السياسة العربية الضاغط، بغية الوصول بها إلى صيغة سياسية انتقائية أو توفيقية أو تلفيقية، تحقق المقتضى الإسلامي، بوصفه إرادة شعبية، وتمكن من امتصاص نسغ التجارب الأخرى، وتواكب المتغيرات الإيجابية، وتخلص الأمة العربية الممتحنة من خطابات مغثية، يخوض بها المتسطحون على الأحداث. ومتى تحقق المقتضى الإسلامي في الحكم، على أي شكل من أشكال السياسة، وعبر أي نظام متداول في المشهد القائم، تحقق معه: العدل، والمساواة، والحقوق، والمشاركة، والنهوض بمتطلبات العصر. فالإسلام كفل للإنسان على الأرض، وللطائر في السماء، وللسمك في الماء، ولكل أمة من الأمم التي لا يعلمها إلا الله حياة تناسب وجود أي كائن {وّمّا مٌن دّابَّةُ فٌي الأّرًضٌ وّلا طّائٌرُ يّطٌيرٍ بٌجّنّاحّيًهٌ إلاَّ أٍمّمِ أّمًثّالٍكٍم}. ومتى استدبرت أمة الإسلام مقتضياته، وركضت وراء بوارق الأنظمة القائمة في الشرق أو في الغرب، فوتت على نفسها فرصاً كثيرة. والإخفاقات التي تتعرض لها المؤسسات السياسية المنتمية للفكر السياسي الإسلامي عبر التاريخ إن هي إلا إخفاقات تطبيق، والعلاج لا يكون بنفي المبدأ، وإنما يكون بتمثله حقيقة لا ادعاء. ف«الديمقراطية» التي تشكل الأنموذج المعشوق شكل سياسي ناجح في الغرب، وهو المهيمن على كل التطلعات. ولقد هُدهِد العالم الثالث على سرابياته ولما تزل دعوى الكاذب، ومطلب المغلوب، وحجة الثائر، وكل الأطراف تعرف استحالة التمثل الكامل لها، لأن طبائع الشعوب وحضاراتها المتجذرة في الواقع وفي أعماق النفوس لا يتأتى في ظلها الإحلال البديل، ومن جهلها أو تجاهلها غرق في متاهاتها. وما من أمة إلا خلت فيها أشياؤها: الحسية والمعنوية، وتجذرت، حتى لايمكن القضاء عليها بسهولة، أو الاستغناء عنها بيسر. فالأمم والشعوب تقوم على مبادئ وأعراف وشرائع: وضعية أو سماوية، عرفية أو أبوية، {إنَّا وّجّدًنّا آبّاءّنّا عّلّى" أٍمَّةُ} هذه السوائد توارثوها جيلاً عن جيل، وأصبحت جزءاً من التاريخ ولبنة من بنائه. والصيرورة الكلية الفورية إلى أي نظام طارئ مهما كانت مشروعيته أو معقوليته من المستحيلات. فأين المبادئ والأحزاب والأنظمة المبتسرة التي أنفق الثوريون في سبيل تكريسها خبز الجائعين وألحفة المقرورين وأحذية الحافين، وروّي بدمائهم صعيدهم الطيب؟. إن هم الإصلاح الرفيق يختلف عن جناية الاستبدال المستشيط، والتجمد والنمطية والخوف من التحرف للأفضل مؤشر جهل بطبيعة الحياة المتجددة، وإعجاب بالرأي وبالذات. وواجب المنظرين والمنفذين ان يراعوا الأحوال، والإمكانيات، والسوائد، ورغبات الشعوب، بحيث لايكرهون الناس على أن يكونوا كما يريدون.. وأحد أنبياء (الديمقراطية) كما يسميه (أدوار بيرنز) (يذهب إلى أنها نظام في الحكم لا يصلح لجميع الشعوب). ذلك أن لكل أمة إرادة صائبة أو خاطئة، والبراعة في تصويب هذه الإرادة، دون إثارة. والشعوب الإسلامية كافة لا ترضى بالإسلام بديلاً، واستكانتها أمام المبدلين استكانة العاجز المتربص. ولهذا فكل انتخاب حر نزيه صحيح يفوز به الإسلاميون، حصل ذلك في (تركيا) وفي (الجزائر) وسيحصل في كل بلد إسلامي يمارس الانتخاب الحر النزيه. وإذا أخفق المشروع الإسلامي، فليست العلة في ذات المشروع ، ولكنها في الممارسة التطبيقية، وفي فعل الوصوليين الذين يخادعون الله، وهو خادعهم {وّيّمًكٍرٍونّ وّيّمًكٍرٍ اللّهٍ وّاللَّهٍ خّيًرٍ المّاكٌرٌينّ } . وكل دولة مستبدة تدعي أن نظامها الأفضل، وأن شعبها أسعد الشعوب، والدول النامية هي الأكثر ادعاء، والأكثر نقداً وتلاحياً فيما بينها، والأقل فعلاً وتفعيلاً لمؤسساتها الشكلية. والدول (الديمقراطية) حقاً، لاتتحدث عن ممارساتها التطبيقية، ولا تتقحم مآزق المفاضلة والتصدير، ولكنها تترجم مقتضيات النظام عملاً، يكفل للمواطن الاستقرار والثقة والاطمئنان والحياة الكريمة. و(الديمقراطية) التي يلوكها كل لسان، ويدعيها كل نظام، تختلف من خطاب لآخر، والناس معها مقل ومكثر، تكون إجراء صرفاً، وتكون إجراءً و(أيديولوجية). فهناك (ديمقراطية) شرقية، وأخرى غربية، وهناك أنظمة وأنماط رديفة للمفهوم (الديمقراطي)، تفرضها (أيديولوجيات) متفاوتة، قد تحد من الحرية المطلقة للأمة. وواجب النخب المتصدرة، ان تفرق بين المدلولات، ذلك أن الخلط بين المفاهيم مظنة التعثر. والخطاب السياسي، وبخاصة الشورى، لايميز، أو لايريد أن يميز بين مفهوم (الديمقراطية) و(الحرية). والعالم بأسره مر بنظريات سياسية، صلحت لمرحلة أو لأمة، ولكنها لم تكن صالحة في زمن آخر، ولا في مكان آخر، ولا لأمة أخرى، ونظرية الإحلال الفوري مغامرة محكومة بالفشل الذريع، والناس جميعهم عيال على المطارحات (الميكافيلية)، وان تسللوا لواذاً متقنعين ب(الديمقراطية) التي بلغت أوجها في القرن العشرين، وتناولها (بيرنز) في كتابه (النظريات السياسية في العالم المعاصر) من خلال فرضية سماها (أنبياء العهد الذهبي) واستهل حديثه بتأزيم المصطلح، فهو الأكثر غموضاً وإبهاماً، بحيث يستوعب جميع أنواع المعاني لدى الناس جميعاً، والمصطلح حينما لايكون جامعاً مانعاً، لايكون مصطلحاً. وحين تمر الدولة بحالة ضاغطة: داخلياً أو خارجياً، تعيد النظر في نظامها أو في تربيتها، وتحاول التحول من مفهوم لآخر، لتلافي مثل هذه الحالة، ولكن البعض لايعدو كلامه حد القول. والدول الثورية أكثر ادعاء، لأنها تبرر ثورتها بغياب (الديمقراطية) أو بخيانة الوطن، والقادمون أكثر تغيباً وأكثر خيانة. وحين يلوح أي نظام بالإصلاح، يدب ذوو البيات الشتوي من جحورهم، معلنين أو ملوحين، بما ينطوون عليه من رؤى وتصورات، فيكون العلماني الشمولي المتطرف، والعلماني التنظيمي المعتدل، والإسلامي الموغل بعنف أو برفق، والحزبي التنظيمي أو (الأيديولوجي) أو الأصولي المتعنت، وتلتطم الآراء، ثم يدب الخوف والخلاف، ويفضل العقلاء ما هم عليه، خوفاً على البلاد والعباد من لعبة قاصمة، أو مؤامرة قاضية. وكل من يدعي التغيير المطلق يفقد المصداقية، فالدساتير لايمكن ان تنكس رأساً على عقب، والإصلاح المرحلي المتدرج هو الحل الأمثل. والدول الحكيمة هي التي تتعامل مع شعوبها برفق، وهي التي تمشي الهوينا على طريق الإصلاح، شأنها شأن العلاج أو اللقاح الجديد، لايعمم إلا بعد تجربة جزئية محدودة، مصحوبة بمراقبة وحذر وتقويم. والعالم الثالث لما يزل يمر بحالة من التعدد والارتباك والتجريب، فهناك حكومة الحزب، وحكومة الطائفة، وحكومة العرق، وحكومة القطر، وقد يمتد اسم الدولة ليكون سطراً، بينما الحاكم بأمره كلمة ناقصة، وكل هذه الأشكال تقوم على فتن نائمة، واستكانة الشعوب استكانة المتحين، فأي ظرف استثنائي قد يفجر الواقع، ومن ثم تدخل الأمة في حرب أهلية دموية، تهدد الاستقرار والأمن، ومن لم يؤمن، فلينظر إلى من حوله من دول تلعب بها أعاصير الفتن، وتعصف بها الحزبيات والطائفيات والعرقيات، مهيئة الأجواء للمجاعة والخوف والأوبئة والتدخل الأجنبي بدعوى تحرير البلاد وإيقاف نزيفه. والمذكرات والاعترافات واللقاءات عبر الكتب والصحف والمحطات تكشف عن سيئات الحكومات المتعاقبة، ومن أصاخ إلى فلول الحكومات في المنافي والملاجئ يصاب بالغثيان، وبحمدالله أن نجا بدينه وعرضه ومثمنات بلده، ومثل هذه الحكومات: إما أن تكون (دكتاتورية) متحزبة، أو (دموية) متعلمنة، أو أنها تجمع بين السيئتين، أو أنها إسلامية الشعارات لا الشعائر، وقلما تكون (قوية عادلة). والقوة والعدل تكون في الغالب منتج السياسة (الثيوقراطية)، ومن ثم لا تتحققان في ظل التعددية: الطائفية أو الدينية. والمتابع لايقف على ضابط يقيس به ما يواجهه من خطابات، ذلك أن مسألة العالم الثالث مفتوحة على كل الاحتمالات، والأصوليون يقولون: (الاحتمال لايقوم به الاستدلال). ولقد تمر الدولة بحالة من الاستقرار، ثم تصاب بنكسة مدمرة، ثم لا يكون للحالين معيار دقيق. وكل الأنظمة التي تعيش على الصدف، ولا تعول على المؤسسات والثوابت، تكون عرضة للفراغ الدستوري القاتل، ولهذا يؤدي غياب الحاكم لأي سبب إلى فتنة عمياء. والإصلاح المتزن لا تأتي به طفرة هوجاء، ولا ثورة دموية عمياء، ولا يحققه الخروج على الحكومة الشرعية، ولا يجلبه التدخل الأجنبي، و(الديمقراطية) لا تصدر، ولا تفرض بقوة السلاح، إنها حضارة وفكر و(أيديولوجية) تكون في البدء بذرة، ثم تنشق عنها الأذهان، فتتفتق، ثم تصبح وارفة الظلال. وما لم تتهيأ الأمة لتقبلها، تتحول إلى فساد كبير. وما فوته الثوريون على أمتهم باسم (الديمقراطية) أو القومية أو الوحدة أو الحزبية لا يقدر بثمن. وكل دولة قائمة تستطيع أن تمارس الإصلاح المرحلي، وأن تتحول أشياؤها من النقص إلى التمام، وذلك فرض عين، وبخاصة من القادرين على استكمال ماينقص، والتحول المرحلي المؤسساتي هو الطريق القاصد، ولابد ان يسبق ذلك بالتوعية لا بالدعاية. فالتوعية مهمة، لأن الأمة الواعية لا تقع تحت طائلة التآمر والدسائس. والسمة النظامية ليست مهمة، ولا حتى الهيكلة والشكليات، وإنما المهم النتائج. وإشكالية الخطاب الثوري أنه ظل واقفاً عند السمة، فهو مثلاً ضد (النظام الملكي)، لمجرد أنه مغاير للسمة (الجمهورية)، وكلا النظامين بوصفهما سمة لا قيمة لهما، القيمة في الأداء والممارسة والنتائج. و(الديمقراطية) دعوى الخطاب الثوري الإعلامي، يتغنى بها، ولكنه لايحقق أدناها، فكأنه خطاب شعري، يقول ما لا يفعل، ولا يلحق به إلا الغوات من الغوغاء، ولما يزل الخطاب في تقلب مستمر، فيما لم تتم المكاشفة والمراجعة، فالذين يدعون (الديمقراطية) ماذا حققوا من مقتضياتها؟ والذين ينقمون على سائر الأنظمة، بماذا يدلون؟. والمد الثوري جعل شيطانه الأكبر منبع (الديمقراطية) الحقة، مع تغنيه بها. والقادمون بها على مطايا الفرقاطات والراجمات، لو مكنوا الشعوب منها، وأخضعوا الحكام لها، لكانوا أولى قرابينها. إن الأمة مغلوبة على فكرها قبل أن تكون مغلوبة على أمرها، وغلبة الفكر أن تظل في الوهم، وأن تظل النخب في انتظار القادم، لتقول مايقول، وكأنه (حذام). وإشكالية المبادئ والمشاريع تعدد الأقنعة ووحدة الوجوه. والرصد التاريخي للخطاب (الديمقراطي)، يحيل إلى مفاهيم جديدة، تخطت ربط مصدرية السلطات بالشعب إلى أشياء أخرى، كالمساواة والحرية، علماً بأن مثل ذلك من طرائق الحياة (الديمقراطية) أو قل من نتائجها، فالرجوع إلى الشعب يعني التوفر على الحرية والمساواة. وأياً ما كان الأمر فإن العالم العربي يعيش حالة من الارتباك والتردد والتناقض، والبوادر لاتبشر بخير، ولاسيما أنه مغلوب على أمره، محكوم بحاجته التي لم يستطع التوفر عليها أو الاستغناء عنها، ومع كل هذه التحذيرات فإنني لست متشائماً، ولست متحفظاً على أي محاولة تجديدية، ولست مشيداً بأي ممارسة، ما لم ألمس نتائجها ماثلة في الطبيعة، ولست متمسكاً بالسوائد ولا مؤمناً بمقولة: (ماترك الأول للآخر شيئاً). |
الإصلاح السياسي بين (الديمقراطي).. و(الثيوقراطي)..! 2/3
د. حسن بن فهد الهويمل والسواد الأعظم، المتهافت على المصطلحات، دون فهم دقيق لجذورها الفلسفية، ودون تحفظ على حواضنها الفكرية، يمنون بالفشل الذريع. والغرباء الأقل عدداً، والأخفت صوتاً، يأخذون حذرهم، فيفرقون بين المفاهيم والمرجعيات والمبادئ والإجراءات، ويضبطون إيقاع التحولات والتناقضات، وإن اتحدت المسميات. ف(الديمقراطية) الغربية تختلف عن (الديمقراطية) الشرقية. و(ديمقراطية) الإجراء تختلف عن (ديمقراطية) المبدأ. والمغرمون بتداولهم لها يعرضون مبادئهم للمداهنة، والمناوئون يغرقون في المجادلة في غياب البصيرة، معرضين أنفسهم للتجهيل وفقد المصداقية. ولو أن الأطراف وعت المصطلحات حق وعيها، لاتخذت منها مواقف مدعومة بالمعرفة ومحكومة بالقسطاس المستقيم. و(المتأدلجون) مع المبادئ والمذاهب غير المتفاعلين معها دونما صيرورة عقدية، والأدعياء غير الأولياء، والقابلية غير المغالبة. والمتهافتون لا يكتفون بمشاركة الأمة في صياغة الدستور، بل يؤكدون على أن الشعب مصدر السلطات: التشريعية والتنفيذية، والموائمون منهم يقولون: - «إن صوت الشعب هو صوت الله). والمحاورون يدخلون في لجج من الرؤى والتصورات، ولما يُعدوا للجدل عدته، وتلك سجية يمنى بها المهتاجون العزل. ولأن (الديمقراطية) حمالة أوجه، فقد تتسع للشيء ونقيضه، فالاشتراكيون يرون التماس الحكومي مع كثير من أحوال الشعوب جزءاً من (الديمقراطية)، فيما لا يراه الغربيون الذين يعتمدون الاقتصاد الحر، وما ظاهرة الخصخصة للشركات والمؤسسات إلا سبيل من سبل العولمة الناسلة من عباءة (الديمقراطية)، فهي تحجيم لسلطة الدولة بمفهومها القديم، وبداية لعزلها عن التدخل المباشر والشامل. ومع هذه التجربة، نجد أن (العمالة) تطالب بعودة الحكومة إلى الساحة، لتفك الاشتباك بينها وبين رأس المال المستأثر بالفائدة. فالحكومة مع كل التحولات ضرورية، وضبط سلطتها ضروري أيضاً، والغوغاء المنتخبون يعانقون الرافضين للسلطة، ويحسبون أنها تغيب مع قيام (الديمقراطية) ولما يعرفوا أنها لون من ألوان السلطة، وأن الحرية المنضبطة لا يحققها إلا القوة والعدل. و(الديمقراطية) بوصفها غربية الممارسة، (يونانية) الانتماء، وضعية الاعتقاد، أخذها الشيوعيون بمفهوم آخر، بحيث أطلقوا عليها (الديمقراطيات الشعبية) وقيادة الحزب الشيوعي لسياسة الدولة يعني إجهاض المدلول الغربي. وقد أخذت بعض دول العالم الثالث المنتمية للكتلة الشرقية بهذا المفهوم (الدكتاتوري) الاستبدادي التسلطي، المعتمد على العنف والدموية، ولهذا لم يكتب للشيوعية البقاء، وكل نظام يتخذ الظلم والتسلط شرعة ومنهاجاً مآله إلى الانهيار. وقد جاء في القرآن {وّمّا كّانّ رّبٍَكّ لٌيٍهًلٌكّ القٍرّى" بٌظٍلًمُ وّأّهًلٍهّا مٍصًلٌحٍونّ}، ولم يقل «صالحون»، ومعنى هذا: أن الله لا يهلك القرية المشركة، وأهلها يتعاطون الحق فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم، وهو ظلم، ظلماً آخر. والذين اتخذوا الماركسية من دول العالم الثالث أوغلوا في الدموية، ومن أراد الاطمئنان، فليستعد التاريخ الحديث، وبخاصة ما يتعلق بالصدامات الحزبية في (عدن) قبل الوحدة، وفي (العراق) إبان الوجبة الأولى من الثورات مستعرضاً إجابات (إبراهيم الداود) جريدة (الحياة من 9 إلى 12/1424هـ). لقد أضاف الشيوعيون العرب أسلوباً همجياً وروحاً تدميرية، فكان ان استحقوا عذاب الله، وأخذه العزيز المقتدر، إذ لم يكونوا صالحين ولا مصلحين. ومن نشد الإصلاح والأخذ بمعطيات الحضارة، فليس هناك ما يمنع من المواءمة، وبخاصة من جانب المستفيد، إذ من الممكن تحويل (الديمقراطية) من (الأدلجة) إلى الإجرائية، وليس شرطاً الأخذ بها على أنها (ايديولوجية) ذلك أن سيادة القانون، وقيم الحرية والعدالة معطيات متعددة المرجعيات، فالفكر السياسي الإسلامي يتسع لما تتسع له (الديمقراطية)، ومن الممكن الاستفادة من إجراءاتها وتنظيمات ذويها. وكل مذهبية أو حزبية أو طائفية أو عرقية تتعصب لواحدية الانتماء تقضي على وجودها الحسي والمعنوي، والقول بمحورية واحدة مع تعددية المتمحورين رؤية مفتوحة، تحتاج إلى ضابط، تتحدد معه المرجعية والهوية والانتماء. وفقاعة (الديمقراطية) تعشي (زرقاء اليمامة)، ففي كتاب (من فقة الدولة في الإسلام) (للقرضاوي) إيماءة عازمة لمشروعية الاقتباس من (الديمقراطية): - (لتحقيق العدل والشورى، واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض) - على حد قوله -. وما أشار إليه من عدل وشورى واحترام لحقوق الإنسان إنما هو بعض مضامين الفكر السياسي الإسلامي، والأخذ بشيء من ذلك أخذ من مقاصد الإسلام، وليس أخذاً من (الديمقراطية)، فحد (الديمقراطية) أن يكون الشعب مصدر التشريعات والسلطات، فيما هو في الإسلام منفذ السلطات، وعليه اختيار الطرق والوسائل والنظم الملائمة للمرحلة المعاشة، وكنت أود لو أنه - وهو العالم الضليع - قال بالاستفادة من التنظيمات والتشكيلات والإجراءات الحديثة. فالعدل مطلب إسلامي، ولكن كيف يتحقق، ما الإجراءات السديدة التي يتحقق بها العدل، فالتنظيمات والإجراءات هي مكمن الاختلاف المشروع لا الخلاف المحظور. فمن الأنظمة من تحققه بطريقة بطيئة مكلفة، ومنها من تحققه بأسلوب سريع وغير مكلف، وكلما جدت طرق وأساليب، وجب الأخذ بأحسنها، وأيسرها على الأمة، لأنها ضالة المؤمن، وما لا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب، ويقال مثل ذلك فيما يتعلق (بحقوق الإنسان) القائمة على (المساواة) و(الحق) و(الحرية) ولكلَّ محورٍ مجالاته. واللغط حول الحقوق كثيرة. والإسلام ضمن الحقوق للإنسان والحيوان وخشاش الأرض، وهل من رحمة تعدل مثوبة (مومس) سقت (كلباً)، وتعذيب امرأة حبست (هرة)، والحقوق كما يراها الغرب، تختلف عنها في الإسلام، وليس من الممكن مسايرة الخطاب الغربي، ذلك أن للمسلمين حضارتهم، وللغرب حضارته، وإذا قلنا بالإسلام، وجب أن يكون خطابنا إسلامياً. لقد ساد القول بالحق منذ التصورات الذهنية (للقانون الطبيعي) قبل الميلاد، حتى (توماس الأكويني ت 1274)، على أن الفكرة لم يسلّم لها الكافة، بل هوجمت من قبل (فقهاء الألمان) وجاء من بعدها مصطلح (مبادئ العدالة). ف(العقد الاجتماعي) وانتهاء ب(حقوق الإنسان) المعلن عن 1948م، متضمناً: (المساواة) بمجالاتها الستة، و(حقوق الذات)، و(الحياة)، و(الحريات): - حرية التفكير، والضمير، والدين، والرأي، والتعبير، والسياسة. والذين قالوا بالحق الفردي، نسوا أو تناسوا حق الشعوب في تقرير المصير، وحقها في ثرواتها ومواردها، وحقها الثقافي والاجتماعي، وهي حقوق معطلة من قبل حماة الحقوق على حد: - (وقتل شعب آمن قضية فيها نظر). والإسلام الذي حدد الحقوق والواجبات، ترك أسلوب توفيرها لأهل الحل والعقد، فقد تكون عن طريق المؤسسات الرسمية، أو عن طريق المنظمات الشعبية، المهم أن يتوفر الإنسان على حقوقه المشروعة، وهنا نعود إلى مصدرية الحق: أهو الوحي أم العقل، أم الإرث أم العرف، أم هي معاً؟. وما لا شك فيه أن (الديمقراطية) معطى عقلي، اكتسب مشروعيته من العقل المستبد، وكل الحضارات الوضعية وغيرها تتوخى الأفضل، وتستثمر ما سلف من حضارات، ويبقى الإسلام من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. ومع أنه من عند الله، فقد تقاطع مع كل الحضارات، والتقى معها في كثير من مبادئها. وإذ تكون هناك مساحات مشتركة، فإن من الحصافة أن يستغلها الخطاب الإسلامي، لتهدئة الأمور، والجنوح إلى السلام. والعقلانية المستبدة كغيرها من مصادر التشريعات الوضعية، ليست بريئة في منجزها، إذ هي محصلة تراكمات حضارية، لهذا كان بالإمكان أسلمة العقلانية، والأسلمة تعني الرد إلى الله والرسول، وربط كل المكتسب التجريبي والتنظيمي بالمقتضى الإسلامي، وليس هناك ما يمنع من الاستعانة ب(العقل) و(الإرث) و(العرف)، متى لم يخالف شيء منها (نصاً) قطعي الدلالة والثبوت. ولقد ذهب البعض إلى أنه لا معنى (للديمقراطية) ولا (للعلمانية) في ظل الإسلام، إذ هما مطلوبتان في ظل حضارات تفتقر لمثليهما. فالعلمانية تخليص من سلطة (الكنيسة) المتجمدة وتسلط (الكهنوتية) المستغلة، وليس في الإسلام سلطة كنسية ولا كهنوتية متسلطة، ذلك أن نظامه السياسي شوري اجتهادي وتطوري مرن، يحيل إلى العقل والتفكير، والبر ما اطمأنت إليه النفس، وحديث (استفت قلبك) تفويض مضبوط بالمقاصد، والكليات الإسلامية. والذين نفوا وجود نظام سياسي إسلامي صالح، لم يكن لديهم استعداد للقراءة البريئة والتأمل العميق، كما لم يفهموا بعد مقتضيات ذلك الفكر ومقاصده، وتصوراتهم الخاطئة أردتهم. نجد ذلك عند (علي عبدالرازق) وعند سائر العلمانيين والماركسيين من بعده، وبخاصة (محمد سعيد العشماوي) الذي أوغل في الطعن في الخلافة والحكومة والحكم والتشريع الإسلامي، وتصور الحكومة الدينية كما يتصورها الغرب. وفي ذلك مسايرة غبية للغربيين المنكرين لفكرة وجود مبادئ للدولة في الإسلام، و نصوص الشريعة متضمنة لمبادئ السياسة وقواعد العلاقات التي لها أبعادها العالمية والإنسانية وضوابطها للعلاقات الدولية في حالة السلم والحرب. على أن طائفة من المستشرقين أشادوا بالقيم السياسية في الإسلام من مثل (شاخت) و(نللينو) و(ستروتمان) و(ماكدنونالد) و(جب) وغير أولئك كثير. ومن مختلف التصورات فإن الإسلام يركز على النتائج، تاركاً الأساليب للظروف، ومن ثم فإن تحكيم الشرع، وإظهار الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنهوض بأمر الدعوة، تمثل مقتضيات الفكر السياسي الإسلامي. وكيف لا تكون في الإسلام مبادئ سياسية، والله أنزل الكتاب بالحق والميزان، ليقوم الناس بالقسط، و(صحيفة المدينة) إن لم تثبت سنداً فقد ثبتت متنا، وبهذا تعد منتجاً مبكراً للوثائق والدساتير. و(الثيوقراطية) مصطلح سياسي، يجري عليه من الاختلاف وتباين وجهات النظر ما يجري على مصطلح (الديمقراطية). وبالجملة فإن مقتضياته تتأدى على أساس عقدي ديني، وإذ تستمد (الديمقراطية) سلطتها من الرؤية والتصور الشعبي، فإن (الثيوقراطية) تستمد سلطتها من الدين، وكل متحدث عن هذا المصطلح يربطه بمصطلحات أخرى ك(الحق الإلهي) و(ولاية الفقيه) و(الحكومة الدينية) على مختلف تصوراتها، وإذ تدخل هذه المفاهيم في المصطلح أو لا تدخل، فإنه لا يُلزم بها الفكر السياسي الإسلامي، فالحكومة الدينية أو المدنية يحتويها الإسلام، ولا تحتويه، وتعرف به، ولا يعرف بها، وإخفاق التطبيق لا يتحمله المبدأ. إذاً هناك معادلة ثنائية: (الديمقراطية) تعتبر الشعب مصدر: التشريع والسلطة. (الثيوقراطية) تعتبر الله مصدر التشريع، والشعب مصدر السلطة. والإشكالية في فهم المقتضيات، وصياغة المفردات والحقوق والواجبات. والمقولات بأن (الحاكم بمثابة ظل الله على الأرض) أو مقولة ب(أنه مفوض من السماء) أو أنه (يستمد مقوماته من المشيئة الإلهية) مقولات فيها تعميم. وهي إطلاقات المعادل المناوئ. وحتى القول بمطلقية (الحق الشعبي) أو (الحق الإلهي) في الممارسات التطبيقية للمصطلحين المتناقضين قول فيه أقوال. وعلينا قبل الدخول في المعادل الإشارة إلى أن الإسلام ليس ديناً شعائرياً (ميتا فيزيقياً) فحسب، الإسلام دين ودولة، شرعة ومنهاج، علاقة بين الخالق والمخلوق، وبين المخلوق والمخلوق بكل أنواعه، حتى بين البهيمة الجماء وذات القرون. وبهذه الدقة والشمولية والرأفة والثبات يختلف الإسلام عن الديانات المحرفة. وإذا أخفقت (الكنيسة) في إفراز نظام سياسي، فإن الإسلام قادر على طرح مشروعه السياسي المستوعب لكل متطلبات إنسان العصر (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، والأصوليون يختلفون في مفهوم عدم التفريط، و(للشاطبي) رأي وسط في (موافقاته). والمصداقية تقتضي أن نقول: إن هناك أشكالاً وأنظمة في الحكم الوضعي عادلة وناجحة، ولكن ذويها لا يرجون من الله ما يرجوه المسلمون عند إقامة العدل، وتحقيق النجاح واستعمار الأرض، والإحسان إلى الناس كافة. وبعض المسلمين بالاسم نفوا إسلامهم، وابتغوا حكم الجاهلية ادعاءً لا امتثالاً {وّمّنً أّحًسّنٍ مٌنّ اللّهٌ حٍكًمْا}. وهذا التذبذب بين الإسلامية و(الديمقراطية) التبست معه الأمور، وأخفقت فيه النتائج، فإذا وصف (الديمقراطية) حاكم مثل (ابراهام لنكولن) وقال: - (بأنها حكم الشعب بالشعب وللشعب) فإن مقولته هذه صادقة، لأن (الديمقراطية) عنده تمثل مقاصدها المكتوبة، وليس هناك رئيس يستطيع أن يحرف شيئاً من ذلك، ولا أن يتعالى فوق القانون، ولكن إذا قالها (ثوري عربي) فإن في المسألة أكثر من نظر. إذاً هناك كلمات تطلق هنا وهناك، فتكون في مكان حرية نابضة، وفي آخر شكلية فارغة. ومما لا مراء فيه أن المشهد الفكري العربي يمر بحالة من الاضطراب المخل بأهلية التصدي للمتداول: تنظيراً أو ممارسةً، رؤيةً أو واقعاً. وكل المحاولات التوفيقية أو التلفيقية أو الإحلالية فشلت في إيقاف هذا التدهور والإبقاء على ثمالة الوفاق، إن كان ثمة رسيس يبل الصدى. والذي أسهم في تعميق الترديات صراع الانتماءات الشكلية، بل صراع الذات مع نفسها. فهناك: القومي، والبعثي، والعلماني، والشيوعي، والناصري، والإخواني، والقطري، والقبلي، والطائفي، وكل خطاب يكيد للآخر، ويتربص به الدوائر، وهذه الصراعات المستحرة تغذيها قوى خارجية، وليست في جملتها منتجاً وطنياً، بحيث يمكن التوفيق بين وجهات النظر. لقد كان الصراع في الخمسينيات والستينيات وشطر من السبعينيات ثنائياً: - يسارياً أو يمينياً. وكل خطاب يتوسل بالقومية، بوصفها القاسم المشترك، وبعد تراجع اليسار وانهيار القومية، صعد خطاب إسلامي متعدد المفاهيم والتصورات والحدِّيات، وأحسبه الخطاب الأكثر تعميقاً للصراع، لأنه الخصم التاريخي المتحفظ على كل الخطابات، والمتحفظ عليه من كل الخطابات، ولهذا لا يجوز أن يكون مشاعاً ولا مستباحاً لكل من قدر على القول، أو رغب في الانتهاز، ولكي يطرح المشروع الإسلامي نفسه كما أراده الله، فلا بد من الدخول في المؤسسات كافة، والخروج بخطاب موحد، يصالح ولا يصادم، ويبادل ولا ينابذ، ويفرق بين اختلاف الاجتهاد وخلاف المبادئ والمرجعيات. |
رائع أخي عباس
إنك كبير ،،، حين أطلعتنا على قدر الكبار |
. . . ما أطول نَفَسَكَ يا عباس ..! ماشاء الله .. نِعْمَ الناقل ونِعْمَ المنقول .. . . . :) |
بارك الله فيك على هذا المرجع العظيم .. الذي سيستفيد منه الجميع بإذن الله ونعم بالجميع الناقل والمنقول عنه |
العصفور الأنيق ،،، التويجري ،،، عمر الصمعاني
أشكركم على هذا الكرم |
أيها العرب: إن لم تتحدوا فتعاونوا وإلا فتعاذروا..!!
د. حسن بن فهد الهويمل ما من زعيم أوحد، ينتزع الحكم من سلفه على صهوة دبابة أو على متن طائرة، إلا ويقدم مشروعه الأشمل والأكمل، قائماً بالقسط، مشتملا على الوحدة والحرية والقومية و(الديموقراطية)، مع وقف التنفيذ، لتظل الوعود مشروعا يرقب ثائراً جديدا. وكلما دخل زعيم قصر الرئاسة، أنحى باللائمة على سلفه، ومع أن بعض الثوريين توفروا على فسحة من الوقت، وكثير من الإمكانيات، وطوفان من الجماهيرية، إلا أن إثمهم أكبر من نفعهم، كما الخمر والميسر، ومن شذ كرَّس القاعدة. ومدار حديثنا على النتائج، لا على الأفراد، ومن ساءه قولنا، فليستفت عمله. ومن نظر بعين الناقد الناصح، أو الشامت الفاضح، أيقن أن الأجواء العربية متخمة بالخطابات العاطفية، والمجاملات الرسمية، المستهلة بكلمة (الأشقاء) و(الشقيقة) وما زادتنا المداراة والمداهنات في كل سنواتنا العجاف إلا خسارا، ولقدسمعنا من (عراقيِّي) الشتات والأرض المحروقة من ينحي باللائمة على الصمت المريب، أو المجاملة الخائفة، لحاكم استذل العباد، أو لتحالف احتل البلاد. والواقع العربي المعاش خير شاهد على الخسران المبين، وعندما لا تكون المصائر بصائر، تتردى الأمة في مهاوي الهلكة. والمشهد السياسي العربي إذا خلا له الجو، علا هديره الفارغ، وإذا سمع هيعة تحول هديره إلى رغاء، وهكذا دنيا العروبة زئير ومواء. وصخب خطاباته الفكرية والحزبية والطائفية والإقليمية طابعها الزيف، وسمتها التمويه، ونتائجها التناحر والتدابر، لأنها تجنح إلى ما يكرس الفرقة، ويغذي الخوف، ويبعث الارتياب. و(الحقائق) حسرات في أعماق الشعوب، و(الفرائض) مقموعة بسياط التسلط. وما لم تلتق الأطراف بعد كل هذه المحن والإحن على (البساط الأحمدي) لمواجهة الذات بكل هناتها فإن قضايا الأمة ستظل معلقة، لا مضمومة ولا مطلقة. وحاجتها اليوم ليست في تفتيش الدفاتر القديمة، ولا في تجريم المراحل الذاهبة في الغابرين، حاجتها في أن تعترف بكذب وعودها، وخسارة رهاناتها، وفشل تجاربها، وفي تقبل هزائمها بروح عالية، وتفكير سليم، وتقدير دقيق، وفي بدء حياتها من درجة الصفر، نافية ملفاتها الماضية بكل وضرها إلى غير رجعة، مستحدثة ملفات جديدة. والنحيب على البلوى لا يرد قضاء، ولا يشفي غليلا، وما دامت أمام قادة الأمة فرص ممكنة، فإنه لا يليق بها أن تمشي مكبة على وجهها. وأجزم أن بإمكان الناصحين أن يبادروا إلى العمل النصوح، وأراهن على أن الخيرية في هذه الأمة قائمة إلى قيام الساعة، وأنها بانتظار من يملك تلقي الراية باليمين ليتخطى بأمته سوياً على صراط مستقيم. والبداية الصحيحة صعبة المراس، ولكنها ضرورية، وإذا لم نخط الخطوة الأولى على الطريق القاصد، بطا بنا التخويف، ولم يسرع بنا التسويف. وإذا لم نستشر، ونستخر، ثم نعزم ونتوكل تدخلَّ القويُّ: عدةً وعتاداً، لترتيب بيتنا العربي على عينه. وبعض القادة الناصحين يدركون أن (البيت العربي) مبعثر الأثاث. وانتظار الخوارق لترتيبه دروشة واتكالية، وترتيب الغير له بالوصاية سبة ومذلة. وقبول التشتت، ومزيد العبث، والقابلية للَّعب السياسية، تغري القوى المتغطرسة التي تدعي الضرر وحق التدخل بدعوى تحرير الشعوب من أبنائها بتنفيذ ما تريد، وما هي إلا صانعة اللعب المدمرة واللعب المضادة. ولقد بدت سابقة التدخل العسكري، ولم تزل في الجعبة بقايا للضربات الاستباقية أو الوقائية، لمن لا يملكون كشف الضر عن أنفسهم ولا تحويلا. والمؤكد أن استفحال التدهور لا يصيب الذين وقعوا فيه خاصة، فالعالم اليوم متداخل، كما أهل قرية خائفة مضطربة، تهوي عليها مصائبها من كل مكان. والنمو الاقتصادي الذي تتطلع إليه دول العالم، يتطلب أوضاعاً مستقرة، توفر الأجواء الملائمة للعمل والإنتاج، وعودة الأدمغة المهاجرة ورؤوس الأموال المتسربة. والانتعاش في أي بلد يمتد أثره كالرياح اللواقح، كما أن الانكماش يعصف كالريح العقيم، بحيث تطال الظاعن والمقيم. والعالم اليوم يشكل شبكة عنكبوتية معقدة، سريعة الاستجابة والتداعي. ولقد كنا منذ الخمسينيات نعيش تحت وابل الخطابات الوحدوية والقومية و(الديموقراطية) والحزبية، نخوِّن بعضنا، ونعد بتصدير المبادئ الثورية، المحبرة على الأوراق، مما دفع البعض إلى الاحتماء بالأقوياء. ولما تتقدم الأمة المأزومة خطوة واحدة من فيوض الكلام إلى شواهد العمل. وإذا كان الوضع العربي على مختلف الصعد يؤكد أننا نقول بألسنتنا ما ليس في قلوبنا، فإن بوادر الخلاص تبدأ من الشفافية، والمكاشفة، والتنادي إلى كلمة سواء. أو التعاذر، والتبصر بالذوات، والارتداد إلى الدواخل، للعمل الجاد، وصناعة الإنسان، وإصلاح ما أفسده الأقربون. فهذا أو ذاك بعض الإرهاصات المناسبة للوحدة، أو لما دونها من التعاون على البر والتقوى. ومما لا شك فيه أن هاجس الإنسان العربي يتمثل في وحدة تقوي جانبها، أو في تعاون ينمي اقتصاده، أو في تعاذر يصرفه لمصالحه. والوحدة لا تتم بين عشية وضحاها، إنها عمل إصلاحي، لابد له من تضحيات وضحايا، وتنازل وإيثار، وعمل رفيق لمعالجة الواقع، ومواجهة النوازل، واستلال المعوقات، كما تسل الشعرة من العجين، وبخاصة في بداية العمل التقاربي الصادق. وكل ذلك أو بعضه لن يتأتى عن طريق الشعارات الزائفة، والهتافات الفارغة، والمظاهرات الهوجاء، أو الخروج على الشرعية، ومنازعة السلطة، والتناجي بالإثم والعدوان في الأقبية والكهوف، أو التطرف في القول، والإرهاب في العمل، والغلو في الاعتقاد. والأمة المتخمة بالمعوقات المفتعلة بحاجة إلى مؤسسات مدعومة بالأهلية والكفاءة والإمكانيات والصلاحيات، لتعالج الأمور بهدوء وطمأنينة، وطول نفس، وبعد نظر، تدبر وتقدر، وتوقت وترتب، لا تتملق الرأي العام، ولا تغرر به، ولا تزكي نفسها، ولا تسمو فوق المساءلة والمحاسبة والنقد. وكل عمل مصيري بحاجة إلى مطابخ هادئة، ذات دربة ودراية، تنضج المشروع ببطء، وتأخذه بحلول مرحلية لا فورية، وبقرارات ذاتية لا شرقية ولا غربية، تناسب الوضع القائم، وتلائم الإمكانيات المتاحة. ولما لم تكن هناك أجواء ملائمة، كان لابد من التنقيب عن مال وتمويل، وخبرات ومواهب، وإمكانيات وقدرات، وعلم وطاقات، لتكون أرضية الانطلاق صلبة. وكل من ركن إلى الخطابات المثالية والدعاوى والوعود المستحيلة، حرم أمته من اللحاق بركب الحضارة. والمشاهد السياسية بوصفها البوابة الأولي لأي عمل مشترك تنقصها المصداقية، وتعوزها العزمات فالإنسان العربي عاش خيبات الأمل، وتجرع مرارات الفشل، في كافة تجارب التقارب، وفي كل المواجهات الحضارية، وشهد زيف المشاريع، ونكسات الحروب، وتصور حملة الكتاب الذين لم يحملوه: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ومن الصعب والحالة تلك إقناعه بقبول الوعود أو التطلعات. وحين لا يطمئن، لا يزيد أمته إلا خبالا، تاركاً أثر سلبيته على الجبهة الداخلية، وحاجته في ظل هذه الأجواء النفسية السيئة إلى الوعود المتواضعة الممكنة، ليتحول من شكوكي رافض إلى مطمئن واثق. والوحدة الشاملة أو الجزئية التي تحلم بها الأجيال، لن تتحقق في ظل الأوضاع القائمة، فالاحلاف العربية مختلفة، والمصالح متعارضة، لانتماءات ولهويات متعددة، وأنماط الحياة متفاوتة، والمستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية متباينة، والدساتير والأنظمة والقوانين متنوعة المرجعية، ومناهج التعليم ومواده متناقضة، والحدود مصنمة، والشخصيات مقدسة، والأفعال مزكاة، ولما يلح في الأفق أي تصرف صادق للوحدة، على الرغم من وجود المقومات اللغوية والعقدية والحضارية والإقليمية والتاريخية. والخطاب الإعلامي بوصفه الوسيط والشارح والمقنع استهلك أقنعته، وانتهت صلاحيته، ولم يعد المصدر الأهم للمعلومة، ولا المؤثر الرئيس في تشكيل الذهنية، وتهيئتها لقبول التغيير، ولهذا فإن استمراره يشكل مزيدا من الأعباء والفرقة، وكان بالإمكان تحويل مؤسساته القائمة إلى القطاع الخاص، ليأخذ موقعه مع سائر القنوات والمؤسسات الوطنية، متخلصا من التزامات الدولة ومداراتها. ذلك أن الإعلام المخصخص يملك مساحة من الحرية، تمكنه من تناول القضايا عبر هوامش واسعة، لا تؤثر عليها التزامات الدولة ولا عهودها ولا صداقاتها ولا مصالحها القطرية. وإذا كان للدولة رأي أو تصور فإن بإمكانها أن تبديه في ساعة من نهار البث. وتفكير الدولة بتحويل قنوات الإعلام إلى مؤسسات مستقلة خطوة موفقة، فالدول المؤسساتية الدستورية بحاجة إلى لسان الحال لا إلى لسان المقال. والدولة التي تهفو إليها أفئدة الملايين من واجبها أن تغض الطرف، كلما بدت لها سوآت الآخرين، وأن تمر باللغو مر الكرام. وبصرف النظر عن الإعلام الرسمي، وكونه عقبة في طريق الوحدة المرتقبة، فإن ثمة أنكر الأصوات صوت (القنوات الفضائية)، التي دخلت الحرب الباردة بألسنة حداد، وببائعين للقدرات البلاغية والإمكانيات الإعلامية الجذابة، وهي بجناياتها أو بجنايات بعضها تفسد في ساعة ما يفسده الإعلام الرسمي في سنة، وتلك نوابت سوء، امتدت ريحها العقيم إلى الشعوب، بحيث أصبح التلاحي بين أفراد الأمة، لا بين كياناتها السياسية. لقد اقترف الموغرون للصدور خطيئة التنقيب في الخلفيات التاريخية، بين المذاهب والمعتقدات والعرقيات، ومشاكل الحدود والأقليات، والسعي الدؤوب لإيقاظ الفتن النائمة، وممارسة صراع الديكة، بين فضوليين أضوائيين، تفلتت سرابيات الادعاء من بين أيديهم، فانطلقوا لا يتخافتون، وإنما يجاهرون بالعداوة والبغضاء، لإذكاء الضغائن، ونبش الدفائن، وذلك لا يعوق مشروع الوحدة وحسب، وإنما ينسف الجسور، ويوسع الفجوات، ويعمق الخلافات، ويحفز على المواجهات، وأرجو أن تكون الفضائيات موجات تلهث وراءها موجات، لتتلاشى دون سواحل التقارب وشطآن التعاذر، وما ذلك على الله بعزيز. ولأن الوحدة تتطلب أجواء ملائمة من الوفاق والتسامح وتناسي ما فات من ويلات وإساءات، وتقتضي تنازلات تطال السياسة والساسة والوطن والمواطن وسائر وجوه الحياة فإنه من المستحيل أن تتحقق في ظل إحياء النعرات الطائفية والقطرية والحزبية والقبلية و(الإثنية)، وتغني كل قطر بليلاه، ومن المتعذر أن يتحمل المواطن قسطا من متطلباتها، ثم لا يراها ماثلة للعيان، مؤدية إلى القوة والتلاحم، مقيلة لعثرة الأمة، صادة عنها عوادي الزمن. ومن تصورها سهلة انسيابية دون أي معارضة من الداخل أو عقبات من الخارج فقد وهم، فالوحدة لا تتحقق إلا بالقضاء على مسلمات وسوائد وقناعات يحسبها الدهماء من الثوابت. وكل إصلاح تمارسه أي سلطة، لابد أن يطال مصالح من الصعب التخلي عنها، وأن يمس مصلحيين من الصعب تنازلهم عن غلولهم. والوحدة كما الإيمان: قول وعمل واعتقاد، لها بوادرها وإرهاصاتها، التي لم تكن بعد، إذ لم نزل في لغو الأحلاف، ولما نعقِّد الأيمان عليها. وإذا كان التنازع قائما داخل القطر الواحد، وإذا كانت حصون (الوحدة الوطنية) مهددة من الداخل، فكيف نتطلع إلى وحدة عربية؟ إن على القادة أن يعملوا على التجانس والتعايش والتسامح بين فئات الشعب الواحد، فالاستقرار الداخلي أهم مقومات الوحدة العربية، والتركيبات السكانية عبوات ناسفة، ما لم تستل فتائلها بالتكافؤ والتعاذر. والكلام الإعلامي العاطفي الاستهلاكي انتهى دوره، ولم يعد مناسبا للمرحلة المثخنة، ولا للواقع المرير. الوحدة حلم، والتعاون مطلب، والتعاذر أضعف الإيمان، ولن يتحقق شيء من ذلك إلا بالتنازلات، والشروع بالفعل، وبث الطمأنينة في أجواء المتحفظين والمتربصين والمتخوفين، فالدول الكبرى ذات المصالح تعرف جيداً أنها لن تسود إلا بالتفريق، ولن تستأثر بالأنفال وحدها إذا كانت الكلمة للشعوب القوية المعتصمة بحبل الله جميعاً، ولأن دول الاستكبار والاستعمار جشعة واستغلالية، فإنها لن تقبل المشاركة، ولن ترضى باقتسام الغنائم. والوحدة والحرية لن تتحققا في ظل التسلط الأجنبي والتطبيع الصهيوني، وإن وعد المحتل بهما، وشرعن لتدخله من أجلهما، وإذا استطعنا ان نقنع المتحفظين، ونواجه المتربصين، ونطمئن الخائفين، فذلك خير، واحسن قيلا، وإلا فلا أقل من أن نعمل على تحييد من لا نقدر على مغالبته، وذلك بزرع الطمأنينة في نفسه، وعدم المساس بمصالحه، والكف عن سبه أو منازعته، ولقد نهينا عن سيء القول، وسب الذين يدعون من دون الله، فضلا عن مطاردته، وضرب مصالحه. وإذا كانت هناك عهود أو عقود، مضت بها رغبات القادة في أزمنة الوفاق، فمن الممكن العمل في المساحات المشتركة، واهتبال الفرص المتاحة، حتى تبلغ العقود محلها، وإدارة الأزمات لا تكون بالعنتريات. والأمة العربية محمية بإسلامها، موعودة بنصر الله إن نصرته، وهي بهذا تتوفر على أساسيات العزة والتمكين، ولكنها لم تأخذ بها. وإذ لا نقدر على الوحدة في ظل الظروف القائمة، فعسى ألا نفشل في التعاون أو التعاذر. والأمة العربية مع كل الإحباطات تمتلك مقومات الحياة الكريمة، والعجب أن تذل وتخنع، وتمتلك وسائل الإنتاج من: أنهار متدفقة، وتربة صالحة، وسواعد قوية، وطاقات: نفطية وشمسية وهوائية، والعجب أن تصبح رهينة لرغيف العيش وأسمال الثياب. والأمة العربية قبل هذا وبعده تمتلك الكفاءات البشرية المقيمة والمهاجرة ورؤس الأموال المجمدة أو المهجَّرة، والعجب ان ترقب فاعلاً أو مساعدا. إن الدرك الأسفل الذي بلغته عرضٌ لاسمه، وممارسة لا خليقة، ولن تقال عثرتها إلا على يد أبنائها، فليؤثروها على أنفسهم، ولو كان بهم توق إلى السلطة، وليجنحوا الى السلم العربي العربي، والعربي الغربي. فحاجة الأمة إلى هدير المصانع لا إلى دوي المدافع وإلى السنابل لا إلى القنابل، وصدق الله: {لا خّيًرّ فٌي كّثٌيرُ مٌَن نَّجًوّاهٍمً إلاَّ مّنً أّمّرّ بٌصّدّقّةُ أّوً مّعًرٍوفُ أّوً إصًلاحُ بّيًنّ النَّاسٌ} . |
نقاد زائفون ونقاد مزيِّفون..!
د. حسن بن فهد الهويمل أجمع الراصدون والمؤرخون للحضارات أنها لاتستوي على سوقها، ولا تؤتي أكلها إلا بالإيمان، والاعتزاز، والصدق، والصدع بالحق، والتفقه، والاجتهاد، وتحرير المفاهيم، وتحديد المقتضيات، والتفريق بين الثوابت والمتغيرات، والدخول فيها كافة. وعلماء الأصول الذين يستنبطون قواعد التعامل مع وثائق الحضارة النصية، يحددون القطعيات والاحتماليات، ومجال الاجتهاد، والنصوص التي لا اجتهاد معها، والمفكرون المنتمون يعرفون الفوارق والقواسم المشتركة بين حضارة وأخرى، ويتفادون مسخ الذات والتلقي عن يد صاغرة، وأي خلط بين الثوابت والمتغيرات، أو بين القطعيات والاحتماليات، أو بين الحديات واللاحديات، يسهم في مسخ الحضارة وإذابة كيانها، وذلك شأن الشكوكيين والمأزومين والمتعالمين، ممن تعيش حضارتهم ريبة في صدورهم، وليس ببعيد وجود المرتابين في هذا العصر الموبوء، وهم قد وجدوا في عصر النبوة، حتى قال الله فيهم: {لّوً خّرّجٍوا فٌيكٍم مَّا زّادٍوكٍمً إلاَّ خّبّالاْ } والخطاب الفكري المعاش: إما أن يكون حدياً صارم الحدية، فيما هو احتمالي، أو مائعا منفلتاً، فيما هو قطعي الحدية، والحضارة أيُّ حضارة مجموعة عوالم، تشكل منظومة من القول والفعل والترك، فإذا استطاع حملتها أن يعطوا كل مجموعة ما تقتضيه، استوفت جلالها وجمالها، وتمكنت من الرسوخ والتجذر والسموق والندية، وإلا تحولت إلى جذاذات مبعثرة، تذروها الرياح، وكل حضارة مجموعة من العرى المتماسكة، لاتنتقض في لحظة واحدة، ولكنها تتفلت عروة عروة، بتخاذل أبنائها وضربات أعدائها. والفكر والعلم والثقافة والدساتير والأنظمة والفن والنقد وكافة الظواهر الاجتماعية والنفسية وسائر الأوضاع الحسية والمعنوية مفردات تتشكل منها الحضارات، وكل مفردة لها أهل ذكر يحرسونها، ويرعونها حق رعايتها، ويقولون فيها أو عنها قولاً سديداً، أو يفرطون فيها، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويلي أمرها زعانف لا تبقي ولا تذر، وفي النهاية فكل طائفة تتفقه فيما تجد نفسها من علم أو فن، وتركيز حديثنا عن «النقد» و(النقاد)، بوصفهما من اولويات الحضارة ومرتكزاتها ومنطلقاتها، ولما آلت إليه قضايا الأدب في ظل التحولات «الأيديولوجية» والفنية والتعالق غير السديد وغير الرشيد مع المدنيات المهيمنة، والمتابع لهذه المفردة من مفردات «الحضارة الإسلامية»، ينتابه الخوف، لأنه يتجرع مرارة الفوضى المستحكمة، ويتعثر بأشلاء مثمنات فكرية وفنية على يد متقولين بغير علم، ولو تركت المشاهد على ما هي عليه، لضاع الفن القولي الجميل باسم مشروعية الحوار والحرية، والعبثية والغثائية والرفض لايمكن أن تُشكل رؤية سليمة لأي مشروع حضاري، لا على مستوى الفكر، ولا على أي مستوى دون ذلك، وبعض المتقحمين باسم حرية الحوار ونسبية الحقيقة وحتمية التسامح يرى أنه إذا كان الوعاظ محمَّلين بالحقائق فإنه محمل بالشك والتساؤل، او كما أُثر عنه وتلك المقولة بقية من فلول «الوجودية»، التي عكرت صفو الفن والحياة معاً، ثم عصفت بها رياح التغيير، وليست بقية الله، ومن قال بها، فهو كهفي يحتفظ بورقه، وقد تتضوع هذه المقولة بنكهة «معرِّية» تحمل السمة، ولا تنطوي على الاقتدار، وعلى ساقة «المعريين» و«الوجوديين» جاء «المستغربون» و«الفرانكفونيون» و«المتأمركون» و«المتعلمنون» و«المتعولمون» بغير هدى ولا تأصيل، يقولون بمثل ما يقول به أصحاب الحضارات المادية دون وعي بالفوارق، ظناً منهم أن ما يقولونه ابتدار ومبادرة، لم يُسبقوا إليه، وكل ما يتداولونه فيما بينهم من تمرد وشك وفوضى ورفض مررنا بسباطته متلثمين منتعلين اتقاء ما يتصاعد منه من شك وارتياب، ومن نقب عنه، وجده ثاوياً في أرض المستشرقين. ورسيس «السريالية» و«الدادية» و«المستقبلية» و«الوجودية» وما سبقها أو واكبها أو خلفها من مسميات لما يزل بقية في أيدي المستفزين وحذاق البهلوة، الذين ينقبون عن حشف هنا أو سوء كيل هناك، ليعيدوا صياغته، ويتقحموا به المشاهد، والمؤذي أنهم يفيضون به على سماعين ذوي مسغبة او متربة، يفغرون أفواههم انبهاراً واندهاشاً، معبرين عن ذلك بالمكاء والتصدية، ومن ليست له دراية بتلاحق المذاهب، ومقولات المستشرقين عن مفردات الحضارة ورجالاتها، وترديد من لحق بهم من الظلاميين، يعد ما يقوله مثل هؤلاء من التجليات، وما يأخذ به اولئك من تلك المذاهب الوضعية المادية يردي الإبداع الشعري والسردي والعمليات النقدية، لأنه أخذ على ضعف، كالضغث على الإبالة، ولو أنهم إذ جنحوا إلى الاستغراب توفروا على ملكات وإمكانيات توفر عليها من قبلهم أمثال «طه حسين»، و«أحمد أمين»، و«هيكل» و«زكي محمود»، و«مبارك»، لكان في ذلك بعض العزاء، ومما تتأذى به المشاهد صلف المكابرين المقوين من صد متعمد عن سبيل الفن الاصيل، بحيث يشرعنون للرديء من القول، وللمنحرف من الأفكار، وللساقط من السلوكيات، ومع حداثة مشهدنا المحلي، فقد مرت به على عجل فلول الحداثة والبنيوية والتفكيكية والتحويلية، ومن قبلها تداول البعض مصطلحات لا حصر لها، وكلها اقتيدت على أيدي جالبيها الى مزبلة التاريخ الأدبي، مصحوبة بما أهدر من جهد ووقت ومال، ولما يزل الذواقون يتحرفون لمذاهب مماثلة، ولما تزل الغوغاء متذيلة وراء المتذيلين. والنقد المواطئ للضعفاء والمتمردين يزيد ارتكاس الفن في درك التخلف، وهو نقد بالتجوز، ومثلما يقال عن النثر: بأنه شعر، وعن الكلام الشائع المبتذل: بأنه سرد فني، يقال عن المجاملات والانطباعات: بأنها نقد أصيل، والساحة تفيض بالأدعياء والفارغين والمغثين، وقليل من المتميزين. ولو سألت بعض المتصدرين للمشاهد النقدية، أسئلة أولية: ** ما النقد؟ ** ما وظائفه؟ ** ما ثقافة الناقد؟ ** ما آلياته؟ ولو تجاوزت ذلك قليلاً بسؤال عن محطاته التاريخية مثل: كيف بدأ النقد؟ وكيف اتخذ طريقه إلى الاكتمال؟ وكيف تقلب في أعطاف المعارف والعلوم والثقافات؟ ولو تقدمت خطوات أبعد، وسألت عن الفرق بين مذاهب النقد واتجاهاته ورموزه وجغرافياته، ولو أبعدت النجْعة، واستطلعت الرأي عن الآليات التي تُخترق بها أجواء النصوص، من نحو وصرف وبلاغة ولغة وتفكيك، وعن المنهجيات من لغويات وفنيات ودلاليات، وعن ماذا يخص النقد العربي القديم والحديث وسائر الاتجاهات والمذاهب النقدية، لو فعلت شيئاً من هذا، لما عاد لك الصوت بجواب جامع مانع، ومع هذا الخواء الفاضح ستجد متعالمين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، والمشهد النقدي عربياً أو محلياً لا يستقيم أمره إذا تسيده متذوقون يتخطفون ما يتساقط من ورق المصطلحات الغربية. ومثلما نتأذى من المتعالين في مشاهد الأدب، نعتز بكفاءات علمية وثقافية وأدبية على جانب من الخلق الكريم، والمعرفة العميقة الشاملة المتنوعة، والتوازن والاتزان، ولكنها فئة قليلة، تكاد تكون غريبة الوجه واليد واللسان، وقد تغلب بإذن الله فئات كبيرة، ومثلما نجد الإفلاس والإسفاف في مشاهد الأدب، نجدها كذلك في مواقع كثيرة من مفردات الحضارة، فنجد من يقول عن الدين والفكر والفلسفة والحرية والحقوق، وعن المرأة والثقافة، وعن السياسة والاجتماع والاقتصاد بغير علم، ونجد من يصدقهم، ويصغي اليهم، وأنفسنا تذهب حسرات على الفن الرفيع الذي تسور محاريبه من لا يحسنون تذوقه، فضلاً عن تفكيكه واستكناهه وإعادة بنائه، ممن هم مجهولو الذات والحال، والإشكالية ان يتمكنوا من تصدر المشاهد، والنفاذ عبر الوسائل، لإفساد الفن بعد إصلاحه، وما يلحق الفن من إفساد يطال بناءه اللغوي، وشكله الفني، ومنطوياته الدلالية، وما من ضياع وضلال يعتري الأمة، إلا ويكون على المبدعين والنقاد والمفكرين كفل منه، فهم إما حماة وإما جناة، وكلما ظهر الفساد في عوالم الكلمة استفحل في كل العوالم، ففي البدء كانت الكلمة، وأول اتصال بين السماء والأرض كان أمراً بالقراءة، وتنبيهاً بأهمية القلم الذي علم الله به الإنسان مالم يعلم، وما المذاهب السياسية الثورية الدكتاتورية الدموية من «نازية» و«فاشية» و«ماركسية» إلا ربيبة الفكر وناتج الفن، وما طرح «ماركس» شيوعيته إلا بعد أن قرأ الطارف والتليد في مكتبات العالم، والنقد بوصفه المعقب لحكم الإبداع: موهبة، ومعرفة، ودربة، واقتدار، وموقف، وثقافة، ووعي، وهم، ووسيط، وفاحص، ومصحح، ثم حاكم بالعدل، بعد عرضه على ضوابط الفن، ونظام اللغة، وتناسق الجمال، وقيم الحضارة، ليقول في النهاية كلمة الفصل، لاينفعل، ولا يفتعل، ولا يماري، ولا يجامل، ولا يكاثر بالتملق والكذب، والنقد بهذه المهمات الجسام رسالة، والرسالة تتطلب معرفة وموقفاً ونزاهة، والذين يمارسون النقد أو بعضهم على الأقل تتخلف عندهم بعض شروط الأهلية، أو يفقدون أمانة الأداء، وعند تخلف شيء منها، يمتد أثرهم السيئ الى المتلقي، فالفكر كالجسم، ينمو مما يتلقاه من جيد القول أو رديئه، فإذا نسجت الأفكار من آراء وتصورات منحرفة أو ساقطة أو متسطحة أو فجة، أصيبت الأمة بقيمها الحضارية، وإذا نسجت خلايا الأجسام من أغذية فاسدة، أصيبت الامة باعتلال أفرادها، وإذا كانت الأمم المتحضرة تنشئ المؤسسات لحماية البيئة، وتقيم المراقبة الصحية على المشروبات والمأكولات فإنها ملزمة بإنشاء مؤسسات لحماية الأفكار والسلوكيات من التلوث والانحراف، والدولة الإسلامية حين تنشئ وزارة للدعوة والإرشاد، أو هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو إدارة لمراقبة المطبوعات فإنما تمارس حقاً حضارياً، سبقت به دول العالم المتحضر، والمتمردون لوجه الشيطان، لا يفرقون بين السلطة المشروعة والتسلط المقيت، ولا بين الحرية المنضبطة والفوضى المؤذية، والناقد الأدبي بقدر اهتمامه بحماية جناب الأدب من أن يتقحم سوحه مبتدئ لا يعرف ضوابط الفن أو جاهل لا يجود نظام اللغة، او منحرف لا يستبرئ لعقيدته، أو ساقط لايستر ما بلي به من قاذورات، يكون أهلاً لهذه الرسالة الجسيمة، والمؤلم حقاً أن طائفة من النقاد يفقدون الأهلية المعرفية والموقف الأخلاقي معاً، ومن ثم يزيدون في الارتكاس الدلالي والانتكاس الفني، ولأن الناقد بمثابة الرائد، والرائد لا يكذب أهله فإن مسؤوليته تتضاعف في الأزمنة الرديئة، ذلك أن المتلقي المتذوق يستشرف رؤية النقاد، ويتقبلها بقبول حسن، والنقاد المعاصرون الذين ينطلقون من حرية التعبير والتفكير والحوار ويعودون إليها، ويعوّلون على مشروعيتها، لا يعرفون أولا يعترفون بحدودها وضوابطها، والذين يتغنون بها يطلقون للغرائز العنان، يؤلهون الهوى، ويفوضون للعقل، وهم بهذا التسليم المطلق يذبحون الحرية من الوريد الى الوريد، فالحرية الإنسانية لاتتحقق بفعل الممكن، وإنما تتحقق بامتثال المشروع، والكف عن المحظور، والرد الى الله والرسول، ولا أستبعد أن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال، وأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان بدافع الظلم والجهل، هي أمانة العقل ومسؤولية التكليف، وما سمي العقل عقلاً، إلا لأنه إلزام والتزام، وتلك حدود الحرية التي نومئ إليها، ونستدعيها كلما حزبنا أمر، والنقاد الزائفون والمزيِّفون يريدونها «ميكافيلية»، والنقد الأصيل المؤصل لسائر القيم ينهض على ثلاث دعائم: الذوق والمعرفة والمصداقية، وتتنازعه اتجاهات ثلاثة: القيم المعرفية، والقيم الأخلاقية، والقيم الجمالية، والمتفلتون على الضوابط هم المتسيدون، ولأن الناس لا يصلحون بالفوضى، فإنهم لا ينضبطون بسيادة الجهلة، ولا بهيمنة المراهقة الفكرية المتأخرة، وشر البلاد بلاد لا يحكمها نظام، ولا تسودها قيم، ومنع «التفكير» كمنع «التكفير» والله لم يتردد من مخاطبة المخالفين حين قال لهم: {لا تّعًتّذٌرٍوا قّدً كّفّرًتٍمً بّعًدّ إيمّانٌكٍمً} وخطأ المكفرين لا يمنع حقيقة الكفر. وإذا لم نضبط إيقاع النقد تحول الى صخب ممل، وذلك ما تعيشه بعض المشاهد، فالمسيطرون على آلياته ومعارفه: إما أن يثنيهم عن الصدع بالحق الخوف أو المجاملة، أو إيثار السلامة، أو قمع الشللية، أو التكاثر من الأشياع، أو الجهل بالطارف والتليد، وبعض المتصدرين في المشاهد يقوِّمون ذواتهم بكثرة المريدين، وفيما يقال عنهم من تقريظ مقايض، وفات هؤلاء أن الرسل يأتي بعضهم، وليس معه أحد، وإذا كان الإنسان يحب المعجبين والأصدقاء، ويكاثر بهم خصومه، فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وما نقم البارئ من اليهود ولعنهم إلا لأنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، والذين لاتتمعر وجوههم للفن الأصيل، يعطون الدنية في فنهم، ولا يتناهون عن منكر القول والفعل. وإذا أضاع الشعراء الشعر، وأضاع الروائيون الرواية، وأضاع النقاد النقد، وأفتى الجهلة وفكرَّ المتسطحون فقدت الحضارة أهم مرتكزاتها، وظهر الفساد في بر الفن وبحره بما كسبت أيدي النقاد، الذين يداهنون ويجاملون، أو يجهلون، والعلم لاينتزع من الصدور. وإذ نغض الطرف عن المجاملة والمداهنة والخوف من المغمورين والضعفاء فإننا لن نقبله من «الأكاديميين» الذين يقتدي بهم تلاميذهم، ويتوقع منهم حماية الفن الأصيل والقيم الجمالية والأخلاقية، والذب عنها، واذا تخاذل المتخصصون، وغلَّبوا جانب السلامة فإن من دونهم أولى بالمجاملة والخوف، وكم نود التفريق بين اللين والرحمة، وفظاظة القول وغلظة القلب، فالبعض يخلط بين اطراف الممارسات والمواقف، وكل شيء له وسط وطرفان، ومن الحصافة أن يعرف الإنسان كم هو الفرق بين الضعة والتواضع، واللين والغلظة، والشجاعة والتهور، والكرم والتبذير، والحدية الحتمية والأفق المفتوح، وإذ مسنا الضر من المتطرفين والجهلة فإنه لايجوز أن نتخلى عن مقتضيات الحضارة، من تفكير وتكفير وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر وحماية لجناب التوحيد والانهزامية كالاهتياج الأعزل حذو القذة بالقذة. |
مسؤولية رجل الأمن ورجل الفكر في الظروف العصيبة 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل المخاض الكبير الذي قلب أوضاع القطب الواحد، بكل مايملكه من سطوة، وما يقوم عليه من مؤسسات: دستورية وتشريعية، تحول معه إلى دولة نامية مغامرة. هذا المخاض المذهل إذهال سقوط المعادل، تبعته مخاضات عديدة، وضعت أجنتها المشوهة المخيفة في بقاع كثيرة من العالم الثالث، أدت إلى تعرضه لفراغات دستورية، وإلى انقسامات طائفية وإقليمية وعرقية، هيأته لانفجارات مدمرة للقيم الحسية والمعنوية. فكان أن استفحلت فتن قائمة، واستيقظت فتن نائة، وتعطلت خطط تنموية، أدتْ إلى البطالة والعجز والمظاهرات والصدامات، بحيث أفقدت كثيراً من السلطات شرعيتها، وشرَّعت الأبواب لكل الاحتمالات السيئة. وما من حدث أو حادث إلا ويقوَّم من خلال أنساقه وسياقاته، فإذا كان مستغربا في زمان أو في مكان، فليس من اللازم أن يكون كذلك في زمان أو في مكان آخر. والغرابة أو الاستغراب حالة نسبية، يستعظم الحدث قوم، ويستصغره آخرون. وليس هناك ما يمنع من أن نضرب الأمثال بالتفجيرات التي تعرضت لها البلاد، وأدهشت القاصي والداني، ذلك أن السمة العامة تمثُّل المواطنين لأمر ربهم، وانسجامهم مع قيادتهم، واعتقادهم بأن الإنسان في سعة من الأمر حتى يصيب دماً حراماً. وفي المقابل فإن الدولة قوية بأجهزتها الأمنية، وسطية بمؤسساتها: التعليمية والتربوية والدينية والدعوية، وذلك مكمن الغرابة. وما أصاب البلاد من تفجيرات، هدَّمت المساكن، وقتلت المعصومين، وأخافت الآمنين، وما تعرضت له من متطرفين في التصرف، وغالين في الدين، ترك آثاراً نفسية سيئة، وأثار تساؤلات عصية، ونبه المواطن والمقيم والمسؤول إلى ثنيات حدودية وذهنية غفل عنها حماتها من باب الثقة أو من باب غفلة المؤمن، فكان الانحراف في التفكير، والتشفي بالتفجير. هذه المقترفات غير المألوفة، وغير المتوقعة في بلد أذن الله أن ترفع فيه راية التوحيد، وأن يُقام في ربوعه حكم الله، اقتضت ضرورة التفكير في الخطاب: الديني والسياسي والتربوي والأمني، وكشفت للعالم عن متانة الجبهة الداخلية، وعن قدرة رجال الأمن على تصيُّد أفراد الخلايا الواحد تلو الآخر، كما أكدت نكارة الفعل وشذوذه. {فّعّسّى" أّن تّكًرّهٍوا شّيًئْا وّيّجًعّلّ الله فٌيهٌ خّيًرْا كّثٌيرْا} و(رب ضارة نافعة). ولكن بقي ان نسأل أنفسنا،: لماذا؟ وكيف؟ وعلى يد من؟ ولمصلحة من حصل كل هذا؟ وهل هذه الخلايا النائمة أو المستيقظة كانت ناتج تقصير في الرعاية، أو في الوقاية، أو نقصاً في الكفاءة أو في الكفاية؟ وهل هي جماعات ذات مرجعية واحدة أم هي أمشاج تنجم هنا وهناك؟ وماذا يريد هؤلاء الذين لايملكون إلا لغة القتل الهمجي؟. إن علينا أن نواجه أنفسنا بشجاعة، قبل أن نقف وجهاً لوجه أمام واقع لاينفع معه تساؤل ولا عتاب، بحيث يسبق السيف العذل. فما لم نواجه أنفسنا بمزيد من الأسئلة، أصبحنا مهيئين لفعل إرهابي أكثر ضراوة، وأقوى شراسة، وأوسع تدميراً وإهلاكاً وإخافة. ولقد قالها مسؤول الأمن، محملاً الآباء مهمة المتابعة لأبنائهم، من خلال تصرفاتهم وخلطاتهم ووجهة سفرهم. ورهاني الذي لا أحيد عنه، يعد ما حصل بقايا لعب كونية، وفلول مقاومات أسهم الغرب في صناعتها، ولم يحسن تفكيكها، فهو الذي دعم الجهاد والتكفير للإجهاز على الماركسية. وواجبنا في ظل هذه الظروف وفي ظل كل القراءات أو التصورات ألا يكون أحد فوق المساءلة والمحاسبة والنقد. وحاجة المؤسسات الفكرية والتربوية والأمنية أمام هذه الأوضاع إلى العارفين الصادقين لا إلى الخليين المصدِّقين، وإلى المجربين لا إلى الحفظة، وإلى فقهاء الواقع لا إلى نقلة أحكام الوقائع. والحدث حين يبديه المسؤول الآمن أو المنشغل بما دونه، يعطيه الانذار الأول، ليأخذ حذره، وينفر بكل ما أوتي من عدد وعدة، لتلافي أيِّ نقص في الآلية أو في المنهج أو في الكفاءة. ومن أحسن الظن، وأمن مكر الأعداء، واتخذ السلامة عادة، فجأته الحوادث، وهو غارق في الثانويات من المسؤوليات، أو ملق أعباءها على من لايحسن حملها، فنحن في يوم له ما بعده، وأيُّ خطأ في التوقيت أو في التقدير يكون غلطة معلم. والدور الآن لرجل الفكر والتربية والتعليم والأمن، ومن خلفهم ومن بين أيديهم المواطن، بحسه وإحساسه، ونظره الثاقب، وملاحظته الدقيقة. وفي النهاية: إذا الإيمان ضاع فلا أمان... ولا دنيا لمن لم يحي دينا {$ّمّن يّتَّقٌ پلَّهّ يّجًعّل لَّهٍ مّخًرّجْا} و(اتق الله يحفظك) والأمن عصب الحياة، وإكسير الرخاء، ومادة الاستقرار، وماء النماء. وبئست حياة وجلة خائفة مترقبة. واختلال الأمن مؤذن بنشوء مجتمع متوحش، يستمرئ الغدر والقتل والسلب والنهب، كما أنه مهيء لقيام كيانات طائفية، أو إقليمية، أو عرقية، بحجة حماية نفسها. وإذا تعددت مراكز القوى، كشف الإرهاب عن وجهه الكالح، وكشر عن أنيابه، وخرج من سراديبه إلى وضح النهار، ووجد الأعداء سبيلهم لتصفية الحسابات، واقتسام الغنائم، والسعيد من وعظ بغيره. ومن استبعد الممكن أخذته المآزق من كل جانب. وكيف يستبعد العقلاء الفتن، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والنفوس الأمارة بالسوء تجتال أصحابها، والإنسان ظلوم جهول، عجول هلوع جزوع، مناع للخير معتد أثيم، إلا من عصم الله، وقليل ماهم، والدور الأهم في مثل هذه الظروف للمواطن، لأنه الهدف الأهم للاختراق. والمملكة بما وهبها الله من إمكانيات: حسية ومعنوية، وأموال مدحوة في الأرض، أو منتشرة على سطحها، أو متداولة في الأيدي معرضة لكل الاحتمالات، على حد: (كل ذي نعمة محسود) وإذا كان من واجب أمريكا أن تسأل نفسها: لماذا يكرهها الناس؟ فإن من واجبنا أن نضاعف الأسئلة، بحيث نتساءل: لماذا نحسن إلى الناس، ويسيؤون إلينا؟ ولماذا نعطي عطاء من لايخشى الفقر، ولا نطلب من عطاءاتنا المتدفقة جزاء ولا شكوراً، ثم نفاجأ بأذية تطال أمننا واستقرارنا؟ نتجرع مرارات الاحتمال والمدارات، ونحن نرى الجناة ينوسون من حولنا، وقد نأخذهم بالأحضان. لقد كشفت المطاردة الأمنية لفلول الإرهابيين عن أسلحة ومتفجرات وإمكانيات، لا يمكن ان يكون وراءها أفراد جهلة عزل، وكشفت المتابعة الفكرية عن معتقدات لا يمكن أن تكون وراءها تربية محلية، ونفاذ هذا العتاد الرهيب لن يكون بتدبير محلي، وتكرس هذه المفاهيم المنحرفة لايمكن أن يكون ناتج علم سلفي. إن وراء هذا الكم الهائل من وسائل التدمير ما وراءه، ووراء هذه الرؤى والتصورات والقناعات ما وراءها، ومهما حاولنا التكتم، وابتلاع المصائب، من باب العفو والصفح والصبر فإن التساؤل سيظل قائماً. وها هي بعض الوسائل الإعلامية تُشير بأصابع الاتهام إلى تعاون بين (القاعدة) و(الموساد) في سبيل زعزعة الأمن في المملكة، وليس ببعيد أن يتحالف أصحاب المصالح مع الشيطان، لتحقيق أهدافهم. غير أن مجرد الإحالة إلى جهة أو جهات لايشفي صدور المتسائلين، إذ لابد من فتح ملفات كل قضية، وتقصي أسبابها ومساءلة أطرافها، لا للمحاسبة وحسب، ولكن لسد الثغرات، وحفظ الثنيات. وها هي التقارير الأمريكية تضعنا في قائمة المسؤولين عن التفجيرات. وها هي المداولات في مجلس الشيوخ الأمريكي تتحول إلى جدل حول المملكة ودعمها للإرهاب. كل ذلك ومثله معه لم يأت اعتباطاً، وعلينا أمام كل حدث أو تآمر ان نقوِّم أداءنا: الفكري والتربوي والأمني والإعلامي، وأن نأخذ احتياطاتنا، فإذا تألقنا في المواجهة الأمنية، ولم نتألق في الوقاية، كان ذلك من نقص القادرين على التمام. وإذ نواجه تحديات في عقر دارنا، قوامها السلاح الفتاك، والتنازع حول الثوابت والمسلمات: الفكرية والسياسية والدينية، فإننا نكتشف بين الحين والآخر أطرافاً ضالعة في المكر والمكيدة، تبدي أعناقها عبر الصحف والقنوات والمحافل، ثم لا تجد من يرد العوادي. وما دام لنا ثقلنا العربي والإسلامي والعالمي، ولنا وزننا الاقتصادي، وعمقنا الجغرافي والسكاني، وثقلنا السياسي، وحضورنا الفاعل في المحافل كافة، ولنا تأثيرنا على كثير من القرارات فإننا سنظل مستهدفين، ولكن ليس بهذا المستوى المخيف، إننا نقبل الحرب الباردة، وقد نضطر إلى قبول المنابذة على سواء، أما الممارسة الإرهابية بهذا الحجم وبالدوافع الدينية كما يراها المنحرفون فأمر يحتاج إلى مزيد من التقدير والتفكير، فنحن أبناء الدين وحماته ومظهوروه ومحكموه، ولسنا بحاجة إلى من يجلب التمر إلى هجر، ولا إلى من يبيع الماء في حارة السقائين، وسلفيتنا واكبت الحضارة، ومدت الجسور، وجنحت للسلم، وانتزعت ثقة العالم وإكباره، وعلماؤنا هم علماؤنا، ومنهجنا هو منهجنا، فأين إذاً مكمن الخطر، والثقة والشك يجب أن يكونا في محلهما: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا... مضر كوضع السيف في موضع الندى وعلى كافة مؤسساتنا أن تكون في مستوى قامتنا وأحداثنا. وإذ نكون الأحسن في سياقنا العربي، فإننا سنكون الأكثر استهدافاً للخطاب الإعلامي النفعي، والأكثر تعرضاً للعمل الإرهابي. إن هناك شفرات لما تزل بحاجة إلى تفكيكها، ففئة تحاربنا لأننا أشداء على الكفار رحماء بيننا، وأخرى تحاربنا لأننا أولياء للكافرين، وثالثة تتهمنا بالإضرار بقضايانا المصيرية، ورابعة تضع العراقيل في طريقنا لأننا مع القضايا المصيرية. الصهيونية ضدنا، والإرهاب ضدنا، والشارع الأمريكي ضدنا. والأدهى والأمَرّ أن طائفة من إعلاميي الاغتراب ومفكريه، يفترون الكذب باتهام البلاد وأهلها بالتواطؤ ضد مصالح الأمة العربية أو التخاذل والتخذيل في قضاياها المصيرية، وتشايلهم مع المحافل الصهيونية التي تطالب بتطبيق أقسى العقوبات على البلاد وأهلها، مثار شك وارتياب، ومما يعمق الشك أننا نجد طوائف من المتعالمين والمتغالين يروننا دون المستوى المطلوب في الامتثال الديني، وفي مقابل كل ذلك نجد أن كل الممسكين بأزمة الأمر الفلسطيني، تتلاحق اعترافاتهم بأفضال البلاد وأهلها، ونجد المؤسسات السياسية الأمريكية جادة في تبرئة المملكة من الضلوع في العمليات الإرهابية، ومع أننا لا نزكي أنفسنا، ولا نباهي بفعلنا، إلا أننا نعجب من هذا التناقض الصارخ، وما من أحد سأل نفسه عن هذا التناقض، مع أنه شاهد عدل، وليست الاشكالية فيما يقال عبر الصحف والقنوات من فلتات ألسنة تدل على ما تخفي الصدور، مما هو أكبر، فذلك مدفوع الثمن، ولو شئنا لقلبنا المعادلة، وحولنا المهاجمين إلى مدافعين، فالمسألة مطروحة في سوق النخاسة البلاغية، وإنما الإشكالية في سرعة الاستجابة، وفورية التصديق، وكأن المستزِّلين حذاق في التنويم (المغناطيسي). |
الحوار الوطني من الشتات إلى التجمع..!!
د. حسن بن فهد الهويمل التحولات المؤسساتية ترسيخ للأمن، وتفويت لاحتمالات الفراغ الدستوري، وتجميع لشتات الجهود، واستثمار للمعارف والخبرات، وتكافؤ للفرص، وامتحان لكفاءة المواطن ووعيه، وانعتاق من ضوائق «اللوبيات» إلى فسح المؤسسات. والدولة اي دولة حين تقلص دور الفردية، وتتجه صوب المؤسسة الجماعية، تتخلص من المغامرات والصدف، والرأي الفطير أو الدبير، محققة فرص التمحيص والمراجعة والتثبت، والاستجابة لعرض المؤتمرين على إنشاء مركز للحوار الوطني تحول نحو الكون الجمعي المتأبي على اعتداء الخطوب، وخلوص من التفرق العاجز عن صد العوادي. والأمة العربية تحت الضربات الموجعة بحاجة إلى من يقيل عثرتها، ويجبر كسرها، ولن تنهض من كبوتها إلا إذا عمل كل راع على إصلاح ما استرعاه الله عليه، ودخن الفتن لايصيب المقترفين خاصة، ولهذا فقد مسنا الضر من مقترفات العابثين بمقدرات الأمة، الخائنين لأماناتهم، وقل أن يكون المستقيمون على الطريقة قدوة لمن يمشي مكباً على وجهه، ولأن الوحدة الوطنية من أولويات اهتمام المؤسسة السياسية الواعية فإن البحث عن منهج سليم، وآلية دقيقة، وتجمع منظم للحوار الفكري من متطلبات المرحلة الموبوءة بتعدد الكيانات وتشتت الولاءات، وبخاصة في ظل ما تعانيه الشعوب العربية من احتقان يتصاعد، وتوتر يتزايد. والدولة المستشرفة للمستقبل، المؤمنة بحتمية التحول والتعصرن، تتحسس مكامن الخطر، ومنتجعات السلامة، وتسعى جهدها لتلافي أي خلاف يفضي بقادة الفكر والثقافة إلى الصدام المدمر، والنخب العلمية الفكرية حين تجد الأجواء الملائمة، والدعم السخي، والرعاية الناصحة، تتوفر على إمكانيات الأداء السليم، متفادية المهاترات والمخاصمات، متعففة عن النيل من رموز الأمة وعلمائها. ولوثة الغلو والتطرف والظروف المتفاقمة في الداخل والخارج اقتضت النظر في أمور كثيرة، لتأليف القلوب وتنقية الأجواء، وصد الاعتداء، لعل من أهمها ترشيد «الخطاب الفكري»، وبخاصة أن الأمة منيت بظواهر لم تكن مألوفة من قبل، ادت إلى اختلال الأوضاع الأمنية والفكرية والدينية في مواطن كثيرة، حتى أريد في البلد الحرام الظلم وإلالحاد، على الرغم من أن الله توعد المريدين لهما فيه بالعذاب الأليم. والإرهاب المشتمل بعباءة الدين، طال دولاً متعددة، وظهرت في خطابه المتوتر قضايا إسلامية قديمة، بمفاهيم منحرفة ك«الجهاد»، و«الولاء والبراء»، و«التكفير»، و«فقه الولاية» من حيث السمع والطاعة والخروج، ونجمت في مشاهد الفكر نوابت سوء، تضلعت من عفن التراث، أو من نتن الاستشراق، وعلفته أدمغة خالية فتمكن منها، وتخطى بها إطار الاعتقاد المضمر إلى المواجهة المسلحة، واستفحال الإرهاب والتطرف جعل من أولويات الدول الناصحة أن تعيد صياغة خطابها، وأن تضبط إيقاع التحول ليتم بإنسيابية، وإذا لم نحسن الحوار فيما بيننا، ولم نتمكن من وضع مفاهيم للقضايا المختلف حولها، فإننا لن نستطيع حوار الآخر في القضايا المشتركة. وتصومع العلماء والمفكرين إضاعة للعامة، واجتيالهم بغرائب الآراء ومنكر الأقوال تمزيق لوحدة الفكر التي لاتقل أهميتها عن وحدة الوطن، والمؤسسة تجميع للجهود، وتصفية للآراء، وتهذيب للحوار، وترشيد للمسارات: الفكرية والسياسية والدينية، متى التقت السلطات: الفكرية والسياسية والدينية على كلمة سواء. وسنة الله في الاختلاف حول قضايا الدين والفكر والفن ماضية إلى قيام الساعة { )كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) } {وّلا يّزّالٍونّ مٍخًتّلٌفٌينّ إلاَّ مّن رَّحٌمّ رّبٍَكّ} {إنَّكٍمً لّفٌي قّوًلُ مٍَخًتّلٌفُ} وإذا كان الاختلاف قضية ازلية فان على الأمة أن تضع منهجاً وألية وحدوداً للحوار، تمكن الأطراف من تفادي الأثرة، والتخلق بالإيثار، وتغليب الحق على الانتصار، والقبول بالرأي الآخر، متى كان في إطار الاختلاف المعتبر، والمسلم الحق وقاف عند حدود ما أنزل الله، وهو قد أمر بإبلاغ المستجير الكافر مأمنه بعد سماع كلام الله، وهو قد نهى عن سب المعبودات تلافياً لسب الله عَدْواً بغير علم، وهو قد حذر من سباب المسلم وقتاله المؤديين إلى الفسوق أو الكفر، وهو قد نهى عن تكفير المسلم، وهو قد علم نفي الخيرية عن أي تناج لايكون فيه أمر بالمعروف أو إصلاح بين الناس. والهادي الامين وصف الأمة والوطن بالجماعة المستهمين على سفينة، مما يؤكد أن قضاياها المصيرية مشتركة، بحيث لايجوز الاستبداد، ولا مطلق التصرف، فالحرية مقيدة بضوابطها، وليست مطلقة لا حدود لها، كما يتصورها الوجوديون والثوريون و«الراديكاليون» ولهذا أمر الإسلام بأن نأخذ على أيدي السفهاء، ونأطرهم على الحق أطراً، ونأمر بالمعروف، ونغير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب، حسب الإمكان والاقتدار وتفادي الإضرار، وتلك سمة الحرية في الاسلام، والأخذ على الايدي يعني أن هناك حدوداً لحرية الحوار، والذين يتصورون الحرية مطلقة، يتواطؤون مع الذين يقترفون خرق السفينة، ليغرقوا أهلها. والصفوة في ظل المبادرات الحضارية أحوج ماتكون إلى وعي دقيق لمفهوم الحرية، ومفهوم الأمةثال للقطعيات الدينية، ومفهوم المواطنة، ومفهوم السلطة، وأهمية الأمن واجتماع الكلمة، فمن أخضع كل شيء للحوار، حوّل الأمة من مسارها الحضاري إلى مسار همجي بدائي، إذ كل حضارة لاتكون إلا بثوابتها ومسلماتها، فالله لا يُسأل عما يَفعل، وليس للمؤمن خيرة في قضاء الله ورسوله، والمحجة بيضاء، ومن تصور الحوار بلا حدود، وبلا ضوابط، كمن عطل الاجتهاد وحرية التفكير والتعبير، ومن فهم «الجهاد» و«التكفير» على غير مراد السلف، كمن نفاهما على الإطلاق، وتورط الأمة في النفي والإثبات الانفعاليين مؤذن بفساد كبير، والمركز بوصفه قناة للتعبير والتفكير من واجبه حفظ التوازن وتهيئة النخب كي تتحرف لمواجهة حضارية، تضع في اعتبارها أهمية الحدث وصعوبة المرحلة، ولكي يولد المشروع سوياً فإنه يتطلب إحكام ضوابطه، وضبط إيقاعه، والتوفر على إمكانيات مادية، وكفاءات بشرية، وحياد إيجابي من الدولة، وأداء طوعي صادق ناصح من النخب، واستكمال المتطلبات يجعل الحوار داخل أروقته علمياً مؤصلاً، يزن الأمور، ويقدر الظروف، ويعطي كل شيء ما يتطلبه. ولقد قلت من قبل ما ظهر لي سداده من رأي حول «الحوار الوطني» الذي تم بسرعة وسرية على يد أطياف قليلة من المفكرين والعلماء، الذين أرادوا الخروج بتوصيات «دبلوماسية» حمّالة، وما أقوله حول قضايا الأمة كافة مبادرة شخصية، ليس عليها مسيطر، ولا أحسبها معصومة غير قابلة للمراجعة أو التراجع. ومما أحمد الله عليه أنني باحث عن الحق، غير مهتم بالانتصار، وكم من رأي بادرت به، ثم تبين لي فيما بعد أنه مفضول أو ناقص أو معوج، فكان أن تراجعت، أو أتممت، أو عدَّلت بثقة واطمئنان، والذين يتصدرون منابر القول، وتتدفق آراؤهم، عبر أنهر الصحف، وموجات الأثير، وقنوات الفضاء، ومواقع المعلومات، ويقولون في مصائر الأمة وقضاياها، من واجبهم التفقه والتثبت والتقصي والتضلع من المعرفة وإتقان الآلية والمنهج وقواعد المعارف وأصولها ومفاهيمها، والاستعداد للتراجع في أي لحظة يتضح لهم أن ما يقولونه دون المؤمل. والرجوع إلى الحق فضيلة، والخاسر من تأخذه العزة بالإثم، وفوق كل ذلك الرفق، ففي الصحيح: «استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال الرسول: يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، قالت: أولم تسمع ما قالوا، قال: قلت: وعليكم»، ومامنيت الأمم بالفشل إلا ممن يتعصبون لآرائهم الفجة، ويؤلهون أهواءهم الجامحة، ويركبون رؤوسهم الخاوية.والحوار الوطني الذي ينشده الناصحون الصادقون الحفيون بالمنجزات هو الحوار المنضبط بشروطه وآدابه وأهليته، الحوار المسؤول المحترم للثوابت، البعيد عن المصادرة والإلغاء، الحوار الذي ينشد الحق لذاته، الحوار الذي يغلبُ مصلحة الوطن، وما يتطلبه من وحدة ووفاق وتعاذر، والدولة في ظل الظروف العصيبة تريد لهذا الوطن ان ينأى عن الدوامات العاصفة، وينجو من الضر الذي مس القاصي والداني، والفتن العمياء التي أصابت المقيم والظاعن، واقتلعت الشرعية من جذورها، وحولت طوائف الأمم من الاعتصام إلى التفرق، ومن لغة الكلام إلى لغة السلاح، جاعلة مصلحة الوطن دون مصلحة الطائفة أو العرق أو الإقليم، متيحة الفرصة للمتربصين بالأمة الدوائر لإشعال الفتن، وإمداد المتناحرين بالمال والسلاح، وتأييد طائفة على أخرى، حتى إذا أثخنتهم الجراح، دخلوا وسطاء لإيقاف النزيف الدموي، واستنزاف خيرات البلاد. الحوار الوطني المراد هدفه: تجميع الشتات، وتحرير المسائل، والصدع بالحق، والحيلولة دون ما آلت اليه احوال الاحزاب المتناحرة والطوائف المتدابرة المؤدي إلى خلل مخيف في الوحدة الفكرية والوطنية، ويكفي أن نلقي الضوء على «تسعين» حزباً من الأحزاب والطوائف والأعراق في «العراق» التي تقدمت بمشاريعها السياسية للحاكم بأمره «بريمر» ليكون لها نصيب من «الكعكة» المتعفنة. ومجيء فكرة المركز في أجواء عالمية ملتاثة ملوثة، وعلى مدرجة ملغومة، وفي ظل حذر وترقب عالمي مفجوع، تتطلب الدخول بنوايا حسنة، وأهلية تامة، وإمكانيات: حسية ومعنوية، واهتمام بالذات، وعدول عن منازعة الناس أشياءهم، وعلينا أن نعرف أن الظروف التي تحيط بالأمة ظروف عصيبة، تتطلب التسامح، والوئام، وتغليب المصلحة العامة، ونجاح أي مؤسسة يقوم على الثقة والصدق ووعي الواقع وامتلاك الآلية والمنهج، ومن ثم فإن المركز يتطلب إعداد لائحة تنظيمية، ورسم خطة دقيقة، ووضع ضوابط يرجع إليها عند الاختلاف، مع قيادة حكيمة، وأجواء علمية مناسبة، ومركز معلومات وطنية، ودورية محكمة، تعالج مختلف القضايا، وتطرح مختلف الرؤى، وتوثق البحوث والحوارات والتوصيات، واستفادة من تجارب من سبق ك«منتدى الفكر العربي» و«مؤسسة الفكر العربي»، و«مؤسسة زغبي الدولية» وكافة التجمعات الفكرية، فإما أن نستفيد أو نتعظ. ومن تصور أن المركز حين تلتطم فيه كل الاطياف، وتصطرع فيه كل الآراء والتصورات والثقافات سيسير على مايرام، وان الاختلاف لن يكون، وأن موائده ستكون سمناً على عسل فقد وهم، واضاع الفرص المواتية، وعلينا في ظل كل التوقعات أن نروض أنفسنا لجدل مرتفع النبرة، لا تتطابق معه وجهات النظر، ولكنها تتعايش وتتجانس، وحين استهل الأمير كلمته ب«التعاون على البر والتقوى»، فإنما يريد الا يكون اثم ولا عدوان، واذا ادى التجمع إلى تعميق الخلاف، والتهاب المشاعر واتساع التصدع فإن من الخير للأمة ان تعود إلى ما كانت عليه، ومن بوادر الفشل دخول الأطياف بقضايا فكرية مسبقة وبأفكار مبرمجة، وبمرجعيات متعددة، وبضوابط متباينة، ومتى دخلنا بحثاً عن الحق، والتماساً للوفاق، وعلم الله منا ذلك، يسر أمورنا، وسدد حذفنا {وّمّا رّمّيًتّ إذً رّمّيًتّ وّلّكٌنَّ اللهّ رّمّى" }. واذ يكون تعدد المشارب والتوجهات قضية مسلمة فإن الاختلاف سيكون، وعندئذ لابد أن يتفق الجميع على مسلمات وثوابت، لا يطالها الاختلاف: «العقيدة»، و«وحدة الوطن»، و«ثوابت الحضارة»، و«مسلماتها»، فإذا احترم الجميع الثوابت الدينية، وآمنوا بأهمية الوحدة الوطنية، فليكن بعد ذلك مايكون، ومصير المركز بيد النخب الوطنية، وعليهم أن يبادروا بكل ما أوتوا من قدرة، وأن يتلقوا هذه الرغبة بكل ما تتطلبه من إمكانيات معرفية وأخلاقية. والإشكالية ليست في إنشاء المركز، فذلك سهل وميسور، وإنما هي في مخاضاته ونتائجه والأطياف التي ستلتقي فيه والقضايا التي ستطرح على موائده، ومدى تمثل المؤتمرين لأدبيات الحوار، واستجابة الدولة لنتائجه، والأمة أحوج ما تكون إلى التلاحم، فالأعداء يحيطون بها من كل جانب، والمكائد والتآمر والغزو على اشده، وقد نجحت بعض الاختراقات التي أثرت على أمن الوطن، والعلماء والمفكرون هم الردء المعنوي الذي يشد أزر المؤسسة السياسية، ومع كل ما نراه من ظروف غير مناسبة فإننا متفائلون بنجاح هذا المشروع الحضاري. وعلينا في نهاية المطاف أن ندخل أروقة المركز بأهداف وضوابط: ** نعرض الآراء ولا نفرضها. ** ونستمع لآراء الآخرين ولا نصادرها. ** نحترم تكافؤ الفرص، ولا نغمط الحقوق المكفولة. ** لانثير الشكوك، ولا نسيء الظنون. ** نؤسس للمعارف، ونؤصل للقضايا، ونقارب بين المفاهيم. ** نتسامح ولا نتعصب، ونسعى للتقارب أو التعاذر. ** نحكم العقل، ولا نتبع الهوى. ** نهمش الطائفية والمذهبية، ونرد إلى الله والرسول. ** لا نتحرج من سؤال أهل الذكر، ولا من التوقف عما خفي. ** نحترم العلماء، ولا نصنمهم، وندعم السلطة، ولا نكتمها الحق. وإذا عزمنا فلنتوكل على الله، { وّمّن يّتّوّكَّلً عّلّى اللّهٌ فّهٍوّ حّسًبٍهٍ } |
مسؤولية رجل الأمن ورجل الفكر في الظروف العصيبة..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل وإشكالية المواجهة أن البلاد بإزاء الشيء ونقيضه، فالذين يدَّعون عداءهم للصهيونية، يواجهون البلاد بقدر ما تواجهها به الصهيونية، وليس من المعقول أن يجتمع الشتيتان، ثم لا تكون ريبة، وليس الارتياب من افتراءات (الصهيونية العالمية)، الحريصة على إشعال الفتنة ضد العالم العربي بأسره، وضد المملكة على وجه الخصوص، وعلى تأليب الرأي العام العالمي ضد من تتوقع تأثيره على القرارات الدولية، وإنما الارتياب من التخندق معها، والكيد معاً لدولة ليست بدعاً من الأمر. والمعممون في نيلهم ليسوا كالمحددين، والموثّقون ليسوا كالمتخرصين، وما من عاقل يبرئ نفسه الأمارة بالسوء، ولكنه لا يرضى تحميله ما لا يحتمل، وأخذه وهو مقيم دون الفتنة مع الظاعنين إليها، والعتب ليس على من يلوم على التقصير، ولا على من يستحث الخطى، ولا على من يطلب الإصلاح، وإنما هو على من تتلاحق افتراءاته الآثمة، متواشجة مع الطرح الصهيوني الحاقد. وما أنكى أن تجد زيداً المسلم مع (بنيامين) اليهودي، يُريشان معاً سهاماً كثيرة، ثم لا يجد حرجاً من تصويبها لمن علمه الرماية ونظم القوافي:- (ولو كان سهماً واحداً لا تقيته ولكنه سهم وثان وثالث) فهذا (برنارد لويس) المستشرق اليهودي الأمريكي، يقول، كما نقله (جهاد الخازن):- (إن السعوديين الوهابيين ينفقون أموال النفط لتمويل الإرهاب) وهي ذات المقولة التي أطلقها (القذافي). والمؤكد أن (لويس) لا ينطلق من فراغ، بل هو مجند صهيوني لتعبئة الرأي العام الأمريكي ضد المملكة التي تتعرض للإرهاب، وتعاني منه قبل أمريكا. والصهيونية العالمية تعرف متانة العلاقات السعودية الأمريكية، وتعرف أنها لن تسيطر على الرأي العام الأمريكي ولا على المؤسسات التشريعية والتنفيذية بالقدر الذي تريده، إلا إذا نسفت هذه العلاقات، وجعلت المملكة غير مرغوب فيها، والصهيونية لم تقنع بما أُعطيت من (حق الفيتو) و(اليمين المتطرف) و(أحدث ما تملكه الترسانة الأمريكية). وهي إذ تحارب الإسلام لذاته، تخادع المغفلين بمحاربة (الوهابية). لقد اخترقت (اللوبيات) المناوئة المجالس التشريعية والتنفيذية، وكسبت مؤيدين مؤثرين في الإدارة (الأمريكية)، حتى لقد حمَّلت البلاد جانباً من أوزار التفجيرات في (أمريكا)، وما أحد من إعلاميي الشتات العربي تمعر وجهه من هذه الاتهامات، وعرف أن المؤامرة ضد الإسلام، وما أحد من المتباكين على مصالح الأمة العربية سأل نفسه عن دوافع هذه الحملات الشرسة ضد الحكومات والشعوب الفاعلة. ومما لا شك فيه - والحالة تلك - أن وراء هذا التوافق في المواقف ما وراءه، فإما أن تكون الصهيونية قد حسبت الشحم ممن شحمه ورم، فتصدت للمملكة، دونما وعي بحقيقتها، وإما أن يكون الأقربون يغمطون المملكة حسداً من عند أنفسهم، و(قديماً كان في الناس الحسد) وما أشد مرارة الظلم، تتجرعه البلاد من ذوي القربى، والمؤمل من رجال الإعلام وأرباب القلم تحشيد الإمكانات وتوحيدها، والانتقال بها من التنصل والاعتذار والاجترار المحلي إلى المحافل الدولية، وإطراح لغة التفاضل والتباهي، وممارسة الحوار الحضاري المتزن، المدعوم بالوثائق، المتودد بالحكمة والموعظة الحسنة، والسعي لكسب المناوئ أو تحييده لا إلى تصفيته. فالمملكة تملك مشروعيات كثيرة، ومن الخير لها ألا تشوبها باللجاجة والتوتر. وكتاب آخر ل(دوري غولد) يهودي صهيوني يتحدث فيه عن دعم المملكة للإرهاب، ويتطاول فيه على الدين الإسلامي. هذه الحملات المنظمة المركزة، تتم في المحافل الدولية، والمعنيون في غفلة عن هذا. والمؤلم أن من أبناء المسلمين من يساير الصهاينة في النيل من الإسلام والمسلمين، وعدم التحرج من وصف المملكة بالعمالة والتواطؤ، فيما يغفلون عمن حولهم من المعترفين والمطبعين والمهرولين والمتبادلين للمصالح في وضح النهار. وما شيء من ذلك فعلته المملكة، ولو تبدى لنا ما نراه من غيرها، لما وسعنا السكوت فضلاً عن المسايرة. والمملكة تكاد تكون الوحيدة التي تضع كل بيضها في سلة القضية الفلسطينية، اعترف غيرها، ولم تعترف، وطبع غيرها، ولم تطبع، وتملق غيرها، ولم تتملق، ووعد غيرها ولم يعط، وأعطت المرة تلو الأخرى. حتى لقد بلغ المواطن حداً من اليأس والإحباط، وفضل أن يكون سمننا في دقيقنا، فالمواطن يعاني من بوادر الضوائق والبطالة ما يجب معه التحرف السليم. والطفح الرخيص من ساقط القول، وبذيء الكلام، لم تصنعه الصدف ولا العفوية، وإذا قلنا بالغزو أو بالتآمر، أنكر ذلك علينا المستغربون، وعدُّونا اسقاطيين، نبرئ أنفسنا، ونتهم غيرنا. وما تلاحقت الثورات، وما توترت الحدود، وما استفحلت الطائفيات، وما لعنت كل أمة أختها إلا نتيجة اللعب الكونية. وما الواقع العربي المؤلم إلا ربيب مكائد يمسك بعضها في رقاب بعض، منذ الامبراطورية التي لا تغرب الشمس عن ممتلكاتها، حتى زمن القطب الواحد، وما الحروب التي كانت (العراق) طرفاً فيها إلا حروب بالإنابة، في أجوائها حصد المغتصبون الشرعية والاعتراف والتطبيع. وأول مطلب واجه به (بريمر) مجلس الحكم العراقي الاعتراف بإسرائيل، فهل شيء من ذلك جاء اعتباطاً، نعم الأمة العربية مدانة بقابليتها للعب، ومدانة بارتمائها في أحضان الغير، وتصديقها لأعدائها، ومدانة بتهافت أبنائها على المدنية الزائفة والحضارة الوضعية المادية، ومدانة بتقصير علمائها ومفكريها في تفكيك الطارف والتليد، واتخاذ الطريق القاصد والموقف المتزن والتفاعل الإيجابي، ومن ثم فإن هناك غزواً وتآمراً، وهناك قابلية عربية لذلك، وقولنا بالغزو والتآمر ليس للتبرئة، وإنما هو لأخذ الحذر والنفور للمواجهة. والدولة التي يخترق أجواءها الإرهاب من كل جانب، بحاجة إلى أن تفكر وتقدر، وأن تعرف أنها مستهدفة: إعلامياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً، وأن ما أصاب غيرها من تدمير للمثمنات، وتبذير للثروات، وتشتيت للكفاءات، وإخلال بالأمن، وخلق للعداوات سيطالها دخنه، فإن كانت لديها قابلية استفحل، وإلا كمن كما الخلايا النائمة، في انتظار تصدع القشرة، والمؤكد أننا دخلنا دوامة الإرهاب، وأصبح ظاهرة مخيفة، ودخلنا دوامة التصدع الفكري، وهذه الأحداث النافذة علينا من كل جانب بحاجة إلى (مكافحة) و(معالجة). - فالمكافحة مسؤولية رجال الأمن والمباحث والطوارئ. - والمعالجة مسؤولية رجال الفكر والعلم والتربية والإعلام. ولا أشك أن فلول اللعب (الأفغانية) و(الحروب الخليجية) المطاردة من قبل أمريكا التي أسقطت الشرعية في (أفغانستان) و(العراق)، ولم تنجح في سد الفراغ الدستوري، ولا في إحكام القبضة، هذه الفلول قد عادت إلى أراضيها جذعة، تحمل الفكر الجهادي والعقيدة التكفيرية، على غير هدى من الكتاب وصحيح السنة، وكان اللاعب الأكبر قد بارك (التكفير) و(الجهاد) حتى قضى بهما وطره، وحسب الناس أن هذا الفكر المتعسكر، وتلك العقيدة المتشددة، ستنتهيان بانتهاء اللعب الكونية، ومن ثم كانت غفلة المؤمن، واسترخاء الواثق عن الثغور وعن الأدمغة، ولو لم تكن الغفلة من الطرفين لما نفذ العتاد إلى البلاد بهذا الحجم، ولما عشعش الانحراف في الأدمغة بهذه القوة، ولما التقى الوباءان على قدر، لتكون محاولة الإخلال بالأمن، وتصديع الوحدة الفكرية والدينية والوطنية التي لم تتحقق، ولكنها تنذر بالخطر، وما لم يلتق الطرفان: رجال الأمن، ورجال الفكر، لرسم خطة محكمة، وأسلوب رشيد، تفلتت من بين أيديهم خيوط المشكلة، ووجد الموتورون أرضية مناسبة لصناعة محكمة، تفجر الأوضاع، وتنسف الأمن، وتشتت الفكر. إذ بقدر ما يحكم رجال الأمن الطوق، ويجوِّد رجال الفكر القول، يمكن تطويق المشكلة، وإن كنا نتوقع السباق بين الجريمة والمكافحة. والإرهاب غنوصي التصرف، سِرِّي التخطيط والتنفيذ، تقضي أموره تحت الظلام الدامس، وفي أعماق الكهوف المظلمة، ولا يقرؤها الناس إلا في بيوت مهدمة، ونفوس مزهقة، وأمن مختل. ولهذا لا بد من التقدير والتدبير، واستباق الأحداث، والتوقي، ومباغتة المناوئ قبل أن يغدر أو يفر. ولن يتمكن رجال الأمن من قطع شأفة الإرهاب بإمكانات عادية، أو إجراءات روتينية، ودون مؤازرة من العالم والمفكر والمواطن، واتخاذ فسحة من الحوار الحضاري الذي تسوده الثقة، وتحكمه القيم، وتسمو فوقه مصلحة الأمة، وفوق كل ذلك فإن العمل الإرهابي حدث استثنائي، لا بد له من مواجهة استثنائية، ورجل الأمن روض نفسه على مواجهة الوقوعات العارضة، مما لا يبيت لها بليل، أما وقد دخلت البلاد في دوامة الإرهاب المنظم، والتطرف المتعنت، وأصبحت اللغة (الديناميتية) هي لغة التخاطب، فإن أحداثاً وحوادث جديدة ستواجه رجل الأمن ورجل الفكر على حد سواء، وستربكهما. وقوة الطوارئ، وفرق المداهمة، والأجهزة والآليات، وسائر المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية بحاجة ماسة إلى تمكينها من التوفر على أعلى الكفاءات، وأحدث الأجهزة، وأدق التدريبات وأحدثها وأوسعها، حتى لا تفوتهم فلول الإرهاب، ولا يسبقهم دعاة السوء، وحتى يتمكنوا من استيعاب الطرفين أو قطع دابرهما. إن هناك إرهاباً قوامه السلاح الفتاك، وتطرفاً قوامه الكلمة المؤثرة، ولكل ظاهرة ما يناسبها من المواجهة، ولا بد - والحالة تلك - من رجل استثنائي، وتخطيط استثنائي، وعمل استثنائي، وإمكانات بشرية وآلية وإجرائية استثنائية، وحركة فورية في اتخاذ القرار، ومرونة في التصرف، تستجيب لمتطلبات المرحلة الحرجة، فنحن أمة لها مكتسباتها، ومثمناتها، وقواعدها الاقتصادية، وقلاعها الحضارية، واستهداف هذه المنجزات من السهولة بمكان، وتعرضها للتفجير حتماً سيعرض البلاد لخسائر فادحة. ورجل الأمن أمام هذه الطوارئ يعيش مرحلة تحد عصيب، فإما أن يسيطر عليها باقتدار، ويلملم خيوط الممارسات الإرهابية التي اندلقت أقتابها بين أيدينا، ويعيدها إلى قمقمها الذي انفلتت منه، وإما أن ندفع الثمن الغالي. لقد دوت الانفجارات فاستغربنا، ودوت ثانية فذهلنا، ودوت ثالثة فتساءلنا، وتحركت أجهزة الأمن، تطارد فلول الهاربين، وتساقطوا في يدها الواحد تلو الآخر، وكان في ذلك نصر مبين، ولكنه كشف عن ثغرات أمنية، أثق تماماً أنها حاضرة المسؤول، ولكن المواطن بوصفه ضحية الخلل، يسبق بتساؤله، ومن حقه أن يلح في التساؤل، ومن واجب المسؤول أن يسمع، وأن يهدئ الروع، ويطمئن النفوس القلقة، فالمسألة ليست عادية، لا على المستوى الفكري، ولا على المستوى الأمني، وإذا تحملنا، وقبلنا ما دون ذلك من الخلل، فإننا لن نقبل بالمعدات الثقيلة، تزيح الأتربة عن مئات الأطنان من المتفجرات المطمورة في باطن الأرض. أين رجال المنافذ الحدودية؟ وأين خفر السواحل؟ وأين الحوامات؟ وأين العيون الساهرة؟ نحن نجزم بل نراهن على أنهم لم يخونوا أماناتهم، ولكننا لا نستطيع التغاضي عما عثر عليه من وسائل التدمير، وما ظهر من شذوذ التفكير، ولن نقبل التصدع الفكري في بلد السلفية الناصعة بمحجتها البيضاء، أين العلماء؟ وأين التربويون؟ وأين أساتذة الجامعات؟ وأين الخطباء؟ ولماذا يُتخطف أبناؤنا من بين أيدينا، ونحن غافلون؟ في بلادنا إرهاب في الفعل، وتطرف في التصورات والمعتقدات وعلينا أن نواجه قدرنا بثقة واعتراف، وأن نرسم الخطط البعيدة المدى، وأن نعيد النظر في كل شيء، نسائل العالِم قبل الضابط، والمعلم قبل الإعلامي، كي يستقر الجميع على أرضية صلبة، وإذ نتفق على أن تربيتنا ومناهجنا مبرأة من صنع التطرف فإنها مسؤولة عن عدم الحماية. السؤال الذي ما كنا نوده: لماذا امتلكت أجهزتها الأمنية القدرة الفائقة في الإجهاز على عدد كبير من الخلايا في وقت قياسي؟ في حين تمكن الإرهابيون في زمن متطاول من تشكيل وجودهم، وجلب آلياتهم ومتفجراتهم، وتفرقهم في البلاد، وحصولهم على أفتك الأسلحة، رجال الأن الذين غفلوا غفلة المؤمن فنمت بذور الشر في غفلتهم، هم رجال الأمن الذين أثلجوا الصدور، ورفعوا الرؤوس، وحققوا من الانتصارات ما لم تحققه أي أجهزة متفوقة بالعدد والعدة، ورجال الشريعة وأساطين الفكر ورجال التربية الذين يتبادلون الراية منذ الحركة الإصلاحية، هم الذين يمسكون بمقاليد المؤسسات: توعيةً وإرشاداً وتعليماً وإفتاء. سؤال مشروع ولكنه محرج، نحن بحاجة إلى الشفافية والمساءلة، ولا نريد لأي مؤسسة أن تكون فوق المساءلة والمحاسبة والنقد، ما الخلل الذي نشأت في ظله الأفكار المنحرفة والأيدي الشرسة. قلت من قبل: إن التطرف والإرهاب وافدان، ولما أزل على شيء مما قلت، غير أن تنامي الإرهاب والتطرف، وشراسة المواجهة، بحيث يتساقط الشهداء من رجال الأمن في كل عملية مواجهة، كل ذلك يتطلب إعادة النظر في كل ما سبق، فحين لا يكون للتربية والتعليم دور في صناعة الإرهاب، فالواجب أن يكون لهما دور في التصدي له. ولقد كنت في كل مواجهاتي النقدية أفرق بين (فساد المبدأ) و(خطأ التطبيق)، ومن ثم فإن الفساد لا يصلح معه الترقيع، إذ لا بد من نسفه والتأسيس من جديد، ولهذا فإننا والحمد لله نحسن الظن بمؤسساتنا، ونراهن على أنها تقوم على الصلاح والإصلاح والصدق والإخلاص، ولكننا لا نراهن على النجاح في كل ما تأتي وما تذر، ولأن الأيام حبلى يلدن كل عجيب، فإن علينا أن ننسق بين المؤسسات الأمنية والتربوية والإعلامية والدعوية والتوعوية، ووضع خطة جماعية تشكل تصوراً دقيقاً للواقع والمستقبل، وتباشر العمل بأسلوب الفريق الواحد، وما إنشاء (مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني) إلا بادرة حضارية، لها ما بعدها، والمواطن وحده القادر على إحباط أي محاولة بحسه الأمني، ويقظته ووعيه، إنه المسؤول الأهم، والجبهة الخلفية التي تحمي الساقة. وإذا كنار نثق برجل الأمن وبالمفكر وبالعالم وبالإعلامي، فمن الواجب أن نواجه الجميع بتساؤلاتنا الملحة، وأن نتحمل قسطاً من المسؤولية، ومن ثم يجب أن يَقْدُم المواطن كلَّ المسؤولين في المساءلة، ماذا قدَّم، وماذا ينوي أن يقوم به في ظل هذه التداعيات. |
الانحناء للريح خير من الاجتثاث..!
د. حسن بن فهد الهويمل الحروب الخليجية المتواصلة، بكل ما فيها من عنف ودموية ومجانية، وخروج على الشرعية، وتطاول زمني، أتى على كل المقدّرات، ونتج عنه انكماش وديون وبطالة وارتباك. - وتفكك الاتحاد السوفييتي، ودخول أشلائه في حروب عرقية وطائفية شرسة، تعاقب على تغذيتها المنتفعون، وما تبع ذلك من تغير في التركيبة السكانية، وتبدل في الخطط السياسية، وظهور القطب الواحد بكل غطرسته. - وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وجرح كبرياء الولايات المتحدة، واهتياجها، وأخذها الظاعن والمقيم، ومباشرتها للحروب في ظل تخلف الحلول السياسية. - والإرهاب «الشاروني» الذي فجر الأوضاع وبورك من قبل رعاة السلام. - وإسقاط الحكومتين «الأفغانية» و «العراقية» من خلال عمليات عسكرية متوحشة، لا تملك غطاء شرعياً، وما نجم عن ذلك من فراغ دستوري، وتكتل عرقي وطائفي، ومواجهات متصاعدة، حولت القطرين إلى مستنقع موحل، ألجأ امريكا إلى الاستعانة بمن ادارت ظهرها لهم عند اتخاذها لقرار الحرب. - واللعب الكونية الكبرى التي غيرت «الاستراتيجيات» والاحلاف والقواعد العسكرية، وخلطت الاوراق، وهمشت الهيئات والمجالس الأممية، وجعلت العالم الثالث دولة بين الأقوياء. - والأحداث المصيرية التي تعاقبت، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، من اعتراف وتطبيع وهرولة. - والتصدعات الوطنية، والاختلافات الفكرية، وفحيح الطائفيات الافعاوي، والهجمات الإرهابية الهمجية المتلاحقة، وتوفر الأجواء الإعلامية والمعرفية من قنوات ومراكز معلومات تهرف بما لا تعرف، وتزرع الشك والارتياب، وتثير الفتن. - والغفلة المعتقة في الشارع العربي، ومسايرة الأعداء في الافتراء وتولي كبر الإفك على المصلحين والدعاة والناصحين. كل هذه الأشياء التي جاءت عبر إجراءات ابتسارية إكراهية متلاحقة لا يمكن أن تمر بسلام، ولا يمكن أن ينجو من وضرها احد، ولا يمكن أن تظل اوضاع الدول التي اتخذت أراضيها مسرحاً للاحداث كما كانت من قبل. وإذ يكون التغيير حتمياً، فإن على الاطراف المعنية ومسارح الأحداث والحوادث تعميق التفكير ودقة التدبير، ومن الخير أن يكون التغيير بيد صاحب الشأن، لا بيد غيره، على حد:- «بيدي لا بيد عمرو» وأحسب أن تدخل الأقوياء في الشئون الداخلية وإكراه الشعوب على التخلي عن الثوابت لن يحقق التغيير المطلوب، وإنما يؤدي إلى التدمير، فالشعوب عصية الانقياد، وهذا «العراق» يتأبى على الوجود الأجنبي، على الرغم من أن خروجه قبل ملء الفراغ الدستوري يعد كارثة عربية إسلامية، وإسقاطه للنظام إزاحة «لدكتاتوري» اناخ على الصدور بكلكله، فهو في ويل من الوجود وويل عليه، على حد:- «وقع السهام ونزعهن أليم». ومن تصور أنه يملك جبلاً او مغارة تعصمه من طوفان الفتن، فقد وقع فيما وقع فيه «ابن نوح»، حين قال له والده الذي يعرف اخذ الله القوي العزيز {(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) (هود:42) )قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (هود:43) } ولأن نوحاً عليه السلام يعرف أن وعد الله حق، فقد توجه إلى ربه: {(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود:45) } . ولما لم يكن يعرف من علم الغيب شيئاً، فقد وجهه إلى الحق {قّالّ يّا نٍوحٍ إنَّهٍ لّيًسّ مٌنً أّهًلٌكّ إنَّهٍ عّمّلِ غّيًرٍ صّالٌحُ} . والمؤلم والمخيب للآمال أن بوادر الواقع العربي لا تنفك تعيد مقولة الولد الشقي {سّآوٌي إلّى" جّبّلُ يّعًصٌمٍنٌي مٌنّ المّاءٌ } فكل دولة عربية تتصرف وحدها، دونما تنسيق بين وجهات النظر، ودونما عمل رشيد يحدو إلى اتخاذ موقف جماعي، ينقذ ما يمكن إنقاذه، او يسهم في إيقاف التدهور، وكأن الدول العربية في معزل من الماء، والماء ينهمر من فوقها، ويتدفق من تحت ارجلها، مفككاً تماسكها الوطني، ومخلخلاً وحدتها الفكرية، ومحيياً فيها نعرات الإقليمية والعرقية والطائفية، والخليون يهدهدون أنفسهم بجنون العظمة الذي خلفه لهم «عنترة» و «عمرو بن كلثوم» و «المتنبي» وما من موقف واقعي جماعي يعرِّف الأمة بواقعها، ويوقف نزيفها، تتبناه «الجامعة العربية» او مبادرة يطلع بها «مؤتمر قمة طارئ»، فكل دولة لها شأنها الذي يغنيها، ولها مشاكلها الداخلية والخارجية، وثاراتها مع جاراتها، ومصالحها المتعارضة، واحلافها المتناقضة، وأوضاعها التي لا تسمح ولو باللقاء التشاوري، فضلاً عن موقف جماعي، يعيد للأمة شيئاً من هيبتها، ويحولها إلى شريك مؤثر في القرارات والاحداث، وهذه الترديات المؤلمة تذكر بمقولة الشاعر: ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهود والأحداث الجسام التي يمر بها العالم كله، وتنفذ فعالياتها على مسرح الدول النامية، لا يمكن أن تمر بدون ثمن باهظ التكاليف. ومن تصور أنه قادر على معايشتها، دون تحرف لنجاة، او تحيز لتدبير عاقل رشيد، عرضته الفتن العمياء لانهيارات اقتصادية، واختلال أمني، ومع أن احداث الساعة كأهوال الساعة، تذهل فيها كل مرضعة عما ارضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، الا أن الإبقاء على رسيس الماء الذي يبل الصدى في اللحظات الحرجة يتطلب التحرك قدر الطاقة، والله لا يكلف نفساً الا وسعها، وتفادي الرياح العواصف بالانحناء المؤقت، حتى تهدأ العاصفة. ولن يتقي الضاحون هوج الأعاصير الا بالاعتصام بحبل الله، وتبادل الآراء مثنى وثلاث ورباع، عبر الرحلات «المكوكية» والتنازلات المعقولة والتعاذر والعفو والصفح، وتناسي كل ما مضى من المآسي، فما عاد الوقت وقت حساب وجزاء، وإن كنا تمنيناه من قبل، لتصفية القضايا أولاً بأول، أما وقد تركت الامور فوضى لا سراة لها، حتى استفحلت، واستعصى الفكاك منها، فلا اقل من العفو عما سلف، واستئناف حياة جديدة، تفعل برفق، ولا تنفعل بصلف، وتساند بصدق ولا تدابر، وتدعم بأريحية ولا تخذل، وتفقه الواقع بوعي ولا تغامر عن جهل. ولما كان الواقع العربي المنهك، والواقع العالمي المتوتر، والمطامع الغربية الجائرة، والنفوذ الصهيوني المتغلغل، والتخاذل العربي المؤلم، والخوف والترقب بين الشعوب والحكام، والتطرف الفكري المتناقض بين اصولية موغلة بعنف، وعلمانية مندفعة بوقاحة، لا تمكن من اتخاذ موقف «استراتيجي» ناجز، ولا موقف «تكتيكي» مرحلي، كان لابد من تفكير سليم، وتصرف حكيم، متوفراً على حلم «معاوية» ودهاء «عمرو» اللذين تفاضلا في التصرف الحكيم في وجه الازمات، بحيث قال عمرو: ما دخلت في شيء الا وأحسنت الخروج منه، وقال معاوية: ما دخلت في شيء الا وعرفت من قبل كيف اخرج منه. والممسكون بأزمة الامور سياسياً وعسكرياً وفكرياً أحوج ما يكونون إلى شعرة معاوية، وإلى ما يحبه الله من الحلم والأناة والتبصر والتدبر والتشاور. فالأمة العربية تعيش حالة من الضعف والهوان والتفكك، لا تستطيع معها اجتياز الوضع بشكل جماعي. ولكيلا تزداد الاوضاع ارتكاساً، فإن على اقطارها ان تتقي الله ما استطاعت، وأن ترضى باليسير، وان تدفع بالتي هي أحسن، لتوفر لنفسها اجواء ملائمة لتصحيح الاخطاء، وتدارك بعض ما فات، وأن ترتد الى الداخل لإصلاح ذاتها، قبل أن تفكر في إصلاح ذات البين، مطّرحة الخطابات العاطفية، والدعاوى الكاذبة، والتطبيل الزائف، والتصنيم المقيت، مقلصة القول التحريضي، متوسعة بالفعل التوفيقي، وتخدير الشعوب والضحك على الرأي العام. استنفدا كل اقنعتهما، ولم يبق الا تمزيق آخرها، ومواجهة الشعوب بالحقائق المرة، ومناشدتها تقبل قدرها بالصبر والسلوان واحتساب الاجر عند الله، والتفكير الجاد ببدء رحلة العودة، اذ لم يكن هناك بقية من تقيّة، ومواجهة الامة بما هي عليه خير من مخادعتها. واذ تلوح القوى المتغطرسة «بحقوق الانسان» و «حرية المرأة» و «بالاصلاح الدستوري» وبـ «الديموقراطية» و بـ «تغيير المناهج» و بـ«الاعتراف» وبـ«التطبيع» وبـ«محور الشر» وبمقولة:« اذا لم تكن معي فأنت ضدي» وتفسر «الارهاب» و «التطرف » وفق رؤية خاصة فإن على الأمة العربية أن تلتف حول بعضها، لا من أجل المواجهة، فالحرب باهظة التكاليف، كما علمنا وذقنا، ولكن من أجل الحيلولة دون الاختراقات الصهيونية، فلقد تجرعت الأمة العربية الممزقة مرارة التطلعات الصهيونية، التي ما فتئت تؤكد على إذلال العرب نفسياً بعد سحقهم عسكرياً، وإصابتهم بالإحباط الشامل. وعلى الأمة أن تعرف أنها صاحبة حضارة مغايرة، وثقافة مغايرة، وتاريخ مغاير، وأن لكل حضارة ثوابتها ومتغيراتها، وعليها في ظل هذه الظروف أن تعمل في القواسم المشتركة ما أمكنها ذلك، وأن تبادر مشاريعها الإصلاحية وفق ظروفها وإمكانياتها واسلوب ممارستها بالحل الناجز او المرحلي، بحيث تحول دون تفكك الجبهة الداخلية، تحت ضربات من لا يرعى فيها إلاً ولا ذمة. وفي ظل هذه الظروف المدلهمة، لم يبق للقادة الا الشعوب، فهم الرهان الوحيد، وبدون الجبهة الداخلية لا يمكن تجاوز المرحلة المعقدة، وما لم ينتزع القادة التأييد والثقة تفلتت الأمور، وانفلت العقد، وانغمست الأمة في حمامات الدم، وهي الفرصة الذهبية التي ترقبها الصهيونية العالمية، ويتطلع إليها اعداء الشعوب، وما العمليات الإرهابية الغنوصية التي لا تُعرف اهدافها الا بوادر نجاح للمؤامرة الكبرى، لنسف الأمن والاستقرار الذي تنعم به بعض الشعوب العربية. وواجب الشعوب المستهدفة أن تعي خطورة المغامرة والأثر السيئ لاختلال الأمن والموت الزؤوم من جراء الفراغ الدستوري، وما أحكم واعلم رسول الهداية حين ندب إلى قتل من يأتي إلى الامة وامرها على رجل منها، والفتنة اشد من القتل. إن على الشعوب أن تحمي الثغور، وأن تقطع دابر الخلافات الداخلية، وأن تضع يدها في يد قادتها، تمحضهم النصح، وتبصرهم في الأمور، تحمي ساقتهم، وترود لهم، لا تكذبهم، ولا تخفي عنهم الحقيقة، فالزمن رديء لا يحتمل أي هزة، فكل شيء يترنح، ولكل شيء قاب قوسين أو أدنى من الفتن العمياء، وعليها أن تصلح نفسها، وأن تصنع إنسانها، وأن تستثمر خيراتها، وأن تتقي الظلم ومنازعة الأقوياء حقهم، وعلى الحكومات أن ترفع الظلم عن شعوبها، فالله الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرماً، لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهو قد اقسم بعزته وجلاله على نصر المظلوم ولو بعد حين، والدول التي تظلم من دونها والحكام الذين يظلمون شعوبهم على موعد مع اخذ الله الأليم الشديد. ولأن العالم العربي يمر من عنق الزجاجة، واللعب الكونية قد فعلت فعلها في تفرق الكلمة، وتشتت الآراء، وانفراد كل قطر باتخاذ القرارات المصيرية، دون تنسيق، ودون استشارة، ودون استخارة، فإن الوقت عصيب والوضع رهيب، وعلى الحكام مراجعة القرارات، وعلى الشعوب الركون إلى الهدوء، فما عاد الوضع قادراً على احتمال مزيد من الاختلاف والتمزق. |
أيها السرديون .. أربعوا على أنفسكم..!!
د. حسن بن فهد الهويمل عندما بادر «نادي القصيم الادبي»، ونفذ على هامش «مؤتمر رؤساء الاندية السابع عشر» الذي استضافه ندوة عن «الرواية بوصفها الأكثر حضوراً»، ووجهت تلك المبادرة بطائفة من المتحفظين والساخرين، دونما اي مبرر، ولما لم نكن مكترثين من مثل هذا الكلام المجاني وغير المسؤول، فقد مضينا في سبيلنا، تاركين الرد للمشاركين في الندوة من ادباء ونقاد و«اكاديميين» وإن كنا غير متفائلين من استجابة المتحاملين وقبولهم للبراهين، واذ نفذت الندوة، وطبعت اعمالها، فانه لم يمتعض مثيرو اللغط، ولم يراجعوا انفسهم، لأن تصدياتهم جاءت للتخذيل والاحباط، ولم تكن نشداناً للحق، وعتبنا ان كنا من المعتبين على النقاد المتمكنين، الذين سايروا مثل هؤلاء، او صمتوا إيثاراً للسلامة، والحق أحق ان يتبع، واذ لم يكن من الكياسة ترك الامور يحكم بها الذين لا يعلمون، كان لابد من تعليم الجاهلين، وتنبيه الغافلين، ممن لم يدركوا مبلغهم من الفن السردي خاصة، وممن لم يعرفوا نصيبهم من مواهبه، والمشهد اي مشهد بحاجة الى سرات يضبطون ايقاعه، ويأخذون على ايدي مهتاجيه، والمتابع لفيوض الكتابات السردية، وما يكتنفها من تنظير او تطبيق نقديين، يدرك ان هناك فوضى مستحكمة ومغالطات مخلة، وانه من الضروري مواجهة الواقع، وان كان مراً، دون النظر الى من قال: ما ترك قول الحق لي صديقاً، فمن آتاه الله المال طالبه بالزكاة والصدقة والتمتع، ومن شرفه الله بالعلم ألزمه كلمة الحق والصدق والتقوى، والذين يدَّعون الإبداع وليسوا بمبدعين، والمواطئون لهم من ادعياء النقد، لاتقتصر اساءتهم على انفسهم، وإنما يصيبون المشهد، ويدينون المرحلة، ويزاحمون المبدعين الموهوبين والنقاد المتمكنين. ومن المسلمات التي يجب الا تغيب عن كل مشتغل بالسرديات ان الفن انواع: قول وفعل، شكل وصوت، آلية ومادة، طرائق اداء وشروط فعل، ضوابط فنية ودلالية، حرية وانضباط، مواصفات مستقاة من النماذج الاولى، التي هدي اليها المبدع الاول بفطرته، لا بتعلمه، والتي جعلت الشعر شعراً، والسرد سرداً، وفرقت بين المثل والحكمة والخطبة، دونما تدخل مسبق، او توجيه واع، والفن موهبة قبل كل شيء، لا يؤتاه اي مندفع لجوج، ولا ينتزعه من مستحقه اي ناقد لدود، وحين نقول بذلك، فإنما نريد التفريق بين المهنة المكتسبة، والموهبة الملهمة، ومع هذا فقد يمارس المقتدر غير الموهوب اي نوع من انواع الفنون، فيكون اداؤه كالصناعة التقليدية، تخدع النظر، ولكنها لا تفوت على الخبير، وقد يتسرع الموهوب رصد التجربة قبل النضوج، فيجد من ينسيه قدره، فيتوقف حيث ابتدأ، وقد فعلها غير ناقد، والموهبة الملهمة بإذن ربها، لاتضطلع وحدها بعملية الابداع، ولا بتألقه. وحين نقول: إن الفن ابداع، والابداع وليد موهبة، فإننا نستحضر روافدها المتمثلة ب«الثقافة، والدربة، والموقف، والحرية المنضبطة، ونضوج الفكرة، والاجواء الملائمة، ومتى تخلف شيء من تلك العناصر، انعكس اثرها على الابداع، وقد يؤدي ذلك الى تعثر المبدع، وفتح ثغرات عليه، قد تصل بالنقاد الى نفي الشاعرية او السردية عنه. ف«المتنبي» مثلاً مبدع، موهوب، عميق الثقافة، وله مواقفه الضاغطة، التي فجرت شاعريته، ولكن رديء شعره ينازع جيده، وحين نتفق على ذلك، نتساءل: لماذا أنتج شعراً رديئاً، وآخر في غاية الجودة والإبهار؟ أليس ذلك دليل تخلف عنصر من عناصر العملية الابداعية؟ قد يكون افتعال الموقف سبباً من اسباب الإخفاق، نجد ذلك في مدائحه ل«كافور» اذ لم يكن مثله الأعلى، ولم يكن مقتنعاً بما يقوله فيه، كان مثله الأعلى «سيف الدولة»، ولكن الاجواء لم تكن ملائمة له، ومن ثم خرج مغاضباً، وقال قولته التي اصبحت مثلاً، وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم قيل عن «المتنبي» وعن سيرورة شعره «إنه يجمجم عما في نفوس الناس» والحق ان «المتنبي» إنسان له تجاربه، التي نسلت منها قصائده، وكل شعر يرتبط بتجربة انسانية، يكتب له الخلود والسيرورة، والاعمال السردية قد تتوفر لها التجارب الحية، فتكون بهذا أكثر سيرورة، وبخاصة ان كثيراً من الاعمال الروائية تمثل سيراً ذاتية، وأبطالها في الغالب كتابها. وما يقال بحق الابداع الشعري، يقال مثله عن الابداع السردي، ومتى تيسر الوقوف على فنية الابداع الشعري، صعب الوقوف على فنية الابداع السردي، لوضوح معالم الشعر، وخفاء معالم السرد، وان حدد النقاد طائفة من الفنيات بالقول عن اركان الفن الروائي ومحققاته، من: حدث، وحبكة، وشخصيات، وزمان، ومكان، وحركة، وعقدة، وتأزيم، وحكاية، وحوار، وسياق، ومناجاة، ونص، وتيار وعي، وتبئير، وغيرها، ليضعوا الضوابط والسمات والفوارق التي لم يستبطنها المتعمِّلون، وخلوصاً من تلك الاشكالية، اصبحت اللغة محكاً رئيساً، وهو مالم يتوفر عليه الادعياء، الذين يؤذون حراس الفن والفضيلة. وفي ظل الخلط والجهل جاء الحديث عن «الشعرية» و«الادبية» شعرية اللغة الشعرية، وأدبية اللغة السردية، ومثلما حاول النقاد تحديد مفهوم «الشعرية» حاول آخرون تحديد مفهوم «الأدبية»، والسرديون الذين لايحترمون اركان الفن السردي وشروطه، ولا يسيطرون على اللغة الشاعرة بطبيعتها، بحيث لايتوفرون على ثراء لغوي، ولا على تجويد لنظامها المتمثل بالنحو والصرف، ولا يمرون بموقف ضاغط، ولا يتناولون قضية مهمة، ثم يقترفون ما هم مقترفون من كلام متسطح هابط، يشي بالجهل والضعف، هؤلاء حين يتخلصون مما في بطونهم من غثاء وعناء، ينحون باللائمة على النقاد الذين يجتنبون كثيراً من آثامهم، وكان الجدير بهم ان يعرفوا ماهم عليه من ضعف، وماهم فيه من بؤس، ليكفوا عن ملاحاة النقاد، ومؤاخذتهم على ما يتصورونه تقصيراً في حق مايسمونه ابداعاً سردياً، وما هو الا لغو ممل، وكلام رديء مخل، ذلك انه لايشتمل على اي صفة إبداعية، ولا على اي ميزة لغوية، ولا عبرة بالمبدعين حقاً، ممن استكملوا العدة والعتاد، ولما يزالوا واعدين، وهم الذين تدل محاولاتهم على موهبة وموقف واقتدار، ولكنها مغمورة بغثائيات تعلو كما القتام، حاجبة الرؤية السليمة، ومثل هذا الكلام، لايعد من الادب في شيء، وان سماه ذووه والمواطئون لهم قصة او رواية ذلك ان الابداع القولي يختلف عن سائر الاقاويل، ومن تصور ان مجرد الكلام ابداع، فقد اضاع جهده، وامتدت جنايته الى جهد الآخرين ليضيعه، ومثلما ان المشهد الابداعي مليء بالادعياء المتعملقين فإن المشهد النقدي مليء بالمتقولين المغررين، الذين لايتقنون مهمات الناقد، ولا يتوفرون على ثقافته، ولا يحسنون تذوق الفنون، ومع ذلك يكرسون الوهم، ويصفون القول العادي بالابداع، وليس باستطاعة المقتدرين الناصحين الذين يبخعون انفسهم على آثار المنحرفين عن جادة الفن ان يواجهوا المشهد بنقاده المجاملين وكتابه المقوين، ويكفي مثل هؤلاء نكالاً، ان من خدع بهم، ثم اقترب منهم، ترحل عنهم، كما التائب النادم العازم على عدم العودة.. ومما فات اولئك وخسروا بفواته الشيء الكثير، ان النص الابداعي القولي معتمده على اللغة الادبية، اللغة المثالية المتعالية، واللغة: مادة ونظام وصياغة، حقيقة ومجاز، إيجاز ورمز، صورة واسطورة، شيوع وغرابة، عمق وتسطح، تقنع وسفور، كلمة وجملة، عبارة واسلوب، جرس وايقاع، والذين يتعاملون من خلالها، ولا يكونون متضلعين منها، متمكنين من السيطرة عليها، مميزين بين لغة الفن ولغة العلم وحديث المجالس، هؤلاء جميعهم ليسوا مبدعين، وان اطبق الناس على التغرير بهم، واذا لم تشدك اللغة في خيالها ومجازها وايجازها وصورها وغرابة مفرداتها وطرافة صياغتها وانزياحها ومراوغتها ومخاتلتها وفضائلها اصبحت القراءة مضيعة للوقت والجهد، فالقارئ الذي ألف عيون الشعر، وشوارد الابداع كقاصد البحر، ومن قصد البحر استقل السواقيا، وعلى مثل هولاء ان يعذروا العازمين الذين لايجدون ما يغري بالقراءة فضلاً عن النقد. والقارئ المتذوق الواعي لجماليات اللغة، وأركان الفن، حين لا يعيبه التركيب، ولا تتمنع عليه الدلالة، ولا تشده براعة الصياغة، ولا يحس بجرس ولا إيقاع، ولا يصيخ لإيحاء، ولا يجد حصافة ولا رصانة ولا قضية يحس بخيبة أمل، والذين لا يفرقون بين القول المتداول والقول الابداعي، كمن لا يفرقون بين ضجيج المصانع وانغام الموسيقى، ولا بين المشي والرقص، واذ قيل: الشعراء أربعة: منهم من لاتجد بداً من ان تصفعه، فليس هناك مايمنع من ان تضرب المئات من ادعياء السرديات على ادبارهم، لتطردهم من مشاهد الفن. والذين يكتبون كيفما اتفق، ويدفعون به الى المطابع، ثم ينقمون على النقاد الذين يمرون بهم مر الكرام، يقترفون خطيئتين: خطيئة الغرور، وخطيئة القصور، وإشكالية الابداع السردي انه سهل المرتقى، ومن ثم يتهافت عليه الموهوب والمقتدر والخلي من السمتين، وقد يجد الفارغون من يخدعهم بأنفسهم، وينسيهم ما هم عليه من ضعف وضحالة، وقد يعمد الفارغون من سائر القيم الى المخالفة في اللغة والفن والاخلاق، ليكونوا حديث المشاهد، ومتى سمعوا كلمة الحق، لم يترددوا في إحالتها الى الوصاية والمزايدة والتسلط، معولين على حرية التفكير والتعبير. ولو ان النقاد احترموا المصداقية، وتوفروا على آلية النقد ومنهجيته، وتمكنوا من ثقافة الناقد، وعرفوا وظيفته، واعتزوا بما هم عليه من معرفة وتذوق، لكانوا أبعد الناس عن المداراة والتغرير. والكتبة المتزببون في زمن التحصرم، يدَّعون التجريب، والتجريب له ضوابطه وامكانياته ودواعيه، وكيف يتأتى التجريب لكاتب لم يقدم وثيقة التألق عبر عمل متميز، يدل على اقتداره، التجريب محاولة للتجاوز، وليس تحرفاً للانتكاس على الاعقاب، وكيف تؤمل من مخرب يدعي التجريب، وهو يدفع بنص ممتلئ بالاخطاء النحوية والصرفية واللغوية والإملائية والتركيبية مسف في الدلالة دان من العامية، لا ينبض بشيء من سمات الفن، ولا بمؤشرات الجمال، فضلاً عن جهله بلغة الفن، وسمات الأنواع الابداعية. التجريب لا يتأتى إلا لمن فسقت امكانياتهم على سمات الأنموذج، ذلك أنه رقم قياسي، والمجرب الحق من يقدم على تحطيمه باقتدار وتفوق، بمعنى ان يأتي بنص افضل مما سلف ليكون مثار إعجاب النقاد المتذوقين واكبارهم، نقول هذا القول بحق من يخفقون في البناء اللغوي والشكل الفني، اما من يخفقون في البعد الموضوعي، فحدث ولا حرج، وجنايات بعض الروائيين الاخلاقية والفكرية لا تحتمل، والمشاهد الثقافية تعيش حالة سيئة من هذه الفئات التي ايقظت العداوات والمناكفات، وفرقت بين الأخ وأخيه. والمتابع لفيوض الإبداعات السردية: محلياً وعربياً، يقف على تجاوزات دلالية، لا قبل للعامة باحتمالها، فضلاً عن الخاصة، ذلك انها تغثي النفوس باسم حرية التعبير، وأدب الاعتراف، وبخاصة في السير الذاتية، ولقد اتيحت لي فرصة التحكيم في بعض الاعمال السردية، وفرص المناقشة لبعض الرسائل العلمية، فكان ان وقفت على تجاوزات لاتحتمل، وقلَّ ان تجد من يفرق بين الحرية المنضبطة، ومهاوي العهر والكفر، واذا وهنت الأعمال بالاخفاقات البنائية والشكلية والدلالية، ثم شايعها من يعملق تقزمها، ضاع الفن، وتلوثت أجواؤه. وتلك لعمر الله ردة فنية ولا رجلاً رشيداً لها، اننا بحاجة الى من يصدع بالحق، فيقول للمحسن أحسنت، وللمسيء أسأت، ولا كرامة، لقد سيئت وجوه الفنون السردية بتقحمات فجة، تمردت على ضوابط الفن واللغة والأخلاق، ووجد المتقحمون من يحمي ساقتهم، ويرود لهم مهاوي الرذيلة، وحين تناول المنتدون «الرواية بوصفها الأكثر حضوراً»، اخذوها من زوايا متعددة، وقدموا رؤى متباينة، نعرف انها خليط من الجليد والأجود والرديء والأردى، ولكنها لا تصادم ذوقاً، ولا تنسف ثابتاً. وعلينا في ظل هذه الترديات الفنية واللغوية والدلالية ان نضع ضابطاً، يبقي على الحد الأدنى من سائر القيم، ومهمة «الصفحات الأدبية» و«الأندية الأدبية» و«الأقسام الأدبية» في الجامعات ليست في الترويج للرديء والساقط، وانما مهمتها في تلافي النقص، وتسديد القول، وكشف الزيف، ومناصحة المواطئين لرديء الكلام، وساقط الفن. وضوابط الفن، وسمات اللغة، وحدود الحرية، والحق، مستفيضة في الكتب والمعاجم والموسوعات، ومن الفوضى الا يحتكم المختلفون الى مرجعية مستقرة في الصدر او مجموعة في القمطر، مما أجمع عليه اهل الفن المؤصلون لمعارفهم، ومن ضاق ذرعاً بالمعيارية والعلمية، فلا أقلَّته ارض، ولا أظلته سماء، ومن تبرم من رد المسائل الى اهلها فهو دعي ضرره أكبر من نفعه، فحسبه أن يلجم فمه، ويرفع قلمه، فالحياة نظام، والنظام حد، والحرية انضباط، والفن موهبة، ومن رغب عن ذلك، فليس جديراً بأن يفسح له في مجالس العلم والأدب. |
اتقاء الفتنة أو ابتغاء الخلوص منها..!
د. حسن بن فهد الهويمل ليس غريباً أن يقع الناس في تنّور الفتن المسجور، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» وما عصم منها صفوة الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضوان الله عليهم، قال صلى الله عليه وسلم: «أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس من دوني، فأقول: أمتي، فيقال: لا تدري مشوا على القهقرى». هذا على مستوى الأمة. ولهذا استعاذ ابن أبي مليكة من أن يرجع على عقبيه أو يفتن. أما على مستوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال: «حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك» وفي حديث آخر «يرد علي أقوام أعرفهم، ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم». والله قد سأل سؤالاً استنكارياً لمستبعدي الفتنة { )أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) } والناس كلهم أجمعون معرضون لنكسات في الدين أو في الدنيا، وفي الدعاء المأثور: «ولا تجعل مصيبتنا في ديننا» هذه النكسات تشكل دركات، إذ الفتنة في القرآن على ثلاثة عشر معنى، قد تزيد بمترادفاتها، وبينها وبين «الابتلاء» عموم وخصوص، والفيصل في كل ذلك السياق النصي أو الأثر النقلي. ولقد استبعد الصحابة أن يكون ما أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن واقعاً في حياتهم حتى رأوها. وكيف لا تكون، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، ومن الدعاء المأثور: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك». والفتنة لا تؤمن على أحد. قيل عن الإمام «أحمد بن حنبل»، وهو الصابر المحتسب الصادع بالحق الوقاف عند الحدود، المتعرض لفتنة «خلق القرآن» والممتحن فيها: أنه لما كان في سكرات الموت، كان يردد «بعد.. بعد» فلما سئل، قال: يأتيني الشيطان، ويقول: فُتَّني يا أحيمد. فأقول : بعد.. بعد. ولقد سمعت أن العلامة «ابن باز» رحمه الله لا يرغب تسجيل سيرته في حياته، ويطلب إرجاء ذلك حتى يموت، ولما سئل عن ذلك قال: إن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. والسعيد السعيد من يدركه الموت، وهو ثابت على شهادة التوحيد، متخلص من حقوق العبيد، متق للفتن، ملازم لجماعة المسلمين. وأنى لمؤثري السلامة النجاة، والفتن تعصف كالريح العقيم، تجتال الجميع، ولا تصيب الذين ظلموا خاصة. وليس بغريب - والحالة تلك - أن يفتتن الناس بالظاهر منها والباطن، يكثر القتل، ويختل الأمن، وتنتهك الحرمات، وتتفرق بالناس الولاءات، وتتعدد المرجعيات، حتى يغبط الأحياء الأموات، وفي الحديث: «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه»، ولذلك أسباب كثيرة، وقد أومأ المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إلى الأهم منها، فقال: «بنزول الجهل ورفع العلم» وذلك ما نعيشه ونشاهده في كثير من الأوساط. شباب مهتاجون تخطفوا الآيات والأحاديث، دونما إحاطة بها، أو فهم لما فيها، أداروا عليها أحكاماً سياسية، تطال العامة والخاصة، وبرروا بها أعمالاً تقع في صميم الفكر السياسي، بكل حساسيته وخطورته، وسوغوا بها الخروج على جماعة المسلمين، وهم جهلة بضوابط الاجتهاد والاستنباط والفتيا وشروطها، من معرفة بالعموم والخصوص، والناسخ والمنسوخ، والقطع والاحتمال، والتقدم والتأخر، واختلاف التنوع والتضاد، وقواعد الفقهاء، وضوابط الأصوليين، والمفاهيم والمقاصد، وفقه الأحكام وفقه الواقع، مع فقد العمق والشمول والتجارب وآليات اللغة وفقهها. وما أضل الناس إلا دعاة السوء الذين يشرعنون للمنكر، ويشيعون الرذيلة، ويحرضون العامة على التمرد، لا يحترمون العلماء، ولا يهابون السلطة، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله أخذته العزة بالإثم، يمارسون التضليل والفوضى باسم الحرية والحقوق، يستأثرون بها، ويصادرون حق الغير، ومن ثم يكفرون الأشخاص والطوائف، لمجرد المخالفة في الرأي، وهذا فيما أرى هو رفع العلم ونزول الجهل، والعامة غنيمة باردة لمن سبق، يحسنون الظن، ويصدقون الكذبة، ويزكون المزيفين. ومن الصعوبة بمكان تصحيح المفاهيم الخاطئة بعد رسوخها، وظاهرة «غسل المخ» خير مثال على ذلك، فكم من شاب أقدم على اغتيال أو تفجير، قتل فيه نفسه ومن حوله، دون أي مسوغ شرعي. ولقد أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح إلى أن هلكة أمته على يد «أغيلمة من قريش»، والمقصود هنا كلمة «أغيلمة» جمع مصغر لغلام، فهو قد جمع سبتين: تصغير الكلمة والسن. والشباب مظنة الافتتان، وما سيئت مشاهدنا إلا من أغيلمة تطيش سهامها، كما طاشت يد الغلام في الصحفة، فكان أن وجد من يرشده: «سمِّ الله يا غلام وكل مما يليك وكل بيمينك» والرسول الذي لا ينطق عن الهوى، يعرف ماذا ستلاقي أمته، ولهذا أوصى بالصبر قائلاً: «إنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه» وها نحن نشاهد ذلك حياً على الهواء، فـ«العراق» الذي تجرع الأمرين في العهد البائد، حيث سيم الخسف: تقتيلاً وتشريداً وإذلالاً وعوزاً، خرج من ظلم ذوي القربى إلى احتلال معلن، لم يخلف إلا فوضى مستحكمة، وانفلاتاً أمنياً مخيفاً، وفراغاً دستورياً مفجعاً، وإيقاظاً لخلايا نائمة، تنذر بـ«أفغنة» أو «لبننة» أو «صوملة» أو «سودنة» وقودها الناس والأموال والثمرات، ونتائجها الجوع والخوف والنقص في كل وجوه الحياة. ويكفي أن نستعيد تفجير «النجف» لنعرف لغة الفراغ الدستوري، وأم المصائب اختلاف النخب حول بدهيات لا تحتمل الاختلاف، ووقوع الكافة في تناحر باللسان والسنان. والموقف يزداد تعقيداً حين يأتي الإرهاب باسم الإسلام، مستهدفاً المسلمين الآمنين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من حمل علينا السلاح فليس منا» بل يزيد في أهمية حرمة المسلم، وتوفير الأمن له بمنع الإشارة بالسلاح، فلقد قال: «لا يشير أحدكم على اخيه بالسلاح»، وكيف يستسيغ مسلم ترويع أخيه فضلاً عن قتله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وهو قد نهى أمته عن الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان قائلاً: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» وفي خطبته التي بلغ بها أمر الله، وأشهده على الإبلاغ، وأشهد الناس على أنفسهم، قال فيها: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»، وخطورة الفتن التي تجتاح الأمة ليست في الوقوعات، ولكنها في المفاهيم. فالذين يقبلون على الانتحار أو التفجير، ويقتلون أنفسهم، ويقتلون المعصومين والمستأمنين، ويهلكون الحرث والنسل، لم يفعلوا ذلك من أجل مكتسبات دنيوية، ولا من أجل تعارض المصالح، وإن كان وراء ما يفعلونه أطماع، ألبسها المهندسون للعب لبوس الدين، فانجر إليها من لم يكتو بمكر الماكرين. هؤلاء الانتحاريون لديهم إيمان راسخ بمشروعية فعلهم، فمن يقتل نفسه، ويقتل الآخرين، لا يمارس ذلك من أجل عرض الحياة الدنيا، ومثل هذه العقيدة المنحرفة، لا يمكن حسمها على يد رجال الأمن والمباحث، ولا بحد الحرابة من قتل أو صلب أو قطع أو نفي، إنها بحاجة إلى مواجهة بالكلمة الطيبة والقول السديد، ينهض بهما العالم والمعلم والواعظ والخطيب والمفكر والمبدع. فالمواجهة القادمة ليست بالسنان، وإنما هي باللسان، وليست حصراً على رجال الأمن، بل أكاد أجزم بأن الدور الأهم لرجل الفكر والقلم واللسان. إننا حين لا نجد ملجأ ولا مغارات نحتمي فيها من الفتن فان علينا أن نحسن التعامل معها، والخلوص منها، بأسرع وقت، وأقل خسارة، فلقد أصابت قوماً فخرجوا منها سالمين، واستدرجت آخرين فأردتهم، وسلبت ما أفاء الله به عليهم من مال وقوة مادية ومعنوية، وخلفت فيهم الفرقة والعداوة والبغضاء والتنازع إلى يوم يلقونه، ولقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الفتن باللين تارة، وبالقوة تارة أخرى، وترك لليهود والمنافقين أكثر من فرصة، وأحسن التعامل مع من فاء منهم، وما كفر من فعل الكفر، وما قيد فعل المخالف بموقف واحد، فعل ذلك مع «ابن أُبيّ» و«حاطب بن بلتعة» وما استجاب لمن هم بقتل المخالف، مخافة أن يقال: محمد يقتل أصحابه، والفتنة لازمة، والأمة تخرج من فتنة إلى أخرى، ولكل فتنة موقف، وفي حديث حذيفة التساؤلي عن تتابع الفتن: «فهل بعد الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه بها»، ونحن نعيش زمن الدعاة المضلين، وهذا يتطلب تحرفاً دعوياً، تكون فيه الكلمة سيدة الموقف، والشاهد في ذلك سؤال حذيفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، وحذيفة رضي الله عنه يمعن في السؤال، حيث استطرد قائلاً: «فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». والبلاد الإسلامية قد تمر بحالات مماثلة، بحيث لا يكون جماعة ولا إمام. ومن ثم كان التوجيه على كل الأحوال: التوجيه بالمحافظة على الأمن واجتماع الكلمة، والتوجيه إذا جاء المسلمين خارجٌ على السلطة الشرعية، وكلمتهم على رجل منهم، والتوجيه حين تكون الفتن مع وجود الجماعة والإمامة، والتوجيه حين لا تكون جماعة ولا إمامة. وأجزم ان العالم العربي يعيش الحالات كلها، فهناك أمن واستقرار، وهناك فتن عمياء مع وجود جماعة وإمام، وهناك حالة من الفراغ الدستوري الذي لا يكون فيه جماعة ولا إمام. والرسول صلى الله عليه وسلم قد وجه أمته في كل الحالات، وأعطاها من الوصايا ما يمكنها من التعامل الحسن مع الفتن، ومع بوادرها. والذين يتصورون الحرب حلاً وخياراً وحيداً ولا يفكرون في تحرف أو تحيز أو دفع بالتي هي أحسن يداوون الأوضاع بالداء العضال، على حد: «وداوني بالتي كانت هي الداء» ولقد استشهد «البخاري» في صحيحه عند حديثه عن الفتن التي تموج كموج البحر بأبيات لأمرىء القيس: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشبَّ ضِرامُها ولَّت عجوزاً غيرَ ذات حليل شمطاءَ يُنكرُ لونُها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل وفي رواية الحميدي: «شمطاء جزت شعرها» واختيار الحرب يوقع الأقوياء في المستنقعات، ويضطرهم إلى التماس المخارج، وإعطاء التنازلات، وها هي قوى التحالف أحسنت هندسة الحرب، ولم تحسن هندسة ما بعدها، والحرب حين تقوم تنقلب الأوضاع رأساً على عقب. واذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العار ان تموت جباناً ولقد تداول الصحابة بحضرة «عمر» رضي الله عنه ما أثر عن الرسول في شأن الفتنة فقيل: بأن هناك فتناً تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الابتلاء والامتحان بالنعم أو بالنقم، كفتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، أما التي تموج كموج البحر فهي فتن الاعتقاد والولاء والبراء وتفرق الكلمة، والتقاء المسلمين بسيفيهما، والخروج على السلطان الذي لم يحدث كفراً بواحاً فيه من الله دليل. ولقد أومأ الصحابة إلى «كسر الباب» إيذانا بقيام الفتنة إلى قيام الساعة، وجعلوه قتل «عمر» وهو قائم يصلي على يد غلام المغيرة بن شعبة. والقارىء للتاريخ القديم تؤلمه مبادرة الفتن، وما حصل بين الصحابة، وما نجم عن ذلك من فرق ضالة شرعت لقومها من الدين ما لم يأذن به الله، وليست قراءة التاريخ الحديث بأقل إيلاماً، والناصح لأمته المهتم بأمرها يعتصر قلبه ما تعانيه أمته من ويلات دمرت الاقتصاد، وعطلت المشاريع، وأخلت بالأمن، وأشاعت الفوضى، وأحبطت النفوس، وأذلت الأحرار، ودنست الحرائر وأخرجت الناس من ديارهم. ولست أعرف أقسى على الإنسان من أن يهاجر مكرهاً من وطنه، ليعيش غريب الوجه واليد واللسان والعقيدة، ولقد استعظم القرآن الكريم الإخراج من الديار، وعده من أكبر الجنايات، وجعله مسوغاً للمقاومة، وأخذ الميثاق على بني اسرائيل بعدم سفك الدماء والإخراج من الديار واستنكر المخالفة {(ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) } وجاءت آيات كثيرة تستعظم ذلك، مما يؤكد حق المواطنة، وأهمية الوطن، ومشروعية حبه والدفاع عنه، والموت في سبيل ذلك، فهو من الضرورات الخمس أو الست التي يتداولها العلماء، ومن مات وهو يدافع عنها مات شهيداً، والفتن القائمة تمخضت عن ملايين المقتولين والمسجونين والفارين من ديارهم. وعلينا وقد أصابنا دَخَنُ ذلك ألا ندع الدخان يتحول إلى ضرام، فليس بيننا وبين الله نسب، وما أوجب على نفسه النصر إلا لمن نصر دينه وامتثل أمره، والذين شردوا من ديارهم، وقتلوا، وسلبوا أموالهم وحرياتهم أناس مثلنا، ومن الخير لنا أن نتعظ بهم، وأن نسعى جهدنا لإتقاء الفتن، فإن نفذ شيء من فلولها فلا أقل من أن نطوق ذلك في أضيق نطاق، ولن يتحقق النصر إلا بمبادرة النصح لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم، والدعوة على بصيرة، وأول خطوة نخطوها الفرار إلى الله، والدخول في الدين كافة، فالدين عصمة أمرنا، والقلم واللسان في هذه الظروف أولى من السيف والسنان، إن على علماء الأمة ومفكريها وأهل الحل والعقد فيها، أن يلتقوا على كتاب الله وسنة نبيه، لا يتخذون أهواءهم آلهة، ولا آباءهم قدوة، وقد تركوا على المحجة البيضاء، التي لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن رضي بالإسلام عقيدة ومنهج حياة، فليتفقه في الدين، لينذر قومه، وما تسلط أراذل الناس على أمة الإسلام إلا بسبب البعد عن سواء السبيل، فهل نشخص الداء، ونصف الدواء، ونجرب العودة النصوح إلى الدين الخالص. |
الساعة الآن +4: 04:22 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.