![]() |
لله دركما معاً ..
الدكتور حسن له صولاته وجولاته ضد الحداثة الغير منضبطة فجزاه الله عنا كل خير .. |
فيتامين
أبوفارس الخالدي أشكركما على هذا التعقيب |
تفكيك المفككين لبيان المثقفين« 1/3»
د. حسن بن فهد الهويمل 1/1/3 - قبل عشرين سنة أو تزيد، حبَّب إليَّ مسؤول تعليمي زيارة «مزرعة نموذجية»، تتبع لمؤسسته وكلمة «النمذجة»، حفزتني على قبول الزيارة، وما كنت أدري أنها تعني مزرعة التدريب الطلابي، لتطبيق ما يتعلمونه في الفصول والمعامل والمختبرات من دروس نظرية. لقد وجدتها دون المؤمل فكل مدرب له أسلوبه، وكل متدرب له رأيه وطريقته. والبذرة والشجرة تتعرضان لممارسات متناقضة، مما يؤدي إلى تعثر النمو، واصفرار الأوراق، وقد تتحول الأزواج البهيجة إلى هشيم تذروه الرياح. وإذا كانت التجارب التطبيقية يجريها الطلاب الزراعيون على نوابت الأرض، ويجريها طلاب الطب على جثث الأموات، فإن النقاد يلتمسون عملاً سردياً أو شعرياً، ليجروا عليه تجاربهم، مستدعين كل نظريات التلقي، وكل مستويات القراءة، وكل آليات النقد ومناهجه، وقد يتعالقون مع غيرهم فلا يكون انتقاء لمدروس، ولا تجويد لدراسة. ولعلنا نستذكر رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، وكيف اعتورتها أقلام النقاد، وحمَّلتها ما لا تحتمل من فرضيات، حول أركان الرواية، ولغتها، وأسلوبها، ومقاصدها، تحدوهم الرغبة في تجريب المذاهب والآليات التي درسوها، ولم يفهموها، أو قلدوها، ولم يحسنوا التقليد. مع أن حقول التجريب لا تكون بالضرورة على شيء من التميز وإن تصور البعض رواية الطيب فتحاً مبيناً في عالم الإبداع الروائي. وبيان المثقفين السعوديين «على أي أساس نتعايش»، أخذ المصير نفسه، بحيث امتدت إليه أيدٍ كثيرة، سلفية متشددة، وأخرى مستنيرة، وليبرالية متحررة، وحداثية متطرفة، وتنويرية ظلامية. وطبقت في قراءته مذاهب ومناهج وآليات متعددة، وتهافتت عليه المنصفون والمقتدرون والنطائح والمترديات، ومن استهوته مناهج الغرب. ولما يكن الدافع للأكثرين منهم استبانة الحق، ولا الوصول إلى النتائج، وإنما هي رغبة في اكتشاف الذات من خلال الآخر، مع أن بعض النفوس لا تخلو من دخن الضغينة، والمتابع النابه يعرف ذلك من لحن القول ولست بصدد الدفاع ولا المشايلة، وإنما هي الرغبة في تشخيص المواقف والوقوف على أزمة الحوار الداخلي. 2/1/3 - فناقد عول على «النسقيَّة»، وعلاماتها الثقافية، مكرراً مصطلح «النسقية»، بشكل ممل ممثل: لغة النسق، والخلفية النسقية، والتصور النسقي والكارثة النسقية، والبعد النسقي، والحيلة النسقية، والوقوع في النسقية، والشعار النسقي، وأساليب النسق، والمضمر النسقي، واللحظة النسقية، وألاعيب النسق، ومع ذلك فهو الأكثر إنصافاً وتروياً «الرياض 11، 18/3/1423هـ»، والنسقية «السوسيرية»، التي حولها المريدون إلى «بنيوية»، قفزت بقدرة قادر من «اللغة»، إلى «الثقافة»، وهي قد قفزت من «الفلسفة»، إلى «الاجتماع»، وقد تقفز يوماً ما إلى مصطلح رديف. وناقد آخر تملق «التحويلية»، موغلاً في الإدانة اللغوية والمقصدية ناسفاً دعوى النسقية الوطن «6/3/1423هـ»، و«الرياض 25/3/1423هـ»، وثالث أمعن في القذف الصريح والاتهام السافر، ورابع اكتشف أن الحداثة مجتثة من فوق الأرض، وأنها لا تملك عمقاً شعبياً، وأن مبدأ الحوار مرفوض سلفياً «الحياة 2/3/1423هـ»، وثُبَاتٌ آخرون، لهم نوازعهم الفكرية أو السياسية، المتشددة أو المتسامحة، المتسائلة أو المدينة. كل أولئك ومثلهم معهم أوجفوا بأقلامهم، وكأن البيان قاضي «قم»، الذي عزله حب الوالي للسجع، حيث قال: «أيها القاضي بقم قد عزلناك، فقم»، فكتب للخليفة مقسماً بالله أن الوالي لم يعزله إلا حباً للسجع. والآخذون بعصم الخاوي من مذاهب الغرب يكرهون النصوص على أن تستجيب لمتطلبات آلياتهم ومناهجهم، ولو أن هذا البيان صدر في ضجة «البنيوية»، لأخذوه بآلياتها، ولو أنه تأخر حتى يتجاوز الغربيون مذهباً من المذاهب لما كان بد من أخذ البيان بما فرغ منه الغربيون. وما ترانا نقول إلا معاراً أو معاداً من قول الغرب مؤكدين القابلية للتبعية، حتى البيان جاء في أعقاب البيان الغربي، ويا ليت قومي استبدوا مرة واحدة «إنما العاجز من لا يستبد». ومثلما أن مزرعة التدريب لم تكن أفضل المزارع، وأن جثة التشريح ليست بأفضل الجثث، وأن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، لم تكن أفضل الإبداعات السردية فإن «بيان المثقفين»، لم يكن أفضل البيانات، كما انه في الوقت نفسه ليس بأسوئها، ولا يعيبه ألا يكون كذلك، فكل عالم ومفكر، يؤخذ من كلامه، ويترك إلا من لا ينطق عن الهوى. وما من مجتهد أفضى بقول، إلا تمنى في الغد أنه تريث، وأعاد النظر فيما قال، ويأبى الله إلا أن يتم كتابه «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً»، والتهافت على قراءة البيان ليس مؤشراً على قوته، ولا على تأثيره، ولا على أهميته. وأثره منحصر في كشفه عن خلاف مستحر، داخل المنظومة الواحدة، وفي الشك في مشروعيته، وفي فراغنا، وكثرة لغطنا، الأمر الذي ذكرني بمقولة «وليم بلجريف»،: «الواقع أن كل شيء كان عربياً تماما، كلام كثير وفعل قليل»، وسط الجزيرة العربية وشرقها ص 264 جزء 1». والذين كتبوه متعجلين أو متريثين، وأمروه على الموقعين، لم يكن أحد منهم يتوقع أن تعتوره سهام النقد من كل جانب، ولو أن المتصدرين لإعداده توقعوا بعض هذا الاهتمام لحبروه تحبيراً، وسدوا المنافذ على كل مجرب، والبيان وما أثاره من ردود فعل لا يعد ظاهرة صحية، ولا فتحا مبيناً، وإنما المسألة مجرد تداعيات متفاوتة، تحال إلى أزمة الحوار التي أشرت إليه في مقال سابق «اليمامة 6/3/1423هـ»، ووجدها البعض فرصة لطنطنة الفارغة. 3/1/3 - لقد فتح «البيان»، شهية الكتاب، ونبه المتربصين لخصومهم وجر أقلاماً «ديناميتية»، وأخرى مجازفة، أوغلت في الاتهام والتشفي، وكأن الموقعين من أصحاب السوابق. ومثلما أن الموقعين شعوباً وقبائل، فإن المتصدين مثل ذلك، ولو كان الموقعون والمتصدون من «صبغة واحدة»، لمر البيان بهدوء، كما مر سلفه الذي وقعه مائة ونيف من أدباء البلاد وإعلامييها. وبعض من تصدوا للبيان لم يتورعوا عن النيل من بعض الموقعين، وتصفية الحسابات معهم، على الرغم من اختلاف مشاربهم وثقافاتهم وهمومهم ومواقفهم من الأشياء والأناسي. وليس من أدبيات الاختلاف أن نمس أحداً من الموقعين بعينه أو بصفة تعينه، ولا أن نوجه الاتهام لسائرهم «الشرق الأوسط 25/5/2002م»، وإن انطوى البيان على أخطاء في الأفكار أو في الأسلوب، أو قل قصر في استيفاء ما يجب استيفاؤه من القضايا، أو جاء مناقضاً لفكر الضالعين في إعداده. إن على المداخلين أن يفترضوا حسن النوايا، وسلامة المقاصد، وأن يحيلوا التقصير إلى خطأ الاجتهاد المأجور، وعليهم أن يعرفوا أن العصمة غير متأتية لأحد من البشر، ولو أن أحداً من المفككين فعل مثل فعلهم، لكانت له أخطاؤه المتوقعة، ومن نقب وجد، ومن نوقش الحساب عذب. والملفت للنظر ذلك الأسلوب «البوليسي»، المعتمد على النبش، واستدعاء الملفات، وتقصي السير الذاتية، والحديث عن ماضي البعض وسلفيته المنغلقة، وتناقض مقاصد البيان مع تاريخية المتحدث، فيما لم يعرج أحد على مشروعية الفعل. والبيان مثار الجدل جاء في أربع عشرة صفحة، ووقعه مائة واربع وسبعون شخصية سعودية، فيهم العلماء: الشرعيون، الطبيعيون، القضاة، المحامون، المفتون، الدعاة، الاكاديميون، الأدباء، الصحفيون، رجال الأعمال، النساء والأطباء، وما دون ذلك. واشتملت صفحاته على أشواط دلالية استوعبت: ممارسات إسرائيل، ودعم أمريكا، وتلخيص بيان المثقفين الأمريكيين «على أساس نقاتل»، وطلب المقاطعة، والتحول عن الولاء الفكري والتبعية، والمطالبة بتأسيس أجواء تفاهم مشترك، يقوم على تفهم «للحوار»، و«استشعار القيم والأسس»، و«تداعيات أحداث سبتمبر»، و«الموقف من أمريكا»، و«الإسلام والعلمانية»، و«الحرب العادلة والارهاب»، وكل فقرة بمثابة خاطرة موجزة تحدد: المفهوم، الموقف، أسلوب الأداء، وعلى الرغم من التركيبة «عراب البيان»، كما يقول أحد القراء، وقد تصدت للبيان سهام الباحثين عن الحق، واللاهثين وراء الوقيعة، وتنفس من خلاله الغيورون والوصوليون والصادقون والمدخولون، وذرعته أقلام نصائحية، وأخرى فضائحية. وعند استعراض المفهوم والمشروعية والتصديات يجب الا نحيل على جاهزيات الأحكام، وألا نشق عما في الصدور، وألا نفترض النوايا السيئة والأهداف الدنيئة، وألا نمارس تصفية الحسابات. فالبيان موقع من عشرات العلماء، القضاة، الخطباء، والوعاظ والمفتين الأفاضل، والأدباء المتمكنين، والمفكرين المدركين، والأكاديمين المجربين، ممن نجلِّهم، ونثمن إسهاماتهم، ونقدِّر مواقعهم، ولا نزكيهم على الله، والإيغال في النيل منهم لا يقل خطورة عن الإسراف في الثناء المجازف، والتزكية المطلقة، وإذا سقط البيان بكل المقاييس، فلا يكون بالضرورة سقوطا لمن وقعه. وعلى القارئ الناصح لله ولرسوله وللمؤمنين أن يتقي الله فيما يأتي ويذر، فالقول الجزاف يمس رجالات أوفياء لأمتهم ولقادتهم ولدينهم. وأجزم أنه لو كانت هناك «محكمة آداب»، وتقدم المتهمون إليها لأعوزت المجازفين الحجة. وصحافتنا أحوج ما تكون إلى الأناة والتدبر كيلا تتحول إلى صحف فضائحية، يتسلى بها القارئ، ولايعول عليها. 4/1/3 - لقد عُرِضَ عليَّ البيان في لحظاته الأخيرة، وطلب مني التوقيع عليه، فاعتذرت لأسباب كثيرة لعل من أهمها: أنني أعد كل مقال سياسي أكتبه بياناً يعبر عن وجهة نظري، وقد يبلغ من التأثير ما لا يبلغه البيان. وأن هناك من سبق إلى اصدار بيانات مماثلة، ولست أقبل التبعية، متى أمكنت المبادرة، وأنني لا أرضى لنفسي الالتفاف بعباءة الآخرين، وإن بادلتهم الاحترام، وشاركتهم الهم، وأنني لا أقبل الانضمام للركب في اللحظات الأخيرة، فالبيان أعد وطبع دون علم مني، ودون استجلاء لوجهة نظري، حول الطريقة والموضوع واللغة والأسلوب والمشروعية. وتمنعي يحال إلى الاختلاف حول الفعل الإجرائي، مع أن هناك تحفظا حول المبدأ وآخر حول الإجراء، وإن كان الهم الذي يساور الموقعين يساورني، والأذية التي تمسهم من جنايات الغرب تمسني، والإحساس الدائم في التحرف لمواجهة أجدى وأهدى قائماً ما قامت مكائد الغرب، غير أني لا أرى التعبير عن وجهة نظري بهذا الأسلوب، ومن ثم لم أوقع، ولم يسألني أحد لماذا لم أوقع. ولما أزل أتمنى لهذا البيان تأدية الغرض المنشود منه، ولا سيما في ظروف الحملات الإعلامية الجائرة التي طالت الإسلام والمسلمين، ونالت من الإنسان السعودي ومناهج التعليم في البلاد. |
تفكيك المفككين لبيان المثقفين..! 2/3
د. حسن بن فهد الهويمل 1/2/3 والمفككون الذين صُدموا بتحولات بعض الموقعين: الموقفية والفكرية، يجهلون (فقه الواقع) و(لغة العصر)، فالعالم اليوم يمر بتحولات جذرية. ومناطقه تجتاحها متغيرات، لم تستوعب، لكثرتها، وسرعة تلاحقها. والأحداث كالرياح العاتية، توجه السفن، أو تضطرها إلى التوقف، حتى هدوء العواصف. وكل حدث يطرح خطابه ورجالاته، وكل زمان له دولة ورجال، والنوازل تضيء عتمة النصوص، وتخصب دلالاتها، وتحيل مواقف التصلب إلى لين، والقصد إلى تردد. و(السكونية) التي يفترضها البعض، ليست التصور السليم، وعلينا أن نتوقع تقلب القلوب والأبصار، وأن نسأل الله الثبات على الدين. ومع أنني لم أكن من المتشددين في شدتهم، فإنني لم أكن معهم في تسامحهم، وإن تقاطعت معهم في الحالين، وفق رؤيتي الذاتية، التي لم يملها عليَّ أحد، ولا أدل بها على أحد، ولما لم يكن في المخلوقات مغير لا يتغير فإن الإحالة على الماضوية تعنت لا مبرر له. وأحسب أننا نمر بحمَّى التحولات الانقطاعية، ولكل تحول شفرته وأنساقه. وصرعة البيانات بوصفها خطاباً جديداً منتج هذه التحولات، وعهدي أنه لم يسبق أن اتخذت مشاهدنا في التعبير عن وجهات نظرها مثل هذا الأسلوب، وإن جاءت ممارسات سياسية وفكرية: قديمة وجديدة على هذه الشاكلة، فعلى المستوى العالمي هناك (البيان الشيوعي) المعروف ب (المانيفستو الشيوعي) وهو النداء الذي وجهه (ماركس) و(انجلز) إلى الطبقة العمالية عام 1847م، وعلى المستوى العربي صدرت عدة بيانات بشكل جماعي وفردي، إبان (المد الثوري) ك (البيان الثلاثي) و(بيان طرابلس) و(بيان 3 مارس)، ثم هناك البيانات التي تتمخض عنها الاجتماعات والمؤتمرات، وكل طائفة تعبّر عن وجهة نظرها بالطريقة التي تراها مناسبة. وبعد أحداث سبتمبر، ومواجهة الإرهاب، والتصدي العنيف للانتفاضات، والانحياز الغربي المدان للاستيطان الصهيوني، انفرط عقد البيانات. ففي (باريس) أصدر عدد من المثقفين العرب بياناً يدينون به الاعتداء على اليهود، وفي أمريكا صدر بيان أعده (معهد القيم) ووقعه ستون أمريكياً، يتساءلون فيه عن مشروعية الحرب الأخلاقية والايديولوجية، والموقف من مثيراتها وأهدافها، وعن حتميتها، وعدالتها. ثم تلاه بيان مضاد من مائة وثمانية وعشرين مثقفاً أمريكياً، ومن بعده صدر بيان موقع من مائة وثلاثة عشر مثقفاً ليبرالياً وأكاديمياً وتنويرياً وصحفياً سعودياً، وعلى أثر البيان الأمريكي وقَّع مائة وأربعة وسبعون مفكرا إسلامياً، وأديباً، وعالماً شرعياً، وأستاذاً أكاديمياً بياناً، يشكل رد فعل للبيان الأمريكي، وبعد مدة تراجع بعض الموقعين، وبدأت التهديدات بإصدار بيانات مضادة، واشتعلت في أثره المقالات الصحفية، وامتلأت المواقع المعلوماتية، بين مؤيد ومعارض، وساخر وشامت، ومفسق ومكفر، وأعقب ذلك بيان توضيحي في محاولة يائسة للالتفاف على الخلاف. ومن يعش منا فسيرى اختلافاً كثيراً، والسعيد من كان على المحجة البيضاء، والمرتاح من تخلص من لعبة (التقليعات)، ووسد الأمر إلى أهله، وأدرك أنه من المستحيل اجتماع سيوف في غمد واحد، ومن أخطر المواقف مجيء اللعبة أكبر من الّلاعب.2/2/3 والبيان الذي تعددت قراءاته، لم يكن مثيراً في شيء: فاللغة قريبة من لغة الإعلام، والخطاب وإن ركن إلى الاستدلال، فإنما هو استدلال يتكىء على معارف متداولة، ومنطق مشاع، والمشاهد متخمة بمقولات مشابهة، وحسبنا أن نستمع إلى الإذاعات والقنوات، أو أن نقرأ فيوض القول في الصحف والمجلات، أو أن ندخل على المواقع، كي نستبين ملامحه، فليس فيه شيء من المسكوت عنه: عجزاً، أو جهلاً، أو حظراً. والمثير فيه: (كشكولية الموقعين) وتحول الصقور إلى حمائم، والدوي إلى زجل، وتصور بعض القنوات، أنه شق لعصا الطاعة، وخروج على سياسة المؤسسات. لقد حاول البيان أن يحدد الفعل ورد الفعل، متجهاً صوب الجمع بين النقائض: (التعايش) و(التقاتل) و(الحوار) وهذا الثالوث الجدلي، لم يتحرر بطريقة معرفية، وإنما هي فرضية تمرحلية ساذجة، تحاول التأسيس على التوفيق أو التلفيق أو التأليف، بوصف الآخر وجوداً متجانساً، يمكن مواجهته بخطاب واحدي النزعة والتصور، ولما يكن التصور لاختلاف الدين، وتعارض المصالح، وحتمية الصراع واضحاً لدى المنشئين للبيان. لقد حاول البيانيون تحديد (الأنا) و(الآخر) وتصور المسافة الفاصلة بينهما، وهي مسافة سحيقة في خطاب الأمس، قصيرة في خطاب اليوم وذلك مثار الاستغراب والجدل. والبيان بهذه المحدودية: مادة وإمكانية، لم يقدم مشروعا، يراهن على فك الاختناقات، وتجاوز المراحل الحرجة، وإن كان يحمل هم الإفضاء ببرنامج للتعايش، ولكنه في النهاية برنامج يضمر الرغبة في إثارة المشاعر والانفعالات، وكأني بمنشىء البيان يحيد عن ازدراء (الآخر) ومناهضته وهو الخطاب السابق للحادي عشر من سبتمبر إلى شرعنة حق (الأنا) في التماثل مع (الآخر)، وليس في ذلك قول (معسول أو مغسول) ، وليست ثقافتنا المحلية (إملائية اكراهية احتكارية)، كما (أن ثقافة الأمة لا تقوم على الحفظ والتكرار)، كما يزعم البعض (الوطن 5/3/1423ه). وحتى لو قبلنا بوابل الاتهامات، لكان من الإنصاف تحديد الاتهام، وعدم تعويمه، وإذا كان الكاتب ناقماً على ثقافة أمته، فإن الموقعين يمثلون أنفسهم، وليست ثقافة الأمة من الضآلة، بحيث تختصر في عدد من المثقفين، وقد يشفع لمعدي البيان دون موقعيه، أن التأسيس لمرحلة ما بعد المواجهة تتطلب لغة مغايرة، وجهل الكاتب بمقاصد السلم والتعايش ضخَّم عنده مشروعية (البرّ) و(القسط) مع الجانحين للسلام. وأخطر من هذا، من حمَّل الموقعين مسؤولية الإطاحة بشواهد الحضارة الأمريكية، والتغرير بفلذات الأكباد التائهين في الأحراش والمرتفعات (الشرق الأوسط 25/5/2002م) وفاته أن اللعب السياسية هي صانعة (الإرهاب) و(الجهاد) (جريدة الجزيرة 24/2 و2/3/1423ه) (صناعة الإرهاب بين المناهج الدراسية واللعب السياسية). وإذا كان الموقعون قادرين بتعبئتهم البلاغية على تشكيل جبهة طويلة الأيدي، بحيث تطال الغرب في عقر دارهم، فنعمَّاهم، إذ هم قد فعلوا ما لا تفعله الجيوش المدججة بالسلاح، غير أن في الأمر حلقة مفقودة لا يعرفها إلا العالمون باللعب السياسية، وكم من صانع لعبة لقي حتفه على يد اللاعب بها. وعلى كاتب (الشرق الأوسط) أن يربع على نفسه، فالقضية أكبر مما يتصور، وعرائس المسرح لا تبهر إلا الأطفال. 3/2/3 ومشروعية الارتياب من بعض المفككين يوحي بها اشتغالهم بهذا البيان، دون غيره من بيانات: محلية وعربية، فما من أحد منهم تمعر وجهه من تعاطف (بيان باريس) مع الصهيونية، وقد وقعه عرب مسلمون، وفيهم سعوديون فرانكفونيون، أسرفت في تمجيد التافه من أعمالهم السردية فلول الحداثة. كما أن بيان العلماء والقضاة والمفكرين والأدباء والأكاديميين، زامنه بيان مماثل من شريحة سعودية مغايرة، حيث وقع مائة وثلاثة عشر مثقفا وصحفياً بياناً يطالب الحكومات العربية باتخاذ موقف جاد من الاختراق الأمريكي والإسرائيلي للمنطقة العربية والإسلامية، ويؤكد على ضرورة المقاطعة. والبيانان لا يختلفان عن بعضهما: همَّاً ومضموناً وأسلوباً، والقارئون لبيان العلماء والقضاة والأكاديميين يمكن أن يقفوا على ذات الهنات في بيان المثقفين (الراديكاليين)، ولكنهم لم يفعلوا، الأمر الذي يؤكد على أن البعض مدفوع بموقف مسبق، ونية مبيتة، وليس الأمر مرتبطاً بعوار البيان. لقد مر بيان المثقفين الشباب بسلام، ولم يقرؤه أحد، ومن قبله مر (بيان باريس) بذات الهدوء، مع ما فيه من الجنايات، فيما تهافت العشرات على قراءة بيان المثقفين والعلماء، فمن ناقم، ومن ناقد، ومن موفّقٍ بين الأطراف. وإذ لا أكون معترضاً على مجرد القراءة فإنني أتحفظ على الدوافع والمآلات، وأساليب العرض، وكثرة اللغط حول قضايا ومواقف، لا تستحق كل هذا التدافع والتكاثر، ولاسيما أننا في ظروف قاسية، تستدعي الترشيد حتى في الكلام. والمؤسف أن طائفةً من المتقحمين، لا تحسنُ الورودَ ولا الصدور، والاشتغال في (الدين) و(السياسة) من المرتقيات الصعبة، التي يتهافت عليها من لا يحسن قراءة أبجديتها، وتلك من الظواهر السيئة التي ربكت المشاهد، وكشفت عن الضعف، وجعلت أبا حنيفة يمد رجله ولا يبالي. ومع أنني لم أوقع مع الطائفتين، ولا يمسني القول سلباً أو إيجاباً عن إحداهما أو عن كلتيهما، إلا أنني ألح على المصداقية والواقعية، وأكره التشفي، والإيغال في الذم دون مبرر. فنحن جميعاً في خندق واحد، ونحمل هماً واحداً، ومن التفاهة والسفاهة أن نصفي حساباتنا الوهمية من خلال قضايانا المصيرية. وإذ لا نرتفع بأحد إلى ِسدَةِ العصمة، ولا نرى لأحد الحق في التسامي فوق النقد والمساءلة، فإننا في الوقت نفسه نرفض الوقيعة، والسخرية، والاستهزاء، والإسقاط، ونريد حواراً بعيداً عن تصفيات السمعة. فلقد وصف البعض (الوطن 6/3/1423هـ) لغة البيان (بالضعف اللغوي والركاكة الأسلوبية الظاهرين في كل فقرة منه) إلى أن قال: (بل لا أبالغ إن قلت إن أكثر من تسعين بالمائة من الجمل فيه تحتاج إلى إعادة صياغة لإنقاذها من الوهن). ويمضي الكاتب في سخريته المرة قائلاً: (وأنا أترك نسبة العشرة بالمئة الباقية لوجه الله تعالى). وفات الكاتب أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. فيما اتهم آخر موقعي البيان في نواياهم، واصفا البيان بالبهتان العظيم، وموقعيه بالمضلين والخادعين، مستثنياً طائفة من المجاملين، غير محدد لأحد من الفئتين (الشرق الأوسط 25/5/2002م). ولن أمضي مع زخات السخرية، ورجوم التهكم، ورد النصوص الشرعية، دون فهم للمحظور والمباح في التعامل مع الآخر: فاسقاً كان أو كافراً. ومع أن جانباً من الملاحظات اللغوية والأسلوبية والمضمونية قائمة إلا أن سوء الأدب، والاتهام السافر، والقذف الصريح، ولغة الانتفاخ والتعالي أفسدتها. وقد أوغل البعض في النيل من أحد الموقعين، محيلاً إلى مرحلة التشدد، مضخماً متطلبات (الولاء) و(البراء) و(الجهاد) التي تداولها السلفيون في فترات سبقت، ومع أن (الجهاد) و(الولاء) و(البراء) من صميم المشروع الإسلامي وليست لطائفة دون أخرى، فإن استدعاءهما في ساعة العسرة والجنوح إلى السلام نوع من الوقيعة، وكم هو الفرق بين استدراك العالم وشماتة الناقم، وفات المتسطحين أن الفكر السياسي الإسلامي ينطوي على تعدد المواقف بتعدد الأحوال، وأن للسلم مثلما للحرب قواعده وآلياته، فهناك نظام المعاهدين، وطرائق الجزية، وأساليب الجنوح للسلم، وضوابط سيادة الدولة في إطار التعددية الدينية، واختلاف دين دول الجوار. والنص القرآني لا ينهانا عن (البر والقسط) مع غير المحارب، كما أنه منعنا من التعدي، ولم يجعل لنا سبيلاً على من اعتزلنا، ولم يقاتلنا، وخفف عنا في حالة الضعف، ومن ثم أتاح لنا فرصة التعايش السلمي، والتحرف والانحياز، وحدد مفهوم التولي يوم الزحف، وقبل الزحف، ووضع ضوابط الجهاد والدعوة، ولن ندخل في التفاصيل، وتقصي متطلبات (آية السيف) ومنسوخها، والاختلاف حول (الإنساء) و(النسيان) و(النسخ المرحلي) و(النسخ الناجز)، والمحكم والمتشابه وخلاف العلماء حول (الصّغار) في دفع الجزية (وأضيق طريق) والعموم والخصوص، فتلك مهايع من الصعب الركض في فجاجها. والبيان مع ذلك يفتقر إلى الفكر السياسي الإسلامي، الأمر الذي حفز المتصدرين إلى التعديل والإيضاح، وحفز المجاملين إلى التسلل ولحس الإمضاء. 4/2/3 والمؤسف أن البعض من الموقعين تحت وابل النقد والضغوط لوّح بالتراجع عن توقيعه مبدياً الأسباب الحاملة على التراجع (الوطن 6/3/1423هـ). ومهما كانت الأسباب وجيهة، فإن التراجع في حد ذاته يهز شخصية المتراجع، ذلك أنه يجب ابتداءً عدم المجاملة في التوقيع على بيان سياسي بهذه الأهمية، ومن فئة على هذا المستوى، إذ من بين الموقعين أكثر من مائة أستاذ جامعي، خمسون منهم من جامعة الإمام، وخمسة وثلاثون من جامعة الملك سعود، والبقية من جامعات أخرى، وفيهم ثمانية قضاة، وأحد عشر طبيباً، وست عشرة امرأة، معظمهن أكاديميات، وعدد من المفكرين والمحامين والصحفيين، وثلاثة أعضاء من مجلس الشورى. وكان على الذين وقعوا، وهم بهذا المستوى أن يقرؤوا البيان كلمة كلمة، وألا يوقعوا إلا بعد قناعة ذاتية، إذ لم يشهر القائمون بإعداده وتمريره سيوفهم على الرقاب، وحين تكون المواقف ارتجالية وعاطفية من نخبة بهذا المستوى، وبذلك التعدد، فإن الأمر لا يليق من علماء وأدباء ومفكرين وقضاة وأكاديميين. وإذا تبين خطأ الفعل أو خطأ المضمون فعلى المقترف الاعتراف، وتحمل كل ما يترتب عليه من مسؤوليات، ذلك أن المغانم مع المغارم. فالذين ينشدون الآخرة أو زينة الحياة الدنيا، لابد أن يعرفوا أن الطريق إليها محفوف بالمخاطر والمكاره. وإشكاليتنا أن المبادرات الشخصية والمجاملات تحكم الكثير من تصرفاتنا، بحيث تعن الفكرة لأحدنا ابتدارا أو محاكاة أو ردة فعل، فيستأثر بكل شيء، ولا يجد الوقت الكافي لطرح الفكرة على المشاركين، وتداولها مع طائفة ممن يثق بهم، وتشكيل فريق عمل متعدد التخصصات والتجارب، وفوق ذلك تحكم البقية المجاملة، فإذا قُدِّم لأحدنا بيان أو خطاب، لم يتردد في توقيعه، ظناً منه أن العلاقات الشخصية تقتضي الاستجابة الفورية. والبيان الذي استأثر بردود فعل حادة، وقعه العلماء والمثقفون والمفكرون بأسلوب (تمريري)، ولم يعايشوه من درجة الصفر، وتلك إشكالية، لم نتخلص منها، حتى في الأعمال الإدارية، فالفردية والمركزية ظواهر سلبية بادية للعيان، ومن الأجدى والأهدى ان نمتلك الشجاعة على التساؤل والتمحيص، وان نقول: (لا) بملء أفواهنا وبمحض إرادتنا، ويجب في قضايا الفكر والدين والسياسة ألا تأخذنا فيهما لومة لائم. وحين اعتذرت عن التوقيع، لم أبال بالسخط، أو بالرضا، بل لم أفكر في شيء منهما، ولم أتوقع أن يكون سخطاً من أحد، ذلك ان طريق النجاة لم يكن محصورا في التوقيع، فما أكثر الطرق التي تؤدي الى النجاة، والذين يربطون صداقتهم بالمسايرة كما (شاعر غزية) لا يستحقون الاهتمام. |
تفكيك المفككين لبيان المثقفين..! 3/3
حسن بن فهد الهويمل 1/3/3 ولأن الموقعين خليط غير متناغم، وغير متفاهم، وغير متكافئ، فقد فقد البيان انتماءه، فالقارئ السلفي أوغل في نقد السلفيين الموقعين، والمفكر المتحرر في تفكيره، نال من المفكرين الذين نسوا ماهم عليه، والسياسي المتمرس في اللعب السياسية سخر من السياسيين الذين تناسوا الإحالة إلى جهابذة اللاعبين. وكل قارئ حاكم البيان من خلال خليفته الثقافية وموقفه من الأحداث. والبيان الذي مُزق كل ممزق، يأتي في سياق مخاضات متعددة، وطرائق قدداً في سبيل التعبير عن المواقف والآراء، وصنع القيادات الفكرية والدينية، وكل حزب بما لديهم فرحون، وهذه الفلتات، قد ينعكس أثرها على وحدة الصف ووحدة الفكر، لأن ذويه يشكلون نخبوية، تنفرد بالتعبير عن موقف: مصيري وجماعي، وقد أدى بالفعل إلى خلافات ومناكفات، في زمن نحن أحوج ما نكون إلى الالتفاف، ولا شك أن الواقع العربي والعالمي يشكل ضغطاً على المشاعر، ويسهم في خلط الرؤى والتصورات، ولما تزل حرب الخليج كليل «امرئ القيس»، الذي أرخى سدوله بأنواع الهموم، التي أثقلت الكواهل، وعمقت اليأس والقنوط، فالمفكرون والساسة والعلماء في حالة من الارتباك والفوضى، وبخاصة بعد الانتفاضة، وعمليات التفجير، ومواجهة الإرهاب بحرب موسعة مدمرة، لقد زادت الفوضى الفكرية، وتعمق الخلاف، وشاع الوهن، واستفحل الارتياب، وادلهمت الأمور، وناقض الإنسان نفسه، بحيث تحول البعض من سلفي متشدد إلى «ليبرالي»، متطرف أو «راديكالي»، متعنت، وكشفت مواقع «الإنترنت»، عن سوآت ما كنا نتوقعها، وأخلاقيات ما كنا نعهدها، وتلك مخاضات سينعكس أثرها على أخلاقيات الأمة.. ومن الظواهر السيئة استغلال المنجز العلمي، كالمواقع «الإنترنتية»، و«القنوات الفضائحية»، لنشر الغسيل، وتبادل الشتائم، وإيقاظ الفتن، ونبش الماضي، وتلفيق التهم. وكان بالإمكان تحويل هذه المواقع إلى منابر لرأب الصداع، وتضميد الجراح، ورفع المعنويات، والتسديد والمقاربة، وتبليغ ما أمرنا بتبليغه. وأحسب أننا أحوج ما نكون إلى التخلص من ردود الأفعال المتشنجة، والفراغ لاستئناف الأقوال ابتداءً، ومن الخير لنا أن نطرح مشروعنا الإسلامي، كما جاء، وكما أراده المشرّع. لقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل صراحة: «بلغوا عني ولو آية»، فالطائفيات، والمذهبيات، والتعصب الأعمى: للقضايا والشخصيات مضيعة للجهد والمال والوقت. لقد ضمد العالم جراحه، وتناسى خلافاته، والتقى على كلمة سواء، نابذاً الخلاف وراء ظهره، مستقبلاً الوفاق المشترك، وكان الأحرى بنا أن نسبق إلى الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق. 2/3/3 ومع كل هذه الضجة، فإن البيان لم يكن مبادرة، ولا ابتكاراً، لقد سبقته بيانات أخرى من مثقفي أمريكا، ومن مثقفين عرب: مهاجرين ومقيمين، ولحقته بيانات من «ألمانيا»، «الوطن 9 و10/4/1423هـ»، وهو أشبه ما يكون بردة الفعل الوديعة، وقد يحيله البعض إلى تسجيل المواقف، والتذكير بالحضور. وإشكالية كل البيانات العربية: إسلامية أو قومية «ليبرالية» أو «راديكالية»، أنها لا تخرج في مضامينها عن المتداول إعلامياً، فليس هناك إضافة تذاكر. وكل المثير في بيان المثقفين: أنه جمع الأشتات الذين يظنون كل الظن ألا تلاقيا، وتشكيلة الموقعين يتحكم فيها الممررون للبيان بعد طبعه، والمدقق في المواقع العملية للموقعين يدرك ذلك، «فمستشفى الملك فهد» استأثر منسوبوه بأحد عشر توقيعاً، فيما لم يوقعه عدد دون ذلك من مستشفيات مماثلة، ومن المثير تأكيده على أصول التعايش من أطراف، لم يكونوا يسمحون لغيرهم التقارب مع المناقض، فضلاً عن أن يصدر طواعية من عند أنفسهم، فلقد جاء البيان مغيباً ما ألفنا الحديث عنه «كالجهاد»، و«الولاء والبراء» وإن كان التغييب لإفساح المجال للسلم المشروع، والحوار المطلوب، ولكن البعض استنكر هذا التحول في الخطاب: إما لسلفية تستنكر مجرد التفكير بالحوار، وإما لجهل أو تجاهل لظروف الطرح ودواعيه. فالبيان يحمل هم التخطي من الحرب إلى السلام. مؤسساً لأسلوب تعايشي من طرف واحد، وبعض المفككين للخطاب يرون فيه حالة استثنائية، تمثل غياب «الأصولية»، المتشددة، وبروز «الوصولية» المتزلفة، والمصير إلى انفراج غير متوقع، ومع أنه خطاب يتحامى مآزق المفاضلة والتصدير، إلا إنه يستبطن التميز والخصوصية، وتغييبه متطلبات «الولاء والبراء» و«الجهاد»، لمجرد أنه في حالة المصالحة في سبيل الخلوص من وهدة القتل المجاني، الذي استخدمت فيه أحدث الآليات وأبشعها، ولكل حدث حديث، فالمفاوض غير المحارب، والمصالح غير المنابذ، والجانح للسلم غير المتحرف للقتال وكنت أتمنى لو ماثل البيان «الألماني» في جدليته ونديته «الوطن 9 و10/4/1423هـ». ومع أن الموقعين خليط متناقض، إلا أن الانفراج ولغة التصالح والتعاذر استهوتهم جميعاً، وبعد إفراغ الشحنة العاطفية المتأججة، أعاد البعض منهم قراءة البيان، ونظر إلى من حوله، فأنكر الوجوه واستنكرها، وأنكر على نفسه الاندفاع، دون التروي والمراجعة والاستخارة، حتى لقد أعلن البعض منهم تراجعه، بعد أن فند الأخطاء والتجاوزات: العقدية والمبدئية، ولم يلم نفسه على اندفاعها العاطفي، بل مارس الإسقاط مبرئاً نفسه من كل التبعات على حد: «أنج سعداً فقد هلك سعيد». ولربما جاء التراجع نتيجة قراءات سلفية متفاوتة ذكَّرت الموقعين بمواقفهم ومبادئهم، وأوجفت عليهم بسيل من الفتاوى والمناشير، التي ما كنا نود أن تكون بهذه الحدة وبتلك الحدِّية. وإذا كان بعض الناقمين يحيل إلى ماضي البعض المتشدد، فإن قارئين آخرين يطالبون بالعودة إلى التشدد، مما حول الموقعين والبيان ومقتضاه إلى معضلة «جحا» و«ولده» و«حماره». والبيان لا يحتمل كل هذه الضجة، فهو تجشؤ من فراغ في فراغ، ونفثة مصدور ذابت في الأثير، وسيعود الجميع إلى «تيميتهم» المعهودة، بحيث يقضى الأمر في غيابهم، ولا يستأمرون وهم شهود. فالعالم المتغطرس لا مكان فيه للضعفاء، ومن أراد السلام فليستعد للحرب. وكيف تتأتى الندية، وكل إقليم مثلُه كمثل العائل المستكبر، يصنم إنسانه وحدوده، ويرى نفسه مركز الكون. ومعضلتنا، أننا عاطفيون، اندفاعيون، لا نحب هوناً ما، ولا نبغض هوناً ما، ولا نوغل برفق، فنحن في كل قضايانا أشبه بالمنبتِّ الذي لا يقطع أرضاً ولا يبقي ظهراً، ولقد وصف البعض هذا الارتباك ب«نكسة المثقفين» «الشرق الأوسط الأحد 16/6/2002م». والحق أن النكسة قائمة من قبل، ولكن الأثرة، والتنازع على دوائر الضوء، وتوهم المغانم، والتهافت على أشباحها أضاع الرشد، وذكرنا ب«أشعب» و«الوليمة». 3/3/3 وإذ يشكل بيان المثقفين الأمريكيين وبيان المثقفين السعوديين فعلاً ورد فعل، فقد تشابها في عرض الحيثيات والمقتضيات، فالأول اتخذ عنوان «على أي اساس نقاتل» فيما اتخذ الآخر عنوان «على أي أساس نتعايش» مستهلاً بيان الأمريكيين فاتحته بخمس حقائق إنسانية: - الحرية، والبحث عن الحقيقة، واحترام الأديان، والتزام مقتضى الإيمان، ومحورية الإنسان، وتأهيل الحضارة الغربية لقيادة العالم، معترفاً بالخطأ، معتزاً بقيم الحرية والعدل والديموقراطية، متطلعاً إلى تبادل القيم المشتركة، مؤكداً على احترام الأديان، مبرراً للعلمانية والعولمة، راغباً في التسامح، وقراءة الأديان لفهمها، محذراً من الحرب، مؤكداً على مشروعيتها لرد العدوان. ولما يستهل بيان المثقفين السعوديين فاتحته بالقيم الإنسانية، وإنما جاءت حقائقه المحايثة في الفقرة الثانية من الصفحة الرابعة، لم تكن خمساً، بل جاؤوا بثمان هي:- تكريم الله للإنسان، وتحريم قتل النفس إلا بالحق، وعدم الإكراه على الدين، والعلاقات الأخلاقية، وخلق كل شيء للإنسان ومن أجله، ومسؤولية الجناية على الجاني، والعدل، والدعوة بالحسنى. والبيان الأمريكي تبريري إسقاطي شمولي دعائي، فيه خبث وذكاء، فالحرب ضد الإرهاب عادلة، لأنها من أجل الدفاع عن المبادئ الإنسانية، ومن ثم فليس من المعقول معاداة الأمريكيين من أجلها، فيما يفقد البيان العربي كثيراً من لعبة المراوغة و«التكتيك»، وتنقصه فنيات الحوار، وبراعة الالتفاف على المحاور. والفرق بين البيانين: أن الأول أعده «معهد القيم الأمريكي»، والثاني أعد بجهد فردي، وكم هو الفرق بين «المطبخ السياسي العريق» و«أكشاك الوجبات السريعة»، ورد المثقفين «الألمان» على البيان الأمريكي أقوى وأدق وأشمل. والبيان إذ يكون موجهاً لشريحة بشرية، لها مستواها المعرفي، كان لابد من مراعاة التماثل بين نصه وإحالته من جهة، والمتلقي من جهة أخرى، ولن يؤدي وظيفته التواصلية، ولن يحقق الاستجابة، ما لم يخاطب الآخر في إطار القواسم المشتركة، ومنشئه حاول ذلك، حين عول على «العدل» و«الحرية» و«المساواة»، وهي مفاهيم يتداولها كل مشروع سياسي أو اجتماعي حتى «الماسونية» طرحت هذه المقتضيات، وأزلقت بها أقداماً كثيرة، والمهم ليس في التطلع، ولكنه في الممكن والمفهوم.والبيان أعد بلغة إنشائية عاطفية، تتصيد حجتها من فيوض الإعلام، ولا تنجو من ارتباك، وتزيد، وشوائب: في المفردات والتراكيب. وهي الثغرات التي نسل منها الموغلون في النقد، ومع التسرع والارتباك، فإن لغته ليست سيئة، ولا سوقية، كما يتصور البعض «الوطن 6/7/1423هـ»، ولكنها لم تكن بالمستوى الملائم لعشرات المفكرين والعلماء الذين وقعوا عليه، وكان يجب أن يعولوا على «لغة التفاوض» بكل متطلباتها: الوضوحية، والمحدودية، والامتلائية. وثغرات لغة التفاوض والاتفاقات والبيانات تديم مطال المتلاعبين، ولهذا يحرص صاغتها متى كانوا ناصحين على تجويدها، واستبعاد الكلمات والصياغات التي تحمل أكثر من تفسير، وقد سبق الجميع إلى تحرير «لغة التفاوض»، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حين قال:- لا تجادلوهم بالقرآن، فإنه حمال أوجه، ذلك على اعتبار شرعية الفعل، وجدواه، والبيان حين مثل للعيان، لم يعد هناك جدوى من القول في الشرعية، لأنه أصبح قضية ماثلة. 4/3/3 ولو أننا أحلنا «البيان» إلى «لغة التفاوض»، وهو بلا شك نوع من أنواعه، فإننا نستذكر مقولة «ديفيد بيل»:- «إن المفاوضات من أكثر العمليات الذهنية تعقيداً» ومعدو البيان «سلقوه» بسرعة، وبطريقة مرتبكة و«ديفيد بيل» يؤكد على الانتباه «للغة» و«الاتصال»، ومعد البيان لا يمتلك لغة تفاوضية، ولا لغة قانونية، وإنما هي لغة وعظية استرقاقية خطابية، ولعلنا نستعيد الأسئلة التقليدية عن عمليات الاتصال:- من قال؟ وماذا قال؟ وكيف قال؟ وعن أي شيء قال؟ وما أثر القول؟ ولو تقرينا الإجابة على تلك الأسئلة، لتحددت لنا أبعاد البيان، وتجلت لنا هناته، ونحن على كل المستويات، لّما نزل بحاجة ماسة إلى لغة محكمة، تخترق كل التحصينات، وتحمل الطرف الآخر على أن يصيخ. ولابد في «لغة التفاوض» من أن نفرق بين «لغة النص» و «لغة الخطاب»، والنص لا يقتصر في مفهومه على البناء اللغوي فحسب، وإنما يمتد إلى نوع النص، وظروف النص، وأطراف الأداء والتلقي، وهو ما يعبر عنه بلاغياً ب «مراعاة مقتضى الحال». فيما يكون «الخطاب» أوسع من ذلك بكثير، فهو المشروع بكل متطلباته ومقتضياته، ومن ثم يأتي «النص» بكل مفاهيمه مفردة من مفردات الخطاب. ومن حقنا أن نتساءل عمن ناب عن المجموعة في التفكير والتدبير، وكتب البيان، سواءً كان فرداً أو مجموعة، وسواءً جاء عن طريق التداول وفريق الصياغة، أو كان مبادرة من فرد فكَّر وقدَّر وخطه بيمينه، ثم أخذ التوقيعات عليه، على شاكلة «القرارات التمريرية». وهل هذا الفرد أو تلك المجموعة على فهم عميق بحقائق الأشياء والأحداث وحجم اللعب؟ وهل يعي حجم إمكانياته وقدراته على تفعيل ما يقول، وتحقيق ما يتطلع إليه؟ وهل لديه فهم دقيق لتطلعات الرأي العام، وتصوراته للأشياء، وموقفه منها؟ لقد جاء البيان ناكئاً للجراح، مشتتاً للشمل، مثيراً للرؤى والتصورات، معيداً لما كنا قد مللنا الحديث فيه وعنه. لقد مثل البيان للعيان، وليس من حقنا الركون إلى الظن فبعض الظن إثم، وهو في نظري مسؤولية جميع الموقعين بالتساوي، ومن نكص على عقبيه باء بإثمه. ويقيني أن الناقمين والمعذرين يركنون إلى سوائد المفاهيم، ويحيلون إلى فرضيات محتملة. إن فينا من يفترض الغزو والتآمر، ويميل إلى الانكفاء وسد الذرائع، فيما يأتي أقوام آخرون يستبعدون الغزو والتآمر، ويحيلون على نقص الأهلية في الذات العربية، تمهيداً لشرعنة الاستغراب، وفيما بين هؤلاء وأولئك، من يعول على اللعب السياسية، التي تصنع الفتن، وتجيش الجيوش، وتلبس لكل لعبة ما يناسبها، وفينا العصاميون، والعظاميون، وأبناء العصر، والمحيلون للتاريخ والأمجاد، والجالدون للذات، والمحبطون، والناقمون، والسماعون. والدخول في هذه المعمعة يتطلب خلفية ثقافية متعددة المصادر والمرجعيات، ولا أحسب البيان مستوعباً لكل هذه الرؤى، متسعاً لكل هذه التناقضات. لقد فوض الموقعون الغربيون أمرهم إلى مؤسسات مليئة بالمجربين والمتخصصين والخبراء والمستشارين، وجاءت أفعالهم وأقوالهم بعيدة عن الانفعال والافتعال، فيما عولنا على سلطة الفرد، يقول عنا، ويفعل عنا، حتى لقد صرنا كما المتنبي مع ممدوحه «تركتني أصحب الدنيا بلا أمل»، أو كما قوم موسى معه:- «إذهب أنت وربك فقاتلا». أحسب أن البيان جاء متواضعاً، لا من حيث المعلومات، ولا من حيث الرؤى والتصورات، ولو استذكرنا قدرات التواصل الأربع:- «الثقافة، اللغة، النفس، السياسة» لوجدنا البيان يلم ببعضها إلماماً عفوياً لا معرفياً، ولكنه إلمام لا يحفظ التوازن. ومهما تعثرت لغة البيان وتسطحت معلوماته، فإن على المفككين احترام الكفاءات المدبرة، والأخرى المتواكلة، ذلك أن خطأ الفعل لا يحبط ما قبله من أفعال، وكلنا خطاؤون، ولا يظفر بالتميز إلا الرجاعون إلى الحق. 5/3/3 والقارئون للبيان أدركوا ثغرات كثيرة، ووجدوها فرصة لتصفية الحسابات، وفاتتهم ثغرات أخرى، وكما أشرت فإن مداخلات متفاوتة الإمكانيات متعددة النوازع، جاءت عبر الصحف، وعبر المواقع، وبعضها أوغل في الذم والاتهام والتشفي، وحاول بعضهم التذكير بالمواقف السابقة التي تختلف كثيراً عما حواه البيان من لطف ورقة وتعاذر، ولما يعول البعض على قوله تعالى:- {وّجّادٌلًهٍم بٌالَّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ}، وقوله: {لا يّنًهّاكٍمٍ پلَّهٍ عّنٌ پَّذٌينّ لّمً يٍقّاتٌلٍوكٍمً فٌي پدٌٌَينٌ وّلّمً يٍخًرٌجٍوكٍم مٌَن دٌيّارٌكٍمً أّن تّبّرٍَوهٍمً وّتٍقًسٌطٍوا إلّيًهٌمً } وقوله تعالى: {فّإنٌ \عًتّزّلٍوكٍمً فّلّمً يٍقّاتٌلٍوكٍمً وّأّلًقّوًا إلّيًكٍمٍ پسَّلّمّ فّمّا جّعّلّ پلَّهٍ لّكٍمً عّلّيًهٌمً سّبٌيلاْ} فلا سيطرة، ولا وكالة، ولا إكراه في الدين. والاختلاف - في تصوري- ليس حول النصوص، وإنما هو حول المفاهيم والمقتضيات، ف«السلفي» يفهم «لا إكراه في الدين» فهماً مغايراً، فيما يراه «العلماني» و«الليبرالي» شيئاً آخر، وأعجب شيء قضية «المفهوم» فما من اختلاف إلا وللمفهوم يد فيه. ولا شك أن صدور البيان بهذه الصيغة، وبتلك الإمكانيات، مداعاة لمزيد من المساءلة. ومواجهة فكرية وسياسية بهذا المستوى، تتطلب مؤسسة متخصصة، ومسؤولة ، تمتلك النيابة، وحق الفعل، متوفرة على فريق عمل، ينهض بإعداد البيان، والتعبير عن الرأي والموقف، بحيث تراعى فيه متطلبات الحكم واللغة السياسية وسياقات الأمة وظروفها وموقف الآخر. وفوق كل ذلك لابد من شرعية الفعل وأهلية الفاعل، فليس من مصلحة الأمة انفلات العقد، ومن أراد أن ينوب عنها فلينطق بلسانها، وليعبر عن همومها، بلغة رصينة، ومعلومة دقيقة، وحكمة بالغة، وتفويض مشروع، ومتى اجتهد المقتدر، وأقدم على الفعل، وجب احترامه، وحسن الظن به، ورده إلى الحق رداً جميلاً، وكل الذين داخلوا عدلوا عن شرعية الفعل إلى أهليته، وفي نظري أن «الشرعية» و«الأهلية» صنوان، وعلينا أن نفكر دائما في الشرعية، متى نهضنا بمهمة جماعية فالإنابة لا تملك شرعيتها بمجرد الاقتدار على القول، وعلى الذين تساورهم رغبات القول، أن يتوفروا على المناخات الملائمة، وأن تكون عندهم دقة في حسابات الخسائر والأرباح. |
الصَّيفَ ضَيَّعْنَا كُلَّ الألبان..!
حسن بن فهد الهويمل خطب أعرابي امرأة في الصيف فرفضته، فلما كان في الشتاء، ومسّها البرد والجوع، طرقت بابه تطلب لبناً، تسد به فاقتها. فقال لها كلمته التي أصبحت مثلاً: - «الصيف ضيعت اللبن». والناس في بلادي يضيِّعون في الصيف أشياء كثيرة، ويتجرع الفقراء منهم ومحدودو الدخل مرارات الالتزامات الصيفية المتنامية عاماً بعد عام، ويبدو الشح والضيق في كل المرافق العامة، وتعلن الدوائر الخِدمية والزمنية حالة الطوارئ. ترتفع في الصيف درجة الحرارة إلى حد لا يطاق، حتى لا تستطيع معه الأجهزة المسخرة لتكييف الطبيعة على التغلب عليه، وترتفع مع درجة الحرارة نبضات القلوب، وتتوتر معها الأعصاب، وتصعد نسبة المشاكل والحوادث والخلافات. وفيه تكثر المناسبات، وتعمر قصور الأفراح، وتعج الأسواق بالمتسوقين، ويزداد نهم الناس، ويستذكرون ما غفلوا عنه، أو أرجؤوه، أو شغلوا عنه في أيام الدراسة، من مقومات الحياة ومتطلبات العصر. والمؤلم أن الصيف المرتقب من الآباء والأبناء للانطلاق في أرض الله الواسعة، للراحة والاستجمام، يرهقهم صَعوداً، ويخنقهم سعيراً. والمعهود أن الإجازات تفيض بالبهجة والسرور، واستعادة النشاط. والبسطاء والخليون والموسرون يحسبونها كذلك، ويظنون كل الظن أن الجميع بعد فراغهم منها، يعودون إلى ديارهم وأعمالهم، وهم ممتلئون بالحيوية والنشاط، وما درى أولئك أن السواد الأعظم يمرون بفترة الصيف اللافح، وكأن الأقدار قد جمعت لهم فيها كل العذابات والضوائق. أطفال أكملوا السابعة، يحتاج أولياؤهم إلى مراجعات للمدارس والمستشفيات والأحوال، تمهيداً لإلحاقهم بالمدارس، فمستهل العام الدراسي في أعقاب الصيف. وحملة الثانوية العامة من بنين وبنات بكثرتهم، وتدني معدلاتهم، يتدافعون إلى الجامعات، التي لا تستوعب شطرهم، ومكملون يحتاجون إلى دروس خصوصية، ومتفوقون يرقبون الاصطياف، ومؤخرون للزواج يتحفزون لاستكمال نصف الدين، وبيوت تحتاج إلى ترميم، وأجسام تتطلب فحوصات وعلاجاً، وأوضاع كثيرة يسوِّف بها أصحابها إلى العطلة، حتى إذا جاءت، جاءت معها بكل المصاعب والمتاعب. وخمسة ملايين مواطن يبرحون أرضهم وديارهم كل عام، جُلُّهم للاصطياف، كما في تصريح أحد المسؤولين، وخمسون مليار ريال، تراق تحت أقدام الاستجمام ومتطلبات السياحة خارج البلاد، كا يقول مسؤول آخر، وكل شيء في الصيف قابل للاشتعال، حتى الفيروسات والبعوض والجراثيم، وكل مراجع يتأبط بشماله ملفاً، يمسك بيمينه شفيعاً، وهو يردد: - «إن السفينة لا تجري على اليبسِ». وفي الصيف ينتهي العام الدراسي الذي قيد العفاريت والأشقياء من الطلاب والطالبات في البيوت للمذاكرة، وفي فصول الدراسة للتعلم، وفيه يفرغ الشباب من شبح الدراسة، ورهبة الامتحان، ولزوم البيوت، ومطاردة أوليائهم لهم، من أجل التحصيل، وحل الواجبات، وتنظيم الوقت، والنوم المبكر، والاستيقاظ المبكر، حتى إذا سلّموا آخر ورقة في الامتحان، لفظتهم البيوت، بما يتوفر لهم من: شباب، وفراغ، وجدة، وشيطنة. والثلاث الأول منها، «مفسدة للمرء أي مفسدة»، وما أن تغلق أبواب المدارس، تفتح أبواب المشاكل، فتضج السيارات بالحركة: جيئة وذهاباً، على غير هدى، وبدون حاجة، مما يعرض المارة للخطر، والسكان للأذية، ويعلو صريخ العجلات المزعج، تعبيراً عن البهجة بأيام الصيف، ولمواجهة هذا التعبير المتخلف، تنتشر سيارات المرور والدوريات، لتخفيف حدة الإزعاج، والحيلولة دون المخالفات والحوادث. وقد يصعّد الشباب التعبير عن مشاعرهم ب «التفحيط»، الخطر، والمواكب المزعجة، والسرعة المرعبة، والقطع المتعمد لإشارات المرور، وفي المنتزهات يختلط الحابل بالنابل والخليّ بالشجيّ، ثم لا يكون احترام لكبير ولا رأفة بصغير ولا غض لبصر، الأمر الذي يضطر جهات الأمن إلى إعلان حالة الطوارئ، وفي كل ذلك يتحمل الآباء مصائب الكوارث، والحوادث، والغرامات، والمطاردات، ويتحول حديث الناس إلى تفجُّع ومواساة، ومن لم تشبع فضوله التجمعات في الساحات، والمطاعم، والمقاهي، والحدائق، وأطراف المدينة، والاستراحات، والمراكز الصيفية النمطية المتقشِّفة المتسوِّلة، يأخذ ما خف حمله، وغلا ثمنه من أشيائه، مع ما يسلبه من جيب والده من مال، ويطوف مع زملائه أرجاء الوطن يبغي الرفاهية الموعودة، حتى إذا جاءها لم يجدها، ووجد الغلاء وأزمات السكن عند بوارق الدعاية، وقد تعدو عيناه إلى مطارح السياحة في الخارج، فيكون فريسة المغريات، ويعود بعد أمة، خالي الوفاض: جيباً وجسماً. واللافت للنظر أن نصف المغادرين كل عام، حسب إحصاء «إدارة الجوازات»، يذهبون إلى دولة البحرين، فماذا يجدون؟ وبماذا يعودون؟. وحين يغرق الشاب المسكون بكل الشهوات والرغبات في دنياه الحالمة فوق مرتفعات الجبال، أو على سواحل البحار، ينتابه كرم حاتمي، فيحثو الدينار والدرهم يميناً وشمالاً، مما يضطره إلى مهاتفة أبيه، طلباً لمزيد من النفقة أو إشعاراً لأهله بتمديد زمن الرحلة. والأب المسكين غارق بضيوفه الذين يتهافتون عليه من هنا وهناك، يستهل أيام العطلة بالولائم الدسمة، والترحيب العريض، والتعرض لكل قادم، فإذا شارفت العطلة الصيفية على النهاية زوته الحاجة، وأنهكه التعب، وتكاثرت عليه المناسبات، حتى يكون «كخراش»، الذي تكاثرت عليه «الظباء»، فما يدري ما يصيد، غير أن المسكين يتكاثر عليه «الغول»، فما يدري ما يواجه أو يتقي، فيجنح إلى الوجبات الخفيفة، والاعتذار المتواصل، ومحاولة التسلل لِواذاً من كل مناسبة، فلا يسلم جيب، ولا يتوفر عرض، ولا تحصل راحة. ولأن النساء والأطفال والبنين والبنات فارغون من كل شيء، فإن نهارهم يتحول إلى سبات، وليلهم إلى معاش، وتصير الهواتف والجوالات هي المتنفس الوحيد، وتظل الكهرباء على أشدها، وكل ذلك على حساب العائل الفقير، الذي أضناه عام الجد، وسحقته أيام الراحة والاستجمام، فما وجد الراحة في عام الجد، ولا وجد الاستجمام في أيام اللهو البريء. وصيف نجد من أسوأ الفصول، وأشدها حرارة، ولا يطفئ لظاه إلا تدفق الماء العذب والهواء البارد، ولا يتوفر ذلك إلا بأغلى الأثمان، و «شركة الكهرباء»، و «مصلحة المياه»، تدخلان في أزمات طاحنة، وعجز مخل بالوفاء، وفي هذا الفصل تكثر الشكاوى والتذمرات، من انقطاع التيار الكهربائي، ونضوب الخزانات، نتيجة الأحمال والاستغلال، وأزمة مياه الشرب قاتلة، فثمن الماء قد لا يكافئه راتب القاعدة العريضة من موظفي الدولة، وشح الماء يجعل «بورصة»، «الوايتات»، تضرب رقماً قياسياً، وتبدو ظاهرة السوق السوداء، الأمر الذي يضطر السلطات إلى التدخل لحماية المستهلك. ودعك من سائر المناسبات التي تعرف منها وتنكر، كمناسبات الزواج التي تشتعل في كل مدينة وقرية، وما يصحبها من إنفاق باذخ، لا يدرك حجمه إلا الوالدان والأقربون، فكل الأسواق، وبخاصة أسواق الذهب والهدايا والحلويات والزهور والعطور والأقمشة تعج بالحركة. كما ينشط مصممو الدعوات وطابعوها، ومصممو الأزياء، وخياطو الملابس والفساتين، وترتفع أسهم «الطقاقات»، و«الطهاة»، و «الكوافير»، وهذه المناسبات مضيعة للجهد والمال والوقت، تأتي على ما جمعه الآباء، وما وفره الأبناء والبنات من رواتب ومكافآت. ومما يضاعف الأعباء أن الأبعدين في مقار سكنهم من المعارف والأقارب والأصدقاء يقبلون بِقَضِّهم وقَضِيضِهِم: سائحين أو مشاركين في المناسبات، ولا يجدون الراحة إلا في بيوت أقاربهم، بدعوى صلة الأرحام، والتواصل، وتعارف الأبناء. وتقاطرهم جماعات ووحدانا يزيد الطين بلة، فبعض البيوت صغيرة، لا تتسع للساكنين الأصليين، ولا توفر الكفاف من خدمات الماء والكهرباء في الصيف لذويها، فإذا بها تستقبل العديد من الأقارب، لحضور مناسبة عارضة، أو زيارة واجبة، والعائل المسكين في جيئة وذهاب، لتوفير الأجواء الملائمة للنساء والأطفال داخل البيوت، ولذويهم من الرجال في المتنزهات والشاليهات والاستراحات، واليد القصيرة والعين البصيرة في جيئة وذهاب، لإنفاق ما في الجيب، في انتظار ما لا يأتي من الغيب، مستأنساً بالمثل التفاؤلي «أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب». والإنفاق مطلب ديني، والكرم سمة الرجال، وصلة الرحم من صفات المؤمنين، ولسنا ندعو إلى نقيض القيم والمثل العربية والإسلامية، ولكن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وإذا كان الموسرون قادرين على الإنفاق، وإذا كانت البيوت الواسعة قادرة على الاستيعاب، فإن الأغلبية لا يملكون مالاً، ولا يتوفرون على مساكن واسعة. ومع أن التزاور والتواصل مطلب إسلامي وعربي إلا أن الصيف بكل ضوائقه، لا يحتمل التحركات الجماعية، والوفادات المتواصلة، فهل من مدكر؟. ومناسبات الأفراح والأتراح باهظة التكاليف، ولا سيما إذا كان الأقارب يتعاملون مع بعضهم على مستوى «البروتوكول» الحاتمي، ومقتضيات الضيافة العربية، التي طواها التحضر، بحيث تُنحر الكُوم من بهيمة الأنعام، وتُقام الولائم، ويدعى الَجفَلَى من الأقارب والأباعد على حد:- «نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى... لا ترى الآدِبَ فينا ينتقر» وإذا استوت الذبائح على الجفان، لا يجد المضيف بداً من الاعتذار عن تقصيره في حق الضيف، مؤكداً أن حقه ليس فيما يوضع في الجِفان الغُرّ، التي تلمع في العتمات، وهذه الطوائف التي بَطِرَتْ معيشتَها، وجرَّت أُزُرَهَا، وفتلت شواربها، لا تنظر إلى المشاعر، ولا إلى الإمكانيات، وإنما تُسمِّرُ عيونَها على الوليمة، مؤمنةً بأن الإنسان يُقوَّم من خلال أشيائه، لا من خلال ذاته وأخلاقياته، وما علموا أن المرء إذا لم يدنس من اللؤم غرضه، «فكل رداء يرتديه جميل»، وهي بهذه الرؤية الشيئية، تقوِّم ذاتها بالشاء والبعير، مما لا يؤكل، ولا يترك في الجيوب لمناسبات أخرى. و «الجمعيات الخيرية»، التي تستعمل فيوض المناسبات، تضيق ذرعاً بالدعوات، للملمة أشلاء الولائم الممزوجة بأشلاء المساكين، وتكون المنعمة المتفضلة، حين تبادر إلى منزل الداعي، وتخلصه من بقايا مائدة باهظة التكاليف، لم يؤكل منها إلا اليسير، وماذا على الطرفين:- الضيف والمضيف، لو أقيمت وليمة مناسبة، تكفي للضيوف، وتحد من الإسراف، وتحول دون تبذير ثروة البلاد من المواشي والأرزاق والطاقات، وإخلاء جيوب المواطن، وامتلاء جيوب العمالة الوافدة التي تتولى: الذبح، والطبخ، والتخديم. وما توفر من الاقتصاد والتعقل، لا يودع في البنوك، وإنما يصرف نقداً للجمعيات الخيرية، أو تستقبل به مناسبات أخرى، أحسب أننا لو فعلنا مثل ذلك، ونهض به الأثرياء والأعيان بوصفهم القدوة، لكنا أكثر تحضراً، وأقرب إلى المثوبة. وما يقدمه البعض لضيوفه، يعد من الإسراف المذموم، وما يصير من فائض الأغذية إلى صناديق النفايات، يفوق المأكول منها، وفي ذلك كفر للنعم. ومما يزيد الإثم، ويحقق التخلف الحضاري، لجوء المضيف إلى الاقتراض أو الاستدانة بالتقسيط، أو حين ينعكس انفاقه الباذخ على واجباته الضرورية إزاء أسرته، أو حين لا يقوم بحق القانع والمعترّ والسائل والمحروم من ذوي القربى والأرحام. وكم من مسرف تعقدت حياته، وتشرد أهله، بسبب العادات السيئة، التي لا تعد مؤشراً حضارياً، ولا مطلباً إسلامياً. ومن شاء معرفة تحول العادات السيئة إلى بدعيات تعبدية، فلينظر إلى «أيام العزاء»، وكيف يواجه المصابون من التكاليف، وكيف يستقبلون من العوائل والمعزين، الذين يطيب لهم المقام، فيأكلون، ويشربون، ويتحدثون في أمور الدنيا، ويغتابون، وهم في مجلس العزاء البدعي، فيجمعون بين بدعية الظاهرة، وإثم الممارسة. ثم لينظر إلى الذين يصنعون الطعام للمصابين، في سبيل إحياء السنة التي ندب إليها الإسلام، مما يسرفون على أنفسهم، ويقدمون الولائم الباهظة التكاليف إلى محزونين لا يحتاجون أكثر من سد الرَّمق، وقد يكون الأقربون للمصابين عاجزين عن المسايرة، فيتركون السنة عجزاً لا تقصيراً، ومن ثم يعرضون أنفسهم للمؤاخذة، وبهذه الأساليب البدعية المتخلفة تتحول السنن إلى مباهاة وبذخ. والصيف الذي ترتفع فيه درجات الحرارة في الطبيعة، ترتفع فيه درجات الحرارة في الصدور، وينعكس أثر ذلك على العلاقات الأسرية، وبدل أن تقضي الأسرة صيفها بالراحة والاستجمام، تكون العذابات المستطيرة، والخلافات والمنازعات. وما أحوج الأمة إلى حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا، وصدق الشاعر:- ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا إن الصيف ضيف ثقيل مملٌّ: بطبعه ومتطلباته. شبحه مخيف، وظله لا ظليل، ولا يغني من اللهب، ولما نزلْ بانتظار «الحكيم»، الذي إذا أورد الجهلة أصدر الورد بحكمة وروية. فلا كنا، ولا كان الصيف بهذه المواصفات، ولو تبصّرنا، وعقلنا، لكان صيفنا صيفاً سعيداً، لم يضيّع فيه ماء ولا لبن. |
الثروة الوطنية بين: الخنزرة والسرطنة..! 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل لمّا نزل نقرأ بين الحين والآخر نقداً ايجابياً او سلبياً، يوثق لشائعات مغرضة عن مشاريعنا الوطنية. تطلق عن مكيدة واعية، او عن غفلة معتقة. فتارة توصف المشاريع بالجشع والاستغلال والغلاء، واخرى يتهم ذووها بالتعدي على المراعي والشواطئ واستنزاف الثروة المائية، وثالثة يفترى عليهم الدخول في مزاد «منديل ام كلثوم» او «فستان سعاد حسني»، ورابعة ينال المغرضون من سلامة المنتجاة، فهي اما: مشتملة على مادة خنزيرية جريدة «الاتحاد الاماراتية» او مسببة للسرطان، او مدعومة بالهرمونات المضرة بالصحة. والكتبة المتعجلون يزلقون الصحافة المتأنية بانفعالهم، او بافتعالهم، وعدم ترويهم، فبعضهم كالراوي «الصدوق» الذي لا يفتعل الكذب، ولكنه لا يحترس من الرواية عن الكذابين، والعداوة المفتعلة، والشحناء المصطنعة بين طبقة الكادحين والاغنياء، بقية من بقايا الماركسية، التي افلحت بمساواة الناس في الفقر، وفي تعميق العداوة والبغضاء بين اصحاب رؤوس الاموال المستثمرين والعمال والمستهلكين، وذلك بتكريس مفهوم الطبقية، والاستغلال، والتسلط، وامتصاص جهود الكادحين، وحين ولت الماركسية الادبار، تركت في معاطنها بقية من اثر السوء. والتناوش بين مصادر الانتاج والمستهلكين يصاب بهذا الدخن، وكل من ناصب الاثرياء العداوة دونما سبب، فهو اما: حاسد غير كظيم، او منافس غير شريف، او مصاب بدخن الماركسية البغيضة، عن وعي مكتوم او جهل معلوم. والخائضون اللاعبون في اعراض الاثرياء المستقيمين على الطريقة، يحبطون، ويخذلون، ولا يزيدون الناصحين الا خبالا، يحرم الوطن من المال والخبرة. والاعمال الروائية والقصصية، زمن المد الشيوعي، تفيض بسخرية مرة، واستهزاء مسف، واستعداء سافر لا يصيب الذين ظلموا خاصة والذين تلمسوا شخصية «المتدين» او «الثري» من النقاد والدارسين في مثل هذه الاعمال، يصدمهم التجني الظالم، والوقيعة المرة، ولسنا نعدم بين الحين والآخر في المجالس وعلى صفحات الصحف ترويجاً للشائعات المغرضة، تحركها الاهواء والضغائن، وكأن الاغنياء لصوص، تسلقوا على الناس بيوتهم، او عصابات كسرت خزائنهم، وما عرفوا ان الحكمة الالهية قضت بتفضيل بعض الناس على بعض، وجعلت بعضهم لبعض سخريا، والجميع في النهاية خادم ومخدوم، كما يقول الشاعر: «الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم» والتفاضل سنة كونية ماضية، وسيبقى الاكرم عند الله الاتقى. والاسلام المؤاخي بين الاغنياء والفقراء، ينهى عن حسد ذوي الفضل. وفقراء الصحابة رضوان الله عليهم، لم يمتعضوا، لأنهم فقراء، وإنما استاؤوا لأن اهل الدثور ذهبوا بالاجور، يصلون كما يصلي الفقراء، ويصومون كما يصومون، ويتصدقون بفضول اموالهم، فيما لا يجد الفقراء ما يتصدقون به. وحينما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنظار الفقراء من الصحابة الى التسبيح والتهليل والتحميد، علم بذلك الاغنياء ففعلوا، وحين اعاد الفقراء شكايتهم، لم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم ان قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فالمال مال الله، يعطيه من يشاء: شاكراً او جاحداً لأنعم الله، محسناً او مسيئاً، كافراً او مسلماً. فالمال الوفير، والجاه العريض، والصحة في الاجسام، والامن في الاوطان، ليست دليل رضا، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة، لما سقى منها الكافر شربة ماء، ولا يقيد النعم الا الشكر، وكم من قرية ظالمة، استدرجها الله بالنعم، وأمهلها بالامن، ثم اخذها اخذ عزيز مقتدر. والذين بطرت معيشتهم، ولم يرعوا حق الله فيما اعطاهم، يفاجئهم الله بياتاً، وهم نائمون، او يأتيهم البأس ضحى، وهم يلعبون، ولا يأمن مكر الله الا الاخسرون. والسعيد من كان عبداً شاكراً لأنعم ربه، والشكر: قول وعمل {\عًمّلٍوا آلّ دّاوٍودّ شٍكًرْا وّقّلٌيلِ مٌَنً عٌبّادٌيّ پشَّكٍورٍ }. والاغنياء الذين يوظفون اموالهم، وجهودهم، وخبراتهم، لتوفير الامن الغذائي، وإتاحة فرص العمل لإخوانهم، واحياء موات الارض، وعمارتها، واستخراج اثقالها، لا شك انهم من الشاكرين لنعم الله، متى كان كسبهم حلالاً، واكتيالهم ليس فيه تطفيف، وبيعهم ليس فيه غش. ثم انهم بمشاريعهم التنموية يعدون ثروة وطنية، فالنفع لا يخصهم وحدهم، الا اذا كانت اموالهم ارقاماً في البنوك، او ارصدة ربوية في الخارج، وفي آخر تقرير تناقلته الصحف اشار الى حجم المدخرات الهاربة، بحيث تجاوزت «650» ملياراً «الرياض 19/3/1423هـ». والمستثمرون لأموالهم داخل اوطانهم، منعمون متفضلون، لهم حق الحماية والتشجيع، والذب عن سمعتهم، وعن مشاريعهم، وإشعارهم بأهميتهم، وحفظ ساقتهم، ليأمنوا على سمعتهم، واموالهم، ويوفروا طاقاتهم لمضاعفة العمل والانتاج، وذلك بعض شكرهم على افضالهم، وبعض حق الوطن علينا. واذا اشيعت عنهم او عن مشاريعهم قالة السوء، فالواجب التثبت، والتحري، والحيلولة دون تأثير الشائعة على سمعة مشاريعهم، فالقبول بالدعاية السيئة وترويجها، ينعكس اثرها السلبي على الانتاج الوطني، وحين تتعثر المشاريع الوطنية، تختفي رؤوس الاموال الخائفة المترقبة، وتهرب الاموال المترددة بين العمل والهجرة، وانكماش المشاريع القائمة، يخل بالامن الغذائي، وهل هناك اهم من الأمنين: الغذائي، والنفسي، وقد ذكر الله «قريشاً» بنعمتين توجبان العبادة:- الامن من الخوف، والامن الغذائي قال تعالى:{فّلًيّعًبٍدٍوا رّبَّ هّذّا پًبّيًتٌ (3) پَّذٌي أّطًعّمّهٍم مٌَن جٍوعُ وّآمّنّهٍم مٌَنً خّوًفُ }. والتعدي على سمعة المشاريع كالتعدي على ممتلكاتها، وتصفية السمعة لا تقل ضرراً عن تصفية الاجساد، وفوضوية التعامل يحمل اصحاب المشاريع افراداً او شركات على تسريب العاملين، وتصفية المشاريع، والبحث عن اجواء آمنة خارج البلاد، وناتج ذلك ارتفاع نسبة البطالة، والاعتماد على الاستيراد، وفي الهجرة دعم لمشاريع الدول الاجنبية، التي لا تود لنا الاستقلال الكريم، ولا الاستغناء الشريف. والدول التي تعتمد على الاستيراد، تظل محكومة بالحاجة. والاستقلال الحقيقي لا يكون الا بقوتين: - الاقتصاد القوي. - والعلم التجريبي. وحين امر الله الامة بإعداد القوة، اطلق وخصص. اطلق حين قال: {وّأّعٌدٍَوا لّهٍم مَّا \سًتّطّعًتٍم مٌَن قٍوَّةُ}، وخصص حين قال {وّمٌن رٌَبّاطٌ پًخّيًلٌ} ، وقول بعض المفسرين بأن «القوة» الرمي واحد من المعاني، وإلا فالقوة تشمل قوة «العلم» و «الاقتصاد» و«السلاح». والاقتصاد عصب الحياة، وبؤرة التوتر بين الشعوب، فالمصالح حين تتعارض تنشأ العداوة، وقد تتطور، لتصل الى حد الصدام المسلح، وكل هذا يؤكد على اهمية الثروة القومية، ولا تكون كذلك حتى تندلق اقتابها في النجاد والوهاد، في ظل الاجواء الآمنة، ولقد مرت بنا الآيات والنذر، فكم من دول انهارت عملتها، وكسد اقتصادها، دون حرب او تدخل، واخرى تعولمت عملتها وعوّقت وانتعش اقتصادها، فهذه «دبي» بعد الانفتاح، وأسلوب الجذب، وتلك دول شرق آسيا مما يسمى «بالنمور»، وتهافت المشاريع والانكماش الاقتصادي ناتج تحد سافر او سياسة مرتبكة، فالسياسة الحكيمة، والرأي العام الواعي حين يتفاعلان يصنعان العجائب، وليست الثروة ما تملكه الدولة، وليست الارصدة النقدية في الداخل او في الخارج، وانما الثروة ما يقوم على ارض الواقع، من مزارع، ومصانع، وما يتوفر من كفاءات مخلصة فاعلة، وسواعد مدربة، تجد في ارضها الدعم والتشجيع والتسهيلات. والمواطن المخلص الناصح، من يسعى لتنمية ماله، واستثماره في صحاري بلاده، يسد باستثماره حاجة الامة من مأكل ومشرب وملبس ومستعمل. والشعب الغني يعول الدولة، ويدعم اقتصادها، والامة الفقيرة تعولها الدولة، وليس هناك اسوأ من شعب فقير، تعوله دولته، استناداً الى امكانياتها المكتسبة دون تحرف، اوتعويلاً على مساعدات الدول الغنية، وما من دعم الا وله ثمن من الكرامة والحرية. واذا كان من اوجب الواجبات على المواطن مواصلة الدعم لمشاريعه الوطنية فإن على الدولة السعي الدؤوب، لجذب رؤوس الاموال الاجنبية، وتهيئة المناخات المغرية للاستثمار فضلاً عن رؤوس الاموال المحلية. وواجبنا التوفر على وعي حضاري، يرى ان المصانع والمزارع وكافة المشاريع الانمائية التي تعود ملكيتها للافراد او للشركات، هي ملك للامة، وردء لها، وضعها الله في ايدي الاثرياء او الشركات، وهو سائلهم عن وجوه الكسب، وطرائق الانفاق، ومجالات الاستثمار. والذين يناصبون ذوي الدثور العداوة، ويختلقون الاقاويل عن المشاريع الوطنية دون تثبت، بحجة حماية المستهلك، يقترفون جنايات كثيرة، وبخاصة حين تكون قالة السوء عن مشاريع انتاجية غذائية، كمزارع الحبوب، والنخيل، والفواكه، وكافة الثمار، ومشاريع الدواجن، والالبان، والاسماك، وتربية المواشي. والمشاريع الوطنية في ظل المنافسة الشرسة، وبوادر «العولمة»، والشركات متعددة الجنسيات، وعمليات الاغراق ومشاكل العمالة، وبدائية التسويق، بحاجة ماسة الى الدعم والتشجيع والحماية. ولا سيما ان المشاريع الاجنبية المنافسة، تعمد الى الاختلاق والكذب، للتشكيك في جودة المنتج الوطني، وكفاءة ذويه، وجعل البلاد تعتمد على الاستيراد، والاشد نكاية حين تكون المواجهة باسم الدين، بحيث ينبري الطيبون الورعون او الماكرون المأجورون لترويج فتاوى تحذر او تحرم بغير بصر ولا بصيرة، و لقد سمعنا وقرأنا الاشاعات المغرضة عن مشاريعنا الوطنية، يطلقها المنافسون غير الشرفاء، ويتلقفها الغافلون الابرياء ثم لا تجد من يتصدى لها، ويكشف عن دوافعها، بل ربما نجد من يتلقاها باليمين، وينشرها، عن حسن نية، والمواطنون المخلصون الصادقون حين يغامرون بأموالهم وذممهم وسمعتهم وجهودهم، ويسهمون في دعم الاقتصاد، يودون ان يجدوا المناخات المناسبة، المتمثلة بالتسهيلات الحكومية، والتشجيع الوطني، والحماية المستمرة. واذا لم نسهم في توفير المناخ المناسب، فشلت التجارب، وجبنت الاموال، وتسلل بها اصحابها الى الخارج، مكتفين بالمضاربات الربوية، مسهمين في دعم اقتصاد الاعداء. ومثلما يتهافت الخليون على الاثارة لذاتها، ويوغلون في النيل من شخصيات بأعيانهم، او من قضايا وظواهر في الفكر والسياسة والدين والأدب، ينالون من شوامخ المشاريع، وقلاع الانتاج، وعباقرة الفكر والاقتصاد، ظنا منهم ان ذلك يفيد المشروع، ويحمي المستهلك، وقد يكون تدافعهم تهالكاً على الاضواء، وذلك ينسيهم ما يترتب على تشكيكهم من اضرار جسيمة، تمس الثروة الوطنية، التي رضي اصحابها في بسطها للمنتفعين، وتوظيفها لتوفير الامن الغذائي، فالمصانع، والمزارع، وسائر المشاريع الانمائية، تعتمد في نجاحها على ثقة المستهلك واطمئنانه، وحماية الدول للمنتج الوطني، ومقاطعة المنتج المستورد. وحين تشاع قالة السوء عن اثر منتجنا الصحي او عن رداءة جودته، او عن غلاء ثمنه، بغير علم، ينعكس ذلك على علاقة تلك المشاريع بالمستهلك، ومتى اهتزت الثقة، تأثر المشروع، وهبط تسويقه، واحتاج الى زمن طويل لاستعادة الثقة، ورد الاعتبار، وقد تلجأ المشاريع الى قنوات اعلانية، تشاطرها كسبها، وتحملها على رفع الاسعار، لكي تمول الدعاية والاعلان، والثراء الذي يصب في جيوب القنوات الاعلانية مأخوذ من جيوب المستهلكين، ولو ان كافة الاعلاميين والكتاب تحروا الدقة، لأمن الجميع على اموالهم، وخرجت الملايين من خزائنها، ورجعت المليارات من الخارج، وعادت الكفاءات المهاجرة، تستنبط الماء، وتحرث الارض، تزرع وتغرس، وتستقطب الايدي العاملة، وفي ذلك خير كثير. |
الثروة الوطنية بين: الخنزرة والسرطنة!!(2/2)
د. حسن بن فهد الهويمل وحديثنا عن ثوابتنا الاقتصادية، لا يعد تصدياً لواقعة يتعرض لها ثري، أو شركة ثم لا تتكرر كما أن اللغو المتنامي ليس واقعة بعينها، يرافع ضدها من تعنيه، وإنما هو على شاكلة الظواهر المألوفة المتنامية، والظواهر تحتاج إلى مواجهة جماعية، تحد من استشرائها وتأثيرها. وحين نمتعض من مثل هذه الظواهر، نعرف جيداً أن الصحافة لسان الأمة، ورائدها الذي لا يكذب، ومتى غفل الرائد أو واطأ على الخطيئة فقدت الأمة مقومات البقاء الشريف. ولسنا نود من كتّابنا، ولا من صحافتنا التخلي عن الثنيات، ولا افتراض النقاء والملائكية، ولسنا نريد لكائن من كان أن يكون فوق النقد والمساءلة، وإنما نريد التحري، وعقلنة المواقف، والتفريق بين أثرياء يأخذون بحق، ويعطون عن رضا، وآخرين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ثم لا يكون لهم عمل مفيد، ولا صدقة جارية، ولا هم بأمر المسلمين، وكل الذي يعنيهم خُويصة أنفسهم. ودفاعنا عمن يوظفون أموالهم في أي مجال من مجالات التنمية والانتاج الوطني لكافة الأغذية من الدواجن والألبان والخضروات والفواكه واللحوم وسائر المواد الغذائية يمثل الأخذ والعطاء العائدين بالنفع العميم، ولا تقل عنه المصانع التي تستوعب الأيدي الوطنية، وتمكنها من التدريب والتأهيل والمزارع. والمصانع بهذا الشكل ليست خالصة لأصحاب رؤوس الأموال، ولا للشركات وليس أصحابها قابضين وحسب، إنها ثروة وطنية، لا مقطوعة، ولا ممنوعة، تُفعل المال، ليمتد نفعه إلى عدد من شرائح المجتمع، وذلك بعض موجبات المحافظة عليه، والمحافظة لا تعني كف الأذي، والتحري عند أي شائعة مغرضة وحسب، وإنما هي بالدعم: المادي والمعنوي، وبث الثقة في نفوس الأثرياء الأوفياء لأمتهم ووطنهم، ممن غامروا بأموالهم، وجهودهم، وراحتهم، فجروا الينابيع، وأحيوا موات الأرض، واستثمروا الشواطئ السبخة، وحولوا الصحراء القاحلة إلى مروج وأنهار، جلبوا أحدث الأجهزة، واستقدموا أمهر الخبرات، وأقاموا أدق المختبرات، وكان حقاً علينا في مقابل ذلك مؤازرتهم، وتشجيعهم، وإغراء المحجمين من لداتهم، ليفعلوا مثل فعلهم، إن هجرة الأموال والأدمغة وإحجام الكفاءات الوطنية مؤشر سلبي، فبلاد الجذب، والإغراء، وتهيئة الأجواء، والدعم المادي بلاد يستحق أهلها الحياة الكريمة، والبلد النكد من تتسرب أمواله، ويهاجر أهله، وتنطوي كفاءاته على نفسها، إنه بلد ينقص ذويه الوعي والأهلية، فالأثرياء يبحثون عن المناخات المناسبة، والمجالات الآمنة لاستثمار أموالهم، والدول الواعية تمنح التسهيلات، وتهيئ الأجواء وتوفر الضمانات: وتخفض الضرائب، وتيسر الاجراءات، وتمنح الأراضي والقروض، وتحمي سمعة المشاريع، لكي تظفر برؤوس الأموال والخبرات والتجارب، وتبعث الثقة والاطمئنان، وحين تكون الأنظمة احتراسية، و(البيروقراطية) مستفحلة، والرأي العام متذبذباً، والصحافة متسرعة، والكتاب سباقين إلى الإشاعات، والناس خائفين مترددين شاكّين، تنكمش الأموال، وتكف الكفاءات البشرية أيديها، وتحجم الشركات الأجنبية، وتتسلل الأموال بحثاً عن دول داعمة وشعوب واعية، وعلينا أن ننظر كم من المليارات وآلاف الكفاءات من العالم الثالث خارج أراضيها، وكم لدى العالم الثالث من أموال الغرب وكفاءاته. إن هجرة الأدمغة، وتسرب الأموال مؤشران على ضعف البنية المعرفية والاقتصادية، وارتباك الأوضاع السياسية، واستفحال الأنظمة المعقدة، وتنامي الغفلة الجماهيرية المتخلفة من عوامل الطرد. وكل دولة تتسرب أموالها، وتهاجريجب عليها النظر في كافة أوضاعها. ولقد شهدنا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كيف منيت الأسواق العالمية، وكيف بدأ الانهيار الاقتصادي لعدد من الشركات وكيف بدأت لعبة التضليل المحاسبي، الذي لم نكن أذكياء في استثماره، لإثبات أن التخلف ليس وقفاً على الشرق، ولست ممن يودون انهيار الاقتصاد العالمي، وإن كان لدول يمسنا منها أذى كثير، ذلك أن اقتصاديات العالم يؤثر بعضها على بعض، وبودي أن يكون اقتصادنا محلياً وعربياً وإسلامياً متيناً، قادراً على المنافسة، وتحمل الصدمات. ولن يكون كذلك، حتى يمتلك الرأي العام وعياً اقتصادياً، يقيه غوائل التضليل، وحين تكون الأوضاع طبيعية، فإن علينا أخذ حذرنا من المنافسات غير الشريفة، التي تقوم بين مصادر الثروة والانتاج، إذ هي مصدر الإشاعات والتشكيك، وحرب الأسعار، والإغراق، وليس أضر على مشاريعنا من تضليل الرأي العام، وتعبئته بالأوهام والأكاذيب. فتارة يشاع أن الدواجن الوطنية تعتمد في غذائها على (الهرمونات) وهذا يحِّول المستهلك إلى الدواجن المستوردة التي لا نعرف عن ظروفها الصحية والغذائية شيئاً، وأخرى يروج المغرضون أن أفراخها متخنزرة، الأمر الذي يحمل الدول المجاورة على اغلاق منافذها في وجه صادراتنا، وثالثة نسمع أنها متسرطنة، وذلك كاف لاصابة المواطن والمقيم والمستورد بالهلع. وحين اشتعلت حرب الشائعات حول (جنون البقر)، و(الكولسترول)و (الهرمونات) خرج رسامو (الكاريكاتير) برسوم تكشف عن مطاردة (الضبان)، تعبيراً عن تأثير الشائعات، فيما خرج حماة الحياة الفطرية في مواجهة أولئك، والشركات تواجه المروجين للشائعات مستعينة بالمختبرات العالمية، والشهود المحايدين، لاثبات الجودة والسلامة. ولكنها لا تضمن إعادة الثقة والخلوص من كساد منتجها، وما يقال عن المزارع يقال مثله عن المصانع، طعناً في الكفاءة أو تشكيكاً في الأمانة أو نفياً للجودة أو غلاء في الأسعار، وإذا كانت الشركات الوطنية تواجه الاشاعات بتقارير مخبرية عالمية، تثبت خلو منتجها من كل العوارض المضرة بالصحة، فإن وزارة التجارة تتابع المنتجات، وتراقب المصانع، وتضع علامة الجودة والسلامة دون محاباة أو مواطأة، ولكن أكثر الناس لا يفقهون، والمصانع والمزارع تثبت سلامة منتجها، وتطلب المواجهة الشريفة، وهي قد فعلت ذلك عبر صحافتنا المحلية، وطلبت من المقترفين الاعتذار، أو توثيق مقولاتهم، ولكنهم لاذوا بالصمت دون اكتراث، وكان عليهم أن يعتذروا عما بدر منهم، أو أن يثبتوا دعواهم. ومن الأجدى حين تشاع الأخبار الكاذبة، أن تتواصل وسائل الإعلام مع الشركة، ومع الجهات الحكومية المعنية بالأمر، للتحقق من صحة ما يقال، وليس هناك ما يمنع من نشر الشائعة والرد الحاسم عليها، لإحباط الادعاءات الكاذبة، وليس من المصلحة أن يكون الاتهام ناجزاً، والبراءة نسيئة، ومنتجاتنا الوطنية بجودتها وسلامتها وغزارتها غزت الأسواق العربية، ولنضرب مثلاً ب(الوطنية) و(بسابك) و(بالأدوية) و(الأسمنت) و(بمنتجات التجميع) اضافة إلى كافة المنتجات الزراعية، الأمر الذي حفز الشركات العالمية على المواجهة غير الشريفة معتمدة على تلفيق التهم، وإشاعة الأخبار الكاذبة، ولا شك أن أي إشاعة لها أثرها، وحرب الشائعات أسلوب خطير، متى لم يكن المتلقي على وعي تام بالصراع العالمي، وإذا كانت الدوائر السياسية تعتمد على حرب الشائعات، وصناعة الكذب، فإن الاقتصاد هو الآخر يعيش الصراع نفسه، ولن تكون الأمة في مستوى الأحداث، حتى تعرف أسلوب التصدي لهذه الأساليب الذكية. وتعريض المنشآت الاقتصادية العملاقة للإساءة، يطال الأثرياء المتفضلين، والعاملين المستفيدين، والعملاء المستهلكين، ويصب في صالح رؤوس الأموال الأجنبية، التي يحرص ذووها على أن نأكل من غير زراعتنا، وأن نلبس من غير نسيجنا وأن نحارب بغير سلاحنا، بحيث نظل كما أراد (الحطيئة) لمهجوه: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ولا مراء في أن للشائعات عوائدها السيئة على حد: (قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً) والمثل العامي المصري يقول: (الرصاصة التي لا تصيب تدوش)، وفن الدعاية يضع حيزاً لنزع الثقة من المنافس، وقطاع الدعاية والإعلام والعلاقات في المشاريع قد لا يكون قادراً وحده على التصدي لفيوض الإشاعات، وهنا يأتي دور المواطن، فهو في النهاية راع في موقعه، وكما أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فهو كذلك على ثغر من ثغور الوطن، وواجبه أخذ الحذر، وتقصّي الحقائق، وما راء كمن سمعا، والرؤية تطمئن القلوب، وتقوي الإيمان، وفي هذا السبيل شهدت بعيني مشاريع اقتصادية تشكل ثرورة للبلاد، كمشروعات (الوطنية) من (الدواجن) و(الروبيان) و(الأغنام) و(الزيتون) و(النخيل) و(الأعناب) وحرصت على معرفة وسائل الجودة والسلامة، وأسلوب التسميد، والمعالجة، فما زدت إلا ثقة واطمئناناً، وتأكد لي حرص المسؤولين على السلامة والكفاءة، والخلو من أي عارض صحي، وحمدت الله على ذلك، وتمنيت لو أن كل مواطن أتيحت له فرصة الوقوف على المختبرات، والمعامل، والمجسات، والتجارب،والنظافة، واستخدام الآلة في الجني، والتعقيم، والتغليف، لكي يكون أكثر اطمئناناً وثقة، كما سمعت عن مشاريع وطنية مماثلة في مواقع متعددة من بلادي، يملكها أفراد، أو تديرها شركات، ولم أشرف بالوقوف عليها. ومشاريع الشيخ سليمان الراجحي التي خبرتها عن قرب، تبعث على الإعجاب والإكبار والاطمئنان، إنها ثرورة وطنية، وظف في سبيلها آلاف الملايين، وشغلت صحاري شاسعة، وشواطئ طويلة، واستقطبت كفاءات وطنية، وهو كما وصفه الأستاذ إبراهيم البليهي من عباقرة الاقتصاد والثروة البشرية للبلاد (الرياض 21/3/1423هـ) وهو خير مما يقول: «صدقاً، وأمانة، واحساناً، وتواضعاً. نحسبه كذلك، والله حسيبه»، ولما يكن وحده في الميدان فبلادنا والحمد لله غنية برجالاتها وبأثريائها، ولكن «زامر الحي لا يطرب» و «أزهد الناس بالعالم أهله» وكم في البلاد من أثرياء ناجحين، محسنين، يدعمون مرافق الصحة والتعليم والسياحة والثقافة والجمعيات الخيرية، وكم فيها من المؤسسات الخيرية والثقافية التي يمولها الأثرياء لوجه الله، ولم نجد من بيننا من يبادر إلى الثناء أو ينبري للدفاع، حين يتعرض أولئك أو تتعرض مشاريعهم للتعدي، وإذا كان مشروع الوطنية للدواجن يدفع إلى سوق الاستهلاك صباح كل يوم نصف مليون دجاجة، وضعف ذلك من البيض، وألف مولود من الأنعام، ومئات الأطنان من الفواكه، والتمور، والخضروات، والعسل، والزيوت، والطيور، والأسماك، والألبان، وإلى جانبه مشاريع أخرى، تصنع مثلما يصنع، فإن واجب المواطن دعم مثل هذه المشاريع الوطنية، ولو بكف الأذى، ومتى بدر منها تقصير أو ضعف، وهو متوقع، فواجبه التثبت أولاً، ثم المناصحة بالتلميح لا بالتصريح، وإذ يكون الجالب مهدياً فإن بناة الاقتصاد محسنون. ومن لم يشكر المحسنين فليس جديراً بالاحسان، وما أكثر الكفاءات الوطنية التي لا نشعرها بقيمتها، فالأثرياء، والعلماء، والأطباء، والمهندسون، والمحسنون، وكبار المسؤولين حين يخلصون، ويصدقون، ويتألقون، ثم لا يسمعون كلمة شكر، تذبل حيويتهم، ويشعرون بالإحباط، فكيف إذا تنكرنا لهم، وبادرنا في تلقف الاشاعات عنهم. لقد قيل عن شركات (التقسيط) فما أكترثنا، لأن فيما يقال مساعدة للمحتاجين، وتوقف الشركات عن (التقسيط) لا يضر بالمصلحة العامة، ذلك أنه عمل مالي صرف، لا يترتب عليه أضرار تطال المواطن، وقيل عن (المشروبات الغازية)، فما امتعضنا، ذلك أن منتجها من الكماليات، وقيلت كلمات صادقة ناصحة، فسعدنا بما قيل، ولما نزلْ بانتظار مقولات تحترم المصداقية، وتستبعد المثالية والملائكية. وافتراء القول عن المصانع والمزارع وسائر الشركات ذات النفع العام ينعكس أثره على مصلحة الأمة، ونحن هنا لا ندعو إلى الغفلة، ولا نحبذ غض البصر عن الهفوات، ولا نميل إلى حمد من لم يفعلوا، ولا نستبعد مرضى القلوب، ومن لا يحلو لهم العمل إلا في ظل الغش والاختلاس، وهؤلاء قلة نادرة، وغثاء كغثاء السيل، يذهب جفاء، وليس أمامنا إلا أن نتربص بهم خاتمة السوء، وأخذ الله القوي الأليم، فالله من ورائهم، ومن غش الأمة فليس منها: تاجراً كان أو مسؤولاً، وكل جسم نبت على السحت فالنار أولى به، والكسب الحرام يمحق البركة، وهو حسرة وندامة على أصحابه، فلا يسعدهم في حياتهم، ولا يريحهم في شيخوختهم، وإنما يكون وبالاً عليهم، يحملون أوزاره، ويضاجعهم إثمه في قبورهم، وتعود ثمرته إلى وارث، لم يَشْقَ في جمعه، ولن يحاسب عليه، ولن يدعو لمورّثه، ولا عبرة في الشواذ الذين خانوا الله والرسول، وخانوا أماناتهم. لقد أحسست أن هناك فجوة مفتعلة، بين المنتجين والمستهلكين، ليس لها أي مبرر، وكل عامل على توسيع الهوة مقترف ذنباً في حق وطنه وأمته، وعلينا أن نكون عيوناً واعية على مشاريعنا، لا ندع لها فرصة اللعب، ولا ندع للآخرين فرصة العبث في منجزاتها، وبلادنا بحاجة إلى جهودنا، وخبراتنا، وحمايتنا، ووعينا، والتفافنا، واعتصامنا بحبل الله على كل الصعد، لقد استهدفنا في عقيدتنا، وفي مناهجنا، وفي أخلاقياتنا، وفي أمننا، وفي اقتصادنا، وفي وحدتنا، وعلى الذين يتصورون أنهم آمنون أن يطوفوا عبر القنوات والمواقع والاذاعات والصحافة العالمية ليعرفوا حجم المكائد، ولن يحمينا إلا الفرار إلى الله. |
العقل والنص وغوايتاهما! 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل تمخض عصر المادة ووثنية العلم عن طوائف تطلق للعقل العنان، ليقول ما شاء عما شاء، مستدبرة وحي السماء، ناظرة إلى العلم والعقل على انهما مناط كل شيء، واصفة كل من سواها بالماضوية والنصوصية والسكونية والتسطح، ولأن كل تطرف يتولد عنه تطرف مضاد، فقد وهبت طوائف أخرى، تحارب العقلانية لا على مفهومها الغالي وحسب، وإنما بتجاوز ملغ لأهلية العقل، مصادر لحقه، تفعل ذلك نكاية في الذين يلغون النص في ظل العقل، والرصد التاريخي للتطور المعرفي، يمر بمصطلحات، يدور مدلولها حول آلية القراءة للأشياء ومنهجها: كالظاهرية، وأهل الرأي، والمؤولة، والسلفية.. وفي العصر الحديث نقف على مفاهيم أخرى، تشير إلى طرائق التعامل مع الأشياء ك«الجدلية» و«الشك الديكارتي» و«التفكيك»، والذين تدق نظرتهم، ويتزن موقفهم، يعطون ما للعقل للعقل، وما للنص للنص، ومع كل ذلك يظل الخلاف في المفاهيم والمقتضيات على أشده، لا في ذات الاطلاق وحده، وإنما يمتد إلى الحق والأهلية والمجال والتصور، وعلى كل الأحوال فالعقل والنص صنوان لا قيمة لأحدهما في غياب الآخر، بل لا وجود لأحدهما في غياب الآخر، ولا استقامة للحياة بدون نص محكم، وعقل حصيف متدبر، والعقل في النهاية طاقة ذهنية استرجاعية، في غالب أحواله، وليست طاقته انبثاقية إبداعية على اطلاقها، كما انها ليست كسبية محضة، إذ يضاف إلى الاسترجاع والكسبية الاختمار المعرفي، والاستنباط التفاعلي، وإذ لا يكون العقل هذا ولا ذاك، فهو تشكلٌ مزجي، من ذاتية التكون وكسبيته، وقدرة المتكون مرتبطة بأداة التكوين، ولما كان العقل مورد الحواس التقليدية، وتفاعل محصلاتها، ومجال توجيهها، كان مداة الإدراكي مرتبطاً بقدرة المكونات الخمس، والعلائق التي تنتج من معطياتها، وإذا كنا قادرين على تحديد إمكانات هذه الحواس، نكون في الوقت نفسه قادرين على تحديد قدرة العقل، أو تصورها على الأقل وتحديد القدرة، يحدد المهمة والمجال المتاح للتحرك، والعقول تختلف في مداها الإدراكي، من ذكاء وغباء، وكذلك الحواس تختلف قوة وضعفاً، وليس الحكم على الحواس مؤذناً بالحكم الطردي على العقل، بمعنى ان شخصاً ما يكون حاد البصر، قوي السمع، ولا يكون ذكياً في حين نرى الأصم والأعمى آية في الذكاء، وقد لا يكون كذلك، والمصطلح لا بد ان يكون حدياً، جامعاً مانعاً، والحواس توفي العقل ما كان، ولكن للعقل ذاتية مستقلة في الاستقبال، والتحويل، ورد الفعل المعرفي، والنص والعقل يقتسمان المهمة، ويتفاعل مؤداهما، لتأتي الحقيقة ناتج تلاقح العقول والنصوص، وبخاصة فيما يتعلق بقضايا الفكر والدين، وإذا حكّم العقل في غير مجاله، وأنزل النص في غير منازله، جاءت النتائج كما أشار المتنبي إلى «السيف» و«الندى» ووضع أحدهما موضع الآخر، ونظرية «التناص» تكاد تفوت على العقل فرصة البراءة في الطرح والخلوص إلى درجة الصفر في الكتابة. *، والعقلانيون الذين ينحون باللائمة على من سواهم، يحرفون الكلم عن مواضعه، فالسلفي المستنير المجتهد يبيح للعقل ما يستحق، ويأطره عند المقتضى النصي، والقرآن الكريم دائماً يربط بين العقل والحواس، ويخص السمع والبصر، لأنهما منافذ العقل الرئيسة {أّمً تّحًسّبٍ أّنَّ أّكًثّرّهٍمً يّسًمّعٍونّ أّوً يّعًقٌلٍونّ} الفرقان آية (44) {فّعّمٍوا وّصّمٍَوا} *المائدة آية( 71) {صٍمَِ بٍكًمِ عٍمًيِ فّهٍمً لا يّرًجٌعٍونّ} *البقرة آية (18) {أّفّأّنتّ تٍسًمٌعٍ پصٍَمَّ أّوً تّهًدٌي پًعٍمًيّ} الزخرف آية( 40)، والإسلام كرّم الإنسان بالعقل، وليس من المعقول ان يعطل مصدر الكرامة. وأمانة التكليف مرتبطة بالعقل، والقلم مرفوع عن الصغير والنائم والمجنون، لغياب العقل، ثم ان ربط العقل بالحواس دليل على تشكله منها، وهي في النهاية محدودة الإدراك، معرضة للخداع، والعقل بهذه الإمكانيات المحدودة أحوج ما يكون إلى النص، وأي فكر لا يخفق بجناحي العقل والنص فكر كسيح، نقول هذا، ونحن نعرف طاقاته الهائلة، وإمكانياته المذهلة، ومع ذلك لا نغفل جانب النص، وبخاصة عندما يكون قطعي الدلالة والثبوت، ولا نغفل دور العقل حين يكون النص احتمالي الدلالة والثبوت، فالفقهاء مجتهدون، والمفسرون توصيليون، والمحدثون موثقون، والكلاميون متأملون مؤولون، والفلاسفة محللون، وكل طائفة من أولئك تؤاخي بين «النص والعقل» والمؤاخاة تركيبة خلطية تحدد الخطأ والصواب، فالمفسر يختلف عن الفيلسوف في استغلال طاقات العقل، والمحدث يختلف عن الفقيه المجتهد في التعامل مع المتن النصي، وأهل الرأي من الفقهاء يختلفون عن الظاهريين، والمدرسة العقلية في التفسير تختلف عن المدرسة اللغوية أو أهل الأثر، وهكذا يتبادل النص والعقل الصدارة. وإطلاق العنان للعقل كما يريده الفلاسفة والعقلانيون من الوهم الجامح، الذي أضل كثيراً من أساطين الفلسفة والفكر، حتى بلغ الأمر بأكثرهم إلى الالحاد وحرية التفكير والتعبير حين لا تكون انضباطية، تفضي إلى الفوضوية والهلكة، ثم لا يكون إيمان، ولا مؤمن وقاف عند حد ما أنزل الله، والآخذون بعصم أولئك ينتهون إلى ما انتهوا إليه من الضلال، ذلك انهم اعطوا عقولهم ما لا قبل لها باحتماله، تقول بغير علم، وتحكم بغير سلطان، وتقلب الأمور. والعقل المستبد يفاجأ كل يوم بجديد، لم يكن له سابق عهد به، وهو تحت وابل هذه الظروف بحاجة إلى اعادة تشكيل واستشراف مستقبلي، ومنهجية دقيقة وابتعاد عن المواقف الانفعالية، التي تمكن للعواطف، وتهمش العقول، ولو ان العقلانيين قمعوا جماح عقولهم، وأطروها في مداها المتاح، لسلموا من تلك المزالق، ونجوا من هذه الموبقات، وخلصوا الإنسانية من متاهات الهلكة. فالمتزندقون يرددون: «اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا.. دين وآخر دين لا عقل له» فيما يقول النادمون: «نهاية إقدام العقول عقال».. ومن بوادر الصلف، وأمارات الغرور سخرية العقلانيين، واستهزاؤهم «بالسلفيين» الذين يقفون مع النص، ويؤمنون بالغيب، ويصرفون تفكيرهم عن الذات الإلهية إلى التفكير بآيات الله الواضحة المنبثة في الآفاق وفي الأنفس، ويعرفون انهم الأدرى بأمور دنياهم، وان الدين لا يمنع من التفكير، وان العقل مناط التكليف بل انهم يرون التفكير فريضة إسلامية، وقد ألف «العقاد» في ذلك كتاباً، ليقمع افتراء المفترين. ومعتزلة العصر المتهافتون على مناهج الغرب وآلياته بدون تأصيل معرفي إسلامي، يصفون الوقافين عند حدود ما أنزل الله بالنصوصيين المقلدين من باب السخرية وما تراهم يقولون إلا معاراً أو معاداً من قول الغرب في عملية تلفيقية بينة العوار، ولما يبرحوا رصيف الانتظار لكل قادم على مطايا الاستشراق ليكون استغراباً ليس لهم فيه إلا التكرار، والذي تتاح له قراءة الفلسفة منذ العصر اليوناني إلى العصر الحديث يدرك جنايتها المنفلتة من الضابط الشرعي على الإنسان، مع انها مصدر معرفي مهم، لا غنى لأي مفكر عن منجزها وآلياتها ومناهجها، وبخاصة فيما هو متعلق بعالم الشهادة، ولكن القول بغير علم مظنة الضياع والمروق، ومن تجاوز بنظره مسارحه الممكنة أتى بالعجائب، لأن مقولاته من رجم الغيب، والسلفية الواعية المستنيرة تعطي العقل ما له، ولا تعتدي على حق النص، والفرق الجوهري بين الطائفتين: ان العقلانيين يديرون النص في فلك العقل، فيما يدير السلفيون العقل في فلك النص، وحين تدلهم الأمور، لا يجدون بداً من القول: (لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك انت علام الغيوب) ومصطلح «النص» يتفاوت بين «الفقهاء» و«الفلاسفة» و«الأدباء» فهو عند الفقهاء: «ما لا يحتمل إلا معنى واحداً» ولهذا قيل: «لا اجتهاد مع النص»، ووجدها المغرضون فرصة للوقيعة، تعويلاً على اختلاف المفاهيم، إذ ان مصطلح «التناص» و«النصوصية» و«النص» عند الأدباء والنقاد مختلف جداً، فرؤيتهم له تنبع من رؤيتهم للكون والإنسان ومبدأ العلة، ف«الكلاسيكي» و«الرومانتيكي» و«الرمزي» و«الطبيعي» و«الماركسي» و«البنيوي» و«ما بعده» و«المقارن» لكل واحد من أولئك مفهومه المباين أو المناقض لمصطلح «النص»، وتحديد المفهوم يحدد نظرية التلقي والتأويل، وتلك معضلة يصعب تقحمها، وقراءة النص عند المفكرين والأدباء تختلف عن قراءته عند الفقهاء والمتكلمين والمفسرين، ذلك ان هؤلاء يحيلون إلى أصولهم وقواعدهم وآلياتهم ومناهجهم، فيما لا يكون لأولئك آلية ولا منهج، أو تكون آلياتهم ومناهجهم مفضية إلى الضلال.. ومستويات القراءة الحديثة، ونظريات التأويل والتلقي أضافت على المشاهد أعباء جديدة، أحلت القارئ محل المؤلف، ومن ثم أميت المؤلف، وتمركز القارئ، وأصبح سيد الموقف. |
الموت اليقين..!
د. حسن بن فهد الهويمل ليس هناك مولود اضحك بقدومه، الا وابكى عند فراقه، وليس لبشر الخلد، فكل نفس ذائقة الموت، وما من صرخة وضع الا وتعقبها انة نزع، تلك سنة الله في خلقه {وّلّن تّجٌدّ لٌسٍنَّةٌ الله تّبًدٌيلاْ}، {وّلّن تّجٌدّ لٌسٍنَة الله تّحًوٌيلاْ } الكون له نظام، وكل شيء بدونه عديم، وتلك هي سنن الله الثابتة، جعل الموت نهاية كل حي، يموت الانسان جنيناً او طفلاً او شاباً او كهلاً، او يظل حتى ارذل العمر، والعرب تقول:« ما رأيت علة كطول سلامة» فالموت غاية كل حي {وّكّانّ أّمًرٍ اللهٌ قّدّرْا مَّقًدٍورْا} والموت اليقين الذي لا يتقدم ساعة ولا يتأخر، قلَّ ان يكون مذكوراً، فنحن بين نعمتي: الامل والنسيان في غفلة عنه، حتى اذا لقيناه اخذتنا رجفته، واخذ بعضنا بعضاً بالاحضان في مواساة او تفجع، ومن لطائف الذكر الحكيم واعجازه البياني، ان الموت لا يلحق الهارب، ولكنه يلاقيه، والخوف ليس من الموت، فهو آت، ومعلوم بالضرورة، الخوف مما بعد الموت، {يّوًمّ تّرّوًنّهّا تّذًهّلٍ كٍلٍَ مٍرًضٌعّةُ عّمَّا أّرًضّعّتً وّتّضّعٍ كٍلٍَ ذّاتٌ حّمًلُ حّمًلّهّا وّتّرّى النَّاسّ سٍكّارّى" وّمّا هٍم بٌسٍكّارّى"} واذا كانت للموت هيبة فان لموت الاحبة في وقت غير متوقع رجفة، والمؤمن مطالب بالصبر والاحتساب، وهو بايمانه ممتثل لذلك، ساع الى ما يرضي ربه، وان بكت العين وحزن القلب فانه وقاف عند امر الله، صابر على قضائه وقدره، والبكاء والحزن رحمة جعلها الله في قلوب عباده «وانما يرحم الله من عباده الرحماء»، وامر المؤمن كله عجب: ان اصابته ضراء فصبر كتب له الاجر، وان اصابته نعماء فشكر كتب له الاجر. والله الذي اعطى فأوسع في العطاء، وانعم فأغدق في النعيم، واستعاد بعض ما اعطى له الحمد وله الشكر، و هو المنعم المتفضل في الحالين. وفاجعة الامير الشاب احمد بن بان يقف الجميع معه في مصابه، فكم وقف مع المصابين والمعوزين، وكم مسح ادمعاً، وضمد جراحاً، وادخل السرور على اسر فقدت اعز ما عندها، والفقيد الذي تبارى المؤبنون في ذكر محاسنه وافضاله حقيق بكل هذا، فهو الفارس الذي تصدر الرياضة الاسلامية كما يريدها الابطال. وهو الاعلامي الذي وقف في وجه الاعلام المناوئ، «والرياضة» و«الاعلام» حين يخترقان اجواء الآخر بهذه القوة وبذلك الاقتدار يكونان مؤشرين على كفاءة من ورائهما. والفقيد الذي رحل تاركاً اكثر من فراغ حقيق بهذا التأبين والتفجع في حدود ما يرضى الله، فلقد اثنى خلطاؤه ومعارفه والمتعاملون معه بما يعرفونه عنه، وما شهدوا الا بما علموا، وحين لا يكون لي شرف التعرف على مثله فان استفاضة الثناء من الخلطاء والمتعاملين والمصاحبين تزكية يغبط عليها، وبشارة خير، والله الاكرم يوجب الثناء للميت حين يستفيض على الالسن، وذكر محاسن الموتى من سنن الهدي، وتلاحم الامة مع قادتها يتجلى بأبهى صورة في الازمات والشدائد، وتلك نعمة ومنة من الله، وقد ذكر الله بها رسوله حين قال {لّوً أّنفّقًتّ مّا فٌي الأّرًضٌ جّمٌيعْا مَّا أّلَّفًتّ بّيًنّ قٍلٍوبٌهٌمً } ان مظاهر العزاء حين يشهدها المحرومون من الوفاق، يعرفون كم هو حجم التلاحم بين القادة والامة، وعزاؤنا الصادق ومواساتنا لصاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبدالعزيز ولوالدة الفقيد الصابرة المحتسبة التي لم تندمل جراح آلامها من ابنها السلف حتى واجهت المصاب الآخر بابنها الخلف، وعزاؤنا لزوجة الفقيد التي ستعيش مرارة الفراق متجدداً في ملامح ابنه وبناته ولاشقائه ولزملائه واصدقائه الذين فجعوا بفراقه غير المرتقب. |
قواعد للحوار مع أهل الكتاب
سلمان بن فهد العودة الحوار مع أهل الكتاب مقام يطول الحديث فيه، مع ضرورته والحاجة إليه، لكن هنا إشارة إلى بعض المعتبرات في قواعد ذلك على حرف مجمل: 1 الحوار مع أهل الكتاب يجب ان يكون لغة قادرة على التقويم والتعريف بالإسلام وأصوله وقضاياه، وموقف الإسلام العلمي من الديانة الكتابية (اليهودية النصرانية) أي: التقييم العلمي في الكتاب والسنة للديانة الكتابية، والفرق بينه وبين الموقف التطبيقي مع أهل الكتاب. وهذه قاعدة عقلية فاضلة في مقام جمع المختلف أو رد الاثنين إلى الواحد، فيعتبر المختلف بالمؤتلف، والثنائية بالأحدية، وهذا معتبر أيضاً بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما في الصحيحين، ويتبع هذا تصحيح الفهوم المنحرفة، وردها إلى الصدق الذي جاءت به النبوة الخاتمة. 3 يفترض عدم المبادرة بالتصريح بالمفهوم الإقصائي الإلغائي كمقدمة أولية. إن الإقصاء للديانة المحرفة وإن كان حقاً، لكنه في مقام الحوار يفترض ان يكون من المبادئ الثانية التي تكون نتيجة علمية لزومية، وليس مبدأ ولائياً مجرداً. ثمة فرق حين يحصل الإقصاء من نتاج النظر الصحيح مع التقرير العلمي فيكون ضرورة عقلية ملحة، أو يكون لغة ولائية مبدئية، هذا الثاني مقامه الخطاب الإسلامي، لا الحواري مع أهل الكتاب. 4 يفترض أن يكون تحصيل الإقناع معتبراً بالقضايا الأساسية في الإسلام، واستعمال المبادئ العقلية الكلية المصدقة لهذا. إن الحوار يجب ان يستعمل لغة واعية قادرة على الإلزام العقلي، ولهذا أيّد الرسل بالآيات والمعجزات المختلفة. 5 كما يفترض استغلال واقع الكتابيّين العلمي والخلاف في المفهوم الأساسي في كثير من القضايا داخل التجمعات الطائفية، اليهودية، والنصرانية، والتاريخية والواقعية. 6 من المهم ألا تكون القضايا التي هي موضوع الحوار قضايا حسمها الإسلام بمبدأ التسليم الإيماني، بل تكون موضوعات قبليَّة يمكن من ليس معه مبدأ التسليم وهذا حال الكتابي ان يجد له موقع تعامل مع موضوع الحوار. إن الحوار غير المطالبة، هذا قدر لا بد من إدراكه. 7 من المبادرات المهمة في مقدمة الحوار التعريف بمقام موسى بن عمران، وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام والأثر السماوي في دين أهل الكتاب، واعتراف الإسلام بهذا، حتى فرَّق في المعاملة بين الكتابيين وغيرهم. 8 محاولة فك المفهوم الولائي عن مادة الحوار، واستبعاد اللغة الولائية الخاصة. 9 الدخول على الكتابي من خلال الإشكاليات المعقدة في الديانة الكتابية، ولا سيما النصرانية، خاصة ان هذه الإشكاليات تحتل موقعاً أساسياً في الديانة. 10 فشل الديانة الكتابية المحرفة في التطبيق الاجتماعي والإنتاجي (تجارب الكنيسة مع العلم). 11 اعتبار الآثار العلمية في الوحي الإسلامي (القرآن والحديث) الإعجاز العلمي، والقدر الجاد منه، دع عنك ما هو من باب التظني والحشد. * إلى غير ذلك من آليات الحوار. وما أشرت إليه مناسب لمقام أهل الكتاب لا يناسب على هذا الوجه سائر الكفار أو من كان مخالفاً من المسلمين، بل لكل مقام مقال، وإن كان ثمة قواعد مشتركة في الحوار أياً كان موقعه، وحجة القرآن الكريم هي أعظم الحجج؛ لما فيها من الثبوت القطعي وقوة الدلالة، وترسيخ المبادئ والأصول والقواعد الكلية، التي يفضي التسليم بها إلى القبول بما وراءها. وأما المصادر في النصرانية، فقد صنف علماء الإسلام في هذا مثل: (الجواب الصحيح) للإمام ابن تيمية، و(هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) لابن القيم، وما ذكره أبو محمد بن حزم في (الفِصَل) والشهرستاني في (الملل والنحل)، والرازي في (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين) قدر كبير من القول، وفي التصنيف المعاصر والقول في النصرانية المعاصرة كتابات كثيرة شهيرة، ومن الكتب في هذا كتب الشيخ محمد أبو زهرة على بعض الملاحظات، والله يتولانا جميعاً، وهنا فإن أفضل اعتبار لحال النصارى وأقوالهم هو ما ذكره القرآن، وهذا مقامٌ معرفته متيسرة لسائر المسلمين، ومن تدبَّر القرآن في الآيات التي يذكر فيها النصارى وأهل الكتاب تحصل له علم كافٍ وتقدير لهذا الموضع. والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
فيلسوف الموت يموت..!
د. حسن بن فهد الهويمل ما رأيت مفكراً شغله الموت، وأخافه إلى حد الهلع، وأفرغ جهده الفكري والفلسفي في سبيل استكناهه، مثلما فعل (عبدالرحمن بدوي 1917 - 2002م) الذي عاش عذابات الغربة، ونكد العزوبية، ومرارة الحياة، ورهبة المطاردة من الساسة والمفكرين والأكاديميين، حتى قضى حياته حاقداً ومحقوداً عليه، متعاظماً بذاته وبمبْلغه من العلم. ومع ذلك الكيد الممض طاف جامعات العالم ومحافلها العلمية والفلسفية، وأسهم في التعليم والتأليف والتحقيق والترجمة، ووضع المناهج، وخلّف وراء ظهره مائة وخمسين مؤلفاً، تُرجم بعضها لأكثر من لغة، واعتمد البعض الآخر كأهم مرجع للدراسات العليا في جامعات العالم. وما ان علمت بموته المتوقع، هرعت إلى مكتبتي لأجد حقله فيها واحداً من أهم حقول الفلاسفة المعاصرين، من أمثال «زكي نجيب محمود»، «وفؤاد زكريا»، «والعقاد»، «ومحمد أركون»، «وحسن حنفي»، «والجابري» وحقول فلاسفة الغرب، أمثال «كانط» و«ديكارت» و«سبينوزا» و«كير كجرد»، و«سارتر» وكان آخر مشاويره التأليفية كتابيه الإسلاميين في الدفاع عن القرآن والرسول، وسيرته الذاتية التي ألهت الوسط الإعلامي والفكري ساعة من نهار، لكونها ملحمة هجائية مقذعة، في مجلدين، نيفا على سبعمائة صفحة، ولما تنته بعد، ولكن الموت سبق إليه، تاركاً بقايا الغضب يتجمد على شفتيه، ويخبو في صدره، كما البركان الخامد. وفي هذه السيرة عرض معرفي لبدايات حياته العلمية واهتماماته في «الأدب» و«اللغات»، «والفلسفة»، «وعلاقاته بأساتذته العرب والمستشرقين»، و«رحلاته في طلب العلم والتعليم»، و«حضور المؤتمرات»، وفيها إلى جانب ذلك تصفية لحسابات وثارات قديمة، آلت به إلى الغربة والحرمان، واضطرته إلى الشح والتقتير. لقد سعيت جهدي بحثاً عن تلك السيرة الضجة، وكنت يومها على وشك مناقشة رسالة أكاديمية عن «أدب السيرة الذاتية»، وفي صدد تحكيم آخر في «أدب السيرة»، وكنت من قبل ولمَّا أزل حفياً بسير أعلام النبلاء من علماء ومفكرين وفنيين وساسة، وبخاصة ذات الطابع الروائي، ممن يملكون موهبة قصصية، فكان ان بعثت بها إليَّ تلميذة وفية، نقبت عنها في مكتبات مصر، وحين حيزت لي، مع طائفة من المقالات والمقابلات التي جاءت في أعقابها من مقربين وأباعد، أصبت بخيبة أمل، وتمنيت أنه لم يفعل ما فعل، وكنت على وشك الفراغ من قراءة سيرة ذاتية متميزة «لادوارد سعيد»، «خارج المكان» بأسلوبها وحركتها الداخلية، وقد نقلها إلى العربية «فواز طرابلسي». والحق ان سيرة «بدوي» بهذا المستوى اللغوي والفني والموضوعي لم تكن من أدب السير الفنية المتميزة بأي مقياس، وإنما هي خواطر وأحداث ومعلومات وتاريخ لقضايا متنافرة، كتبها في خريف العمر والسمعة معاً، بحيث أومأ إلى التاريخ السياسي الحديث لمصر «ص46» ووعد بمزيد من التفصيل، وتحدث عن التاريخ الأكاديمي «ص55» ولما ينفك من الحديث عنه عبر أشواطها الدلالية، وعن «المؤتمرات» وبخاصة ما يتعلق منها بالمستشرقين، وتناولاتهم لفلاسفة الإسلام، جاعلاً نفسه الراوي والبطل والخصم والحكم. غير ان الشيخوخة والمرض أقعداه، ولما ينته من نفثاته الحرّى، والسيرة التي اشتعلت كما «نار الورق» خبت، وكأنها لم تكن، لفقدها مقومات البقاء، إذ لم تكن «كالأيام» لطه حسين أو «سبعون» لميخائيل نعيمة أو «غناء البجعة» لزكي محمود فهي الأقل جاذبية من بين عدد كبير من السير والذكريات والأيام، وأحسبها لا تطاول قاعة الفيلسوف الوجودي، الذي ترك بصمات واضحة في المشهد الفلسفي الحديث، وبخاصة فيما يتعلق بفلسفة الوجود، التي جذر لها في أقسام الفلسفة في الجامعات المصرية، وفي جامعات «الكويت» و«لبنان» و«ليبيا» التي عمل فيها ردحاً من الزمن. ومهما اختلفنا معه، فهو قامة شامخة، لا تطاول في مجال الفكر الفلسفي القديم والحديث، وأحسبه الأفضل في تحرير الفلسفة اليونانية، ويكفي أنه كتب عن «أفلاطون» و«أرسطو» أكثر من عشرة كتب. لقد حرصت على الظفر بسيرته مؤملاً حكايتها عن المسكوت عنه، وكشف ما غمض من تحولاته، علماً أنه الفيلسوف «السكوني» الذي توقف عند الوجودية ومستشرقي الخمسينيات الميلادية، ولم يتعمق في الظواهر الجديدة «كالبنيوية» التي أشار إليها بمستوى مثقفي السماع «ص26/2» واصفاً التحولات بالبدع الفكرية، وكنت أود لو أنه كتبها في الخمسينيات من عمره، ليبرز سيرته العلمية بوصفه منتجاً ثر العطاء، قادراً على تعرية التيارات الفلسفية القائمة على أشدها إذ ذاك، ولكنه لم يفعل، ومن ثم جاءت سيرته نفثة مصدور ورفسة ذبيح، فخصومه السياسيون والأكاديميون ذبحوه من الوريد إلى الوريد، مستغلين جنون العظمة عنده، بحيث ألجؤوه إلى الهجرة والانزواء في فندق «لوتيسيا» الشهير في فرنسا، يهيم على وجهه رابعة النهار دون هدى، ثم يأوي إلى غرفته كالخفاش في عتمات الليل دون أنيس، يجتر ماضيه الذي غيّر وجه الفلسفة، ويتحسر على أمجاده التي أضاعتها غطرسته، فلقد كانت أسرته من ذوي الأطيان والسيادة، ولكنه لم يصن هذه الأمجاد، وما نقم من الثورة والثوريين إلا لأنه أحد ضحاياها في عمليات الإصلاح الزراعي، بمراحلها الثلاث. والغريب ان كل أساطين «الإلحاد» عوقبوا بالتشرد والضياع والانطفاء، وعلينا استعراض حيوات «رسل» و«نيتشه» و«سبنسر» و«شوبنهور» و«سارتر» وبدوي فيما لقي من لداته، وفيما هو عليه من علم غزير يشبه «زكي مبارك» الذي مات مخموراً من القهر الذي تعرض له على الرغم من علمه الواسع وثقافته العميقة. والمؤسف ان خصومة الأنداد في مصر عنيفة وقاسية، وغير أخلاقية، حتى لقد ضاع عدد من المفكرين بسبب المكائد التي لا تليق بصفوة الفكر والأدب، وصراع العمالقة في مصر ليس من المعارك الأدبية والفكرية التي تسعى إلى تحرير المسائل، وإنما هي ضغائن ومكائد وتنافس غير شريف، تنتهي بتصفية إحدى الطائفتين، ولقد تولى «طه حسين» كبر هذه المعارك الدنيئة، ولربما أعود إليها متقصياً ضحاياها، وما تركته من سلبيات. لقد ضاع «عبدالرحمن بدوي» مع من ضاع من رواد الفكر والفلسفة، ولسنا آسفين على ضياعه، لأنه نتاج العمل الاستشراقي في الجامعات المصرية، ولأنه ممن مكَّن للفلسفة الوجودية الملحدة، مدعياً ان لها جذورها العربية، ضارباً المثل «بأبي حيان التوحيدي»، بوصفه رائد الوجودية العربية، وما هو منها بقريب. وما لقيه من الساسة والفلاسفة جعله يكتب سيرته بقلم يتميز من الغيظ لم يتورع، ولم يعف عن أعراض الأموات، فلقد نال من «جمال عبدالناصر» ومن «محمود فوزي» ومن زعماء مصر قبل الثورة، وبخاصة «سعد زغلول»، ونال من الأزهر وعلمائه، ولم يثن إلا على الأقل «كمصطفى عبدالرازق» ومما قاله عن «عبدالناصر»: - «هكذا كانت وستكون تصرفات جمال عبدالناصر خارجياً وداخلياً تصرفات حمقاء طائشة لا تحسب حساباً لأي شيء غير الدوي الأجوف العقيم حول شخصيته مهما ترتب عليها من خراب وويلات لمصر وشعب مصر ومكانة مصر في المجتمع الدولي «ص238/1» وقال عن «فوزي» ماهو أدهى وأمر، وقال عن علماء الأزهر: - «وشيوخ الأزهر بطبعهم طماعون حاقدون يأكل الحسد قلوبهم.. لا يتورعون عن استخدام أخس الوسائل: من وقيعة ودس ووشاية واختراع الأكاذيب» «ص62» وفي المقابل مجَّد المستشرقين أمثال «أندريه لالاند» وأوغل في النيْل من زملائه ولداته من أمثال «العقاد» «وفؤاد زكريا»، ومن الأقسام العلمية، وبعد الخمسينيات أسقط من حسابه أقسام الفلسفة في البلاد العربية والأوروبية مستخفاً بكل ماهو قائم. لقد استحر القتل في سيرته، وسالت دماء بريئة وأخرى مدانة، ومع ذلك لم يتوفر على لغة جميلة، ولا على تميُّز فني، ولا على تماسك موضوعي، على الرغم من جودة لغته وأدبيتها فيما كتب في غير السيرة. وتحت عجاجة الهجاء المقذع تحدث عن جوانب كثيرة من حياته العلمية والفكرية والعملية والسياسية، عرض للسياسة في «مصر» وفصل القول عن السياسة والدين في «إيران» وكأنه ألصق حديثه عن «إيران» إلصاقاً، ليختتم به سيرته. والغريب أنه لم يذكر شيئاً عن وجوده الأطول في الكويت، فيما أفاض بالحديث عن وجوده في «ليبيا» و«إيران» مما أثار حفيظة «محمد الرميحي» «الحياة 17/5/1423هـ»، لقد بدا في سيرته متغطرساً مدلاً بعلمه وعمله، وهو حقيق بأن يدل، لولا ان سمة العلماء التواضع، وخفض الجناح، ولكن أنى له هذا، وقد طورد في رزقه وعمله، وحيل بينه وبين أبسط حقوقه، وفي ركاب الهجاء، أشار إلى ظواهر فلسفية وطائفية ومذهبية إشارة عجلى، وأفاض بالحديث عن عمله في «ليبيا» وعن سجنه، وملابسات السجن، وتطورات الأحداث، ومتابعة «أنور السادات» لاخراجه من السجن، ولم يأت من يقول الحق عن أسباب سجنه، ولعل إجابة أخيه «ثروت بدوي» واحدة من تخمينات السبب. وهو قد كتب عن سيرته الذاتية، وعن مذهبه الفلسفي، حين ترجم لنفسه بوصفه فيلسوفاً وجودياً في «موسوعته الفلسفية» التي تقع في مجلدين كبيرين، وعدَّ نفسه الفيلسوف الوجودي الوحيد في الوطن العربي، «ص294ج1» وجعل مدار فلسفته: «الموت» و«الوجود» وهما موضوع رسالتيه للماجستير والدكتوراه، وقد لخصهما في موسوعته الجزء الأول «ص298 و306» والحديث عن الوجودية والوجوديين في الوطن العربي، وفي مصر بالذات حديث ذو شعب لايمكن استيعاب شفراته في كتاب، فضلاً عن مقال متخفف، لقد عرف عدد كبير من المفكرين ممن لهم اهتماماتهم الوجودية، ودخلت الوجودية في الأقسام الفلسفية في الجامعات المصرية، ونهض الأكاديميون للترجمة والتأليف والدراسة عن ظواهرها: الإيمانية والإلحادية، مثلما ألَّفوا وترجموا عن «الماركسية» ولكنه عمل غير صالح، «فتلك بيوتهم خاوية» وتلك أربابها يقلبون أكفهم على ما أنفقوا فيها «وهي خاوية على عروشها»، ولربما كان الاحتفاء بالوجودية حافزاً «لسارتر» على زيارة مصر والحديث عن قضية فلسطين، وبين التعالق والمفارقة اتهم البعض بالوجودية، «فالعقاد» عدَّ وجودياً، لقوله: إذا كانت الوجودية تعني الحرية والعدل والمساواة فإنني وجودي، على حد: إذا كان حب آل البيت تشيعاً فأنا متشيع، ومثلما أزلقت «الماسونية» طائفة من العلماء في سرابها، فقد فعلت «الوجودية» مثل ذلك، فالحرية والعدل والمساواة مطلب كل حي. وفي مجال التعلق بالفكر الوجودي ترجمت أعمال «جان بول سارتر» الذي نقم عليه «بدوي» وسخر من مقدرته، وإن ترجم أحد كتبه، ومما ترجم «لسارتر»: «الأبواب المقفلة» و«التخيل» و«المادية والثورة» و«تعالي الأنا موجود» و«الكلمات» و«ما الأدب» و«الوجود والعدم» «والوجود مذهب إنساني» وقد راد عبدالرحمن بدوي لهذه الحملة الوجودية، حين جاءت رسالتاه العلميتان عن الوجودية، ولمّا ينج من تعقب بعض المفكرين والراصدين للاتجاه الوجودي أمثال «الجابري» و«عبدالمنعم حنفي» و«فؤاد كامل» حتى لقد حكم عليه بعضهم «بالإلحاد» وماهو منه ببعيد. و«بدوي» الذي شغله الموت بوصفه مفردة من مفردات الوجودية اخترمته يد المنون أعزل من كل شيء، فلا زوجة، ولا ولد، ولا جاه، ولا مال، ثوي دون أي ضجيج. ولعل أقوى دراساته الأكاديمية وأمكنها في المذهب الوجودي رسالته «مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية» التي حورها بناء على رغبة أستاذه «لالاند» إلى «مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة» لأن «لالاند» يرى أن الوجودية «موضة» وبدعة لا قيمة لها، وتحول الإشراف إلى مستشرق آخر مكَّنه من العودة إلى وجوديته والرسالة لم تطبع بهذا الاسم، ويأتي كتابه «الزمان الوجودي» الأهم، وهو رسالته للدكتوراه، ومؤلفاته وتحقيقاته وترجماته، كلها تدور حول الفلسفة العالمية. منها المبتكرات، والدراسات الغربية، وخلاصات الفكر الأوروبي، والدراسات الإسلامية، والمترجمات. وله مؤلف مطبوع متداول تحت عنوان «الموت والعبقرية» يعد من بواكير مؤلفاته، ولم يشر في قوائم مؤلفاته إلى رسالة الماجستير «مشكلة الموت» فهل غيَّر في العنوان، إذ من المؤكد ان الرسالة كتابه المطبوع «الموت والعبقرية». و«بدوي» في النهاية فيلسوف وصولي نفعي، قسا في اتهامه، وكشف بخله وحقده أحد تلاميذه الدكتور «فؤاد زكريا» الذي زامله في «جامعة الكويت»، جاء ذلك في لقاء أجري معه، ونشر في كتاب «عبدالرحمن بدوي فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام» من تأليف الصحفي المقيم في فرنسا الدكتور «سعيد اللاوندي» الذي كانت له علاقات ومغامرات مع بدوي، وقد أشار إلى مواقف بدوي غير المقبولة من المفكر الكبير «عباس محمود العقاد»، ومن المفكر الجزائري «محمد أركون». وإذا كان بدوي علمانياً وجودياً اتهمه بعض دارسيه «بالإلحاد» فإن له عملين إسلاميين، صدرا قبل وفاته بسنتين، وترجمهما عن الفرنسية «كمال جادالله» أحدهما «دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره» والآخر «دفاع عن القرآن ضد منتقديه» وقد قصر دفاعه على القضايا العلمية الصرفة، والملفت للنظر ان «فؤاد زكريا» اتهمه في مقاصده نافياً إسلاميته قائلاً: «إنه يضع عينيه على جائزة خدمة الإسلام التي تحمل اسم الملك فيصل، وهذا جزء من حبه للمال، وهو مستعد ان يذبح نفسه في سبيل الحصول على هذه الجائزة» «ص115» من كتاب «اللاوندي»،ذلكم هو عبدالرحمن بدوي الفيلسوف الوجودي الشامخ شموخ الجبال، الذي خرج من مصر وأنفه في السماء، وعاد إليها وأنفه في الرغام. |
والمملكة بين: التخوين والتآمر..! (1/2)
د/ حسن بن فهد الهويمل لمَّا فرغتُ من الحديث عن (ثروتنا الوطنية بين: الخنزرة والسرطنة). تبدت فئات أخرى، تروج شائعات من الوزن الثقيل عن بلاد أذن اللّه أن تكون مثابة للناس وأمنا، بلاد يسبق أهلها قادتهم في الدعم المادي والمعنوي. والمؤلم أن الضالعين في الأذية ممن علمناهم (الرماية) ونظم (القوافي)، ولو أن ما يقال عن تلك البلاد وأهلها خطأ يحذر منه، أو تقصير يحث على تلافيه، لما كان في الأمر من بأس، فالسياق العربي -نحن جزء منه - بحاجة إلى من يرود له، ولايكذب، ويمحضهُ النصح، ولايشطط، وكم نودُّ ألا يكون بأسُنا بيننا شديداً، فنحن أحوج ما نكون إلى قطرة المداد وإلى كل العتاد، لمواجهة الحملات الشرسة: إعلامياً وعسكرياً، وليس هناك من بأس أن أكون مخطئاً أو مقصراً في نظر الآخر، لأن مثل ذلك من العوارض المتوقعة والمواقف المشروعة، وكل متحدث أو فاعل يؤخذ من كلامه أو من فعله ويرد، إلا المعصوم، وكل صغير أو كبير موقوف للمساءلة والنقد، فليس لأحد كائنا من كان أن يزكي نفسه، ولا أن يأنف من المساءلة، ورفضنا المشروع لإحالة الخطأ أو التقصير إلى الخيانة والتآمر وسوء النية. ولو سيق النقد والمؤاخذة لكل المشتغلين على مسرح الأحداث العربية لما كان هناك ما يلفت النظر. أما حين أكون وحدي مَثَلَ السوْء، ومادة التخوين والتجريم، فأمر لايحتمله إلا مهين و: من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام والأمة المتحضرة تقبل المراجعة، ولا تصعد حساسيتها من النقد، ولكنها تفرق بين الناقم الأجير والناصح الخبير، معرية الناقمين الأغبياء الذين يهتكون أستار حقدهم باستدبار الضالعين في الخطيئات والنيل من سمعة القائمين بالمهمات. وما من صادق ناصح إلا ويرحب صدره للنقد والمراجعة. ولا يخاف من كلمة الحق إلا الضعفاء، ولا يتأبى النظر في المرايا المقعرة أو المحدبة أو المسطحة إلا المرتابون، والمبصِّر بالعيوب كالمهدي، ولكن المتداول عبر الصحف المأجورة والقنوات الموتورة لا يمت إلى النقد البناء بصلة، والمسألة ليست (مرايا) ولا (إهداء عيوب)، المسألة حرب منظمة، وافتراء ما له من فواق، تتردد أصداؤهما بين الصهاينة المزروعين في المؤسسات الأمريكية والمأجورين المتسكعين في العواصم الأوروبية، يؤز هؤلاء وأولئك منتفعون من توهين الدور الرائد لهذه البلاد، وإيضاع الفتنة في جبهتها الداخلية، توقاً لخلخلة تماسكها، وشغلها بنفسها في زمن متفجر بكل الفتن. ومما أذكى الحساسية، وأثار الشك قيام من يزكي رؤوس الفتنة ومروجي الاتهامات، ومن يرى أن قالة السوء عنهم حسداً من عند أنفسنا، وصداً عما أفاء الله به عليهم من قول الصدق، ومن يسعى لحمايتهم ورد اعتبارهم، باسم الدفاع عن الحقوق، متهيئاً لجولة قضائية، تقطع دابر المدافعين عن حياضهم، وتكمم الأفواه المنتصرة لأنفسها. والمتعقب لخطابي المرافعة ضد جريدتي (الجزيرة) و(الوطن) يدرك ان صاحبهما لم يكن ملماً بأبجديات الأحداث السياسية، وليس على علم بفيوض الاتهامات التي تنهال من راجمات الترسانة البلاغية على قادة البلاد وأهلها، عبر صحف مهاجرة أو قنوات مناوئة، ولمَّا يعلم بعد أن من حق المعتدى عليه أن يرد بالمثل، وتصرف المحامي يحال إلى تسرعه وجهله بمجريات السياسة، وواجبنا ابتداءً مجادلته بالتي هي أحسن، وذلك: (أن الرفق بالجاني عتاب) حتى يتبين له الحق، فإن أصر واستكبر واستغشى حججه المسفسطة كان من حقنا التحرف لرد رادع. وإذا كان أعداء (الثروة الوطنية) يفترون الكذب بإشاعة الرداءة والغلاء فإن أعداء الأمة يمعنون في التشكيك بأمانتها وأهليتها، مؤكدين على خيانة العين وتآمر الفعل. ومع أن مثل هذه الهجائيات يتداولها من هم على شاكلة خطباء (الهايدبرك) إلا أنه وبعد أن أخذت الظاهرة بعداً قضائياً، أصبح لها شأن آخر. وعلى الرغم من كل هذه الحيثيات فإنني لست ممن يحبذ ملاحقة مثل هؤلاء، امتثالاً لثناء الله وأمره لعباده{الذٌينّ يّمًشٍونّ عّلّى الأّرًضٌ هّوًنْا وّإذّا خّاطّبّهٍمٍ الجّاهٌلٍونّ قّالٍوا سّلامْا} [الفرقان: 63] ولخاصته الذين {وّإذّا مّرٍَوا بٌاللَّغًوٌ مّرٍَوا كٌرّامْا} الفرقان: (72) ولكن التمادي في النيل، وتنويع قنواته ومواقعه، وتنظيم حملاته، والتركيز على القضايا المصيرية، وحصر الخيانة والعمالة فيمن أجمعت الأمة العربية ومعهم أهل الشأن على سلامة مقاصده ووفائه بالتزاماته، واختراق الجبهة الداخلية على مطايا المحاماة، لشرعنة النيل والتجريح وإدانة الدفاع عن النفس، كل ذلك يجعل الإنسان مكرهاً لا بطلاً، ويحمله على التفكير الجاد في الأمر، ولايكفي أن نرد بالمثل، بل لا بد من دراسة هذه الظاهرة العدائية، عبر مؤسسات تضطلع بهذا العبء الثقيل، وترسم أسلوب المواجهة. ومروجو الشائعات عن البلاد وأهلها، ليسوا من الناصحين الذين يحسنون الظن، ويتلطفون بالدعوة إلى الصواب، وليسوا ممن يفككون الخطأ حيث وجدوه دون مفاضلة أو انتقاء، وليست لهم مواقف تحمل على هيبتهم. والتصدي لهم أو المرور الكريم بلغوهم موقفان أحلاهما مر. والملفت للنظر، أننا نلاقي الشائعات المغرضة من (لوبيات) متناقضة ظاهرياً: من عرب يلعنون الصهيونية، ومن صهاينة يلعنون العرب، ومن ضالعين في العمالة، تعرفهم بسيماهم، ومن متشابهين كبقر بني اسرائيل، فيما نتلقى الثناء والشكور من زعماء العالم، ومن الصامدين تحت وطأة الاجتياح، ومن الصابرين المحتسبين في الأرض المحتلة، ومن زعماء المنظمات. فأي الفريقين أحق بالتصديق؟ ولماذا لا يلام أولئك على ثقتهم وثنائهم وتأييدهم لمواقفنا. وما كان لنا مجاراة ذوي هذا الخلق لولا أنه طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، وهمَّ بنا من لا يدفع عن نفسه، وحين مس أولئك شواظ التعرية، تحرفوا بغباء معتق، متسلقين محراب القضاء السعودي، معولين على نزاهته، راضين بحكمه على حد: -(فيك الخصام وأنت الخصم والحكم). وذلك التحرف المتذاكي يمثل تزكية للنفس، فاتهاماته المتتابعة صدق صريح ودفاعنا المتردد إفك مفترى، ولتأكيد الثقة اتخذ من المحاماة ونزاهة القضاء السعوديين برهاناً يخدع به السذج، معتمداً على ألوان الطيف في آفاق السياسة وعلى المحامي الذي نظر إلى الطعم ولم يع مزالق الطريق. ومع ان السياسة العالمية والعربية تقرأ على عدة مستويات، وفيها مغارات ومفازات كثيرة، إلا أن مواجهة الحق الصراح لا يبرره أي احتمال. وحتى لا نكون نشزاً، في سياقنا، ولا مثار تساؤل للفضوليين فإننا لن نقف عند تزكية النفس وتخوين الخصم، كما ان اعتراضنا ليس ضد النقد، ولا ضد المنافسة الشريفة، ولا على تنازع المصالح والأدوار، وإنما هو على التخوين والتشكيك بكل ما نأتي أو نذر من فعل أو قول أو صمت وعلى التغاضي عمن استدبروا القضايا أو عملوا ضدها. والغريب أننا في المؤتمرات نجلس حول مائدة مستديرة، حتى إذا خرجنا بموقف مشترك، سيئ الظن به، وأحيل التآمر علينا، دون شركائنا وإذا كان المتنصتون المحرفون للقول من بعد مواقعه صادقين مخلصين، فأين هم من أبناء جلدتهم المجندين لخدمة الصهيونية، أما كان من الأجدى والأهدى تعقب هذه العصابات العميلة التي سهلت اقتناص المجاهدين، وتوعية ضمائرها، أو تنبيه المجاهدين لأخذ حذرهم، وكيف يتأتى للصهيونية اقتناص القادة الناشطين الواحد تلو الآخر لولا خيانة المسكوت عنهم. وليس من شك أن متنفس الماكرين كون السياسة: (فن الممكن)، وممتهنوها أشد الناس عناء وتعباً وعرضة للنيل. وغنوصيتها جعلتها كالماء العكر، يكثر على شواطئها هواة الصيد. ومفاجآتها لا تمكن أبناء بجدتها من ترتيب أمورهم وأخذ حذرهم، فضلاً عن الفضوليين الذين يدرجون في عش ليس بعشهم. والمثاليون الذين يفترضون في السياسة الفضيلة والصدق والشفافية يصابون بخيبات الأمل، ويتعرضون للإحباطات الموجعة، فالحرب الباردة والساخنة خدعة. ومبدأ الكتمان يحمل قناصة المواقف على التخمين، وقراءة الكف، والضرب بالحصى، وزجر الطير. وكل أولئك لايدرون بما يدار خلف (الكواليس)، وما يتداول في (اللوبيات). والشفافية السياسية ضرب من الوهم، إذ لو شفَّت لما حصل المرتزقة على ما يسد الرمق، ولما نفذت اللعب الموجعة. والكتبة الذين يتعقبون ظواهرها وآثارها، لايقر لهم قرار، ففي كل يوم لهم معها شأن جديد، قد يكون مناقضاً تمام المناقضة لسالفه. وأصحاب المبادئ والمواقف يلعنون (ساس) و(يسوس) وما تصرف منها، لأنها تجر أقدامهم إلى مهاوي الانتهازية والتلون الحرباوي، ومع هذا فقدرهم أن يعيشوها بالطول والعرض. والخطاب السياسي خطاب مراوغ، كالمرآة في كف الأشل، بحيث تتعدد حوله الرؤى والتصورات، وهذه الظاهرة الحلزونية مكنت مسوقي التهريج من ترويج بضاعتهم، وتضليل الرأي العام، ومع تلك الإمكانيات لايقدر بعض اللاعبين على تزوير مفترياته، وكم من كذَبَةٍ استهلكوا كل الأقنعة، ولم يعد أحد منهم صالحاً للعمالة، وإذ تكون بعض اللعب كونية المجال فإن بعض اللاعبين يكون على مستوى الدولة، وكم من زعيم قضى حياته وهو يرقص على خشبة المسرح. والدول الحصيفة الواعية الحريصة على مصلحتها تتكلم وفق إمكانياتها، وتعمل على قدر أعماقها الاقتصادية والبشرية والسياسية والجغرافية، ولا تلقي بيدها إلى التهلكة، ولا تتردد في ارتكاب أهون الضررين، غير عابئة بالمحرضين ولا بالمخذلين ومن يدوكون ليلهم في رسم المثاليات حتى إذا أشرقت الشمس عرضوا على تصوراتهم فعل الشجيين، ثم راحوا يجرمون بالجملة، يفسدون ولا يصلحون ويزلقون ولايثبتون الأقدام. والمتورطون في اللعب الخطيرة من ينسون حجمهم وإمكانياتهم، ويدفعون بأنفسهم وسط تيارات جارفة، تطوح بهم بعيداً عن مصالحهم، وإن وفرت لهم هالة وقتية، لاتتجاوز مدة قضاء حاجة الكبار منهم، حتى إذا انتهى دورهم تركوا في العراء (كالعرنيين) يستطعمون فلا يطعمون، ويستسقون فلا يسقون، لأن عار اللعبة تلصق بهم سبة الدهر. واللاعبون الأغبياء يكونون أفراداً وجماعات ودولاً لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، ومثل هذه الممارسات تفوت على ذويها فرصاً ثمينة، وتلجئهم إلى الإفك والبهتان واستقطاب بائعي الكلام، المتسكعين على أرصفة الضياع، في زمن لايحتمل المزيد من الفرقة. ولأن السياسة تميل حيث تميل الرياح فإن المتطلعين إلى الثبوتية في العلاقات والمواقف تحبطهم التحولات المستمرة، ولهذا لا بد من ترويض النفس على معايشة الشيء ونقيضه، سواء جاء زعيقاً من الحناجر، أو دوياً من المدافع، دسيسة أو منابذة، من ذوي القربى أو من الأباعد. ومتى أكره الإنسان على المواجهة فليحاول الدفع بالتي هي أحسن. فالأمة مثخنة الجراح، وعلى موعد مع مزيد من الانهيارات المضرة، والحروب المدمّرة. والمحترف النابه من لا يسرف في الحب ولا في البغض، فصديق اليوم قد يتحول إلى عدو لدود في ذات اليوم، وعدو الأمس يصير في لمحة البصر وبدون أي مقدمات صديقاً غير صدوق، والطيبون يعيشون لحظة أبدية من الذهول والتعجب، فيما يملك المرتزقة أكثر من قناع، يمكنهم من إتقان الإضحاك في الأفراح والإبكاء في الأتراح، وعيونهم على جيوب الدافعين لثمن المسرحيات (الهزلية) أو (المأساوية)، غير عابئين بما يتركونه من خيال. وحين نقطع بأنه لا يدوم في السياسة إلا المصالح فإن علينا التكيف مع التقلبات، لمواجهة قدرنا العصيب. وتقلب الصداقات واستمرار المصالح قالت به حذام (التاتشرية) وهي امرأة حديدية، وإن بكت مرتين: -عند ضياع ابنها. وعند غرق إحدى فرقاطاتها الحربية في حرب (فوكلاند). ومع تقلبات الطقس السياسي، يكون الحاذق وسطياً، يعطي بقدر، ويأخذ بقدر، ويتقي بقدر، ويعادي ويصادق بقدر، ويبادل الطرف الآخر حديثاً (دبلوماسياً) يمتلك معه أكثر من مخرج، ويحتمل أكثر من تفسير، فالسياسي بحاجة إلى أن يقلب المدح إلى هجاء والهجاء إلى مدح، على شاكلة أبي الطيب مع (كافور الأخشيدي). وأنا هنا لا أريد من السياسة، ولا من الساسة أن يكونوا (ميكافيليين) لا أخلاقيين، في ظل ما يأتون، وما يذرون، ولست من دعاة الكذب وعدم الوفاء بالعهد، ولكنني لا أريد للطيبين أن يكونوا لقمة سائغة للمكائد، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه استعاذ بالله من ضعف التقي وجلد الفاجر. وعلى ضوء ذلك فإنه ليس من مصلحة الجادين ان يزعجهم كل ناعق، ولا أن يفت في عضدهم كل حاقد، وإن كانوا مضطرين في بعض المواقف لإسراج جياد الجهل لمواجهة مثلها، كي يحموا صفو أعمالهم ان تكدرا. وما لا أريده جر أقدامنا إلى الفعل العاطفي المفوت لفرص التأمل والتروي والتقدير والتوقيت، وإذا بليت بشخص لا خلاق له فليس شرطاً ان تكون كأنك لم تسمع ولم يقل، إنك بحاجة في كثير من الحالات إلى أن تستمع، وإلى أن ترد الصاع صاعين، (وإذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب): ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يتق الشتم يشتم و(لايسلم الشرف الرفيعُ من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم) وفي المقابل: ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم وبين (الذود) و(المصانعة) معادلة صعبة، لا يضبط إيقاعها إلا العالمون بخبايا السياسة. فكم من مهرج سادي، يود ان يتلقى الصفعات أمام النظارة، ليجعل من نفسه بطلاً قومياً، ومن ثم يكون المرور به دون سمع أو نظر تفويتاً لفرصته. والمتتبع للمشاهد كافة يرى عجباً، فالروائيون الذين لايُدهشون ب (اللغة) و(الفن) و(الموقف) يثيرون ب(المجون) و(الإلحاد) و(التمرد) والكتبة الذين لايشدون المتلقي ب (الموضوعية) و(الثقافة) و(الوعي)، يستفزون ب(الوقاحة) و(الادعاء) و(الافتراء) ولك ان تقول مثل ذلك عمن يتماسون مع السياسة تحت أي مسمى، حتى إذا استُهلكت كل الأقنعة، عاد كل مفتعل إلى فعله، ومنطلق إلى قواعده: سالماً أو معيباً، والطبع يغلب التطبع: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم |
والمملكة بين: التخوين والتآمر..! (2/2)
د. حسن بن فهد الهويمل وكلما زادت موضعة الأشياء، أعطت مؤشرات عن اتساع الاختلاف، وأهمية الذات المموضعة، سواء كانت ذاتاً حقيقية أو اعتبارية. والدولة الفاعلة المؤثرة مثيرة للتساؤل، مغرية بالدخول في خصوصيتها، وعليها رفع قدرتها على احتمال الفضول، والتمكن من التصدي والصمود. وبالمناسبة تذكرت تذمر مسؤول من الشائعات، وقولي له: وهلاّ قرأت ما قاله «العقاد» عن مؤشرات «العبقرية»، وما يتداول عن طلب موسى عليه السلام من ربه، أن يكف ألسنة الناس عنه، وقول ربه له: ما كففتها عن نفسي، وقول اليهود: «يد الله مغلولة». وهلاّ وقفت على مكائد «المنافقين» والرسول بين أظهرهم، ينزل عليه الوحي المحذر من إنزال سورة «تنبئهم بما في قلوبهم». والواعون لسنن الله في خلقه، لايعبؤون بأحاديث الإفك، ولايعطونها أكثر مما تستحق، ولايصنعون من المغمورين أبطالاً، وإن كان من حقهم رد الاعتداء بمثله، مع تحامي ردود الفعل، وقبول الاختلاف بوصفه من السنن الكونية، ومن لوازم الاجتماع الإنساني. والصراع اكسير الحياة، ولو لم يكن هناك عداوات وحزازات لسعى الإنسان لخلقها، وإن كان مراد النفوس أهون من التعادي والتفاني. و«حرب الشائعات» أسلوب معرفي، وسلاح نافذ، له أساطينه، وصانعو مفاجآته، والمخططون له. ومكاتب «صناعة الكذب» تعتمد في إحكام فعلها على العلماء والخبراء «النفسيين» و«الانثروبولوجيين» و«المفكرين» و«الساسة» ولهذا تأتي الإشاعة محكمة، لا تنضح الماء، ولايساورها الشك. وصناعة الكذب جزء من «الحرب النفسية» التي يمهد بها الأعداء لضرباتهم الحاسمة، وهي وسيلة قائمة على أشدها، لاينفك منها أي مجتمع، والدول ذات المصالح، تتخذ مختلف الأساليب، لتوهين الأطراف المؤثرة على مصالحها، أو المقللة من فرص الكسب السياسي والإعلامي والاقتصادي. ومن مؤشرات التميز والتأثير في الأحداث المصيرية ان تكون الذات الحقيقية أو الاعتبارية مادة حديث، ومصدر خلاف واختلاف، وهدفاً للحرب الباردة أو الساخنة. وإذا كان البعض منا يضيق ذرعاً بملفقي الاتهامات، ويرى فعلهم خروجاً على المألوف، فإنني أرى ما لا يرون. فيما أرى ضرورة ان تكون المواجهة بمستوى إمكانيات الطرف المضاد، وأهميته، وحجم أثره، وموقعه من الأحداث. ولكل من صناعة «البطل» و«العدو» و«الصديق» أسلوبها الذي لا يعيه إلا القلة. والذين لايكون لهم وزن في المشاهد، ولا يؤبه بحضورهم، ولا يحس بغيابهم، يستميتون من أجل أن يصنع الآخرون منهم أبطالاً، ويمارسون الممكن لخلخلة الصفوف، والنفاذ إلى دائرة الضوء، وقد لا يكون من المصلحة الالتفات إليهم، لتفويت فرصة الحضور عليهم، ومعاملتهم بنقيض قصدهم. ولا شك أن جر القدم للمواجهة، وتحديد نوعها وزمانها ومكانها جزء من التماكر. ووضع الطين والعجين في الأذن أسلوب من أساليب المواجهة. وحين يهب كتّابنا لمنازلة كل ناعق، يمكنون له في مطارح السياسة، ويهيئون له هالة ليس من أهلها. والهجاء حين لايلتفت إليه ثقة بالنفس واعتزازاً بالفعل، يتضاءل، ويضمحل أهله. وكم كان بودي لو بادرنا إلى ما يتداوله أولئك، فأعدنا نشره في صحافتنا، ودعوناهم ليقولوا ما بأنفسهم، فذلك العلاج الناجع لقطع دابرهم. وليس غريباً استهداف المملكة، لأنها شريك مؤثر، على كل الأصعدة، وصداقاتها التاريخية لها وزنها، والأطراف الضالعة تثمِّن أعماقها الاقتصادية والجغرافية والبشرية، وتحسب لمكانتها عربياً وإسلامياً، وفعلها قامع لكثير من ذوي السيقان الخشبية، والأقزام الذين يتمنون ان يحمدوا بما لم يفعلوا، وأن يذكروا ولو في التوقيع على بياض، يؤذيهم الانطفاء وسط الوهج، ويؤلمهم قضاء الأمور في غيابهم، وصرف النظر عنهم، وهم حضور، وثمن التميُّز باهظ التكاليف: «لولا المشقة ساد الناس كلهم... الجود يفقر والإقدام قتَّال» ويبدو لي أن مشكلتنا أكبر من صحفي لاينفك من صنع الأكاذيب، وأكبر من محامٍ يتصيد غرائب القضايا، وبخاصة أن قدرنا وضعنا بحجم إمكانياتنا ومكانتنا وإذ يكون أمام إعلامنا وكتّابنا مسؤوليات بحجم دولتهم ومهماتها فإن مهمات الجميع فوق التنابز بالألقاب، والعالم اليوم غيره بالأمس، والمشاهد مليئة بقضايا يشيب من هولها الوليد، ومخاضات الأحداث الجسام سيكون لها ما بعدها، والأفضل أن نكون بمستوى دورنا الفاعل، فالأمة العربية والإسلامية مقبلة على واقع عصيب، والذين يجدفون في المستنقعات الآسنة كهفيون، يظنون أن ورقهم متداول، وأن بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً ذا بال، والمملكة بما تضطلع به من مهمات، وما تنهض به من مسؤوليات، ليست قادرة على توسيع الجبهات وتعددها، إنها أمام أدوار قيادية، وعليها ان تمضي في طريقها، فإعراضها عن الجاهلين أنكى وأمر، والخطورة ليست فيمن يعلن عداءه، ولا يملك إلا عنتريات «الستينيات» العجاف، ولا فيمن يقبض الثمن البخس للوقيعة الكلامية، الخطورة فيمن يكيد في الخفاء، وفيمن يدفعون ثمناً باهظاً لتزييف الرأي العام. وبائع الكلام المتاجر بالإمكانيات البلاغية بوصفه ظاهرة صوتية، لا يشكل جبهة المواجهة، ولا يجب ان يقف إعلامنا بإزائه، فهو أهون من أن تراق الأحبار من أجله، وخير من ملاحاته إبلاغ صوتنا، وطرح ذاتنا، بكل ماهي عليه، وحين يضطر أحدنا لقراءة مثله، فالأفضل استدعاؤه بسياقه وأنساقه. وليست حالته بأسوأ من حالة الدال على مواقع الفدائيين، لتمكين العدو من اقتناصهم أو أخذهم أسارى. ولو أن المهرجين يحملون هم أمتهم، لوظفوا إمكانياتهم البلاغية للتعبئة العامة، والرفع من معنويات الصامدين، وحث المقصرين على الدعم المادي والمعنوي، والتخفيف من عَدْوِ المهرولين صوب العدو، والتودد إلى الداعمين للقضية، وشد أزرهم، ومؤازرة المطالبين بالمقاطعة بكل أشكالها، لكي يتقدم المخذلون والخارجون عن الصف خطوة واحدة صوب ما أخذت به المملكة طائعة مختارة من مقاطعة شاملة للعدو، وهو ما لم يتوفر عليه المسكوت عنهم. ومواقف المملكة من القضية التي تقاعس عنها الأدعياء المدّعون عرّضها لمواقف محرجة، وفوت عليها فرصاً ثمينة، وليس أدل على ذلك مما يتداوله الإعلام الأمريكي، وبعض المؤسسات الشورية والمعلوماتية في أمريكا من تحريض سافر ضد أمن المملكة ووحدتها واستقرارها. وما نيل منها إلا بسبب مواقفها المتصلبة من أجل القضية، ودعمها السخي ولم تكن المملكة في يوم من الأيام أشد ثباتاً والتزاماً بالقرارات الشرعية منها في هذه الأيام العصيبة. وعلى الباحثين عن الحق تتبع الحملات ضد المملكة في أنحاء العالم، والتعرف على دوافعها، والموازنة بين ما يروجه الصهاينة، وما يجتره العققة من أبناء جلدتنا، أفلا يكون هؤلاء وأولئك في خندق واحد لإثارة المملكة، وحملها على التخلي عن القضية؟ وها نحن نسمع من يدعو الدولة من المواطنين إلى التخلي عن القضية، حسماً للمشاكل، وإيقافاً لمثل هذه الحملات التي آذت البلاد وأهلها. وكنت أتمنى ممن جردوا أقلامهم لمواجهة «المحامي» و«المدعي» ألا يجاروا في تبادل الاتهامات، وألا يقطعوا الطريق أمام المحامي الموغل في الخطيئة، فإتاحة الفرصة لمثله، تكشف عن تسرعه. فلو تركنا له فرصة المراجعة بوصفه مواطناً له حق الملاطفة، ومخطئاً له حق النصيحة، ومتسرعاً له حق التهدئة، وجاهلاً لخبايا السياسة له حق التعليم، لكان خيراً لنا وله. فجهله بالأحداث السياسية، وانحصار همه في الكسب والدعاية أنسياه أشياء كثيرة، لو تأملها حق التأمل، لما أقدم على فعلته. وحين أقدم تحت أي دافع، كان عليه ان يتساءل عما جرى، وعن مشروعيته، لا أن يزكي موكله، ويدين قومه، وواجبه سرد التعديات على موكله، مقرونة بالوثائق، ثم ان المحامي الذكي لايقبل القضية الخاسرة، ولا يستمرئ ظلم ذوي القربى، وإفلاس الدعوى ألجأه إلى الخطاب الإنشائي الوعظي الذي لاينطوي على أي حقيقة ولا يتسم بلغة حقوقية. وإذ يكون من واجبنا نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، كان الأجدى رده عن ظلمه بالتوعية لا بالمواجهة، فالمجاراة مضيعة للحق، وبخاصة ان أمام صحافتنا وكتّابنا قضايا محلية وعربية وإسلامية وعالمية هم أحوج إلى الجهد والوقت والرزانة لمغالبتها. وفي سياق التدافع، أود الإشارة إلى أنه ليس شرطاً أن يكون المتنازعون معنا أعداء للقضية العربية بالتواطؤ والإصرار، وإن كانوا ضدها بالمآل، بحيث لا يواجهون، ولايدانون، ولايتهمون إلا بقدر موقفهم الخفي أو المعلن منها. وليس من الحصافة أن نحيل كل خصوماتنا مع الآخر إلى القضية الفلسطينية، ذلك أنها جزء من مهماتنا واهتماماتنا، وإن كانت في الصدارة، ولايعنينا أن يكون المتصدي لنا عبر الصحافة أو القنوات عميلاً للموساد، أو لا يكون، المهم أنه أجير جنَّد كل إمكانياته للإساءة إلينا، والتقليل من شأننا، والتشكيك في موقفنا من القضية، ولسنا بحاجة إلى شرعنة التصدي لخصومنا بالبحث عن مصادر تمويلهم، والأفضل من كل ذلك إبلاغ فعلنا بالوثائق والأرقام، وعدم ربط حضورنا بعوارض الأحداث، فنحن أمة تمر بنا الأحداث، ولا نمر بها، وتعرف بنا، ولا نعرف بها، ثم إن صيانة أعراضنا، وحفظ حقوقنا، والذود عن حياضنا، وتحقيق وجودنا الكريم بكل متطلباته الحضارية بالطريقة التي نراها حق لنا وعلينا. ولنا وحدنا تحديد أسلوب حمايتها، والأهم من كل ذلك أننا الأولى بالأمن والمعروف، بحيث لانجود إلا بما فضل عن حاجتنا، وبما هو وفق طاقتنا، وليس لأحد تحميلنا مايريد، ولا أن يسائلنا عن تراكمات الأخطاء العربية، ولا ان يحاسبنا عن تخلف الأمة وعجزها عن رد التعديات، ولا أن يربط مصيرنا بمصيره، فالأخطاء مشتركة، والضعف عام والعنتريات والمثاليات فوتت علينا كل الفرص. وليس مهماً ان يكون أعداؤنا وخصومنا مع القضية أو ضدها. فالذي يكيد لنا عدو مبين، سواء أساء للقضية أم لم يسئ، وبعدائه لنا على موقفنا منها، يكون مسيئاً لها، شاء أم أبى. وعند احتدام المشاعر لابد أن نفرق بين من يختلف معنا في الإجراء، وممن يناقضنا في المواقف والمبادئ، فالاختلاف حول الاجراء حق مشروع وفرصة للمراجعة، إذا تمَّ دون تخوين أو تجريم أو اتهام بالنوايا والمقاصد وجاء ممن يماثلنا بالدعم والمؤازرة. ومن حق الأباعد والأقارب أن يقولوا رأيهم، ومن حق الفلسطينيين بالذات أن يبدوا وجهة نظرهم، فنحن لانملك حق الوصاية عليهم، ودورنا يقتصر على الدعم والمناصحة، وعلينا مطالبتهم بالتدخل متى جاءت الأذية من فلسطيني يدعي مناصرة القضية والمثير للارتياب أن ماتواجهه المملكة ليس نقداً مشروعاً، ولا اختلافاً حول الإجراءات، إنه تدخل سافر في أخص خصوصياتنا، ووصاية فوقية، واتهام جائر، يطعن في مصداقيتنا. والمجندون لقلب الحقائق نسوا أنهم تحت أضواء الإعلام العالمي، وتحت قنوات الاتصال، ومراكز المعلومات. ونسوا أن نيلهم ممن رفض الاعتراف والتطبيع والتبادل بكل أشكاله إلا بعد التزام العدو بالقرارات الشرعية يُعد ضرباً للقيم العربية، سواء امتلأ حقداً وضغينة علينا، أو امتلأت جيوبه ثمناً لهذا الافتراء. ومصلحتنا تقتضي ألا نقف عند حد الدفاع والتكذيب وتبادل الاتهامات ما دمنا نملك الوثائق الدامغة. والذين يتهمون خصومهم بالعمالة «للموساد» أو لغيره يقفون عند حد الدفاع، والدفاع لايغني عن الحق شيئاً، ثم إنه لايعنينا أن يكون بعض خصومنا عميلاً لإسرائيل، أو لغيرها، إذ ليس غريباً ان يكون كذلك، متى علمنا أن شبكات التجسس والعمالة المتعددة المهمات ظاهرة لا مجال للاختلاف حولها، وكشف العملاء ليس قصراً على اعترافهم، أو ضبطهم متلبسين بالخيانة، إن الاستمرار في مواجهة الحق، والعمل على تخذيل الناصحين المخلصين، مؤشر قوي، ومشروع اتهام صريح. والذين يجندون أنفسهم لمواجهتنا في كل موقف، ويغضون الطرف عمن حولهم، يحملون الريبة، وتحوم حولهم الشكوك. وإشكاليتنا معهم ليست قصراً على الاختلاف في وجهات النظر، ولا في تعددية الرؤى والتصورات، الإشكالية في ضلوعهم في بيع الإمكانيات لتوفير النفقات الباذخة، فالحياة في بلاد الضباب، والسكن في القصور الفارهة، يتطلبان التزامات كثيرة، ومن ثم تكون الأفضلية لمن يدفع أكثر. والصحفي النزيه لايتجاوز دخله الكفاف. وحين لا يقبل المتولون يوم الزحف البقاء بين أهلهم وعشيرتهم فإنهم بحاجة إلى نزيف بلاغي لدعم متطلباتهم «الارستقراطية»، وليس مهماً عندنا أن يكون دافع الثمن «شارون» الصهيوني أو «سعيد» العربي المسلم، متى كان العائد لصالح أعداء القضية، ولكي نرد الكيد إلى النحور، ونميت الأعداء في غيظهم، لم ينالوا شيئاً، يكون الأولى بنا المضي في طريقنا القاصد، نطرح المبادرات، ونثني الأصدقاء عن دعم العدو، ونمد الصامدين بالغذاء والدواء، نرمم الجسور، ولاننسفها، ونتقي ولا نكابر، ونعرف قدر أنفسنا، وحجم إمكانياتنا، ونقول ما نفعل، نقاطع العدو، ونصيخ للناصحين، ونقبل الاختلاف في الطرائق لا في المقاصد، ولا نتردد في مطاردة الممولين للمسيئين لقضايا الأمة، نمسك الخيط من لسان العميل إلى أصابع المحرك، لنعري مسرح العرائس، ونفضح غباء اللاعبين الذين يكشفون أوراقهم بطرحهم إياها جملة عند كل إشارة من دافع الثمن. واللاعبون الأذكياء من يمتد معهم زمن اللعب، دون تعرية فاضحة أمام شرائح المتلقين الذين لا يعرف أكثرهم تمويه اللاعبين، وليس من الأفضل تصيد اللاعبين، إذ ان تجاوز طنين البعوض إلى المستنقعات أفضل من مطاردتها، فتجفيف المنابع يوفر أشياء كثيرة، والكتبة المرتزقة، والقنوات المجندة عوارض لمرض يختفي بفيروساته وجراثيمه، والطبيب الحاذق لا تلهيه الأعراض عن جذور المرض، وحين تحتدم مشاعرنا، وتشغلنا الأعراض، تكون الأصابع الخفية قد حققت أكثر من مكتسب، إذ تأكد لها تأثير فعلها بما حصل من استفزاز لنا، واستنزاف لطاقاتنا. وبهذه الغفلة تتمكن الحواضن من الاستمرار في تفريخ المرتزقة، بما يملكونه من طنين ولسع، وأذناب الأفاعي لاتغني عن أنيابها. وبفواتها يفوتنا شيء كثير، فلعلنا نستبد، ونلاحق المضلين إلى جحورهم، لكي نعريهم بكل تشوهاتهم. ثم إنه لا بد من كسب المناعة ورباطة الجأش، فالمشاهد العربية مقبلة على مزيد من القنوات الموجهة، لغسيل الأدمغة، وتضليل الرأي العام، يقدم المتحرفون للحرب الكلامية أمريكا وإسرائيل، والحرب الكلامية سيكون لها شأن خطير. والحديث عن ظاهرة «المناوئين» يمتد بنا إلى ظاهرة أخرى، تبدت من جديد، هي ظاهرة الدعاوى الحقوقية، ومحاولة الانتصار للجناة من مكاتب المحاماة. وقد سمعنا بأكثر من دعوى ضد صحف وصحفيين. وليس في الأمر من بأس، فطلب مكاتب المحاماة هنا أو هناك مقاضاة الصحافة وكتّابها تحقيق «لمحاكم الآداب» التي طولب بها من قبل، ولكن لابد من النظر في الحجج قبل العمل على اقتياد الخصوم إلى أقرب محكمة. واحسب أنه من حق الأمة كلها ان تنفر جميعاً لمحاكمة «المدعي» عما لقيته من اتهامات متواصلة. ولأن الأقربين أولى بالمعروف فإن على «المحامي» ان يقلب المعادلة، بحيث يقتاد «موكله» إلى المحاكمة، فإذا أنصفها، وكف الأذى عنها، كان من حقه أن يقاضي كاتباً أو أكثر فيما أشاعه عن «موكله». والمحاماة المتوفرة على القضايا والوثائق لا تعتمد في مرافعتها على الرقائق، والسعي لتصفية الخلافات بالدعوة إلى التنازلات، والمحامي المحترم للمهنة لايبادر إلى التزكية. ومرافعة المحامي داحضة لأنه ألح في تبرئة الموكل وتزكيته، وإدانة الخصم. وكنت أود من صحافتنا وكتَّابنا قراءة خطابي المحامي، ومساءلته عن وثائق البراءة للموكل، ووثائق الإدانة للخصم. ومثل هذا الإجراء سيسقط الوكيل والموكل. فالموكل وظف كل إمكانياته لتشويه سمعة المملكة: حكومة وشعباً، متصوراً أننا بقرة حلوب تحاسب على التقصير ولا تشكر على العطاء وعليها أن تقطع كل لسان بالدرهم والدولار والمحامي وظف كل إمكانياته لحماية الجاني وتبرئته، وكان عليه ابتداء مساءلة موكله عما قال بحق خصمه، وعما لديه من وثائق، وهل كان موقفه من الكافة واحداً، ومكياله واحداً، وحماسه واحداً؟ وساعتها ستنكشف اللعبة واللاعب، وتتهافت القلاع الورقية. |
الساعة الآن +4: 04:26 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.