![]() |
الآن انتهينا من تراث الدكتور المنشور في جريدة الجزيرة فيما بين عامي 2006م و 2003م وسنكمل إن شاء الله بنتاجه في عام 2002م
لكم من عباس كل محبة |
مشكور جلست اسبوع من شان اقرا موضوعك
|
شكرا أبو نورة
|
الحُرمات بين غطرسة القوة وصلف الخطاب..! 3/3
د. حسن بن فهد الهويمل والأوضاع القائمة التي بلغ فيها السيل الزبى، لا تحتمل الفوضى باسم «حرية الكلمة»، ولا تعدد المشيخات والقيادات الفكرية والدينية باسم «حرية الفكر» وضرورة «الاجتهاد»، إذ لم تعد الأمة قادرة على احتمال مزيد من التحزبات لرأي أو قول، ولا للتجمعات حول متقحم بآرائه ورؤاه وتصوراته، ولا لتصنيم الأشخاص وتهميش القضايا. إذ ليس لدى الأمة المثخنة مزيد جهد كي تقعر الرؤية حول القضايا الفرعية وتلهو بالهامشيات التي لا تغير مجرى الأحداث بإهمالها أو بأعمالها. وليس من مصلحة الأمة كثرة الجدل حول المذهبية واللامذهبية، والمقدم والمؤخر من الأقوال. والجبهة الداخلية حين يجتالها المتنطعون والمتفيهقون والمماحكون والغالون في دينهم أو في أفكارهم ثم يؤدي ذلك إلى ارتباكهم وسط تضارب الآراء، وتناقض التصورات، تشكل عبئا ثقيلاً على أصحاب القرار، وتصبح عرضة للانفجار في أي لحظة، لأن الخلاف مع غياب المرجعية وتعدد القيادات الدينية تضخم القابلية للفشل وذهاب الريح، وتكون الأمة هدفاً للدسائس واللعب السياسية، والكائدون للأمة يمدونها بما يشغلها عن معالي الأمور، ويستغلون أبناءها الفارغين للجدل والفارغين من المعرفة بمجريات الأحداث. والذين يثير انتباههم كثرة الهالكين من حولهم، لا يعرفون ضلوع المستعمر في أدق تفاصيل الحياة، والوعي المتشكل من الفيض الإعلامي ليس مؤهلا لتداول الرأي، فضلا عن التصدر للقول المؤثر على مجريات الأمور. وليس من شك أن بعض ما تعانيه القيادات من تفلت الرأي العام إنما مرده إلى البون الشاسع بين ما يقال في الإعلام وما هو كائن في الواقع، حتى لقد كدنا نتصور المتداول من القول على كل الصعد «قصيدة كلثومية». وقد كانت الرضة «الحزيرانية» مؤذنة بغياب هذا الصوت، وكاشفة للمفارقة بين الخطاب الإعلامي والواقع العربي، غير أن دابر التآمر لا ينقطع إذ الذين اتخذوا طريقهم إلى السلطة محمولين بمحفة اللعب السياسية لا يقدرون على اعتزالها، ولا على قول الحق، ولا على الفعل الخالص من الشوائب، لارتباط مصائرهم بمن مكن لهم. وصنَّاع الزعامات يوقعون العداوة والبغضاء بينها وبين من تلي أمره، ليسهل تأديب إحدى الطائفتين بالأخرى، والمصنوعون حين يكونون ممثلين أغبياء يفوتون على بلادهم فرص النماء والاستقرار، وكل لاعب بالإنابة أو بالأصالة يشرعن للعبته باسم الدين، أو باسم القومية، أو باسم الحرية، ويهيل على الأطراف الأخرى تراب الذل، ثم يجد من يقبل بهذه الكذبة السوداء، معرضاً أهله وعشيرته للهيب الفتن، محملاً دولته أعباء التطهير، مثبطاً عن فعل إيجابي يدرء الشر. وقد مرت المشاهد العربية بزعامات فاقعة اللون، استهوت الخليين، وصعدت لغط الرهانات، وعند انجلاء الغبار تقطعت بالمراهنين الأسباب. والمؤلم سريان تلك الخطابات كالخدر في أوصال البعيدين عن دخن الفتن، وما ينشئه من تناحر لا يبرح فيوض الطرح الإعلامي، والعراقة السياسية المتجذرة مع الزمن، والمشروع الأيديولوجي المستجيب لحاجة الأمة، البعيد عن الصدام والإثارة مكتسب لا يجوز التفريط بشيء منه تحت أي ظرف. والطوارئ وإن كانت تتسم بذات الصبغة الدينية لا يمكن أن تتشكل بمعزل عن المشروع العريق المجانس، ما دام الدخول في المعمار الأصل والعمل من خلاله ممكناً. و علينا لكي نستبين الفواجع والبواقع ونحسب ألف حساب لكل رؤية جديدة أن نقرأ غيضاً من فيض الكتب التي نُسيت في غياهب الفتن وغيابة اللعب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر :«لعبة الأمم» و «من يجرؤ على الكلام» و «لا سكوت بعد اليوم» و «تنظيم الغضب الإسلامي في السبعينات» و «اللعبة واللاعب» و «ألغام في طريق الصحوة الإسلامية» و «بؤر التوتر في العالم» و «الإرهاب والإرهابيون» و «الأصولية الإسلامية في العصر الحديث» و «الإرهاب إسلام أم تأسلم» و «الصهيونية والعنف» وسلسلة «العنف الأصولي» و «الاستعداد للقرن الحادي والعشرين» و «على مشارف القرن الحادي والعشرين» و «الصراع بين التيارين الديني والعلماني» و «صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي» و «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» و «غطرسة القوة» ومذكرات الساسة، والعسكريين، ورجال الاستخبارات في الشرق والغرب، وما قامت به من تصفيات علمية وسياسية وقضاء على مشروعات عسكرية وسلمية واقتصادية، وتحليل الوثائق السرية المفرج عنها، و «الغليان» و «الانفجار» لهيكل، و «تزييف الوعي» و «المفترون» و «حمى سنة 2000» وصراعات المفكرين، وتناحر المذهبيين، وجدل المارقين، وعلينا استعادة المشاريع «الأيديولوجية» ومصائر زعمائها، وصدامات المتبادلين للمواقع فيما بينهم وصدامهم مع مراكز القوى المهيمنة، وتعدد الخطابات والانتماءات، وما تبديه من ظواهر الرحمة، وما تلوح به من مغريات، والقراءة الحيادية لما ذكر ولتاريخ الحركات المتعددة كاف لمراجعة النفس، ففي كل ذلك تكمن الدروس والعبر. والذين يتهافتون على الصراع، ليسوا على شيء من معرفة خلفياته، فأكثرهم مثاليون مصدقون وصادقون، أو هم وصوليون ميكافيليون، ومنهم من إن تسأله عن حيثيات رؤيته لا يدري ما هي، وما السياسة، وقد يكون همه محصوراً في رغبة الحضور ضمن دائرة الأضواء، و ذلك أضعف المطالب. ويستطيع الواعي أن يستبين هذه الفئات مثلما يعرف أسلوب توقي النوازل وتلقيها، والتعامل معها. وحين نحذر من تلك البوادر، نعرف الأكفاء من الساسة ونحفظ لهم حقهم، ونعرف لعلماء ومفكرين إسهاماتهم المعرفية والفكرية ممن قضى نحبه، وممن ينتظر، ونعي ما تركوه من كتب. وما عرف عنهم من سير عاطرة شاهد على سلامة مقاصدهم، فنحن لا نريد أن نبخس أحداً حقه، ولا نسعى للإحباط والتشكيك والتيئيس، فالأمة الإسلامية ولود ودود، والطائفة المنصورة قائمة، وستظل قائمة حتى يأتي أمر الله. والتحذير من المزالق لا يقتضي السكوت وكتمان الحق، ولايعني العدول عن المراجعة والمساءلة، ولكن هناك فرقاً بين المراجعة والمرافعة، وبين اختلاف وجهات النظر وتعمد التخوين والاتهام للآخرين. وجدير بنا وقد ادلهمت الأمور واستحكمت الشدائد أن ننظر بعين البصر والبصيرة إلى أوضاع الدول التي رضي قادتها تنفيذ اللعب السياسية على أرضها باسم الدفاع عن الثغور أو القضاء على الرجعيين والدكتاتوريين، وأن نستعيد الخطابات الثورية، وأن نستعرض معطيات المصطلحات المتداولة ك. «اللبننة» و «الصوملة» و «السودنة» و «الأفغنة» وما تنطوي عليه من مآس. وعلينا أن نتأمل ما آلت إليه أحوال الشعوب المغلوبة على أمرها من تشرد وضياع بين المنافي والسجون والمقابر والملاجئ ودور المعوقين، وما بلغته الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من ترديات لا مزيد عليها، كل ذلك، ومثله معه، يحمل على التفكير الجاد قبل القول في الأحداث المتلاحقة، والاختلاف حولها. وفي الحديث المقتضب لأوهام النخبة تحدث الدكتور «علي حرب» عن خمسة أوهام، يهمنا منها «وهم الحرية» وهي المزلق الأخطر، لأن الذين يتحركون في ظل مشروعيتها لا يفرقون بينها وبين «الفوضوية» التي أصبحت فيما بعد مشروعاً له أصوله ودعاته منذ أن ألف كتاب «ضد المنهج» ولحق بصاحبه من أوغل في هذه المهايع. والحرية حين تفهم على غير وجهها تكون أخطر من «الدكتاتورية» والاستبداد. لقد تداول البعض كلمات خطيرة وحساسة، وجعلوها شعاراً لمفهوم الحرية، مثل مقولة قاسم أمين:«الحرية الحقيقية تحتمل كل رأي ونشر أي فكر وترويج كل مذهب». وتعريف الحرية بهذه العبارة تفضي في النهاية إلى «اللادينية» و «اللا أخلاقية» بل و«اللاإنسانية» إذ التجمع الإنساني يقتضي عقداً اجتماعياً، يحتمي به كل متعايش. فالدول «الديموقراطية» تنتخب من تذعن له، والدولة الإسلامية تبايع من تسمع له وتطيع في غير معصية الله. والإذعان والسمع والطاعة ينتج «الحرية المنضبطة» التي فقدناها في ظل «المغالين» و «الحداثيين». ولعل أخطر ما يواجهه العالم المستضعف ارتباكه في فهم ثنائية «الحرية» و «السلطة» وحين لا يكون المعول عليهم على فهم جيد لحدود مفردتي: الحرية والسلطة فإن الكارثية لن تحل قريباً منهم، بل ستكون وسطهم، ولقد عالج المفردتين أساطين العلم الشرعي وعمالقة الفكر الحديث وكبار الساسة، وما من متقحم لهذه المهايع أخذ نفسه بجد المتابعة لمعرفة أدنى حد من متطلبات القول في قضايا السياسة. والعالم المضطرب في أحواله، المتوحش في تعامله، المقتدر بوسائله: الراصدة والمدمرة، لا يتحمل مسؤولية أطره على الحق من تحيط به الفتن من كل جانب، ولا من هو ساع بماله على المشردين، ولا من هو موظف كل إمكانياته لتخفيف الأعباء عمن يواجهون شواظ الحقد ولهيب الضغينة، وكيف يسوغ كاتب أو عالم أو مفكر أو خلي حدث السن لنفسه زج مقدرات الأمة لمواجهة الطوفان، وتحمل مسؤولية الترديات، والعمل العازم على إرجاع كل آلة حرب إلى قواعدها، وهل المواجهة في ظل هذه الظروف المتردية مطلب لا ينظر معه إلى الامكانيات والعواقب الوخيمة؟ وليس من العقل أن يتصرف البعض على أساس ان القادة قادرون على حمل الكون، وما يعج به من فتن، على ما يريد من عدالة «عمرية» واستقامة «سلفية»، بين غمضة عين وانتباهتها، وكيف يتأتى التدخل، والأخ يقتل أخاه، والشقيق يخوِّن شقيقه، والجار لا يأمن غدر جاره، والحروب الطائفية والقبلية والحدودية قائمة على أشدها، والعالم العربي والإسلامي يترنح من مغامرات أبنائه، وصلف قادته، ومكائد أعدائه؟. وكل الخسائر التي تتعرض لها دول العالم الثالث تصب في خزائن الأعداء. إن علينا الدعوة بالحسنى، وإصلاح ذات البين، وليس من حقنا شرعنة حرب غير متكافئة، أو تبرير أي فتنة عمياء يفجرها من لا مثمنات له يخشى نفوقها، وما علينا من حق لمن رضي أن يجعل أرضه وأهله مسرحا لصراع المصالح وتصادم الاستراتيجيات وتصفية الحسابات. وليس من حقنا ولا من مصلحتنا تسويغ الإرهاب الذي لا يقمع معتد، ولا يرد مظلمة. وفي الوقت نفسه يجب أن نميز بين «الإرهاب» الحقيقي الذي لا يحتمل إلا تصورا واحدا، و «المقاومة» المشروعة لردع ظالم عن مظلمة واستعادة حق مشروع لا خلاف حول أحقيته. وعلى كل الأحوال فإن ضبط النفس واستنفاد كل الوجوه الممكنة سلميا أفضل من الاندفاع والتهور. وتجربة مؤتمري «الطائف» و «مكة» وتشكيل اللجان والجمعيات لجمع التبرعات وتصدير الإعانات للدعم السلمي وإنشاء المراكز وعمارة المساجد ودعم الجماعات السلمية خير مثال للنهوض بمهمتنا الحضارية، بوصفنا مسلمين، نتداعى لآلام إخواننا في آفاق المعمورة. والأوضاع القائمة بحاجة إلى من يعالجها لا إلى من يواجهها ويؤججها، والمريض المقعد لا تتلَّه بيده، ليركض برجله، ولكن تجلسه برفق، وتعرف داءه، ثم تبدأ بعلاجه، لينهض بنفسه، ويمارس مهمته باقتدار، وإذا كانت الصهيونية تمارس أبشع صور الإرهاب على مرأى ومسمع من العالم وبتمويل منه، ثم لا تجد من يردع طغيانها من دول التحكم بمصائر الشعوب، فإن من واجب الأمتين العربية والإسلامية الخروج بموقف جماعي مرحلي مستطاع، يحسب له الأعداء حسابه، لا يتهورون بفعل غير مأمون العواقب، ولا يجازفون بقول غير مستطاع التنفيذ، ولا يهيجون الرأي العام الذي أصبحت له أهميته في السلم والحرب، وليس من العقل الاستخفاف به، وعند المبادرات يجب أن ننظر إلى الأسباب التي آلت بالأمة إلى هذا الوضع، إذ المؤسف أننا بلا ذاكرة، لا نستعيد الأحداث، ولا نقرأ التاريخ الحديث، ولا ننطلق في آرائنا ومواقفنا من خلفية معرفية رصدية، ولا نعترف بأخطائنا، ولا نحذر من مقولات قلناها ثم تبين لنا فيما بعد خطؤها، نسأل الله هلاك الأعداء، ولا نسأله صلاح الفساد، نلعن الشيطان ولا نستعيذ منه، وحين تنهض الأمة بما تقدر عليه، يكون في ذلك معذرة إلى الله، ولعله يكتب النصر، ويكشف الضرَّ، وما تمارسه الدولة من ضغوط عبر قنواتها جهد المقل، وما تدفع به من إعانات عبر مؤسساتها واجب المستطيع، والمؤمل المزيد من هذا وذاك، وليس من حق أحد أن يدفع بمقدرات الأمة في مهاوي الردى. والله العالم بالضعف خفف على رسوله وعلى أمته، ولم يحمِّل أحداً منهم تحقيق النتائج «ليس عليك هداهم» «إنك لا تهدي من أحببت» «ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً» «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً» «إن أنت إلا نذير» «ليس لك من الأمر شيء». وإذ لم يلزمنا بالنتائج، فقد ندب إلى فعل الأسباب، وحدد إمكانية الفعل ومشروعية الاتقاء: «الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً» «إلا أن تتقوهم تقاة» « لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» ومن الدعاء «ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به». إن أحداث العالم فوق الوسع وفوق الطاقة، وهي تنذر بمستقبل مخيف، وفتنة عمياء، ولمَّا يتعظ العالم الثالث، إذ ما يزال مسرحاً للفواجع، وميداناً للتصفيات، وساحة لتجارب السلاح، ومجالاً لتنفيذ اللعب السياسية. والإعلام الغربي الذي ذاق بعض غوائل الإرهاب بعد أمن، ومسته ضوائق الاقتصاد بعد رخاء، وانكشف ضعف تحصيناته بعد ادعاء، وطالته جرائر فعله ونتائج سياساته غير المتوازنة وغير العادلة، يشن حملات مريبة، على بلاد وفت بعهودها، وتجرعت ويلات الإرهاب من قبله، وواجهته بوضوح وقوة، بلغت قطع الرقاب، وإسقاط الجنسية، و استنكاره على لسان مرجعيتها الشرعية، ولم تفرق في مواجهته بين إرهاب يستهدف المواطن أو المقيم. فالذمي عندها له حق الأمن، و «من آذى ذمياً فقد آذاني» و «من قتل ذمياً لم ير رائحة الجنة». وحين يحرض الإعلام الغربي القوة المتغطرسة على الضاعن والمقيم، ويحفز المتجبرين على التدخل في الصميم، وتمتد نظرة الغرب المريبة إلى الثوابت والمصائر من : مناهج، وثروات، وتحكيم للشريعة، وحق السيادة، يأتي دور القادرين من علماء ومفكرين وأدباء وإعلاميين، لتشكيل جبهة داخلية، متماسكة، ملتفة خلف قادتها، محتمية بمؤسساتها، مؤازرة في التصدي للحرب الإعلامية الشرسة، متعاذرة عند اختلافها، لكي تكون مواجهتها حضارية، وخطابها متزناً. والأوضاع العالمية المتوترة لا تستدعي مزيدا من المشاققة، بعدما تبينت المقاصد والنوايا، وأصبحت مشروعية التدخل العسكري لتقليم الأظافر وحفظ التوازن وتحديد مواصفات الزعيم من الأمور المألوفة، وتلك بوادر خطيرة ما عهدناها من قبل، وليس فوقها من خطورة. وعلى الأمة والحالة تلك أن تتخذ الأسباب المأمور بها من إعداد الإنسان قبل القوة، وأخذ الحذر قبل المنازعة، وأن تستعين بمن وعد بالنصر «ومن أوفى بعهده من الله». ولكن بعد استقامة على المأمور، وتغيير لما بالأنفس، فحق النصر الذي أوجبه الله على نفسه للمؤمنين لا يتحقق إلا بذلك، وما نعظ به، لا يسلب حقاً، ولا يعطل حرية، ولا يمنع واجباً، ولا يخون مجتهداً فاته الصواب، ولا يعمق خشية، ولا يؤصل خوفاً من عدو متكبر متسلط، ولا يمنع من مساعدة مسلم متضرر بالقول أو بالفعل. وإنما لكل مقام مقال، ولكل ظرف خطاب، «فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا». والزمن زمن السكينة والتهدئة واجتماع الكلمة، والدفع بالتي هي أحسن، زمن الالتفاف، والتعاذر، وحسن الظن، زمن اللجوء إلى الله، فهو الذي يدبر هذا الكون، وهو المدافع عن الذين آمنوا، وهو الذي بيده نواصي الأمور، زمن الارتداد إلى الداخل، وترتيب البيت، وإعداد أبنائه لمواجهة الحياة العصبية زمن التصرف الحضاري، والفعل الواعي لمجريات الأمور، و «فوكوياما» أوجز قواعد النجاة لأصحاب المنهج الواقعي بأربع قواعد: «توازن القوى» و «اختيار الأصدقاء» و «القدرات لا النوايا» و «فصل كل الأخلاقيات عن السياسة عند التقويم» ونحن أحوج ما نكون إلى إعادة النظر في كل شيء في القوة والأخلاقيات والأصدقاء. فالحادي عشر من سبتمبر حد فاصل بين حياتين مختلفتين، وهو كما السابع من حزيران، الذي كشف الغمة، وفضح الخطاب العنتري. وما نرجوه من الله، لا يمنع من أن نحسب كل الحساب للأسباب والسنن. نعد القوة: قوة الفكر، والاقتصاد، والعلم، والسلاح، والإنسان، والتعاون على البر والتقوى، والاعتصام بحبل الله. وعلى قادة الأمة، وقادة الفكر أن يعوا متطلبات المرحلة الحرجة، فعند الأزمات لا بد من القوة والعدل، وإعلان حالة الطوارئ، ليكون الخطاب غير الخطاب، والموقف غير الموقف. فالصلف الخطابي في المواجهة تحريض لغطرسة القوة، وتفرق العلماء والمفكرين وإعجاب كل ذي رأي برأيه والتنازع فرصة الأعداء المتربصين. والجنوح إلى السلم، و الدخول فيه، تحرف مشروع، ومصير منطقي، ومن وجه فوهة بندقيته إلى خصمه، فعليه ألا يترقب من يرشقه بالتين والزيتون، ولا من يتولاه بالرأفة والرحمة، وعليه أن يستعد لمواجهة تزهق الأرواح، وتحرق الأرض، وتشعل الفتن، وتخيف الآمنين، وتشرد المستقرين، وتدفع بالانتهازيين، وتدفع إلى تصفية الثارات وبعثرة الملفات. و من فكر وقدر، ثم لم يضع في اعتباره الاستعداد لهذه الكوارث، فهو كمن يحلم. والذين يتقحمون المنابر، وينتشرون في المواقع، ويتصدرون المشاهد، لا يقدمون مشروعا، ولا يقدرون عدة ولا عتادا، وأقصى ما يملكونه الاهتياج العاطفي الأعزل، والرهانات غير المقبوضة «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا»، وما نشاهده الآن من إرهاب دولي، وانتهاك متعمد لحرمات المسلمين، يحفزنا على التساؤل «متى نصر الله»؟ ويحفزنا على ترقب الفرج بعد الشدة «حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا« «وما النصر إلا من عند الله». لقد ابتلي الأنبياء فصبروا، وابتليت أقوامهم فاتقوا واحتسبوا، وحورب الإسلام بصنوف المكائد من إفك، وتشكيك، وإثارة للعصبيات، وإغراء، وإغواء، وإغراق في الشهوات، وصد عن الذكر. وعرف المسلمون جذور البلاء، وثقافة الضرار، وأجنحة المكر، معرفة لا شائبة فيها. فما اعتزلوهم، وما جودوا فقه التعامل مع المخالف، ففتحوا بجهلهم أكثر من ثغرة، وأغروا بصلف خطابهم أكثر من عدو، وأتاحوا بموالاتهم أكثر من فرصة للمكر والمكيدة. والأخطر أن يختلف المتخندقون في خندقهم، والناصرون لله حول نصرتهم، فذلك البلاء المستطير. هذا ما أقول وما سوف أواجه الله به، وأجادل فيه عن نفسي متوقعاً صحته، وما أردت إلا الحق والإصلاح ما استطعت، ومن وجد خيرا مما أقول فليفض علينا من صوابه. |
الحرُمات بين غطرسة القوة وصلف الخطاب..!(2/3)
د. حسن بن فهد الهويمل وإذ تعيش الأمة العربية والإسلامية والعالم بأسره حالة من التوتر والغليان، وعشوائية في التخبط، فإن على الناجين من أعاصيرها، أن يرعوا هذه المكتسبات، وألا يتقحم أحد منهم بقول أو بفعل ما يؤجج غطرسة القوة، ويدفعها إلى كسب الرأي العام، واتخاذ موقف استعدائي ضد دولة تؤثر السلامة، وتجنح للسلام، وقدوتنا في اعتزال الغليان والانفجار، ما اختاره الورعون من الصحابة رضوان الله عليهم، حين اشتعلت الفتنة الكبرى، حيث اعتزلوها، وأغلقوا أبوابهم على أنفسهم، والإسلام شرع طريق الخلاص والنجاة، حين وجّه إلى الصبر والاحتساب والاعتزال. والحروب المشتعلة في بقاع كثيرة من ديار المسلمين، تخوضها فصائل عرقية أو اقليمية أو دينية، تدعمها قوى خارجية، وحين تشوبها أدنى الشوائب، لا تكون مشروعة، ولا تضاف إلى الجهاد الإسلامي، ولا يجوز للممتلئين غيظاً من غطرسة القوة أن يتخذوها متنفساً لهم، والطائفتان المقتتلتان، وصفتا بالإيمان، وندب إلى قتال الباغية منهما، وعلى هذا لا يكون من مصلحة الأمة، ولا من مصلحة أحد من أفرادها التورط في تلك الحروب: قولاً أو عملاً، إلا إذا كان الدخول فيها حقناً للدماء، أو إصلاحاً لذات البين، أو تخفيفاً من معاناة الأبرياء الذين أصابتهم الفتنة، دون أن يكونوا من الضالعين فيها. على أن يكون الفعل تحت ضوء الشمس، وعبر القنوات المشروعة. وحين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن مشروعية القتال، جاء جوابه حاسماً وبيناً: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». و «الجهاد الإسلامي» لا يكون إلا بحاكم مسلم، يقدّر، ويدبر، ويوقت. مع اجتماع كلمة تعصم، ووحدة أمة تخيف، وقوة من صنع الأيدي ترهب، و لا يكون الجهاد إلا بعد دعوة بالغة، ومنابذة على سواء، ووفاء بعهود. وكيف يتصور جهاد، والأمة اليوم ممزقة الأشلاء، متعددة الأهواء، لم ترد الخروج ولم تعد له عدته. ذلك على مستوى المبادرة، أما صد الاعتداء والدفاع عن الحق والنفس فشيء آخر لم يلتفت المختلفون حوله ولم يتحمس المفتون من أجله، ومن بادر الحرب أو سعى لإثارتها بدون تلك المسوغات، فعليه أن يتحمل وحده تبعاتها، ولا يجوز الحديث عن تلك الفتن على أنها من الجهاد، ولا يجوز تحميل الإسلام ما لا يتأكد من إسلاميته. ومن خانه سوء التدبير أو سوء التعبير، ولم يصدر في تدبيره ولا في تعبيره عن مشورة أو مواطأة، فليس له على غيره حق، وليس من حقه القول باسم الإسلام. وما على الذين قدّروا، ودبّروا، واعتزلوا الفتنة بتقديرهم وتدبيرهم السليم أن يزجوا بمكتسباتهم، ولا أن يفرطوا بهيبتهم، ولا أن يضيعوا ثقلهم العالمي وأدوارهم الايجابية في صد العوادي. كما أنه ليس من مصلحة الأمة نكث العهود، وحل المواثيق، ونسف قنوات الاتصال. وإذا كانت للأمة سياستها الناجحة في معالجة الأمور، ومواجهة الأحداث، وحل المشاكل، ودرء الفتن، فإن التخلي عنها مغامرة محفوفة بالمخاطر. والدعوة للمواجهة، ومسايرة المغامرين، وقوع في الفتنة، ومعانقتهم في خطاباتهم الاستعدائية تعميق وتعميم لها. والدخول في اللعب السياسية باهظ التكاليف على كلا المستويين: الحرب الباردة، والحرب الساخنة. والذين رضوا لأنفسهم ولشعوبهم مسرحة أرضهم، وتنفيذ المخططات عليها تحت أي مسمى، ثم تجرعوا مرارات الدخول في الفتنة، لا يتحفظون العقلاء بمعسول الوعود. وكم نرى ونسمع من الخطابات ممن هو ضالع في اللعبة من طوائف وفئات ودول أوْهَى من بيت العنكبوت. وإذا كان الله قد أكد للمسلمين بسماع الأذى الكبير من الذين أوتوا الكتاب، فقد أمرنا بالصبر والتقوى، وجعل ذلك من عزم الأمور. كما أنه نهى رسوله عن أن يكون في ضَيْق مما يمكرون. وخيار المسلم والتسامح في هذه الظروف أرأف بحال الأمة المستضعفة.وهل أحد يجرؤ على إعلان الجهاد، والسلاح من صنع الأعداء، والعالم يداول مشاكله في المجالس والهيئات والمؤتمرات، ويقوي نفسه بالتكتلات متعمداً نسيان ما سلف. إن حاجتنا الملحة في الجهاد الأكبر، جهاد النفس الأمارة بالسوء، وإعدادها لذروة السنام، إذ لم يكن بد منه، ولكن بعد إعداد القوة المتفوقة والمرهبة، وقد فصل الله لنا مشروعية الإقدام والإحجام في آية التخفيف.والخطوب حين تدلهم، وغطرسة القوة حين تخلع القناع، تحدو أفراد الأمة وطوائفها إلى تقوية الجبهة الداخلية بالتعاذر والتماسك، وتوحيد الخطاب، وتفويض الأمر إلى أهل الاختصاص والمسؤولية، ممن ندبوا لذلك، وجهزت لهم الإمكانيات، ووفرت لهم المعلومات، وعرفوا دخائل الأنفس ودواخل الأمور، ودوافع المواجهات، ومقاصد اللعب السياسية، وإمكانية مواجهتها، أو توقيها، وحمّلوا مسؤوليّة التفكير، والتدبير، والتوقيت، والتقدير، والدفع بالتي هي أحسن، والمصير إلى أيسر الخيارين رفقا بالأمة، وصيانة لكرامتها، وتوفيرا لهيبتها، واقتداء برسولها الرؤوف الرحيم عندما يخير بين أمرين. ولأن السياسة فن الممكن، و «الميكافيلية» على أشدها، وحكومة الصقور في أعنف حالات اهتياجها، والمطابخ السياسية تحكم صنع اللعب، وزرع الألغام، وجر الأقدام، فإنه لا مكان للاهتياج العاطفي، ولا للمزايدات، ولا لصنع النمور الورقية، واقتراف تحشيد المشاعر، وتأزيم النفوس، وتجييش الرأي العام، والتشكيك بالمواقف. ولا مكان للمبادرات الشخصية: قولاً أو عملاً. ومن شمله العهد والميثاق، وجب عليه العدول عن القول الرافض المناهض في النوازل العامة التي هيئت لها المجالس، وندب لها الأكفاء، ومن عدل عن القول المخالف محافظة على مصداقية دولته، وتمكينا لها من استغلال ظروف السلم والاتفاقات وتبادل المصالح، ومن عدل عن الفتيا درءا للفتنة، وجمعا للكلمة، فالعادلان لا يدخلان في وعيد الله للذين يكتمون ما أنزل من البينات والهدى، ولا في وعيد رسوله صلى الله عليه وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» وهو ما يعول عليه البعض. إذ أن من شروط وجوب الإفتاء تعينها على المفتي بالتكليف أو الخلو، وأن لا يخاف المفتي غائلة الفتيا، فإن خاف وقوع شر أكبر من الإمساك أمسك، لأن المفسدة لا تزال بمفسدة أعظم منها. ولما كان المفتي مخبرا بحكم الله عن الله بدليل لمواجهة نازلة، وجب عليه أن يراجع نفسه، قبل الاقدام على ذلك، وأن يعرف متطلبات النص المعول عليه، من ناسخ ومنسوخ، وخصوص وعموم، وتعارض لا يتيح الجمع، ولا يحمل على الإسقاط وقطعية دلالة وثبوت، أو احتماليتهما، ثم ليعرف أن لكل زمان ظروفه وامكانياته، وما أفتى به أو قال به علماء الأمة من السلف في ظل ظروف مواتية، لا يمكن إنزاله بحذافيره على واقع مغاير. ولهذا لزم أن يكون المفتي «مجتهداً» «أصولياً» «عالماً بالحكم» و «بالواقعة» و «بضابط الإنزال» و «بمقتضى الحال». وتوقي كتمان العلم له طرق غير التصدر لشق عصا الطاعة، كالإرشاد، والتعليم، والفتيا في العبادات والمعاملات، وإفتاء السائل المعين باسمه مشافهة، وحين لا يكون بد من القول، فلا يجوز التضييق على الناس بالمقدم من المذاهب، متى كان هناك ما هو أيسر في ذات المذهب من أقوال، فضلاً عن المذاهب الأخرى. والرسول صلى الله عليه وسلم سكت عن الترجيح بين أقوال المختلفين، حين احتمل النص الرأيين في قضية «صلاة العصر» في بني قريظة، وهي قضية جهادية، ولو طبقنا شروط المفتي وصفته كما تداولها الأصوليون، لما جاز لكل متعلم أن يتصدر للفتيا، لأن من شروط المفتي: الاجتهاد بضوابطه، ومعرفة أصول الفقه، ومن لم يكن كذلك فهو «حاكي فقه» وما أكثر «الحكواتية» في زمننا، ممن يقولون : «نحن رجال وهم رجال».والذين يعولون في فتياهم على فتيا سلفهم، يجهلون أن زمن السلف تتكافأ فيه القوى، وتتخلف أهلية القيادات. أما اليوم فليس هناك تكافؤ، مع تخلف في أهلية القيادات والأمة، ومثل هذا الوضع يتطلب تحرفاً لصناعة الأمة، لا زجا بها في أتون الفتن. وكم نسمع من يتعطش لعودة «صلاح الدين» وكأن الأمة تفتقر إلى قائد يلملم إمكانياتها المتكافئة مع إمكانيات الآخر. وكان علينا أن نتعطش إلى أمة تتخلص من غثائيتها التي أخبر بها من لا ينطق عن الهوى، وهي التي تنتج القائد التاريخي، يقول «جوستنيان» الإمبراطور الروماني، وصاحب المدونة في «الفقه الروماني» : «إنه لكيما تحكم الدولة حكماً صالحاً في وقت السلم وفي وقت الحرب لا يجد صاحب الجلالة الإمبراطور بدا من الاعتماد على ركنين: الأسلحة. .والقوانين. بالأسلحة يستمر قاهرا لكل عدو من الخارج يقصد الدولة بسوء، وبالقوانين يقطع دابر المظالم التي يبيتها بعض الأهالي لبعض» ذلك قوله في زمنه، أما اليوم فإن هناك مطالب حضارية، لم تُستكمل بعد، ومن أراد السلام فليستعد للحرب، وليصنع الأمة، وليقوي النظام، وليحترم القانون. وإذا كانت أمور الجهاد، والعلاقات الدولية، وتبادل المصالح، وعقد الاتفاقات منوطة بولي الأمر المبايع على الكتاب والسنة، والمستحق للسمع والطاعة فإن على من هو خارج المسؤولية ألا يشق عصا الطاعة بقول أو فعل، وألا يحرض العامة بقبول رؤيته المخالفة لرؤية الجماعة، متى كان في الأمر فسحة. وعند تعدد الرؤى والخيارات، يلزم الأخذ برأي الجماعة، وإن كان مفضولاً. ويتحتم الإحجام عندما تشتعل الفتن، وتعظم البلوى. أما حين تستقر الأحوال فإن إبداء الرأي من حرية القول المكفولة لكل مقتدر ينشد الحق، ويعرف آداب مخاطبة السلطة، وتداول الرأي معها. ومنازعة السلطة حقها في الخطوب يعد من مداخل الفتنة، ولا عبرة لمثيري البلبلة بدعوى الورع وإبراء الذمة، فمعرفة الحكم الشرعي وحده في قضايا السياسة ومنازلة الأعداء لا يكفي، إذ لا بد من «فقه الواقع» المتمثل: بفهم النازلة، ومثيراتها، وحجم المواجهة، وقدرة المتصدي لها: عسكرياً واقتصادياً وبشرياً، وفهم اللعب السياسية، والوقوف على تفاصيل القضايا والملفات، ومعرفة النوازع والدوافع، والركون لذوي الاختصاص من أساطين السياسة، بالخبرة أو بالدراسة، واستصحاب حق الولي ومقتضيات البيعة، والفهم الدقيق لمصالح المسلمين، واعتبار إمكانياتهم، والنظر في الخيارات، والأخذ بأيسرها، ومراعاة ضعف المسلمين وأحوالهم، المتمثلة: بتقطع أمرهم، وتفرق كلمتهم، وضرب بعضهم رقاب بعض، وتصنيم حدودهم، وتقديس المفرطين من قادتهم، وتعدد ولاءاتهم، وشح أغنيائهم، وعمالة المستضعفين منهم لعدوهم، وتخلف سوادهم الأعظم، وتعلمن مترفيهم، وفقر أكثرهم، وركونهم إلى عدوهم، وعدم استغنائهم عنه، في صناعاته: السلمية والحربية، وحاجتهم إليه، لحفظ التوازن، وفك الاشتباكات، وفض المنازعات، وصد العدوان، واشتراكهم معه في منظماته، وأحلافه، وإفادته، والاستفادة منه. فخيار المواجهة قولاً بصيغة التحدي والصلف، أو عملاً بالمناجزة غير المتكافئة، في ظل هذه الظروف المتردية، ليس هو الحل الأمثل، ولا الوحيد. ولما لم يكن بد من التحرف القولي أو العملي فإن هناك عدة مستويات مندوب إليها، ليس منها خيار الصلف في الخطاب أو الحرب في المواجهة، وما دامت الأمة متشرذمة، وفي أشد حالات الغثائية، وتحت سلطات متعددة، وأيديولوجيات متناحرة، ومستويات اجتماعية واقتصادية متفاوتة، وخلطة مستحكمة مع غيرها. وما دامت العدة غير مرهبة، وما دام الدعاة إلى الله قادرين على إبلاغ الدعوة، عبر مراكز الإسلام ومنظماته، وكافة وسائل الاتصال، وما دامت شعوب العالم غير المسلم مستعدة لسماع الدعوة، والأقليات الإسلامية تتمتع بحق المواطنة، وتتحسن أحوالها يوماً بعد يوم. فإن الحوار والحالة تلك أفضل من الصدام، والوفاق العالمي أفضل من الافتراق، والدفع بالتي هي أحسن أرفق بالمستضعفين، وبالأقليات الإسلامية، والأمة منهية عن تمني لقاء العدو، ولاسيما أن الدخول في الإسلام يبشر بمستقبل أفضل، واختراقات المسلمين لأجواء الديانات الأخرى لا يقابلها اختراقات مماثلة لأجواء الإسلام، ويكفي أن الخيرين يبنون المساجد، ويقيمون المراكز، ويندبون الدعاة، ويوزعون الكتب، ثم لا يبادلون بإقامة الكنائس في بلادهم واستقبال المبشرين. مع إن الخطابات الإسلامية عبر منظمات العنف لا تملك مشروعاً حضارياً، يضمن الاستقرار والاستغناء، حتى لقد جر تفكك الاتحاد السوفيتي غوائل بسبب واحدية القطب وغياب المعادل الإسلامي. وجرأة المفتين المحرضين على القتال أو المشرعنين للإرهاب توغر الصدور، وتؤزم المواقف، وتوقظ الغافلين عن مشاريع الدعوة إلى الإسلام. وتصفية الثارات، ورد الظلم لا يكون بالغدر، ولا يكون بالعنف. وما كان العلماء المجتهدون الأصوليون يتسرعون في فتيا العبادات والمعاملات، فكيف «بحاكي فقه» يتصدر للفتيا في مصائر الأمة، مناهضا لولي الأمر، مخالفاً لفتيا المكلف، قادحاً في عدالته، طاعنا في أمانته.والعقلاء الورعون من علماء الأمة من يدفعون بالسائل إلى من يليهم، خوفاً على أنفسهم من زلة عالم تطال مصلحة الأمة، فضلاً عن أن يبادروا إلى القول في النوازل المصيرية، وقد كفوا مؤونة ذلك بمن هم أهل للفتيا، ومسؤولون عنها. وليس هناك ما يحمل على التزاحم على منابر القول، ومراكز المعلومات، لتبرير الإرهاب، أو للتحريض على المواجهة، أو لشرعنة الحروب العرقية والطائفية والتسلطية والسلطوية، وإضفاء قدسية الجهاد الإسلامي عليها، ولاسيما إذا اهتاج الأقوياء لضر مسهم، وملكوا شرعية الرد العنيف لمن غزاهم في عقر دارهم. والقول عندما تُعمى الأمور، وتدلهم الخطوب كالفعل، فالذي يضرب بسيفه، كمن يضرب بلسانه. فذلك يفعل، وهذا يدفع إلى الفعل، ومن ظن أن كلمته غير المحكمة، وغير الممحصة، تطير في الهواء، فقد وهم. فما أشعل الحروب إلا بوادرُ القول، وما تفرقت الأمة إلا باختلاف علمائها ومفكريها، وما كَبَّ الناسَ في النار على مناخرهم إلا حصائِدُ ألسنتهم، وليس من المصلحة العودة إلى ما كانت عليه طوائف التطرف والعنف الديني: كالخوارج، والقرامطة، والمعتزلة، ممن جروا الويل والثبور وعظائم الأمور على علماء الأمة وعامتها. ولعلنا نستعيد ما هو دون ذلك، وهو فعل «العامة ببغداد» في القرنين الثالث والرابع الهجري، ومطاردتهم لمن خالف رأيهم، وبخاصة «الفصل الثامن عشر» «ص 465» من كتاب «العامة ببغداد». وتعصب كل طائفة وإعجابها برأيها مؤذن بإعادة التاريخ، فالذين يخوضون معارك السلاح، ليسوا بأسوء حال ممن يخوضون جدل القول. واختلاف الآراء بين الناصحين العقلاء الصادقين المخلصين لا يؤدي بالضرورة إلى التنازع، وتصفية السمعة أو الجسد، وإنما يحيل إلى المراجعة وتداول الآراء، والتماس الحق، ثم القطع والعزم والتوكل، ومن لم يؤخذ برأيه، وجب عليه السمع والطاعة والتسليم، ومن بحث عن الانتصار أو الكسب صعب عليه الإذعان، وكيف لا نقبل بالتغليب، ونحترم الأغلبية، وبعض أحكام الشريعة مدار حظرها وإباحتها على التغلب، فإذا غلب الخير على ما دونه شرّع. والرسول صلى الله عليه وسلم الذي يتلقى الوحي من السماء، استشار أصحابه، وألح في طلب المشورة، ولم يجد بأساً في العدول عن رأيه. ولا يليق بالعلماء والمفكرين أن يحملهم العجب بالرأي، والإصرار عليه، على مفارقة الجماعة، ولا على النيل من أندادهم المخالفين أو المتوقفين. وسكرات الفتن تفرز حقائق النتائج التي تصيب الجانحين إلى الوئام، والمتذرعين بالصبر والتقوى، وما نشاهده ونسمعه، وما نستدعيه من مراكز المعلومات، وما يتبادله البعض من مسترجعات ومصورات، وما تضخه قنوات الإثارة، وما يسره الفضوليون، وما يعلنونه، لا يبشر بخير، ولا يبعث على اطمئنان، فالمتقحمون بأقلامهم وألسنتهم إن هم إلا يوقدون نار الفتنة، فطائفة تؤيد، وأخرى تعارض، وثالثة تفسّق، ورابعة تكفّر، وعالم جليل يخون، ومفكر ناصح يتهم، ومخلص تشاع عنه قالة السوء. والنفوس مليئة بالحقد والضغينة، وظاهرة التصنيف والاتهام على أشدهما، لا يهاب سلطان، ولا يحترم عالم، ولا تقال عثرة، ولا يلتمس عذر، وما أحد أحسن الظن بالمخطئ، ونبه إلى الصواب برفق، بل كل يدعي أن قوله صدق لا يحتمل الكذب، وقول غيره كذب لا يحتمل الصواب. وتلك ظواهر ما عرفناها، وما كانت من أخلاقيات السلف الصالح، الذين إذا ادلهمت الفتن اعتصموا بحبل الله، وردوا خلافهم إليه وإلى رسوله، ثم لا تكون لهم الخيرة. ولو أن المتنازعين لزموا جماعة المسلمين، وأيقنوا أن من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ولو أنهم توقوا الابتداع واتباع الهوى، والتعصب والتحزب لكان خيرا لهم، ومثل هذا التدافع على القول عبر المنابر والمنشورات ومراكز المعلومات والقنوات، والتهافت على الأضواء، وكسب الغوغاء مخل بالمروءة، مشكك بالمصداقية، طاعن في الإخلاص.وما يرافق من أخبار عبر المواقع أشد خطرا مما يراق من دماء في ساحات القتال. فأين الورع؟ وأين الخوف؟ وأين سلامة الصدور؟ وأين حسن الظن؟ وأين النوايا السليمة؟ وأين حرمة المسلم التي قال عنها المصطفى في «حجة الوداع» ما تقشعر له الجلود؟ وأين مذهب السلف الصالح في التعامل مع المخالف؟ لماذا تحولت الصفوة المؤملة في الظروف الحالكة من التفكير إلى التكفير، ومن التحري إلى الجزم، ومن الورع إلى الجرأة، ومن الإيثار إلى الأثرة، ومن حب السلامة إلى الجماح في فجاج الفتنة؟. وإذا كنا نحتمل لغط العامة في مجالسهم، فإن مقولات النخب وثائق تصب في أوعية من يتربصون بالأمة الدوائر. والدول القوية الظالمة تتعقب زلات العلماء والمفكرين، ممن يقولون عن النوازل والأحداث دون تروّ أو تمحيص، تحلل، وتستثمر، وتحتج، وتثبط عزائم الناصحين. وأنى للخائضين في لجج الفتن المصدر المحايد، الذي ينقل لهم الحدث بكل دقة وأمانة وصدق. والعدو المتربص هو الذي يبث الأخبار، وينتقي الصور، ويصنع الرأي العام، ويستفز المتسرعين، ثم يدفعهم إلى قول متشنج، لا يغير من الوضع شيئا، وإلى فعل متهور لا يقلب موازين القوى، والعدو المتربص المترصد يحيل آراءهم وأفعالهم إلى مواقف دولتهم، فيصيب هدفين بضربة واحدة: يكسب الرأي العام، ويفرق كلمة الأمة، ويثبط عزيمة الدولة. والعقلاء العالمون، يفوتون الفرص على الانتهازيين، ويحولون دون اختراقاتهم، والبلاد التي أطعمها الله من جُوع، وآمنها من خوف، ووقاها مصارع الفتن، وحماها من أعاصير السياسة، ومن صلف الثوريين، ومغامرات الحزبيين، وفجور العلمانيين، عليها أن تعرف أن ذلك ناتج تصرف حكيم، وتوفيق من رب رحيم، وعليها أن تعرف أن استبداد كل عالم أو مفكر برأيه واستقلاله بفعله يعد بداية تفكك، ونذير تفرق، وظاهرة اختلاف، وذلك مؤذن بزوال النعم، ولسنا دعاة تزكية لأحد، وإنما نحن دعاة اعتزال للفتنة، ولزوم للجماعة، وتحر للصواب. |
رحمك اللّه
أبا خالد ، ، ، ! د، حسن بن فهد الهويمل إذا قيل إن الموت «نقاد» فلا تظنن أنها مقولة مرتجلة، فالحكم والأمثال نتاج تجارب طويلة، ورصد دقيق، ومتابعة واعية، صحيح أن «كل نفس ذائقة الموت» وأن الموت «يلاقي» ولا يلحق، وأنه ينفذ إلى الكبار في بروجهم المشيّدة، والى الضعفاء في أكواخهم المهلهلة، ولكنه حين يأتي بغتة وفي غير موعده، يكون كما «النقاد» الحبير الذي ينتقي الأجمل والأروع، يخطف العائل من بين زوجته وأبنائه، وينتزع المحبوب من أحضان محبوبته، ويسل العالم من بين طلابه، ويقتاد الموسر المنفق من بين فقرائه، يخطف الوحيد من حجر أمه، والشاب المتوثب من طريق آماله، يهدم البيوت على أهلها، ويطفئ أنوار الأسرة باختطاف عميدها، ومن بعد الأب الحاني، وصديقنا الغالي غانم بن عبد اللّه الغانم الذي وافته المنية في مشافي أمريكا من الذين رحلوا في وقت مبكر، وفي وقت نحن أحوج ما نكون إلى مثله في حسن شمائله، ورحابة صدره، وسرعة بديهته، وخفة ظله، وروعة لذعته، وسعيه الدؤوب للملمة شمل الأصدقاء، وتنظيم لقاءاتهم، وملئها بالمرح البريء والسعادة الغامرة، لقد ترك فراغاً مملاً، فقده أصدقاؤه الذين أفعم حياتهم بالسعادة، وصدم زملاؤه الذين ملأ وقتهم بالعمل، وفجع ذوو الحاجات من معارفه وأقاربه، وخلى منه مسجده الذي يتعهده في كل موسم عبادة بالطيب والمشروب، لقد كان بيته مثابة لذوي الحاجات من معارفه، يشفع لهم، ويسعى في أمرهم، يأوي إليه الأقارب فيجدون عنده رحابة الصدر وكرم الضيافة وقضاء الحاجة، لقد كان وفيّاًَ في حضور المناسبات، ولحوحاً في البحث عن الأصدقاء، وكانت جلسته ضحى الجمعة ملتقى الأصدقاء الذين تباعد بينهم المشاغل، والذين يعرفون سجاياه الحميدة، يبكون كما أولاده وأحباؤه، لقد بكيناك أيها الغالي حين علمنا بدائك العضال، وبكيناك حين غادرت البلاد سعياً وراء الاستشفاء، وبكيناك حين تذكرنا ما تفيضه على أصدقائك من بهجة وسعادة، ولكننا أحسسنا بالغبطة تطفئ لظى الفرقة، حين تدفقت أمواج المصلين عليك، حتى ضاقت بهم أرجاء المسجد، وما وسعتهم الأسواق، وحين سمعنا دوي الدعاء، وحين رأينا المتدافعين وراء نعشك، وحين لم يُعرف المعَزي من المعزّى، فكل واحد من معارفك وأصدقائك يحس بذات الحزن والألم، ويتلقى التعازي بفقدك، لقد كنت الصديق الوفي، تملأ المجلس بهجة، وتحييها بالمرح وبالمزاج البريء والنكتة الخفيفة خفة نفسك وسلامة صدرك، كنت كريماً، ومضيافاً، وسباقاً إلى كل خير، ومما زاد الألم أننا ما كنا، وما كان الأقربون يتوقعون رحيلك بهذه السرعة، وما كنا نتوقع أن يتسلل المرض إليك من ثنيات عدة، فيحول بينك وبين التدخل الجراحي لإنقاذ حياتك، كنا نراك تذبل، ولكنك صبور كتوم ،تشيع البهجة والسعادة على جلسائك وأصدقائك، وفيك ما فيك من ألم ممض، وحين أحسست أنك لا تقدر على احتمال مزيد من المرض، امتد إليك حرص الأبناء والأصدقاء وشملتك رعاية الدولة فتلقتك سفارتها في أمريكا بكل ما لديها من إمكانيات، وفتحت لك أرقى المستشفيات في العالم، وحف بك أولادك البررة، وتبعتك دعوات أصدقائك الأوفياء، ولم نتوقع أن رحيلك حيا متحاملا على نفسك سيكون الذهاب إلى الأرض التي ستموت فيها «وما تدري نفس بأي أرض تموت»، وهناك كنا معك في قلوبنا وفي اتصالاتنا، نتابع حالك ساعة بساعة، وفي كل يوم نحس أننا نقترب معك إلى النهاية، ومضى الأمل معنا كما سراب القيعان يخفف الأعباء، فلقد غدوت من أهلك تبحث في المشافي عن شفاء اللّه الذي أنزله لكل داء، وكنا متفائلين بشفائك، وما زدنا على الدعوات الصادقة التي تحفك من يمين وشمال سائلة اللّه أن تعود كما أنت في حيويتك ونشاطك ومرحك العفوي، ولكن قضاء اللّه سبق كل شيء، وعدت محمولاً إلى الأرض التي منها خلقت، وعليها درجت، الأرض التي أحببتها وقضيت زهرة شبابك وبوادر كهولتك في خدمة أهلها، عملت في الصحافة مراسلاً، وكاتباً، وعملت في قطاعات كثيرة موظفاً، وكنت إنساناً اجتماعياً تشارك في كل المناسبات، عرفتك الصحافة في زمن مبكر، ثم شُغلت عنها، ونسيتها لتنساك، إلا من إشارات وشذرات كتبها رواد الصحافة من أمثال «عبد الفتاح أبي مدين» في مذكراته، ومرت السنوات الأربعين التي عرفناك فيها كغمضة عين وانتباهتها، فإلى جنة الخلد أيها الغالي الذي لن يغيب، وأحر التعازي لوالدك الصبور، وزوجتك المفجوعة، وأبنائك الذين كانوا معك في أيام الشدة، و«لمهند» الذي نقرأ في بريق عينيه ملامحك الوادعة، إلى أسرتك التي كنت لها الظل الظليل والأب الرؤوف الرحيم، ولأصدقائك وزملائك الذين وجدوا فيك الأخ والصديق الذي يجمع الشمل ويبذل الجهد، |
النقد الثقافي: البديل أو الرديف (11)
د. حسن بن فهد الهويمل ولو نظرنا إلى القيمة المعرفية «النقد الثقافي» بوصفه جماع المشروع: تنظيراً وتطبيقاً، لوجدناه دون المؤمل من مثله، بوصفه كتاب مشروع يغمره الواردون للامتياح، ويغمر المشهد بجدة منهجه وآلته وشرطه، وبوصف صاحبه من كبار المثقفين الذين لا نغمطهم حقهم، وإن اختلفنا معهم، إذ هو بدون ثقافة وثوقية، وكأنه تفسير الرازي المقول عنه: «فيه كل شيء إلا التفسير»، وكل صيده جملة من الافتراضات، وحشد من التلاعب اللفظي والتشقيق الكلامي، والتكرار الممل لكلمات: «النسقية»، و«التشعرن»، و«التفحلن»، وجلد مميت للشعر العربي، ممثلا بتعيس الحظ «أبي الطيب المتنبي»، وبالسيئ من غرض المدح، دون سائر الأغراض الأخرى، من فخر وحماسة ووصف وحكمة وغزل وعتاب ورثاء، وتلميع زائف للذات، باستدعاء متأخر ل«نزار قباني» و«أدونيس» اللذين صنما من قبل على يد رفاق الدرب، ومشروع نقدي يخلص من زحام المذاهب يستأثر بالمشهد مميتاً ما سواه لابد ان يكون في محتواه وإجرائه استثنائياً، أما وقد قزَّم الأشياء لتكون بحجم تصوره للثقافة العربية جاهلاً أو متجاهلاً ما يتوفر عليه الشعر العربي من قيم متعددة، وهو مفردة من مفردات الثقافة المنكوبة بأبنائها العققة فإن الموقف لن يكون ودياً ولا مطمئناً، وبخاصة حين يتنكر لديوان العرب، ولو انه عاد إلى الدراسات الأكاديمية عن القيم الأخلاقية في الشعر العربي القديم والحديث وعن النقد الأخلاقي في مختلف العصور، لتبين له انه يرجم بالغيب، على انه في إحالته للمرجعية التراثية التي يلم بها كما نَدْل الثعالب، إنما يعول فيها على احتمالات دلالية لا تحتمل، وكأنه بعض المفسرين اللغويين ذوي النزعات الطائفية الذين يتغصون في البحث عن أدق الدلالات، لتعزيز رؤيتهم، دون النظر إلى الأنساق، وبصرف النظر عن الإنشائية والتغنص والندل والالتفاف الغبي على رواسب الماضي وسمعته، هنا، وفي «حكاية الحداثة» فإن التعامل مع النص الإبداعي، أو مع مكوناته، أو مع مضمونه، أو مع انعكاساته وتشكيلاته السلوكية والتصورية والمفهومية يتقاطع في بعض تلك الوجوه مع «البنيوية التكوينية» التي خرجت ب«النقد البنيوي» من سلطة اللغة بوصفها بنية: «علائقية أو توليدية إلى سلطة الأيديولوجيا، وذلك حين فرضها الماركسيون على الشكلانيين الهاربين من الالتزام الماركسي، ممن وصفهم «جابر عصفور» بالنقاد الهروبيين وإن كانت «التوليدية» ذات نفس ماركسي كما ان «النسقية» توصيف بنيوي، والمشروع برمته لا يبرح الترويج لتحولات نقدية غربية، تدعي كسر الطوق وتفكيك الدائرة اللغوية المفرغة التي كبلت روح النص، وعطلت قيمه الحقيقية وتشكيلاته السلوكية، وكأني بهذا التحرف الفج التقاط غبي لهذا الخيط من تحت أنقاض التداعيات الماركسية والبنيوية والحداثية، إذ ان النقد بهذا الانعطاف المتعدد الاحتمالات يعدُّ خروجاً من سلطة النص اللغوي الذي لا يبرح «العلاقة» و«العلامة» و«الجمالية» والاحتباس داخل نفق «الفن للفن» إلى فضاءات لا حدود لها، فهي باتساع مشمولات الثقافة وإن أركس في دعوى «التشعرن» المتشكل من الفهم السقيم، والمحمَّل جريرة تشكيل الأنساق الاجتماعية، وذلك بعض ما يقرره صاحب المشروع بطريقة عازمة جازمة، لا مكان للاحتمال عندها، وهذا التحرف عودة إلى ما هو خارج النص، وإحياء للمؤلف الذي قضى نحبه بذات اليد التي أحيته، واشتغال بالمضمون، أو بمخرجات المضمون، بوصفه تشكيلاً للوعي وللسلوك، وبالتالي فهو ضربة لازب للبنيوية اللغوية التي أغثينا بها فترة من الزمن الرديء، فأميت من أجلها المؤلف، ونفي المضمون، وقضي على جغرافيا الفن على الطريقة «الهيغلية» الذي قال يوما ما ب«موت الفن» في سبيل مواكبة «الجمالية الفوضوية» وقد يتاح للبنيوية أو لرواسبها في آفاق «النقد الثقافي» «مفحص قطاة» وبالذات «البنيوية الانثروبولوجية» كما هي عند «شيتراوس» و«البنيوية بكل تنقلاتها: اللغوية والأدبية والاجتماعية وبكل تحولاتها المفهومية والإجرائية: كالتقويض والتفكيك والتشريح وبكل مسمياتها: اللسانية والأسلوبية والنصوصية لم تبرح أدمغة المستغربين الذين لا يملكون إلا الاهتياج الأعزل لاستقبال كل طارئ، ولكيلا نغمط البنيوية حقها نشير إلى انها ذكرت البعض بأهمية الحفريات اللغوية، وحفزت على الاهتمام بالوظيفة اللغوية على حساب المعيار الصرفي والنحوي مع الاستعانة به بوصفه آلة ووسيلة، وهي قد نبهت إلى أهمية «الشعرية» بوصفه مصطلحاً خفف من غلواء الشرط الفني، وإن أخفق البعض في تفهمه كما انها ضيقت الخناق على التاريخية التي طغت ردحاً من الزمن، ولكن الذين اشربوا في قلوبهم عجل الغرب سفسطوا الأمور، وبرعوا في القول الفارغ، وحملوا النصوص من الدلالات ما لا تحتمل، وتقولوا على المبدعين كل الأقاويل لا بعضها، و«النسق الثقافي» الذي عول عليه «النقد الثقافي» المحلي مصطلح من مصطلحات علم الاجتماع، واستدعاؤه ليكون المجال الأوحد للمشروع، لا يمكن من خلط الأوراق وتعمية الأمر على من لهم قدم صدق في مفردات «علم الاجتماع» والصيرورة إلى «النقد الاجتماعي» صيرورة فعلية إلى «النقد الثقافي» وهنا لا يكون من حق أحد وضع اليد على معروف لا يحتاج إلى تعريف، وقد أومأت من قبل إلى ان المشروع مشاع تتنازعه معارف متعددة، وضياع هويته بين قبائل المعارف يحول دون التبني. والاشتغال بالمضمون أو بتشكيلاته النسقية بعد القطيعة ارهاص للخروج من هيمنة النص اللغوي الإبداعي المزدوجة: هيمنة اللغة، وهيمنة القبح المضموني المتوسل بالجمالية، كما يدعي صاحب المشروع إلى ما وراء النص، أو إلى أثر النص بوصفه المشكل الأقوى للنسق الاجتماعي، ثم ان القول بالنسقية الثقافية كالقول بالنسقية اللغوية، فهاجس الأنساق مراوحة بين الثقافة واللغة، وليس في ذلك مساحة كافية للدعوى العريضة والإجلاب عليها بالمصححين والممحصين والصابرين على اللأواء من زوجة وأبناء، والناقد الثقافي من خلال رؤيته المحلية يمارس محاكمة القبح الدلالي المفترض والمتضخم في الشعر، وامتداد المحاكمة إلى «النقد الأدبي» المظاهر له، لأنهما ومنذ ظهور شاعر المديح في آخر العصر الجاهلي إلى «نزار» و«أدونيس» يقترفان جريمة شعرنة الأمة، بحيث تكون: «شحاذة» «مداحة» ومن ورائهما اللغة المتفحلنة، وجريمة الشعر العربي في قبحيته المتوسلة بالجماليات لتسريب القبحيات المشكلة للأنساق الاجتماعية المتسيدة، ومن حقنا في ظل هذه الغيرة المصطنعة ان نتساءل عن غيابها وغفلتها أو تغافلها في جنح «الرواية» وترديات الروائيين في وحل الرذيلة والعامية؟ والزمن كما يقول الحداثيون «زمن الرواية»، ولست أدري لماذا غفل النقاد الحداثيون الذين ضخموا القذات الشعرية عن جنايات الرواية، بل اتجهوا صوب مناصرة المنحرفين والساقطين من المبدعين الروائيين الذين بلغوا حد الدعارة، ولم تكن كتاباتهم عن موهبة، ولم تكن لغتهم لغة فن رفيع، والنقاد الحداثيون لم يغفلوا فقط وإنما تفانوا في سبيل شرعنة هذا السقوط الذريع والانحراف المريع حيث جنحوا لربط الصراع حول مشروعية هذه الجنايات بحرية الفكر وحرية التعبير ولو ان «التشعرن» قائم في الثقافة لما كان في الأمر من بأس ولكنه وهم من الأوهام، وليس الاشتغال به إلا تلهية عما هو قائم من جنايات موجعة، على ان النصوص المستدعاة للمحاكمة والإدانة للأنساق ليست من اللغة في شيء، وإن أنتجتها نصوص شعرية، كما يفترض صاحب المشروع، فالأنساق بوصفها نصوصا تحال إلى الثقافة الرؤيوية التصورية، وكل شيء معنوي أو حسي أو إجرائي نص بالنظر إلى المدلول الوضعي المحيل إلى «البروز»، ثم النظر إلى كل ظاهرة على انها نص، والتعامل معها بهذا المفهوم، فلم يعد النص اللغوي هو المجال الأوحد للنقد، وإنما كل شيء قائم في الذهن أو متشخص في السلوك أو متمثل خارجه مشتمل على نظام ومرجعية هو «نص ثقافي» والاشتغال فيه «نقد ثقافي» ذلك ما لمسته، وذلك ما لا أرى بأساً في الأخذ به، ولكن ليس على طريقة صاحب المشروع في تحديد المفهوم، واختلاق النسق، وافتراض المرجعية، وتخويل الذات إقامة الدعوى وتنفيذ الحكم. و«النسق» و«النص» و«التفحلن» بقايا رسوبية من مصطلحات البنيوية، أفرغت من محتوياتها وملئت بمدلولات تقترب من الثقافة ولا تكونها، وهذا التقليب العقيم لا يضيف شيئاً ذا بال، ومع كل هذه المقترفات والتحرفات والتوهيمات والتغريرات لا جديد في المشروع، ولا تحديد للمنهج، ولا تعيين للآلة، ولا حتمية للمجال، إذ المشمول الثقافي لا يحتويه مذهب، ولا يحيط به مشروع، وتلك الدعوى بهذه المواصفات لا تستحق كل هذه التظاهرة التي تدل على بدائيتنا وجهلنا للمتداول في المشاهد الأدبية والثقافية والاجتماعية والنفسية، والذين يتابعون المشاهد وما فيها لا يجدون فيما يقال باسم «النقد الثقافي» أية إضافة تستحق كل هذه الجلبة، و«النقد الأدبي» مرَّ بتحولات «سوسيولوجية» و«إنثربولوجية» و«ميثولوجية» و«أيثولوجيا» و«أيديولوجيا» هي الأقرب إلى «النقد الثقافي»، ولما يفكر أحد من رواد هذه التحولات بادعاء مصطلح جديد للنقد ووصفه بالمشروع الذي يمات من أجله ما قبله، إذ التحولات طبيعية والتجديد عفوي، ولتعذر الجمع والمنع المصطلحي، إذ الثقافة: «وجادة»، و«اقامة»، و«سمة»، و«طريقة» والاشتغال بأي مفردة من مفردات الثقافة لا يضاف إلى الثقافة وحدها، وعلى الذين تتواصل معهم لحظة الصدمة والانبهار العودة إلى «التنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية» و«العقل الأخلاقي العربي» للجابري، وهو الجزء الرابع والأخير من مشروعه المثير، و«المنهج الموضوعي: نظرية وتطبيق» للدكتور عبدالكريم حسن، و«محاولات في دراسة اجتماع الأدب» للدكتور نوري القيسي، و«التحليل الاجتماعي للأدب» للسيد ياسين، و«السوسيولوجيا والأدب» للدكتور قصي الحسين، و«سوسيولوجيا الأدب» «لروبيرا سكاربيت» ترجمة آمال عرموني، وإلى بعض مباحث «استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية» لمطاوع صفدي، و«النقد الأدبي والعلوم الإنسانية» ل«جان لوي كابانس» ترجمة د. فهد العكام، بل العودة إلى مكتبة خاوية على عروشها حول الواقعية الاشتراكية، والذي يحسم الخلاف ما وعته معاجم «علم الاجتماع» التي تناولت طائفة من المصطلحات التي عوَّل على بعضها صاحب المشروع بوصفها مبادرة وتجديداً وما هي من المبادرة والتجديد بقريب. والنقد الاجتماعي «السوسيولوجي» يحال إلى الثقافة تذرعا بعلاقة العموم بالخصوص، بحيث يطلق عليه «النقد الثقافي» ولو استغنى بمصطلح «السوسيو ثقافي» لما تغير في الأمر شيء، فعلماء الاجتماع وكتابه، لا يرصدون وحسب، وإنما يحللون، ويقومون، وذلك عين النقد، والقول ب«النقد الثقافي» إنما هو نظر لاهتمامه بمجموعة من البنى: الاجتماعية والدلالية والتفاعلية، على انه لا يكون جديداً بمجرد الإضافة إلى الثقافة، التي وسعت أشياء كثيرة، وهو إذ يحيل إلى النسقية الذهنية أو السلوكية، ينظر إلى النسقية البنيوية التي امتد القول فيها زمن الطوفان البنيوي، و«النقد الثقافي» بكل معطياته المفهومية لا يند بطائل، ولا يبرح المنجز «السوسيولوجي» الذي نجد بوادره في القرن التاسع عشر عند «مدام دي ستيل»، وقد التقط الخيط منها «الماركسيون» حين جعلوا الأدب مجرد «واقعة اجتماعية» وليس هنالك كبير فرق حين تحولت «الواقعة» إلى «نسقية»، وليس من شك ان هناك تداخلاً دائرياً بين «النسقية الثقافية» و«الواقعية الاجتماعية» وليس شرطا ان يكون هناك توارث ايديولوجي بين التصور الماركسي و«النقد الثقافي»، ولسنا نريد من وراء ذلك إلا اثبات ان «النقد الثقافي» قائم منذ أمد بعيد، مثله مثل «النقد الإسلامي» الوريث الشرعي «للنقد الأخلاقي» منذ ارسطو إلى اليوم، والذين تدق نظرتهم في تقصي اهتمامات «لوكاش» و«جولدمان» لا يجدون أدنى فرق بين «الواقعة» و«النسقية»، على ان الراصدين للاتجاهات النقدية لم يعطوا هذه الظاهرة كبير اهتمام، وبخاصة «رينيه ويليك» في رصده التاريخي والموضوعي والفني للحركة النقدية، و«ويليك» بهذه اللامبالاة يحيل إلى عجز هذا الاتجاه عن تقديم «أسس تتلاءم مع المشكلات الدينامية التي تطرحها الظواهر الأدبية الحديثة» «النقد الأدبي المعاصر ص38» وعلى المتابع المهتم ان يقرأ كتابي «آفاق العصر» و«زمن الرواية» لجابر عصفور ففيهما ترديد ممل لهذه التحولات، واستعادة لما رصده «رينيه ويليك» عن جغرافيا النقد، والنقد في القرن العشرين، وقد أشار من قبل «سمير حجازي» لقضايا النقد واتجاهاته وإلى مجموعة من النقاد «السوسيولوجيين» وإلى طائفة من أعمالهم وتحولاتهم، ففي ألمانيا «ميسهرج» ت 1916» وفي روسيا «بليخانوف ت 1918» وفي أمريكا «جرانفل ماكس» وفي انجلترا «كريستوفر كوريل ت1907م» الذي نقد «ثقافة الحضارة» الفردية والحرية البرجوازية، وقد يكون صاحب «النقد الثقافي» بتجريحه الجائر وغير المتزن وغير العلمي للنسق الثقافي العربي المتشعرن على حد قوله مقلدا غبيا ل«كوريل» ولن نمضي مع طبيعة التحولات النقدية المربكة ومحاولات «العوربة» و«الأسلمة» و«العلمنة» و«العولمة» والرهانات الرابحة والخاسرة، إذ لو مضينا مع ذلك لبعدت علينا الشقة، وإنما نكتفي باللمحات والإحالات لنؤكد ان «النقد الثقافي» مجرد رداء حوله اللابس من يمين إلى شمال، كما يحول «المستغيث» رداءه تفاؤلاً بتحول الحال، وهذا التشبع والتجشؤ من فراغ أوهم البعض بأنه اتيان بما لم تستطعه الأوائل. وكم أتمنى لم تقصى الراكضون وراء عجاجة صاحبهم ما كتبه «ويليك» عن ملامح التحولات النقدية، وما أفاض به سائر النقاد الماركسيين والواقعيين والحداثيين، وما وسعته معاجم المصطلحات الحديثة، وبخاصة معاجم المصطلحات النقدية وعلم الاجتماع وملفات المؤتمرات وحلقات الدرس الأدبي، إذ لو فعلوا ذلك لعرفوا ان التحولات لا تصل إلى مستوى المشاريع، ولست معترضا فيما أقول على تجديد التسميات، ولا على تنويع المجالات، ولا على المراوحة بين المواقع، وأملي ألا يكون المتقصون للحقائق ساذجين، ولا قابلين لمخادعة الساذجين، بحيث يصدقون ما يقال من ان الخلاف حول مشروعية التجديد والتغيير، فنحن مع التجديدات، ومع التغيير، ومع كل الاطروحات الأدبية والنقدية والفكرية، نستوعب، ونقترض، ونتابع بنهم كل جديد، ونبارك المستجدات، ونرى ضرورتها، ولا ندعي مبادرة ولا ريادة ولا مشروعا، ولا نميت، ولا نقترف خطيئة الازاحة لما هو قائم، ولا نكره أحدا على واحدية الاهتمام، وحين تفرز المشاهد الثقافية أو الأدبية أو الفكرية أو الدينية معارضين متشنجين للمستجدات فإن هذا لا يخول العابثين باسم التجديد حشر كل المتسائلين أو المتحفظين في قائمة واحدة، لشرعنة عبثهم، والإحالة الماكرة على أساليب المعارضة أو التحفظ وجمعها في سلة واحدة مكر يمكره الكائدون في مدينة الفكر والأدب ولكنه مكر ضعيف بائر، ولو ضربنا مثلاً بحركة التجديد الاقليمية التي اتخذها البعض شاهداً على المواجهة للتجديد وبالناقد المجدد «محمد حسن عواد» لألفيناه بين متحفظين على اندفاعه، ومجرِّمين لهذا الاندفاع، وليس من حق الراصد حشر الطائفتين في سلة واحدة، و«العواد» رحمه الله دعا إلى «السفور» و«العامية» و«النثرية» وهو ما لا يجوز الاتفاق المطلق معه عليه، ومع هذا فإن «الحداثة» التي هتف لها الفارغون لا تمت إلى مشروع «العواد» بصلة، إنها قول في «التفكير» وليست قولاً في «الفن» ولا يجوز تلويث سمعة المجددين. واعتراضنا لا يمتد إلى التناول من حيث هو، ولا يمنع أي أسلوب في التناول، وإنما هو على المغالطة والاتفاق الغبي، ف«الحداثة» ليست التجديد، ومن قال بذلك فهو جاهل أو متجاهل، «الحداثة» مشروع فكري لا يمت إلى التجديد بصلة، و«النقد الثقافي» ليس وقفاً على ضرب الثقافة العربية، والاعتراض يمتد إلى دعوى المبادرة والتجديد، والأثرة، وعلى إكراه الناس، وحملهم على اتجاه نقدي لا تربطه بالأدب رابطة، وعلى استدعاء مصطلحات لا علاقة لها بالأدب، وتصور اغنائها إلى حد إماتة «النقد الأدبي» القائم ما قام الأدب، وعلى تجميع الظواهر الاجتماعية، وتسميتها بالأنساق الثقافية المتشعرنة، لتبرير دعوى «النقد الثقافي»،. وكل هذه الابتسارات والاكراهات ليست بشيء إلى جانب «التشعرن» وما تستتبعه هذه الصيغة من مفاهيم جائرة لا تليق بثقافة الأمة وابداعاتها القولية التي وسعت جلائل الأمور، ولو ان المفكر الغربي أطل على الثقافة العربية من كوة «النقد الثقافي» وتطبيقاته الاقليمية لأثلج صدره ذلك التقزيم، وهو بلا شك سيطل، والعمل سيترجم إلى أكثر من لغة، وسيطبع أكثر من مرة على شاكلة رواية «الحزام»، لأنه يشفي صدوراً كثيرة، تود لهذه الحضارة ان تختصر في الخرافة والاسطورة والعامية والتشعرن والتفحلن، وحين لا ننكر تعرض الأنساق الثقافية لشيء من ذلك فإن هناك فرقاً بين التخصيص والتعميم، والنصيحة والتعبير، وما حواه الكتاب من قول عن الثقافة العربية وأنساقها، لم ينظر إلى خصائصها الربانية وما تتميز به من: شمول، واتزان، وأخلاق، وتوازن، وواقعية، وعالمية، وإنسانية، وإيجابية، ولم يستحضر الخيرية الباقية بانتظار نصر الله. والأسوأ من كل ما سبق التصور الخاطئ والفهم السقيم، وعدم وعي المتلقي بمآلات الاستنتاج، وإذا كان «لويس عوض» و«محمد مندور» و«عبدالمحسن بدر» و«عبدالمنعم تليمة» و«محمود أمين العالم» ومن قبلهم «حسين مروة» وسائر النقاد والمنظرين والمبدعين قد ركنوا إلى «الواقعية» بكل مستوياتها واتجاهاتها: الماركسية والاشتراكية والاجتماعية فإنهم استبطنوا «الجمالية الأدبية» واستطاعوا إحكام لعبتهم، أما صاحب «النقد الثقافي» فقد خسر مشروعية محاكاته، بدعوى موت «النقد الأدبي»، وقد ألمح د. سمير حجازي إلى بعض المحاولات المشابهة لمهمات «النقد الثقافي» بقوله: «إن محاولة الربط بين الفرع المبدع والجماعة والأثر هذا الثالوث لا يلتقي إلا في إطار الإبداع الفني أو الأدبي على المستوى السوسيو ثقافي» «ص48 النقد الأدبي المعاصر»، ولو ان «النقد الثقافي» وسَّع «الإبداع» و«الاجتماع» وتفاعلاتهما، وما يفرزانه من أثر يتشكل في ظله «النسق الثقافي» الحقيقي، وليس التوهمي، لكان رديفاً لا بديلاً، وهذا أقصى ما يملك الحصول عليه، أما الاستئثار فضرب في فجاج الوهم والتوهيم. |
جائزة الأمير نايف العالمية.. من المحدودية إلى الشمولية!
د. حسن بن فهد الهويمل حينما كتبت عن «مؤسسة الفكر العربي» وعن «التعليم الجامعي من المأزومية إلى المأزقية» وعن «وزارة المياه» هاتفني بعض المتابعين يستحثني على الخروج من ضوائق الأدب إلى فضاءات المجتمع، ويصف كلماتي بحدة النبرة، ويناشدني التخفيف، متعللاً بأن الأمر لا يحتمل كل هذا الخوف، غير اني حين لقيت صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز على هامش تكريم الشاعر الأمير عبدالله الفيصل لم يبد أي امتعاض مما قلته حول مؤسسة الفكر العربي، ولم يضق ذرعاً بالتحفظات والتحذيرات، بل أكد على اهتمامه بما دار في المقالين، وقدَّر التساؤلات والتحفظات، وشكر لي ما أبديته من تخوف، وما قدمته من اقتراحات، وتلك الرحابة في الصدر والثقة بالنفس من لدن سموه، بعثت في نفسي الثقة والاطمئنان، إذ تأكد لي ان رجالات الدولة يثمنون الكلمات الصادقة المخلصة، وإن لم توافق هوى في نفوسهم، ولاتزال الأمة بخير متى أصاخ قادتها للموعظة، ومتى رحبت صدورهم للتساؤل، ومتى عرف المتعقبون من حملة الأقلام حدود ما يجب، وحفظوا حق القادة عليهم، وكنت فيما أتناول من قضايا أفرق دائماً بين الخطأ العارض في التطبيق والخطيئة المتأصلة المرتبطة بالمنهج، وأخطاء المسؤولين من العوارض التي يجب تعقبها. والمتطوعون بالأعمال الخيرية، الباذلون لجهدهم ووقتهم ومالهم في سبيل خدمة الوطن عبر أي موقع، يودون لو تسدد أعمالهم، ويكون نصيبها النجاح والقبول، فالكبراء منهم يرفلون بحلل الجاه والغنى، وتحفهم الأضواء من كل جانب، وتغمرهم المسؤوليات الجسام، وليسوا بحاجة إلى مزيد من العناء، وتطوعهم بتحمل مزيد من الأعباء دليل على وعي سليم لرسالتهم في الحياة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الصدقة برهان» لأن نفاق الأقوال والأعمال يسير، ولكن الإقدام على الانفاق دليل إيمان، وبرهان تقوى، وعلامة صدق، والجود بالمال، كما الجود بالنفس دليل إيمان هناك ومؤشر إحسان هنا، ولهذا صار الجهاد ذروة سنام الإسلام، وواجب المقتدرين بالقول أو بالفعل ان يسهموا بما يقدرون عليه، لا يحابون، ولا يتملقون، وفي المقابل لا يشكون، ولا يتشاءمون، والقصد مطلوب في كلتا الحالتين، وبخاصة حين تكون المشاريع في خدمة الكلمة سواء كانت من عند الله أم من عند غيره، فالمشاريع الفكرية بما اوتيت من وسائط النقل ومراكز الحفظ وسهولة الوصول تسهم في تشكيل وعي الأمة وتصورها لله وللكون والحياة، ولا سيما ان الأمة تعيش حالة من التيه والارتباك بفعل الكلمة المنحرفة والرأي السقيم، وما البواقع التي تصيب الأمة إلا نتاج شحنات ذهنية بلغت حد غسيل المخ، فالذين يتصدرون للقول ثم لا يكونون على وعي عميق بفقه الواقع ومعرفة سليمة بشفرات اللعب السياسية القاتلة يسيئون من حيث يريدون الإحسان، وذلك ما عرَّض الأمة الإسلامية لنكسات موجعة، قد لا تسترجع معها عافيتها إلا بعد معاناة طويلة، وتبني المشاريع العلمية والفكرية من ذوي الوعي والخبرة والمسؤولية يبعث على الثقة والاطمئنان. وإذا كنت اختلف مع مشروع ما من حيث المنهج أو التوقيت أو المجال أو كنت أراه دون المؤمل فإن هذا لا يمتد إلى سلامة المقاصد ولا إلى حسن النوايا، والواثقون بأنفسهم لا يزيدهم النقد والمساءلة إلا إمعاناً بالثقة ومزيداً من الأداء السليم، ومما لا نقبله من كُتَّابنا ومفكرينا ونخبنا العلمية والأدبية التخلي عن المساحة المشروعة للقول الحق والاشتغال بالكلام العديم الجدوى من مجاملة لا يتطلع إليها الجادون في حياتهم، والذين يتخلون عن الممكن من القول كالذين يقولون في غير الممكن. ومشروع معرفي سلفي مستنير يظهر إلى الوجود بحجم السنة النبوية المطهرة، ويتبنى دعمه رجل بحجم نايف بن عبدالعزيز في زمن رديء، وعزوف معيب، وظروف عصيبة يمر بها العالم الإسلامي، يعد بحق من أهم المشاريع العلمية وأجدرها بالمتابعة والتساؤل، وإبداء المشورة وتفادي المجاملة التي قد تفوت على المعنيين تلافي أي نقص، ولا سيما إذا كانت تلك المشاريع في دور التأسيس، ومبادرة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز تتطلب المباركة والمؤازرة، والمباركة والمؤازرة ليستا وقفاً على الثناء والرهان والتزكية، فسموه لا يريد الجزاء ولا الشكور الفانين فناء الدنيا. وإذا كان «مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف» قد حقق خدمة جليلة لكتاب الله، بلغ به آفاق المعمورة، وتمكن من الحصول على نسخة من المصحف الشريف كل مسلم، كان يتمنى الحصول على نسخة منه، ثم لا يحصل عليها من قبل، لقد تخطى المجمع بجهوده طباعة النص إلى ترجمة المعاني إلى مختلف اللغات وتفسير آي الذكر الحكيم وتسجيله صوتا لعدد من المقرئين، وحقق نجاحا لا مراء فيه، وانتزع اعجاب الأمة الإسلامية، فإننا نرجو ان يكون مشروع الأمير نايف بن عبدالعزيز بهذا المستوى، بحيث تكون الجائزة جزءاً من المشروع، وليست هي كله، ولا سيما ان اللجنة العليا سيكون لها اجتماع قريب، لوضع تصور شامل لهذا المشروع، ولقد راودتني من قبل فكرة التقدم لصاحب السمو الملكي ولي العهد بإنشاء مجمع رديف لمجمع الملك فهد، ينهض بمهمة إحياء السنة المطهرة، وتكون مهمته استقطاب الجهود الفردية لعلماء الحديث، وتمويل مشاريعهم في التنقيب عن المخطوطات والمطبوعات غير المحققة، والتحقيق العلمي السليم القائم على أوفر المناهج وأدقها، والتخريج العلمي وفق ضوابط الجرح والتعديل والتصحيح والفهرسة والشرح والدراسة، وطبع الأعمال المميزة في أكثر من دولة، وتخفيض أسعارها قدر الإمكان، والاسهام في ابتعاث الدارسين الذين يسجلون بحوثهم في تلك الأقسام واقتراح مشاريع علمية يفرغ لها المتخصصون من علماء الحديث، بحيث تشكل لها فرق العمل بقيادة العلماء المتمكنين، حتى إذا فرغوا من تجهيزهم تقوم مؤسسة الجائزة بطباعة الأعمال، وإيصالها إلى آفاق المعمورة، ويجب ان تكون المشاريع المدعومة أو المتبناة ذات تميز، مستكملة ما تتطلبه السنة النبوية من خدمة معرفية، وبخاصة بعد ظهور مراكز المعلومات والشبكات العنكبوتية وأجهزة الكمبيوتر والإنترنت، ولعل الأهم في هذا المشروع ترجمة كتب السنة إلى مختلف اللغات وبالذات لغات الدول الإسلامية، مع ان تنامي الأقليات الإسلامية في الدول المتقدمة يجعل من لغاتها لغة اقليات، وحاجة الأمة الإسلامية اليوم إلى توفير النص التشريعي المجرد من تراكمات المذاهب ومعوقات المراحل التاريخية قائمة وملحة، فالمذهبية والطائفية التي عوقت تلاحم الأمة لا يخفف من حدتها إلا التنادي إلى كلمة الله وكلمة رسوله، ففي ذلك رد مقنع ومفحم. والمعروف ان هناك علماء أجلاء خدموا السنة النبوية المطهرة ممن قضى نحبه وممن ينتظر، وبعض أولئك وقفت الظروف المادية والجهد المحدود والطاقة المبعثرة بين العمل الوظيفي والجهد التطوعي في طريق إنجاز مشاريعهم، وبعضهم الآخر انتقل إلى رحمة الله، تاركا ثروة لا يستهان بها من الأعمال العلمية المبعثرة هنا وهناك، أو المطبوعة بأعداد محدودة، وفق الإمكانات المتواضعة، ولنضرب على ذلك مثلاً بخادم السنة النبوية المطهرة المرحوم محمد ناصر الدين الألباني، الذي وقف حياته على خدمة الحديث النبوي الشريف، وقطع مسافة لا يستهان بها، وفتح الطريق أمام الناشطين من العلماء لتتبع كتب الصحاح والمسانيد والسنن المخطوطة والمطبوعة، والعمل على تحقيقها تحقيقا علميا واخراجها إلى الناس، والسعي وراء الثروة العلمية المنهوبة من مكتبات العالم الإسلامي وخزائنه والمسجونة ظلماً وعدوانا في مكتبات العالم الغربي، والعمل على استعادتها ذاتا أو مصورة، والنهوض بمهمة التحقيق والتخريج والطباعة والتوزيع، ويقال عن سماحة العلامة بكر عبدالله أبوزيد شفاه الله ما يقال عن الألباني، وعن آخرين لا نعلمهم، ولكن الله يعلم سرهم ونجواهم، وجليل أعمالهم، لقد حفزت جهود أولئك الأفذاذ طوائف من العلماء والمتعلمين إلى مبادرات مشكورة يحسن العمل على ترشيدها.. ومن الظواهر الإجرائية التي بدت في الآونة الأخيرة تضافر جهود العلماء والمتعلمين على فهرسة كتب الحديث، وهي فهرسة في مجملها بدائية، إذ تعتمد على أوائل الأحاديث القولية، وكم كان جميلا لو ان هذه الجهود وجدت من يرعاها ويدعمها، لتنتقل من الفهرسة إلى المعجمة، بحيث يسهل العثور على الحديث بمجرد حفظ كلمة منه، على غرار المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وعلى طريقة أسلم وأحكم من طريقة المستشرقين في معجمة كتب المسانيد والصحاح والسنن. لقد انتهت الجهود الفردية والمبادرات الشخصية، وجاء دور المؤسسات الفكرية والأدبية والدينية والسياسية والاقتصادية، جاء دور فرق العمل المتخصصة لإنجاز الأعمال الهامة، واستكمال المشاريع الحيوية التي لا يمكن ان يوكل امرها إلى فرد لا يقدر على استكمالها، وإنشاء الجائزة مشروع لا يستهان به، ومن حق صاحبه علينا الشكر والدعاء والنصيحة، والمطالبة الملحة بتوسيع مجالات ذلك المشروع، وبخاصة حين يتبناه رجل ودود مُقدَّر ومقتدر مثل الأمير نايف بن عبدالعزيز، ولأنني أؤمن بمبدأ «خذ وطالب» فإنني اتمنى على سموه الأماني، وهو الأجدر والأقدر على تحقيق تطلعات المهتمين بالمعارف الإسلامية، وماذا عليه وعلينا لو تقدم خطوات إلى الأمام وحمَّل المشروع مسؤوليات إضافية، مستعينا بمن شاء من المحسنين، بحيث يتطوع الموسورون بتبني مشاريع علمية تقترحها الجائزة العالمية، وتشرف عليها وليس هناك ما يمنع من تضافر الجهود، وإذا قام رجل يمتلك أهلية القيادة بتبني فكرة علمية أو غيرها فإنما هي من السنن الحسنة التي يؤجر عليها، ولعلنا نستذكر دواعي مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سنَّ سنة حسنة فله أجرُها وأجر من عمل بها»، ذلك ان الرسول قام خطيباً يستحث الناس على جمع الصدقات لمحتاجين مسهم الجوع، فقام بعض القوم بطرح أرديتهم ووضع ما معهم فيها فتقاطر المتصدقون حتى امتلأت الأردية، واستغنى المعسرون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم قولته تلك «من سن سنة حسنة»، وليس ما يمنع من ان يبسط الأمير رداءه ويخطب في الناس لدعم السنة النبوية المطهرة، ليكون من أصحاب السنن الحسنة. وفعله ابتداء يعد بلا شك من السنن الحسنة التي نسأل الله ان يكتب له فيها الأجر لتكون صدقة جارية إذا انقطع عمله، وكل من مات انقطع عمله إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، ومشروع كهذا لا نود ان يرتبط بذات الرجل وجودا وعدماً، ومن ثم لابد من النظر في أمر الصدقات والأوقاف الإسلامية التي يحبس أصلها وتوجه منفعتها لدعم هذا المشروع، إضافة إلى ما تجود به أريحية الأمير وهي بلا شك أريحية تغني وتقني، وخدمة السنة المطهرة لا نود ان تقتصر على الجائزة، ذلك ان الفائز فيها قد أنجز عمله، ونحن نريد إنشاء أعمال جديدة، والتفكير في إضافة أعمال فوق أعمال الفائزين بالجائزة، وإيجاد مثابة لخدمة السنة المطهرة من علماء ومؤسسات تكون بحجم «مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف» علما ان خدمة السنة المطهرة لا تقتصر فقط على طباعة الجاهز من الأعمال، مثلما هي الحال بالنسبة للقرآن الكريم، وبالتالي فإن هذا سيضيف أعباء جديدة على الجائزة، ولكنها أعباء تحت السيطرة متى تلقف رايتها إنسان متميز مثل الأمير نايف بن عبدالعزيز، بما هو عليه من مبادرات إيجابية، ليست من اختصاصات وزارته، ولعلنا نذكر تفانيه في محاصرة «البطالة» وطرح مشروع «السعودة» والتصدي لخدمة الإسلام في هذه الظروف الحرجة دليل على وعي التوقيت والتقدير، وتأكيد على ان التصدي للإعلام الغربي ومن ورائه اللوبي الصهيوني لا يكون بالقول فقط، وإنما يكون بالفعل المؤصل للإسلام، الفعل الذي يلبي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: «بلِّغوا عني ولو آية»، وإعادة النص التشريعي وتنقيته من كل ما علق به من شوائب المذهبية والطائفية وإعادة قراءته في ظل النوازل مؤذن بالخروج بأحكام إسلامية بعيدة عن التخرصات قريبة من واقع الحياة، فالنوازل تضيء عتمة النص وتفجر دلالاته الكامنة فيه، ولأن الأمير نايف رجل دولة قبل ان يكون مسؤولاً أمنياً فإن مبادرته تلك تحيل إلى اهتمامات الدولة بالقضايا الإسلامية في كل المجالات وعلى كل الصعد، وهي اهتمامات حصيفة وواعية ورائدة، ومما يبعث على الاطمئنان ذلك الانتقاء الذكي للهيئة التي نحسبها من الخيرين، ولا نزكي على الله أحدا. والأمل معقود بنواصي صفوة الصفوة المتمثلة بهذه الهيئة لتفادي أي صدام أو تبني أية رؤية ضيقة، أو الركون لأي مذهبية، فالسنة المطهرة مرجعية معتبرة لكل مذهب إسلامي، وما عليها إلا ان تقدم النص الصحيح خاليا من كل الشوائب، وعلى الذين يسعون للحق ان يتلقوا هذه النصوص الموثقة الثابتة القطعية، ويمتثلوا أمر الله وأمر رسوله، ومع ثقتي بالهيئة رجالا بأسمائهم أو مسؤولين من خلال مواقعهم فإنني أتمنى ضم مؤسسات أخرى كان لها قدم صدق في خدمة السنة المطهرة ودور نشر عنيت بالسنة تحقيقاً وطباعة للاستفادة من خبراتهم وتوفير الدعم لهم، والعمل على لملمة الجهود وتوجيهها إلى مجرى واحد ومصب واحد، وحسنا ان تكون الجائزة ملتقى المؤسسات والهيئات والأفراد المهتمين بالسنة المطهرة عليها يردون ومنها يصدرون، يمنحونها نصحهم ويهبونها جهدهم، وفيها يتلقون دعمهم علميا وماديا. لقد واجه العلماء والأدباء والمفكرون هذه البادرة بالارتياح، والجميع يودون لو تجاوزت الجائزة محدودية أثرها إلى ما هو أهم، وبخاصة ان سمو الأمير قادر على قيادة حملة لها ما بعدها، وهو موطن ثقة رجال الأعمال الذين تتدفق اعطياتهم بشكل مبهج، وعلينا ان نستعيد اسهامات المحسنين في مشروع صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله في رعاية الموهوبين ومشروع صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل لرعاية الفكر العربي، ومشاريع أخرى لسنا بصدد تقصيها، وبلادنا تدخل سباقات ايجابية، والأمراء يتصدرون هذه السباقات، ومن ورائهم رجال المال والأعمال والجميع بجهودهم المتضافرة يمدون هذه السباقات بالدعم السخي، فخادم الحرمين الشريفين حفظه الله قدم للعالم الإسلامي أهم مشروع، وهو «مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف» والأمير عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله قدم أكثر من مشروع من مثل «مكتبة الملك عبدالعزيز» ومشروع رعاية الموهوبين، والأمير سلطان بن عبدالعزيز أنشأ «مؤسسة الأمير سلطان الخيرية»، وموَّل مشروعه الموسوعة، والأمير مشعل بن عبدالعزيز له اسهاماته المتميزة، والأمير سلمان بن عبدالعزيز له حضوره المتواصل، وأبناء الملك فيصل وأبناء الملك خالد لهم مبادراتهم، ولكل أمير مشروع ديني أو فكري أو إنساني، ولا نزال بخير ما دمنا نتلقى مثل هذه المبادرات الكريمة من الأمراء والأثرياء، وعلينا ان نكون ردءاً لها، ومحفزا لذويها، وداعما لها بالقول وبالفعل، وليس من مصلحة الأمة التخذيل أو التثبيط، ولا أقل من المشاركة بالقول، على حد «فليُسعِد النطقُ إن لم تُسْعِد الحال»، وذلك أضعف الإيمان، وإنشاء جائزة تقف جنبا إلى جنب بإزاء جائزة الملك فيصل العالمية، مبادرة حضارية، يجب ان تتجاوز الثناء إلى الدعاء والنصح، فصاحبها لا يريد من ورائها جزاء ولا شكورا من أحد. |
الإبداع في الأدب: حدوده.. وآفاقه..!1/2
د. حسن بن فهد الهويمل 1/1 لكيلا نعوِّم القول أو نعممه على شاكلة الآخذين من كل شيء بطرف، نرى أنه وتمشياً مع المنهجية العلمية الدقيقة من الضروري تقصي الدلالات المتعددة لمفردات العنوان، وتعقب تحولاتها المصطلحية، وتقصي مراحلها التاريخية، وتعدد حقولها المعرفية. ذلك أن تأطير المعلومة من خلال تحريرها معرفياً كالأطر على الحق، كلاهما مطلب حضاري. ونحن هنا أمام أربع مفردات، بمعرفة مدلولاتها الوضعية والاصطلاحية نستطيع أن نتخذ الطريق القاصد إلى معطياتها ومقتضياتها والتعامل معها تعاملاً معرفياً لا يشوبه افتعال ولا انفعال، ومفردات العنوان هي: «الإبداع» و «الأدب» و «الحد» و «الأفق»، وإشكالياتها المتأبية ليست في الدلالة، ولكنها في المفهوم، وفي المقتضى، وفي التصور. والمصطلحات المراوغة تقي مدعيها إقامة الحجة، وإن كانت مأخوذة بمقاصد الحضارة المنتجة لها، ومع ذلك فلا بد من العودة إلى درجة الصفر في البحث عن الدلالة، والانطلاق منها والتحسس عن التطورات الدلالية لها عبر سياقاتها التاريخية. وإذ تكون لكل كلمة منها دلالاتها الوضعية المتأثرة بالتطور الحضاري. ولها مقتضياتها المصطلحية المتأثرة باختلاف المفاهيم، ولها استعمالاتها المجازية: مفردة كانت أو مضافة أو مركبة، إذ أن بناءها في نسق تعبيري تنشأ عنه علائق جديدة، تتجاوز دلالة أي مفردة مستقلة أو آخذة بسياق مغاير: أسلوبياً أو ثقافياً أو تاريخياً، ولكنها مع تعدد السياقات والأنساق تحتفظ بقدر كبير من مدلولها الوضعي والاصطلاحي، والدلالتان منارتا هداية لكل باحث عن دقة المعلومة وحدود الموضوع. 2/1 ف«الأدب» بوصفه محور الحديث، وجماع أمره، أخص من الإبداع على إطلاقه، والإبداع يعني: الإنشاء على غير مثال، وهو مع الخالق على الحقيقة، ومع المخلوق على المجاز، لأن التخيل البشري استرجاعي، ومن ثم فإن القول بالإبداع تجوزاً، وقديماً قال الشاعر الجاهلي: ما ترانا نقول إلا معاراً أو معادا من قولنا مكرورا ويقول: هل غادر الشعراء من متردم والأدب في مجمله إبداع قولي، وإذ يكون الإبداع: قولاً وفعلاً، فإن الإبداع القولي بعض مفردات الإبداع على إطلاقه، وهو مؤشر فعل أو قول، ف«الرسام» و«النحات» و«الموسيقي» و«الراقص» و«المغني» و«الشاعر» و«القاص» و«الممثل» كل أولئك يوصفون بالمبدعين والفنانين. ولكل واحد منهم ضوابط فنِّه، وحدود مجاله، ومقومات نوعه الإبداعي، وآفاق سبحاته. ومتى جهل المعنيون شيئا من ذلك انفلت العقد، وعمت الفوضى، وعُمِّيت الأمور، وفُقِدت المرجعية التي يُرَدُّ إليها عند الاختلاف. وذلك بعض أدواء المشاهد القائمة، وعامل فوضويتها. ولكون الأدب إبداعاً قولياً في شقيه: السردي والشعري، فإنه أخص من مطلق القول المتسع لسائر العلوم: البحتة والإنسانية والشرعية. ولأن الشعر ذو خصوصية شكلية، مغرقة في الغنائية، عصية في الشرط الشكلي، دقيقة في البناء اللغوي، فإنه يستأثر بأهمية لا ترقى إليها مفردات الإبداع القولي، كالقصة والرواية والمسرحية والسيرة الذاتية والمقالة، والشعر يستأثر بالتألق حين يكون الشاعر موهوباً، عميق الثقافة، صادق التجربة. ولما كان الإبداع السردي أىسر مرتقى، فقد كثر أدعياؤه ومقتدروه، وقل موهوبوه ومبدعوه، وطغى افتعاله وانفعاله، وندت عن الاستقامة مواقفه وتجاربه، وغُمِرت مشاهد الأدب بفيوض من القول الفارغ واللغة الرديئة والكلام الكثير الذي لا يقول شيئاً، حتى كسر الحدُّ ولوث الأفق، وحتى قيل ب«زمن الرواية» لكثرة الثلاثيات والخماسيات والمجاميع القصصية واستفاضة الدراسات وتتابع القضايا والظواهر الأسلوبية والفنية واللغوية التي لا تكون إلا في الوهم، وعلى يد السواد الأعظم من الروائيين والقصاص والنقاد سيئت وجوه الفن الرفيع، ودنست المقدسات الطاهرة، وهتكت الأخلاقيات المصونة، وأنسن الإله، وسئل عما يفعل، وعورضت الأقدار،ورفضت الأوامر، وسفهت الأحلام، وكلما تمعرت وجوه الوجلين تذرع المقترفون والمعذرون بحرية القول وحقوق الفن وحتمية التجديد، ولم يرق مما كتب من أعمال إلى سدة الفن الخالد إلا الأقل من الإبداعات الروائية، التي كتبها موهوبون متمكنون من لغتهم وفنهم وثقافتهم وصدق تجاربهم. ومما يلفت النظر مفارقة المقومات، فمتى تألق الفن، وأشرقت اللغة، خبث المحتوى، ومتى شرف المعنى تعثر الفن وتلعثمت اللغة، وندر اجتماع الأشراف: شرف اللفظ والفن والدلالة، ومن ثم وجد المفسدون في أرض الفن والمرجفون في مدينة الإبداع هذه المفارقة سبيلاً قاصداً لشرعنة الفجور، كما وجدوها مبرراً لتعطيل الحدود وتلويث الآفاق. والمؤسف إن الشهرة والحضور واكبا المتمردين على القيم كافة: قيم الفن واللغة والأخلاق، وجاء أساطين النقد كالمعذرين ظهيراً للمبدعين الذين لم يرعوا في المشاهد إلاً ولا ذمة، وكل ذلك الفيض من الانتهاكات يتذرع بالحرية التي لم تفهم على وجهها. ولأن ضوابط الشعر الفنية دقيقة وشاقة وعصية، سواء تعلقت بلغة النص أو بفنياته أو بدلالاته، فقد وجد فيه النقاد فضاءات رحبة، حتى لقد طغى سلطانه وكثر أعوانه، واستأثر بالشاهد والمثل والدرس. ولأنه مجال علماء اللغة والنحو والصرف والبلاغة والتفسير فقد احتشم الشعراء المعول على شعرهم، ولم يسفوا، ولا عبرة بمن ندَّ من الشعراء الشعوبيين عن جادة الصواب، فانحراف أولئك ذليل محدود.ولما زوحم الشعر بوسائل الإعلام: المقروء والمسموع والمرئي، وشغل الناس بما جد من فنون القول بما هيئ لهم من وسائل تسلية وترفيه، تقلصت مساحة الشعر، وغلبت السرديات عليه، وتبع ذلك ضعف سلطانه، وما أن تعددت قنوات الاتصال بالجماهير هبطت الفنيات، وضاعت القيم، وتقحم المشاهد من لا خلاق له، وأصبح الذابون عن الفضيلة نشزا في سياق الإبداع والنقد، ولقي حماة الأصالة أذى كثيراً من تجاوزات المنتهكين لحرمة التراث، فكانت الأذية مضاعفة، لأنها تمس الأخلاق والتراث معاً، والذين تجاوزوا حدود الفن والقيم شايعهم من تجاوز حدود اللغة، ليحتل «الشعر الأمي» صدارة المشاهد وسدة الإعلام مزاحماً بمنكبه الضعيف وجناحه القصير وبمؤازرة المنتفعين من حملة الأقلام «الشعر الفصيح» الذي اعتورته الرذيلة والعامية والضعف العام، ومن ثم ضاعت حدود الفن والقيم واللغة. 3/1 و «الإبداع الأدبي» تنتابه إشكاليات متعددة، لاختلاف المفاهيم والتصورات، ولتعدد الجغرافيا الفكرية والدينية، والنقاد المعذّرون والمعارضون، والمؤصلون والمشرعون يقعون تحت تأثيرات متعددة، تدفع بهم إلى الصدام، ولا تحملهم على التعاذر والالتقاء على كلمة سواء، يحترمون معها الضوابط الأخلاقية والقيم الفنية والمعيارية اللغوية، ويمكنون النص الإبداعي من إقامة اللسان واستقامة الخلق على حد: ولولا خلال سنها الشعر ما درى بناةُ المعالي كيف تبنى المكارم وحين نتحدث عن «الحدود» و«الآفاق» نعرض أنفسنا لجدلية حادة النبرة، وبخاصة حين وقع الأدب في مضائع الالتزام الأيديولوجي المسيس، واستزلته دعوات الحيرة الفوضوية في مجال القيم الفنية والأخلاقية والفكرية والسياسة، و«الإبداع الأدبي» مادته اللغة وآفاقه التجربة الإنسانية: فردية أو جماعية، ولكل من «الإبداع» و«الأدب» و«اللغة» و«الفن» و«التجربة» حدود وآفاق تواضعت عليها النخب وتوارثتها الأجيال، وسلم لها أفراد المجتمع الواحد المتجانس في لغته وجنسه وجغرافياته: الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية معولة على مرجعية نصية أو عرفية، وتلك المواضعات منها الثابت والمتحول، وهوامش التحول تمكن من التحرف المتواصل للتجديد لمواكبة الحياة المستجدة، وكل حضارة تنطوي على ثوابت ومتغيرات، والإشكالية في تحديد الثابت والمتحول، ومن تصور ان التحفظ على المقترفات عقبة في طريق التجديد، فقد تعمد التحريف والتزييف، ومن صدّق هذه الدعاوى فهو خب يخدعه الخب، فالسكونية والماضوية ليستا سمة الأخلاقيين ولا خلق المؤصلين، كما ان الاستشراف المستقبلي والتجديد الحقيقي ليسا سمة المتهتكين والمتمردين على الضوابط والحدود، واختلاف المفاهيم كالاختلاف حول الثابت والمتحول، كلاهما مجال صراع مستحكم وتنازع مضر بالمصلحة العليا للأمة، والأخطر من كل ذلك الاختلاف حول المرجعية، ومتى اختلف الناس حول المرجعية وقعت الواقعة إذ ان الاتفاق عليها يحصر الخلاف في وجوه التأويل، وفي تعدد الدلالات، والسلف من العلماء أدركوا ان النص حمَّال أوجه، وقبلوا الاختلاف على ضوئه وعمدوا إلى وضع الأصول والقواعد في استقرار النصوص. ولكي نستبين الوعي الحضاري للعملية الإبداعية لا بد ان نعرف الشرط الفني، والمعيار اللغوي، والضابط الأخلاقي، والمقتضى العقدي، والمفهوم المصطلحي، وحدود الثبات والتحول، ونعرف إلى جانب ذلك القدر المتاح من الضرورة وشرعية التغيير في الشرط، وإمكانيات المخول للتغيير، وحقه في ذلك. إذ لا يجوز تخويل حق التغيير لكل من وجد في نفسه الرغبة في ذلك، وإنما هو لمن يقدرون للضرورة قدرها، ويحفظون حق الحضارة التي ينتمون إليها، ولا بد مع هذا من ضوابط يحترمها الجميع، ويسلمون لها، ولا بد من مساحات محدودة لحرية القول وحرية التغيير، لمواكبة الحياة المستجدة، ولا بد ان يكون كل شيء بمقدار، فالانغلاق على الذات، والانفتاح على الغير، حين لا يكونان محسوبين بكل دقة يستويان في العائد السلبي، والحياة: مادة ومعنى قائمة على النظام، وسنن الله لا تبدل ولا تحول، لأنها نظام الكون الحسي والمعنوي، والنظام ضابط يحد من فوضوية التصرف وهمجية الفعل، وضياع الأمة وهلاكها يستشريان حين يسود الجهلة، وحين لا تحترم ضوابط الفنون والعلوم، وحين لا يخضع الجميع لما تواضعوا عليه من القيم. والأدعياء الذين امتلكوا حق القول في مصائر الأمة وكافة أمورها باسم حرية التعبير وتكافؤ الفرص، اطفأوا منارات الفن، حتى لقد انطمست حدوده، وادلهمت آفاقه، وأصبح كل عابث يحيل على حقه في الحرية الفوضوية وعلى حق التعبير عن الرأي، والحرية لا بد ان تكون منضبطة، ومرتبطة بالمواضعات التي تحمي حقوق الغير: حسية أو معنوية، فالفن تحميه ضوابطه، واللغة تحميها قواعدها، والقيم تحميها الأوامر والنواهي الشرعية، والحقوق الخاصة تحميها القوانين، والحقوق العامة تحميها الدساتير، والحرية والحدُّ صنوان، فغياب أحدهما مؤذن بفساد الأمة وضياع مثمناتها، والضابط هو «الحد» سواء تعلق بلغة النص أو بمضمونه أو بفنياته، ولكل عنصر شرطه، والتعامل معه دون فهم دقيق لنظامه ومهارة متميزة لفك شفراته واستيعاب جيد لممكنه ومستحيله ومباحه ومحظوره ضرب في فجاج التيه، وذلك ما نشهده عند دعاة الانقطاع المعرفي، واستمرارية التغيير، وضرب الثوابت والسوائد دون مساءلة أو تقويم. 4/1 وكل شيء في الوجود له حده الذي لا يتحقق وجوده إلا بقيامه واحترامه و«الحدود» واحدها «حدٌّ» وهو في اللغة: المنع، والفصل بين شيئين، ومنتهى كل شيء حده، وهو في الفلسفة: ما دل على ماهية الشيء، والحد التام يقتضي الجمع والمنع كالمصطلح، ويقتضي الاطراد، وهو التلازم بين الحد والمحدود، وليس من مقتضيات الحرية تجاوز الحد، فالحد مطلب رئيس من مطالب الحرية، والمشاهد الفكرية والأدبية تقترب من حافة الفوضية، لأن الحداثة اطلقت أيدي ذويها من مبدعين ونقاد: مطبقين ومنظرين، فكسر الحد، وعطلت القواعد، ورفضت السلطة: الحسية والمعنوية، ولهذا لم يعد هناك حد متفق عليه، حتى القول في أنواع الفنون لم يعد مقبولاً، وقد طرح مصطلح «الكتابة» لكيلا يكون هناك تمايز بين فنون القول، وليس من مصلحة أي حضارة ألا يكون لأدائها القولي «حد» و«أفق» يلتزمهما المبدعون، وينافح عنهما النقاد. وما من حضارة انتقضت عراها عروة عروة إلا ضاع أهلها، واستعبد أفرادها، وأصبحت تركة موروثة لحضارة أخرى، والحد في الإبداع القولي يكون للغة النص، وهو معيارها، ويكون للنوع الفني، وهو شرطه، ويكون للمضمون، وهو ضابطه المتعدد: عقديا وأخلاقياً وسياسياً واجتماعياً، والحد في المضامين لا يقل أهمية عن سائر الحدود، ولا سيما بعد ان طغت السرديات، واتسعت للقضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والعقدية، ومن تعقب التجاوزات في الفكر والأخلاق راعته الترديات الأخلاقية والفكرية، وإذا كنا نجد في التراث مثل ذلك فإنه تجاوز محدود ومقموع، وليس له ناصر يشرعن فسقه وفجوره مثلما هو حاصل في مشاهد العصر الحديث. |
الإبداع في الأدب:حدوده.. وآفاقه..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل 1/2 و«الآفاق» واحدها«أفق»، وهو المجال الظرفي الذي تسبح فيه الأفعال والأقوال، ولكل فن مضاميره، فلا يجوز أن يدرج أي فن في عش غيره، فالفقهاء لهم مجالهم، كما أن للمحدثين والمفسرين والفلاسفة والمؤرخين آفاقهم، واتساع المجالات وتبادلها وتداخلها، واختلاف المفاهيم، وتباين التصورات لا يلغي الأفق الطبيعي للأشياء، ومن جهل ذلك أساء إلى نفسه وإلى فنه وإلى حضارته. والتداخل الدائري بين الآفاق لا يلغي تعدديتها وتمايزها، إذ ليس من شرط الأفق الانغلاق، بحيث لا يسبح فيه إلا نوعه، وبقدر اتساع الآفاق للتداخل تكون الخصوصية المرنة. والمتذرعون بدعوى الحرية في إلغاء«الحد» وطمس«الأفق» أفسدوا الفن والقيم الأخلاقية، و«الحداثيون» هم الذين دمروا بنية المجتمع، وفجروا اللغة، وأوغلوا في الاغتراب والعدمية والفوضوية الجنسية. ولغط القول حول مفهوم الحرية في الفن لا يقل سوءاً عن اللغط حول«الحرية» و«السلطة» إذ إن السلطة المعيارية والسلطة الدينية والسلطة السياسية، تقمع المتمردين والمتهتكين، وتضيق الخناق عليهم، وتأطرهم على الحق، والذين يتمردون على السلطات مثلهم كمثل الذين يفهمونها على غير مراد المشرع، فالحرية غير الخنوع، والفوضى غير الحرية، والإشكالية في المفهوم والممارسة وأسلوب التبادل بين السلطة والمحكوم بها من الأناسي والأشياء. والدخول في تلك المهايع مضلة إفهام ومزلة أقدام، ولكن واجب تغيير المنكر يحمل المقتدر على أن يصدع بما يعتقد وبما يؤمر به. وكل من لم يسلم اقتناعاً وطواعية للسلطة التي يفرضها التجمع الإنساني يحس بالضوائق، وهو إحساس مرضي، إذ إن طبيعة الإنسان السوي الإذعان لمقتضيات العقود والعهود والضوابط والحدود، والحرية الحقيقية هي الالتزام بما تواضع عليه المجتمع، سواء استمد تواضعه من تشريع سماوي أو من قانون وضعي، والسلطة السياسية مفوضة لتفعيل الشرائع والقوانين، والسلطات القضائية والتشريعية تمثل الحدود والضوابط. والعلماء والأدباء والمفكرون لهم قسط من السلطة حين يصطلحون على شروط وضوابط ومعايير، وواجبهم أن يتعهدوها من حين لآخر، يضيفون، ويحذفون، ويعدلون. وعلى الكافة من مبدعين ونقاد أن يحترموا هذه المواضعات لأنها سبيل الحياة السوية. والمذاهب المعاصرة هي التي أخلت بمبدأ«الولاء والبراء» و«السمع والطاعة» وقوضت المواضعات الدينية والاجتماعية. فالحداثة وما نسل منها من«انطباعية»و«مستقبلية» وما واكبها من«دادية» و«سريالية»و«وجودية»و«رمزي ة» التقت على مبادىء ومواقف، تمثلت في اللاوعي والرفض والشذوذ والغموض والفوضى والتهكم والتهتك والقلق والاغتراب والعبث واللاشعور، وتفعيل الجنون والعرافة والحدس والأحلام والكهانة، واستعادة الخرافة والأسطورة، واتفقت على رفض العقل والمعرفة، وركزت على الشذوذ الفكري والاجتماعي والأخلاقي والصخب والإثارة والفوضى، والتعويل على المعرفة الحدسية والحلم والجنون، وكل ذلك قائم وموثق في كتبهم. ومن قال عن الحداثة غير ذلك، خذلته الوثائق والنصوص، ومن تداولها بوصفها مصطلحاً لمطلق التجديد وجب عليه أن يتصدى لمن يراها غير ذلك، ومن غالط وكابر ولم يحدد موقفه فهو من الحداثيين بالفعل أو بالموالاة. ومصطلح الحداثة لا يكون قصراً على التجديد تعويلاً على الدلالة الوضعية فالمفهوم المصطلحي والاستفاضة القولية والفعلية تكذب المعذرين. وفلاسفة الغرب ونقاده أطلقوا أحكاماً، وأنتجوا مصطلحات، ورسموا حدوداً وهيئوا آفاقاً، تقبَّلها البعض بالقبول الحسن، وسلموا لها، ونافحوا عنها، وسفهوا أحلام المترددين والمتحفظين، ولو أنهم إذ تقحمت مشاهدهم فيوض المذاهب ردوا ذلك إلى مقتضيات حضارتهم ومتطلبات واقعهم، وبرزوا للطوارئ بمعرفة عميقة، وإرادة قوية، وحوار حضاري، وتبادل متكافىء، ومواقف ندية لكانوا أعزة كما أراد الله لهم. والتهافت الذليل على فيوض الآخر لا يحقق الوجود الكريم. 2/2 وحين نتحدث عن حدود الأدب وآفاقه تمتد نظرتنا إلى فنون القول ومتطلباتها، فالنص الإبداعي له مكوناته التي أنتجته، وله فضاءاته التي استقبلته، وله تأثيره الذي يصطبغ به المتلقي من الأشياء والأناسي، وله قبل هذا وبعده لغته التي وسعته، وشروطه التي ميزته، وحده الذي جمع ومنع، وافقه الذي استوعب فيوضه، وكل هذه نجدها في«الحدود والآفاق»، ثم إن النص الإبداعي منتج حضارة، ومشكّل حضارة، فهو فعل حضاري، وفاعل حضاري، تنتجه الحضارة وينتجها كما«البيضة والدجاجة»، وتلك إشكالية معقدة، غفل عنها كثير من النقاد: المنظرين والمطبقين. فحين نشتبك مع النص في عملية تفكيكية أو تشريحية أو تقويضية، لا نقف حيث تتجلى لنا اللغة بنظامها وعلاماتها وعلائقها، وإنما نبحث عن بعد ثالث يضاف إلى بعدين هامين وهما: البعد اللغوي. والبعد الفني. والنقاد الهاربون أزوروا عن«البعد الدلالي»، بوصفه الهدف الأسمى والغاية الأهم، بحيث وقعوا في ضوائق اللغة أو في محدودية الفن، مظاهرين«للبنيوية اللغوية» أو«الفن للفن»، ونسوا ما ذكروا به من أهمية المضمون وأثره في التصور والسلوك والموقف، ولأن الأبعاد الثلاثة«اللغة، والفن، والمضمون» متوازنة ومهمة، فإن الأهم التفريق بين الوسائل والغايات. فالنص رسالة، واللغة وسيلة، والفن إطار جمالي، والدلالة غاية، والمبدع المتمكن من يتقن عملية الأداء مستشعراً أهمية عناصر الرسالة، كما يراها«ياكبسون» قادراً على حفظ التوازن. والنقد الأخلاقي الذي نشأ مع مدائن الفلاسفة اليونانيين، وظل يتقلب على ألسنة النقاد عبر العصور، نفته مذاهب النقد الحديث متذرعة بمقولات التراث:«أعذب الشعر أكذبه»و«الشعر يغني عن صدقه كذبه»و«الشعر في معزل عن الدين». وفات المبررين والمعذرين أن تلك مقولات تعول على«المجاز»و«الخيال» و«الأفق» ولا تنظر إلى ما ينظر إليه المتهتكون والمنحرفون من شرعنة للفساد والرذيلة. وكيف يجد المؤول مبرراً لعزل الأدب عن سلطة الدين،«وخطبة الحاجة» التي كان يستهل بها رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله تتضمن آية {يّا أّيٍَهّا پَّذٌينّ آمّنٍوا \تَّقٍوا پلَّهّ وقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا (70) يٍصًلٌحً لّكٍمً أّعًمّالّكٍمً ويّغًفٌرً لّكٍمً ذٍنٍوبّكٍمً } [الأحزاب: 71] وهل ما تشتمل عليه إبداعات بعض الشعراء والروائيين الحداثيين من القول السديد؟ وأين المعذرون من قوله تعالى: {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ} [ق: 18] . ومقولة التراثيين تشير إلى أن للإبداع مجاله، بحيث لا يكون المبدع واعظاً ولا مفتياً ولكنه يكون مستقيماً كما أمر. 3/2 والنقاد الذين ظاهروا المنحرفين عن جادة الصواب الفني واللغوي والدلالي، وتفانوا في ترويض المتلقي للقبول بهذا الانحراف والقول بمشروعيته تعويلاً على الحرية وعلى خصوصية الفن، وظاهروا الخارجين على نظام اللغة وضوابط الفن ومقتضيات القيم الأخلاقية، يتولون كبر الخطيئة، ذلك أن المبدع المنحرف حين تزور عنه المشاهد وتزلقه الأبصار وتسلقه الألسن يتحول عن غيه، أما حين تحتفي المشاهد بتردياته الفنية والأخلاقية ويمارس مع غيره التشايل والتنافخ والتقارظ، فإنه يوغل في ذلك، ولا يجد المتلقي بداً من القبول بالمنكر وإنكار المعروف، والإسلام حث على الاستتار وعدم المجاهرة بالقاذورات لحماية المجتمع، فإشاعة الفواحش يطرد غربتها، ويخفي نكارتها. والمتعقبون للمنظرين من نقاد الغرب الذين خلطوا سائر العلوم مع بعضها لينتهوا بالفن إلى فوضوية مستحكمة يقفون على مقولات مستمدة من علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال وعلم اللغة وعلم الأخلاق ومن الفلسفة والأساطير والأيديولوجيات، وكلها قبضة من أثر الغرب تجتال مشاهد الإبداع الأدبي، لتقضي على خصوصيته وتميزه وضوابطه، والقائلون عن علاقات المبدعين ب«الجنون»و«العناد» يتقحمون آفاق علم النفس، ليشرعنوا الفجور في القول والشذوذ في الفعل، ولهذا فلسنا مع من يربط الإبداع بحالات التوتر والقلق والغثائية والمرض والجنون، وإن تعرض لذلك غير واحد من عمالقة الإبداع الغربي من أمثال«شكسبير»و«هولدرلن»و« نيتشه»و«فان خوخ»و«تشومان»، ولسنا مع من يقول باستواء«العقل»و«الجنون» في حالة التلبس بالعملية الإبداعية. ولقد ثبت هبوط مستويات المبدعين بعد تأزم حالاتهم النفسية. والقول التراثي عن«شياطين الشعر» والتباهي بذكوريتهم وأنثويتهم في الشعر قول أسطوري، لا يعول عليه، وتنزل الشياطين على الشعراء كما في الذكر الحكيم إشارة إلى إغوائهم وعالم الجن والشياطين عالم غيبي، مصدر معرفته النص الشرعي القطعي الدلالة والثبوت، وقد تعقب ظاهرة شياطين الشعر غير واحد من الدارسين. والتعويل على«المعاندة» في الإبداع لتبرير المغايرة تعويل يحتاج إلى ضوابط، فحين لا نجد مبرراً لاستمرار المجاراة، نرى أن المخالفة يجب أن تكون في إطار المقبول عقلاً على الأقل. وإلى جانب القائلين بالجنون والعناد نجد أن طائفة من الماديين قد ناضلوا ضد الآراء«اللاهوتية» في علم الأخلاق، وانتقدوا التفسير اللاهوتي القائم على الثواب والعقاب المادي، وتشعبت نظريات علم الأخلاق بين: المادية والمثالية، ومن المؤسف القول: إن الحضارة الإسلامية لا تسر«نظرية أخلاقية»، وتلك مقولة في مشروع الجابري حول«العقل العربي» في جزئه الرابع والأخير، وهو قول يتساوق مع القول بخلو الحضارة الإسلامية من نظريات سياسية واقتصادية وتربوية، والمؤذي اندفاع المفكرين وراء افتراءات المستشرقين، وكيف لا تكون نظرية أخلاقية والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وكيف يقال بنظرية غربية ونهاية الحضارة الغربية ناتج انحطاطها الأخلاقي. والانحطاط الأخلاقي في الحضارة المادية أدى إلى الانحلال في القيم الأخلاقية والفنية معاً، وهذا الانحطاط والانحلال لفتا نظر الفلسفة«الهيغلية» إلى تبني نظرية«موت الفن» بحيث انفصل الفن عن الحياة الجادة، ليكون أداة تسلية ولهو وترف ووهم. والحضارة الإسلامية ذات خصوصية في فكرها وفنها ولغتها وسائر شؤونها، ولا يجوز لنخبها الخروج من فلكها الذي تسبح به كل المعارف والفنون، لأن الخروج مؤذن بالتشظي والاحتراق كما الكواكب حين تنفلت من أفلاكها، والتعالق مع المستجد دون وعي بمتطلبات الحضارة الاسلامية ومقتضياتها، ودون احترام لضوابطها، ودون اجتناب لمحظوراتها يعني الدخول مع الآخر في جحور الضباب. وحين لا يجد الفلاسفة والمفكرون والأدباء بداً من التواصل مع علوم اللغة والنفس والاجتماع والأخلاق والجمال فإن التواصل المشروع لا يكون على إطلاقه، فمثلما أن الحضارات الأخرى لا تسلم لنا بما نريد فإن من حقنا ألا نسلم لها بما تريد، وفضاءات الحضارة الإسلامية استيعابية، فنحن الأعلم بأمور دنيانا وعلينا لكي نحفظ حقنا أسلمة العلوم والآداب، والتحفظ لا يمنع من التفاوض والتقارض والتفاعل، والحضارة الإسلامية ورثت حضارات كثيرة واستوعبتها، ولم تتخل عن خصوصيتها، وإن شابتها شوائب انعكس أثرها على مناهج البحث العلمي وآلياته، وعكر صفو النقاء النصي، وحمل طائفة من العلماء على التأويل البعيد، وتحميل النصوص ما لاتحتمل، مما نتج عنه تعدد الملل والنحل والطوائف والمذاهب والاتجاهات. والدخول في عوالم الآخر دون استعداد معرفي وتحصين أخلاقي وتأصيل فكري وعقدي مؤذن بفساد كبير، وذلك ما تعانيه الأمة، وما تجره النخب المتبعة لسنن اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة. 4/2 وإذ تكون«الحدود»و«الآفاق» مجال الحديث مرتبطة بالإبداع الأدبي فإن علينا أن نشير إلى تجاوزات مدانة كسرت الحدود، ولوثت الآفاق، تولى كبرها«روائيون» ينتمون إلى الحضارة الإسلامية، ومنهم من يحتل سدة الفن الروائي، وهؤلاء المتمردون يجدون من المعذرين من يدفع عنهم التهم، ويشرعن مقترفاتهم باسم الحرية. ولن نطيل القول فيما نشير إليه، فالروايات التي صدعت وحدة المشاهد مستفيضة ومتداولة، والدراسات المؤيدة والمعارضة لما تزل في جدل صاخب، ومازاد مشاهدنا إلا خبالاً. ورائدة هذه الروايات رواية«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، وخلاصتها أن الحارة كانت ملكاً«للجبلاوي» الذي اختفى ليخلفه أولاده الثلاثة:«جبل» و«رفاعة»و«قاسم» عبر مراحل زمنية لتحقيق العدل، وبعد وفاتهم جاء«عرفة» الذي يمثل«العلم» لتحقيق العدل، ويبقى الأمل معلقاً عليه لصناعة المستقبل. والرواية تحكي قصة الكون، وهي مدانة عقدياً، وإن كانت رواية رمزية تحتمل أكثر من تفسير، وقد تناولها مؤيدون ومعارضون، منهم غالي شكري، ومحمد حسن عبدالله، والعالم، ومحمد العزب، ونبيل فرج، ومحمد أحمد مخلوف، وآخرون. وتليها في السوء والتجني رواية«سلمان رشدي»«آيات شيطانية» ولما تكن كما«أولاد حارتنا» رمزية، بل كانت صريحة في مواجهتها للفكر والعقيدة الإسلامية، وقد تعقبها مجموعة من الدارسين والنقاد، من مثل«سيد حافظ أبو الفتوح» في كتابه«رسائل إلى سلمان رشدي»، و«صلاح الصاوي» في كتابه«مؤامرة الآيات الشيطانية». وتتواكب مع هذه الرواية المثيرة المشبوهة«تسليمه نسرين» في روايتها«العار» التي تدين المسلمين في عنفهم وتعديهم على «الهندوس»، وهي من الروايات التسجيلية، وقد درسها موضوعياً وفنياً الدكتور«إبراهيم عوض» تحت عنوان«افتراءات الكاتبة البنجلاديشية تسليمه نسرين»، وتصدى لها آخرون، وترجمت الرواية بقلم«عصام زكريا». وجاءت فيما بين هذه الروايات أعمال روائية موغلة في التهتك الأخلاقي والإلحاد العقدي، لكتاب مغمورين، وعبر كتابات تفتقر لأبسط مقومات الفن مثل«مسافة في عقل رجل». أما عن التهتك الأخلاقي، والانتهاكات الفنية فقد استفاض في كثير من الأعمال الروائية بحيث لا يحتاج إلى تذكير، وآخر الأعمال المثيرة«وليمة لأعشاب البحر» للروائي السوري«حيدر حيدر» والتي عصفت بالمشهد الأدبي المصري، وتصدى لها طائفة من الكتاب والدارسين من مثل«أحمد فؤاد عبدالعزيز» في كتابه«وليمة لأعشاب البحر: الإلحاد يخلع أقنعته». ولما تزل المشاهد الأدبية تدفع بالأعمال النقدية والإبداعية: الشعرية والسردية التي تتجاوز الحدود والآفاق حدود الدين واللغة والفن وآفاق الفن الدلالية، وتلك ممارسات جنائية تصدّع تلاحم الأمة، وتمس ثوابتها، وتدنس مقدساتها، وتشيع الفواحش في أوساطها، والنقد من وراء أولئك يلتمس لهم العذر تارة بدعوى الحرية وأخرى بالإحالة على الرمز والصراع الحضاري، وليست الأعمال الفكرية والاجتماعية والنفسية بأقل ضرراً من الأعمال الإبداعية، ولعلنا نذكر«نصر حامد أبو زيد» و«نوال السعداوي» وطائفة من أصحاب المشاريع الفكرية والنقدية. وليس من مصلحة الأمة أن يتفلت أدباؤها ومفكروها من ضوابط الإسلام وحدوده وآفاقه، فالحضارة الإسلامية قائمة ما قامت السماوات والأرض، ومن الخير للمنتسبين للإسلام عقيدة أو مولداً أن يعرفوا أن الغرب الذي يستزلهم إنما يريد استذلالهم والقضاء على عزتهم، ومن شايعه فهو منهم، ولكنه سيتجرع مرارة النيل من أمته، والغرب الذي يتخذ العملاء حتى إذا قضى منهم وطره، نبذهم كما تنبذ العلب الفارغة، فمن خان أمته وعقيدته فهو لما سواها أخون، ولن يستقيم أمر الأمة إلا إذا كان الأدب في خدمة الحياة والعقيدة، وإلا إذا استقام الجميع كما أمروا. والإبداع الأدبي يقوم على الإمتاع والاستمالة والإقناع، وتحقق ذلك في الفن الرفيع لفظاً ومعنى، وحين لا يحمل الأدباء والنقاد مهمة الإصلاح تفقد الأمة مصدراً هاماً من مصادر التربية الأخلاقية والذوقية، وإضاعة الحدود مؤذن بضياع الذوات، والوضع الإسلامي بلغ حداً من الترديات التي لا تحمل المزيد، ولما تزل الأمة ترقب المجددين لأمر دينهم كما بشر الصادق الأمين. |
النقد الثقافي: البديل أو الرديف «12»
د. حسن بن فهد الهويمل والاتجاهات الحديثة للنقد الأدبي مهايع مهولة، لا يستكنه مبلغها إلا متابع حصيف، حتى لقد قال «بييرمورو» وهو بصدد الحديث عن «التكوينية» و«الأسلوبية» و«الموضوعية» : «مفهوم هذه الكلمات مطاط، وغير واضح، ويدعو للتداخل، حتى في ذهن من أطلقوها أنفسهم»، فكيف بمن تلقاها دون وعي، وأجراها دون فهم، واتخذها كظل شجرة مر بها في سفر؟ وكيف يكون المعولون على هؤلاء؟ لقد أضر بمشاهد النقد من تصدرها وزعم أنه ابن بجدتها، وهو لا يلوي على شيء. وتحولات النقد واتجاهاته لا تسمح بالتلبث الطويل ولكن التحول شيء، ودعوى المشروع والموت شيء آخر، وفي ظل التحول المستمر وصف البعض مشاهد النقد بأنها «تطن طنين خلايا النحل». ولو أن صاحب المشروع إذ مال إلى جانب من جوانب القول لم يتعد على خيارات الآخرين، ولم يتجن على ثقافة الأمة، بدعوى التشعرن والتفحلن، ولم يكن ذا ادعاء عريض، لما كان في الأمر من بأس، فلقد قلنا من قبله تبعا لغيرنا ب «النقد الإسلامي» ولم ندع المبادرة، ولم نكره الناس على أن يكونوا مثلنا، ولم نتخل عن «النقد الأدبي» فضلا عن إماتته، ولم نقل بأن ميلنا مشروع له ما بعده. والمقتدرون يجلبون ويجربون، وقد يبتكرون أو يعدلون أو يضيفون إلى ما هو قائم، ولكنهم يعرفون قدر أنفسهم وأقدار مجلوبهم، فلا يدعون، ولا يميتون، ولا يغررون بالذين ينبهرون بالصيغ اللفظية والدعاوي العريضة، لخلو أذهانهم، وقصور هممهم عن المتابعة. والتواصل الاستهلاكي الخنوع بالمشاهد النقدية العربية والغربية لتمكين الذات من الحضور الهامشي البائس لا يخدم أدب الأمة، ولا يصون مثمناتها، وهي التي أمدت الآفاق بصنوف المعارف وعيون الإبداع. و«النقد الثقافي» بمفهومه الإقليمي أو المصري أو الفرنسي إن هو إلا قطرة من بحر أو بعوضة على رأس جبل، ومدعيه لن يخرق الأرض، ولن يبلغ الجبال طولا. وإشكالية الاهتياج غير الحصيف أنه يقع في واحدية الاهتمام، وحين يحس بالعزلة والانكماش يفر منها إلى النقيض ليعود إليها، ف «البنيوية» مثلا انقطعت للغة، ونفت ما سواها، و«النقد الجمالي» انقطع للفن، ونفى ما سواه، و«النقد الثقافي» رفض الاتجاهين معا، واضعا كل ثقله في الأنساق الثقافية والاجتماعية المتشكلة من الشعر بوصفه الأوحد في التأثير وهو ما لم يقل به أحد من قبل ولن يجرؤ أحد من بعد إلا صاحب المشروع الضجة. والمبهورون بما يقال مما هو مطروح في الطريق، هم الذين لا يقرؤون، ولا يتابعون، ويقفون حيث ثقافة السماع، وإفضاءات الصحف. ولو أنهم حين فوجئوا ب «النقد الثقافي» كانت خلفيتهم الثقافية شاملة وعميقة ومتابعتهم للمستجد متواصلة، لما لعب الذوّاقون بعواطفهم، وما عليهم إلا أن يعودوا إلى كتاب المشروع، وينظروا فيه بعيون واثقة، ونفوس مطمئنة، ثم ليبحثوا عن منهج سليم، أو آلة دقيقة، أو معلومة موثقة، أو مبادرة توسع المدارك، وتثري المعارف. لقد قرأت الكتاب فلم أخرج إلا بثلاث كلمات يتقلب معهما الكاتب جيئة وذهاباً «التفحلن» و«التشعرن» و«النسقية» وسنفرغ بعد الحديث عن «تهافت النظرية» لتناول «خطيئة التطبيق» معتمدين على الوثائق النصية في شقي الكتاب، وفيما زامنه من كتب أرهصت لهذا المشروع. لقد احتملنا على مضض ضجة الحداثة، وقلنا لعلها تكون تجربة فجة، يعود بعدها التائهون إلى جادة الصواب، واحتملنا بعدها جعجعة البنيوية، وأتحنا لها أكثر من فرصة، أملا في أن يستقر الذواقون، ويعيدوا النظر فيما خلفوه. وها نحن الآن في مغالطات فجة، واحتواء غبي مع «حكاية الحداثة» في محاولة لربطها بالتجديد، ليكون الخصوم تقليديين، ويكون الصراع بين الطرفين صراع مجددين ومقلدين، وهل أحد يقبل بهذا، ويصدق بأن الصراع مع الحداثة الفكرية صراع تجديد وتقليد، وأن المعارك الأدبية التي خاضها في المملكة محمد حسن عواد وحمزة شحاتة رحمهما الله كالمعركة مع الحداثيين، ولعل الهزة العنيفة التي تعرضت لها «حكاية الحداثة» من الأستاذ الدكتور سعد بن عبد العزيز الراشد «الرياض 24/11/1422ه» تحمل الحاكي على مراجعة حكايته، وإذ لم نحتمل «الحداثة» بمفهومها الفكري فإنه لم يكن باستطاعتنا أن نتحمل «النقد الثقافي» بهذا التصور المحدود والإجراء الجائر، مثلما أنه ليس مجديا تخلية المواقع من أشلاء الحداثة ب «حكاية الحداثة». والمغالطة وتلاحق البدائل في المشهد الأدبي، والتقدم به إلى سجلات التاريخ الأدبي بهذه الفوضوية وتلك المغالطات يمس سمعة المعاصرين، ويدين المرحلة التي تشملهم، ولو أن مؤرخاً للحركة الأدبية، تابع في رصده هذه التحولات غير الراشدة وغير الناضجة لما كان في وسعه إلا إدانة هذه المرحلة التي وسعت هذه الفوضى، ولست أقصد بها التعددية المذهبية، فالتنوع والتحول الواعيان بين متعددين يختلف عنه عند واحد جمع اللّه فيه كل المتناقضات. ومع ما سبق من تحفظات قد تفسر على غير ما نريد فإننا لا نرى بأسا في تشعب الاهتمامات، وتعدد الاتجاهات، وتنامي الظواهر والقضايا الإبداعية والنقدية، والمراوحة بين لغة النص وشكله وفنياته ومضامينه ومكوناته وانعكاساته، لأنها وقائع مألوفة، وغير مثيرة. والنقد وتبدل مناهجه وآلياته أمر قائم ومألوف، لا يثير الانتباه، ولا يستدعي التبني، ولا حفظ الحقوق، ولا تقليد الغرب بمقدمات كتبهم، وتوزيع الشكر بين الزوجة والأولاد والزملاء، من قراء للنص ومساعدين في تحضير المراجع ومراجعة المشروع والمساعدة في الفصيح والعامي، وعقد المنتديات من المحيط الى الخليج، لتمحيص الكتاب، والإضافة إليه، والحذف منه، وتلافي النقص المحتمل قبل أن يستوي على سوقه، مع أن صاحبه لما يزل حديث عهد بمذاهب أخرى. والكتاب برمته ومن قبله ما يسمى بالإرهاص له «المرأة واللغة» كلام ممطوط، ولغة مترهلة، ولت وعجن مملان على طريقة الذين يتحدثون ولا يقولون شيئا. وكبار الأدباء والمفكرين الذين أنتجوا المشروعات العملاقة وألفوا الكتب والمعاجم والموسوعات، لم يقل أحد منهم: إن المحافل النقدية من المحيط الى الخليج ناقشت مشاريعهم، وآزرت في مراجعتها، وهل كتاب ككتاب «النقد الثقافي» يستحق كل هذا الإيجاف؟ فأين صاحب المشروع من «عبد الرحمن بدوي» و«حسن حنفي» و«زكي نجيب محمود» ومن قبلهما «عباس محمود العقاد»؟ وأين هو من مشروع «عبد الخالق عظيمة» في أساليب القرآن و«فؤاد سزكين» في «التراث» و «شوقي ضيف» في «التاريخ الأدبي» و«ناصر الدين الألباني» في خدمة الحديث، وعشرات من العلماء والمفكرين والأدباء والنقاد ممن كتبوا عن «الفكر العربي» و«العقل العربي» و«النقد الأدبي» و«التاريخ العربي» ك «الجابري» و«العروي» و«جدعان» و«غليون» و«عز الدين إسماعيل» و«صلاح فضل» و«لؤلؤة» الذي كتب وترجم في المصطلح الحديث، و«مطلوب» صاحب معجم البلاغة والنقد القديم، بل أين هو ممن هم دون ذلك بكثير؟. لقد عهدنا من يتحدث عن أشياء: كبيرة أو صغيرة، حسية أو معنوية، كالأزياء والألعاب والمأكولات والمستعملات والعادات، لا يكون أكثر من «كاتب اجتماعي» أو «ناقد اجتماعي» أو «ناقد ثقافي» أو «ناقد واقعي» أو «ناقد أسطوري» أو «ناقد أنثربولوجي»، وكل هذه الاتجاهات قائمة ومتداولة، وليست العودة الى شيء منها بحاجة الى ذلك الحشد البشري «لتدشين» المشروع. لقد ضرب لنا صاحب المشروع «المدشن» مثلا باتخاذ «لعبة البلوت» مجالا لتطبيق «النقد الثقافي» وقد يأخذ بمثلها آخرون، بوصفها تطبيقا للنقد الاجتماعي، مع أن القول عن هذه اللعبة في زمن مدلهم بالمشاكل، مليء بالأحداث الجسام، استهلال فيه تخذيل وإحباط للرفاق. وحين نسلم بأن الحديث عن قانون اللعبة وشرطها وأنواعها خير مثال لمشروع «النقد الثقافي» وقد سلم المشايعون بذلك، فإن «فؤاد عنقاوي» هو الرائد الحقيقي ل «النقد الثقافي»، لأنه أول من ألف عن «لعبة البلوت» كتابا متداولا من عشرات السنين. والبحوث التي أعدها المتخصصون الأكاديميون في أقسام علم الاجتماع في الجامعات المحلية والعربية، وهي بحوث تناولت كل الظواهر الاجتماعية، وكل الأنساق الثقافية، وقامت على منهجية دقيقة، وعولت على معلومات صحيحة، هذه البحوث تخول أصحابها الريادة والتأسيس والانطلاق. ومصطلح «النقد الثقافي» المتفلت من أي قيد، السابح في كل مجال، المحتمل لكل تصور، المستعير لكل منهج ولكل آلة، يحال الى «اللامحدودية» و«الحد المكسور» كما يقول المصطلحيون لا يكون مصطلحا، ومجالات الثقافة أوسع من الحد، ولم يتفق المعنيون بالثقافة على تحديد لها، يحول دون التسيب وليس مسلما الإطلاق والتأطير في آن، والمشروع لا بد أن يكون مؤطرا معروفا لدى المعنيين، والاشتغال بالثقافة لا يكون محدودا، فالثقافة تحصيل وتعديل وحذق، ومن ثم فهي صفة وليست موصوفا، والمشروع يتطلب التوصيف، وصيرورة «النقد الثقافي» إقليميا الى ما يدين الثقافة من خلال أنساقها القائمة بالفعل أو المختلفة من خلال سوائدها ومسلماتها لا يمكن معها تأطير المصطلح. ومع القبول بأي تعالق منهجي أو آلي لا يتعمد نفي القائم من المناهج والآليات، ولا يدين المرجعية ونصها القطعي الدلالة والثبوت، ولا يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة، تبقى هناك أولويات ومواضعات ومسلمات وقناعات وثوابت ومكتسبات، لا يمكن الخروج عليها، أو المساس بها، ولا نسلم بأنه لا شيء فوق النقد والمساءلة، إلا للفعل البشري، ومن ثم لا بد من التفصيل، ف «الإيمان» يقتضي التسليم للنص التشريعي القطعي الدلالة والثبوت، لأنه المصدر الوحيد، فالعقل وموارده لا يملك قطعية الدلالة النصية، ولا يحسم الخلاف في أمر «الميتافيزيقا». والأنساق ودعوى الفحولة ليست من المقدس، وليست من المغيب، ولكن اختلاقها من المقترفات التي تستدعي المساءلة. والحديث عن الأنساق بوصفها المجال الأوحد للنقد الثقافي، وفق رؤية البعض، يحملنا على تصورها مفهوما على الأقل. فالنسق: هو النظام، والتنسيق التنظيم، والمناطقة يرونه: مجموع القضايا المرتبة في نظام معين بمقدماته ونتائجه، والأنساق أو النسق عند الثقافيين: جملة أفكار متآزرة ومرتبطة، يدعم بعضها بعضا،ومنها يتشكل وعي الأمة وموقفها من الأشياء، و«الذهن النسقاني» هو المتشبث بفكرة سابقة، والنسقي نسبة الى النسق، وقد يطلق النسق على المذاهب،ومن ثم أضيف النسق الى الفلاسفة فقيل «نسق أرسطو»، و«نسق ديكارت»، وقد ينبري من المريدين من يضيف نسقا أو أنساقا الى صاحب المشروع، لتحاز له الأمجاد بحذافيرها، وأوسع من تحدث عن النسق في الموسوعات «محمود زيدان» في «الموسوعة الفلسفية العربية»، ولربما يكون «النقد الثقافي» المحلي مرتبطا ب «الذهن النسقاني». على أن هناك مجموعة من النقاد والمفكرين والساسة، توسلوا بالأنساق، وتذرعوا بها للتخلل برؤيتهم وسط البنى القائمة، فهل يكون «الناقد الثقافي» متعالقا مع هذه المتعاليات، واعيا دوره في مواجهة الثقافة، أم أن القضية مجرد احتماء وراء لافتات المريدين؟ ومأزق المصطلح، وتهافت التنظير، يقعان بين الثبات الوضعي ومحدودية المصطلح أو فضاءاته. ولن نتحدث عن مأزق «المفهومية» القائم على أشده بفعل المشمول الثقافي، فالإدانة ليست في المفهوم، لأن المفهوم يفرضه مصطلح الثقافة قبل أن يتلبس بالنقد. وحين تجتاز الكلمات مدلولها اللغوي الى المدلول المصطلحي، يتطلب الأمر الرجوع الى الكلمتين بوصفهما اللغوي والمصطلحي السابق للمدلول التركيبي ومعرفة المقاصد، ولا سيما إذا كانت الكلمة تستعمل مصطلحا في أكثر من علم أو فن، فجذر «ن س ق» مصطلح: فلسفي، وأدبي، واجتماعي، ومنطقي. بل هو جذر صالح لأي إطلاق، بحيث يمكن وصفه أو إضافته لأي مفهوم قائم أو محتمل القيام. والحاذق هو الذي يسيطر علي مراوغة المصطلح، ويحول بينه وبين التعويم والتوهيم، وذلك من خلال الممارسة التطبيقية على ضوئه. و«النقد الثقافي» كما «الحداثة» لها تشكلها الظرفي والفكري، ولها فوق ذلك أزمتها المفهومية التي تضاف الى اتساع الدلالة والمقتضى بفعل النوايا المبيتة، ولكنها تظل كما هي عند المنشئ، ذات مقتضيات ومقاصد، وقد يلح المستعير في صبغها بالصبغة التي يريد، ولكن استفاضة مفهومها الجديد، وقبول المشاهد الفكرية به، يكون من المستحيل على الذواقين تحويل دلالة المصطلح أو تغيير مفهومه أو استئناف مهماته الجديدة، ذلك أن تحويل دلالة المصطلح تتطلب قدرات وظروفاً ومشاهد استثنائية، ولا أحسبنا بحاجة الى هذه التهويمات، فنحن بإزاء وثائق تطبيقية لا فكاك منها. ويكفي أن نحيل الى معطى «التشعرن» القائم على تأكيد مقولة المستشرقين «بفاعلية» الغرب و«انفعالية» الشرق، وقد ألمح الى ذلك الدكتور «تمام حسان» في مقدمته التي كتبها لمترجمه «الفكر العربي ومكانه من التاريخ» من تأليف «ديلاسي أوليري»، و«النقد الثقافي» يؤكد الانفعالية من حيث لا يحتسب، ومن ثم يخدم الطرف الآخر الذي يوغل بالنيل من الإنسان العربي. |
مع كارثة المعلمات وجهاً لوجه الحدث.. والحل..!
د. حسن بن فهد الهويمل 1 عندما ترى سبع فتيات بكل مايحملن من طهر وبراءة منتشرات على الأسرة البيضاء. يملأنها نزيفاً. ويملأن الفضاء بأصواتهن المختلطة، بين أنين وعويل وانتحاب. مبعثرات الشعور، ممزقات الدثور، شاخصات الأبصار، لا يشعرن بغاد ولا برائح، ولا يقدرن على الإدلاء بالجلابيب، والأطباء والممرضات في جيئة وذهاب، يغالبون النزيف، ويساعدون على التنفس، ويحاولون التفويق. والمتقاطرون على المستشفى يضجون بالحوقلة والحمدلة والاسترجاع. ينظرون بذهول إلى الراكضين من الأطباء والعاملين، وكأن لغة الكلام قد تعطلت، وخاطبت العيون الزائغة بعضها بلغة الهلع والخوف. كانت ساعة رهيبة، أعادت إلى الأذهان مشاهد القيامة، التي وصفها القرآن الكريم، ولم يسرف في الوصف {يّوًمّ تّرّوًنّهّا تّذًهّلٍ كٍلٍَ مٍرًضٌعّةُ عّمَّا أّرًضّعّتً وّتّضّعٍ كٍلٍَ ذّاتٌ حّمًلُ حّمًلّهّا وّتّرّى پنَّاسّ سٍكّارّى" وّمّا هٍم بٌسٍكّارّى" وّلّكٌنَّ عّذّابّ پلَّهٌ شّدٌيدِ } [الحج: 2] نعم كان الموقف عصيباً، والساعات ثقيلة مملة، يسأل مفجوع فلا يجاب. أقبلت أبحث وسط الأشلاء عن فلذة كبدي، أعرفها تماماً، ولكن الوجوه السافرة بكل وضاءتها وطهرها، والصدور العارية، والشعور المبعثرة، والسيقان المكشوفة، غشيتني بالغيرة والحياء والذهول، فلم تتجاوز نظرتي اقدامهن، وحين عرفتها، أمسكت بقدمها، أتحسس نبض الحياة، وزحفت نظرتي الواجفة صوب وجهها الشاحب وعيونها الشاخصة وشفتيها المترمدتين ولسانها المتخشب، عرفتها وعرفتني وتمتمت بكلمات خافتة: لا تحزن نحن بخير. لم أشعر بعدها بشيء. غرق الوعي في ضباب الذهول كما يغرق قرص الشمس في العين الحمئة أظلمت الدنيا أحسست أن يداً حانية جذبتني ولم أفق إلا وأنا على مقعد مخملي في مكتب المدير من جاء بي؟ من أجلسني؟ لست أدري! وأقبل شاب زائغ البصر، يتهادى بين طبيب ورجل أمن، وألقياه الى جانبي، وأحسست أنه يمسك بمتكئه، وكأن المقعد سيطير به إلى غير هدى، كان يسأل عن زوجته الحامل: أين هي؟ وكيف حالها؟ والناس من حوله صامتون، مدير المستشفى وضابط المرور، ينظرون الى الأرض كأنما يبحثان عن شيء ضيعاه، وتتلاحق كلماته الواجفة. هل هناك حالات خطرة؟ هل مات أحد؟ قال أحدهم بصوت متهدج: هناك وفيات. إذاً هي قد ماتت؟ لا إنها في حالة حرجة. أريد أن أراها. ستراها في الجنة. وصمت.. تخشب مكانه وتخشبنا معه إنها لحظات لم آلفها من قبل إنها حياة أخرى، عرفت معها كيف تتغير الأمور بلحظات، وعرفت معها ألا سور بين الحياة والموت، نفس يخرج ثم لا يعود، تفهت الحياة، وتضاءلت، ولكن عمارة الكون تزرع فينا النسيان والأمل، كي نقضي حياتنا ببناء للخراب وإنجاب للموت، وكل الذي فوق التراب تراب، لقد انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، مجرد أن سائقاً أراد أن يتجاوز ما أمامه، ففاجأته سيارة مقبلة، فارتبك، ثم حلت الكارثة، فعل بسيط، وتصرف عادي، غيرا مجرى حيوات كثيرة، فجعا أسراً كثيرة، وفرقا بين أحباب لايفكرون بالفراق، يا لها من حياة تافهة، بل هي تافهة التفاهة، البعوضة تافهة، فكيف بجناحها، إنها هكذا عند خالقها، ولكنها عند عبد الدينار والدرهم التعيس شيء كبير. كنت عائداً من صلاة الفجر. وكنت أشعر بإحساس غريب. بعد حلم مزعج. رأيت في المنام أن ساقي جريحة، وأنها تنزف دماً. وأني أبحث عمن يعالج. ورن الهاتف فأيقنت أن شيئاً سيكون. كان المسعف المحسن قد وصل ابنتي بي، وسمعتها وهي تغالب آلامها. حادث بسيط.. لا تسرع يا أبتي كلنا بخير. نحن في الطريق الى مستشفى «رياض الخبرا» وانقطع الصوت، كانت الساعة السادسة صباحاً من يوم الأحد 27/11/1422ه، سحبت نفسي كسارق أحس بحركة، وتركت الجميع يغطون في نوم عميق. وركبت الطريق. أردد الأوراد والأدعية، وأقطع الإشارة تلو الإشارة وأبحث في الذاكرة عمن سينقذ الموقف، أذكر أنني أيقظت سمو الأمير في الثالثة صباحاً، ولكنه لموقف إنساني، لا يحتمل التأخير، ولا يباشره سواه. وتحرك العقل الباطن يلوب الآفاق، لم أجد بداً من الاتصال باللواء «خالد الطيب» مدير شرطة القصيم الذي تلقف الخبر، وباشر العمل. وبعده اتصلت بالدكتور «ياسر الغامدي» مدير الشؤون الصحية، حيث بادر الاتصال بالطوارئ ليجدها على اتصال مع المستشفيات القريبة من الحادث. وفي الطريق الذي امتد كألف ميل، كان الرجلان معي عبر الجوال. وحين وصلت شعرت بأن كل الأطراف في مستوى الحدث. سيارات إسعاف سيارات أمن ومرور أطباء تتخطفهم الطرقات جوالات وهواتف، وكأن حريقاً قد شب في الردهات، قلت في نفسي الحادث مروّع ملامح الرجال لا تبشر بخير والحركة فيها ذهول وشرود لم يستقر بي مكان، ولم يهدأ لي بال، عرفت ان ابنتي على قيد الحياة، ولكن الحوادث تزرع الإصابات بحيث لا يستبينها أحد إلا حين تكشر عن أنيابها. جلست خائفاً أترقب أسرق بسمعي الكلمات الخافتة بين الأطباء والمساعدين، حالات خطرة، نزيف حاد، غيبوبة، «وفاة». واحدة فقط.. كانت أعز صديقات ابنتي ماتت «منى». الفتاة حامل، قضى عليها النزيف والتهتك والجنين الذي تمزق في الأحشاء كل ذلك لم يدع فرصة للأطباء. نهضت، وكأني أحتج على الخبر. أرفض قبوله، فتاة بريئة تستقبل مع زوجها مولودها البكر، يموتان معاً ميتة مجانية ومفاجئة. تصورت أهلها وزوجها والديها أقاربها الذين يرقبون عودتها هي وحدها بين الغرباء إنها بحاجة الى من يضع يده على جبينها الصبوح من يلقنها الشهادة من يسجيها، لا أحد، تركها الجميع، سحبت الآلات والأجهزة، وأوقفت الحقن، وعجز الطب عن التدخل السريع. زحف بها السرير المتحرك الى الثلاجة. انتهى كل شيء بالنسبة لها، وابتدأ كل شيء بالنسبة لذويها. دخلت في عالم جديد. وأقبلت على رب رحيم، وجنة عرضها السماوات والأرض. رحمك الله أيتها الفتاة الطاهرة. بارحت مكاني، تشبث بي مدير المستشفى الذي أغرق الجميع بلطفه ومواساته، ولم ألتفت إليه، عدت إلى ابنتي فلربما تكون الشهيدة الثانية. دخلت الغرفة كانت إلى جانبها «وفاء» تصرخ من الآلام، وتردد سأموت سأموت، ابنتي ابنتي، كانت هي الأخرى حاملا ترقب مع زوجها الحدث السعيد، وكان الحدث الأليم هو الأسبق. وأقبلت علي ابنتي.. كانت في حالة من الذهول ولما رأتني قالت: هل مات أحد.. قلت لا أنت الأخطر، وها أنت تتكلمين.. صاحت بي لاتبتعد أحس بغثيان أحس بغيبوبة. غشيتها صفرة، غارت نظراتها نظرت إلى الطبيب المنكب على «وفاء». طمأنني: حالتها غير حرجة. وعاد وعيها ببطء لتقول: لا لست الأخطر «منى» و «وفاء» حاملتان، وقد اختارتا مقدمة السيارة، لتلافي المطبات، كان مفروضاً أن أكون في المقدمة، ولكنني تنازلت عنها مراعاة لوضعهن. تحركت أولى المصابات الى مستشفى «البكيرية» الذي رفع درجة استعداده. وتحركت الأخرى، كانت «وفاء» هي الثانية حالتها خطيرة، ولكن لا بد من التحرك. النزيف والتهتك يتطلبان التدخل الجراحي. وأثناء التدخل لإنقاذ حياتها، توفيت، وعندها أحسست أن العقد بدأ ينفرط. وصل من «بريدة» فريق من الطوارئ، وزادت حالة التوتر، الباقيات في حالة خطيرة، ومن المتوقع أن تموت أخريات، لقد بدأ الهلع على الوجوه، وتحركت سيارات الإسعاف بمن استقرت أحوالهن. كانت الساعة الثانية عشرة ظهراً، وكانت الأوضاع في طريقها الى الاستقرار، الإصابات متفاوتة، السائق أعطى المعلومات للمحقق قبل أن يدخل في حالته الحرجة. وتجيء التوجيهات بنقل كل المصابات الى مستشفى الملك فهد التخصصي، وتحركت ابنتي، وانطلقت وراءها، كانت كل المعلومات بين يدي صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر وسمو نائبه، وكانت توجيهاتهما تؤكد على رفع درجة الاستعداد الى أعلى مستوياتها. وتفضل سموه الكريم وسمو نائبه بمهاتفتي للاطمئنان والتطمين، وتابعت حرم سموه الحالات، وتوالت المهاتفات من كبار المسؤولين والأصدقاء، يواسون ويأسون ويتوجعون، ويعرضون الخدمات، وأحسست أننا بخير، وأن إمكانياتنا في مستوى احداثنا، لم ألاحظ أي تقصير على كل المستويات في الإمارة وفي الصحة والأمن والتعليم، كان تعليم البنات يتابع، وهاتفني مدير تعليم البنات للتطمين ولما يعلم أنني في أتون الحدث، وكان مندوب الرئاسة وبعض الموجهات في المراكز القريبة داخل المستشفى، كل المدرسات اللاتي مررن بالحادث عدن من مدارسهن قبل نهاية الدوام، لم يشعر أولياء الامور الذين توافدوا فيما بعد على المستشفى بالوحدة ولا بالغرابة. وقبل العصر كان كل شيء قد انتهى، وعاد المستشفى في محافظة «رياض الخبراء» الى وضعه الطبيعي. أديت صلاة الميت على «منى» و «وفاء» وبدأت رحلة المتابعة لحالة المصابات، وانهالت كلمات المواساة والاطمئنان والتهنئة. * * * 2 وثارت التساؤلات: من المسؤول عن هذه الحوادث؟ السائقون، السيارات، الطرق، المرور، التعليم، أولياء الامور، واستعاد البعض أحداثاً مماثلة، واستحثوني على طرح القضية، فالأمر لا يحتمل التأخير، وجميل أن يبحث الرأي العام عن أسباب أي كارثة. البلاد تعيش حرباً داخلية، كل دقيقة تزهق روح، ويعوق مواطن، وتضيع ثروة. حوادث السيارات إشكالية، يجب أن تفكر فيها كل القطاعات لا على طريقة: من المسؤول؟ ولكن على طريقة: ما الحل؟. يجب أن نبحث عن الحل، أن نعرف، لماذا وكيف حصل الحادث؟ نعم هناك أطراف ضالعة في الحوادث ومسؤولة، والإشكالية ليست وقفاً على «المعلمات»، أسر تخرج ولا تعود رجال ونساء شباب وأطفال يموتون دون سابق إنذار. وحين يزعجنا ارتفاع نسبة الحوادث بالنسبة للمعلمات فإن واجبنا أن نفكر جيداً في ذلك، وألا نتخذ الرئاسة مشجباً، وفي الوقت نفسه يجب عليها ان توظف خبراتها المتميزة في عمليات النقل لمعالجة مشاكل نقل المعلمات. الرئاسة لها أساطيل نقل في كل بقاع المملكة، وتجربتها مشرفة وعملها متفوق، وإمكانياتها جيدة، ووسائل السلامة عندها متميزة. وحوادث سياراتها نادرة، وإذ لا يكون من مسؤوليتها نقل المعلمات، ولا يحق لأحد تحميلها أي مسؤولية، فإن الموضوع لا يرتبط بالمسؤولية أو عدمها، وإنما هو في أن تستخدم الرئاسة خبرتها المتميزة في تقديم المشورة لمن يهمه الأمر. لقد فكرت طويلاً في تقديم رؤية معقولة وممكنة، وكل من استعداني على المسؤولين طلبت منه رؤيته، غير أني لم أهتد الى رؤية مناسبة، ولكنني لم أيأس من حل المشكلة، لابد من التفكير، لابد من استقبال الآراء، ومساءلة كل الأطراف: المرور، الطرق، أولياء الأمور، لا شيء يستعصي على الحل، لا بد من الإرادة والإصرار، لابد من تداول الإشكالية على كل المستويات، مجلس الشورى، وزارة الداخلية، وزارة المواصلات، الرئاسة العامة لتعليم البنات.هناك سائقون متهورون، وآخرون غير أكفاء، وذوو سوابق، وهناك سيارات انتهى عمرها الافتراضي، لا تصان، ولا يعرف المعنيون إمكانيات احتمالها للطرقات الطويلة، هناك طرق ضيقة ومعوجة ومرتفعة، ومكتظة بالحركة، «طريق المدينة» مليء بالقرى والهجر المتناثرة على جانبيه، تنتاب الطرق الإبل السائبة، ويجوبُه من لا يعرفون وسائل السلامة، لا رقابة على هذا الطريق، ولا مطاردة للمسرعين والمتهورين، حوادث الطريق مروعة، لا بد من دعم المستشفيات الواقعة عليه بالإمكانيات، وبخاصة في أوقات الذروة كالحج والدراسة، وأمام هذه الشبكة من الإشكاليات لابد من تكوين فريق عمل، يستعرض المشاكل، ويقدم الحلول، لا بد بادئ ذي بدء من شبكة مراقبة، ونقاط تفتيش، ومحطات فحص للسيارات المستخدمة باستمرار على الطريق، ولا بد من تأخير دوام المدارس النائية ساعة أو أكثر، لتتمكن سيارات النقل من الوصول برفق، كانت حجة السائق أنه متأخر، والمدرسات يحاسبن حساباً عسيراً على التأخير. لا بد من دراسة إشكاليات نقل المعلمات، ووضع نظام دقيق وصارم، يطال السائق والسيارة، أولياء الأمور مسؤولون، ولكنهم قد لا يجدون بداً مما ليس منه بد، وقد لا يعرفون شيئاً عن السيارة والسائق والطريق. إن إشكالية المدارس النائية ستظل في تنامٍ مخيف، ما لم تتخذ الحلول الجذرية على مستوى الدولة، فهي لن تحل إلا من جهة السياسة العليا، إذ لابد من نقل رسمي أو إشراف مباشر، أو شركات مقتدرة، ولا بد من مكافآت للمناطق النائية، ولا بد من تكثيف الساعات في جزء من أيام الأسبوع للوافدات من بعيد، بحيث يكون هناك تناوب، ولا بد من دراسة فكرة المجمعات، وفكرة السكن الجماعي، وهناك خيارات متعددة، معقولة وغير معقولة، إن علينا ألا نثور أمام الحدث، ثم نغفو بانتظار حدث آخر.. الإشكالية منا وإلينا، ونحن فريق يشترك في المسؤولية وفي الحل، وعلينا أن نبدأ التفكير والإقدام: وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابا |
تسييس الحج: رفث وجدال وفسوق..!
د. حسن بن فهد الهويمل لو كانت الأمة الإسلامية في راهنها أمة واحدة، تظهر الدين، وتحكم الشريعة، وترد إلى الله والرسول عند الخلاف، وتملك قوة متكافئة، واقتصاداً متيناً، واستغناءً عزيزاً، لما كان من بأس في تداول قضاياها السياسية في حجها الأكبر، ورفع الاذان بالبراءة من المشركين، وان كانت بريئة منهم، أعلنت ذلك أم لم تعلنه. أما وقد قضى الله أن تكون غثاءً كغثاء السيل، كما أخبر من لا ينطق عن الهوى، تصنم الحدود، وتتغنى بالتراب، وتكفر في زمن التفكير، تستهلك ولا تنتج، وتقول ولا تفعل، ترسانتها بلاغة، وسلاحها مستورد غير رادع، فإن التسييس والحالة تلك، تعميق للخلاف، وإشاعة للفوضى، وصرف للحج عن مساره الديني إلى الرفث والفسوق والجدال ومعصية الرسول، القائل بغير ذلك واهم، يضرب في فجاج التيه، ويتمنى على الله الأماني. وحفاظاً على قدسية المشاعر وروحانية الأجواء، وحرصاً على سلامة المستضعفين من شيوخ وهنت عظامهم، وعجائز تقاصرت خطاهن، وأطفال رضع، يُطالع قطاعُ الأمن في البلاد وفودَ الحجيج بما يجب أن تكون عليه الشعائر والمشاعر، من سكينة ووقار، وخضوع وخشوع، وتلبية لله وحده وإقبال عليه، واستدبار بكل متعلقات الحياة الدنيا، ومثلما ان الدولة المختارة لتطهير بيت الله للطائفين والعاكفين والركع السجود فإنها مختارة ايضاً لتطهير الأفكار من اللوثة، وتهذيب الألسن من الجدل، وسلامة المأكولات من التلوث، وتنقية الهواء من الفساد، وحماية الأجسام من الأوبئة والأمراض والحوادث، وتخلية المسالك من العوائق الحسية والمعنوية. ولن يكون الحج نظيفاً مريحاً حتى تتضافر الجهود من كل الأطراف داخلياً وخارجياً، والحج عقد مضيء معقّد من اللحظات الحاسمة، لو انفرط وتبعثرت حباته لحلت بالحجيج كارثة لا تحتمل، فكل شيء قابل للانفجار. ولأن الزمان والمكان روحيان فإن الدولة التي شرفها الله بخدمة ضيوف الرحمن لا يود أحد من رجالها التحول بها الى حالة من التوتر والاضطراب، ولا يود مؤمن بالله أن يفوت أي فرصة على أي حاج من أن يتزود من التقوى، ولو علم الحاج كم تواجه الدولة المضيفة من متاعب وخسائر، وما تبذله من جهد جهيد لتوفير الأجواء الروحانية الملائمة لشاطرها ما تعانيه من هم ممض، وتعب مصمي، وخسائر موجعة، لا تنتهي بانتهاء الموسم، وإنما تمتد لتصل الى العام القادم، ومع ذلك فإنها لا تجد فيما تعانيه إلا المتعة والراحة، ولا ترجو من وراء ما تبذله جزاء ولا شكوراً، ولا تمن بما تفعل على أحد، ولم تمتد يدها يوما من الأيام بطلب العون، ولم تستغل مشاهد الحج للدعاية لخطابها السياسي، وكل الذي تتطلع اليه التزام الهدوء والسكينة، وان يتفرغ المقيم والوافد والمواطن لاستكمال متطلبات الحج، وقد نبه الله وفود بيته بقوله جل وعلا: «فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال» ومن لم يفرض على نفسه الحج، وظل في بلاده، فله فعل ما يحلو له من قول أو فعل، يبدي فيه موقفه من الأحداث والأناسي والدول، يؤيد فيه زعيمه، أو يلعن به شيطانه الأكبر، سواء كان ذلك الشيطان من كفرة الأناسي أم من مردة الجن، أما في الشعائر والمشاعر فليس هناك مزيد وقت، ولا فائض جهد تطال غير الشعائر، ومن أراد أن يتزود فليتزود من التقوى. والحج أيام معدودة، لكل يوم وظائفه ومتطلباته التي تستغرق الجهد والوقت معا، والفقهاء العارفون الناصحون تعقبوا نصوص التشريع، واجتهدوا في استنباط الأحكام، فحددوا الأركان والواجبات والسنن والمباحات والمحظورات، واستخدموا في سبيل الوصول الى أصح الأقوال الأصول والقواعد، ولم يكن لأحد منهم قول في السياسة وشعاراتها، ولا في الهتاف وغوغائيته. ولم تكن السياسة من المنافع التي يسعى اليها الحاج، ولا من الفضل الذي يبتغيه الوافدون، فالله رفع الجناح عمن ابتغى الفضل في البيع والابتياع والسعي في المصالح، متى أمكن ذلك، دون إضاعة شيء من واجبات الحج. والقول في السياسة في ظل التشرذم العربي والإسلامي وتعدد الأهواء والانتماءات من الرفث والفسوق والجدال. والوضع العالمي يعيش حالة من التوتر والاهتياج، والأمة العربية والإسلامية في حالة من الضعف والتفرق، والدخول في المناكفات السياسية في ظل هذه الظروف، يؤدي الى العداوة والبغضاء، سواء جاء في السر أو في العلن في التدبير أو في الصدف بين الأفراد أو الجماعات، والجدل حول قضايا السياسة بين الحجاج لا يحقق مصلحة للأمة، ولو أتيحت الفرصة للقول فيها لتعددت ، وتنوعت الهتافات، وتدخلت كل دولة في تنظيم المظاهرات لصالحها، وأحلت الهتافات محل التلبية، وسعت الدول لتوظيف المتظاهرين والهتافين وحملة الاعلام والصور وترديد الشعارات، فيما يقوم آخرون بفعل مماثل في شكله مضاد في مقاصده، ويومها تصبح المشاعر والشعائر معرضاً لصور الزعماء وضجيجاً متناحراً لتمجيدهم، وقد تنتقل المشاعر المحتدمة من الألسن الى الأيدي، فيشتبك المتظاهرون، وتسيل الدماء، ويعود بعضهم الى بلادهم في التوابيت، ثم يستقبل الهالكون بالمظاهرات والهتافات، ويتحولون الى رموز اقليمية وشهداء للواجب الوطني، الأمر الذي يعمق العداوة والبغضاء، وقد تتحول المشاعر الى ساحات لتصفية الخلافات، وأخذ الثارات، وبعد احتدام الأنفس وامتلاء الساحات واختلاط الأصوات بتمجيد المبادئ، وتقديس الزعماء، ينسى الحجاج ذكر الله، وتهمل الشعائر، وتدنس المشاعر، وقد تعجز الألسن عن ارضاء، الزعيم القابع في ترسانته، فيعطي أمراً بتحريك الأيدي مع الألسن، لتحل الفوضى، وينفلت عقد النظام، ويومها يتأذى الشيوخ والعجائز الذين قضوا حياتهم وهم يحلمون ببلوغ هذه المقدسات، حتى اذا بلغوها بشق الأنفس حيل بينهم وبين ما يشتهون. وماذا لو أن الدولة المضيفة، وهي قادرة على فعل ما تريد، جندت حجاج الداخل للهتاف، كيف تكون مشاعر المسلمين الذين هفت أنفسهم لأرض القداسات للذكر والدعاء والصلاة؟. لقد طلع رجل الأمن في البلاد، ليقول: إن الهتاف باسم أي زعيم حتى لو كان باسم خادم الحرمين الشريفين لا نرضاه، ولا نقره، ومن بدر منه شيء من ذلك حاسبناه حساباً عسيراً، وأحسب ان ذلك روح العدل والإنصاف، وعين الحكمة والعقل، والدولة التي شرفها الله بخدمة الحجيج وتطهير بيت الله تعرف ان القول في السياسة اخطر من أي تجاوز، لأنه الوباء المخل بالأمن، والمؤثر على روحانية الشعائر والمشاعر، ولو أتيحت فرصة التعبير عن المواقف السياسية في «عرفات» و«منى» وساحات «البيت العتيق»، فمن يقود الحجيج، ومن يلقن الهتافات، ومن يختار الشعارات، ومن يحدد الزعماء، ومن يعين المبادئ؟ والمتكئون على ارائكهم حين يحلو لهم القول في السياسة، فمن يواجهون زعماء اذاقوا شعوبهم الويل والثبور، أم دولاً شرعت لنفسها رسم السياسة العالمية، ومن يملك تحديد العدو والصديق، مهاتف لا يعرف الأوضاع أم ضالع في اللعب لا يملك الرحمة. ومثلما أنه من الرفث الهتاف باسم المبادئ والأحزاب والقادة فإنه من الجدل تداول الكتب والمنشورات والتسجيلات، وكل ما يشغل عن الذكر والصلاة، والدولة قد تنبهت لذلك، وحالت دون الاشتغال بأي شكل من اشكال الدعاية، وصرامتها حققت أجواء ملائمة لممارسة أركان الحج وواجباته، وحالت دون أي توتر. وليس من مصلحة العالم العربي والإسلامي الدخول في جدل السياسة في ظروف معقدة كظروف الحج، ولا سيما ان الأمة الإسلامية مختلفة الآراء، متعارضة المصالح متناقضة الانتماءات، وأوضاعها السياسية والاقتصادية في حالة لا تحتمل المزيد، وكيف تتحدد الهتافات والأمة يصرفها أفراد متعددون أو مؤسسات متنوعة، وتقوم بها أنظمة متباينة الأشكال والألوان، ولكل كيان أسلوبه السياسي وإجراؤه في الوصول الى سدة الحكم، ولكل نظام انتماؤه الأيديولوجي، وطبيعته الاجتماعية، ومستواه الاقتصادي، وكثافته السكانية، ومشاكله الخاصة. ولكل شعب إرادته التي لا يجوز منعها أو مصادرتها، وفوق كل ذلك فإن الأمة الإسلامية تختلف في أحلافها، وتتعارض في مصالحها، وتتباين في خياراتها. والشعوب الوافدة الى الحج ليس لها من الأمر شيء، وهي احوج ما تكون الى معرفة احكام الحج لتؤديه على مراد الله، وهي أحوج ما تكون الى الأجواء الملائمة لاستكمال متطلباته. وفي ظل هذه الفوضى التي تعيث بمقدرات الأمة الإسلامية، يحسن بها التعاذر، وتفادي الصدام، والالتقاء حول القضايا المشتركة، ولأنها في حالة من التناقض لا تتطلب المزيد، لا يمكن أن يتأتى لها التعبير عما تريد، وهل أحد من المتحمسين لتسييس الحج قادر على ان يهتف ببلده بمحض إرادته؟. والحج أيام معدودات، وعبادة مخصوصة، لا يبلغه القاصدون إلا بشق الأنفس، فهم من كل جنس، ومن كل لغة، ومن كل فج عميق، لا يعرف بعضهم بعضاً، لا توحدهم إلا التلبية ووحدة الشعائر والمشاعر، ربهم واحد، وقبلتهم واحدة، وقرآنهم واحد، ورسولهم واحد، ولكن لغاتهم وقياداتهم وسياساتهم وهمومهم ومشاكلهم وأحلافهم مختلفة.. فإذا اكتظت بهم الأودية والشعاب وجب ان توحدهم العقيدة والقبلة، ولن يتوفر لهم الأمن والاطمئنان في ظل حمل الهموم الاقليمية والطائفية والعرقية والسياسية. وإذا كان الحاج يتجرد من ثيابه ليندمج في الناس، ويكون الجميع سواسية فإن عليه أن يتجرد من انتماءاته الاقليمية والطائفية والسياسية ويتجه بكليته الى الواحد الأحد الذي يتفق الجميع على توحيده وتعظيمه والخضوع له، والحج له خصوصيته، وله أزماته الخانقة، ومن ثم فإنه لا يحتمل المزيد من الهتافات والشعارات والمظاهرات. والدولة التي تستنفر كل طاقاتها لتوفير الأمن والسلامة ليست بقادرة على تحمل فوضوية السياسة، والتناجي فيها منزوع الخيرية لأنه لا ينطوي على أمر بالمعروف ولا على صدقة ولا على إصلاح بين الناس. وعلى الحاج الذي تحمل الخسائر والأخطار، وبارح أهله ودياره أن يعرف واجبات الحج ومتطلباته، وان يعرف ان الدولة مسؤولة عن سلامته وأمنه وصحته واستيفائه لمتطلبات الحج التعبدية، ولن يتوفر له إلا إذا احترم الأنظمة وتقيد بالتعليمات، وحين لا يكون منه احترام ولا تقيد فإن أجهزة الدولة قادرة على ردعه وأطره على الحق، وساعتها لن تبالي بما سيناله من أذية، لأنها مسؤولة أمام الله، ومطالبة بالنص القرآني ان تطهر بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، ولم تطالب بتهيئة الأجواء للهتافات والشعارات والمظاهرات، ولست أشك ان التسامح في شيء من ذلك مضيعة للجهد والوقت والمال، وإشاعة للفوضى، وتمكين للعابثين، وواجب الحكومات الإسلامية ان تقوم بتوعية حجاجها، والتأكيد عليهم باحترام الأنظمة والتعليمات، واستيعاب خطط الحج، فالحاج حين يقدم على الحج دون معرفة، ودون توعية، يشكل عقبة في طريق الخطط والتنظيمات، والدولة التي تنشلّ حركتها، وتوجه كل امكاناتها الى المشاعر المقدسة، تود ألا يكون فشل خططها بسبب جهل الحجاج وفوضويتهم. نسأل الله للحجاج القبول والسلامة، وللدولة المضيفة التوفيق والنجاح والمثوبة. |
مبادرة الأمير.. وإشكالية (التطبيع)..!
د. حسن بن فهد الهويمل 1/4 قضية الامة العربية والإسلامية على مدى عمرها الطويل، تمر بحالات حرجة من الاشتعال والخبؤ، تحركها الكلمات، مثلما تحركها الحجارة، وقد تتحرك بفعل أزيز الطائرات، ودوي المدافع، وقصف القنابل، وفي العمليات الانتحارية، والفعل العنيف ورده الأعنف. وكلما خبت نارها المضطرمة في النفوس أو في الشموس، بعث الله من يزيدها سعيرا، او يحولها برداً وسلاماً، فإما أن يتقدم بها إلى أتون المعارك، أو يجنح بها الى مرافىء السلام. والشعب الفلسطيني الصابر المحتسب تشرئب أعناق مقهوريه كلما لاح بارق في آفاقه المكفهرة. ومع كل البوارق الخلَّب فالقضية في حال لاتسر، والوضع القائم: عربيا وإسلاميا وعالميا لا يمكن ان يتمخض عن حل يحقق الطموح والتطلع، وعلى الرغم من كل الترديات والتحفظات فإن القبول بالوضع القائم مؤذن بفساد كبير، فهو وضع على فوهة بركان يقذف حممه، وقوده الشعب الفلسطيني الذي يتجرع الخوف والجوع والذل، ويتعرض لنقص في الأنفس والأموال والثمرات، بلغ ذروته بفرض الإقامة الجبرية على رئيس الدولة. ولأن المستقبل غيب لا يعلم كنهه إلا الله، فإن انتظار ما لا يأتي مضيعة للوقت والجهد والمال، والأمة في ظل هذه الظروف العصيبة بحاجة إلى منقذ، وحين لا يكون بالإمكان تحقيق الأحلام فإن الحلول المرحلية توقف النزيف والاستنزاف، والمتابع لتاريخ القضية يقف على محطات مصيرية وفرص نادرة، فوَّت بعضها العناد، وقضى على بقيتها المكر والخداع اليهودي والتفكك واختلاف وجهات النظر العربية، وأخرى من المحطات لا تتجاوز التحرف للإنقاذ وإيقاف التدهور ، والطوية الحسنة التي كان يضمرها صاحب السمو الملكي الامير عبدالله بن عبدالعزيز، والتي جاء اكتشافها بالصدفة على يد الصحفي الأمريكي اليهودي (توماس فريد مان) وسميت تجوزاً (مبادرة) تأتي في سياق (الإنقاذ)، و(إيقاف التدهور) وزحزحة الأرجل، لتأخذ خطوة إلى الأمام أو إلى الخلف، كي تتجاوز بؤر الفعل العنيف والرد الأعنف، فالقتل والقتل المضاد، وهدم البيوت، واقتلاع الاشجار، وكسر العظام، وحرق الأرض، ليست في صالح المستضعفين. ومن يشاهد الحدث، ويعد الشهداء بأصابعه ليس كمثل من يصنعه ويموت، ولأن هاجس المنقذ لما يزل حبيس مكتبه على شكل مقترحات بانتظار القمة وانكشاف الغمة، ومن المتوقع إجهاضه بفعل (شارون) المتوحش، فقد ألحت كل الأوساط لتحويله إلى (مبادرة) ثم الصعود به إلى (مشروع) عربي مشترك. ولم يكن اختلاف الآراء حول المبادرة هو السبب في استئثارها بالصدارة. لقد تلقفتها وسائل الإعلام العربي والاسلامي والعالمي، وفرغت لها المنتديات والمطابخ السياسية، وجاءت ردود الفعل بين التفاؤل والتساؤل. والمحللون السياسيون الرسميون والمحترفون: الأحرار والمأجورون، انتابوها، وكأنها مشروع صاغته أطراف متعددة، وما هي في حقيقة الأمر إلا رؤية أو مقترحات كتبت بالحروف الأولى، وحفظت لوقتها وظرفها المناسبين، ولا أحسبها مشروعاً مكتمل الإعداد. والقنوات الرسمية في المملكة التي يقف الأمير عبدالله على فوهاتها لم تقل شيئاً حيال نهائية المبادرة، إذ هي لا تتعلق بقضايا محلية، ولما يتفق عليها مع المعنيين. ولأنها مجرد رؤية من إنسان يحمل هموماً كثيرة، فقد قوبلت بتفاؤل كبير، وتنازعتها محافل: أوروبية وروسية وأمريكية. والأهم من كل ذلك أنها تسربت نتيجة إثارة صحفية ذكية، وجاء احتفاء (النيويورك تايمز) الصادرة في 17 فبراير 2002 محركا أقوى للجادين والفضوليين، ولو قدر لها أن تتحول إلى خطاب عربي مشترك فإنها مشروطة بتحولات جذرية في السياسة العدوانية الإسرائيلية، ولا أظن إسرائيل ستقبل بتهيئة الأجواء الملائمة لها، وفق تطلعات الأمير، وفوق ذلك فإنها على مفترق طرق بالنسبة للمرجعية المتنازع عليها، بين الإسلامية واليهودية وسائر الايديولوجيات العربية. ولست أشك أن الأمير عبدالله في ظل الظروف الضاغطة والمتوترة أراد أن يخرج الجانب المتغطرس، ويضعه في الزاوية الضيقة، لأنها في الجملة استدعاء لقرارات شرعية، التزم بها العرب، وتملصت منها إسرائيل، وفتح لملفات حفيت أقدام الوفود العربية من تداولها. ومقاصدها النهائية إحياء مفردات ورؤى طرحت من قبل في أوقات مختلفة، وفي ظروف مغايرة، ولما تؤت ثمارها المرجوة، لتعاقب الحكومات الإسرائيلية المعولة على المماطلة واستغلال الوقت، ولربما كانت (انتفاضة الأقصى) وأحداث سبتمبر أجواءً ملائمة لمثلها. 2/4 ولأن القضية همّ القادة فإن المبادرة بكل ما اكتنفها من مداخلات على أعلى المستويات مسبوقة بمبادرة في ذات السياق، وبذات المفهوم، ومن ذات المؤسسة، ولكنها جاءت في ظل ظروف مغايرة، فبين قمة الرباط 1981 وقمة بيروت 2002 اجواء متباينة، فلقد كانت للملك فهد حفظه الله مبادرة معروفة، دخلت عالم المصطلحات السياسية باسم (مبادرة السلام) عام (1981) وأخذت وقتها بعداً إعلاميا، وتداولتها المحافل السياسية، ولكنها اختلطت بمبادرات متعددة، واكتنفتها رؤى متنوعة، وتحولات سياسة. وتجيء مبادرة الأمير عبدالله بذات القوة والفاعلية، معززة بمواقف سموه المحرجة للحليف الأقوى للمملكة والمساند الأقوى لإسرائيل، إلا ان الظروف الحرجة عربيا وإسلاميا وعالميا، قفزت بها من حروفها الأولى الى مشروع، وكم هو الفرق بين (المشروع) والتفكير في تقديم مقترحات لمؤتمر مرتقب. والأمير عبدالله يعرف جيداً أنه ليس اللاعب الوحيد على مسرح الأحداث المصيرية، ويعي حدود ما له وما عليه، يتمثل آداب الحوار وشروطه، ويعرف أهليات المؤتمرين، ومقدار حقهم، وضوابط تداول القضايا المشتركة، ويعرف موقعه في سلم القضية، ومن ثم لا أحسبه حفيا بهذه النقلات البعيدة، المدعومة بثقله على كل الأصعدة، وبالوقت الحرج الذي يتلهف لمثلها، ولأن مبادرته لما تزل في مرحلة جس النبض، ورصد ردود الفعل، فإنها لم تأخذ شكلها النهائي، ولم تكن ورقة رسمية لا باسم المملكة، ولا باسم الأمة العربية، ولا باسم الفلسطينيين، ذلك ما يتبادر من الملابسات، وقد تكون هناك ترتيبات غير معلنة، اسرَّها الأمير في نفسه، ولم يبدها، أتمها عبر قنوات متعددة، لا يعلمها إلا العالمون، والمبادرة بهذه الاحتفالية، وبالتوقيت الدقيق، وبوزن صاحبها ستكون مسرحا للتنبؤات وتجريب الإمكانيات، وقد يكون القول فيها وعنها من الرجم بالغيب، وحين تكون حدثاً مؤثراً فإن من حق المعنيين تداولها وفق رؤاهم غير الملزمة وغير النهائية، وسيظل المعنى في بطن الشاعر. وأكاد أجزم أن سموه حين سربها، كرد على سؤال الصحفي الأمريكي الذي حمَّل الأمة العربية مهمة التقدم برؤية تنقذ الموقف لم يكن يتوقع أنها ستكون حديث الأوساط العربية والإسلامية والعالمية، ولو أنه عرف حجم التطلع العالمي لحبرها تحبيراً، وطرحها في خطاب رسمي، وعبر قنوات الأمة العربية. ولعل من لطائف المحللين السياسيين الاشتغال ب (التوقيت) دون البنود، لأهمية الظروف القائمة، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتورط أمريكا في مواجهة الإرهاب، وتولي كبر مطاردة الأشباح، ولأن المبادرة لم تنطو على بنود ليست متداولة في مبادرات سابقة، فقد ربط المحللون المثير (بالوقت) و(بالشخصية) فأمريكا تمر بمرحلة حرجة، وأوضاعها السياسية، والاقتصادية والعسكرية، تنذر بالخطر، وهي بحاجة إلى من يفتح لها الطريق للخروج من مآزقها المتعددة والصعبة. والمبادرة ربما تفك الاختناق، وتكسر الجمود، وتوقف التدهور في سمعة القطب الوحيد. والغريب في الأمر أن تلقف الإعلام الأمريكي لها، لم يكن تلقفا استهلاكياً، إنه تلقف متلهف، متفائل، تلقف المحلل والمقوم والمحرض على عدم تفويت الفرصة. وإذا افترضنا أن المؤسسة السياسية في أمريكا غير راغبة في إطلاق المبادرة في هذه الظروف وبهذا (الحجم) فإن الإعلام الامريكي هو الآخر قد وضعها في موقف حرج، وذلك حين بادرت الصحف العملاقة التي لم تكن تأبه بالخطاب العربي فخصتها بافتتاحياتها، وهذا مؤشر اهتمام شعبي، وليس مهما أن يكون رسمياً، ذلك ان الرأي العام الأمريكي يوجه المؤسسة السياسية، حتى لقد خرج بوش معلنا ترحيبه وتفاؤله، كما بدأت الرحلات المكوكية بين (الرياض) وعواصم العالم، ويقال مثل ذلك في إسرائيل فقد جاءت إشارات متعقلة على ألسنة المعارضة والأحزاب الجانحة للسلم، وتوجهت لجان إسرائيلية وفلسطينية الى (روسيا) لدراسة المبادرة، كما جاءت تحذيرات من مراقبين إسرائيليين ركزوا علي خطورة خروج المملكة من سياسة الضغوط الكواليسية إلى الطرح المعلن. فالعمليات الفدائية التي استهدفت (دبابات) الجيش الإسرائيلي، وهزت الثقة بها، وأوقفت صفقات التسليح معها، و(تمرد ضباط الاحتياط) وخطاب (شارون) الذي قوبل بامتعاض شديد وسخرية مرة، كل ذلك هيأ الأجواء لتلقف مبادرة عربية ذات وزن ثقيل. 3/4 والأمير الذي جاءت مقترحاته كفلق الصبح دون مقدمات أو توطئات، جعل الكرة في شباك الجامعة العربية، ومؤتمر القمة، لتحويلها من صفتها الفردية إلى مشروع جماعي، يأخذ طريقه الى منظمة (الوحدة الأوروبية) التي تحس أنها بمعزل عن القضايا المصيرية، ومن ثم إلى رعاة السلام المتخاذلين أو المنحازين، وحين تتقدم الأمة العربية بالمشروع تضع كل الأطراف: أوروبياً، وأمريكياً، وإسرائيليا، في مواقف حرجة، تحملها على القبول المطلق، أو المشروط، أو طرح مشروع مقابل، يضطر معه العالم الحر بكل مستوياته: الحيادية، والانحيازية، الى الموازنة، والنظر في عدالة الخطاب، وحين يفشل المشروع فإن آثاره سلباً أو إيجاباً ستكون في صالح الأمة العربية، لأنه مشروع عادل، بل هو إنقاذي، روعيت فيه مصالح كل الأطراف، والسياسة الواقعية الهادئة تفوت الفرص على الخصم، لأنها الأقدر على الإقناع والاستمالة والتعاطف، وإسرائيل ستجد نفسها أمام دولة تحترم العهود والمواثيق، وتمتلك عراقة سياسية وتفاوضا لا تخادع فيه شعبا ولا أمة، ومبادلاتها يداً بيد، وإسرائيل لا يلائمها هذا الأسلوب. والمتتبع للمبادرة يجدها تقوم على محور رئيس، هو (الأرض) مقابل (السلام) المستتبع (للتطبيع) فيما تقوم مراوغات إسرائيل على مبدأ (الأمن) مقابل (السلام)، المستتبع (للتطويع)، والذي يجهض مع كل حكومة جديدة. ومبادرة الأمير فرصة نادرة لكل الأطراف، فإسرائيل سوف تلملم مشروعها الدموي التأديبي التطويعي الفاشل، وستحصل على مشروعية الوجود من دولة إسلامية تتصدر العالم الإسلامي، وقد ظلت الى الآن المتمنع الوحيد الذي لم يعط إسرائيل أي فرصة للاختراق، ومع أن ثمن التمنع باهظ التكاليف فإن الخطاب الإعلامي المناوىء أو المأجور يضربان عنه صفحا، وقد لا يكون لعدم مشروعية الوجود أثر في المنظور القريب، ولكن المستقبل بيد الله، والأمة العربية بنجاح هذه المبادرة توقف حرب الاستنزاف، وراعي السلام يحسن صورته المتشوهة. والذين ربطوا أهمية المبادرة ب (التوقيت) أو (بالشخصية) أو بهما معا ولم ينظروا إلى بنودها إنما يحيلون الى مواقف المملكة الرسمية التي لم تتبدل، ولن تتبدل، وهي مواقف تكتسب مشروعيتها من الإسلام، والمتابعون للكلمة الرسمية التي وجهها إلى الحجاج خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين يدركون ثبات الموقف المتمثل بدعوة العالم الى العمل من أجل مصلحة الإنسانية جمعاء، وتحمل مسؤوليته الإنسانية بإيقاف العدوان الإسرائيلي عند حده، وحمله على تطبيق ما صدر من قرارات ذات شرعية دولية بشأن القضية الفلسطينية، ليكون ذلك انطلاقة لتحقيق سلام قائم على العدل والمساواة. وخطاب القيادة في (منى) تمحور حول ثلاث قضايا: تحقيق (الوسطية)، وإقامة (العدل) ومحاربة (الإرهاب)، ومبادرة الأمير عبدالله تستمد لحمتها من المحاور الثلاثة، فهي مبادرة (وسطية)، أخذت أفضل ما في المبادرات السابقة، وهي (عادلة) لأنها تضمن السلام لكل دول المنطقة، وهي (سلمية) لأنها تدعم كل الاطراف الى وقف العنف، والمصير إلى موائد المفاوضات. 4/4 و(التطبيع) الذي جاء ضمن مبادرة الأمير عبدالله، كان متداولاً من قبل تحت مفاهيم متعددة، وهو الآن يعود في مبادرة الأمير بمفاهيم أخرى، قد تحد من انفتاحه واحتمالاته الدلالية، وتقمع الطمع الصهيوني بتحويله من (التطبيع) إلى (التطويع)، وهو في مبادرة الأمير سوف يربك المشهد السياسي: عربيا وأمريكيا وإسرائيليا، لأن الأمير هو وحده الذي يملك تحديد المفهوم، ولا أظنه يقبل بالمفهوم الإسرائيلي، ولا ببعض الممارسات العربية على ضوء مفهومه الإسرائيلي. وتجارب (التطبيع) السابقة جاءت على مستويات عدة، أساء بعضها الى المصالح العليا للأمة، كما أحدث ريبة في نفوس كثيرة، واستدعى مصطلحات أخرى (كالهرولة)، فالمؤسسات السياسية فوجئت بالمصطلح العائم، ووقع بعضها في حبائل التغرير الإسرائيلي، وكل مؤسسة لها مفهومها المتفق عليه، أو المختلف حوله، والشعوب العربية لها مفهومها المستمد من التاريخ والواقع والمرجعية، ولهذا فإن اسرائيل ستظل حائرة بين إرادة المؤسسات السياسية وإرادة الشعوب العربية، وكل الاطراف المعنية ستعيش في حيرة امام التفسير القانوني لمصطلح (التطبيع)، وإسرائيل لاشك أنها ستكون الأكثر تشبثا بالمفاهيم والمقتضيات الواسعة، وهي قد شغلت المحافل السياسية بغنوصيتها، وأفقدت كثيرا من القرارات محدودية الدلالة والمفهوم، وذلك بسبب تفسيرها المتعنت لبعض الكلمات الحمالة. و(السلام) و(التطبيع) سيأخذان مفهوما آخر في مبادرة الأمير، ولهذا جاءت إحدى مقالات الصحافة الإسرائيلية تحت عنوان (انتبهوا للسعودية) ووصفوا تحرك الأمير العلني بانتصاب طرف سياسي جديد، كما ركز المستشار الإعلامي الإسرائيلي على الحذر في دراسة المبادرة، معللا ذلك بعدم توفر التفاصيل، لعلمهم ان مفاهيم جديدة ستصاحب مبادرة الأمير، ولن تكون في صالحهم، فالإسرائيليون كانوا يتأذون من تحركات السعودية خلف الكواليس وسيكونون أشد تأذيا بعد التحرك على المسرح، والأمير عبدالله حين طرح مصطلح (التطبيع) لم يشفعه بتفسير أو تحديد، لأن سياسة حكومته تملك رؤية خاصة لهذا المصطلح، وهي رؤية تختلف كثيرا عن مفاهيم عربية وإسرائيلية، ويبقى السؤال من يملك تفسير (التطبيع) وتحديد مفاهيمه ومقتضياته ومشمولاته وحوافزه، ومن يحدد المحظور والمباح في العلاقات مع إسرائيل: اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وسياحياً وإعلامياً. ان اسرائيل لها مفهومها المرفوض للتطبيع، وللأمة العربية مفاهيم متباينة، وأحسب أن المملكة العربية السعودية سيكون لها موقف أكثر تشدداً وأدق محدودية من أي دولة عربية، فهي دولة إسلامية لا بالسمة ولكن بالامتثال والممارسة، وإذا قبلت إسرائيل مفهوم التطبيع كما تراه المملكة فإنما تقبله لإنقاذ وضعها المتدهور، والذين طاروا بالمبادرة تصوروها كما المتداول، ومعاذ الله أن تكون كما هو. والتطبيع مصطلح متعدد الدلالات والحقول، ولم يكن متداولا بمثل تداوله بعد اللقاء التاريخي في المنتجع الريفي للرئيس الامريكي (بولاية ماريلاند) (كامب ديفيد( بين «السادات» و«بيجن»، تحت رعاية الرئيس «جيمي كارتر» خلال الفترة من 1517 سبتمبر 1978م والذي تمخض عن معاهدة «كامب ديفيد» وقد تضمنت إحدى الوثيقتين كلمة (إقامة علاقات طبيعية بين مصر ودولة اسرائيل) وتحولت كلمة (طبيعية) إلى مصطلح مستقل عرف فيما بعد (بالتطبيع) واستطاع الماكر اليهودي أن يعطي الكلمة أبعاداً دينية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية، وسياحية، أثقلت كاهل المفاوض العربي، وأدت الى تعثر المفاوضات العربية الإسرائيلية، وأثارها الشارع العربي، حتى لقد خيبت التجربة الإسرائيلية في استغلال مفاهيم الكلمات المصطلحية وفق رؤيتها آمال الشارع العربي. ودولة اسرائيل أحوج ما تكون الى (التطبيع) حسب مفهومها له، ومتى قبل المفاوض العربي بهذا المفهوم اختلت موازين القوى، وسقطت ثوابت الأمة. ومن ثم فإن اسرائيل لن تكون سعيدة بطرح كلمة (تطبيع) في مبادرة الأمير عبدالله، لأن القبول بها سيعطي المصطلح دلالات جديدة، لن تكون لصالح اسرائيل والمبادرة سواء قبلت بها إسرائيل كما يفهمها المبادر العربي أم لم تقبل بها أخذت أبعاداً عربية وعالمية ستضطر معها إسرائيل إلى القول أو الفعل، وهي في كلا الحالين أمام تحد لم تكن تحسب له أي حساب، حتى لقد ارتبكت في المواجهة مُتخذة سبيل التحدي بتوجيه الدعوة للأمير بزيارة القدس، أو هي تماكرت بغباء لا تغابي، لتحويل المبادرة من التدويل إلى الثنائية، لجر قدم المبادر ليكون مفاوضاً وهو لا يملك حق الوصاية. بقي أن تتلقف الأمة العربية عبر مؤسساتها هذه المبادرة. وتلح في تحويلها الى مشروع عربي جماعي، يضع الاطراف الاخرى امام مسؤولياتها التاريخية والإنسانية. والمتعنترون الذين لا يريدون السلام، ولا يمولون الحرب، ولا يعرفون قدر أنفسهم، يطلقون (بالوناتهم) الفارغة، ثم يلوذون بالفرار، باتجاه ملاجئهم الآمنة المستقرة في أوروبا، يبيعون ماء الوجه بثمن بخس، واضعين أقدامهم في الماء البارد فيما يتململ الشجيون على صفيح ساخن. والمؤلم أن قنوات الإثارة الفارغة لما تزل حفية بمثل هؤلاء، تسرج ظهورهم كلما سمعت هيعة، لتشكل منهم قوة اعتراضية تزيد بها فقاعة توهجها السرابي، مستغلة ضعف الذاكرة العربية، ضاربة صفحاً عن تعايش الفعل معززة جانب الانفعال. |
الساعة الآن +4: 04:25 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.