بريدة ستي

بريدة ستي (http://www.buraydahcity.net/vb/index.php)
-   ســاحـة مــفــتــوحـــة (http://www.buraydahcity.net/vb/forumdisplay.php?f=2)
-   -   ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة .. (http://www.buraydahcity.net/vb/showthread.php?t=68334)

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:30 PM

الحقَّان: الفني والأخلاقي بين المعانقة والمفارقة
د. حسن بن فهد الهويمل


كلُّ من لاقيتُ يبدي خوفه، وإشفاقه على (أدبية السرد) و(شعرية النظم) من استفاضة مصطلح (الأدب الإسلامي) المستبطن ل (النقد الأخلاقي) بكل ما يقومان عليه من قمع ومصادرة للحق الفني ولحرية الفنان، وذلك ظن متسرِّع، فوَّت على المشهد الأدبي فرصة الاستقطاب للموروث والمجلوب، وعرَّضه لخطاب التّنافي.. وفي ضوء الفوات لا يجد المتحفّظون بداً من التردد والتساؤل.. ومن حق كل مستقبل أن يقدم بين يدي حديثه ما يشاء من تساؤلات عن كل نظرية لا يدري ما مرادها، لا لعدم القبول بحقها في الوجود، لكن لمزيد من الاطمئنان.. {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.(260) سورة البقرة.
و(النقد الأخلاقي) سابق لمصطلحه المستوعب له، وقد تقصَّاه دارسون أكاديميون، منهم الدكتور (محمد مريسي الحارثي)، والدكتور (إسماعيل عبد الخالق)، والأستاذة (نجوى صابر) في كتب ثلاثة، تختلف منهجاً ونتائج.. ومن واجب المسوّقين للمصطلح الأعم أن يبثوا الثقة في النفوس، وألا يصادروا حق الاستنباء، وعلى الذين يجدون في أنفسهم حرجاً ترويضها على قبول الحوار الحضاري، وإلقاء السمع لسائر الأطروحات.. فما من مصطلح جديد إلا ويكون مثار شك وتساؤل، ولا تثريب على أي مستقبل أن يسأل أهل المصطلح وخاصته، وأن يتأمل مفاهيمهم لمقتضياته، فهم أهل الذكر، وهم الأحق بالتقديم، وإزالة الخوف، ولا مشاحة، فالمشهد الأدبي يتسع لأكثر من خطاب، ولكن أين المتفسِّحون في المجالس؟
ومبعث الخوف رواسب المفاهيم المتضاربة، والتزييف المتعمَّد لمقتضيات ما جدَّ من مصطلحات، لم يستوعبها المتلقي وفق مقاصد ذويها، وكل جدل عقيم يستمد سداه ولُحمته من ذلك التضارب أو من تأليه الهوى والتعصب المذهبي.. وطلاب المعرفة يحسمون أمرهم باستكمال ما ينقصهم، أما المريبون فهم كمن يعمد إلى اللغو وعدم السماع، ولو أن الأطراف المتناجين التقوا على كلمة سواء، واقتصر همُّهم على البحث عن الحق، لكان أن تحررت المسائل، ولما هُدِّمت كيانات ومذاهب، وتيارات يذكر فيها القول السديد والكلم الطيب.
ومرادنا للجدل والحوار أن يحررا المفاهيم، وأن يبلغا مأمنهما.. والحقيقة كما سَقْطُ الزند، لا يُوْريها إلا الاحتكاك.. و(الأدب الإسلامي) الذي يتحقق بالنقد الأخلاقي أحرصُ المذاهب على المواجهات الحضارية، فهو يمتلك العمق التاريخي والحجة البالغة والاستجابة للفِطر السليمة.. ومتى أُتيحت له الفرصة لتقديم نفسه وطرح مشروعه، استطاع أن يقنع الباحثين عن الحق.. فالمشروعية التي يشكك بها البعض، ليست مجالاً للجدل، فكل حضارة لها فنها وأدبها ونقدها وأخلاقياتها، وليس من المعقول أن تتفلَّت مفردات الحضارة عليها، ولا أن تفر إلى الحضارات المضادة.. وقبول مفردات الآخر مشروطة بعدم التأثير على الثوابت.. فكل حضارة لها مع من سواها مساحات مشتركة، والعقلاء من يجنحون للتفاعل الإيجابي، ويستثمرون تلك المساحات بما يثري حضارتهم، ولا يذيبها في الآخر.
ولو ذهبنا نستنبئ المصطلح، لإثبات المشروعية والسلامة، لوجدنا أن مصطلح (أدب) ليس قائماً بنفسه، بل لا بد أن يضاف أو يوصف.. والمعنيون يحيلونه إلى عصره، أو إلى إقليمه، أو إلى لغته، أو إلى دولته، أو إلى دلالته، أو إلى حضارته. وما من أحد من أولئك تذمَّر أو امتعض من إحالة مصطلح (الأدب) إلى أي شيء مما سبق، ولو فُهم المصطلح بعد التركيب حق الفهم في ظل مشروعية الإضافة أو الوصف لكان أحقَّ من غيره بالمشروعية والحضور، فكل أدب لا ينتمي إلى حضارة، ولا يحيل إلى تراث أدب مجتث من فوق الأرض.
والمتصدون ليسوا سواء في مقاصدهم، وإنما تتنازعهم مواقف و(أيديولوجيات) مختلفة، وهدفنا من الحديث طرح القضية كما هي دون أي تمويه، ومتى فُهم المصطلح أصبح من اليسير الإقناعُ والاستمالة.. والنظر في (الحق الفني) في ظل هذا المصطلح المثير يستدعي (الحق الأخلاقي).. والإشفاق على الفنيات هي الحجة الواهية التي يستنجد بها خُصوم هذا الحق.. وإذ يقولون ما يبيتون: إن (الأدب الإسلامي) يأتي على حساب الفن والجمال والانزياح والمجاز والإيجاز وحرية الفنان، وإنه يقترف المنع من الانطلاق والحرية، وإنه يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وإنه يقيِّد الأدب في نطاق (الأحكام الفقهية) مما يفوّت على الأديب نصيبه من الفن، وتلك شنشنات أخزمية مللنا من سماعها والرد عليها، والبعض من أولئك يحيل إلى مقولات تراثية، تؤكد أن الأدب في معزل عن الدين، وأن الشعر نكد لا يصلح إلا مع الكذب، و(البحتري) يقول:




كلفتمونا حدود منطقكم
فالشعر يغني عن صدقه كذبه


وقد يكون لتخوف البعض منهم بعض المشروعية، متى عوّلوا على الوقوعات والآراء الفردية لبعض الأنصار.. والشيء الذي نُطمئن المتخوفين به، أن رقابة الإسلام لا تحول دون استكمال (الحق الفني)، فالإسلام حين يكون مهيمناً وشمولياً، لا يقمع الفن، ولا يقيّد المبدع، وكل دوره أن يضمن (الحق الأخلاقي) وأن يحول دون سفاسف الأمور التي لا يقبل بها أصحاب الفِطر السليمة.. وكم من قائل: إن (الأدب الإسلامي) قائم على حساب الخصوصية الإبداعية، والناهضون به لا يبالون بأي وادٍ هلكت سمات الفن الرفيع.. وتلك مفتريات أملتها طوائف تختلف في مشاربها ونواياها ومدركاتها، وكل متصدٍ لهذا المصطلح يحيل إلى المفاهيم الخاطئة.. والذين حسموا أمرهم، وخرجوا بقناعات أوحاها المشككون، ظلوا كما أشرطة التسجيل، يكررون القول ولا يملكون الاستبداد المشروع وفض النزاع وحسم الأمر في تفكيك المصطلح، فهو مكوَّن من مصطلحين:
- مصطلح (الأدب).
- مصطلح (الإسلام).
ولكل مصطلح مقتضياته وحيثياته، والجمع بينهما يعني استدعاء مقتضياتهما قبل التركيب.. ف(الأدب) مصطلح يختلف عن الفقه والتاريخ وسائر المعارف الإنسانية، إنه جماع الإبداع القولي، بكل ما يتطلَّبه من أركان وعناصر ولغة أدبية وصور بلاغية، لا يجوز المساس بها.. وإذا أطلقنا كلمة (أدب) تبادر إلى الذهن المعهود السالف لهذه الكلمة: فماذا تعني كلمة (أدب)؟
إنها تعني أدبية النص القامئة على الجمال والجلال والإمتاع والإقناع والاستمالة، ف (الأدب) لا يكون إلا بفنياته وشروطه ومقتضياته، وأنواعه الشعرية والسردية.
وإذا أخفق الشاعر الإسلامي في شيء من ذلك، فتلك مسؤوليته هو، وخطأ الممارسة لا يمس المبادئ.. فالمسلم يرتكب المحظورات، وقد يقترف الكبائر، ويتحمَّل ذاته المسؤولية، وفي الحديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).. ونحن نقول: لا يكون الشاعر الإسلامي شاعراً إسلامياً، وهو لا يمتلك الموهبة والتجربة والثقافة والأجواء التي تساعده على التَّألق، ويُقال مثل ذلك بحق السرديين والنقاد والدارسين والمنظّرين الذين يحيلون أخطاءهم إلى (الأدب الإسلامي)، فالمصطلح بريء من تجاوزاتهم وإخفاقاتهم، وكل نفس بما كسبت رهينة.
وضعف الإبداع يُحال إلى المبدع، ولا يُحال إلى المصطلح، وكم من الشعراء العرب الذين أخملهم ضعف ملكاتهم وضحالة مدركاتهم، ولمَّا يُحمِّل أحدٌ منهم (الأدب العربي) مسؤولية الإخفاق.. والقول بأن الإسلام أدى إلى ضعف الشعر قول له وعليه، لقد حصل الضعف، لكنه لم يكن هدف الإسلام، وإنما هو ناتج مرحلة انتقالية، تغيَّرت معها كل وجوه الحياة، بما فيها الشعر، إضافة إلى أن الانبهار ب(القرآن الكريم) أطفأ وهج الشعر، وزاحمه في الإمتاع.. فالضعف حاصل، لكنه لم يكن مطلباً إسلامياً، كما يدّعي البعض.. فنفاة الضعف وجاعليه هدفاً إسلامياً مخطئون، فالضعف حاصل، لكنه ليس هدفاً إسلامياً، والدخول في التفاصيل يند بنا عن متن الموضوع.
ولأن الإسلام اعتقاد في الجنان، وقول في اللسان، وعمل بالأركان، فإن المبدع حين لا يكون كذلك في السر والعلن، يضطره الانتماء للأدب الإسلامي إلى التّكلف، ليقول ما لا يعتقد في سره، فيبدو الخلل.. وقد يكون قوي الإيمان، لكنه ضعيف الملكة، ومن ثمَّ لا يستطيع أن يجلِّي، وقد يتوفر على قوة العقيدة وقوة الملكة، لكن التجربة والموقف والأجواء تكون دُون المؤمل، فيخفق، فيحال إخفاقه إلى انتمائه.. وطبيعة الحياة أن تتخلَّف بعض العناصر عن بعض المبدعين.. ولقد جاء رديء شعر (المتنبي) من هذه الإخفاقات، ولهذا تألق لمثله الأعلى (سيف الدولة)، وأخفق في الكثير من مدائحه ل (كافور) وكان ذلك مسرح النقاد، ومجال تعاملهم مع شوارده. ولكل شاعر متألق شعر رديء، لا يحال إلى مذهبه، وإنما يحال إلى لحظات المخاض غير المواتية.. والشعراء المخضرمون، وجدوا أنفسهم في أجواء إسلامية لم يألفوها، فكان أن تعثّروا شيئاً قليلاً، ثم استقام معهم الشعر، فاستعادوا تألقهم، وإذا أخفق الشاعر الإسلامي في الجوانب الفنية والذوقية في مرحلة من مراحل حياته، فإن مرد ذلك جدة الأجواء.. وما كان للأدب الإسلامي رؤية ذوقية ولا فنية تختلف عن (الأدب العربي).. والفهم الخاطئ للمقتضى والخصوصية جعل المناوئين يلتمسون (الأدب الإسلامي) ونقده على ضوء ذلك التّصور الخاطئ، حتى إذا لم يجدوه كذلك، استبعدوا إمكانية وجوده، مع أنه قائم بينهم، يتجلى من خلال القول السديد، والكلم الطيب، والمدح المعقول، والغزل العفيف، والنقد المعياري والذوقي المتوازن.
وإذ لا نجد مانعاً من التّصدي للشعراء والسرديين المنتمين إلى هذا الأدب ودراسة إبداعهم بآلية النقد العربي، ورد الرديء منه، فإننا نمانع من إحالة الإخفاق إلى الانتماء، ذلك أن الموضوعات والضوابط والالتزام لا ينعكس أثرها على المبدع بشكل سلبي.. ولقد روجع الشعراء غير الهجَّائين في ذلك، فقال قائلهم: من استطاع أن يصف بالكرم، يستطيع أن يصف بالبخل.. وكذلك الحال بالنسبة لشعراء الخمريات والغلمانيات والغزل الفاحش.. فحين يعف الشاعر المحتشم عن ذلك، فإن ذلك لا يكون ناتج ضعف، لكن العفة تحول دون ترديه في مهاوي الرذيلة.. حتى لقد خاف (زهير بن أبي سلمى) من عقوبة مصمية تسقط عليه كسفاً من السماء كلما تذكر قوله في آل حصن:



(وما أدري ولست إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء)


و (الأدب الإسلامي) حين يؤكد على المعاني الشريفة، لا يختلف موقفه الفني عما سواه من الآداب.. ف (الحق الفني) مطلب (الأدب الإسلامي) كما هو مطلب (الأدب العربي)، وما اختلف (الأدب الإسلامي) عن سائر الآداب العربية والعالمية في شيء إلا في جانب من البعد الدلالي المتمثِّل ب (الحق الأخلاقي)، فهو يؤكد على (شرف المعنى) قدر تأكيده على (شرف اللفظ)، وعلى حمل الهمِّ الإسلامي والذود عن حياضه، والاشتغال بما يهذب الأخلاق، ويربي الأذواق ويحافظ على الإمتاع واللهو البريء.. إن هناك جمالاً وجلالاً، فالجمال متعلِّق بالشكل، والجلال متعلِّق بالمعاني، و(الأدب الإسلامي) يحتّم السمتين: الجلال والجمال، فيما يكتفي البعض بالجمال.
ولن نضرب الأمثال فكل (أدب عربي) هو (أدب إسلامي) إلا إذا خالف نصاً شرعياً قطعي الدلالة والثبوت، وشرط (الأدب الإسلامي) فنياً ولغوياً هو شرط (الأدب العربي).. وما كان ل (الأدب الإسلامي) استقلالية في جوانبه الفنية والذوقية، بحيث تخص ذلك بدراسة مستقلة، ونعمِّق الجفوة بينه وبين سائر الفنون، وإنما القصد رد الافتراء.. نعم (الأدب الإسلامي) يرفض (العامية) بحجة واقعية اللغة، ويرفض (النثرية) بحجة أن (قصيدة النثر) لها حضورها، ولها روادها ونقادها، ويرفض (الإغراق في الغموض)، بحيث لا يدري الشاعر ما يقول، فضلاً عن المتلقي، ويرفض (خلق الأسطورة) التي تحول دون أدنى قدْر من التوصيل، ويرفض تقويض أركان الفن الروائي، بحجة انعدام الشكل الروائي.
ورفضه هذا مشروع، فكل ناقد عربي لا يمت إلى الأدب الإسلامي بصلة له رؤيته ومواقفه الرافضة.. ولا يدخل هذا الرفض في الأحكام الفقهية، لكنه يدخل في شروط الفن، وسلامة الأذواق، واستكمال شروط النوع الإبداعي. فالشعر له شرطه وسمته، والسرديات لها شروطها وسماتها.. ولا تعرف القصة إلا بسماتها.. ولا تعرف الرواية إلا بسماتها، ومن أخلَّ بشيء من ذلك تعرَّض للمساءلة المشروعة.
وتمسُّك الأدب الإسلامي بأصول الفن لا يحول دون التحرف للتجديد. و(الأدب الإسلامي) يضع كل شيء في نصابه، فلا يعد التخريب تجريباً، ولا الحداثة الفكرية المنقطعة تجديداً، ولا التّفحش في القول حقاً من حقوق المبدع، ولا الفوضى حرية.. ومع أن تلك الرؤى دُولة بين سائر النقاد في مختلف المذاهب، فإن تضخيمها بحق الناقد الأخلاقي جور وظلم.
وفي النهاية فإن (الأدب العربي) أصل ل (الأدب الإسلامي) وما اختلف الأدبان إلا في الأقل من البعد الموضوعي، فإذا رضي (الأدب العربي) بالعهر والكفر، واتسع لذلك فارقه (الأدب الإسلامي)، وإذا احتفى بالكلمة الطيبة والقول السديد عاد الأدب الإسلامي إلى حواضنه، على حد {.. إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ..}. ومن تصوَّر (الأدب الإسلامي) على غير ذلك فليأت ببرهانه إن كان صادقاً.
وجملة القول: إن الجوانب الفنية والذوقية قاسم مشترك بين (الأدب الإسلامي) وسائر الآداب العالمية، والأدب هو البوابة الأولى، والإسلام هو البوابة الثانية، ولا يكون أدب إسلامي حتى يبارك فنياته الأدب العربي، و(الحق الفني) و(الحق الأخلاقي) صنوان، وبهما يخفق الأدب في فضاءات الفن الرفيع.. وإذ نقبل طائعين أو مكرهين ب (الأدب) الوجودي، والحداثي والماركسي والواقعي والسريالي وسائر الإضافات أو الأوصاف فإن القبول ب (الأدب الإسلامي) حق مشروع.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:32 PM

الترويح وأثره التربوي..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


عندما يعن لي الحديث عن أي ظاهرة معرفية أو سلوكية، أحاول أن أحرِّر مفهوم الكلمة: لغوياً واصطلاحياً، وأن أتقصّى أمداءها فيما تيّسر من (الحضارات) البادية والبائدة، وأن أستشرف محطاتها الزمانية، إذ لكلِّ حضارة مفاهيمها وشروطها وتحوُّلاتها، بل ربما يكون لكلِّ (مصر) رؤيته، كما المذهب القديم والجديد للإمام (الشافعي) - رحمه الله -، وتحرير أيّ معلومة يُعَدُّ من المقدّمات الصحيحة، المؤدِّية إلى نتائج صحيحة. وإشكاليات المشاهد في اضطراب المفاهيم حول المسمّيات ومقاصدها. وما اختلف المتابعون حول المتداول بين العلماء والفلاسفة والمفكِّرين إلاّ عندما لا يكون تحرير المفاهيم والمقاصد لكافة المصطلحات والظواهر دقيقاً ومحدَّداً، وبخاصة الوافد منها، متى نقل أو عُرب ولم يُترجم. وكلمتا (ترويح) و(تربية) كلمتان عربيتا الأصل والمنشأ، ولكنهما بإزاء مصطلحات غربية مماثلة، قد يؤدِّي هذا التماثل إلى الخلط بين المقتضيات. والمصطلحان أكثر ارتباطاً بالمناهج التعليمية، وإن كان الترويح مقصداً إعلامياً وتربوياً في آن، إلاّ أنّه أكثر لصوقاً بالتربية، والتربية صنو التعليم.
ف(التعليم) إيصال المعلومة. و(التربية) تنمية الوعي وتوفير المهارات: الفكرية، والعلمية. فأستاذ النحو يعلِّم الطلبة أنّ الفاعل مرفوع وأنّ المفعول منصوب، وأنّ النواسخ ترفع وتنصب أو تنصب وترفع، وأنّها حروف وأفعال وأسماء، ولكن التطبيق العملي لا يتم إلاّ عن طريق (التربية)، فكيف يستطيع المعلِّم أن يحرِّك المخزون الحفظي، ويحوِّله إلى ممارسة عملية، بحيث يتحدّث الطالب ولا يلحِّن، ويكتب ولا يخطئ، وبحيث يوظّف مكتسبه المعرفي فيما يقول ويكتب ويفعل. وكم من حافظ لفن القيادة المكتوب لا يقدر على ممارستها. وكم من إنسان يحفظ المتون، ولا يقدر على الفهم، ولا يحسن الاستعمال ولا الاسترجاع، حتى لا يقيم كلمة، ولا يستنبط حكماً، وهذا هو الفرق بين التعليم والتربية، والحفظ والفهم، والنظري والتطبيقي. والتعليمُ الحشوي التلقيني يخرِّج حفظةً لا يتمثّلون.
و(الترويح) من حيث مدلوله اللغوي لصيق بالمدلول الاصطلاحي، والجذر اللغوي له دلالات متفاوتة، لا مجال لاستقصائها ومنها: الرواح، والمراوحة، والارتياح، والريح، والمروحة، والتراويح، وهي صلاة التهجُّد في رمضان. ومن حيث الاصطلاح: نشاط حركي أو استمتاع سمعي أو نظري يبعث في الممارسين الراحة والأنس، ويعيد نشاطهم الذي فقدوه في جد العمل أو يطرد السأم والملل والقلق الناشئ من الفراغ. وما من عامل جاد إلاّ هو بحاجة إلى الترويح عن نفسه، وفي الأثر:- (روِّحوا القلوب فإنّها تمل كما تملُّ الأجسام)، والترويح يتنازعه القول والفعل والاستماع والمشاهدة والاسترخاء. فالسباحة وركوب الدراجات والحيوانات وسائر الألعاب، وكافة الممارسات، تكون رياضة، وتكون ترويحاً، وقد تكون أداءً وظيفياً. والقصد وحده، هو الذي يحدِّد المقاصد.
و(الترويح) مصطلح اجتماعي ثقافي، يكثر تداوله في مجالي التربية والإعلام. ومقاصده الأولى كسب الراحة والسرور من عمل غير إلزامي، عملٍ تهواه النفس، وتميل إليه، عملٍ مفتوح، وليس محدَّداً، إنّه عمل حر ينطلق معه الإنسان وفق إرادته الشخصية. وهناك فرق بين مفهوم الترويح بوصفه ممارسة، ومفهومه بوصفه نتيجة، ومفهومه بوصفه أنماطاً وسلوكيات. والمعنيّون يفرِّقون بين المفاهيم. و(الترويح) يتحقّق باللهو واللعب وبالعمل الجاد، إذا ارتبط بالهوايات الصعبة، كصعود الجبال والممارسات الكشفية والتنقيب عن الآثار والتعرُّف على طبائع الحيوانات والحشرات والزواحف. ذلك أنّ ما تهواه النفس قد يجعل الممارس لأصعب الأعمال وأخطرها في حالة من الرفاهية والراحة، وفي الحديث (أرحنا يا بلال بالصلاة) وهي ثقيلة على المنافقين، ومن الناس من لا يقوم إليها إلاّ وهو كسلان. وحين لا تكون هواية غالبة، لا يتحقّق الترويح إلاّ باللَّهو المباح أو المحظور. وعندما نستدعي كلمة (لهو) قد يثار حولها أكثر من علامة استفهام.
ذلك أنّ من اللهو ما هو محرّم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح، والفقهاء يختلفون في حدود المباح. ومتعلّق المترخصين قول الرسول صلى الله عليه وسلم:- (إنّ الأنصار يعجبهم اللهو) وحضور الرسول صلى الله عليه وسلم مع زوجته عائشة (رقص الأحباش) في المسجد، وسماعه للشعر المستهل بالغزل، وإحضاره للجاريتين المغنِّيتين لبيت عائشة في يوم العيد. حتى لقد تفاوت موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع موقف (أبي بكر) و(عمر) رضي الله عنهما، فما أحضره الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة عدّه (أبو بكر) من مزامير الشيطان، و(عمر) حصب الأحباش بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. كلُّ هذه الممارسات والرخص دليل على أنّ في الإسلام أكثر من فسحة، ومنشأ الخلاف بين المجيز والمانع مراوحة الأحاديث بين الخصوص والعموم، وتحامي الهزل، والإغراق في الورع، وحمل الناس عليه، والأخذ بالعزائم، والتحفُّظ على الرخص، استبراء للدين والعرض، وبين هذا وذاك يدخل الناس في التنطُّع، أو ينفلتون من الضوابط المشروعة.
والفقهاء الأصوليون من أهل الاجتهاد يعرفون حدود ما أنزل الله، وموقف البعض من الغناء موقف شديد الحساسية إزاء موقف آخرين من ظاهرية ومتصوّفة. ولسنا هنا معنيين بتحرير الحكم، فذلك يُسأل عنْه أهل الذِّكر، ونحن تبع لهم فيما يقرُّه الشرع. وإشكالية الغناء أنّ الفرق الإسلامية والمذاهب الفقهية تفاوتوا في الأحكام. ف(الجمهور) على التفريق بين المباح والمحظور، و(الظاهرية) على التسوية في الإباحة، وطائفة من (المتصوّفة) يربطونه بالعبادة. ونحن هنا نود الحديث عن المباح من الترويح في كلِّ مجال لا في مجال السماع وحده، لأنّه مجال حساس، والفطر السليمة كما القلوب المستفتاة عن البر والإثم. وحين نعود إلى مفهوم (الترويح)، نجد أنّه بكلِّ صوره نشاط طوعي اختياري، يمارسه الإنسان أثناء الفراغ، أو بعد إنهاك العمل الجاد، وقد يكون جزءاً من التربية والتعليم، ولكنه يؤدّى بطريقة مغايرة، لمجرَّد تنوّع مصادر التعليم.
وكلُّ ممارسة طوعية لا بد أن تحدّد دوافعها وأهدافها ومشروعيتها ونتائجها وآثارها السلبية والإيجابية. ومتى أصبحت مشروعة، وكان من الضروري رسم خطط لها، ووضع تصوُّر سليم، يحول دون الفوضى أو الوقوع في المحظور. والخطة والتصوُّر يمكِّنان من الممارسة على ضوء الضوابط الحضارية. ولقد ذهب الدكتور (خالد العودة) إلى اختيار تعريف يشتمل على مشروعية الأهداف والنتائج، فقال:- (نشاط هادف ممتع يمارس اختيارياً بدافعية ذاتية وبوسائل وأشكال عديدة مباحة شرعاً، ويتم غالباً في أوقات الفراغ)، وهذا التحديد مرتبط بالمذهب السلفي الذي ينتمي إليه المعرِّف، إذ كلمة (مباحة شرعاً) تجعل التعريف إسلامياً سلفياً، وليس إنسانياً، وهو ما نجنح إليْه.
والعادة جرت عند الحديث عن القضايا المختلَف فيها أن يقال: إنّ الإسلام دين الوسطية، وقد يكون مفهوم الوسطية مؤدِّياً إلى الوقوع في المحاذير، فالبعض يحيل إلى الوسطية ما يراه هو، لا ما يقع ضمن مفهوم الوسطية. واستغلال الخصوصية للرؤى الذاتية انحراف بالمفهوم عن مجاله، ووقوع في المحذور. والبعض حصر الترويح بين مطالب (الروح) و(الجسد)، وآخرون انفتحوا في مفهومه، وجعلوه سبيلاً من سبل الوقوع في الرخص المختلف حول مشروعيتها. والمتحفِّظون الآخذون بسد الذرائع ودرء المفاسد والورع والاستبراء للعرض والدين - على حدِّ قولهم - يتحفَّظون على إطلاقات غير محدّدة، وقد يبلغ بهم التحفُّظ حد التنطُّع، وقضايا المحظور والمباح تحتاج إلى الدقّة. فالمنع والإباحة والتوسُّط رؤى لا يصار إلى شيء منها إلاّ بعد التصوُّر السليم، أو سؤال أهل الذِّكر المشهود لهم بالعلم والورع وفقه الواقع، والناس أوزاع بين العقلانية، والنصية، والهوى، والوقوف عند حدود ما أنزل الله، وقليل ما هم.
وكلّما أراد الإنسان القبول بشيء عوّل على قوله تعالى:- {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) وقوله:- {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ}(الأعراف: 32) وأدخل في النصيب والزينة كلّ محظور، وإذا أراد رفض الشيء عوّل على قوله تعالى:- {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}(لقمان: 6)، وقوله تعالى:- {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} (الأعراف: 157) فيدخل في اللهو والخبائث كلَّ مباح. والإشكالية في تحديد (الأنصبة والزينة والخبائث والطيِّبات). ولا يمكن ترشيد الفتيا، وتجنيب الناس مضلاّت الأهواء إلاّ بالرجوع إلى المؤسسات الدينية، ك(هيئة كبار العلماء) و(المجمع الفقهي)، كما لا يجوز لأيِّ مؤسسة أن تبادر إلى الفتيا في النوازل إلاّ بعد التمحيص والتداول والسماع والبحث عن الحق دون تغليب الهوى والتعصُّب المذهبي.
ولقد سمعت من يحدِّد الترويح في أربعة أشياء:-
- ملاعبة الرجل لامرأته.
- وتأديب الرجل لفرسه.
- ومشي الرجل بين الغرضين.
- وتعلُّم السباحة.
وآخرون زادوا:- المصارعة والرماية. لحديث (عليكم بالرمي فإنّه من خير لعبكم)، وحديث مصارعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومصارعة اليوم تختلف عن مصارعة ما سلَف، إذاً هناك لهوٌ مباحٌ ومصارعة مباحة، وتحت اللهو والمصارعة مفاهيم تزل بها الأقدام، وتضلّ الأفهام. وإذ يكون من أوجب الواجبات مراعاة المحاذير الشرعية، فإنّ حفظ الوقت والجهد والمال لا يقل أهمِّية عما سواه، ومع مجمل المحاذير الدينية والدنيوية فإنّ الإنسان بشر، والبشرية لها مطالب مادية، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر. والترويح السليم لا يتحقق إلاّ في ظل التربية السليمة والتوعية الحضارية، فهو رغبة توجّه إليها التربية المتوازنة.
وللترويح مجالاته المتغلّبة على الحصر، والعاقل من يزن الأمور، ولا يحمِّل الأشياء ما لا تحتمل، ولا يترك لنفسه الحبل على الغارب. والمتابعون للمداولات التربوية ذات العلاقة بعلم النفس الحديث، يقفون على دراسات موضوعية، حاولت أسلمة العلوم الحديثة ك(علم النفس) و(علم الاجتماع) و(مناهج التربية والتعليم)، والحضارة الإسلامية حضارة شمولية، تضع المعالم في الطريق، وترقب من بعيد مؤكدة على المقاصد والغايات، ولا تحول دون التعالق الواعي مع مستجدات الحضارات، وانفتاحها يدع للإنسان حرية الاختيار ورسم الخطط، ووضع المناهج، فالعقل السليم يميِّز بين الحق والباطل، وهو العقل الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باستفتائه، وهو العقل الذي أحال إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (أنتم أدرى بأُمور دنياكم).
و(الترويح) إمّا أن يكون مرتبطاً بالتربية، أو يكون عاماً للكافة، ومجيئه في غالب الأمر بعد الجد المرهق أو الفراغ الممل، وقد يبتدره هواة لا ينظرون إلى الجد ولا إلى قلق الفراغ. ونحن هنا نورد الحديث عن الترويح بوصفه الشامل ودوافعه المتعدِّدة، وإن عرَّجنا إلى خصوصية الطالب وحاجته إلى النشاط المفتوح. والراهن العالمي والعربي على وجه الخصوص راهن غارق بالفتن والمغريات ومحكوم، بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. ودعاة السوء ينفذون إلى الأذهان والأفكار والغرائز والشهوات من كلِّ جانب. والذي يجيل نظره أو يلقي سمعه يرى أنّ القنوات الفضائية وأشرطة (الفيديو) ومراكز المعلومات والمواقع المتعدِّدة وثورة المعلومات والاتصالات تعمل على التضليل والإفساد، وتوفِّر المتع الزائفة، ولقد ثبت أنّ فساد الأفكار أخطر من فساد الأخلاق، وظاهرة الإرهاب ناتج الاختراقات المغرضة.
والتحذير والمنع ليس حلاً، فكلُّ شاب قادر على أن يدخل على كافة المواقع، وأن يشاهد كافة القنوات، وأن يتصل بكافة مصادر الإفساد الفكري والخلقي، وهو مستلق على سريره أو متكئ على أريكته، وأساليب الحسبة بحاجة إلى مزيد من العصرنة لتواكب المرحلة المعقَّدة. والخطورة أنّ الغزو الفكري محكم ومنظَّم ومتعدِّد القنوات. وعلماء السوء يتخطَّفون الشباب، ويأتونهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم. والشباب في فترة من المراهقة وخلو الأذهان وثورة الغرائز وطغيان المثاليات صيد سهل وثمين. ولأنّ الشباب عرضة للإغواء والاستدراج، فقد عجب الله من شاب ليست له صبوة، وأكدت الأحاديث الصحيحة أنّ الشاب الذي نشأ في طاعة الله يظلُّه الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاّ ظلّه. وليس أدل على سهولة انقياد الشباب لدعاة السوء من سقوطهم في حبائل الإرهاب، فكلُّ الإرهابيين شباب في مقتبل العمر، ويعاضد قنوات الغزو ومواقع التضليل الإمكانيات المادية التي وفّرت القدرة على السفر والقدرة على إقامة الاستراحات، والتجمُّع فيها، وإضاعة الوقت، ومفارقة الأهل والأبناء، وكلُّ هذه الأشياء تُعَدُّ من وسائل الترويح غير البريء وغير المشروع. وليست كلُّ التجمُّعات، ولا كلُّ الاستراحات موبوءة، ولكن التخلِّي عن صناعة محكمة للترويح تحت أيّ مبرر سيفتح المجال لمبادرات شخصية غير مأمونة، والشباب كما الصيد السابح في الفضاء، وكلُّ طائفة تصوِّبُ آلياتها لإسقاطه في حبائلها. فهل نمتلك آليات منافسة؟ أحسب أنّ المسألة بحاجة إلى مكاشفة.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:34 PM

الترويح وأثره التربوي..! 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل


وأمام طوفان الغزو المتعدِّد المنافذ، والتحوُّلات المزامنة للنظام العالمي والعولمة، يجب على المؤسسات: الدينية والتربوية والإعلامية والثقافية التحرُّف الجاد لإعداد وسائل حضارية للترويح والترفيه، والتخفيف من التحفُّظ الزائد والخوف المعوِّق. فالمؤسسات كالمضطر، عليه ألاّ يكون باغياً ولا عادياً، وللضرورات أحكامها: فراغ ممل، وشباب بريء، وإمكانات متعدِّدة، ودعاة سوء، وكاسيات عاريات مائلات مميلات، وأغانٍ ماجنة، وتمثيليات مسفة. وفي ظلِّ هذه الظروف تتضاعف المسؤوليات، وتتعقَّد الحلول، وتصعب المواجهة، مما يتحتَّم معه التحرُّف والتحيُّز.
وقطاعات التربية والإعلام والدعوة والثقافة والهيئات تمثِّل خط الدفاع الأول، ولا شك أنّها حريصة على تحقيق الأهداف التربوية السليمة، ولكن الظروف العصيبة تتطلَّب إعلان النفور بأحدث الوسائل وأدق الآليات. ومع أنّه من الضروري حفظ التوازن، ودرء المفاسد، وسلامة المقاصد، وملاءمة البرامج للمستويات العمرية وتعدُّدها، وعدم تأثيرها على الواجبات الدينية والدنيوية، وتوفّرها على تنمية المهارات وسلامة القدرات العقلية والصحية والجسمية، والتربية الخلقية والمعرفية، فإنّ مؤسسات الترويح الرياضي تقع تحت غزارة الإنتاج وسوء التوزيع، ومن ثم تفقد التعميم والاستمرار، وتتصف بالمنطقية والرتابة، وقد لا تتمتع بالقبول الجمعي، وقد لا تجد الراحة للمتابعة والمراقبة بحجّة التخصُّص وأهلية المسؤولية، وأحسب أنّ المرافق العامة لا تملك خصوصية التنفيذ، ولا تسمو فوق النقد والمساءلة.
ومع تعدُّد المجالات وتنوُّع المفردات والانفتاح على كلِّ شرائح المجتمع، فإنّ الأهم وضع الضوابط التي تحول دون النقص أو الانفلات أو المخالفة. والضوابط قد تكون متعلّقة بذات الممارسة، أو بذات الممارسين، أو بمكان الممارسة، أو بزمانها، أو بمقدارها، أو بأزيائها. ولست أشك أنّ المؤسسات ذات العلاقة تضع كلّ الاعتبار للضوابط والشروط، ولكن آراء الناس مختلفة حول الشرط والضابط، وهذا الاختلاف يضع المؤسسة تحت طائلة المساءلة. وليس من المجدي أن تذعن المؤسسات لكلِّ دافع أو مانع، ولكن المجدي توخِّي التوازن. ومتى تُركت الممارسات الترويحية للظروف والصُّدف، أو غلّت أيدي الممارسين، حادت العملية عن مسارها التربوي.
وأحسب أنّ هذا الزمان المليء بالمغريات، المفعم بالقلق والملل والترف بأمسّ الحاجة إلى التوسُّع في مجالات الترويح، فالشباب صيدٌ ثمينٌ لكلِّ مغرض، ولأنّ الدول المتقدمة في ظاهر الحياة الدنيا قد أخذت قسطاً وافراً من وسائل الترويح، وهي وسائل قد لا تكون مباحة في الشريعة الإسلامية، فإنّ من واجبنا عرض ما يفد منها على ضوابط الشريعة، فما كان منها مقبولاً أخذ به، وما كان محظوراً وأمكن التعديل أو التبديل لزم ذلك، وإلاّ وجب المنع، وفي إسلامنا من الفسح والرخص ما يغني ويقني. وإذا كان الإحقاق والإبطال متعلّقين بالاختلاف المعتبر وجب الميل إلى المحقّقات، ذلك أنّنا في وضع استثنائي، يتطلّب منا المبادرة وتدارك الأمر قبل فواته.
ونحن إذ نحفز على المبادرات فإنّنا نجد الأُمّة العربية قد وقعت في التبعيّة، وتحقّق فيها خبر الرسول صلى الله عليه وسلم (لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر)، وكثير من وسائل الترفيه والترويح مجلوب دون وعي بمفاسده، في ظل البدائل الأكثر سلامة والأعم فائدة، والأنسب لناشئة الأُمّة. ولست من الذين يضعون كلّ بيضهم في سلة (الرياضة البدنية) ولا مع المنبتين الموغلين في الدين بدون رفق. وإذا تكون الرياضة البدنية صنو الرياضة الروحية فإنّ في الرياضتين ما هو مطلب إسلامي، وفيهما ما هو مخالف للشرع، ولن ندخل في التفاصيل، والعقل السليم والفطرة النقية تميِّزان بين البر والإثم، ولأهمية الترويح والترفيه: بدنياً وروحياً، يتحتّم القصد وحفظ الجهد والوقت، فالترويح حين يزيد عن الحاجة يتحوّل إلى الترف، والترف ورد ذكره في القرآن الكريم إحدى عشر مرة، كلّها في سياق الذم. وقد يوصف الترويح باللعب، واللعب مباح بضوابطه، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى).
على أنّ المسلم قد يجد الراحة في جدِّ العبادة، والترويح من الراحة، فالجذر واحد، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أرحنا يا بلال بالصلاة)، وقد تكون تسمية (صلاة الترويح) من هذا الملمح، ومن الخطأ الفادح أن يتصوَّر البعض أنّه بالإمكان تحقُّق الراحة في العبادة عند كلِّ الناس. ولهذا يتذمّر البعض من إقامة (المدن الرياضية) أو لا يرى المساعدة على إقامة (الأندية الرياضية) وقد يتصوّر ذلك من الصوارف عن العبادة، والحق أنّها اذا أخذت بحقها، وحفظ بها التوازن أصبح وجودها ضرورياً ومفيداً، وفات المتحفِّظين أنّنا إن لم نتعرّض لشبابنا بمثل هذه المدن، وبمثل هذه الأندية تعرّض لهم غيرنا بما هو أسوأ. وما في الرياضة من بأس، وحاجة الحواضر والأحياء المكتظة بالسكان إلى ساحات وحدائق لممارستها. ولا بد للمعنيين من التوازن بين مطالب الروح والجسد.
ولدخول (الفن) كافة في مجال الترويح الروحي، فقد كان للفقهاء مواقفهم المتباينة، وأشدها حساسية الموقف من فن الغناء والرسم والنحت والتصوير والتمثيل والرقص، ودون ذلك الفن القولي، كالإبداع الشعري والسردي، ولا مجال لتقصِّي الضوابط لأنواع الفنون، وإزاء الانفتاح لا يجوز أن نذعن للواقع، ولا أن نجعله حجة، وبخاصة في الفن القولي الذي أفسده أدب الاعتراف وأغوته (الحداثة) وحادت به عن مساره السليم، والفن بكلِّ فنونه إمّا أن يربي الأذواق ويصلحها أو يفسدها، وأنواع الفنون جزء من الترويح. ومما نفقده في مدارسنا تربية المهارات بوصفها جزءاً من الترويح. فأين القاعات والصالات والمعامل والمختبرات والجمعيات؟ وأين اليوم الدراسي؟ أين المكتبة والمرسم؟ اين الإذاعة والمسرح؟ أين الكشافة والرحالة؟ ... كلُّ ذلك قد يكون موجوداً، ولكنه دون المؤمل.
على أنّ الرياضة البدنية تُعَدُّ من أهم مفردات الترويح، وأكثرها شيوعاً وتنوُّعاً. والرياضة ممارسة، وليست تشجيعاً، وأنواع، وليست (كرة قدم)، وبالتالي فإنّ الاكتفاء بالنظر، والتشجيع، وتنظيم المسابقات، يُعَدُّ من سلبيات الرياضة. وحين أدركت جهات الاختصاص العدول عن الممارسة إلى المتابعة، طرحت مشروع (الرياضة للجميع) بمعنى أنّها لا تتحقّق فائدتها إلاّ بالممارسة الذاتية. والرياضة التي تميل النفوس إليها تحوّلت إلى إشكالية، وكادت تنحصر في (كرة القدم) ولم يعد هنالك اهتمام مماثل بأنواع أهم: كالسباحة والجري والفروسية والدراجات. والأسوأ من ذلك كلّه أنّ المسؤولين عنها عالمياً يسوُّون بين الرجل والمرأة، ولا يَعِفُّون عن العري والاختلاط والخلوة، وفي هذا مفسدة للأخلاق، وانحراف بالظاهرة عن مسارها المشروع، حتى لقد بدؤوا يلوِّحون بحتمية مشاركة المرأة في (الأولمبيات) مع ما في ذلك من مفاسد لا يقرُّها الإسلام، ولا تقبل بها الدول الملتزمة، وهذا التعنُّت إخلال في سيادة الدول، وتصدير تعسُّفي للحضارة الماجنة، وخلط قسري للحضارات المتناقضة، وممارسة القوة في فرض الإرادة والتمادي في التعنُّت والتعسُّف مؤذن باستفحال الإرهاب والعنف، وإذ لا يكون إكراه في الدين، ولا سيطرة للرسل، فإنّ ما سوى ذلك أولى.
وأهم شيء في مفردات الترويح تفادي إزعاج (الرأي العام)، فإذا كان الرأي العام يضيق ذرعاً ببعض الظواهر المختلف حول مشروعيّتها، فإنّ من الحكمة تفادي ذلك، لأنّ (الرأي العام) جُبل على قناعات تشكّلت مع الزمن، لا يجوز تكسيرها بعنف، وليس هناك ما يمنع من التحوُّل المرحلي، وبخاصة إذا كانت القضايا بين الفاضل والمفضول، وليست بين الخطأ والصواب. ولعلّنا تابعنا العبثيات المؤذية حول الاحتراف، والدخول في التحدِّي، والمنافسات غير الشريفة، إذ وصل التحدِّي بالفرقاء إلى أن بلغت قيمة اللاعب أكثر من (أربعين مليون) ريال، وفي ذلك تبذير، وكُفْرٌ بالنعمة، وتصرُّف في مال الله الذي أعطاه لصاحبه بشرطه.
وإذ يكون من المتوقّع العقوبة بزوال النعم، فإنّ الخوف أن يكون الزوال عاماً، وليس خاصاً، وفي الذكر الحكيم {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(25) سورة الأنفال. فالعقاب قد يمس الجماعة، إذا جاهر المستخفون بالذنب، ولم يجدوا مَن يأطرهم على الحق، وفي الأثر: (إن فيها عبدك الصالح ...)، ولأنّه لم يتمعّر وجهه لله، فقد بدئ بالعقوبة، ومثل هذه المزايدات الرخيصة توغر نفوساً فقيرة، لا تجد كسرة من الخبز، والإسلام ينهى عن كسر نفوس الفقراء بالمباهات، وإن كان من المشروع أن يظهر أثر النعمة على المنعَم عليه.
ولسنا بصدد التقصِّي لمفردات الترويح ومجالاته المحظور منها والمباح وترتيبها في سلّم الأولويات، فالمهم ليس في استيفائها، ولكنه في تفعيلها وضبطها. والترويح يكاد يتربط بالأنشطة المدرسية المتمثّلة بالمراكز الصيفية، في فصل الصيف، وقد يتداخل مع التنشيط السياحي، بحيث يتنازعه النشاط المدرسي وفترات الصيف التي يواجه فيها الشباب فراغاً مملاً، والفراغ حين لا يملأ بالجد أو بالمُتع المباحة يفضي بذويه إلى المفاسد والشاعر يقول:-




(إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة)


وإذا كانت القنوات الفضائية ودعاة السوء يفسدون الأفكار، فإنّ تجار المخدرات والفن الرخيص يفسدون الأخلاق، والشباب الخليجيون بالذات مستهدَفون، لسعة ذات اليد عندهم، ولتمكُّنهم من الوصول إلى أي مصدر معرفي أو ترفيهي أو ترويحي. ولسنا بحاجة إلى الحديث المفصّل عن التعريف والمفهوم والأهمية والأهداف والشروط والوظائف للنشاط المدرسي الفصلي أو المستمر، فذلك كلّه مبسوط في الكتب التربوية، وأهم شيء في هذا المجال التخطيط، والتنظيم، ووضع الأساليب المجدية، وتوزيع المسؤوليات والمهمّات، والانفتاح الواثق على كلِّ جديد، وتهيئة الصالات والميادين والمباني المناسبة المفتوحة طوال اليوم، وعدم الحساسية وسوء الظن.
إنّنا في سباق مع الجريمة، وفي سباق مع الرذيلة، وما لم نسيِّج أجواءنا ونمتلك الآلية والمهارة، سبقنا الشر إلى المواقع الحساسة. ولتحقيق التفوُّق لا بد من اختيار الكفاءات للتخطيط والابتكار والإشراف والمتابعة. ولست مع الذين يتصوَّرون أنّ الترويح لا يتحقق إلاّ بالرياضية البدنية، ولا مع الذين يقصرونه على الرياضة الحديثة كالملاكمة والمصارعة و(الجمباز) وحمل الأثقال وسائر مفردات الرياضة العضلية، إنّ الترويح في توفير متطلَّبات الهوايات كافة، والطلبة يختلفون في هواياتهم، فقد تكون (الورشة) و(الكمبيوتر) و(المرسم) و(التمثيل) مجالات رحبة للترويح. والإشكالية أنّ المدارس قد عوّلت على الرياضة وحدها، وصرفت نظرها عن النشاط الثقافي والعلمي والفني والاجتماعي، وإن أقامت لذلك بعض الوزن إلاّ أنّه وزن دون المؤمل، ولو وازنّا بين هذه الأنواع لوجدناها كلّها مجتمعة لا تساوي النشاط الرياضي، وتلك ظاهرة عامة تعاني منها وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي. والتربية الفنية وإن كان لها نصيب وافر، إلاّ أنّها ليست أهم من التربية الثقافية المغيّبة بإزاء التربية الرياضية والفنية.والنشاط الثقافي بوصفه من مفردات الترويح لا يقتصر على الكتابة والقراءة والكتاب والمكتبة، وإنّما يمتد الى الإذاعة، والتعويد على إعداد البرامج والإلقاء والتمثيل وإعداد المسرحيات، ومعرفة متطلَّبات التمثيل والإخراج وغيرها، والمحاضرات والندوات والصحف والمجلات، والتعويد على الإلقاء والإنشاد والحوار والرسم والخط والإملاء. وفوق كلّ ذلك المكتبة والكمبيوتر وطرائق البحث في المعاجم والموسوعات وتحضير المعلومات في أسرع وقت وأقل جهد، وأنواع القراءة والنقد والتلخيص والتحقيق .. كلُّ ذلك يمكن أن يتحوّل من جهد مضنٍ إلى ترويح.
فالقراءة عند البعض تُعَدُّ فترة للراحة والترويح، ولا يكون ذلك إلاّ بعد التعويد وغرس الهواية في النفوس في وقت مبكر، لقد أدى الاهتمام بالرياضة البدنية إلى تقليص الرياضة الروحية وتنمية المواهب. ومما لا يمكن إنكاره أنّ الطلبة أحوج ما يكونون إلى صقل مهاراتهم، ولقد أدركت الدولة ضعف الشباب في الحوار، وعدم قدرتهم على التعبير عن وجهات نظرهم، ومن ثم أنشأت (مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني)، وإشكالية الناشئة إنّهم لم يعوّدوا على الحوار داخل الفصول، ولا على الحديث المرتجل عبر الإذاعة المدرسية، ولا الكتابة في الصحف المدرسية، وليس هناك ما يمنع من تكثيف البرامج الثقافية، وجعلها من مفردات الترويج والترفيه، ذلك أنّ زرع الهوايات الحميدة تجعل القراءة والكتابة ترويحاً.
والترويح في ظل الظروف القائمة أصبح مهماً للغاية، ولا بد من إعادة صياغته، والنفاذ به إلى المنزل، وتذكير الآباء، والأمهات بأهميته، ولا بد من العمل على أسلمة الترويح، وتشذيب أي مفردة مستوردة، ولا بد أن يقتنع المجتمع أنّ الترويح والترفيه واللهو واللعب نافذة بقوة الوسائل والإمكانيات، فإن اعتمدنا المنع والتخويف والتقوقع على الذات، فوّتنا على أنفسنا فرص المبادرة، ونحن الأقدر على طرح مشروعنا الترويحي لحماية شباب الأُمّة، وكيف لا نبادر والذِّكر الحكيم يحثُّنا على تدارك نصيبنا من الحياة الدنيا، ويتساءل مستنكراً على من حرم زينة الله التي أخرج لعباده.
وخلاصة القول إنّ الترويح رافد من روافد التربية السليمة، وسبيل قاصد لتحقيق مقاصدها، وليس أضر على الأُمّة من جد ضاغط أو فراغ قاتل، فالضغط يفضي إلى الانفلات، والفراغ يؤدي على الفساد، والدولة الواعية لمهمّتها تضع قضايا الشباب في أولويات اهتماماتها، ولن يتحقق الخلوص من المعوقات إلاّ بملء الفراغ بالمفيد، ومتى أحس المسؤول بأنّ الوقت لا بد أن يمتلئ بما يحقِّق الأهداف، فإنّه إن لم يمتلئ اختياراً امتلأ اضطراراً، وبين الاختيار والاضطرار تكمن الإشكاليات العصيّة الحل، فلنبادر إلى امتصاص فائض الجهد والوقت بما يعود على الأولويات بالإيجابيات.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:35 PM

كن وديعاً أبا وديع
(قول في عموم الدلالة..!)
د.حسن بن فهد الهويمل


همي أبداً منصب على استثمار الوقوعات العارضة والتقاط نثارها، وإن لم تكن بذاتها على جانب من الأهمية، إذ هي بعض تجارب الحياة، وما الحياة إلا كالأودية المفعمة من قطرات المطر. والوقوعات وإن صغرت في أعين الخليين إن هي إلا لبنات في بناء الحياة. وما فعلت ذلك إلا لتأسيس حوار حضاري، يأخذ العفو، ويُعرض عن الجاهلين. فما عدنا بعد هذا العمر الطويل والتجارب العميقة نحفل بالتناجي المقصي والمصادر لحق الشريك في القول والفعل. وليس من المفيد أن نمر بمشاهد القول، وكأننا لم نسمع ولم تقل. وإذ يكون الاختلاف حتماً مقضياً، فإنه قدر الواقع المأزوم، وواجبنا توجيهه قِبَل الإشراقات المعرفية. ومن توهم حسم الاختلاف، تصيده الوهم فيمن تصيدا. ولما لم يكن بد منه فإن من الحكمة ترويض النفس على معايشته. وشيوع الاختلاف ملمح إيجابي، متى ضبط إيقاعه، واستقامت أوضاعه. ولكن أن يشيع في ظله التفحش، ويستفحل الاتهام، وأن يحيد الجدل عن القول المعروف، فأمر مع توقعه مرتعه وخيم. والناس فيما يتصورون مذاهب، والعدول بهم عما يشتهون مغامرة محفوفة بالمتاعب، ولكنها من فروض الكفايات. وتصعيد الفعل ورده إلى حد العنف سجية لا يتخذ سبيلها إلا المستجدون على المشهد النقدي، ممن لا يعرفون أنه ما من عالم، أو أديب، أو ناقد إلا هو راد أو مردود عليه، إلا من لا ينطق عن الهوى، ومن ألَّف فقد استهدف. والذين لا يروضون أنفسهم على احتمال الخلاف غير المبرر ومعايشة ذويه صوتاً وصورة تضوى أجسامهم من المفاجآت الغريبة والملاحاة العنيفة. هذا الاستهلال مقدمة يراعى فيها عموم الدلالة لا خصوص السبب.
والخلاف الأعنف بين أبي وديع/ عبدالفتاح أبي مدين، والأستاذة فائزة الحربي حول مصدرية محاضرته عن (البرقوقي وبيانه) خلاف مشروع، لو كان قول الطرفين لبعضهم حسناً. ف(الكاتبة) تُدِلُّ برسالتها الأكاديمية التي أشاعتها بين الناس، وتفاخر بجهدها الذي طاف بها آفاق المعمورة، و(كل فتاة بأبيها معجبة) و(أبو وديع) يُدِلّ باقتداره وماضيه، وما تركه خلف ظهره من منجزات على مدى نصف قرن ونيف. وفات الطرفين مشروعية تعويل اللاحق على السابق. وبهذا فليس عيباً أن يستمد الدارس بعض ما يحتاج إليه، مما هو مطروح في الطريق، ومبثوث في المراجع. بل أكاد أقطع بأنه لا يوجد نص بريء، وما (الأسد) في النهاية إلا مجموعة من الخراف المهضومة. والمشهد النقدي في مختلف العصور ينوس بالمصطلحات المتعلقة بالتعالق والتناص والتوارد والسرقات، وقد فصل القول فيها (ابن رشيق) في الأقدمين و(أحمد مطلوب) في اللاحقين. وفي العصر الحديث ظهر مصطلح (التناص) الذي شاع في أعقاب استفحال المناهج اللغوية، وأحسب أن وعيه يحسم الخلاف، ويهون مصائب الاتهامات التي يتراشق بها الكتاب، وإن كان مجال (التناص) الإبداع، إلا أنه قد يمتد إلى الدراسات؛ فالأفكار والنتائج التي يتوصل إليها السلف، قد تمتد إلى الخلف من حيث لم يحتسبوا. ومجال (التناص) إذاً في الشعرية والأدبية والنتائج، أما النقل الحرفي فيحال إلى (المصادر والمراجع) ولا يكون من باب (التناص). وفصل ما بين السطو والنقل المشروع تحسمه الإحالة إلى المرجع أو المصدر. وما عيب ناقل من ناقل إذا روعيت ضوابط النقل، ومهما حاول الخلف إخفاء نكهة السلف فإنها بادية لذوي الاختصاص. وكم قرأت من كتب، ونسيت أنني قرأتها، فإذا اندلق لعاب القلم على الورق، قلت بعض ما قالته، حتى يظن القارئ أنه هو، فالذاكرة المتوقدة مع صاحبها كما عفريت (سليمان) يأتي بالمقروء قبل ارتداد الطرف.
والدارسة الشاكية ظلم ذوي القربى، ربما أنها أحست بذاتها تتمطى بين سطور (أبي وديع)، غير أنها لم تقتصد في التعبير عن رؤية ذاتها. وأستاذ بحجم (أبي وديع) ووزنه لم يحتمل الاتهام المباشر بهذا القدر، وبخاصة حين أشارت إلى الصعود على أكتاف الآخرين. وكان يتوقع منه حين أسرفت في اللوم ألا يسرف في الرد؛ إذ خير من المجاراة في التنابز أن يرشدها، وأن يلتمس لقولها محملاً حسناً، أو أن يصرف النظر عن تساؤلاتها واستدراكاتها، فما عيب صامت، وقد يكون السكوت جواباً وخطاباً، وما أجدره بلزوم الصمت إن لم يجد إلا هذا الرد الكاسح، ومكمن عتبي عليه أنه أخذ بمبدأ: (من اعتدى عليكم...) ولم يرق له العفو والصفح. ومثل هذه الفلتات جعلتني أضيق ذرعاً بمشهدنا النقدي الذي لما يشب عن الطوق، وكم سئمت الانصراف عن القضايا والاشتغال بالأشخاص:
مصادرة وتهوينا. وواجب كل الأطراف المتنازعين حول قضايا الفكر والأدب أن يترافعوا أمام المتلقي حول تلك القضايا، وأن يدلوا بحججهم إلى القراء الذين يفرقون بين الدعوى الصادقة والادعاء الكاذب. ويتحقق ذلك حين يبدي المدعي رؤيته بموضوعية، ويرد المدعى عليه بموضوعية أيضاً. والمتلقي كما القاضي يفصل بين المتخاصمين، إذ لا تجوز الأثرة، بحيث يكون الراد هو الخصم والحكم، وفي النهاية فالحق أبلج، وما ضاع حق وراءه مطالب. و(الدارسة) بعد أن فاقت من هول الصدمة، وتمالكت أعصابها قالت: (هذا غير معقول يا أبا مدين) (الجزيرة 23 - 9 - 1426هـ). واستهلالها ومبتغاها معقولان، ولكنها فيما أرى ارتبكت حين تصورت فداحة السطو على جهودها، و(بنات الأفكار كالبنات الأبكار) ولكن (الحق قد يعتريه سوء تعبير)، ولقد عجبت من فعل عنيف ورد فعل أعنف. ولو كنت مجاملاً أو متقيا تقاة أو مداهنا، لفعلت ذلك مع رجل أخذ بيدي حين تعذرني الناس، وذلك يوم أن فتح لي صفحات جريدته قبل نصف قرن، ولما أزل معه في زمالة وصداقة تنمو مع الزمن. وما كان بودي استفحال الخلاف اللجوج، فالمعارك الأدبية كما الحرائق من مستصغر الشرر، ولست ضدها إذا أخذت بحقها، ولكنني ضد حيدتها إلى ما لا يحتمله الموقف، وبوادر الخلاف بين الطرفين تنذر بالحيدة. ولما يزل مشهدنا رهين المحبسين: البغي وسوء الظن. حتى لقد كاد ينفض سامر عقلائه، بحيث لم يبق به إلا من لا يؤبه به، وإذا كان رواد الحركة النقدية يؤزون الخلاف، فمن ذا الذي يقيل العثرات.
ولربما تضيع المعارف تحت غبش الانفعالات الآنية، والقبول بها تحت أي ظرف شرعنة وإلف. ولقد حَمِد المشرِّع امتلاك النفس عند الغضب. وتجاوُز (أبي وديع) الغاضب إلى الرسائل العلمية وأصحابها، كما صنيعة الأعراب في (العرِّ) الذي يكوى غيره وهو راتع، وهذا التجاوز دليل احتقان لا مبرر له. وكم ضقت ذرعاً بمثل هذه الاستدعاءات التي يعمد إليها غير المؤهلين، وبخاصة الكبار بإمكانياتهم لا بمؤهلاتهم، وتلك صيرورة لا يقتضيها المقام. فالكاتبة لم تمس (أبا وديع) لأنه غير مؤهل أكاديمياً، وما كان من حق أحد أن يجعل العصر عصر بطاقات لا عصر كفاءات. وإذ تكون طائفة من حملة المؤهلات العلمية دون المستوى، فإن ذلك محكوم بقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. كما أنها لم تدل بشهادتها، ولم تعب خصمها في شيء من ذلك، وليست دون مؤهلها لتعاب. واستدعاء (أبي وديع) لذوي التخصصات الذين حملوا ما لم يحتملوا مدعاة لتوسيع رقعة المشكلة. ومثل هذا الاستدعاء غير المبرر يعد من لي عنق القضايا، والخروج بها طوعاً أو كرهاً عن مسارها، وتلك بعض إشكالية مشاهدنا الثقافية.
ولما كنت ابن بجدة النقد - ممارسة على الأقل - فقد عانيت من فلتات ألسنة شطت بالقضايا عن مدارجها، وطوال أربعة عقود، كنت فيها عرضة لتقويلي ما لم أقل، وكم قلت، وأعدت القول: (اقرؤوا ما تحت السطور، ولكن لا تنطقوني بما لم أنطق)، وقد يكون لعنف (أبي مدين) ما يبرره، فأنا أعرف جيداً أن ناقداً وأديباً بمكانته، لا يمكن أن يركن إلى النقل الحرفي، ولا أن يتخفف بمرجع واحد، حتى ولم كانت لا تكدره الدلاء، وهو بثقافته وممارسته أكبر من أن يتحسس من ذوي المؤهلات، وأكبر من أن يعول على جهد، ثم يتكتم عليه. وهذا الثناء، وتلك التزكية لا تصادر حق (الدارسة) في التساؤل. وحتى لو استرفد منها أو من غيرها فالأمر جد يسير. ذلك أنه في محاضرته يعول على (المنهج التكويني) = التاريخي، والتكوينية هنا تعني مكونات النص، وهذا المنهج نقلي، يتقرى الوقائع والأحداث، ولو اعتمد في محاضرته على غير هذا المنهج فإن ذلك لا يمنع من التداعي، فالكاتب في النهاية محصلة مقروئه، والدارسون والنقاد لا ينطلقون من فراغ، بل هم ك(النحلة) تمتص نسع الأزهار، وبقدر التنوع والكثرة تكون الجودة. وكيف يدعي النقاء دارس أو كاتب، والرسالات السماوية تأتي لتتم مكارم الأخلاق.
وحديث (أبي وديع) عن البرقوقي وبيانه الذي استعرضته على عجل ممتع وشيق، وكيف لا وهو سليل عصر (الرافعي) و(الزيات) و(البرقوقي) و(طه حسين) حتى لقد قيل عنه بأنه (طحسني)؛ لوجود شبه بين الأسلوبين المتسمين بالسهولة الممتعة والممتنعة. وهو فيما يكتب كأستاذه العميد العنيد، يغيب النصوص التي قرأها من قبل، ولكنها تُظهر أعناقها، وتشي بنفسها. وكم أعاني من مثل تلك الوشاية في بعض ما أكتب، فإذا عزمت على كتابة بحث أو مقال، أحسست بتداعيات كأنها (الدُّر) المتدفق، وما يخلص منها إلى شبات القلم يكون ك(بنت الدهر) مع (المتنبي) الذي تساءل مستغرباً وصولها إليه: (فكيف خلصت أنت من الزحام). وكم أخشى أن يقع الحافر على الحافر، فأقع تحت طائلة (الأشباه والنظائر). ولقد مس الشعراء الأوائل والأواخر طائف من هذا التعقب، ف(الخالديان) لم يسلم منهما شاعر. ونقاد المشاهير من الشعراء ك(أبي نواس) و(أبي تمام) و(المتنبي) الناقمون والموضوعيون نقبوا في شعرهم، وكادوا يردون كل بيت إلى شاعر قديم وبخاصة مع (المتنبي)، والمهتمون بالسرقات الأدبية أصابوا بأقلامهم أبرياء، حتى لقد أصبحت (السرقة) ظاهرة من ظواهر النقد، درست بوصفها أهم الظواهر النقدية في كتب مستقلة عند (مصطفى هدارة) و(بدوي طبانة) وألف فيها من قبل تطبيقاً (مهلهل العبدي) و(العميدي) و(ابن وكيع) و(الحاتمي) و(البديعي) و(الخالديان)، وشققها البلاغيون، لتكون دركات، ولما تزل الاتهامات المتلاحقة على أشدها. ولقد وُوُجه الشعراء ببعض ما احتملوا، مع أنهم أقدر وأغنى من أن تعدو عيونهم إلى جهد من دونهم، وإن سطا بعضهم بالقوة على شوارد الأبيات، كما فعل (الفرزدق). ومثلما اتهم الشعراء العمالقة، فقد اتهم الكتاب الأقدمون، ف(الجاحظ) اتهم باعتماده على مترجمات (أرسطو) وعيب على تكتمه في البيان والتبيين، كما اتهم الكتاب المعاصرون بسرقة الأفكار والمناهج، وهذا (طه حسين) مَثَلُ السوءِ في هذا يتهم بالسطو على جهد المستشرق (مرجليوث) و(جب)، وتؤلف الكتب لرد دعوى الانتحال، وهذا (محمد محمود شاكر) يتهم أستاذه الذي اضطره إلى قطع دراسته بسرقته، ويصف كتاب (طه حسين) (مع المتنبي) بأنه نسخ موضوعي لكتابه عنه. وهذا (نجيب محمد البهبيتي) الناقم على أستاذه (طه حسين) يشايل من سبق ومن لحق، وهذا (مصطفى هدارة) يتهم (إحسان عباس) و(محمد شعيب) و(أحمد مطلوب) بالنقل من كتابه عن السرقات دون الإشارة إليه. كما أن الصديقين اللدودين (أحمد أمين) و(طه حسين) يشيع كل واحد منهما عن صاحبه ما سربه طلابهم فيما بعد، وكأن كل واحد منهم لم يقدم إلا ما سرق. والمتعقب لظاهرة السرقات، يجدها تمس الكبار والصغار. ولمشهدنا الأدبي النصيب الأوفى، وبخاصة ما تمخض عن صراع (الحداثة) و(التجديد)، وكم أتمنى لو درست هذه الظاهرة وقومت، فليس كل اتهام كاذب أو مبالغ فيه.
وعلى الرغم من كل ما سلف فإن الأستاذة (فائزة الحربي) من حقها أن تسأل، وأن تذكر بنفسها وبجهدها، وأن تعتب على أستاذ بحجم (أبي مدين) لم يذكرها عند القراء، وأخشى أن يكون (أبو وديع) كصاحب (يوسف) الذي ظنه ناج منهما فقال له: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}. و(الأصمعي) وهو يجوب قفار (نجد) يبحث عن شوارد اللغة أفاده أعرابي يرعى غنمه بكلمة أو حكمة أو بيت، ولما رآه يكتب ما سمع قال له: اذكرني في كتابك. ولكن واجب التساؤل أن يكون بأسلوب لا يؤدي إلى الاتهام الصريح والإثارة العنيفة، و(أبومدين) عليه أن يتقبل عتبها بقبول حسن، وأن يصرفها إلى الحق بعطف أبوي، ولاسيما أنها تدعي إهداءه نسخة من الرسالة، والأستاذ لا يقر لها بذلك، ويدعي أنه أنجز بحثه قبل طبع رسالتها، وقد يكون واهماً أو ناسياً، وبخاصة أنه يتلقى كل يوم إهداء، ويستعرض كل ساعة كتاباً. وأذكر في هذا السياق زميلاً لا يرقى الشك إلى اقتداره واستغنائه، وجد بين أوراقه بحثاً أعطاه إياه طالب من طلابه، فظنه بعد طول مكث بين أوراقه أنه له، فبعث به إلى النشر، ولما نشر قامت الدنيا ولم تقعد، وأصر الأستاذ الواهم أنه له، ولم يذعن لدعوى الطالب، ولم يتذكر، ولج الطالب ومن وقف وراءه في عتو ونفور، والبحث برمته لا يقدم ولا يؤخر، ولكن الحق أحق أن يتبع، ولو أن الأستاذ اعترف بالخطأ مذكراً بما ترك خلفه من كتب ودراسات ومقالات ومحاضرات لتقبل الناس اعتذاره وصدقوه. و(الدارسة) في ردها الأخير على (أبي مدين) توخت الموضوعية، وساقت طائفة من النتائج التي توصلت إليها في رسالتها، والتي وافقها فيها (أبومدين) ومع قوة الحجة، فإن ذلك كله لا يرقى إلى اليقين، ذلك أن بحث (أبي مدين) مزيج من الخواطر والانطباعات وشيء من تأريخ قليل، وقد يكون استمد لحمته من معهودات قرائية سلفت، وكما قلت فهو يعتمد (النقد التكويني). والمسألة في النهاية محسومة، لو كانت على ما يدعي أحد المتخاصمين. ف(الدارسة) أمام مقالات أفضى بها الكاتب إلى الناس، وأصبحت جزءاً من التاريخ الأدبي، وتحت يدها رسالتها، وعليها أن تفكك النص كلمة كلمة، وجملة جملة، وعبارة عبارة، وأن تضع شبات قلمها على مفاصل القضية، والناس شهود الله في الأرض، ولقد فعلت بعض ما يجب في مقالها الأخير، وليس (أبووديع) أول من اتهم، وليست أول من أقام الدعوى. وعليها بعد هذه الزوبعة المغبرة أن تنظر في مدى اعتماده على جهدها، ومشروعية هذا الاعتماد، ولكن عليها مع هذا أن تعرف أن الذي هداها إلى المراجع والمصادر قادر على أن يهدي ناقداً مثل (أبي مدين) ولاسيما أنه ربيب الأدب المصري، وأنه ربما كتب ما كتب من هذا المعهود الذهني الذي يختزنه، ولو لزم أن أكتب عن ظاهرة أو قضية فسيكون لمعهودي الذهني قصب السبق، وكم من كاتب ترك السرى خلف المراجع وراء ظهره، وأعطى قارئه من مخزونه فيوض علم غزير.
وتعاطفي مع الدارسة، وإشفاقي عليها من تلك الغضبة المضرية، لا يحولان دون رغبتي في أن تعود إلى نفسها، وأن تنظر فيما إذا كانت قد تجاوزت حدود ما يجب بحق أستاذ بسن جدها، عركته الحياة، حتى لم تدع في جسمه موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، كما أود من (أبي وديع) أن يكون وديعاً، فما عاد الزمن كما هو في عصر (الأمواج والأثباج). وما فَعَلْتُ ما فعلت إلا لفك الاشتباك، وترشيد المشهد النقدي، ولقد تحاميت الحكم في القضية، فأنا شاهد لم ير شيئاً. ويبقى الود ما بقي العتاب، ويبقى العود ما بقي اللحاء.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:36 PM

كل الناس يغدو..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


ليس الغدو المستدعي للاعتناق أو للإيباق خاصاً بالأفراد وحسب، إنه لهم وللمؤسسات وللدول، ولكل مكلف يكشف عن ساق، ليقول أو ليفعل، كلٌ على حسبه وفي موقعه، وبقدر اتساع مجال الغدو، تتسع تبعاته، وتنداح فداحة موبقاته. والذين يقرؤون كلماتي - على قلتهم، يدركون أنها تدور حيث تدور العلل الأربع.
- اللعبة واللاعب.
- وإشكالية المفاهيم.
- والتأصيل والتحرير للمعارف والمسائل.
- وخيانة المبادئ.
وتلك بعض عثرات الغدو والرواح: المعْتقة أو الموبقة، والعالم الثالثي: النامي أو المتخلف حقل ممرعٌ لكل اللعب: الكونية والإقليمية ولإرهاصاتها، ولسائر عمليات التضليل الإعلامي، والتجريب: الحسي والمعنوي ما ظهر منها وما بطن.
حتى يكاد غدوه يكون موبقا ليس إلا، وما كانت صراعات مفكري هذا العالم المتخطف نخبه من كل جانب إلا بسبب: اضطراب المفاهيم، وجريان اللعب فيه مجري الدم، والعجز أو التقصير في تحرير المسائل وتأصيل المعارف، والقول دون الفعل، والوقوع تحت طائلة التسطح والابتسار، والتقحم لعويص المسائل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وكلما حاولت الانفلات من سلطان (اللعبة) أو (المفهوم) أو (التأصيل) أو (التحرير) و(الادعاء) شدتني أمراسُ كتانها إلى (حليمة) وعادتها القديمة، وارتباطي المأزوم بتلك العوائق يسترفد إصراره غير المستكبر مما تقترفه خطابات فردية مختلطة في ظل غياب الخطاب المؤسساتي، ومما يقترفه كتبة يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، ويستجدون معلوماتهم مما هو دولة بين وسائل الإعلام الموجه، وما كانوا يعلمون أنها تميل مع الريح حيث مالت وكأنهم مراوح الطاقة الهوائية، والتعويل على المتداول في المشاهد، يذكر بالطواف الصعلوكي-:
(طاف يبغي نجوة
من هلاك فهلك)
أو ب (الطّوّافات) التي تأكل من خشاش الأرض. والمتسكعون في مطارح الإعلام المضلل كما ديَكة المزابل، يتيممون الخبيث منه يأكلون، ويرضون من الثقافة بالمسموع، وهي ثقافة غير موثقة، وغير معمقة، وغير بريئة، ولكنها بقوة الصناعة التقليدية المغرقة للسوق والطاردة للصناعة الأصلية، والناشئة التي قطعت صلتها بالتراث، وخفَّت إلى الحضارة المهيمنة لا تجد حرجاً من أن تجادل في الثوابت بالباطل، لتدحض به الحق. ومن خلال متابعتي للمقول والمكتوب حول القضايا الساخنة كافة في مشاهد أمتنا المهيضة الجناح من ظواهر ومصطلحات ووقوعات ونوازل، وبخاصة ما يتعلق منها بالمستجدات، أدركت أن المصطلحات المهيمنة - منقولة كانت أو معربة أو مترجمة - يفهمها بعض المتنفذين فهماً سوقياً متسطحاً لا معرفياً متعمقاً، وحق المتلقي على من يرودون له ويحفظون ساقته أن يتزودوا من المعارف وأن يتضلعوا من العلوم، وأن يتخطوا به إلى المعاجم والموسوعات والدراسات الموثقة، وأن ينظروا إلى المستجد في مجال التطبيق، ليتعرفوا على الأشباه والنظائر في عقر دارها، ويستوعبوها كما أنشأها أصحابها، لا كما تصورها المتلقون الذين شبِّه لهم.
ومن المؤذي أن يجد مثقف السماع من يتلقاه بالأحضان، ومن يأخذ مقولاته، وكأنها قضايا مسلمة، لا معقب لحكمها، على سنن الطاعة العمياء، التي تحتم التنفيذ الفوري، ثم المراجعة على استحياء وتردد. والمصرون على قناعاتهم الفجة المرتجلة، لا يدرون ما المصطلحات ولا اللعب، ولا يعرفون أن قولهم عن الظواهر والمذاهب والتيارات والنوازل قول أقرب إلى العامية منه إلى العلمية، تخطفوه من رسيس الإعلام لا من بحار المعرفة، (ومن قصد البحر استقل السواقيا)، وفوق ذلك فهم يقولون ما لا يفعلون على شاكلة الإسلام الفكري، والغدو مع أولئك أو إليهم من الموبقات، وكان حقاً على كل مستبرئ لعرضه ودينه أن يتبين وأن يتثبت، فخفة العياب خير من امتلائها بالمضلات، والأكل من خشاش الحضارات تضوى به الحضارة المتلقية، والآبقون من حضارتهم والموبقون للسماعين لهم، لا يزيد جهدهم عن تسخين مكرر لما غب من طبيخ الاستشراق، واجترار ممل للمتداول بين وسائل الإعلام الموجه لغسيل الأدمغة. ولك أن تتصور كيف يفهم بعضهم المصطلحات المستوطنة كما الأوبئة، وكيف يغالطون أو يدلسون في المتقضيات، وكيف يتعاملون مع المتحفظين على المضمرات من تلك المقتضيات، وكيف غلبوا على أمرهم، وأوحي إليهم أن (الليبرالية) و(الديموقراطية) الشائعتان على كل لسان لا تعنيان إلا (الحرية) وحسب، وأن القبول بهما من متطلبات المجتمع المدني، وأنهما كما استبدال الكهرباء بالسرج، وأن عثرات النظم السياسية في الدول النامية لا يقيلها إلا ما أقال عثرات عصور محاكم التفتيش وصكوك الغفران، وأن سائر المستجدات وسائل ووسائط وأطر، وليست أفكاراً ولا مناهج ولا مبادئ، هذا التصور الناقص يقبل من الدهماء، ويستغرب من قادة الفكر. ولأن المَلَكة والثقة والعقل معطلة فإن ما قيل عن (الماركسية) و(الوجودية) يقال عما خلفهما ولا من مدكر. وتداول هذه المفاهيم في الأوساط الثقافية يبدي سوأة الرؤى المستبدة في المشاهد، وليس أضر على الأمة من ربط المصطلح بمفرده من مفرداته المقبولة، أو التعليل الخاطئ على حد {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، والكتب الميسرة التي تقدم مبادئ ومداخل للمتداول من الأفكار، تنطوي على مفاهيم أولية، لا يتوفر عليها المتنخوبون، وتلك المعلومات الغائبة أقل ما يجب التوفر عليها.
ف (الحرية) مفردة من مفردات المصطلحين الآنفي الذكر، كما أن (التجديد) مفردة من مفردات (الحداثة) الفكرية المنحرفة، وبعض مشمولات تلك المصطلحات تشكل قاسماً مشتركاً مع مصطلحات حضارة الانتماء، ولكل مفردة حد وشرط، وفات المخادعين بطُعم الحرية أن لتلك المصطلحات مقتضيات ومفردات مناهضة ومناقضة لحضارة الانتماء وفكرها السياسي ومقاصدها الأدبية، وأن سائر اللعب تختفي وراء الأصباغ التي تستدرج الموبقين من حيث لا يعلمون، وتصيب الذين يلحقون بهم. وإذ يفتقر العالم الثالث إلى مزيد من الحرية، وإلى مزيد من الإصلاح الجذري لأنظمة الحكم، وإلى مزيد من المؤسسات الفاعلة المفعَّلة، وإلى تمثل واعٍ للمقول، فإن المنقذ له أن يصوغ أنظمته على ضوء مقتضيات حضارته المتسعة لكل متطلبات المجتمع المدني السوي، ورفض المصطلح لا يعني رفض إيجابياته، ولا يعني التسليم المطلق للأوضاع القائمة، ولا يعني تجاهل المنجز الغربي والاستخفاف به، والقول بشيء من ذلك إجهاض للمصداقية. وإذا كان الفكر السياسي الإسلامي منقذاً كما (الديموقراطية) لذويها، فإن الإسلام أحق أن يتبع، فنحن كهم نحتاج إلى حياة كريمة، ولكننا نرجو من الله ما لا يرجون، والعالم الثالث حين يكون في حاجة ماسة وفورية إلى الإصلاح الشامل والجذري والفوري فإن الإحلال على طريقة لعبة المكعبات لا يعد من الإصلاح في شيء، والاستيراد للأنظمة والأفكار لا يكون كما الاستيراد للأجهزة والمعدات، والخلط بين الحضارة والمدنية كالخلط بين الوسائل والغايات، والمجربون والراصدون لا يجدون بداً من المرحلية، وتهيئة الأذهان للقبول والتفاعل، فالشعارات الجوفاء زاد رديء للاستهلاك الإعلامي، والمتغنون بمثل هذه المصطلحات المغرية، أشد الناس عداوة وإجهاضاً لمضمراتها.
وكلما قال المنذرون قولاً لينا، وطالبوا بتهيئة الأجواء النفسية والاجتماعية والسلوكية المناسبة للمستجدات النكرات، بادرهم الموبقون بحتمية الحرية والتجديد، وما دورا أن أخذ الحذر عبر المساءلة والمكاشفة لا يعني نفي المشترك.
وهل يتصور عاقل إمكانية رفض العدل والحرية والمساواة والتجديد؟، وهل يدور بخلد إنسان سوي قبول الظلم والاستبداد والتخلف والعبودية، هذا الاضطراب المخل في المفاهيم، يقف بالمفكر والعالم والسياسي على مفترق الطرق وبنيات الطريق؛ ليحسم أمره، ويعتق نفسه من رق الجهل وعبودية الهوى. ولن تبدو بوادر النجاة إلا بتصحيح المفاهيم أولاً، وتنقية الأجواء من غبش الضلالات ثانياً، وتحرير المصطلحات الشائعة بكل تراكماتها، وفرز اللعب عن المبادرات، ومعرفة اللاعبين الماكرين، وما غدوت في أهل الجدل الفكري أو السياسي أو الأدبي إلا وجدت المغالطات الموبقة. ولو أن مدعي الإعتاق في المشاهد الثقافية والإعلامية والفكرية عرفوا تلك المصطلحات على وجهها، لما حصل تنازع، ولا قامت عداوات - بهذا الحجم على الأقل -، وإلا فالاختلاف إكسير الحياة، ولا يحقق الثراء المعرفي إلا القبول بالرأي الآخر بشرطه، ولما أزل أقول: إن اضطراب مفهوم المصطلحات مصدر كل الإخفاقات، وإن تفخيخ اللعب من المكر السيئ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، ومتى لم نأخذ بأسباب النجاة من قوة رادعة، وسياسة محكمة، وإمكانيات مغنية، وعزم على مناصرة الحق ومراجعة النفس، تجرعنا مرارات الكيد، وما على المستهدف بالمكر والكيد إلا التحرف للخلوص من الموبقات، و{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} «سورة الحج 40».
وكل الغادين والرائحين يتغنون بالمستجدات والحريات، لا لشيء إلا ليقال وقد قيل، فماذا بعد هذا، وهم - بكل الرهانات الخاسرة - في معزل عن مجال التطبيق، ف (الحداثة الأدبية) وحسب - على سبيل المثال- كما هي في أرض المنشأ، لا تعني التجديد وحده، وإن كان التجديد بعض مقاصدها، وهي فيما سوى الأدب مشروعة ومقبولة، أما في الفكر والأدب والتربية وسائر العلوم الإنسانية فخلق آخر، لا يجوز فيه القبول المطلق ولا الرفض المطلق، ذلك أنها مصطلح تداوله الغربيون، وفق مفاهيم ومقتضيات ليست على وفاق مع قيم الحضارة المتلقية، ولقد دارت شبه وشكوك حول سدنتها واستفاض تواطؤهم بثمن بخس مع قوى البغي والعدوان، وما (الديموقراطية) و(الليبرالية) عن ذلك ببعيد، إذ هما في النهاية مصطلحان سياسيان لا يعنيان (الحرية) وحدها، ولا يعنيان المجالس النيابية والسلطات الثلاث والفصل بينها، وإن تضمناها، والقبول بهما على ما هما عليه عند الغرب المنتج، إقصاء للفكر السياسي الإسلامي وللتجديد الفني واللغوي والدلالي. ودعوى الإفراغ أو التشذيب لتوافق المقتضى الإسلامي تحصيل حاصل، إذاً يجب - والحالة تلك - الاستغناء بمصطلحات الإسلام: السياسية والأدبية والفكرية المتسعة؛ لما وسعته تلك المصطلحات الوافدة، وإذ تتسع (الديموقراطية) لعدد من المؤسسات التشريعية والنيابية والشورية والقضاية والتنفيذية، فإن حضارة الانتماء لا تجد مانعاً من التماثل دون الذوبان أو التسمي والاستبدال.
وإذا أخفق العالم الثالث في التطبيق، أو حصلت ممانعة أو تقصير، فإن ذلك يستدعي تصحيح المسار، لا نسف المبادئ، ومثلما نقع في اضطراب المفاهيم، نقع في اضطراب التصورات عن مجمل التدخلات العسكرية و(اللوجستية)، ونقع في الخلط بين الإرهاب والمقاومة. وتفادياً للتذبذب الذي وقع فيه المنافقون، وخشية من الوقوع فيما حذر منه (ابن خلدون) من أن من طبع المغلوب (تقليد الغالب)، ومما تخوف منه (مالك بن نبي) من استفحال (القابلية للاستعمار)، تجب علينا قراءة الظواهر والأحداث بعيون المؤسسات لا بالبصيص الأعشى والعشوائي للأفراد. وهذا الاضطراب في المفاهيم، وتتابع اللعب السياسية المهلكة إن هو إلا ترجمة حرفية للغدوِّ الموبق، وخطورته المتيقنة جعلتني أُبدئ القول وأعيده المرة تلو الأخرى، وكأني ذلك الخطيب البسيط الذي كرر خطبته طوال العام، ولما روجع في ذلك، قال: لو أقلعوا عما أنهى عنه ما كان مني أن أكرر القول، فهل يكون غدونا أفراداً وجماعات لفهم الأشياء والأخذ بأحسنها، أم أنه بيع للثوابت، وهتك للمسلمات، ووقوع في الموبقات. وجملة القول: إن الممانعة المحرمة والاندماج المطلق في عالم القيم، كاليأس من رحمة الله أو الأمن من مكره في (علم الكلام)، وحفظ التوازن مؤذن بالخلاص من الموبقات.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:37 PM

كل الناس يغدو..! (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


واستكمالاً لما سبق من تلميحات وتصريحات عن اللعب السياسية الممسك بعضها برقاب بعض، والمتشابهة إلى حد التكرار، وعن اللاعبين الأذكياء، والمنفذين الأغبياء، وعن مجالات اللعب، وأساليبها الذكية، أود أن أتساءل: من الموبق؟ ومن المعتق المنفذ الأجير، أم المتنفذ الخطير؟ إنه تساؤل مشروع. وما ينبئك مثل مجرب أو حاضر للحدث سامع للمختصمين. والمؤمن الواثق بقدرة حضارته على الإدارة والتحكم واستشراف المستقبل والتفاعل الإيجابي يعمل من خلالها، ولا يتلقى نقائضها. ولقد قلت من قبل: - إن مسرح السياسة مصمت، ليست له (كواليس)، فإما أن يظل اللاعب لاعباً، أو يتعرض للتصفية بالتنحية أو بالنحر أو بالانتحار، وذلك حتم عندما تقترب شفرات اللعبة من التجلي، أو حين يذهب كل لاعب بما كسب أو اكتسب، أو عندما يكون الموءود كنيف الأسرار الخطيرة، بحيث تموت بموته ملفات كثيرة، لو أباح بشيء منها لمسَّ العذابُ كل الأطراف. وما أكثر الذين اختفوا من مسرح العرائس، وهم في أوج تألقهم الإعلامي. والذين أغواهم بريق اللعب، وخدعهم اللاعب الخطير بالوعود والأماني، يتهافتون عليها كما الفراش، وكم من لاعب دخل مسرح اللعبة طائعاً مختاراً، وكان بإمكانه ألا يدخله، ولما أراد الخروج منه، لم يكن قد أعد له عدته، فتحول من قائد مهيب إلى مقود خانع أو جثة لا تجد من يواري سوءتها، أو متفلت لجوج تُحكم قيده اللعبة ببطء كما الذباب ولعاب العناكب.
وكم من مغرور احتنكته اللعبة، وهو يرقب سراب القيعان ووعد الغرور، الذي لم يصدق منه إلا وعد (بلفور). وشواهد الموبقات ثاوية في المشهد السياسي، يعرفها العالمون ببواطن الأمور، وأبسط التحريات تقف بالمتابع على أطلال وأناسي بلغت ببعضهم الدعاية وصناعة النجوم هام السحب، حتى إذا شارفت المسرحية على فصولها الأخيرة بلغت معها الروح الحلقوم. وما صناعة النجوم وتلميعها إلا جزء من متطلبات اللعب، كي تعشي الشخصيات الزائفة المزيفة عيون الدهماء، وما دروا أنها تعكس النور ولا تشعه، لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني متعالماً في إحدى دول الجوار يقول عن أغبى اللاعبين في بيت من بيوت الله: - إن الملائكة تقاتل معه، وحين حصحص الحق لم يدرك السذج فداحة الكارثة، وصدق الله: - {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس:62)
ولما كانت اللعب المعشية والمصمة ناتج مطابخ سياسية عريقة فإنها لا تفاجئ النظارة بالمسرحيات دون مقدمات، كما الصدقة بين يدي النجوى، إذا لا بد - والحالة تلك - من صناعة النجوم بالقدر الذي يقربهم إلى قلوب النظارة، ولا بد من صناعة المسرح بحيث لا يضيق عن الأدوار وتزاحم الأضداد. وللاعب المحترف قبل أن يأتي بلعبته يختلق المشاكل التي تمهد لها الطريق، وتستحث قدومها، ولاسيما أن العالم الثالث يقوم على تركيبة سكانية وعرقية وطائفية وقطرية وحدودية قابلة للاشتعال في أي لحظة، والمستبد يتأبط الملفات الساخنة يطوي وينشر منها ما يشاء، تحت سمع الضحية وبصرها، وكأن الوهن والحزن قد بلغا الدرك، فما عاد الضحية يميز بين التمرة والجمرة.
وإذ تقوم السياسة على التمثيل والخداع فإن ذلك يتطلب براعة الإعداد ودقة الإخراج وتوفير سائر متطلبات مسرح التمثيل، وما كل غاد إليه معه حذاؤه وسقاؤه. والمضحك، وشر البلية ما يضحك، أن مسرح العرائس يُصنع تحت وهج الشمس، ولكن اللعب تتشابه على الذين لا يفعلون، كما تشابهت بقر بني إسرائيل، ومع فقاعة اللون فإن الدهماء تهتف للأبطال المزيفين. والعالم الجشع المتغطرس تحكمه مصالحه الجائرة، وهو بسبيل تحقيق أكبر قدر منها. وكما أن الإنسان موزع بين التسيير والتخيير، وليس جبرياً ولا قدرياً، فإن الكيانات السياسية الصغيرة كذلك، تملك قدراً من السيادة وحرية الاختيار، ولكن البعض منها لا يحسن استغلال المتاح والممكن، ومن ثم تخضع لتقلبات الطقس وقوانين اللعب، وفي النهاية فإن الكلمة الأخيرة لمن يقدر على إنفاذها، وما أكثر (التيميين) الذين قال فيهم جرير: -




(ويُقْضى الأمر حين تغيب تيمٌ
ولا يستأمرون وهم شهودُ)
(وإنك لو رأيت عبيد تيمٍ
وتيماً قلت أيهم العبيدُ)


وبعض الكيانات بلغت من الضعف والارتباك والتردد حداً سهل عليها الهوان، وأصبحت لا تتألم من الصفعات والركلات والقعود الذليل كما الطاعم الكاسي: -



(مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ
ما لِجُرحٍ بمَيِّتٍ إيلامُ)


واللعب التي تستدرج الموبقين تعد في النهاية (فتن) لا تصيب الذين غدوا إليها خاصة، وكم من معتزل أو دافع بالتي هي أحسن مسه طائف من عذاباتها، وذيولها أشد خطراً من متونها، وللرسول الناصح صلى الله عليه وسلم لفتات معجزة ففي قوله: - (الفتنة نائمة) دليل على كمونها في أي تجمع إنساني، وليست طارئة عليه. والدخول فيها : - قولاً أو فعلاً يكون في البداية اختياراً، ولكنه في النهاية يبلغ حد الاضطرار. والذين يستعذبون الخوض في المسكوت عنه، ولا يجدون حرجاً من نبش الخلاف، واستمراء السخرية من حضارتهم وإنسانها والتهافت على رموز الآخر متخذينه عدواً وحزناً، كل هؤلاء من أولئك الذين يبيعون أنفسهم فيوبقونها، وبخاصة حين يكون النبش في زمن المتردية والنطيحة والموقوذة. كما أن تصعيد الخلاف حول الثانويات تمهيد لإيقاظ الفتن النائمة والوقوع في رقها، وما أكثر الذين يغدون أحراراً، ويروحون أرقاء، وفي ضجة العويل والانكسارات نقول لكل متضور متألم: - (يداك أوكتا وفوك نفخ). فمن فتح الأبواب، ومهد الطرق، لتدفق الأسلحة، وقيام القواعد، ومن طبَّع وهرول، ومكَّن للآخر من اختراق الأجواء؟ إن تنفذ الآخر يضع يد المتيح في القيد طائعاً مختاراً، ويجعله يبيع نفسه بأبخس الأثمان. وإذ لا يكون بالإمكان الاعتزال فإن الاستعداد قبل المفاجأة بعض التوقي والعتق.
والمؤكد أنه ليس بمقدور أي كيان، وبخاصة كيانات العالم الثالث أن يغلق عليه بابه، ولا أن يكسر سيفه، ولا أن يعض على جذع شجرة حتى يأتيه الموت، وإذ يكون الغدو حتماً، فمن الخير سلوك سبيل العتق، وتفادي طريق الإيباق، ومن أراد النجاة اتخذ أسبابها، من استشارة، واستخارة، واستبانة، وأناة، ورفق، واعتزال للشبهات. والزعماء والمفكرون الذين يحتملون ما لا يفهمون وما لا يطيقون يهلكون أنفسهم وأمتهم، والتحدي غير الصمود، والدفع غير الطلب، والقعود غير التوقي، والاهتياج والاتقاء غير المداهنة، ولا يخفى إلا ما لم يقل وما لم يفعل، وفي ظل ثورة الاتصال لا تخفى على الناس خافية، والموبقون يعرفهم الناس بسيماهم، والإفراج عن الوثائق أو تفلت الألسنة فضح على رؤوس ا لأشهاد، وحين يملك البعض القدر الكافي من الحرية واتخاذ القرار المناسب، يُبلى ببعض المستهمين معه على ظهر السفينة، ممن لا يجد بأساً من خرقها باسم حرية التصرف، مفوتاً بخطيئته فرصة النجاة. وهل حروب العقدين الماضيين التي قضت على كل المثمنات والآمال من صناعة الذين يتجرعون مراراتها،؟ أم هي كما القتام تسوقه الرياح ليزكم أنوف الملثمين. إن كل منفذ غبي يمتد أثره السيئ إلى من حوله، وما أكثر الذين يفضلون السلامة، ثم لا يمكنهم سفهاء القوم منها، وصدق الله {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال: 25)، ولما كانت رياح التغيير تهب من كل جانب فإن مبادرتها بالقبول المطلق دون النظر الثاقب والتبصر الحصيف مدعاة لضياع ما في اليد. وتفويت الاستفادة منها حياد سلبي، يحرم الأمة من الفرص التي لا تطرق الأبواب إلا مرة واحدة. وكم من مجازف أضاع ما في يده وإن قل، ولم يظفر ببعض ما في أيدي الناس وإن كثر.
وإذ يكون من طبائع الاستبداد إكراه كل طرف ليمسك بشطر من رداء اللعب، أو أن يكون لاعباً رئيساً فيها، فإن من الحكمة ركوب أهون الضررين. وتحامي الضلوع في اللعب الكونية التي تأتي على الحرث والنسل غدو معتق. واللاعبون الذين ضاعوا، وأضاعوا بلادهم، هم أولئك الذين غدوا ليوبقوا أنفسهم ومن تبعهم من المكرهين أو الطائعين، وكم من هالك مهلك زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنا. وكم:



(يُقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن)


لقد كان بإمكان الموبقين وعشاق الأضواء ألا يكونوا رؤوس الحراب، ولكنهم رضوا بتولي كبر التآمر، وممارسة دور اللاعب الأكبر ظلماً وعدواناً، ومع ذلك لا يكون في أنفسهم حرجاً من مقاتلة من حولهم من الشركاء في الأرض واللغة والدين والهم المشترك. والقابلية تجعل الناشطين في الفتن مجالاً للعب المرهصة واللعب النافذة. يتجلى ذلك في الأحلاف والاتفاقات والاعترافات وعقد الصفقات المؤثرة على المنظومة السياسية، ولقد بادر إليها من شق عصى الجماعة، وعطل الاعتصام بحبل الوفاق، الأمر الذي أفقد المؤسسات الجماعية دورها المنشود. وعلى كل الأحوال فالعالم خلق ليصطرع، ولكل قوم مصلحة بينة أو خفية من هذا الصراع، ومن أولويات مهماته أن يحافظ على أقصى حد منها، وأن يمهد الطريق إليها، أو أن يحققها بأقل الخسائر، ولا ينجي الضعفاء من الغدو الموبق إلا التكتل والاجتماع والاعتزال الإيجابي لكافة اللعب، وتفادي التوطئة لها، والاتقاء المشروع، والدفع بالتي هي أحسن. إن اللجاجة والحماقة والعنتريات في زمن الضعف وقلة الحيلة والهوان مدعاة إلى كسر العظم وحرق الأرض وحز الرقاب، وكل مشعل للحرب سيكون بعض وقودها، وكل مطلق للكلام على عواهنه سيكون تحت مراقبة الأقوياء، ومن المؤذي أن يضطر المحارب إلى التراجع بعد فداحة الخسائر، وقبل تحقيق الأهداف، أو أن يضطر المتعنتر في خطابه إلى التخلي أو الاعتذار، لقد ملّ المستضعفون من الرغاء بعد الصهيل، وضاقوا ذرعاً ب(البراقشيين)، الذين لم يجنوا على أنفسهم وأهلهم وحسب، بل امتدت أذيتهم إلى من يؤثرون السلامة، ويجنحون إلى السلم، لقد انتهى عهد الدكتاتورية والمقابر الجماعية، وإخراج المعارضين من ديارهم ومطاردتهم في الآفاق، انتهت الخطابات الحدية والتحدي والانتفاخ والمغالطات، ولن يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.
لقد شهد العالم الثالث ثورات دامية، تحولت فيها الشعوب إلى غنيمة لمن يستيقظ من نومه قبل الفجر، ويمتطي صهوة الدبابة، وعايش أحداثاً جساماً، كان فيها الموقد والوقود، وعندما خبت نارها، رحل اللاعب بالغنائم، وظل الموقد والوقود يتجرع مرارات ذيولها، ولسنا بحاجة إلى الشواهد، فكل ماهو قائم من فتن، إن هو إلا بداية لعبة أو ذيولها، وخير مثال نضربه واقع الأمة العربية والإسلامية، وكأن كل الغادرين موبقون، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: - (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) وإذ لا نقدر على الإعتقاق الشامل فلا أقل من تفادي الإيباق القاتل.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:39 PM

ما يُنشر باسمي في المواقع تَقَوُّل وافتراء..!
د. حسن بن فهد الهويمل (*)


أطلعني أحد الإخوة على مقال طويل نُشر في موقع (شبكة القلم الفكرية) بتاريخ 28-6-2005م، تحت عنوان (الليبراليون السعوديون وتجديد المكارثية) وقيل إنّه نُشر من قبل في (مواقع الساحات السياسية) تحت توقيع (حسن بن فهد) وهو حديث عن (الليبرالية) و(الديموقراطية) و(العلمانية)، وكاتبه الذي ربَّما أنّه تقنّع باسمي، أو أتفق معه - وهذا بعيد - والمتقنّع يتوخّى في كتاباته القضايا السياسية والفكرية التي أتناولها في مقالي الأسبوعي كلّ يوم ثلاثاء في جريدة (الجزيرة)، والجريدة تنشر مقالاتي في موقعها على (الانترنت)، وقد يستحسنه البعض فينقله إلى مواقع أخرى، ليكون مجال إعجاب أو سخريّة وتندُّر، وقد حصل ذلك أكثر من مرة، وليس في النَّقل والتعليق من بأس، (والناس فيما يعشقون مذاهب)، وإن كان بعض النّاقلين والمعلِّقين يفهمون ما أقول على غير مرادي، ولكنّها حرِّية القراءة، (ومن ألف فقد استهدف).
ومع أنّ الكاتب المتقوِّل يحاول قدر المستطاع التزام رؤيتي حول المستجد من المذاهب، إلاّ أنّه لا يتحرَّج من ذكر الأسماء التي قد اختلف مع بعض توجُّهاتها، وهو اختلاف يتراوح بين التنوُّع والتعارض، ولا يجد حرجاً من الحكم عليها والنَّيل منها، وما كان من عادتي التفحُّش في القول ولا تعمُّد التعيين. والمقال الذي عثرت عليه، والمقالات التي لم أعثر عليها بعد، والمقالات التي قد تُكتب فيما بعد، وإن اتفقتْ مع وجهة نظري في بعض ما أذهب إليه، إلاّ أنّها تختلف رؤيةً وأُسلوباً وطريقةَ أداءٍ، ومهما كانت تلك المقالات مساندة لرؤيتي فإنّني استنكر نسبتها إليّ، وأستعدي السلطة للبحث عن المزوّر إن كانت تقدر على ذلك، وعن أصحاب المواقع الذين يتقبَّلون هذه المقالات، ثم لا يبادرون إلى إلغائها من مواقعهم ومحاسبتهم على جرأتهم.
فأنا كاتب لا استدعي إلاّ المبادئ، وموقفي منها موقفٌ علميٌّ متَّزن، وليس لي شأن بأصحابها، فهم زائلون، يمرُّون بها، ثم يتحوّلون عنها، أو تخترمهم يد المنون.
ومن ثم لا أسمح لنفسي استدعاء أشخاص بأسمائهم، ولا أسمح لنفسي باستعداء أيّ سلطة عليهم، إلاّ إذا دخلت معهم في جدل أو هم سمحوا لأنفسهم باستدعائي. وأرجو من كلِّ داخل على تلك المواقع أن يشعرني متى وجد مقالاً منسوباً إليّ، وأنا واثق بقُرَّائي ومعارفي على صفحات الصحف، فهم يعرفون أسلوبي، ويعرفون منهجي، وطريقة تناولي للمبادئ والظواهر والقضايا والأشخاص، وتعفُّفي عن ذكر الأسماء ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وسوف لا يلتبس عليهم ما يُكتب باسمي، ويتعمّد التجريح في أشخاص بأعيانهم، وإن كنت اختلف معهم، فأنا أحترمهم، وأشفق عليهم، وأرجو لهم السّداد والتوفيق، وليس من هدفي المساس ولا التشهير بالمخالف، وكتاباتي دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ودفعٌ بالتي هي أحسن، أجتهد ما وسعني الاجتهاد لتمثّل الحلم والأنّاة والبعد عن المهاترات، وكم أتمنى أن تظلّ القنوات مفتوحة مع الخصوم، فأنا باحثٌ عن الحقِّ، ولست باحثاً عن الغلبة، ومثلما أتمنى أن يجري الله الحقَّ على لساني، لا يسوؤني أن يجريه على لسان خصومي، وكلّ الذي أتمناه أن يوفِّقنا الله جميعاً، وأن يسدد خطانا، والحقُّ ضالّة المؤمن.


(*) رئيس نادي القصيم الأدبي ببريدة
رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية بالرياض
أستاذ غير متفرّغ للأدب الحديث بجامعة القصيم

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:40 PM

ارتباك المشهد السردي نقداً وإبداعاً..!! (1 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل


لم يكن من عادتي أن أكمل قراءة عمل روائي في وقت قصير أو متواصل، بل لم أكن جاداً في قراءة الأعمال الروائية، وليس ذلك بمانعي من القول في شأنها قدحاً أو مدحاً، والسعي لإقالة عثرات المتخافتين بقول ليس من الإبداع ولا من النقد، ومغالبة المعوقات في المشهد الأدبي محليا على الأقل. وحين لا يكون لي اهتمام حاضر المشهد في هذا اللون من القول السردي فإن اهتمامي بالدراسات التاريخية والتنظيرية والتطبيقية لا يقل عن اهتمامي بالشعر وفنونه، وما صرفني عن النصوص السردية إلا ما يعتريها من عجف في اللغة لا ينقي، وتسطح في الأفكار لا يغني، وخروج متعمد على الضوابط لا يحتمل، وكتابات كما الخنثى المشكل، لا تعد من الإبداع في شيء. ودعك مما سوى ذلك من جنوح أخلاقي، أو انحراف فكري، وشطح سياسي، يسوِّق به الكتبة المبتدئون كاسد أعمالهم. وعزوفي عن رديء الأعمال ما كان له أن يحول دون التواصل غير العازم وغير الدائم مع عمالقة السرديين في الوطن العربي، ومع ما ترجم من أعمال عالمية. ولن استعرض شيئا من ذلك، فهي معروفة عند ذوي الشأن. ولربما جاء ذلك العزوف نتيجة الإخفاقات الذريعة مع تأثره برأي (العقاد) في السرديات الروائية، فهو لا يرى تكافؤاً بين الجهد والوقت من جهة والقيمة المكتسبة من جهة أخرى، ومن ثم يفضل قراءة الشعر، لكثافة الدلالة وانزياح اللغة، ومغالبة الفهم، ولقد كانت له مع ذلك إلمامات نقدية وله رواية يتيمة تقص حبه الفاشل.
وجناية بعض الروائيين الأحداث أنهم لم يسيطروا على اللغة، ولم يجودوا نظامها، ولم يتضلعوا منها بالقدر الكافي، كما أنهم لم يتوفروا على (تقانة) السرديات الإبداعية التي لا يجوز المساس بها، والبعض منهم مارس الكتابة في غياب الموهبة والتجربة والثقافة، حتى لقد أصبح مولوده على هذه الشاكلة خداجاً مبتسراً، فيما أسفّت طائفة من الموهوبين والأدعياء معاً في البعد الموضوعي إسفافاً اشمأز منه الغيورون على قيمهم الأخلاقية، وفي ذلك الاقتراف ضياع للإجلال والجمال. وتلك الظواهر والسمات الخارجة على المألوف يستمرئها المنطفئون والقاعدون، ويشيد بها المجاملون حياء أو مقايضة، ولأنني ممن فُرضت عليهم متابعة الحراك الإبداعي والنقدي بحكم تخصصي وميولي واشتغالي، فقد وجدت من خلال متابعتي للأعمال السردية وللقراءات النقدية التطوعية على الأقل محلياً وعربياً شططاً وتحاملاً من كل الأطراف. فالإبداع الروائي ونقده في النهاية ظالم ومظلوم، ولإنقاذ الموقف، وترشيد المسار، لا بد من مبادرة حصيفة، توقف هذا الهدر المسرف والتدهور المفجع.
فالمبدعون الروائيون في الوطن العربي كافة، لا أكاد أستثني أحداً منهم، يمارسون الصلف والتعنت والتعالي، وكأنهم بقية الفن الرفيع، جاؤوا على فترة من عمالقة الإبداع، وأحسب أن السامري أضلهم حين قال: (الزمن زمن الرواية). والنقاد المسايرون للمبْدعين المبتدئين والكتبة المتطفلين على الفن السردي، يسرفون في الإقبال والإدبار، فلا يحبون هوناً، ولا يبغضون هوناً. ومتى فقدت الموضوعية والمعيارية، وغاب الاعتراف بحق المتلقي، دخل أطراف السرديات في متاهة التلاسن القائم على الإقصاء والإلغاء والتجهيل. وحين يكون هناك عنف ورد فعل أعنف، لا يجد الوسطاء مناخاً مناسبا لفض الاشتباك وتقرير الحق، ولا يجد الوسطيون أجواء ملائمة للحراك المتوازن، فكل طائفة تحمل شطراً من الخطأ، وما كنت فيما أقول بسبيل البحث عن المشاجب، فكلنا خطاءون، والخيرية فيمن يستبق الخيرات، ويستجيب لداعي الحق، ويبحث عن سبيل يؤدي إلى إحياء الفن الأصيل، ويعمل على إيقاف نزيف القول المجاني. والمتقرئ لركام القول يحس بأن المصداقية تكاد تكون مفقودة من كل الأطراف، الأمر الذي فوت على الراهن النقدي فرصاً ثمينة، وهذه التشنجات أفقدت المشهد الأدبي التوازن والإيجابية. والمحبط أنها تصَّعَّد في سماوات الأدب، فيما تظل بوارق الأمل ضعيفة.
الذين يُنحون باللائمة على النقاد المحجمين أو المترددين، ويصفونهم بالتقصير أو بالعجز، لا يدور في خلدهم ما يحول بين الناقد المحتشم وما تشتهي نفسه من إبداع آخذ بمجامع الجلال والجمال، فأكثر الأعمال ضعيفة، وردود الفعل المسفة على أشدها، والنافخون في القرب الفارغة يوهمون الرجال الجوف بالامتلاء، والناقد الذي يحترم مكتسبه ومصداقيته، لا يمكن أن يفرط بشيء مما اكتسب، لأنه متى زج بنفسه في تلك الأتون سلقته الألسنة الحداد، وقد يدخل بين أطراف متشنجة مسكونة بالمراهقة الفكرية والأدبية، تقول الكلام على عواهنه، ولا تلقي له بالاً، وهي بما تقول لا تبحث عن الحق، وإنما تنشد الغلبة والتهوين من شأن الناصح الأمين، ومثل هذه المواجهات التصفوية للسمعة تصرف أصحاب المثمنات عن الدخول في مناكفات خاسرة من أصلها.
وفي كنف هذا الاندفاع المهتاج والإحجام المتخوف، لم تعدم السرديات القصصية أو الروائية المتابعين الواعين من النقاد الأكاديميين ذوي التخصصات السردية من الطلبة الدارسين. ولكن الرسائل الجامعية تظل حبيسة الأدراج، فلا تسد خلة، ولا تروي غليلاً، ثم إنها محكومة بمناهج وآليات وخطط تقليدية متكررة، يفرضها الآمرون في الأقسام العلمية، وكثرتها أميل إلى الرصد والتوصيف والتاريخ، بحيث يقع الحافر على الحافر. والتناظر والنمطية في المناهج والخطط والآليات فوت عليها أشياء كثيرة، وأفقدها الألق والجاذبية، وقعد بها دون الاستفادة من الآليات والمناهج الحديثة، حتى لقد زهد أصحابها بها، وترددوا عن نشرها، فكانت كأن لم تكن، وما شذ عن القاعدة يؤكدها.
على أن قلة من الدارسين أخذتهم الثقة والشجاعة، وأقدموا على طباعة رسائلهم، فكان أن سدوا خروقاً أوسع من الرقاع، ومما طبع محلياً على سبيل المثال رسالة الدكتورة (منال العيسى) عن صورة الرجل في القصة القصيرة، ورسالة الدكتور (محمد العوين) عن المرأة في الرواية، ورسالة الدكتور (حسن حجاب الحازمي) عن البطل، ورسالة الدكتور (إبراهيم الشتوي) عن الصراع الحضاري في الرواية المصرية، وقد وقع فيما وقع فيه سلفه من تجانف لما لا يمكن القبول به، ومن قبل هؤلاء رسالة الأستاذ (سحمي الهاجري) عن القصة القصيرة، وهي أعمال تتميز بالضوابط الأكاديمية، وتترسم خطى من سبق.
والدراسات التنظيرية والتاريخية في متناول اليد، وشروط الرواية وأركانها ومتطلباتها الأسلوبية والفنية والدلالية مبسوطة ومبذولة لكل من أعوزته المعرفة على أصولها. وقد تكون الدراسات المترجمة أكثر اتزاناً وتوازناً، وأوفر معلومة، وأكثر حيادية. وليس هناك ما يحول دون معالجة التقصير في أي عمل إبداعي، ولكن الإشكالية في رفض معطيات الخلفية القرائية، وفي عقابيل ذلك. فالناقد المحافظ على الشرط السردي والضابط اللغوي والتميز الأسلوبي لا يقبل التجريب المنفصل عن تلك السمات. والمغرم بالتجريب لا يجد بداً من رفض هذا النوع من النقد، لأن المتهافت على بوارق التجديد يكاد يقع في التخريب من حيث يدري أو لا يدري، وهذا الميل الكلي يحمله على رفض الناقد المتمسك بحق التجريب المعقول، بالشرط الفني المتداول في المشاهد النقدية كافة.
والمبدع الذي انزلق في متاهات التجريب، وأغوته الإغراءات الجامحة، لا يجد بداً من المواجهة العنيفة لكل من أراد أطره على ضوابط العمل الروائي. والمتحفظ المتمكن المتابع للمستجدات المميز بين التجديد وحداثة الانقطاع، لا يمانع من التجريب المعقول، ولكنه لا يقبل الانقطاع اللغوي والفني، ولا يستسيغ النثرية التي لا تتوفر على الأدبية. والذين يتقبلون هذا اللون من التجريب الذي قد يتجاوز حد الانقطاع، يعنفون في مواجهة الناقد المصطحب لشروط الفن، ويزدرون الحد المعقول من الضوابط، وهم في ظل الاهتياج الفارغ لا يقولون الحق، بحيث يشيدون بموقفه المشروع، ويثمنون تمسكه بالضوابط، ثم يبدون اختلافهم المعتبر معه، وإنما يعمدون إلى التجهيل والاستخفاف. ورجل يؤثر السلامة، ويغلّب جانب الإبقاء على قنوات الاتصال وجسور التواصل، لا يريد أن يطرح سمعته للعلك الرخيص، ولا يريد أن يفقد العلاقات الطيبة من نظرائه، وحتى لو تحامل على نفسه، وأجرى سفينه، فإن بعض الأعمال لا تمتلك العمق القادر على تمكينه من التحرك بحرية، لأنها مستنقعات ضحلة موحلة.
وبعض الأقلام طويل الشباة، يحتاج إلى أعماق تمكنه من التحرك بحرية، ومن قصد البحر استقل السواقيا، والناقد المعياري الجاد أو اللغوي المتمكن لا يجد ما يحمل قلمه عليه، فيعف عن ممارسة النقد، وهذه التراجعات الاختيارية أو الاضطرارية جعلت المشهد دولة بين المتقارظين والمتقايضين المتلاسنين والمتشايلين، ممن لا يحسنون إلا تبادل أنخاب الثناء، أو التنابز بالألقاب. وفي هذا إضاعة للنقد والأدب الحقيقيين، وتشويه متعمد لسمعة المشهد النقدي، وكم كنت أتمنى من كل الأطراف مجافاة الإقصاء والتهميش، وتفادي تبادل الاتهامات الشخصية. وأذكر في هذه المناسبة أنني كتبت مدخلاً تاريخياً وصفياً للإبداع السردي المحلي، وجعلته فيما بعد مقرراً دراسياً وفصلاً من كتاب مخطوط، وحاولت بجدية تفادي التعميم ومجانية القول، ومع ذلك لم يعجب ما ذهبت إليه طائفة من الشباب، وبخاصة من كانت لهم محاولات سردية، لا تستحق الإشارة فضلاً عن الإشادة، وإن كانت بعض تلك الأعمال تنطوي على مؤشرات واعدة.
وايم الله إنني لم أدخر وسعاً في الإنصاف، وليس رهاني على التألق، ولكنه على الصدق وتوخي الحق. ومن بعد هذا تناولت (النقد البنيوي للرواية) متخذاً ناقدين مغربيين مجالاً للنقد التطبيقي، ونشرت الدراسة في خمس وثلاثين حلقة، واجتهدت ما وسعني الاجتهاد في الممارسة التطبيقية، والمؤسف أن هذه الدراسة هي الأخرى لم ترُق لآخرين من الدارسين والكتبة، ولم تواجه بالنقد الموضوعي، وتقصي الإخفاقات المنهجية أو الاستنتاجية المتوقعة، وبهذا الانحياز السلبي حُرم المشهد النقدي من مطارحة الآراء والوصول إلى مستقر الحق، وإذ لا أقطع بصحة ما أقول ولا تألقه، فإنني في الوقت نفسه لا أقطع بخطئه، وإنما هو كما قيل: (قولنا صواب يحتمل الخطأ)، فأين الذين يحقون الحق، ويستدركون الخطأ دون سخرية أو استهزاء؟
وإشكاليتنا أن المبتدئ يريد أن يكال له المدح، حتى لا تبقى كلمة ثناء إلا ساقها المقرظون، كما أن الناقد المادح بمجانية يريد الأشياع والأتباع، وحين يخلو المشهد لهذا وذاك يفقد المصداقية وقول الحق والأهلية، وغرروا بالناشئة وبالمبتدئين، حتى أنسوهم أنفسهم، وإذا استنفد المبتدئ كل المحامد في محاولته الأولى، لم يبق لعمله الثاني ما يمكن أن يقال، وعلى المتردد أن يستذكر ما قيل عن (الحزام) و(سقف الكفاية) و(الفردوس اليباب) و(بنات الرياض) وما سيقال عما يلحق من أعمال. لقد وقعت تلك الأعمال تحت طائلة الجزر والمد، وكلا طرفي الإفراط والتفريط ذميم. ومن طبعي ألا أجازف في الثناء، وإن أعطى المبدع في محاولته الأولى مؤشرات التألق، فلست ممن يستدر عواطف الشدات، ولا ممن يخلط بين النثر العادي والسرد الإبداعي، وأكره ما أكره أن أسمع من يطلق الثناء على كل من لملم نثاره وأخرجه إلى الناس بوصفه عملاً إبداعياً وما هو بشيء، حتى ولو كان للثناء نصيب من الحق، فنحن لا نستفيد من أنخاب الثناء.
نحن نريد قراءة لغوية وفنية لسائر الأعمال، تزن الأمور، وتضع يدها على التجليات والإخفاقات. ولكن المجاملات الزائفة، حرمت المشهد من كلمة الحق التي تسهم في تصحيح المسار. ولقد لُمزتُ حين آخذت شهداء الزور والمزايدين وموزعي صكوك النبوغ الزائف، وحين أنفت من تحويل المشهد النقدي إلى جوٍّ كنسي، لا يجود إلا بمنح صكوك التألق كما صكوك الغفران. وعلى الرغم من كل التحفظات والإخفاقات فإن المشهد المحلي يمتلك القدرة على الرهان: إبداعاً ونقداً، وحاجته إلى مبدع يبحث عن مرايا النقد المقعرة، والمحدبة، ليرى نفسه بكل ملامحها.
والناقد المنصف لا يمكن أن تعدو عينه عن أعمال روائية محلية لا تقل عما حفلت به المشاهد العربية، ومهما توفر بعض الروائيين المحليين على مقومات الأعمال الروائية فإن قلم الناقد لا يمكن أن يذعن لهم، ولا أن يسالمهم، وليس من مصلحة المشهد المصالحة والتغاضي. وخسارة المشهد في التواطؤ على الثناء والتزكية الزائدة عن حدها لأعمال لها وعليها، إن المبالغة في الثناء تحرم الأعمال مزيدا من التداول النقدي الموضوعي، فالمدح كحز الرقاب، وفوق ذلك فهو قتل متعمد لفعاليات المشهد النقدي، ولعل المتابع لآخر الأعمال المثيرة (بنات الرياض)، يجد أن اللغط حولها لم يدخل في العمق، إذ لم يفكك متعاطي النقد اللغة فيبدي سوآتها، ولم يقوض الدلالة فيفضح انحرافاتها، ولم يشرِّح الفنيات فيكشف عن إخفاقاتها، ومجمل ما يقال ثناء مفرط أو ذم مفرط، ولمّا نزل مرتهنين لثنائية: (الملائكية) و(الشيطنة).

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:42 PM

ارتباك المشهد السردي نقداً وإبداعاً..! (2-2)
د.حسن بن فهد الهويمل


ولما كانت الساحة الأدبية - كما اللحد الذي تصوره (المعري) ضاحكاً من تزاحم الأضداد - تفيض بواعدين، لم يبلغوا حد النضج، وتزدحم بموهوبين استكملوا عدة الإبداع، وتموج بأدعياء يكتبون، ولا يبدعون، ويشيرون، ولا يثرون، ويطنبون، ولا يطربون. ولما كان المشهد النقدي دُوْلة بين أوزاع المبدعين والأدعياء والنقاد المداهنين؛ فقد أصبح لزاماً على حراس الفن الرفيع أن يأخذوا على أيدي العابثين والمعذرين، وأن ينفوا عن مشهدهم زائف القول وردي الكلام، وأن يتولوا إقالة العثرات.
فكل مشهد أدبي بحاجة إلى من ينقي أجواءه، ويرشد ضاله. ولاسيما أنه مسرح للأحداث المتزببين، وللكهول المتصابين، ومثل هؤلاء يسارعون بالتافه من القول، والصارم من التأييد، وواجب المقتدرين أن يبذلوا جهداً مناسباً، يحمي من الجور والمجازفة. ولكيلا نصل بالتيئيس حد الإحباط، فإننا نشير إلى مبدعين تخطوا بأعمالهم نطاق المحلية، وإلى نقاد متمكنين، يتوخون الحق والموضوعية. ولكن الفئتين من القلة، حيث لا يتراءاها إلا ك(زرقاء اليمامة)؛ لضياعهما وسط اللغو الغالب والصخب الفارغ، فعلى مستوى الإبداع المحلي لا نجهل جيل الوسط من أمثال (رجاء عالم) و(عبده خال) و(يوسف المحيميد) وآخرين غيرهم، يمثلون الوسطية الزمانية بين فئتي الريادة والتأسيس من جهة، وفئة الانطلاق التي اختلط فيها الحابل بالنابل. فالثلاثة طليعة الممثلين لتلك المرحلة، من حيث البعد الفني على الأقل. والأخيران يمتلكان موهبة سردية، وإن لم يتضلعا من (الثقافة) ولم يسيطرا على (اللغة) بالقدر المتكافي مع مبلغهما من الفن، ولكنهما يتصدران لداتهما، ومثل هذه الإمكانيات تعفو عن كثير. ف(الخال) يكتب عن معاناة و(المحيميد) يكتب عن انطباعات، والثلاثة لا يقدرون على إعتاق المشهد.
ولكل مرحلة من مراحل: الريادة والتأسيس والانطلاق مبدعون لا يقيلون العثرة، ولكنهم يخففون من حدتها ومأزوميتها، فعلى مستوى الريادة والتأسيس نجد (السباعي) و(الدمنهوري) و(الناصر) و(خوقير)، وعشرات آخرين، ممن لهم أعمال تمد بسبب إلى الأصالة بمفهومها الغربي، ولقد رصدت ذلك كله في (المدخل السردي). والتصدي للمتهافتين على الكتابة السردية قبل النضوج وصد الممجدين لهم قبل الاستيعاب، لا يعني النفي من المشهد، وإنما الغاية ترشيد مساره، وتسديد سهامه. ولن يستقيم أمر الإبداع السردي إلا بالمكاشفة والمواجهة، وفق آليات ومناهج وخبرات ومعارف. ومتابعة الدراسات الأكاديمية المخطوطة والمطبوعة تكشف عن أبعاد فنية ولغوية ودلالية، تطفئ غضب المأزومين من غثائيات الأدعياء. فالأستاذ (معجب العدواني) تقصى مجمل تلك الأبعاد في أعمال (رجاء عالم)، والدكتورة (عائشة الحكمي) والدكتور (عبدالله الحيدري) تقصيا أطرافاً من الجوانب اللغوية والفنية والدلالية لطائفة من السرديين. ولقد كنت سعيداً بالإشراف أو بالمناقشة لبعض تلك الرسائل، والثلاثة المبدعون الذين ضربت بهم المثل، ليسوا وحدهم ممن يشار إليهم بالبنان كنماذج لاستيفاء مؤهلات الإبداع، ولكنهم الأكثر حضوراً والأقل توفراً على احتفاء المشهد. ولسنا نريد بالاحتفاء الإشادة، وإنما نريد الدراسة المعمقة وتثوير كل المنطويات.
وروايات (الخال) و(المحيميد) أثارت المشهد، ولكنها إثارة متواضعة لا تحرر رؤية، ولا تؤصل لمعلومة. والتحفظ على بعض الهنات لا يصادر الحق، ولست هياباً ولا وجلاً من مسايرة المتحفظين على بعض استفزازات (رجاء عالم) وإن كانت كاللمم، والحسنات يذهبن السيئات. وبودي لو حكم المشهد بالعدل، حيث لا يكون في نفوس المبدعين وأشياعهم حرج مما حكم به النقاد العدول. وكم كان بودي أن يفرغ المتمكنون لقراءة سائر الأعمال السردية، وأن يواجهوها بمناهج وآليات تحفظ الحقوق للمتلقي وللمبدع وللمشهد؛ فالنقاد والمبدعون كالمستهمين على مشهد الأدب، ومن الخير ألا يستقر فيه إلا ما ينفع المتلقي لغوياً ودلالياً وفنياً.
والاستقراء المحكوم بضوابطه هو الحل الأمثل في زمن الانفجار السردي وفوضويته، ولاسيما أن المستجد من الأعمال يشكل منظومة تحولية: شكلاً ودلالة، لغة وتِقانة. فأين منّا الناقد الجدير والمبدع القدير؟. ولو عدنا إلى بعض ما يشغل المشهد لوجدنا أن رواية (القارورة) - على سبيل المثال - خليط من ظواهر شتى، ولقد كنت أحسبها من قبل رمزاً للمرأة، حتى إذا قرأتها تبين لي ألا علاقة لها بالقوارير؛ إذ هي كما قماقم العفاريت، أو صناديق المصفدين في الأغلال، على شاكلة (شُبيك لُبيك) وتلك خليقة الحكواتيين، فالسارد عوَّل فيها على الحكاية الخرافية، وكاد يخلط بين الوقائع الحقيقية بكل فقاعتها، كأحداث الخليج ومتعلقاتها وحكايات العجائز على الأطفال. وما ساقه على لسان الفتيات الثلاث كان شائعاً ومعروفاً ومتداولاً على ألسنة الأطفال في (نجد) بل في (بريدة) بالذات، وهو من أبنائها.
وكنا قد سمعنا شيئاً من هذا في طفولتنا من أمهاتنا وجداتنا، وكنا نسمي تلك الحكايات الخرافية (سباحين) الواحدة (سبحانية). والأديب (عبدالكريم الجهيمان) ساق أطرافاً من هذه الحكايات في أساطيره الشعبية، كما ساق شيئاً من ذلك (فهد المارك) في كتابه (من شيم العرب) وجاءت أمشاج من الخرافات والأساطير في بعض كتب الشيخ (محمد بن ناصر العبودي)، وجاءت باللهجة العامية البسيطة في سلسلة كتب شعبية ألفها وطبعها الكاتب الشعبي (سليمان بن إبراهيم الطامي) ومن قبله والده رحمه الله، وألم بشيء من ذلك كله الكاتب (سليمان بن محمد النقيدان) رحمه الله. وتوظيف التراث العربي أو الشعبي يتطلب الرحيل بالموروث لا الرحيل إليه، وتحويله من نص حكواتي إلى نص إبداعي، وعيب المستثمرين النقل الحرفي المتنافر مع عبارات الربط.
والمتابع للمسترفدين، لا يجد مسافة فنية بين التناولات، حيث يمتاز العرض الروائي عن سائر العروض الأخرى، وبخاصة حين يتخلى الروائي عن حسه القصصي، ويقع تحت طائلة التجريب التي ترفض الشرط، وعلى ضوء هذا التمييع للضوابط فإن بإمكاننا أن نسمي مشروع معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر (أي بني) عملاً روائياً؛ لأنه إطلالة على الماضي والحاضر. و(المحيميد) أكثر جرأة من (الخال) في الخروج على الشرط الروائي، والاثنان يمتلكان موهبة سردية لا مزايدة عليها، وتلك الموهبة وذلك الاقتدار لا يصادران حقنا في القول، ولا يحملاننا على المداراة والمداهنة. والاحتفاء بالمبدع لا يبيح غمط المتلقي وإكراهه على قبول الهنات التي يمكن تلافيها، والتي تعد من عجز القادرين على التمام.
والأساطير والخرافات وأدب الاعتراف والانطلاق من قعر الواقع بكل تدنياته أخذت طريقها إلى بعض الأعمال الروائية بعد أمة، ولم يكن هذا الاحتفال مبادرة من المبدعين والنقاد؛ ولكنه ناتج إصاخة لما يعتمل في المشاهد الغربية، ومشاهدنا مرتهنة لتجريب الآخر أو تقليده، ولما نشب عن الطوق، والعاجز من لا يستبد، ولا يؤز الخلاف إلا المكابرة، فكلما قيل لمدَّعي المبادرات: هاتوا برهانكم، انفجروا كالبراكين، وتعمدوا الإقصاء والتجهيل وتلفيق الاتهامات. وبدهي أن يكون للموروث العربي في التفسير والتاريخ احتفاء بالخرافة والأسطورة، ولكن المشهد الأدبي ولاها الأدبار، حتى التقطها الغرب من تراثنا، فكان أن نبهنا إلى أهمية ذلك، وحملنا على استرداد بضاعتنا، دون علم، ودون وعي، وكان اندفاع المفسرين لأسطرة أحسن القصص تعويلاً غير سديد على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم- : (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج...) وهو تعويل يدل على خصوبة الخيال والاستجابة لفطرة الإنسان الميال بطبعه إلى الأساطير. وتوظيف الرمز والأسطورة والخرافة في الأعمال الروائية التجريبية مثار جدل صاخب بين النقاد والمنظرين، ومثله توظيف التراث التاريخي، والمعضلة أن المشهد دولة بين النفي والإثبات.
لقد أتيحت لي فرصة القراءة ل(كتاب التجليات: الأسفار الثلاثة) ل(جمال الغيطاني) ومتابعة ما كتب حول ظواهر الرمز والأسطورة والتاريخ، وبخاصة في جانب التوظيف التراثي، فتبين لي أن الإغراق في الأسطورة والخرافة عشق المبدعين المعاصرين، وهو إغراق غير متوازن، وغير منضبط، وقد يكون دون وعي، وقد تزامن ذلك مع الإيغال في التجريب، الأمر الذي قد يفوت علينا متعة الفن القصصي الرفيع، ولربما تتداخل تلك النزعات مع ظاهرة الرواية التاريخية، ولكنه تداخل يحتاج إلى مزيد من الاستقراء. والاندفاع في التجريب أدى إلى الانقطاع المتعمد، حتى أصبح المتابع لا يقدر على التفريق بين القصة والرواية والسيرة والأسطورة والتاريخ والحكاية الخرافية، إلا إذا تطوع الكاتب، وكتب على الغلاف نوع العمل، إن كان رواية أو ديوان شعر أو قصة أو سيرة ذاتية، فالشكل لم يعد ذا قيمة، مع أنه السمة الأهم للتفريق بين أنواع الإبداع القولي.
ومع أن رواد الإبداع السردي في (مصر) و(الشام) قد استزلهم الغربي، إلا أن الممانعة حالت دون الوقوع في المسخ. والراصدون من النقاد يستبينون حجم المتغير الشكلي والفني واللغوي والدلالي، وهو حجم يتنازعه الإسراف في التهافت على المستجد لدى الشباب، والاعتدال المتردد لدى الكهول. وعلى سبيل المثال فقد اختلف المنظرون في التفريق بين الرواية والقصة، وذلك في إطار المستجد الشكلي، وجاءت آراؤهم في غاية من العماية والتيه، حتى لقد اختلفوا حول عمل (نجيب محفوظ) (اللص والكلاب)، هل هو عمل روائي أم قصصي؟ ذلك أن للرواية أركاناً وشروطاً ومواصفات تتعلق بالشخصيات والأحداث والأزمنة والأمكنة، ولا ترتبط بالمقدار الكلامي على سنن المفرقين بالكم. والإشكالية حين تتشابه الأحداث والشخصيات، وتطول الأزمنة، وتمتد الأمكنة في إطار تشابه الأشكال. ومثلما ظهرت مدارس نقدية في الغرب بعدد النقاد، وتفاوتت في الشأن السردي والنقدي والأدب المقارن، فقد ظهرت في المشرق العربي حالات مماثلة، ولكن البعض منها مجتث لا يقر، وبخاصة عند المبهورين من سرعة التحولات في المشاهد الغربية والعاجزين عن ملاحقتها.
والنقاد في ظل التحولات السريعة يختلفون حول النوع الإبداعي، فقائل بأنه عمل روائي، وقائل بأنه عمل قصصي، وقائل بأنه قول لا يلحق بالرواية ولا بالقصة. وسبب اختلافهم الاختلاف حول التقيد بأدنى حد من الضوابط والمعايير، والمعضلة نفسها امتدت لسائر الظواهر الأدبية، ولكنها دون إشكالية الرواية. ويقيني أنه لا مكان للفوضى ولا للتسيب، فالشعر يجب أن يكون شعراً، والسرد يجب أن يكون سرداً، ولا تتحقق الشعرية ولا السردية إلا بسمات وضوابط لغوية وفنية وشكلية، يعرفها النقاد، ويركنون إليها حين يختلفون؛ إذ كل نزاع فني أو لغوي لابد له من أهل ذكر يفضون التنازع بوصف أو بضابط أو بعرف، وليس هناك شيء في الوجود إلا وله معهود ذهني يهرع إليه المختلفون، وله نظام يحكم حركته، وتعديل الأنظمة والشروط يختلف عن إلغائها.
والمصير إلى مفهوم (الكتابة) بوصفه مصطلحاً مفتوحاً يلوذ به كل عابث يعطو إلى فُسَحِ التسيب والتمييع لا يمكن أن يفض التنازع. وإتاحة الفرصة لكل مبتدئ أو مدعٍ أن يقول عن محاولاته الفجة: إنها شعر أو سرد فني، إمعان في الضياع، وشعوره بأن من واجبنا أن نذعن له، وأن نقبل قوله وكأنه (حذام)، ولا نكلف أنفسنا عناء البحث عن مبررات تثبت أن هذا العمل شعر أو سرد، وما هو - في نهاية الأمر - بالشعر ولا بالسرد، هذا الشعور، وتلك الفوقيات الآمرة أضاعت الضوابط، وخولت أدناهم أن يكتب سطراً أو سطرين أو حتى كلمة واحدة، ويسمي ذلك عملاً قصصياً، وقد اقترف البعض مثل هذا، وأقبل المعذرون لإكراهنا على الاحتفاء بهذا العبث، بل طاروا به فرحاً، وعدوه فتحاً مبيناً في عالم السرديات، والمخجل أن هذه الدعاوى على رغم فجاجتها لم تكن من عند أنفسهم، ولو أنهم ابتدروها لكنا استسغناها، وقبلنا بها على مضض، وألحقناها بنظائرها من (التوقيعات) مع الفارق، ولكنها لفحة سموم من لفحات الغرب عصفت بنا فتلقيناها، كما لو كانت مبادرة لا يستقيم شأننا إلا بها.
ومن المؤذي أن طائفة من المبتدئين يمارسون التفحش والانحراف، ليكون قولهم مثار جدل موضوعي لا فني، وهذا الجدل في نظرهم كاف لتحقيق الحضور، وما يدري أولئك أن السقوط الأخلاقي والانحراف الفكري والجنوح السياسي، لا يجني من ورائه المقترفون إلا سبة الدهر، حتى إن البعض من أولئك تسلل لواذاً وطبع عمله خارج البلاد، ثم سربه عبر النوافذ، وأتاح الفرصة للكتبة لتوجيه اللوم إلى من يتهمونهم بقمع الحرية، وممارسة الحق وأطر المتفلتين هو عين الحرية؛ إذ لا حرية في ظل الفوضى. والفن الرفيع هو الذي يظفر صاحبه بشرف اللفظ، وشرف المعنى، وجودة الفن، ولقد قيل: إن الفن يرفس في القيود، ولا فن بدون شروط قاسية تقمع الأدعياء والمغثين، ومتى تعرض المبدع لأي إخفاق في السمات والضوابط، تحول العمل إلى زبد يذهب جفاء.
وكل الإيجاف بالقول أو بالفعل لا يغير من الأمر شيئاً:




(أيَكونُ الهِجانُ غَيرَ هجانٍ
أم يَكونُ الصُراحُ غَيرَ صُراحِ؟)

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:47 PM

مدائح الملك عبدالعزيز في صحيفة أم القرى (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


ظواهر الأدب وقضاياه تتبادل المواقع في الحضور والغياب والأهمية، واتجاهات النقد كما تقلبات الطقس، تحركها تحولات المشاهد الثقافية: عربياً وعالمياً، والمحو والإثبات تحكمه رياح التغيير. والراصدون لسنّة التدافع يتفاوتون في القبول والرفض، كما يتفاوت الشعراء في استباق الترثنة والعصرنة. وخير المختصمين والمستبقين من يغلّب جانب الجلال على الجمال، والزكاء على الذكاء، ولا يجد غضاضة من التفسح في المجالس لكل ظاهرة فنية أو دلالية تثري ولا تلغي، فحق الناس أن يجدوا ما يشبع رغباتهم، إذ لا شرعية للمصادرة والإقصاء، ولا مكان للنمطية والسكونية، والإشكالية في حفظ التوازن بين التراث والمعاصرة. و(شعر المناسبات) وبخاصة ما يتعلق منه بالمديح، لا يحفل به المشهد النقدي المعاصر، وهو داخل في جدل الذاتي والغيري، ولكل عصر هادٍ ينذر أو مضل يستدرج، والخلاص في التوفر على المستجيب للذوائق والحاجات وفق قدر من الشروط والضوابط المعتبرة. ولقد كانت لي وقفات توفيقية لعقلنة المواقف، وتحامي الإلغاء والأثرة.
والحديث عن محتويات (جريدة أم القرى) بعد أن دخل ماضيها المجيد في ذمة التاريخ قول ثقيل وشاق، ولكنه بتضافر الجهود أصبح في متناول اليد، ولقد عرفتها معرفتي بما عاصرت من صحف، وكان ذلك عبر مصدرين رئيسين:
المصدر الأول: ما أنجزه الأستاذ الدكتور (منصور بن إبراهيم الحازمي)، وهو جهد كشّافي (ببليوجرافي) يضع مواد الجريدة بين يدي القارئ، بحيث يلم المتابع من خلال هذه الفهرسة باهتماماتها وبكتّابها وبمبدعيها وبسائر قضاياها. وفي ذلك رصد إحصائي دقيق.
أما المصدر الآخر: فكتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى)، ولقد كان لي شرف الإسهام في إنجازه، وقصتي مع الكتاب ظريفة وطريفة، فلقد بُعثت لي مخطوطته في مجلدين ضخمين للتحكيم، وحين أبديت ملاحظاتي، أوصيت بأن يكتب المقدمات ثلاثة من المتخصصين في التاريخ والأدب والإعلام، رغب الناشر اختصار ذلك كله بواحد، فكنت هو، حيث طُلب مني النهوض بالمهمة الثلاثية، فكان أن راجعت مادة الكتاب، وأعددت كافة مقدماته: التاريخية والأدبية والإعلامية.
ومرت السنوات، لأعود إلى الموضوع مرة ثانية, وذلك حين حُكّمت في كتاب (الاتجاهات الموضوعية والفنية في كتاب: الملك عبدالعزيز في عيون شعراء صحيفة أم القرى) وأحسبه عملاً أكاديمياً، تناول النصوص التي اشتمل عليها الكتاب عبر دراسة مسحية شاملة، وطبعيٌّ - والحالة كذلك - أن تتجدد الرغبة في العودة إلى ذلك المصدر الثر، لأعيد قراءة موضوع واحد من موضوعات شتى وسعها الكتاب، وهو موضوع (المدائح) التي أبدعها شعراء الآفاق العربية وخصوا بها (الملك عبدالعزيز) رحمه الله، لا يحرك مشاعرهم إلا الحب والإعجاب والإكبار.
وقصائد المناسبات تتنازعها قيم تاريخية وسياسية واجتماعية ودينية، وهي بلا شك (ديوان ذلك كله)، والشعر كما يقال (ديوان العرب) يرصد أحداثهم، ويهذب أخلاقهم، ويثري معارفهم، ويصقل مواهبهم. وليست العبرة في خصوص السبب، ولكنها في عموم الدلالة، وتألق العمل، وبراعة الشاعر، وقدرته على شد الانتباه، وإثارة المشاعر. وهل يجرؤ عاقل على التفريط بمدائح (أبي تمام) للمعتصم، أو بمدائح (البحتري) للمتوكل، أو بمدائح (المتنبي) ل(سيف الدولة)؟ وهل أحد ينكر ما تنطوي عليه تلك الإبداعات من ثروات: لغوية وفنية ودلالية؟ وأذكر أن إحدى الدارسات في (جامعة الملك سعود) أفاضت في دراستها ل(سيفيات المتنبي)، وخرجت بنتائج مثرية. وتلك الدراسة القيمة أوحت لي بعنوان دراسة جاءت في سياق الاحتفاء بالمئوية، عنونتها ب: (سعوديات ابن عثيمين) نشرت أولاً في (مجلة الدارة)، ثم ألقيت ثانياً في (نادي أبها الثقافي) وصدرت فيما بعد في كتاب متداول. وأياً ما كانت دوافع القصائد فهي منْجم ينطوي على قيم ثمينة، لا يجليها لوقتها إلا النقاد المقتدرون الذين يتجاوزون حدود المناسبة إلى تداعياتها، على سنن (البنيويين) الذين يميتون متعلقات النص ليفرغوا لذاته.
ولقد أحسست وأنا أقرأ شعر (العصر الذهبي) أن المادحين والممدوحين قضوا نحبهم، ولم ينتظر إلا ذلك الشعر الزاخر بالقيم الفنية والدلالية. ولعلنا نستذكر مقولة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه لأبناء (هرم بن سنان): ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. والمدّاحون متفاوتون، فمنهم من هو أهل لحثو التراب في وجهه، ومنهم من يستحق (بردة الرسول) صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل.
واستعادة المدائح منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث تثري المتلقي لغةً وأدباً ومعاني. فأين نحن من (زهير بن أبي سلمى)، و(حسان بن ثابت) وأصحاب النقائض و(المتنبي) ومن خلف من بعدهم؟. صحيح أن الشعر الذاتي أصدق قيلاً، لأنه يجسد الهموم ولا يستجدي الموسورين، غير أن الشعر الغيري ألصق بالموضوعية، وأغنى بالمعاني، وأثرى بالتجارب. وللمتابع أن يوازن بين شعر (عمر بن أبي ربيعة) بوصفه شاعراً ذاتياً، فرغ لنفسه، ولم يفرغ لجيبه، كما يقول (طه حسين)، وشعر سائر الشعراء الذين في ظلال القصور، ثم لينظر أيها أزكى قولاً، ولسنا مع هذا ننكر الكذب والمبالغة. ولأن متعلقات الشعر الغيري موضوعية فإن دراستنا ستُعوّل على القيم الدلالية.
وقبل أن نباشر النص الشعري نود أن نلمح إلى ظروف تشكله وبيئاته لتجهيز أرضية الانطلاق، إذ ما من شعرٍ إلا وله مكوناته المرتبطة بذات الشاعر، أو بالبيئة التي تحيط به، أو بالأحداث الجسام التي أثارت كوامن الشعراء. والشعر النابع من قعر الواقع يعطي مؤشرات قوية، تبدو معها ملامح البيئة بمختلف وجوهها، وخطوات التشكل لكيان (المملكة العربية السعودية) تكمن في منطلقات الشعراء، وكيف لا ينطوي الشعر على ظروف المرحلة وخطواتها، وهو لسان الأمة أو العشيرة.
لقد كانت أقاليم البلاد خارج متن التاريخ أشلاء قبلية وإقليمية وطائفية مرتهنة للجفاف والتصحر والجهل والأوبئة والحروب، يكاد قوت الكفاف يكون عزيز المنال، لا تمتد إليه الأيدي إلا بالأسنة والرماح، وكل قاصد لبيت الله معرض للسلب والنهب. ولما أن قيض الله لهذا الواقع المؤلم من يجمع كلمة أهله، ويوحد صفوفهم، ويحدد أهدافهم، ويقيم الأمن في الحواضر والبوادي، جاء الشعر ممجداً للمؤسس، مذكراً بأفضاله، محذراً من مناوأته، موازناً بين أمسه ويومه، متفائلاً بغده.
والمدائح في ظل هذه المنجزات والمعجزات لا يكون افتراء على الناس، ولا تزييفاً للواقع، ولا تزلفاً عند الممدوح، ويكفي تلك القصائد تألقاً أنها تروي حكاية التكوين والبناء. وتجربة (الملك عبدالعزيز) رحمه الله ثرية بجلائل الأعمال والأحداث الجسام. والشعراء الذين مثلوا بين يديه، واتخذوا من فِعاله المجيدة مادة شعرهم، أطالوا الحديث عما حققه للمشاعر والوهاد والنجاد من أمن واستقرار ورخاء. وبخاصة مسالك الحج التي ملئت بقطاع الطرق، وهذا التأمين لمنافذ الحج ومسالكه وحده كاف ليكون مادة ثرة للشعراء المادحين. فكيف إذا كانت منجزات (الملك عبدالعزيز) أوسع وأكثر، لقد تخطى بالمجتمع الرعوي المتموج إلى مجتمع مدني مستقر، وفر له كل متطلبات التحضر، وتخطى بالبلاد إلى عتبات التاريخ. ومجتمع بدوي أمي رعوي قبلي صحراوي من الصعب صهره ودمجه وتحويله إلى مجتمع مدني آخذ بأسباب الحضارة. لقد وسع شعر (المدائح) طائفة من ملامح المجتمع وتحولاته السريعة، وكاد يكون هذا الشعر المادح مصدراً من مصادر التاريخ الحديث لقلب الجزيرة العربية. والقارئ لما تحت السطور يستبين ما يعتمل في نفوس الشعراء من إعجاب وإكبار لقائد استطاع أن يختصر معركة التكوين، وأن يبسط الفعل في معركة البناء، وكيف لا يكون مثار الإعجاب والإكبار وهو الذي وطّد الأركان، واستل السخائم، وألّف بين القلوب، وأشاع متطلبات الحياة السوية، ووضع أسس المجتمع المدني، وجاء بشعبة من البدو فوطنهم بالهجر وأمدهم بما يحييهم من تعليم ومشافٍ وزراعة وصناعة، وأعلن اسم (المملكة العربية السعودية) دولة فاعلة في الأسرة الدولية.
و(جريدة أم القرى) التي واكبت هذا الحراك الحضاري رصدت كل التحولات المجتمعية، واستقبلت ما قيل في (الملك عبدالعزيز) من مدائح وما قيل في سائر المناسبات من شعر راصد لكل التفاصيل على مدى ثلاثين عاماً، وهذا الكم الوفير من الشعر يعد سجلاً حافلاً لمجمل الأحداث المصيرية التي تهم المواطن العربي فضلاً عن المواطن السعودي. ف(الملك عبدالعزيز) يشكل تحولاً جذرياً في التاريخ العربي الحديث، والشعر الذي رصد الأحداث، وكاد يفصل الحديث فيها جدير بأن تعاد قراءته وفق آليات ومناهج حديثة، للوقوف على المنعطفات التاريخية المهمة. وفي ظل الحراك الحضاري أبدع الشعراء قصائدهم متفاعلين مع مناسبات عدة ك(الحج) وغيره ولاسيما أن (الملك عبدالعزيز) يقود قوافل الحجيج، ويشرف على راحتهم، ويحتفي بالوفود من ساسة وعلماء ومفكرين وأدباء. ومناسبة الحج من أوسع المناسبات، أقبل شعراؤها من كل آفاق الوطن العربي. وقصائد المدح المعنية بالدراسة لا ترتبط بسبب، إنها نظرة إعجاب وإكبار، ومع ذلك فقد نيفت على ستين مطولة، وهي جزء ضئيل من شعر المناسبات، ولقد اتسعت لمختلف المعاني، وتقصت أخلاقيات (الملك عبدالعزيز) وألمحت إلى شيء من منجزاته في المشاعر، وما هيأه لوفود بيت الله الحرام، وما وفره من أمن نفسي في طرق الحج، وأمن غذائي في فجاج مكة، وأمن صحي في المشاعر، فضلاً عن سائر منجزاته في مختلف وجوه الحياة التي رصدها شعر المناسبات.
وإذ تجلت وحدة الأمة في شعيرة الحج، وأسهم شعراء الآفاق العربية في تجسيد المشاعر والطموحات فإن شعر المناسبات الوطنية كمناسبة (الجلوس) و(البيعة) و(العام الهجري)، و(افتتاح المشروعات) والمناسبات الاجتماعية والتعليمية والانتصارات الحربية والمؤتمرات والمهرجان والأسفار والرحلات والحوادث والأحداث كاد يختص بها شعراء المملكة. وكل ما نشر في (جريدة أم القرى) مما له صلة بمنجزات (الملك عبدالعزيز) يعد من المدح والتمجيد والاعتراف بالفضل لذويه، وتقصي شعر المناسبات يبعد علينا الشقة. ومن المتعذر والاعتراف بالفضل لذويه، وتقصي شعر المناسبات يبعد علينا الشقة. ومن المتعذر التفريق بين (المدائح) وشعر (المناسبات)، ف(الملك عبدالعزيز) ممدوح بكل لسان، وفي كل مناسبة، ذلك أنه يكاد يكون المثل الأعلى لكل من نشد وحدة الأمة العربية، وتطلع إلى المجتمع المدني، مجتمع المؤسسات والخدمات، و(الملك عبدالعزيز) كاد يسبق ظله في سبيل إنجاز متطلبات الحياة الكريمة. والذين تراءوه في عيون الشعراء، وقفوا على مئات المطولات التي رصدت منجزاته، ومن المتعذر اقتفاء أثر الشعراء الذين فجرت مواهبهم عبقريته، ولكن الإشارة قد تغني عن التقصي، وكم نحن بحاجة إلى من يتعقب هذا اللون من الشعر، ويضعه بين يدي القراء، إذ كل القيم في جوف هذا اللون من الشعر.
والمنقب في مشمولات كتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى) لا يستطيع أن يفرز قصائده موضوعياً على الأقل، ذلك أنها جميعاً تتخذ من منجزات (الملك عبدالعزيز) وأخلاقياته مجالاً لسبحاتها، وحين تستثير تلك المنجزات كوامن الشعراء يكون (الملك عبدالعزيز) المصدر والمورد، وقيمة المدائح أنها تنطلق من المنجزات، ولا ترتبط بالذات، فهي سجلٌ حافلٌ لجلائل الأعمال، ومن ذا الذي يجهل معركتي: (التكوين) و(البناء) اللتين امتدتا أكثر من نصف قرن، وحققتا وحدة ومدنية غير مسبوقتين في ظل الظروف التي عاشتها البلاد قبل استعادة ملك الآباء والأجداد، وأثناء ذلك، ومتى عرف المتعقب شح الواردات، وتزامُن معركة البناء مع الحرب العالمية الثانية تبين ما يعانيه المؤسس من ظروف عصيبة.
وطوفان الشعر يحمل على الخلوص من شعر المناسبات الذي وسعته (جريدة أم القرى) وقصر الحديث عن المدائح المباشرة، لاستبانة رؤية الشعراء لهذا المثل الأعلى. والمدائح التي استخلصت من الجريدة تجاوزت ستين قصيدة، هي بعض ما رفع لمقامه دون أي مناسبة.
لقد أوحى لي التقسيم الموضوعي لكتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى) الفرق الدقيق بين شعر (المدائح) وشعر (المناسبات)، وكدت أربط ذلك بالفرق بين شعر (الغزل) و(النسيب). ومن النقاد من يجعل النسيب ما يتعلق بالتوله والبكاء ومناجاة الأطلال، فيما يجعل الغزل في الحديث عن ذات المرأة ومفاتنها، أو قل النسيب يرتبط بالعلاقات المعنوية والغزل يرتبط بالعلاقات الحسية. والتفريق بين شعر المديح وشعر المناسبات مرتبط بالمثير، فإذا حفزت المناسبة الشاعر إلى القول كان النص مضافاً إليها، وإذا حفزه الإعجاب بذات الممدوح، كان النص ألصق بالمديح. والموضوعان متداخلان، لا يكاد الناقد يفصل بينهما.
وعلى كل الأحوال فإن الشاعر هو الذي يعتق شعره أو يوبقه، فإذا اتخذ من المناسبة أو من الممدوح منطلقاً إنسانياً حضارياً كان شعره مهيأً للشيوع والخلود، وإن ظل مرتهناً للممدوح أو للمناسبة، انطفأ بانطفاء المناسبة أو بموت الممدوح. ولعلنا نضرب الأمثال بشعر (المتنبي) الذي لا يخرج بمجمله عن المدح، ومع ذلك خلد شعره، وشاع، وظل يجمجم عما في نفوس الناس، ولم يضِره ان كان مادحاً مبالغاً بالمدح، فهو يركب المناسبة، ويحكمها، ولا تحكمه، وينطلق منها ولا ينطلق بها، ويسخرها لحمل همومه، وتطلعاته، ومناشداته الصريحة أو المبطنة لقائد فذ حقق لأمته جلائل الأعمال.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:50 PM

مدائح الملك عبدالعزيز في صحيفة (أم القرى) (2-2)
د.حسن بن فهد الهويمل


وقصائد المديح تقع في مائة وعشرين صفحة من الكتاب، ومن أبرز سماتها الشكلية والبنائية انتزاع العناوين من النص، وانعدام الوحدة الموضوعية والعضوية، وتوفر الوحدة الموسيقية والنفسية واللغوية، فالوزن والقافية ولغة المكارم ومعالي الأمور هي السمات الأبرز، أما من حيث الموضوعات والمعاني فإن القصائد تركِّز على القيم المعنوية واستثمار سائر القيم الدلالية في الشعر العربي القديم، والتزامها لعمودية القصيدة العربية، وإغراقها في المبالغة والإشادة، واستدعائها لأهم منجزات الملك عبدالعزيز المتمثِّلة بتوحيد البلاد، وإشاعة الأمن والعدل، وخدمة الحجيج، وتعميم التعليم.. والتّفنن في المطالع، وطول النفس الشعري. وتعدد مشارب الشعراء وانتماءاتهم أعطى القصائد قيماً فنية ودلالية خلَّصتها من النمطية والتناظر.. والشعراء الذين فجَّر مواهبهم (الملك عبدالعزيز) أوزاع، فمنهم السعوديون الذين نعموا في ظلاله من أمثال (محمد بن بليهد)، وهو شاعر تقليدي، و(محمد بن عثيمين)، وهو شاعر جزل العبارة قوي السبك محافظ على عمودية القصيدة العربية، و(محمد بن صالح الدويش)، وهو شاعر مقل، و(خالد بن محمد الفرج)، وهو شاعر ملاحم ومطولات أرّخ لأحداث الجزيرة في عهد المؤسس، و(أحمد بن إبراهيم الغزاوي)، ويُسمى حسان جلالة الملك، ويُعد من أكثر الشعراء إشادة بأمجاد المؤسس، و(محمد حسن عواد)، وهو رائد التجديد في المملكة، ولم يكن حفياً بشعر المناسبات، و(سليمان بن عبد الله البطاح)، وهو شاعر مقل، و(حسين سرحان)، ويُعد من فحول الشعراء جزالةً وقوة أسر، و(علي بن محمد السنوسي) من جنوبي البلاد، وهو شاعر تتنازعه المحافظة والتقليد، و(جعفر المدني)، وله أكثر من قصيدة، وآخرون لا يتسع لهم بحث مقتضب.. ومنهم غير سعوديين عرفوا أحوال البلاد من أحاديث حجاج بيت الله الحرام الذين أبدلهم الله من بعد خوفهم أمناً، وممن شهدوها حين وفدوا للحج أو للعمل من أمثال (سليم أبو الأقبال اليعقوبي)، و(محمود شوقي الأيوبي)، وله أكثر من قصيدة في المدائح وشعر المناسبات، و(عبد الله نوري الموصلي)، و(علي أحمد باكثير) وهو من كبار الشعراء، ومن ذوي الاتجاهات الإسلامية، والشعر المسرحي، و(عبد القادر الزهاوي)، و(محمد العباسي السلفي)، وله أكثر من قصيدة، و(يوسف داود قاسم) و(محمد سعيد ماشيج) من (يوغسلافيا) وآخرين.
والمنقب في المعطيات الدلالية عند شعراء المملكة والوافدين عليها يجد أنها تحكي الواقع المعاش، ف(الملك عبدالعزيز) ظل أكثر من ثلاثة عقود يخوض معارك التكوين، وتلك أجواء حرب ونزال، ومن ثم فإن بعض المدائح تكاد تكون من شعر الفروسية والحماسة والبطولة. يقول الشاعر ابن بليهد:




( في دار قوم رميناها بقاصفة
إذا تمزق في أرجائها القتم
أضحت خلاء وأمست بعد ساكنها
قفراً وللبوم في أطلالها نغم)


والشاعر هنا يستمرئ ذاكرته، ويستجدي محفوظه من الشعر العربي القديم، وإلا فالملك عبدالعزيز يستعيد بلاده بأيسر الطرق، ويضم أهله وعشيرته إلى كيانهم الذي فقدوه بعد سقوط الدور الثاني من الحكم السعودي، وليس هو بذلك الغازي الذي يهدم البيوت على أصحابها.. وشعراء الأحياء كافة يستمرئون أخلاف الشعر العربي القديم، ويكاد (شكل القصيدة) العربية القديمة يتجسَّد في شعر (محمد بن عثيمين) من حيث الاستهلال بالغزل، وحسن التّخلص، يقول في إحدى مدائحه:



(أقِلا ملامي فالحديث طويل
ومن عادةٍ ألا يطاع عذول)


ولكي يتخلَّص من الغزل إلى المدح يتخذ ذات الوسائل القديمة، وذلك في قوله:



(فدع ذكر أيام الشباب وطيبه
فما حالة إلا وسوف تحول)


وإذ أخذ بشكل القصيدة العربية، أخذ بالمعاني، فكأنك حين تقرؤه تقرأ ل(أبي تمام) وهو يمدح (المعتصم)، أو تقرأ ل(المتنبي) وهو يشيد بمثله الأعلى (سيف الدولة)، ولولا الارتباط بالزمان والمكان والحدث لما استطعت أن تفرق بين القديم والحديث.. و(ابن عثيمين) بالذات يركِّز على تمسك الممدوح بشعائر الدين وتحكيمه للشريعة واتخاذها شرعةً ومنهاجاً، وهو كغيره لا يكاد ينفك من ذكر الحرب ومتعلقاته، ذلك أن الأجواء المعاشة أجواء حروب. يقول في إحدى مدائحه:



(متى ما تصبِّح دار قومٍ بغارةٍ
ففي دار قومٍ آخرين تقيل)


ولأن (ابن عثيمين) لحق بمثله الأعلى، وقد تجاوز الستين من عمره، فإن شعره ينبض بالحكمة والروية والمناصحة والإشادة بالدين، والحثّ على التمسك به والدعوة إلى الرفق واللين:



(هلموا إلى داعي الهدى وتعاونوا
على البر والتقوى فأنتم أماثله
وقوموا فرادى ثم مثنى وفكروا
تروا أن نصحي لا اغتشاش يداخله)


وللشاعر أكثر من ثلاث وعشرين قصيدة في مدح الملك عبدالعزيز، توسعت في دراستها في كتابي (سعوديات ابن عثيمين).. وقد جُمع شعره بعد وفاته وشُرح غريبه، وهو ألصق الإحيائيين ب(البارودي) في الجزالة والغرابة وقوة الأسر.
أما الشاعر (خالد الفرج) فيختلف عن لداته في المباني والمعاني، إذ كان على صلة وثيقة بالآداب العربية الحديثة، وهو الذي كتب الملاحم التاريخية، ولم ينازعه هذا الاتجاه إلا شاعر الأمة (عبد الله بلخير) الذي فاق أقرانه في المطولات الأندلسية.. ومدائح (الفرج) هي الأخرى تستمد لحمتها وسداها من أجواء الحرب ولمّ الشمل، ولأنه من أصحاب المطولات، فقد يعمد إلى التفصيل، وكأنه يؤرّخ للظواهر والأحداث.. وهو كما أشرت على صلة بالآداب العربية الحديثة في (العراق) بالذات، وهو من الشعراء المتنازع عليهم، ف(الكويتيون) يرونه شاعراً كويتياً، فيما يراه السعوديون سعودياً.. والمتقصي لشعره يلحقه بالسعودية، لأن همّه سعوديٌ، وأغراضه الشعرية مرتبطة بأحداث البلاد، وملاحمه ترصد تاريخ المملكة الحديث، وتواصله مع شعراء الوطن العربي مكَّن شعره من التّخلي عن المطالع الغزلية أو الطللية، وهيأ له الاقتراب من الوحدة العضوية، بل أكاد أجزم أنه من ذوي الاهتمام بقوة المطالع والخواتيم، ولكنه اهتمام لا يربطه بالمطالع القديمة. يقول في إحدى مدائحه:



(إياك نختار فاحم البيت والحرما
وخذ لنصرك منا العهد والقسما)


على أن الحس الإسلامي ينتظم كل القصائد التي مدح بها الشعراء (الملك عبدالعزيز)، بل ينتظم شعر المناسبات كافة، فالأجواء مفعمة بالروح الإسلامية، وما من شاعر إلا وينطلق من القيم الاسلامية.. ولما أن كان الأمنُ مطلباً لكل المكتوين بنار الفتن وأعاصير الفرقة، فقد سيطر على مشاعر الشعراء كافة، وما من شاعر إلا وله إلمام طويل أو قصير بقضايا الأمن. يقول الفرج:



(هذي الجزيرة كان الأمن مضطرباً
فيها وكان لهيب الويل مضطرما)


ويقول ابن عثيمين:



(فقد كان في نجد قبيل ظهوره
من الهرج ما يبكي العيون تفاصله
فما بين مسلوب وما بين سالب
وآخر مقتول وهاذاك قاتله)


وقوله:



(فأمَّنها بالله من أرض جلق
إلى عدن مستسلماً كلُّ مجرم)


والشاعر الفلسطيني (سليم أبو الأقبال اليعقوبي) يشيد بمنهج (الملك عبدالعزيز) وأخلاقياته وطموحاته وتمسكه بالقيم العربية والإسلامية، ويبدي توجعه مما يعانيه الشعب الفلسطيني من قتل وتشريد، وكأني به يذكر (الملك عبدالعزيز) بما آلت إليه أوضاع المشردين والمقيمين على الضيم، ولقد تعمّد التورية لتجسيد معاناته:



(ليت قومي وليتني من رعايا
ه فإنني اليوم رهن القيود
(كتب الذل في فلسطين والشا
م علينا والعربُ غير عبيد)


ويأتي شعر الشاعر (محمود شوقي الأيوبي) حثاً واستنهاضاً وإشادةً وضرباً للأمثال واستدعاء لرموز العالم الإسلامي الذين تجسّدوا في شخص الملك عبدالعزيز، ول(الأيوبي) عناية بالمطالع، ولكنها عناية لا تبلغ شأو (مدرسة الإحياء)، وشعره دون غيره، وبخاصة في أوزانه وقوافيه، وهو ذو نفس طويل، يعتمد التّقصي والتّفصيل واستعادة الأمجاد العربية، وأجود شعره قصيدته (يا حاملاً علم الشريعة)، لأنه يحكي رحلة المسير إلى (الملك عبدالعزيز) عبر غنائية طويلة، يفصل فيها رحلته من بلده إلى (الرياض) مروراً بعدد من القرى والمدن، ولقد اتخذ طريق الموعظة بعد الإشادة:



(صن بيضة الدين الحنيف بعزمة
قصوى فأنت لما تقول فعول)


وقصائد شعراء البلاد العربية تشم فيها تطلعاتهم إلى وحدة الأمة العربية، ولهذا فكل شاعر يود من (الملك عبدالعزيز) مواصلة المسير، لجمع الشمل، وتوحيد الكلمة والصف والهدف.. وكأن تجربته بتوحيد البلاد مشروع لتوحيد الأمة العربية، وهو حلم يساور كل شاعر عربي أو سعودي وقف على منجز (الملك عبدالعزيز) واطَّلع على تفاصيل مشروعه الحضاري. يقول أحمد بن إبراهيم الغزاوي:



(مليك العرب وحِّدها قبيلا
فشعبك للعلا أهدى سبيلا)


ويقول (محمد حسن عواد) وهو من الشعراء النقاد الحاملين على المحافظة: شكلاً ومضموناً، وشعره فكري معضل وموسيقاه منطفئة، ولكنه عميق المعاني بعيد الغور ويشبه شعره شعر العقاد:



(وحَّدتها في الحكم ثم أعدتها
بالاسم واحدة حذار تناقض)


ويقول (سليمان بن عبد الله البطاح):



(هذا مليك العرب جامع شملها
عبدالعزيز محقق الأوطار)


ويقول في قصيدة أخرى:



(وحَّدت مملكة من بعد ما انقسمت
وبعدما كان سُوسُ الخلف قد نخرا)


والشاعر المتمكِّن (علي أحمد باكثير) يتساءل عن تلك الفرقة:



(ألا ليت شعري كيف تنهض يعرب
ومجموعها هذا النسيج المهلهل؟
عباديد شتى انحل عقد وفاقهم
كأنهم سرب النعام المجفل)


وبعد تطواف موجع جسَّد من خلاله حال الأمة العربية عاد ليقول:



(ألا إن ضوءاً في الحجاز فتيله
بنجد تراعيه العيون وتأمل)


وللشاعر (عبد القادر الزهاوي) قصيدة يستلهم فيها معاني المتنبي وأبياته في الميمية التي يمدح بها (سيف الدولة) والتي يقول فيها:



(إذا نظرْت نيوب الليث بارزة
فلا تظنن أن الليث يبتسم)


والزهاوي يقول:



(والدهر كالليث لا تأمن تبسمه
فإنما الليث عند البطش يبتسم)


وهي قصيدة يمجّد فيها معالي الأمور، ويختمها بالتأكيد على أصالة البطولة والكرم للملك عبدالعزيز، وأن بطولته وإقدامه ليسا تصنعاً، وإنما هما سجية وخليقة:



(حاكوك شخصا وما حاكوك منزلة
إن القشاعم تحكي شكلها الرخم)


أما الشاعر (محمد بن أحمد عسل) فقد تجلت الجزالة والغرابة وقوة السبك في قصيدته (حارس البيت خادم الدين)، وقد أمعن في الثناء على خلال الملك وأشاد بأخلاقه ودعاه لنشر العدل ورفع النابهين:



(املأ الأرض باسم ربك عدلا
بعد ظلم بها ونكث العهود)


ويكاد الشعراء كافة أن تكون أخلاقيات الملك وعزماته مدار شعرهم ومدرج إبداعهم، فهو المثل الأعلى بطولاته، وأخلاقه، وتسامحه، وصفحه عمن تصدوا له، بعدما أقدره الله عليهم، كما أشادوا بعدله، ونشره للدين وجمعه لكلمة المسلمين، يقول جعفر المدني:



(والعدل والأمن قد ضاءت شموسهما
بذاك قد شهد القرطاس والقلم)


والمتعقِّب لهذا اللون من الشعر يجده صورة أمينة للشعر العباسي، وبخاصة أن (الملك عبدالعزيز) تمثَّل أخلاقيات الخلفاء، وجنح إلى العفو والوفاق والتسامح، وأثبت للعالم أنه الحاكم الذي يقابل الإساءة بالإحسان، ويغلِّب السلامة، وينشد السلام، وما من معركة حمل عليها مكرهاً إلا وأنهاها بالعفو والتسامح وإعادة كل مسؤول إلى مكانه، متيحاً فرصة المراجعة لكل خصومة، وهذه الأخلاق أمدت الشعراء بشرف المعاني، وكل شاعر توفرت له المادة، ولم يجنح إلى الافتعال والانفعال يجلي شعره، والقيم العالية تفجر مواهب الشعراء.
وشعر المديح الذي وسعته (أم القرى) بوصفه بعض شعر المناسبات يُعد جزءاً مما قِيل في تمجيد القائد المؤسس، ومحور شعر المناسبات كافة وشعر المديح خصوصاً (الدين) و(العدل) و(الأمن) و(الوحدة)، وما فضل من ذلك فهو موجّه للإشادة بأخلاق (الملك عبدالعزيز) من (بطولة) و(كرم) و(تسامح) و(تواضع) و(وفاء) و(صدق) و(تديُّن).. ولأن الشعر ديوان العرب، فإنَّ شعر المناسبات الذي وسعته (جريدة أم القرى) يُعد تاريخاً للجزيرة العربية، فلقد تتبع الأحداث، ورصدها برؤية المبدع وانطباعه لا بدقة المؤرخ وعلميته، ومؤرخو الجزيرة العربية سيجدون في شعر المناسبات مادة تاريخية لسائر الأحداث، وهم قد وجدوا ما يسد خلالاً كثيرة، وما الشعر إلا بعض حيوات الشعراء وممدوحيهم.. والحذَّاق مِنْ النقاد مَنْ يعرفون القدر المتوقع من المبالغات فيطرحونه، والظلم كل الظلم أن نطرح هذا اللون من الشعر بحجة أنه لا يعبِّر عن الذات، ولا يرصد الواقع.
وخلاصة القول: إن هذا اللون من الشعر يعطي مؤشرات عدة من أهمها: ملامح المشروع الحضاري الذي ابتدره الملك عبدالعزيز، والمتمثِّل بتوحيد البلاد، وإشاعة الأمن والاستقرار، وتحكيم الشريعة، والأخذ بأسباب الحضارة، والدخول في المنظومة الدولية، وتمكين الأمة من اللحاق بشعوب العالم المتحضِّرة.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:58 PM

استراحة

مع أني أنسخ وألصق إلا أنني تعبت .. فكيف بمن يكتب ذلك بيده !!
ولاتنس أنه بقي لنا ضعفي ما قطعنا ..

قبل أن نحلق لمقالات 2004م

سأنقل لكم لقاءا مع الهويمل في موقع لها أون لاين
ثم لقاءا في إضاءات
ثم تعقيبا لأحمد المهوس على الهويمل في مرحلة ماقبل ثقب الأوزون :D

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:59 PM

حوار د. حسن الهويمل: لدينا مئات الأديبات والناقدات
لها أون لاين


الدكتور حسن بن فهد الهويمل، رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، والناقد الأدبي المعروف، واحد من المرابطين على ثغر اللغة العربية، يعتبرها قضيته الأولى؛ في الوقت نفسه لا يهاجم العامية والشعر الشعبي هجوماً مطلقاً، فهو يعي أنَّ العامية منتشرة منذ ألف عام، لكنَّه لا يريد لها التمدد وتجاوز المشافهة إلى التدوين.

التقيناه فحدثنا عن رأيه في الشعر الصوفي وأسباب تخلُّف النقد عن الإبداع، وعن فترة تكوينه الأدبي، وبمن تأثَّر خلال مسيرته منذ البداية، فماذا قال؟

كثر حديثي عن بدايتي وتكويني الأدبي حتى كدت أملّ هذا الموضوع، وبدايات كلّ إنسان تكون متواضعة، وغير ملفتة للنظر، وقد تعمل الصدف ـ بتقدير الله عز وجل ـ على تحديد اتجاهاته، وتشكيل المؤثرات في مساراته.

بدأت كأيّ إنسان بداياتٍ متواضعة وغير واعية. طفلٌ دخل المدرسة، وأخذ طريقه من الابتدائي إلى المتوسط فالثانوي فالجامعة، ولكنني أحسست منذ الابتدائية بميل للقراءة، وحبٍّ لاقتناء الكتاب، مِلتُ إلى كتب الأدب، وبالذات التاريخ الأدبي والمختارات، والموسوعات الأدبية، وأُعجبت بعبَّاس محمود العقَّاد، وبالزيَّات، وبأسلوب طه حسين، وعلي مستوى الشعر بالمتنبي، وشوقي، ثمَّ عدَّلت عن الارتباط بأيّ كاتب أو شاعر، وأصبحت قارئاً لكلّ ما يقع في يدي.

الدين والأدب.. أين يلتقيان وأين يفترقان؟

الدين مهيمنٌ، والدخول فيه هو مطلب رئيس ومقتضى إسلامي، والأدب أداة ووسيلة لخدمة الدين، ولا يمكن تصوُّر افتراق بينهما بالقدر الذي يتصوَّره بعض الناس، هناك أولويات بالمهمّات، فالأدب لا يكون مجال وعظ ولا إرشاد ولا رقائق، ولكن لا بدّ من أن يحمل الهمّ الإسلامي وهمّ الإصلاح وتقديم المشروع الإسلامي. الأدب فن، وهدفه الإمتاع, ولكن يجب أن يكون الإمتاع في حدود المباح، ولأنَّ الأدب اليوم لم يكن للإمتاع فقط، لقد "أدلجه" الماركسيون والعقليون والماديون والوضعيون أدلجوه في الفكر، فإنَّ من حقّ الإسلاميين أن يجعلوا الأدب إسلامياً يبلِّغ رسالة ويهدي أمَّة ويمتع المتلقي بالقدر الذي يوفِّر أدبية النص وفنية الإبداع.

من أبرز تجليات الشعر الذي يُنسب إلى حركة دينية، ذلك التراث الشعري للحركة الصوفية، فهل نعتبر ذلك أدباً إسلامياً؟

التصوُّف: سلوك أو عقيدة، زهد أو خرافة, اتكال أو توكل، ولا يجوز أن نحكم على ظاهرة التصوُّف حكماً عاماً، إذ هناك مستويات مختلفة، وإذ نقطع بأنَّ التصوُّف فكراً ليس من عنديات الإسلام فإنَّ التعامل معه يجب أن يكون دقيقاً وحذراً وعادلاً، والشعر الذي أنتجه المبدع متصوفاً كان أو غير متصوف، نعرضه من جانبه الفني واللغوي والشكلي على ضوابط الفن واللغة والعروض، فما قبله قبلناه, ونعرضه من جانبه الدلالي على مقتضيات الإسلام فما قبله قبلناه.

إذاً المسألة ليست مسألة تصوُّف أو سلفية أو غيرها، المسألة مسألة ضوابط فنية وإسلامية, يضع المبدع والناقد أهمية للمرجعية والرد. والقول بنسبة تجليات الشعر إلى أية حركة قول فيه تضييق لفضاءات الشعر وآفاقه، فالحركة الصوفية واحدة من المثيرات، فهي ليست الأهم فضلاً عن أن تكون المثير الوحيد والأشمل. ويقيني أنّنا أحوج ما نكون إلى الخلوص من العموميات والإطلاقات المرتجلة وغير الموفَّقة.

v المبدعون يحمِّلون النقاد مسؤولية ضعف حركة الإبداع، فيما يرى كثير من النقاد أنَّ عنصر الإبداع الحقيقي قد انتهى؟!

عملية التنافي وتقاذف الإشكالية كما الكرة أسلوب غير حضاري، والجادُّون في البحث عن الحلول ينكبون عن تبرئة الذات في سبيل إدانة الغير.

والضعف قائم ولكنَّه ليس بدعاً وليس قصراً على مرحلة دون أخرى، فالمؤرِّخون للأدب عبر العصور يقفون على مستويات متباينة، والضعف جزء طبيعي من هذه المستويات . والنقد والإبداع ـ كما قلت في مناسبة سابقة ـ وجهان لعملة واحدة, يتداعيان وقد يسبق أحدهما الآخر وقد ينعكس أثر أحدهما على الآخر.

والمشهد الثقافي يتعرَّض لحالات من الضعف والفوضى، وتلك موجات يطول أمدها ويقصر، ويستفحل ضعفها وينحسر، وأحسبّ أنَّ ما يعانيه المشهد الأدبي من ارتباك وفوضى مردُّه إلى استشراء التبعية وكثرة الأدعياء وإباحة المجال لمن لا يتوفّرون على موهبة ولا ينطوون على ثقافة أصيلة، وما أضرَّ بالأمَّة إلا المداهنة والمجاملة والمسايرة.

والإبداع لا يكون شيئاً مذكوراً إلا إذا توفَّر صاحبه على موهبة ودراية وثقافة وموقف وتجربة عميقة وأجواء تقدِّر الفن وتوفِّر الحرية المنضبطة، وناقد متمكن متخصص أو موهوب لا تأخذه في الحق لومة لائم.

وإذا تفشَّى الضعف وتخلَّف النقد فإنَّ في المشهد من يرصد ويعرف الداء وسبيل الشفاء، وإذا كان هناك ضعف وتخلُّف فإنَّ مردَّه لأنساق وسياقات وظروف قد لا يكون النقد هو السبب .

v بعض المبدعين تحوَّلوا بالنص الأدبي من الرمز إلى الغموض والطلاسم.. مارأيك؟

الغموض، والرمز، والأسطورة، والقناع حين يمارسها المبدع دون وعي يتحوَّل النص إلى الطلسمة والغنوصية، والافتعال غير الفعل، هناك غموض فني يتعلَّق بالمفردة أو بالجملة أو بالعبارة أو بالأسلوب، أو بالفكرة، وهذا الغموض يُكسب النص قيمة أسلوبية أو فنية أو معرفية، ولكنَّه لا يكون بالتعمل والافتعال.. الغموض سمة فنية قد يتصف بها المبدع. والرمزية مذهب تتنازعه عدّة اتجاهات، وهو نظرية قائمة عالجها النقاد المنظِّرون والتطبيقيون، فهناك الرمز الصوفي والرمز الأسطوري، وهناك الإشارات والثغرات، والناقد الحصيف هو الذي يحدد القيمة. والرمز مستويات، ودخول الرمز أو الغموض مرحلة الطلسمة دليل على عدم الوعي، فالفن القولي رسالة يجب أن تحمل فكرة محدَّدة وأن تراعي أحوال المتلقي، وعند البلاغيين مصطلح:(مراعاة مقتضى الحال). والحداثيون يرون أنَّ الغموض ضرورة يعمد إليها المبدع وليست سمة تعرض له دون تعمُّل، ولا يمكن تحديد قيمة الغموض أو الرمز في غياب النص الشاهد.

v وصفك أحد كُتَّاب العامية بإحدى الصحف المحلية بأنَّك وآخرين ثلاثي الرعب، وأنَّكم بملاحقة العامية والشعر الشعبي تنفخون في الرماد.. فهل أضاف الشعر الشعبي جديداً؟ ولماذا لا نعتبره أحد وسائط الإبداع؟

الخصوم يحرِّفون الكلم عن مواضعه ويتعمَّدون تقويلي ما لم أقل؛ لأنَّهم لا يحققون الانتصار بالصدق والموضوعية، ولا تُنْجيهم إلا المغالطة والكذب والخروج من الموضوعي إلى الشخصي. فأنا لست مرعباً، ولست ضد الشعراء الشعبيين، وأعرف أنَّ العامية ظاهرة منذ ألف عام، وأنَّها لغة التخاطب، والشعر الشعبي من مفردات هذه الظاهرة، ولا يمكن القضاء عليه، وموقفي فقط من لغة هذا الشعر ورفضي أن يَحْتفي به النقد الأدبي والأقسام الأدبية في الجامعات، يكون عامياً كما اللغة العامية، شفهياً كما اللغة العامية. لا يكون لغة أدب ولا لغة فكر، ومن حقّ شعراء العامية أن يبدعوه، ومن حقّ المتذوِّقين له أن يسمعوه.

وأنا ضد العامية ومفرداتها التي تهيمن على الفصحى وتتفشَّى على حسابها، لا أريد لها أن تتخطى من المشافهة إلى التدوين، ولا من التمتُّع إلى الدرس, ولا من الشارع إلى المحافل الأدبية، أريدها أن تظل مع العامة فقط، وهذا حقٌّ لا مراء فيه.

v بعد تولِّيكم رئاسة المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي خلفاً للفريق المعلمي رحمه الله، ماهي خطتكم في الأيام القادمة، وهل هناك أنشطة ثقافية وأدبية تعتزم الرابطة القيام بها؟

خروج الرئيس بالموت أو بالإعفاء لا يعني انقلاب الفعل، مات المعلمي رحمه الله، وجئت أنا, أعانني الله، وكلّ واحد منَّا يحمل هموماً كثيرة، قد تخدم أحدنا الظروف والإمكانات فيكون أكثر حضوراً وأكثر طموحاً.

ويبدو لي أنَّ مجيء رئيس جديد يتطلَّب التحرُّف لأسلوب جديد، وهذا ما أفكِّر فيه، وتعويلي على زملائي وإخواني فما أنا الفاعل وحدي، ولن أحقق ما أطمح إليه إلاَّ حين أجد الدعم والمساندة، ولا أكتمكم الحديث، ففي النفس حاجات كثيرة والله أسأل أن أجد الإمكانات المادية والمعنوية لأسعد بتحقيقها، وكما قلت من قبل فالرابطة لها مشاريعها ورسالتها، والمكتب سوف يعمل في إطار تلك المشاريع.

v لكن من المعروف أنَّ المسابقات السنوية التي تعقد في الإبداع الأدبي من شأنها تقديم أقلام جديدة ودفعها للساحة الأدبية.. ما هو دور الرابطة في تفعيل هذه الخاصية إذا جازت التسمية؟

الرابطة تخطط في كلّ عام لمشروع ثقافي، تضع في اعتبارها: المحاضرات، والندوات، والأمسيات والمسابقات، والمؤتمرات، وطبع الكتب، وإصدار المجلات. وفي أعقاب ذلك تقوِّم عملها وتستعرض نتائج فعلها وتستشير المهتمين، وتطلب افتراع فعاليات مفيدة والمسابقات حين تعقدها للرجال والنساء في الشعر والنثر، وقد تخصُّ العنصر النسائي متى قامت الحاجة إلى ذلك. كلّ الذي نتمناه من الخيِّرين والخيِّرات أن يمدُّوا أيديهم إلينا بالدعم المادي والمعنوي، أن يشتركوا في مطبوعاتنا، أن يشتروها، أن يُسهموا بالكتابة، أن يحملوا زملاءهم ومعارفهم لدعم هذه الرابطة التي تعلِّق آمالها على الرجال والنساء على حدّ سواء.

v تستقطب الحركات النسوية المشبوهة الكثير من الأفلام النسائية الباحثة عن قنوات لنشر ابداعاتهن، فأين اهتمام رابطتكم بالأقلام النسائية؟

رابطة الأدب الإسلامي لها إمكاناتها وطاقاتها، وهي لم تتوان في استغلال أكبر قدر من إمكاناتها، وهي مهتمة بالعنصر النسائي، وقد انضم للرابطة مئات الأديبات والناقدات والمبدعات الإسلاميات، وهن يشاركن في بث القيم الإسلامية من خلال النقد والإبداع، وإذا استفحل الشر وطغت وسائل التدمير الأخلاقي، فإنّ مسؤولية الرابطة في حدود إمكاناتها تمارس مسؤوليتها بالحكمة والموعظة الحسنة والدفع بالتي هي أحسن، محترمة نظام الدولة وضوابطها.

وليس لدينا سوط ولا زنزانة نتخطَّف المنحرفين وتنفيهم من الأرض (ولو شاء ربَّك لهدى الناس جميعاً) . مهمتنا العمل وليس علينا الهداية، ونحن ماضون بهذا السبيل, ونسأل الله أن يهدي بنا الضالين، ولسنا وحدنا في الميدان، هناك مؤسسات وأفراد وحكومات إسلامية.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 10:18 PM

تركي الدخيل: أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حياكم الله، في حلقة جديدة من برنامجكم الأسبوعي إضاءات، ضيفنا اليوم أيها الإخوة والأخوات هو الدكتور حسن بن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي في القصيم حياك الله يا دكتور.
د.حسن بن فهد الهويمل: يا هلا ومرحباً.
تركي الدخيل: دكتور سأبدأ من التعريف الذي يعني عرفتك به وهو رئيس النادي الأدبي في القصيم، أنت ترأس النادي الأدبي بالقصيم منذ أكثر من عقد منذ تقريباً أكثر من 20 عاماً.. 20 ولاّ أكثر؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا.. يعني.
تركي الدخيل: كم يعني؟
د.حسن بن فهد الهويمل: 24 أو 25 سنة.
تركي الدخيل: ما شاء الله عمر.
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم.




حول الدعوات لاستقالة رؤساء النوادي الأدبية

تركي الدخيل: تثار الآن في الصحف السعودية معركة أو لنسمّها دعوة تتكرر من وقت إلى وقت تدعو رؤساء الأندية الأدبية في السعودية الذين قضوا وقتاً طويلاً مثلكم وتدعوهم للاستقالة لماذا تصرون دكتور حسن على البقاء رغم المطالبات باستقالتكم؟
د.حسن بن فهد الهويمل: بسم الله الرحمن الرحيم أولاً ليس هذا إصرار، ولكن عملية التغيير ليست مرتبطة بالاستقالة، وما عهدنا أن أي قطاع حكومي لا يغير رئيسه أو أعضاؤه إلا بالاستقالة، فإذا رأت جهات الاختصاص والمرجعية الإدارية أن الوقت قد حان لتغيير رؤساء الأندية وأعضاء مجالس الإدارة فإن هذا لا يتطلب شرعنة هذا التغيير بالإقدام على الاستقالة,.
تركي الدخيل: يعني تقصد أنكم أنتم معينون وما أنتم طالعين إلا لما هم يشيلونكم، من هي أول شي الجهات المسؤولة التي تقصدها دكتور حسن؟
د.حسن بن فهد الهويمل: المرجعية الإدارية وزارة الثقافة والإعلام ومن قبلها الرئاسة العامة لرعاية الشباب هي التي أشرفت على عملية الانتخابات.
تركي الدخيل: الآن أصبحت انتقلت..
د.حسن بن فهد الهويمل:

الرئاسة العامة هي التي أشرفت على عملية الانتخابات ووصول رؤساء الأندية إلى رئاستها


الرئاسة العامة هي التي أشرفت على عملية الانتخابات ووصول رؤساء الأندية إلى رئاستها، وظل هؤلاء الرؤساء على رأس العمل إلى أن انتقلت المسؤولية من الرئاسة العامة لرعاية الشباب إلى وزارة الثقافة والإعلام وبالتالي فليس هناك ما يستدعي الاستقالة إذا كانت وزارة الثقافة والإعلام ترى أنه من مصلحة الحركة الأدبية في المملكة أن تغير أعضاء مجالس الإدارة فإن من حقها أن تغير دون أن تؤيد بالاستقالة حتماً.
تركي الدخيل: طيب جميل أنت تقول أنكم جئتم إلى رئاسة الأندية من خلال انتخابات.
د.حسن بن فهد الهويمل: أو من خلال التعيين.
تركي الدخيل: أو من خلال التعيين كما حصل في بعض رؤساء الأندية، ألا ينص نظام الأندية الأدبية ورئاسة الأندية الأدبية أكيد إنه فيه نظام.
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم نعم فيه لائحة تنظيمية.
تركي الدخيل: اللائحة التنظيمية ألا تنص على التغيير مش مرتبطة بسنوات الرئاسة.
د.حسن بن فهد الهويمل: بأربع سنوات.
تركي الدخيل: طيب أربع سنوات والتجديد يعني..
د.حسن بن فهد الهويمل: ولم تفعّل هذه.. المسؤولية على الذي يمتلك تفعيل هذه اللائحة وليس على الأندية الأدبية.
تركي الدخيل: أنتم ما دوركم يعني؟
د.حسن بن فهد الهويمل: دور رئيس النادي أن يمارس العمل حتى يقال يعني حتى يقال له بقوة النظام انتهى دورك ومن ثم يأتي خلف لك من..
تركي الدخيل: اسمح لي أستخدم قد تبدو قاسية دكتور حسن: المطالبون باستقالتكم يقولون أن أدواركم أن تمارسوا الرئاسة حتى يتوفاكم الله؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا ليس هذا صحيحاً، كثير من رؤساء الأندية استقالوا وكثير من رؤساء الأندية.
تركي الدخيل: عبد الفتاح مدين هو الوحيد اللي استقال.
د.حسن بن فهد الهويمل: لا وعبد الله ابن إدريس أيضاً ومحمد الربيّع.
تركي الدخيل: طيب الحديث عن مسألة تجديد الدماء في رئاسة الأندية ألا تعتقد أن هذا أيضاً له أثر يعني فيما يتعلق بتفعيل الأندية بوجوه جديدة بدماء جديدة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: ممكن أن تجدد الدماء باللجان بأعضاء مجالس الإدارة.
تركي الدخيل: بس مو بالرؤساء.
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ.. برؤساء الأندية أيضاً، يعني نحن لا نصر على البقاء، ولكننا نريد أن تكون الإجراءات نظامية تصدر من مرجعية الأندية الأدبية.
تركي الدخيل: يعني لازم يجي قرار؟ أو يجي واحد..
د.حسن بن فهد الهويمل: لا بد أن يكون.. القرار الذي صدر بتعيين الرئيس لا بد أن يأتي قرار بإعفاء الرئيس وتعيين رئيس آخر وليس في ذلك ما يسيء لا إلى رئيس النادي ولا إلى المؤسسة التي يعمل فيها يعني إقالة رئيس النادي لا يمكن أن تكون مؤثرة على سمعته ولا على مكانته بل الاستقالة هي التي ستؤثر على سمعته لماذا يستقيل؟
تركي الدخيل: ليش لماذا يستقيل؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لماذا يستقيل؟ الاستقالة هو دليل أن هناك احتجاج، الاستقالة إنه هناك احتجاج على أي وضع من الأوضاع، أنا جئت.
تركي الدخيل: في كل الأمور المتحضرة الواحد يشتغل لفترة وبعدين ينتهي.
د.حسن بن فهد الهويمل: ينتهي إذا فعّلت اللائحة، وقيل مثل ما فعلت الآن أنظمة نظام مجلس الوزراء ونظام موظف بمرتبة ممتازة إذا ما صدر قرار بتجديد.. بالتجديد له..
تركي الدخيل: هل تطالب بتفعيل اللائحة أنت؟
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم أطالب.
تركي الدخيل: طيب ما سمعنا لكم مطالبات؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا.. نطالب بالتفعيل ونود بس نطالب قبل تفعيل اللائحة أن تجدد هذه اللائحة، أن يوضع لائحة تواكب النهضة الأدبية والنهضة الفكرية والنهضة..
تركي الدخيل: يعني أنت تلقي بالمسؤولية وعلى وزارة الثقافة والتي يجب أن تجدد اللائحة.. وهي التي..
د.حسن بن فهد الهويمل: أساساً لا أرى أن هناك خطأ.
تركي الدخيل: إذن أنت تعتقد أن وزارة الإعلام أساساً تطالب ببقائكم أنتم..
د.حسن بن فهد الهويمل: أنا لا أرى أن هناك خطأ أبحث عن مشجب، أنا أرى أن الأوضاع تسير طبيعية، إقالة رئيس النادي أو تثبيت رئيس النادي أيضاً تأتي طبيعية، بس أساساً الصحافة هي التي صنعت المشكلة.
تركي الدخيل: تعتقد أنها صنعت مشكلة من لا شيء؟
د.حسن بن فهد الهويمل: طبعاً, لأنه ليست..
تركي الدخيل: زوبعة يعني..
د.حسن بن فهد الهويمل: زوبعة يعني ليست الأندية وحدها هي التي استمر رؤساؤها أكثر من 20 أو 30 سنة هناك جهات أخرى استمر رؤساؤها واستمر العاملون فيها..
تركي الدخيل: مثل ايش؟
د.حسن بن فهد الهويمل: ابحث عن أي قطاع ليس..
تركي الدخيل: أنت اللي تقول؟
د.حسن بن فهد الهويمل: هي موجودة، هي موجودة.
تركي الدخيل: يعني كانت بعد.. مع التعديل الوزاري اللي صار في منتصف التسعينات انتهت المرحلة مرحلة الـ 10 سنوات والـ20 سنة.
د.حسن بن فهد الهويمل: انتهت بس يكون تجديد.. إذا جدد.
تركي الدخيل: والتجديد بنظام مجلس الوزراء يجب إلا أن يكون استثناءً ومرتين التجديد؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا ليس .. هو التجديد يمكن يكون..
تركي الدخيل: هذا النظام الأساسي..
د.حسن بن فهد الهويمل: لا.. النظام أن يجدد له فإن لم يجدد انتهى دوره.
تركي الدخيل: في النظام الأساسي للحكم؟
د.حسن بن فهد الهويمل: أنا أتمنى أن تنص اللائحة أن رئيس النادي يبقى بالنادي لـ 4 سنوات فإن جدد له وإلا ترك المنصب.
تركي الدخيل: طيب دكتور حسن أنت قبل قليل قلت أن المشكلة في الاستقالة.
د.حسن بن فهد الهويمل: وليس..
تركي الدخيل: ألا تعتقد أن الاستقالة، هل تعتقد أن عبد الله بن إدريس وعبد الفتاح أبو مدين ارتكبوا إشكاليات لأنهم استقالوا؟
د.حسن بن فهد الهويمل: وحتى عبد الفتاح أبو مدين عندما استقال طلب منه أن يستمر حتى يشكل مجلس الإدارة.
تركي الدخيل: طبيعي لتمضية الأمور مثل الحكومات يعني لما تصير تتشكل حكومة جديدة يبقى الوزراء لما..
د.حسن بن فهد الهويمل: يا أستاذنا الاستقالة تصرف شخصي وقناعة شخصية يعني وليست إرادة جماعة. أنا عندما أقرر أن أستقيل، أستقيل في أي لحظة، عندما لا أقرر أن أستقيل لا أستقيل. استقالة الآخر لا تحملني مسؤولية ولا تضعني في قفص الاتهام هو الذي تصرف..
تركي الدخيل: بس لأنك قلت الاستقالة هي الخطأ، الخطأ معناتها أنت تعتقد أنهم ارتكبوا أخطاء عبد الفتاح وعبد الله بن إدريس..؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ، المطالبة.. المطالبة بالاستقالة تكون خطأ لأنه إذا أردت أن تغير جهاز مجلس إدارة وتحيل إلى لائحة وتحيل إلى نظام فلا أحد يلومك مجرد أن تصدر قراراً بأن فلاناً رئيس للنادي يكون الرئيس السابق قد انتهى. بالتالي ليس هناك ما يمنع أي نظام من تشكيل مجالس إدارة وتشكيل لجان أو حقن الأندية بدماء جديدة لا يمنع هذا، والأندية نفسها لا زالت مستمرة في تغيبر,.




حول التجديد في نادي القصيم

تركي الدخيل: هل أنتم تمارسون في نادي القصيم الأدبي أنت تقول أنه إذا بيصير فيه تجديد دماء مو بلازم الرئيس تجدد اللجان.. تجدد..
د.حسن بن فهد الهويمل: أنا أقول إنه ليس وقفاً التجديد ليس وقفاً على إزاحة رئيس النادي.. رئيس النادي جزء من التجديد إن غير أو لم يغير فهذا لا يمنع من ضخ الدماء الجديدة في النادي.
تركي الدخيل: جميل أنتم هل ضخختم الدماء الجديدة في النادي؟
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم نحن في كل سنة نغير: لجنة ثقافية، لجنة الكتاب والمكتبة، لجنة..
تركي الدخيل: عندكم متغيرات كثيرة الثابت الوحيد هو الرئيس.
د.حسن بن فهد الهويمل: الرئيس وأعضاء مجلس الإدارة لأن هؤلاء ليسوا من صلاحية رئيس النادي أن يغير فيهم يعني ليس من صلاحية رئيس النادي أن يغير في رئيس النادي نفسه أو في أعضاء مجلس الإدارة، لكن من حقه أن يغير في اللجان الأخرى.
تركي الدخيل: طيب لو استقال واحد من أعضاء مجلس الإدارة كيف يتم؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا بد أن يرشح بديل، ويرفع..
تركي الدخيل: من يرشحه؟
د.حسن بن فهد الهويمل: يرشحه النادي أو يرشحه أمير المنطقة، ترشحه لجنة ثقافية، ترشحه أي لجنة من اللجان الموجودة يعني لا بد أن يكون هناك آلية لإيجاد البديل هذه الآلية تعتبر خيارات وليست حصراً على رئيس النادي أو أعضاء مجلس الإدارة..
تركي الدخيل: لماذا برأيك أثيرت قصة بقاء رؤساء الأندية فترة طويلة الآن في الصحافة ليش ما هي بقبل سنتين أو 3 سنين؟
د.حسن بن فهد الهويمل: هذا يسأل من أثارها.
تركي الدخيل: يعني أنت كمراقب للمشهد.
د.حسن بن فهد الهويمل: لا بد لأنه لا يمكن أن تكون الأندية فاعلة في المشهد الأدبي ولا يكون لها خصوم ويكون لها أنصار ويكون لها أناس لهم طموحات ولهم تطلعات لم تتحقق على يد الأندية.. بالتالي وجود الأندية كموضوع للحديث دليل على فعالية الأندية ودليل على تأثير الأندية في المشهد لو لم يكن للأندية تأثير في المشهد الأدبي ما كان فيه مجال للحديث.
تركي الدخيل: بس هم يقولون نحن قاعدين نطالب لأنه غير فاعلة الأندية.
د.حسن بن فهد الهويمل: رؤية قد تكون الطموحات أكبر من الكميات.
تركي الدخيل: ألا تعتقد أنه من حق الصحفيين أن يطالبوا هكذا مطالبة.
د.حسن بن فهد الهويمل: إلا.. من حقهم أن يفعلوا ما يشاؤون
تركي الدخيل: ومن حقكم أنتم أن ترفضوا مطالبتهم.,
د.حسن بن فهد الهويمل: ليس من حقنا أن نرفض ولكن من حقنا أن نرقب مثلما يرقبون.
تركي الدخيل: كيف يعني؟
د.حسن بن فهد الهويمل: نحن ننتظر هل وزارة الثقافة والإعلام تريد أن تغير مجالس الإدارة، أو تريد أن تغير أجزاء من مجالس الإدارة هل تريد أن تغير رؤساء الأندية فقط؟
تركي الدخيل: لو غيرت وزارة الإعلام رؤساء الأندية الأدبية، هل تعتقد أن فيها إساءة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: ليس في ذلك أي إساءة، هو إجراء إداري يا أخي.. تغيير رئيس النادي أو أعضاء مجلس الإدارة إجراء طبيعي ليس عليه غبار وليس عليه مؤاخذة.
تركي الدخيل: لأن بعض رؤساء الأندية رابطة رؤساء الأندية في مناطق أخرى اعتبروا أن بقاءهم هو حماية للأدب، أو شيء من هالقبيل؟
د.حسن بن فهد الهويمل: هذه ليست مسؤوليتي، مسؤولية من قال هذا الكلام.
تركي الدخيل: لا أنا أشاورك في الكلام.
د.حسن بن فهد الهويمل: وأيضاً أنا أجيبك أنا لست مسؤول عن أخطاء رؤساء الأندية فيما يكتبون أنا لم أدخل.
تركي الدخيل: إذن تعتبره خطأ؟
د.حسن بن فهد الهويمل: أنا لم أدخل في قضية ما أثير حول هذا الموضوع لا سلباً ولا إيجاباً.
تركي الدخيل: أنا أسألك لأعرف رأيك فيه.
د.حسن بن فهد الهويمل: أنا أعرف أنك ما دخلت، جايبينك على شان نسمع رأيك يا دكتور حسن.
د.حسن بن فهد الهويمل: وهو؟
تركي الدخيل: من قال من رؤساء الأندية أن بقاءه هو ضمان للأدب الحقيقي أو للأدب الفاضل هل تعتقد بأن هذه المقولة صحيحة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ.. خطأ، أبداً، المملكة مليئة بالأكاديمين مليئة بالشعراء مليئة بالروائيين مليئة بالقصاص وكل من وجد في نفسه الكفاءة فمن حقه أن يتطلع إلى رئاسة النادي أو عضوية النادي وليس النادي ملكاً لرئيس النادي.
د.حسن بن فهد الهويمل: طيب دكتور حسن الهويمل أنت رئيس نادي القصيم الأهلي، هناك بعض.. منطقة القصيم معروف أنها منطقة كبيرة وتمثلها أكثر من محافظة ومدينة، هناك من يقول أنكم تستخدمون تسمون النادي نادي بريدة الأدبي، هل أنتم.. أنت بوصفك رئيساً للنادي من أهالي بريدة، فهل صحيح أن نادي القصيم الأدبي يعني يمارس بعض العنصرية اتجاه بقية مدن منطقة القصيم؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا أبداً الأدب لا يمكن أن يكون فيه عنصرية، الأديب يفرض نفسه إن كان أكاديمياً أو كان شاعراً أو كان روائياً.
تركي الدخيل: بس يقولون معظم الإنتاج اللي أنتم تطبعونه لأهالي بريدة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: ليس صحيحاً ولا طبعنا لأهالي بريدة إلا نزر قليل ولم نفكر في الموضوع، يعني الإنسان اللي فكر في الموضوع هو الذي يحمل هذا الهم العنصري، نحن لم ننظر لهذا الموضوع وإلى الآن ما اكتشفنا أن هناك عنصرية في ما نطبع أو في يعني لو كان عندنا هم كان احتطنا وأنا عرفت كم طبعنا للمحافظات كم طبعنا لأدباء الرياض وأدباء مكة وأدباء غيرها أنا لم أستحضر هذا الموضوع بحيث أنني أستطيع أن أقول لك فعلاً لسنا عنصريين، ليست هناك عنصرية أبداً، والعنصرية يمكن أن تثبتها في ممارسات ممكن أن الذي يتهم النادي الأدبي بالقصيم بالعنصرية يقدم قائمة بملامح العنصرية.
تركي الدخيل: الذين يرددون هذا القول يقولون أن عضوية مجلس الإدارة لا يوجد أعضاء مثلاً من عنيزة أو من الرس، وإن معظم أعضاء أو كل أعضاء مجلس الإدارة من بريدة.
د.حسن بن فهد الهويمل: هذا صحيح، عندما أنشئ النادي الأدبي أنشئ..
تركي الدخيل: ألا ترى أن هذا مظهر من مظاهر العنصرية؟
د.حسن بن فهد الهويمل: خليني أعود بك إلى الأصول بحيث تعرف الإشكالية، عندما فكر أهالي بريدة بالذات أن ينشئوا نادياً أدبياً هم الذين أنشؤوه أنشأه أهالي بريدة، ولم ينشئه أحد غيرهم.
تركي الدخيل: يعني كان نادي بريدة.
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم كان نادي بريدة، وعدل اسمه لنادي القصيم الأدبي وكان اسمه نادي بريدة. وكان يمول من أبناء بريدة وكان الانتخابات وجدت في بريدة ولم يكن هناك.
تركي الدخيل: طيب عندما عدل إلى نادي القصيم لماذا لم يطعّم مجلس الإدارة بأعضاء من..
د.حسن بن فهد الهويمل: مطعم.. اللجان الثقافية مطعمة.
تركي الدخيل: مجلس الإدارة ما فيه، ألا تعتقد أنه يجب أن تشارككم المناطق الأخرى.
د.حسن بن فهد الهويمل: يا أخي حتى أعضاء مجلس الإدارة معالي الشيخ عبد العزيز المسند في الرياض، والشيخ محمد الناصر عبودي في مكة له ثلاثين سنة والأعضاء ليسوا كلهم مقيمين في بريدة.. أنا ودي تشيل هالفكرة هذه لأنها ليست..
تركي الدخيل: بدنا تقنعنا على شان نشيلها.
د.حسن بن فهد الهويمل: أتصور أننا كبرنا عليها شوي
تركي الدخيل: أنا ما عندي مشكلة بس هذه من الأشياء الموجودة.
د.حسن بن فهد الهويمل: موجودة ولكن لا تثار على مستوى أشخاص يعني يملكون أهلية الإثارة يعني ما أثارها كبار الأدباء أو أثارها كبار المفكرين أو أثارها كبار المسؤولين يعني القصيم فيه عدد من الوزراء ينتمون إليه، وفيه عدد من.
تركي الدخيل: دكتور حسن خلينا نكمل بعد فاصل قصير، اسمح لي، فاصل قصير أيها الإخوة نعود بعده لمواصلة حوارنا في إضاءات مع الدكتور حسن بن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي بالقصيم فابقوا معنا.
[فاصل إعلاني]




رد على تهمة العنصرية في النادي

تركي الدخيل: أيها الإخوة والأخوات حياكم الله مجدداً في إضاءات لا يزال حوارنا هذه الحلقة مع الدكتور حسن بن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي في القصيم، دكتور قبل الفاصل كنت تتحدث وأنت متحمس واجد، تقول خلنا نشيل هالكلام: لا يوجد يعني لم يطرح هذا الطرح أحد من الأدباء الكبار لكن في النهاية هذا الكلام مطروح وكنت أنت تتحدث أنه فيه عدد من الوزراء والقصيم وأنا قاطعتك عشان الفاصل؟
د.حسن بن فهد الهويمل: هم لم يثيروا هذه القضية ولا أحد يلتفت إليها إلا أشخاص ربما.
تركي الدخيل: أنا جايبها من جيبي يا دكتور في ناس حكوها وأنا نقلتها لك.
د.حسن بن فهد الهويمل: أنا أرد أيضاً، وأقول نحن لا نفكر في مثل هذه الأشياء وأرجوا أن نكون كبرنا عليها إن شاء الله
تركي الدخيل: طيب ما تعتقد أنه من حق المحافظات أن يدرج أعضاء..
د.حسن بن فهد الهويمل: من حق المحافظات أن يؤسس فيها أندية أدبية، أمارة مكة فيها 3 أندية، نادي الطائف محافظة ونادي جدة محافظة، ونادي مكة عاصمة ومن حق المدن الكبيرة مثل عنيزة ومثل الرس والبكيرية والمذنب أن يستجاب لها ويوضع فيها أندية أدبية.
تركي الدخيل: طيب بس بين ما يحط لها هالحين هذا للقصيم كله؟
د.حسن بن فهد الهويمل: وهو للقصيم وليس هناك أي يعني تفكير في التفرقة بين أدباء المنطقة عموماً وهم يشتركون معنا في اللجان وهم يشتركون معنا في المحاضرات ويشتركون معنا في الندوات وفي الأمسيات وفي طباعة الكتب، طبعنا أكثر من 6 كتب من لأدباء من عنيزة وكرمنا أكثر من شاعر من عنيزة.
تركي الدخيل: يعني آخر تكريم من القصيم بالتأكيد هذا التكريم للأديب الراحل محمد المسيطير وهو من أهالي الرس.
د.حسن بن فهد الهويمل: بصني أنا من عنيزة والنادي يعني لا يفكر في هذا الموضوع أساساً بحيث أنه يضع احتياطات، هي جاءت كل هذه الأشياء تأتي عفوية وليست يعني لا نستحضر فيما نمارس حق عنيزة وحق بريدة وحق.. نحن ننظر إلى القصيم ككل، والمسافة القائمة الآن بين مدينة ومدينة كالمسافة القائمة بين حي وحي في العاصمة الرياض، معنا مسافات تستدعي أن نقول هالنادي لبريدة وهذا النادي لعنيزة أو الرس.
تركي الدخيل: عموماً هذا يعني ردك على أشياء مطروحة وأكيد إنك سمعتها.
د.حسن بن فهد الهويمل: ولا رديت عليها طرحت ولا رديت عليها.
تركي الدخيل: أشكرك لأنك رديت عليها هنا، دكتور حسن لننتقل إلى نقطة أخرى، أنت مدير.
د.حسن بن فهد الهويمل: المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية.
تركي الدخيل: طيب ممكن أسأل سؤال ثاني، أنت مدير صحيح المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي في الرياض، سؤالي ينقسم إلى شقين أنت تمثل يعني الأدب الإسلامي، هناك أكثر من مدرسة أدبية هناك من يتهم الدكتور حسن بن فهد الهويمل بأنه من خلال رئاسته لنادي القصيم يحكر إتاحة الفرصة على نفس المدرسة التي.. نفس المدرسة المحافظة أو الكلاسيكية أو مدرسة الأدب الإسلامي التي يمثلها الدكتور حسن بن فهد الهويمل دون أن يتيح المجال لتيارات أخرى موجودة في السعودية ولها حضورها لكي تستفيد من مناشط أو لكي تفعل من خلال النادي الأدبي في القصيم، ما تعليق الدكتور الهويمل على هذا الكلام.
د.حسن بن فهد الهويمل: والله أرجو أن لا أكون على هذا الكرسي مدافع وهذا غير صحيح وهذا غير..
تركي الدخيل: المعذرة بس هذه الأشياء موجودة وحنا نبي نسمعها منك وأنت ما شاء الله عليك متعود على المعارك والهجوم والهجوم المضاد فما عندك مشكلة بهالقصة.
د.حسن بن فهد الهويمل: أولاً أنا ضد الانتماء يعني لحزب أو لطائفة أو لتنظيم والعمل من خلال هذه التيارات أو من خلال هذه المؤسسات.
تركي الدخيل: هل تعتبر المدارس الأدبية ضمن التنظيم أو الطوائف؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ.. هي المدارس الأدبية تعتبر كيانات لها هم ولها أولويات وأنا ضد هذا الانتماء يعني أنا ضد يعني تسييج الإنسان نفسه ضمن مذهب أو ضمن تيار أو ضمن ظاهرة أو ضمن مدرسة أو ضمن دائرة لكن لا يمنع أن يعمل..
تركي الدخيل: بس أنت مدير رابطة الأدب الإسلامي بالرياض..
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم أنا رئيس للمكتب لكني لست يعني لست مستغلاً لهذا التيار بالشكل الذي يتصوره البعض وحتى المدرسة أو حتى الرابطة الهدف فيها إشاعة الكلمة الطيبة فلا أتصور أن إشاعة الكلمة الطيبة في الإبداع القولي أنه يعني التقوقع ويعني الانعزال ويعني إقصاء الآخرين، ليس هناك يعني ليس هناك هم يساور.. أو يساورني أنا على الأقل في رئاستي للرابطة أو رئاستي للنادي أو وجودي مثلاً في جامعة ذات صبغة معينة أني أنفي الآخر أو أني أمارس الأثرة أو أني أركز على استخدام هذه المؤسسة أو هذه المنشأة لتغطية همي أنا الشخصي.
تركي الدخيل: هل أنتم أتحتم مثلاً لأدباء الحداثة خليني أضرب على سبيل المثال، أقمتولهم أمسيات؟..
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم.
تركي الدخيل: مثل؟
د.حسن بن فهد الهويمل: أقمنا.. طبعنا كتب حديثة أقمنا أمسيات شعرية وأقمنا.
تركي الدخيل: ممكن تضرب لنا أمثلة.
د.حسن بن فهد الهويمل: والله ما هسّع.. واجد.. 26 سنة أو 25 سنة.
تركي الدخيل: من هذه الـ 25 سنة نبي 3 أمثلة عشان ما نتعبك.
د.حسن بن فهد الهويمل: يعني ما هو مفهوم الحداثة أنت عندك.
تركي الدخيل: اللي أنا أبي المفهوم اللي أنت تعبره.
د.حسن بن فهد الهويمل: هل تتصور إنه أنا ضد التجديد؟ المشكلة هل..
تركي الدخيل: ما أجبتني على سؤالي أبي 3 أمثلة ممن تقول..
د.حسن بن فهد الهويمل: سأجيبك على هذا، حنا طبعنا للأستاذ أحمد يوسف كتاب في التعبير الأدبي وطبعنا للأستاذ الجيلاني أيضاً جزائري كل هذا يمثلون تيار الألسنية وتيار البنيوية وتيار الحداثة لكننا.
تركي الدخيل: طيب ليش طبعتوا لجزائري ما طبعتوا لسعودي؟
د.حسن بن فهد الهويمل: طبعنا دواوين، مثلاً عندك الشاعر عبد الله الوشمي يمثل تجديد الشعر في.. شعر التفعيلة وله همّه الذي يتناغم مع الحداثة الفنية وليست الحداثة الفكرية يعني أنا أريد أن أحدد..
تركي الدخيل: طيب خلينا نحكي في هذا، أنت تحدثت عن ضابط تعتبره من الواضح أنه مهم الحداثة الفنية والحداثة الفكرية، هل نقدر نقول أنك أنت ضد الحداثة الفكرية ومع الحداثة الفنية، علمنا وش الحداثة الفكرية في تقديرك؟
د.حسن بن فهد الهويمل: الحداثة الفكرية هي حداثة الانقطاع حداثة الـ..
تركي الدخيل: كيف الانقطاع؟ أبي ما تصير مصطلحات متخصصة.
د.حسن بن فهد الهويمل: الحداثة الفكرية هي الحداثة التي تقطع صلتها بكل التراث سواء كان تراثاً أدبياً أو تراثاً فكرياً أو تراثاً دينياً.
تركي الدخيل: تعتقد أن لدينا أدباء من هذا النوع.
د.حسن بن فهد الهويمل: يمكن يكون لدينا ناس يتناغمون مع هذه الأشياء لكن ليس لدينا حداثة فكرية التي تمثل العهر والكفر، ليست هذه موجودة، الحمد لله لا ليست موجود، لكن أيضاً موالاة هؤلاء أو إفساح المجال لهؤلاء أو إشاعة الحداثة دون تحديد المفهوم لأن المشكلة التي نعيشها نحن في واقعنا هو اضطراب المفاهيم يعني عندما تطرح مشروع الحداثة وتطرح مفهوم الحداثة ما هي الحداثة التي تريد؟ هل هي حداثة فن أو حداثة فكر إذا كانت حداثة فكر أيضاً ما مدى علاقتها بأساطين الحداثة.
تركي الدخيل: وإلى أي حد هي تقطع صلتك بالتراث.
د.حسن بن فهد الهويمل: وإلى أي حد يكون ارتباطها مع الرموز.
تركي الدخيل: طيب جميل أنت قبل شوي تقول ما عندنا حنا ناس يبوا يقطعون صلتنا..
د.حسن بن فهد الهويمل: قد يكون عندنا ناس يتناغمون مع هذا التيار ويوالون هذا التيار ويشيعون هذا التيار، لكنهم ليس لديهم الوعي التام بمفهوم الحداثة التي نحن نقف ضدها، المشكلة الأساسية أنهم يروننا ضد التجديد ولهذا أنت الآن لما بدأت تتحدث معي، حسبتني من المحافظين أو حسبتني من الكلاسيكيين بينما هذا خطأ أنا لست كلاسيكياً ولست محافظاً، أنا مجدد لكن تجديدي له مواصفاته وله انضباطه وله مفهومه، اللي هو الحداثة الفنية يعني حداثة التجديد المواكبة للعصر بمعنى أن تكون أديباً مواكباً لعصرك ومتطلبات عصرك.




المعارك الأدبية بين الاختلاف والإقصاء

تركي الدخيل: جميل أجريت معك مقابلة في المجلة العربية في عام 1422 يعني 2002 تقريباً، المقابلة كانت من جزئين في جزئها الثاني سئلت سؤالاً، المعارك الحادة بينك وبين الدكتور الغذامي لم تنتهِ إلى حل وسط، فكلا موقفيكما متباعدان فما السبب وراء ذلك وإلى متى تبقيان على هذه الحال أليس هناك مجال للتواصل البناء، أجبت دكتور حسن إجابة من سطر واحد قلت ليس من مصلحة المشهد الثقافي أن تصفّى الخلافات بالتنازلات بل باستبانة الحق والرجوع إليه، دكتور أنا قرأت لك أكثر من طرح، واضح أنك من خلال تبنيك لبعض القضايا تؤمن بقطعية الحق هل تؤمن بأن معك حق قطعي، وأن بالتالي الآخر ليس لديه حق؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا، ليس هذا. أولاً أنا أومن بالتعددية في إطار الخلاف المعتبر أن يكون الخلاف معتبراً بمعنى الخلاف له مرجعية بس أنا مرجعيتي قد تكون نصية، وأنت مرجعيتك نصية تأويلية. يعني مرجعيتي أنا نصية ظاهرية ومرجعيتك نصية تأويلية.
تركي الدخيل: خلافك أنت والغذامي هل تعتبره معتبراً أم لأ؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ معتبر. ليس في ذلك شيء لكن لا يعني أنا أن يحتويني في تياره أو في اتجاهه أو في رقبته.
تركي الدخيل: ولا أن تحتويه.
د.حسن بن فهد الهويمل: ولا أن أحتويه.. لا يكون موقفه مترتباً على أن نفيي أو على تخطئتي.
تركي الدخيل: يعني لا يقصيك ولا تقصيه.
د.حسن بن فهد الهويمل: لا يقصيني ولا أقصيه.
تركي الدخيل: بس أنتو قاعدين تمارسونه بشكل أو بآخر.
د.حسن بن فهد الهويمل: هكذا يتصور الناس ولكن ليس هذا صحيحاً.
تركي الدخيل: يعني خلافك أنت وياه خلاف تنوع مو بخلاف تضاد.
د.حسن بن فهد الهويمل: طبعاً خلاف تنوع وليس خلاف تضاد.
تركي الدخيل: كل هالمعارك وخلاف تنوع دكتور؟
د.حسن بن فهد الهويمل: ولا يمكن يعني أنت..
تركي الدخيل: طيب كيف يكون خلاف تنوع وأنت تقول بل باستبانة الحق والرجوع إليه؟ يعني كأنك تدعوه للرجوع للحق.
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم، قد يكون مخطئاً ومتأولاً، قد يكون هو على خطأ
تركي الدخيل: إذا كان على خطأ ما صار خلاف تنوع هذا خلاف تضاد.
د.حسن بن فهد الهويمل: شوف الفرق عندما تكون أنت على خطأ هل أنت متأوّل أو متعمد؟
تركي الدخيل: وأنت تعتقد أنه متعمد؟
د.حسن بن فهد الهويمل: متأول ليس متعمداً الخطأ، فأنا أحاول أن أثنيه وأبين أن تأوله خطأ.
تركي الدخيل: ألا تعتقد أنه يرى نفس النظرة هذه وأنت مخطئ..
د.حسن بن فهد الهويمل: هو حر في ذلك، لكن ليس من حقه أن يحتويني ولا أن يتوقف يعني رضاه على أن أكون في سلته أو في تياره.
تركي الدخيل: وأنت نفس الشيء.
د.حسن بن فهد الهويمل: وأنا نفس الشيء.
تركي الدخيل: ما عندك مشكلة أنه يبقى في تياره بس يصير بينك وبينه..
د.حسن بن فهد الهويمل: لا عندي مشكلة أتمنى ألا يكون في تياره.
تركي الدخيل: طيب صرت أنت تبي تحتويه.
د.حسن بن فهد الهويمل: خلي هو يكثر سوادنا يا أخي.
تركي الدخيل: نفس الفكرة اللي عندك اللي تو تطالبه ألا يحتويك أو يجعلك في سلته صرت أنت تمارسه.
د.حسن بن فهد الهويمل: بس إذا كانت الرغبة قائمة في أن يكون معي لكن لا يعني هذا عندما لا يكون معي أن القضية يعني انتهت إلى طريق مسدود.




الحدة في ردوده الأدبية

تركي الدخيل: جميل، دكتور أنت موجود في المشهد الثقافي ما شاء الله نحو أكثر من 40 عاماً، في مقابلة أيضاً قلت أن المعركة الأولى وأنت مشهور بكثرة معاركك الأدبية، قلت أن المعركة الأولى كانت قبل 40 سنة من خلال خلافك مع الشاعر الكبير محمد بن علي السنوسي قلت أيضاً كنت - تتحدث عن نفسك - يومها في عنفوان الشباب وفي بدايات القراءة، ومن ثم قسوت عليه وقامت بيني وبين المرحوم عبد القدوس الأنصاري جفوة بسبب الحدة في نقد السنوسي وكان رحمه الله قد أهداني ديوان القلائد لقراءته وكتابة دراسة عنه ولما لم ترق له اعتذر بلطف عن نشرها فبعثت بها إلى جريدة الرائد الخ.. الآن أنت أيضاً قدمت كتاباً عن الأديب المنصور.. محمد المنصور؟
د.حسن بن فهد الهويمل: أحمد المنصور.
تركي الدخيل: أحمد المنصور، وقلت في الكتاب اللي نشر قبل سنوات قليلة بأن رسالتك قبل 30 عاماً للدكتوراه تحدثت بقسوة عن المنصور لأنك كنت في عنفوان الشباب والآن أنت نضجت ووجدت أن فيه مجال بأن الواحد ياخذ بأطياف كثيرة.. من الواضح إنه عندك بعض المراجعات اللي قلتها وحسبت جرأة لك. لازم نحتوي الواحد لما ينضج ويكبر وتطلع شيباته عشان يتراجع؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ هو شوف الحياة تجارب، والإنسان في الحياة يعني كل يوم تتجدد آراؤه وتتبدل لكن لا.. وأنا يعني أنا ضد التحول من الصفر إلى 180، لكن أنا مع التحول التدريجي الذي يستطيع من خلاله الإنسان أن يستوعب أكبر قدر ممكن من التيارات التي يمكن أن تتناغم داخل المنظومة التي هو يشكلها لذاته.
تركي الدخيل: يعني هل نقول إن الدكتور حسن بن فهد الهويمل عنده بعض التراجعات؟
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم، ما في ذلك الشك.
تركي الدخيل: كم نسبتها إذا أنت ما تبي تتحول 180درجة؟ 20؟ 30 درجة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ، هو التراجع لا يعني العكس، يعني تراجعك لا يعني أن تكون ضد رأيك السابق ولكن أن تكون متوسعاً في هذا الرأي بمعنى أنك تشكل هرماً مقلوباً في اتساعه.
تركي الدخيل: في رسالة الدكتوارة كنت ترفض أدب المنصور.
د.حسن بن فهد الهويمل: كنت أرفض الرمزية.
تركي الدخيل: بعدين صرت تقبلها وتقول هي شكل من أشكال الأدب.
د.حسن بن فهد الهويمل: ثم بعد ذلك أحسست بأنه يمكن قبول هذا اللون.
تركي الدخيل: هذا ضد الرأي السابق.
د.حسن بن فهد الهويمل: شو الرأي السابق؟
تركي الدخيل: أنت تقول إنه لا تغير، تغير بس لا تكون ضد الرأي السابق؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا لا لا ليس ضدية هي نوع من رحابة الصدر ونوع من الاتساع.
تركي الدخيل: وسعت الدائرة يعني.
د.حسن بن فهد الهويمل: إي نعم كل ما كثرت التجارب وكثر اطلاع الإنسان وتواصله مع الآراء والتيارات وقراءته للخلافات سواء في مجال الفقه أو في مجال التفسير أو في مجال الحديث أو في مجال الفلسفة أو في مجال الأدب وجد أن هناك يعني هناك مرجعية نصية ظاهرية ومرجعية نصية تأويلية واحتمالية فيعني بعض الأحيان تجد أنني وقاف عند ظاهر النص لكن من الممكن يا أخي.
تركي الدخيل: ظاهري يعني.
د.حسن بن فهد الهويمل: ليس ظاهرياً الظاهرية مذهب لها أصولها لكن ممكن أن أتقاطع معهم دون أن أكون معهم إذا ما تتقاطع المبادئ الاشتراكية مع الإسلام الوجودية مع كذا يعني تتقاطع المذاهب بمعنى أن بعضها يأخذ من بعض لاحظ شيئاً واحداً إنه ليس هناك نص بريء، ليس هناك نص بريء.
تركي الدخيل: تعتقد أن الاشتراكية تقاطعت مع الإسلام؟
د.حسن بن فهد الهويمل: طبعاً ما في ذلك شك، وكارل ماركس ما طرح مشروعه الاشتراكي إلا بعد ما قرأ عشرات السنين كل الديانات وكل الأشياء هذه، ويمكن أن تجد أكثر من 60 أو 70 تجد 30 أو 40% من الاشتراكية موجود في الإسلام.
تركي الدخيل: قلت قبل قليل ليس هناك نص بريء.
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم.
تركي الدخيل: ببراءة سأتوقف عند فاصل وأعود. أيها الإخوة فاصل قصير ونعود بعده إلى إضاءات وحوارنا مع الدكتور حسن بن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي في القصيم فابقوا معنا.
[فاصل إعلاني]
تركي الدخيل: أيها الإخوة حياكم الله مجدداً في إضاءات لا يزال حوارنا هذه الليلة مع رئيس النادي الأدبي بالقصيم الدكتور حسن بن فهد الهويمل، دكتور قبل قليل قلت ليس قلت ليس هناك نص بريء.. كيف لا يوجد هناك نص بريء؟
د.حسن بن فهد الهويمل: كل الحضارات تتوارث بما فيها الإسلام، الإسلام عندما جاء الرسول قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فكانت مكارم الأخلاق موجودة ووصف الدين الإسلامي بقصر فيه مكان لبنة، وقال أنا هذه اللبنة. والإسلام أخذ من الجاهلية، والإسلام عرض لشرائع الأمم السابقة وأخذ منها والفقهاء ناقشوا هل شرع من كان قبلنا شرع لنا إن لم يأتِ ناسخ له، ويعني ليس هناك نص بريء.
تركي الدخيل: ماذا تقصد ليس هناك نص بريء.
د.حسن بن فهد الهويمل: يعني كل نص يعتبر محصلة نصوص سابقة، أنا عندما أريد أن أكتب أو أريد أن أتحدث.
تركي الدخيل: أنت تتحدث عن النص بمفهومه العام.
د.حسن بن فهد الهويمل: بمفهومه العام تستطيع أن ترجع النص إلى مجموعة النصوص وهذا مبدأ التناص والنصوصية وهذا مصطلح في الأسلوبية أن.. التفكيكية نفسها كلها تحيل أو تعتمد على أن النص هو محصلة نصوص وفي النهاية كما يقولون الأسد مجموعة من الخراف المهضومة.
تركي الدخيل: طيب خلينا نرجع دكتور إلى معركة لنسمّها المعركة الكبرى خلال مسيرتك هي معركتك مع الحداثة.
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم.
تركي الدخيل: أليس كذلك؟ معركة أشهر معركة أنت خضتها هل تعتقد أنه حسن بن فهد الهويمل الآن في 2006 إلى أين تشكل فيما يتعلق بالحداثة مقارنة بالعقدين الماضيين الذي نشأ فيه تيار الحداثة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: أنا في السابق معاركي تدور حول ربط مصطلح الحداثة بمفهومه الغربي، يعني أنا أواجه الحداثة بمفهومها الغربي الآن تغير رأيي بأنه يجب أن نفرق بين الحداثة العربية بكل تحولاتها والحداثة الغربية، ثم آتي إلى تفريق الحداثة بين حداثة فنية وحداثة فكرية. فمن هنا أصبح يعني من واجب الإنسان أن يراعي مفهوم الحداثة عند خصومه بحيث لا يظلمهم، لأنه أنت لا تستطيع أن تواجه إنساناً يتمسك بحداثة ذات مفهوم غربي، ولكنه في ممارسته يمارس التطبيق العربي أو المفهوم العربي وهذه هي المشكلة.
تركي الدخيل: ايش التطبيق العربي لو يلبس بدلة.
د.حسن بن فهد الهويمل: لا لا ليست.. أنا أعني بالحداثة الفكرية والحداثة الأدبية ولا أعني حداثة الهندسة ولا حداثة الاقتصاد.
تركي الدخيل: لأ بس أبي أعرف وش التطبيق العربي اللي أنت تقصد أن اللي بديت أنت تتراجع فيه وترى إذا هو يتعاطى مع الحداثة الغربية كمفهوم لكن يطبق.
د.حسن بن فهد الهويمل: لما يأتي الآن مثلاً مبدع ويصدر ديواناً أو رواية أو مجموعة قصصية ويرى أنها تمثل الحداثة نحن ننظر إلى هذا الإنتاج، هل هذا الإنتاج ينتمي إلى الحداثة بمفهومها عنده هو أو بمفهومها الغربي، بمعنى حداثة العهر والكفر؟ فإذا كان هذا الكتاب الذي أصدره ديواناً أو رواية أو مجموعة قصصية لا يمثل الحداثة الغربية، ولكن يمثل الحداثة كما يفهمها هو فيجب أن نتعامل معه على مفهومه ولا نضعه في سلة الحداثة الغربية التي نقف نحن ضدها وقوفاً إسلامياً.
تركي الدخيل: الحدث.
د.حسن بن فهد الهويمل: وقوفاً إسلامياً وليس وقوفاً أدبياً.
تركي الدخيل: الحداثة الغربية التي تقول يجب أن نقف ضدها وقوفاً إسلامياً وليس وقوفاً أدبياً، ألا تجد أننا ممكن أن نستفيد منها في أشكال البناء الأدبي؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا يمنع أبداً.. يستفيد منها يا أخي.. الرسول فدى أسرى المشركين بتعليم أبناء المسلمين ولا يعني نحن عندما نختلف مع مبدأ أو نختلف مع حضارة أو نختلف مع مبادئ أن نرفض التعامل معها والاستفادة منها لا بد من تبادل مصالح وتبادل خبرات في النهاية الحضارة تعتبر إنسانية.
تركي الدخيل: هي تجمع إنساني
د.حسن بن فهد الهويمل: هي تجمع إنساني لكن تبقى السمات والخصائص.. الإسلام له سمته وخصيصته وله منهجيته وآلياته وله مناطاته وتبقى مثلاً ا لماركسية والوجودية والحداثة وغيرها لها مناطاتها ولها مناهجها.
تركي الدخيل: كتبت مقالاً دكتور حسن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي بالقصيم في جريدة الجزيرة في رمضان 1424 قلت فيه من الظلم الجمع بين القصيبي وتركي الحمد في سلة واحدة، كيف؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأنه يختلف القصيبي عن تركي الحمد.
تركي الدخيل: بأي اتجاه؟
د.حسن بن فهد الهويمل: من ناحية التجاوزات الفكرية.
تركي الدخيل: أيهم عنده تجاوزات؟
د.حسن بن فهد الهويمل: تركي الحمد.
تركي الدخيل: وش هي سلة تركي الحمد وش سلة غازي القصيبي؟
د.حسن بن فهد الهويمل: القصيبي قد يكون مجدداً قد يكون مثلاً له آراء فيها شيء من يعني خلينا نقول شيء من الاندفاع أكثر، بمعنى أنه يسبق زمنه فيها لكن ما يمكن نجمع الاثنين في سلة واحدة.. يختلف.
تركي الدخيل: طيب وتركي الحمد؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا تركي الحمد له أخطاء ليس في ذلك شك ولا يجب أن نسايره فيها.
تركي الدخيل: فيما يتعلق تقصد بالرواية.
د.حسن بن فهد الهويمل: فيما يتعلق بالفكر.
تركي الدخيل: بالفكر؟
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم.
تركي الدخيل: لكن القصيبي تعتقد إنه.
د.حسن بن فهد الهويمل: لا لا القصيبي يختلف.
تركي الدخيل: سأعود إلى مسألة ثانية تندرج من هالفكرة وهو ما يتعلق بالأدب الإسلامي الذي ترأس أنت أو أنت مدير المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي في الرياض، أول شيء أنت مقيم في بريدة تروح 300 كيلو للرياض وترأس النادي وترجع؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا أبداً أولاً المسافة بين الرياض والقصيم لا يزيد عن ساعتين ونصف.
تركي الدخيل: 300 كيلو.
د.حسن بن فهد الهويمل: والإنسان الذي يريد أن يتحرك في وقت الذروة من جنوب الرياض إلى شمال الرياض قد يقضي هذه المسافة مع توتر في الأعصاب.
تركي الدخيل: يا دكتور يا دكتور.. جنوب الرياض وشمال الرياض زي القصيم والرياض؟
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم.. لأ لأ بس أنو ما في مشكلة يا سيدي، ثم أيضاً أشوف الإخوان الذي يتصورون صعوبة في هذا الأمر هم الذين يؤمنون بالمركزية، أنا لا أؤمن بالمركزية أنا أؤمن بالإشراف، هناك أجهزة تشتغل هناك لجان تشتغل رئيس النادي أو رئيس الإدارة هو الذي يوجه ويشرف وليس هو الذي يعني.
تركي الدخيل: ألا تعتقد أنه يعني ما يوجد أحد في الرياض يمكن أن يمارس هذا الدور؟
د.حسن بن فهد الهويمل: أسأل اللي رشحني، أنا ما أخذتها بقوة السلاح.
تركي الدخيل: كل متى تروح طيب؟ لا ما أنت ماخذ شي إن شاء الله بقوة السلاح بس كل متى تروح أنت للنادي؟ تذهب إلى النادي لإدارة أموره كل متى؟
د.حسن بن فهد الهويمل: أروح له صباحاً بعد عودتي.. إذاً أنا عضو هيئة تدريس في الجامعة لماذا لا يقال لي لماذا تكون عضو هيئة تدريس في الجامعة؟ يا أخي..
تركي الدخيل: لا.. أقصد كل متى تروح للرياض عشان تمارس دورك كمدير لرابطة الأدب الإسلامي؟
د.حسن بن فهد الهويمل: في نهاية كل أسبوع أو أسبوعين يمكن أروح يوم أو يومين.




حول مصطلح الأدب الإسلامي

تركي الدخيل: تجلس يوم يومين، هناك يعني من يرى بأن مصطلح الأدب الإسلامي يمكن أن يخرج من لا يندرج ضمن هذه المظلة من الإسلام كيف تعلق على هذا ا لطرح؟
د.حسن بن فهد الهويمل: هذا ليس صحيحاً هنا ندخل في مشكلة المفاهيم، أنهم يتصورون أن كلمة أدب إسلامي أنها تخرج الآخر من هذه الدائرة.
تركي الدخيل: وش الأدب الإسلامي؟
د.حسن بن فهد الهويمل:

الأدب الإسلامي هو الأدب الذي يهتم بإشاعة الكلمة الطيبة سواءً كان أدباً عربياً أو فرنسياً أو إنجليزياً أو هندياً أو غيره


الأدب الإسلامي هو الأدب الذي يهتم بإشاعة الكلمة الطيبة سواءً كان أدباً عربياً أو فرنسياً أو إنجليزياً أو هندياً أو غيره، ليس له لغة.. الأدب الإسلامي ليس له لغة، الأدب الإسلامي له هدف واحد وهو إشاعة الكلمة الطيبة، إن كان في العربية فهو يتقيد بكل متطلبات الأدب العربي إن كان بالفرنسية يتطلب كل المتطلبات الفنية لأن الأدب الإسلامي اهتمامه بالمضمون فقط.
تركي الدخيل: المضمون لأي جهة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: المضمون.
تركي الدخيل: من جهة الفضيلة اللي يشيع الفضيلة.
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ.. يشيع الكلمة الطيبة لأنه عندما نقول يشيع الفضيلة معناه يمكن يكون أدب زهد وأدب رقائق وأدب ديني.
تركي الدخيل: الكلمة الطيبة وش تقصد؟
د.حسن بن فهد الهويمل: الكلمة الطيبة ألا تكون خبيثة فرق بين الكلمة الطيبة والخبيثة.
تركي الدخيل: فيه أدب يشيع الكلمة الخبيثة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: نعم.
تركي الدخيل: في أي اتجاه؟
د.حسن بن فهد الهويمل: كل الآداب العربية وكل الآداب العالمية فيها جانب من المجون فيها جانب من التحلل وفيها جانب من الأدب المكشوف وفيها جانب من الأدب الإلحادي لا أحد ينكر هذا يا أخي.
تركي الدخيل: يعني أدب الدعوة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ أنا لا أعتبر أن الأدب الإسلامي هو أدب دعوة فقط، أدب الدعوة جزء من الأدب الإسلامي وليس هو الأدب الإسلامي، الأدب الإسلامي هو الذي يركز على إشاعة الكلمة الطيبة.
تركي الدخيل: طيب لكن أنت تقول بأن كون هناك أدب إسلامي أو رابطة الأدب الإسلامي لا يعني أن النصوص التي لا تندرج ضمن دائرة الأدب الإسلامي ليست إسلامية.
د.حسن بن فهد الهويمل: تكون داخلة بالأدب الكفري؟ ليس صحيحاً، الأدب الإسلامي يا أخي جزء من الأدب العربي.
تركي الدخيل: طيب ليش ما نشأت فكرة الأدب الإسلامي إلا في السنوات الأخيرة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: هي موجودة بس لم يوضع لها مصطلح إلا عندما طرحت المصطلحات الأخرى: طرح الأدب الوجودي وقبل، طرح الأدب الحداثي وقبل، طرح الأدب الماركسي وقبل، طرح الأدب الواقعي وقبل، طرح الأدب الرمزي وقبل، فعندما طرحت هذه المصطلحات طرح الأدباء الإسلاميون هذا مصطلح وقالوا الأدب الإسلامي، وإلا هو موجود منذ أن نزلت آيات الشعراء التي فرقت بين شعراء الهداية والغواية ومنذ أن واجه الأدباء طه حسين في شطحاته، ومنذ أن.. دعنا الآن نعود إلى موضوع الكاريكاتير الدنماركي هو فن، كل الذين يواجهونه إنما يجمجمون عن نفس الأدب الإسلامي هؤلاء الذين يواجهون هذا الكاريكاتير وهو جزء من الفن إنما هم يعبرون عن نقد الإسلام,
تركي الدخيل: لأن مضمونه أصبح سيئاً.
د.حسن بن فهد الهويمل: لأن مضمونه أصبح سيئاً.
تركي الدخيل: طيب عودة إلى المعارك التي تخوضها منذ 40 سنة، المعارك الكثيرة لماذا تخصص الدكتور - خلينا نقول تجاوزاً - تخصص الدكتور حسن الهويمل بهذه المعارك؟ حمل راية الردود على من يعتقد أنهم مخالفين، خاض كثيراً من المعارك لعل آخرها معركة يعني فيما يتعلق بالحضارة الإسلامية مع محمد آل الشيخ معركة فيما يتعلق بثقافة الوأد مع الدكتور مرزوق بن تنباك وقائمة طويلة من المعارك.
د.حسن بن فهد الهويمل: هي توصف بالمعارك لكن يا أخي أنا موجود في الساحة سواء كانت الساحة الأدبية أو الساحة الفكرية أو الساحة الأكاديمية وغيرها، ثم أجد أن زميلاً من الزملاء قد ارتكب خطأً، تأول فيه أو أنه ارتكب جنحة فكرية أو جنحة أدبية أو جنحة تاريخية وأنا موجود في الساحة.
تركي الدخيل: تفرق بين الخطأ والجنحة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ.. هو الخطأ والجنحة واحد، الجنحة يعني مال عن طريق الصواب، فإذا..
تركي الدخيل: حتى لو كان متأولاً.
د.حسن بن فهد الهويمل: حتى لو كان متأولاً، فإذا ما أخطأ أصبح من واجبي يعني من واجبي أن أرشده.
تركي الدخيل: بحكم؟
د.حسن بن فهد الهويمل: بحكم أننا شركاء في السفينة.
تركي الدخيل: هذا اللي سألتك عنه قبل شوي قطعية في الحق؟
د.حسن بن فهد الهويمل: ما معنى القطعية في الحق؟
تركي الدخيل: يعني أنك تعتقد أن لديك الحق المحض.
د.حسن بن فهد الهويمل: وهل يعني هذا أني أظل صامتاً حتى أتأكد 100% بقطعية الحق ثم أتكلم؟
تركي الدخيل: لأ.. أنا أسأل.. دكتور لا تتحمس..
د.حسن بن فهد الهويمل: وأنا أجيب.
تركي الدخيل: لا تتحمس بس أنا أسأل أبي أستوضح آراءك يعني.
د.حسن بن فهد الهويمل: وأنا أجيب كوني أنا أنتظر حتى أصل إلى قطعية الحق 100% ثم أتحرك هذا خطأ كبير.
تركي الدخيل: طيب متى تتحرك؟ كم نسبة الحق اللي يصير عندك عشان تتحرك 5% يكفي؟ تقول يجب أن أتحرك إذا صار 100% كم نسبة الحق اللي تصير عندك عشان تتحرك؟
د.حسن بن فهد الهويمل: عندما أقتنع من خلال خلفيتي الثقافية من خلال آلياتي من خلال قناعاتي من خلال قراءاتي من خلال تفهمي للأشياء ومقتضياتها ومناطاتها ومقاصدها، أنا إنسان متشكلة رؤيتي لا يمكن أن أتحول عن رؤيتي.
تركي الدخيل: جميل بس حنا تحدثنا قبل شوي عن ما تعتبره نضجاً وتغيراً من خلال تجارب الإنسان عن تراجع في بعض الآراء حول بعض المعارك..
د.حسن بن فهد الهويمل: أنا عندما أطرح رؤيتي ضد آل الشيخ عندما أطرح ضد الغذامي وأطرح رؤيتي ضد المرزوق وأطرح رؤيتي ضد القصيبي أو تركي الحمد أو غيره لا يعني أنني أصدر أمراً حتمي التنفيذ إنما أنا أطرح رؤيتي أنا شريك له في الساحة أنا أطرح رؤيتي ومن حقي أن أرد.
تركي الدخيل: بس هناك من يقول أن الدكتور حسن الهويمل هو حاد في طرح رؤاه؟
د.حسن بن فهد الهويمل: اقرأ رأيهم.. أنت تستل مقالي أنا الحاد ولا تنظر إلى مقالاتهم الحادة، المشكلة أنكم تقتطعون كلامي بحدته.
تركي الدخيل: من حنّا؟
د.حسن بن فهد الهويمل: الذين نقلت منهم هذه الآراء.
تركي الدخيل: أي أشوى بس أنت تصنفهم بس أبي أعرف وين تحطهم.
د.حسن بن فهد الهويمل: أنت نقلت هذه الآراء هؤلاء الذين يصفون حسن الهويمل بالحدة نزعوه من سياقه أنت إقرأ السياق الموجود.
تركي الدخيل: أي بس الفرق أن حسن الهويمل هو الثابت في هذه الحدة وهذه الحدة يتعاقب عليها سين وصاد وجيم عشر مختلفين يتحادون وحسن الهويمل هو الثابت في الجهة الأخرى.
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ هو يتصور لك، أنت الآن محصور في طرحي وبالتالي.
تركي الدخيل: أنا محصور لأني أنا قاعد أقابلك ما أنا قاعد أقابل 10 قاعد أقابل حسن الهويمل الحالي.
د.حسن بن فهد الهويمل: متشبع بهذه..
تركي الدخيل: لكن ما تعتقد أنها طروحاتك حادة؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لا تكون حادة إذا أخذت بسياقها.
تركي الدخيل: يعني أن تكون حاداً إذا من ترد عليه حاداً؟
د.حسن بن فهد الهويمل: قد أكون حاداً نعم إذا شلتها من سياقها لكني إذا وضعتها في سياقي فأنا لست حاداً لأن من هو أحد منه.
تركي الدخيل: لماذا لم تمارس الكتابة في السياسة إلا قبل 5 سنوات هو رغم أنك لك 40 سنة في الساحة الأدبية؟
د.حسن بن فهد الهويمل: والله أولاً أحسست أن المشهد الثقافي والمشهد الفكري من خلال الضخ القنواتي ومن خلال الساحات والمواقع أنه يهتم بالاتجاهات وبالتيارات السياسية، وبالتالي بما أنني مطروح ككاتب لا بد أن أشارك في هذه القضية مع وجود خلفية سياسية عندي، لست جديداً على هذا التيار.
تركي الدخيل: وش هي الخلفية السياسية؟
د.حسن بن فهد الهويمل: الخلفية قراءة الكتب السياسية ومذكرات الزعماء وتاريخ الشعوب العريقة في السياسة هذه هي الخلفية.
تركي الدخيل: طيب دكتور خلينا ننتقل إلى جانب شخصي شوي نخفف من المعارك والحدة، في أحد المقابلات أن تزوجت وأنت عمرك 18 سنة وقلت في أحد المقابلات أنه ما كانت لأحد من لداتي في زماننا الخيرة في أمورنا كافة وفي أمر الزواج على وجه التحديد وقلت إن والدك رحمه الله رغب أن تتزوج واختار لك أن تتزوج ابنة صديقه فتزوجتها دون أن تراها ودون أن تراك، ووفقك الله وصار الزواج وأنت تحث الشباب على الزواج المبكر ألا ترى أنك تتحدث في إيجابيات الزواج المبكر فقط دون سلبياته؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأ هو الزواج المبكر له سلبيات والزواج المتأخر له سلبيات، والزواج المبكر له إيجابيات وهذا له إيجابيات، الإنسان في سنه المبكر أو المتأخر هو الذي يحدد ما إذا كان من مصلحته أن يتزوج مبكراً أو أن يؤخر الزواج.
تركي الدخيل: يعني ما لها قاعدة عامة أنت تقول: فوت الشباب والشابات على أنفسهم أسعد فترات الحياة لأنهم ما تزوّجوا؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لأنهم ما وزنوا الأمور يعني ما درسوا الأمور كما يجب بس تصوروا أن الزواج المبكر فيه سلبيات أكثر وبالتالي أجلوا هذا الزواج هذا خطأ.
تركي الدخيل: أجبرت أبناءك على الزواج المبكر؟
د.حسن بن فهد الهويمل: لم أجبرهم لا أنا شوف أنا عندي قاعدة الذي يأتي بالثانوية بتفوق يأخذ سيارة والذي يأتي بالشهادة الجامعية يتزوج.
تركي الدخيل: على اعتبار أن الزواج [يضحك].. دكتور حسن شكراً لك على هذا اللقاء.
د.حسن بن فهد الهويمل: شكراً جزيلاً أهلاً وسهلاً.
تركي الدخيل: شكراً لكم أنتم أيها الإخوة على متابعة هذه الحلقة من إضاءات وحتى ألقاكم في حلقة مقبلة هذا تركي الدخيل يترككم في رعاية الله وحفظه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 10:21 PM

حسن الهويمل ناقداً

جميل حين يتصدى أديب شهير للكتابة عن أديب لا يقل عنه مكانة كادت أن تملأ حرساً وشهباً، ولاسيما إذا كانا رضيعي لبان، فقد تدرَّج شبابهما في بيئة قريبة اكتنزت على نظرية التأثر والتأثير، إذ كانا يختلفان إلى بعضهما منذ اوج الحركة الأدبية في مملكتنا الغالية، فيتبادلان فيوضا من القضايا الأدبية بطيوفها المعشبة بالأخذ تارة، وبالطرح أخرى، وفيها ما فيها من الاتفاق والاختلاف، مما حدا إلى المشاركة الفاعلة في إثراء الساحة الأدبية، ينهل منها القاصي فضلاً عن الداني، مخلفين وراءهما وبين أيديهما موضع أثر لا يفتأ ولا ينفك يلوح كما لاح الوشم في ظاهر يد خولة طرفة، ولا نغلو إذا قلنا إنه باق لا يبرح مكمنه، فما من عاكف على الأدب السعودي إلا له سهم منهما قلَّ أو كثر. لقد أتحفنا الدكتور القدير حسن بن فهد الهويمل بكتابة شائقة وماتعة عن أديبنا المتألق عبدالله بن عبدالعزيز بن إدريس، وهو ما نشر في جزءين في عددي (11639 11653) من جريدتنا الساحرة برضا واقتناع، تحت عنوان (ابن إدريس ناقداً)، وقد وُفِّق ابوأحمد إلى حد كبير في إنصاف أديبنا، ونفله ما ألهمته القراءات المواضي له، فقد ألفيته كأنه يعتسف ذاكرة تراكمت عليها سنون كضعفي سني تخيير شعيب لموسى عليهما السلام بل تربو على ذلك، فجاء فيه ما كان لزاماً عليَّ أن أهدي بعضاً من الملحوظات التي لا أجد ريباً في اتساع صدرَي أديبينا لها، فقد قال الدكتور حسن (ومن الخير للأمة أن يرحب صدرها لكل طرح).. من هنا، وهنا ليس غير، أطيب خاطراً في إبداء الرأي، وكلي ثقة في علمهما أني لست باحثاً عن إدانة، بل مبدي نصح مشفوعاً بالتردد الذي قطعته هاتيك التفاؤلات التي تعي اختلاف الرأي، وكيف أن دواخل أهليْها مبيضَّة كما البرد، وكما الثوب المنقى من الدنس.
لقد قرأت فيما قرأت في مقال الدكتور حسن استهلالاً يطمئن القارىء إليه، ويأنس به، ويوغل فيه موضوعية وحقا صُراحا، فقد قال في بُعيد البدء: (فإنني سآوي إلى وثائق تعصمني من التجهيل أو التكذيب، وتنجيني من مغبة المجاملة أو معرة التحامل)، ويقول بعد أن وعدنا بنبذ شَرَك المجاملة (ذلك أن الأمر لا يحتمل مثل هذه التحفظات)، ويقول عن نقده لأديبنا (يحفظ التوازن بين الحق والحقيقة.. والحق ألا نقول عنه إلا الحق)، بيد أني وجدت أبا أحمد ينزع إلى إيراد إيجابيات لأديبنا ابن إدريس، لا سيما أنه عوَّل كثيراً وأقول كثيراً بالنقد على كتابه (شعراء نجد المعاصرون)، وكم كنت أتمنى أن يتعاطى النصيحة لرفيق الطلب والمزامنة، وذلك بأن يعرِّج على تلك الأخطاء التي حفل الكتاب بها، فقد اتخذه عضدا، له في مقاله، على أن هذا الكتاب هو الذي قد استوحى منه الدكتور حسن رسالته للدكتوراه في موضوعه، يقول: (ومن تلك الرؤى انقدحت عندي فكرة اتجاهات الشعر المعاصر في نجد، والتي تحولت إلى موضوع أكاديمي)، على أني سبق أن وقفت على رسالة الدكتور فوجدتها خالية من التنبيه على بعض تلك الأخطاء التي أنا بصددها، فأضحى التنبيه عليها بداً مما ليس منه بد.
ومما يحسن هو أن أبدأ بالأخطاء المنهجية، ثم بما بعدها، فمن هذه الأخطاء:
1 اتفق أن أديبنا في خطبة الكتاب نزوعه إلى المذهب النفسي في دراسته لشعر الشعراء، وقد خالف هذا المذهب في كثير من نقده، بل خلط بين المنهج النفسي والاجتماعي، ولم يمضِ بأي واحد منهما، بل زاوج بينهما، وهو ما بدا ظاهراً في قلقه بين المذهب الواقعي والرومانسي؛ ذلك أنه عاب على بعض الشعراء أنه يهرب من الواقع إلى الخيال، وغاب عنه أن من الرومانسية أن يميل الشاعر إلى الخيال المحلق تاركاً وراءه الواقع بما فيه، ص: 47، فلا أرى بيانا شافيا لتحديد مفهوم الاتجاهات والمذاهب الأدبية لكي يقف القارىء على بينة من الأمر، من ذلك أنه عدَّ عبدالله الفيصل شاعراً رومانسياً، ثم قال بعدها إنه (من دعاة الفن للجمال) وهو (ليس ممن يقبع في زاوية الرومانسية المتصوفة..) ص: 86. ومن المعلوم أن شاعر الرومانسية قلَّ أن يكتب في الوطنيات، ومع ذلك فقد أورد بعض القصائد الوطنية له.
2 لقد أقحم أديبنا نظرية (فرويد) في نقده، وهي نظرية تستحلب ما لا يكون عند الشعراء؛ ذلك أنها لا تتكيف مع الثقافة العربية الإسلامية، ثم إنها مذهب نفسي قلما صدقت مع شاعر، فهي مذهب نفسي بحت، لا يجوز أن يتكىء عليها الناقد، وإن اعتمد عليها فهي من قِبَل الشك الذي لا يصل إلى رتبة اليقين.
3 يُعد ابن إدريس في كتابه من الدعاة لنبذ الشعر الذي أسماه (الرومانتيكي)، فقد تنبأ بزوال الشعر التقليدي حيث قال (الشعر التقليدي قد دنت شمسه نحو الغروب، ولم يعد له من وجود يحس إحساساً قبولياً انفعالياً) ص: 37.
4 لم يحدد تاريخاً محدداً للمعاصرة، فقد أدخل مَنْ حقه ألا يكون من زمرة المعاصرين وهو ابن عثيمين.
آتي هنا على مادة الكتاب، وفي بعضه عدم دقة في التدقيق، والبحث المتأني:
1 أنه ترجم لثلاثة وعشرين شاعراً، وعوَّل على ما يكتبه كل شاعر عن ترجمته لنفسه، فليس هنالك تراجم مدونة عن كل الشعراء، إلا أن اللافت للنظر هو أن يعتمد في كتابه على ما يرسله الشعراء إليه من جيد شعرهم، وهو بإيعاز منه، فكان على أديبنا أن يقف على الجيد والرديء ليحقق الدلالة المنهجية لمفهوم النقد الذي هو تمييز الجيد من الرديء.
2 أسقط من كتابه مَنْ حقه أن يضيفه، وأضاف مَنْ حقه أن يسقطه، فمن الأول أنه أسقط الشاعرين ابن خميس، والعمران، وأضاف مَنْ هو
خارج نجد وهو خالد الفرج، صحيح أن خالد الفرج أصله من نجد إلا أنه ولد وعاش وتدرج شبابه في الكويت، وحين عاد إلى المملكة مكث في المنطقة الشرقية، فمن الحق ألا يكون في زمرة النجديين، فليس المعني الأصل، وإنما النشأة والتأثر، أما ابن خميس فمن المعروف أنه مكثر من شعر المديح والمناسبات، وهذا اللون من الشعر هو ما أبعده ابن إدريس من كتابه، على أن لابن خميس شعراً في غير ذلك.
3 أطلق حكماً على ابن عثيمين أنه لا يمدح إلا لعاطفة جياشة، وليس لطلب النوال، وهذا غلط، فابن عثيمين من الشعراء الذين يضربون أكباد الإبل ويفارقون الأهل والسكن لطلب النوال، وديوانه زاخر بذلك، ولو أن المؤلف أستقرأ ديوانه جيداً لما أصدر هذا الحكم المغلوط.
4 اتهم الشعر في نجد قبل المعاصرة أنه لا يعبأ به، فهو لا يمثل الشعر الجيد الذي يتطلع إليه، فهو (لم يعبر عن نفسية الشاعر وانفعالاته، ولم يكن يعطي صوراً حقيقية عن بيئة الشاعر ومجتمعه، ومستوى حياته المادية والروحية) ص: 22.
5 أهمل أديبنا دقة النظر في المراجع السابقة، لكي يستفيد منها، وكيف أنه قد سبق لما جاء في أكثر مما ذهب إليه، ولست أدري سر هذا الإغفال، هل يريد أديبنا أن يكون باكورة عمله التأليفي باكورة في الآراء، أم أنه فعلاً لم يطلع على مراجع سابقة اطلاعاً دقيقا؟
6 في الكتاب كثير من الأخطاء اللغوية والعروضية التي يجب ألا تهمل، بل الواجب أن تصحح، فهي ليست بأخطاء مطبعية فحسب، فأتمنى أن يكرمنا بمراجعته ويعيد طبعه مصححاً.
7 يميل أديبنا في أحكامه إلى التعميم، وإلى عدم الغوص في القيعان، بل يعول على استنتاجات القارىء، ولعل في الأذواق والإدراكات ما لا يخفى على أحد.
والحق أن جملة من الباحثين في الأدب السعودي ضلوا الطريق من خلال تلك التجاوزات، فكان الخليق أن ينبه الدكتور صديقه وأديبنا ابن إدريس إلى تلك الأخطاء، ذلك أن ابن إدريس، لم يعد إلى انتزاعها وتصويبها، وكأن الدكتور يؤيده في ذلك، فقد قال (ولقد كانت لي معه وعنه أحاديث خبرت بها لماذا بادر إلى التأليف، ولماذا فرض شرطه الفني والدلالي على الشعراء المترجمين، ولماذا أراد له أن يظل كما هو، لا يضيف إليه، ولا يحذف منه).
هذا ما استطعت أن ألمّ به في عجالة، ومهما يكن من شيء وأمر، فإن الكتاب ذو قيمة لا تغفل البتة، فهو من أوائل الكتب التي رصدت حقبة من الشعر النجدي وكثيراً من شعرائها، على غرار كتابي أدب الحجاز، وشعراء الحجاز، وغيرهما، إلا أن من الواجب أن يعرج الدكتور حسن على مثل هذه الملحوظات أو بعضها التي هي مآخذ يجب ألا تقع، فمن الواجب إهداء النصيحة، ونبذ المجاملة كما وعدنا أبو أحمد، وللكاتب وللمكتوب عنه أهدي خالص التحية مشفوعة بالاعتراف الريادي.


أحمد بن عبدالعزيز المهوس
ماجستير في الأدب العربي الحديث
khlid71@hotmail.om

عباس محمود العقاد 23-11-2006 10:40 PM

المجلة العربية
الإبداع الأمي وقلب الحقائق

إن الذين تطربهم عامية نجد ويشدهم شعراؤها من أمثال «العوني» و«ابن لعبون» و«السبيل»، و«القاضي»، و«راشد الخلاوي»، وابن «غازل»، و«الحكمي» من شعراء الجنوب، ولا يعرفون شيئاً من مطولاتهم بل ولا يحفلون بشيء من شعرهم، ذلك أن شعراء جازان العاميين لهم ذائقتهم، ولهم عاميتهم ولهم فوق ذلك تاريخهم المعاصر، وأمجاده الخاصة، وابطالهم ضمن هذا التاريخ الحديث مما لم يكن مذكوراً في الإبداع الحجازي أو النجدي. وكل إقليم ملتف حول لهجته وعاداته.

وإحياء العامية تأكيد لهذه التعدديات اللغوية والتاريخية والقومية ومؤذن بتفكك الأقاليم والدولة الإقليمية الواحدة فضلاً عن تفكك الأمة وذهاب ريحها والشواهد حاضرة، فنحن لا نرجم في الغيب لقد كان الناس في صدر الإسلام أمة واحدة أكرمهم أتقاهم وحين قامت الدولة الأموية على العصبية، عاد الناس يفتشون عن أصولهم ويحيون عصبياتهم ويلتفون حول شعرائهم. وإذ يفترق شعراء العامية وقراؤهم ولا يطرب أحد منهم للآخر، نجد أن شعراء الفصحى في نجد وجازان والحجاز بل وفي الوطن العربي كله لا يفترقون في شيء يتفاعل بعضهم مع بعض، ويطرب بعضهم لبعض، ويفهم بعضهم بعضاً وإذا اختلفوا احتكموا إلى التراث وضوابطه النحوية والصرفية واللغوية والصفحات الأدبية تحفل بشعراء نجد والجنوب على حد سواء في حين أن الصفحات الشعبية لا تتسع إلا لشعراء المنطقة الواحدة، وعلى المترددين أن يبحثوا خلال عام أو عامين في صفحة شعبية في المنطقة الوسطى عن شاعر شعبي حجازي أو جازاني هل يجدون له أثراً، ثم ليسألوا قارئاً من الشمال أو الجنوب عما يعرفه عن شاعر عامي يملء نفس النجدي إعجاباً وإكباراً، هل يعرف شيئاً مما يقول؟ ثم اسألوا هؤلاء وأولئك عن شاعر عربي من الشمال أو الجنوب أو اقرؤوا له قصيدة عربية ستجدونه يطرب له، ويتفاعل معه ويفهم ما يقول. لا لأنه من الشمال أو الجنوب ولكن لأنه شاعر عربي فصيح، ولو أشكل عليه شيء ما يقرأ وجد المرجعية النحوية أو الصرفية أو اللغوية التي تجلي له المعنى وتحل له الأشكال وليس واجداً عند إشكالية الإبداع الأمي ما يسعفه. ولهذا فإن الذين يدرسون الشعر العامي ويؤلفون فيه لا يحفلون إلا بعاميتهم الإقليمية الضيقة. فهذا أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وعبدالله بن خميس ومحمد بن أحمد العقيلي ومن بعدهم الدكتوران سعد البازعي وسعد الصويان كل منهم اقتصر على شعراء منطقته لا يفهم غيرها ولا يطرب لغيرها، وحين ينهض أحد الثلاثة ومن بعدهم لدراسة الشعر العربي الفصيح لا يفرق بين نجدي، وجازاني، وحجازي، ذلك أن لغتهم واحدة هي اللغة العربية وأدبهم واحد هو الأدب العربي وأنت حين تقرأ الأمثال العامية في نجد أو الأساطير الشعبية أو شيم العرب المعاصرين لا تجد إلا أمثالاً وأساطير وحكايات إقليمية لا يهتم بها إلا أبناء الإقليم وحدهم دون سواهم. وهاكم مؤلفات ابن خميس التي خدم فيها عامية نجد من أربعين عاماً أو تزيد هل تجدون فيها شاعراً من شعراء العامية في الجزيرة العربية مما هو خارج نجد فضلاً عن أن تجدوا فيها شاعراً عامياً من مصر أو من السودان، ألا يكون مثل هذا العمل مؤذناً بتفرق الأمة وتنافسها على شعرائها العاميين؟ لقد أشعل المستشرقون والمناديب جذوة العامية والإقليمية ووكلوا أمرها إلى أبناء البلاد يتنازعون حولها ويوغلون في النيل من الغيورين على وحدة الأمة وسلامة لغتها وهأنذا أنافح عن اللغة العربية وآدابها ألاقي من العنت والسب والاستهجان والتجري مالا يلاقيه دعاة القومية والحداثة حتى دعيت وعلى صفحات جرائدنا إلى «التعقل» وكأنني بدعوتي للفصيح لست بعاقل وقيل عني بأني ألقي الكلام على عواهنه، وأنني لا أعرف الشعر العامي، ولو عرفته لتغيّر رأيي، وماذا في العامي من صعوبة على الأميين بحيث يصعب على مشتغل بالأدب وفنونه منذ أربعين سنة.


| \ |
ومن حقنا وقد أوذينا أن نتساءل عن أي مزية لهذا اللون من الإبداع إذا كان محصوراً في أقاليمه لا يفهمه إلا ذووه؟ ولا يتذوقه إلا ذووه وهل نحن بحاجة إلى تكريس الإقليمية وحصر كل جماعة في عاميتها؟ لقد خاض الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ معركة التكوين الإقليمي وحقق وحدة استثنائية رائعة بكل المقاييس وخاض أبناؤه معركة البناء الحضاري والفكري، ومن واجبنا أن نحول دون أي شائبة تعكر صفو هذا التلاحم الإقليمي والفكري، إنني أتوقع قيام تساؤل عن تهويل الأمر، والحق أن النتائج العكسية لا يلمسها الناس في لحظتهم، والتحولات الاجتماعية واللغوية لا تتم بيوم أو سنة، إن العواقب الوخيمة آتية ولو بعد حين، وفساد اللسان في صدر الإسلام لم يداهم الأمة بيوم أو بعض يوم. لقد نما كالأعشاب الضارة حتى غلب وعسر القضاء عليه، ولو أنهم اجتثوه من بداياته لكان خيراً لهم.

إننا حين نتيح لهذا اللون من الإبداع ولذويه مجالاً لا يستحقانه فإنما نفعل ذلك لعجز المبدعين بلغته عن ممارسة الإبداع في اللغة العربية ونحن حين لا نتيح لهذا اللون إلا مجال الإبداع، فإنما ليخلو المجال الطبيعي للغة العربية فهي وعاء الإسلام وهي الرابطة التي تتسع لكل العرب في كل فجاج الأرض فضلاً عن أبناء المملكة المترامية الأطراف. وهي وسيلة التواصل الحقيقية وهي وعاء الحضارة ولغة التراث وهي الذكر لنا الذي أشار إليه القرآن الكريم في سياق المنة والتفضل. إن العامية عاجزة عن إيجاد تواصل يتسع لأقاليم الدولة الواحدة فضلاً عن إيجاد تفاعلل بين أفراد الأمة الواحدة ثم هي بعد كل هذه الحفاوة والاحتفالية لم تكن وعاء حضارة ولا أنه علم، ولا أدب ولا تملك أدنى قدرة على التخطي للآخر، ذلك أن قارئها لا تسعفه المعاجم ولا الآليات لتقويض أي جملة فيها أنه معها يعيش في مغارة أو مفازة.


| \ |
لقد نادى بعض الأكاديميين بضرورة إيجاد أقسام للشعر العامي وللأدب العامي كما يسمونه، وللغة العامية في كلياتنا أسوة بمثيلاتها في العالم، ونسوا أن هذه الدعوة تكريس للإقليمية من جهة، وإثارة للشحناء والفرقة من جهة ثانية، فالدارس الحجازي لا يريد إلا عاميته ولا يريد إلا شعراء هذه العامية وهو معذور في ذلك إذ لا يفهم ولا يستسيغ إلا هذه اللهجة التي تلقاها من أبويه ومن محيطه وشب عليها، والدارس النجدي لن يحفل إلا بالشعراء الشعبيين من نجد وبعامية نجد، وهو معذور كذلك وبالتالي فإنه سيقوم بتدريس هذا اللون من الشعر وهذه الطائفة من الشعراء المنتمين لإقليميته وقل مثل ذلك عن بقية المناطق التي فيها جامعات، هذا على مستوى الدولة الواحدة وكم يكون الخطر على مستوى العالم العربي. لقد بدأ الملك عبدالعزيز بمشروع التوحيد من الرياض عام 1319هـ ولا أقول من نجد فضلاً عن أن أقول من الجزيرة العربية. انطلق من «الرياض» مستعيناً بسمعته الطيبة، وعراقة مجده، ومشروعية فعله، ومع هذا تصدى له بعض أمراء الأقاليم وزعماء القبائل من نجد ومن غيرها، وآزر الشعراء العاميون في نجد وفي غيرها ذويهم، وسجل كل شاعر أمجاد قومه، ونال من خصومه، ومنهم الملك عبدالعزيز في بداية التوحيد، وحقق الله لهذه البلاد وحدة أساسها الدين ووعاؤها العربية الفصحى، وبدونهما يختل هذا المشروع ولو ظفر دعاة العامية بإدخالها للجامعات فأي شعر نقبل؟ وأي أمجاد نسجل، وأي لهجة نعتمد؟ ومن أي تاريخ ننطلق؟

والذين ينادون بوضع أقسام لهذا اللون من الشعر لا يحسبون للعواقب حسابها ولا يقدرون الأضرار الناجمة عن مثل ذلك. هذه الدعوة الفجة المرتجلة هي التي آثارتني وحفزتني على التصدي مهما كان الثمن وأحمد الله أن أولياء الأمور وكبار المسؤولين لم يلتفتوا إلى مثل هذه الدعوات الفجة ولم يعيروها أي اهتمام وقد لمست ذلك من بعضهم، بل أحسست باستنكارهم واستغرابهم.


| \ |
ومع شديد الأسف، فإن موقفي من هذه الدعوة المشبوهة حمل البعض على تحريفه بحيث جعله موقفاً ضد وجود الشعر العامي وجود ضرورة لا وجود اختيار بل أقول وجود غلبة وتسلط حرصاً من أولئك على تأليب الرأي العام وعجزاً منهم عن مواجهة الحق الأبلج، بحيث تصور هذا البعض واهماً أو متوهماً أنني ضد الشعر العامي، وجوداً، وأنني أطالب بمنع الشعراء العاميين من قول الشعر وبكم أفواههم وبسلبهم حقهم وذلك محض افتراء وتقول إنني أقول وأكرر القول وأقرر دونما أي تحفظ أن الاشتغال بهذا الشعر تأليفاً ودراسة وتقعيداً وتدريساً على أي مستوى دراسي وتحت أي ظرف لا يخدم اللغة العربية ولا يحقق أدنى فائدة للأمة وفيه ضرر على وحدة الأمة واستفادتها. الأمة بحاجة إلى وحدة اللغة ولا يمكن أن تتحد الأمة إلا على لغة القرآن، والأمة بحاجة إلى القضاء على الازدواج اللغوي، بحيث يكون هناك لغة خاصة، وأخرى عامة.

إننا حين نقبل مكرهين وعاجزين بلهجة عامية للمحادثة والمشافهة فإننا لا نريد لهذا الإكراه والعجز أن يمتدا لينالا من لغة القرآن ومن وحدة الإمة وإذ لا نقدر على تمثل هذه اللغة الفصيحة في محادثتنا فلا أقل من أن نبقي على البقية الباقية منها في كتاباتنا وتدويننا وتأليفنا وتدريسنا ونقدنا. والذي ينادون بإدخال هذا اللون من الشعر في الجامعات والأندية الأدبية أسوة بوسائل الإعلام الأخرى يتذرعون بحجج أوهى من بيت العنكبوت وتبريرات ضعيفة ليست بمستوى المناقشة وإذا لا يكون الخوف من الطرح الإعلامي الشفهي فإنه يكمن في أمور منها:

أولاً: إدانة المرحلة تاريخياً لتفكيرها بمثل هذا المشاريع.

ثانياً: استدراج بعض النخب لتأييد مثل هذه الرغبات عبر استطلاع للرأي واستغلاله بطريقة غير مشروعة.

ثالثاً: سكوت النخب الرافضة لمثل هذه المحاولات وتغليبهم للسلامة على حساب تاريخ مرحلتهم أو تناول الموضوع بطريقة ضعيفة وغير واعية.


| \ |
إن الرافضين للعامية في قلوبهم يجب عليهم أن يقولوا رأيهم بألسنتهم، وتغليب جانب السلامة ضعف وضرر ومداهنة لا تليق، إنني أسمع وأرى من يأنس بكتابات الرفض والمواجهة، وإذا قيل لهم:

ــ تكلموا اسمعوا رأيكم تذرعوا بأعذار واهية لا تنجيهم من الخطيئة والتواطؤ. إن التاريخ لا يرحم وقد يأتي يوم يكثر فيه سواد الفصيح فتعاد قراءة المرحلة ثم لا يكون لأولئك أي دور في خدمة قضاياهم المصيرية كمناصرة اللغة العربية فيحاسبون على ذلك مما يؤثر على سمعتهم وذكرهم.

وإذا كانوا يواجهون بسفاهات من القول من بعض العوام وصغار الكتبة والمتحدثين فإن هذا ابتلاء وامتحان، ولا يليق بمثلهم أن يخلوا الساحة لمثل أولئك.

كما أن مجاملة كبار الكتاب، والأدباء، وعلية القوم، لا تكون على حساب القضايا المهمة والذين يحتفون بالشعر العامي أو يقولونه أو يكافئون عليه لا ينطوون على كره للفصيح، ولا يقبلون المساس بلغة الأمة ولا يفكرون بمثل ما يكفر به من يدعون إلى إيجاد أقسام للعامية في جامعاتنا، ولو كان أحد منهم على شيء من ذلك لوجب علينا مناصحته لأن من واجبه علينا أن لا نسايره على الخطأ وقد حظيت بشيء من التناوش الشفهي مع بعض أولئك فأحسست أنهم مع الحق حتى قال قائلهم: «إنني لا أهتم بالشعر الشعبي، ولكنه يهتم بي فأين أصحاب الفصيح ليأخذوا حقهم كغيرهم».

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:21 PM

مقالات 2004م

لا تلوموا (صدام) ولوموا أنفسكم
د.حسن بن فهد الهويمل


وصيد (صدام) كما تصاد الجرذان المؤذية، ووصل كل الأطراف إلى مشارف القضايا، وأصبح كل شيء في ذروة تعقيده، واستحالة تصوره.
فالشعب العراقي تنفس الصعداء، لأن العفريت الذي انفلت من قمقمه عاد إلى قبضة قوية لن يفلت منها. وعلى ضوء الخلفيات الذهنية لم يكن أحد يتصور النهاية البشعة والمهينة، وإن كانت تجارب الأمة مع ثورييها تشي بمثل هذه المصائر المؤلمة، فالزعامات الثورية لا تغرس عروقها الظالمة إلا على الجماجم والأشلاء، مختصرة الوطن في شخص المغتصب، مكرساً إعلامها شخصنة المؤسسات، غير ملتفت إلى تشخيص الأدواء.
والذين انهالوا على (صدام) بأقذع الكلام وأسفِّه، يفوتون على راهنهم فرصة التأمل (لما بعد صدام)، لقد انتهى شر نهاية، وطويت صفحته بما فيها من بشاعة وقبح، وسيظل وثيقة إدانة لسياقه وأنساقه التي عاشها، وإن تمت كل تجاوزاته تحت سمع المخابرات الغربية وبصرها. ويوم أن كان يقاتل عنهم بالإنابة، كان الدعم ينهال عليه من كل جانب، ولما أن فرغ من دوره على مسرح الدمى، لم يحتمل الاقصاء، فعاد يكسر في خلفيات المسرح وفي الدمى، قبل أن تنتهي فصول المسرحية، الأمر الذي جعل اللاعب الغربي يأطره على رغبته أطراً ويصوغ خطابه على ضوء المستجدات، ناسياً ما سلف، دون أن يتغير شيء من المقاصد، ومصيبة الأمة ليست فيما حصل، وإنما هو في فهم ما حصل على غير حقيقته، وتصديق الرأي العام للمتغير الأدائي.
و(صدام) الضجة لم يكن عدوَّاً للغرب بقدر ما هو عدوٌّ لأمته ومصالحها، لقد كان مخلب القط في كل حروبه الخليجية، وحين تبين له أنه ألعوبة غبية، وأن ليس له مما فعل إلا العار والخسار، ولما لم يقبض ثمناً لأدواره الجارحة للكرامة العربية، ثارت ثائرته، واختلطت عنده الألوان، وتداخلت الأطياف والرؤى، ووجد نفسه كما (الثور الأسباني) في الحلبة، يمعن المصارع في تهييجه، حتى يثخنه، وحتى تخور قواه ويسقط، ثم يسحب من ذيله، وكل الفرق بين الاثنين أن (صداماً) سحب من شعر رأسه ولحيته، فيما سحب الثور المصارع من ذيله، لقد وقف على مفترق الطرق يتنازعه:- الخنوع لتبعات اللعبة، أو مواجهة قدره.
ومنذ أن دحرته القوة العالمية في الكويت، لم يكن يتصرف بعقل، ولم يبد على حقيقته إلا حين نسل من حفرته أشعث أغبر، لقد ظهرت الحقيقة التي أخفاها وراء حجب من الأقنعة. وأمريكا التي تتقن فنون الحرب، وتملك آلياته، تتقن كذلك متطلبات الحرب النفسية والإعلامية، لقد أحكمت التمثيل والإخراج لخطوات القبض عليه، ولم تمسه بقدر ما مست كرامة الأمة العربية.
وحيث أجمع المتابعون للقطات القبض عليه على أنها مصنوعة بإتقان، لإهانة الكرامة العربية، وتعميق أثر الحرب النفسية، فإننا نود لو أن القابضين عليه احترموا مشاعر العرب، واكتفوا بالعرض المقتضب، لتأكيد الخبر، لا لتعميق الإهانة. وإذا كانت أمريكا قد حققت نصرا بهذا القبض، فإنها دخلت نفقا مظلما، قد لا يكون المستقبل أحسن حالا من الماضي. والذين يغامرون في مواجهتها في مواقع عدة من العالم، بدؤوا يتجهون لمواجهتها في العراق، ومتى تحول العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات فستظل أمريكا تدفع بمزيد من الجنود والعتاد حتى إذا لم تستطع حسم الموقف لصالحها سلمت السلطة لمن يعيد العراق إلى سالف عهده المظلم.
والقواصم أنها شرعنت لنفسها الغزو، وأعلنت من جانبها أنها محتلة، وليست باحثة عن أسلحة، ولا محاربة لإرهاب، ولا جالبة الحرية. وكم هو الفرق بين الاحتلال والمواجهة لهدف معلن.
لقد كانت تتقلب في حيثياتها، وتنوع مبررات حربها، وكلما أسقط في يدها، التمست حجة أوهى من بيت العنكبوت، ولن نمضي معها في تقلبها، فذلك قول متداول يعرفه القاصي والداني، وإنما نريد أن نلوم الساسة والمفكرين والكتّاب العرب الذين تلهيهم الدعاوى الكاذبة فيشتغلون فيها عما أوجبه الحق عليهم، وكأنهم فقهاء (بيزنطة).
والقبض على (صدام) وأسلوب العرض المؤذي أضاف إلى آلام الأمة آلاماً، ولم يحملها على تغيير ما في نفسها، وقد يؤدي ذلك إلى قلب الموازين. (صدام)، فرد صنعته القبلية أو الحزبية أو (اللعب الكونية)، ودعمه الإعلام الكاذب، وتسترت عليه القوى العالمية لمقاصد بعيدة لا يعلمها إلا الراسخون في علم السياسة. (صدام) شفرة محكمة الصنع إذا تمكن التاريخ من تفكيكها فإن الإدانة ستمتد إلى كل من يستطيع القول ثم لم يقل، ولكل من يستطيع الفعل ثم لم يفعل، ولكل من يستطيع الاعتزال ثم لم يعتزل.
وإذا كان (صدام) على رأس المؤسسة القبلية والحزبية (الدكتاتورية)، فإن آخرين خارج المؤسسة دعموا أو باركوا أو صمتوا، وهم شركاء في الخطيئة.
وإذا كنا مع الذين يحاربون أعداء الإنسانية، ويرفضون الظلم، فإننا لن نقع في رذيلة النظر بأكثر من عين، والكيل بأكثر من مكيال. سياسيون وإعلاميون ساندوا النظام المنحل، وباركوا خطواته، وأغمضوا عن جرائمه، وفي مقدمتهم دول الحضارة و(الديمقراطية)، وحين وقع في المصيدة، انحلت عقد ألسنتهم، وانطلقت تسلق ذات الرئيس، وكأنه وحده الذي حارب واحتل وقتل وعذب وشرد وسجن، وما هو في حقيقة الأمر إلا حلقة صدئة في سلسلة طويلة من الخطائين: جماعات وأفراداً. ولسنا هنا ندافع عن هذا المجرم الذي تولى كبر الجرائم، ولكننا نود ألا يكون وحده المشجب الذي تعلق عليه كل الجرائم، ثم لا نجد حرجاً من إعادة الفعل وصناعة الأصنام.
وإذ نرى محاسبته حساباً عسيراً، وأخذه أخذ عزة واقتدار، نود ألا يكون ذلك (بيد عمرو)، فأمريكا ليست على الأمة العربية والإسلامية بوكيلة، لا يحق الحق إلا هي، ولا ينصف المظلوم إلا هي، ولا يجلب العدل والمساواة إلا هي، ولا يصدر (الديمقراطية) إلا هي. ومن العار أن نستورد الحرية والعدالة والمساواة كما نستورد السيارة والثلاجة والتلفاز، ومن العار أن نردد كالببغاء ما تقوله وسائل الإعلام الغربي، فإذا تحدثوا عن الإرهاب التقطنا الخيط منهم، وقلنا مثل قولهم، وإذا ادعوا أنهم يذرفون الدمع على ما تعانيه الشعوب من ظلم وجهل وتخلف بادرناهم وسرنا وراءهم كالقطيع، وإذا حددوا مصادر الإرهاب أسرعنا إلى التنازلات.
ومع ضجة الفرح والشماتة والاستياء والامتعاض بعد القبض على الرئيس فإن الخبيرين الضالعين في صنع الدمى وإحكام اللعب يتخوفون من (محاكمة) صدام على مشهد من الرأي العام، ذلك أنه لن يعترف، ولن يعتذر، وإنما سيمارس الإسقاط والتخلي، ومن ثم فقد يزج بدول ساندت وبأشخاص باركوا، فالمؤكد أنه ليس الضالع الوحيد في اللعب الكونية، وليس هو الطاغية الأوحد، ولا الغبي الأوحد. وحين تتاح له فرصة الدفاع عن نفسه فإنه سيقول الواقع، والواقع لا يشرف الجميع. ثم إنه سيخفف من حدة المساءلة باستدعاء لاعبين كباراً، مارسوا معه الدعم أو غض النظر ردحاً من الزمن، دعموه بالقوة وبالمعلومات وبالدعاية، حتى إذا استهلك كل الأقنعة، وغرد خارج السرب امتدت أيديهم إليه، ولو أنه حين استخفوه أطاعهم لظل زعيماً مدعوماً، وهو حين لم يطع لم يكن مدفوعاً بالوطنية ولا بالإنسانية ولا بالعقل، وإنما تداخلت عنده الخيارات، حتى لم يستطع في اللحظات الحرجة من التمييز بين المنجي والمهلك.
وحين يقدم للمحاكمة فمن المدعي؟ أمريكا المحتلة، أم الشعب العراقي المهمش، أم دول الجوار المتأذية.
وهل أمريكا محقة بحربها، مقتصدة في مواجهتها؟ وحين لا تكون محقة ولا مقتصدة، فبما تواجه صدام؟ إن واجهته بسلاح الدمار الشامل فحجتها واهية، وإن واجهته بوصفه مجرم حرب، فهي لم تخول دولياً بطرح الدعوى، وكم من مجرمي حرب يسرحون ويمرحون، وإن واجهته بأنها محررة لشعبه ومقيمة للحرية، فهي قد أعلنت أنها محتلة والاحتلال نقيض الحرية. أحسب أننا بحاجة إلى أرضية قانونية شرعية تقنع الرأي العام العالمي الذي لم يعد ألعوبة للدعاية المشكوفة.
(صدام حسين) طاغية، ودموي، ودكتاتوري، أذل شعبه، وأضر بجيرانه وأهان أمته وفرق كلمتها، وحقه أن يلاقي كل جزاءات ذوي الحرابة من قتل أو صلب أو تقطيع أيد وأرجل من خلاف أو نفي من الأرض، غير أن الإشكالية ليست في نوع العقوبة، ولا في المحاكمة السرية أو العلنية، ولا فيمن يتولى ذلك، الإشكالية في نتائج حرب غير مشروعة، واحتلال أرض حرة، وإسقاط حكومة، وإلغاء وزارات، وإحداث فراغ دستوري، وإتاحة الفرصة لقيام كيانات قبلية وطائفية وعرقية، ومقاومة عنيفة لا يعرف مصدرها ولا هدفها ولا مداها، كل ذلك تجاوز بفداحته فعل الطاغية وحدث اعتقاله ومحاكمته.
وحين لا نرحب بمزيد من الفضائح، وحين نغلب جانب رفع الأقلام، وطي الصحف، ونسيان الماضي ومآسيه، ورفع كل الملفات المتمثلة بالخيانات والمواطآت، استعداداً للنظر إلى المستقبل، والأخذ بالحلول المرحلية، فإننا ننظر إلى وضع أليم تعيشه الأمة العربية، ولن يتأتي ذلك إلا بتضافر الجهود العالمية والعربية لحل إشكالية العراق، وأحسبها تتمثل بالخطوات التالية:
- حصر الوجود الأمريكي في أضيق نطاق، وعلى شكل قاعدة عسكرية مؤقتة تمثل صمام أمان بعد الفراغ الدستوري، وتحول دون استبداد أي طائفة بالسلطة أو قيام حرب أهلية تصفى فيها حسابات وثارات.
- تسليم جميع الملفات لهيئة الأمم المتحدة ولجامعة الدول العربية.
- تشكيل أمن داخلي، وتسليم أمن كل منطقة للأغلبية السكانية فيها، وتحميلها مسؤولية استتباب الأمن.
- البدء في الإجراءات الدستورية والقضائية والتنفيذية، ومباشرة وضع دستور وآلية انتقال السلطة، وتوزيع المناصب والحقائب الوزارية: إقليمياً وطائفياً وقبلياً، حتى إذا وعت الأمة مسؤوليتها، وذاقت طعم الحرية، أجريت انتخابات حرة، تحت رقابة مشددة: محلياً وعربياً ودولياً.
- وقبل كل ذلك تعليق كل المشاكل، وإيقاف المحاكمات، وتأجيل كل الديون، وفك الاختناقات الاقتصادية، وتخفيف حدة الفقر والبطالة، وإعادة القدر الكافي من البنية التحتية، وذلك من خلال ممارسة إنسانية تنسي الشعب العراقي ويلاته ومصائبه.
فأحداث العراق تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وليس من المصلحة نشر الغسيل، إن هناك جريحاً ينزف ومجرماً في السلاسل، فهل ندع الجريح، ونشتغل مع المجرم؟ لقد وقعت الزعامة العراقية في أخطاء فادحة، لها ما بعدها، وليس من السهل حسم ذيولها، فحربها الحدودية مع إيران عمل سيئ.
واحتلالها للكويت وانصياع دول عربية مع العراق شكلت كارثة الكوارث، ولكن الأسوأ من ذلك العناد الغبي ثم التسليم المهين.
واحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية كارثة عالمية، لقد هيأ الفرصة لحرب أهلية دموية لن تزيد الشعب العراقي إلا ارتكاساً في حمأة الفتن العمياء التي تجعلهم يترحمون على (صدام حسين). ذلك أن صداماً لا يبطش بطش الجبارين إلا فيمن يعترض سبيله، أما فتنة الاحتلال والفراغ الدستوري فإنها ستمتد إلى المقيم والظاعن والساعي إلى الفتنة والهارب منها.
والقبض على (صدام) سيؤدي هو الآخر إلى مزيد من المتاعب لأمريكا، لأنها تمارس أعمالها القمعية في جو من الاستياء المحلي والعربي والإسلامي والعالمي، ومهما سايرتها الأنظمة العالمية وجاملتها مداهنة أو مداراة أو تقية فإن الشعوب بما فيها الشعب الأمريكي لها تحفظات وتساؤلات، لا يمكن غض النظر عنها.
إن إنهاء حكم (صدام) الحزبي القبلي الجائر ضرورة، وإنقاذ الشعب العراقي ضرورة، ولكن الإجراء لم يكن هو الخيار الأفضل. ومع أنني متأكد من أن أحداً داخلياً أو خارجياً لن يستطيع إسقاط النظام، ولولا مغامرة أمريكا وخروجها على الشرعية لظل كما هو زعيماً أوحد لا ينازع، فإنني كنت أتمنى من المعارضة العراقية عدم تحريض أمريكا على المواجهة العسكرية، وكان بالإمكان تشديد الوطأة عليه، وجمع كلمة الأمة العربية، لتضييق الخناق، حتى يذعن كما أذعن غيره.
ومع تهافت الزعامات المطاردة من قبضة أمريكا إلا أن الخصم الألد لأمريكا ليس حصراً في الخمسين رجلاً تطاردهم، الأعداء المتربصون من يسربون السلاح والمقاتلين ومن يفخخون السيارات ويفضلون الموت على الحياة، ومن هانت نفسه عليه فلن تثنيه ترسانات، ولن تقصيه مخابرات. وأمريكا التي تحتفل بالقبض على (صدام) لم يدر بخلدها أن المقاومة لو وجدت (صداماً)، لقتلته، المقاومة تصفية لحسابات وثارات، وعلى أمريكا أن تعيد حساباتها، فالطريق شاق والخروج من المأزق صعب.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:22 PM

جلد المناهج جلد للذات المقنعة..!
د.حسن بن فهد الهويمل


أصدقكم القول أنني حين أتحدث عن قضايا مصيرية كالمناهج والجهاد والولاء والبراء وقضايا الفكر والسياسة ينتابني خوف من القول وخيفة من الصمت، فالكلمة مسؤولية، يقولها الإنسان في سخط الله، لا يلقي لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في النار، وكم يقولها البعض عن قضايا وطنه يريد بها عرض الحياة الدنيا، فتطفئ وضاءة الوجه، وتضر بالمصلحة العامة.
ولقد تكشفت المشاهد عن انتهازيين ومزايدين وشكوكيين حاروا غثاء بعد سطوع وتألق، ولو عرف المترددون أو المجازفون خطورة السكوت عن الحق أو القول بغير علم، لتمنوا أنهم ماتوا قبل هذا، وكانوا نسياً منسياً.
وحين أتحدث عن أي قضية مصيرية سلباً أو إيجاباً أصبح كالقاضي لا يرضى عنه إلا المستفيد من الحكم، وعزائي أن ما أقوله دافعه المحبة والشفقة، وكل متحدث ناصح يرجو ألا يتلبسه رياء ولا سمعة، وألا يقول ما يقول لغرض دنيء أو عرض زائل، وألا يقول بغير علم أو تجربة، ومصائب الأمة من متقولين أو وصوليين، وإذا بدرت من الناصحين آراء غير موفقة فإن من حقهم على المقتدرين ألا يسكتوا عن إرشاد الضال، وألا يسيئوا الظن بالمخطئ ابتداء، وإذا تردد المقتدرون نزل بساحة القوم من لا يحسن الورود ولا الصدور، وذلك ما نراه، وما نسمعه، وما نضيق به.
والبلاد في ظل الظروف العصيبة محلياً وعربياً وإسلامياً ودولياً أحوج ما تكون إلى جهود أبنائها من العلماء والخبراء والمجربين وفقهاء الواقع، ممن يحملون هم أمتهم، ويدرؤون عنها عوادي الزمن، ويعتمدون السكينة والأناة، ولا أحسب أحداً معذوراً على السكوت عن الحق، ولا محموداً على استغلال الظروف لأغراض دنيئة، مادامت الأحوال كما نرى ونسمع عبر وسائل الإعلام العربي والعالمي.
وهل عاقل يشك بأن وراء الأكمة ما وراءها؟ وحملة الأقلام الناصحون في هذه الظروف المخيفة يمارسون « جهاد الدفع» المتعينة فرضيته على كل مقتدر، وليس الأمر من باب «جهاد الطلب» الذي يكون على الكفاية والاختيار.
والإشكالية التي تشغل الرأي العام، وتعتورها الأقلام، وتسلقها الألسنة الحداد بشكل تناحري إشكالية «المناهج» فكل طائفة ترى مالا تراه الطائفة الأخرى.
والناس شركاء في التعليم، لأن أكثر من على أرض البلاد في سن الطلب، وهم بين متلق للتعليم أو معلم له، وكل واحد من أبناء البلاد: إما دارساً أو مدرساً، أو أن له ولداً أو بنتاً أو أخاً أو أختاً، فالتعليم كالهواء يمس الناس كافة، ولكنه مع هذا لم يكن المؤثر الوحيد في السلوك أو في التفكير، حتى لقد عده البعض من المؤثرات التقليدية.
فثورة الإعلام والمعلومات والاتصالات وحمى «العولمة» كادت تنفرد بالتأثير، وحين تضطلع المناهج بمهمة التربية والتعليم، ثم لا تكون مخرجاتها مستجيبة لطلب السوق ولا متمثلة لأخلاقيات الحضارة، يكون هناك خلل في المهمتين، وما لا خلاف حوله أن المخرجات دون المؤمل، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر، دونما اتهام أو تخوف.
ولأن قضية التعليم أصبحت من أهم القضايا الوطنية، والأكثر تداولاً، فقد تقحم سوحها العالم ومن دونه، والمتشدد والمتسامح، والمتحدثن والمتترثن، والمتعلمن والمتعولم، والمتفرنس والمتأمرك، و«الراديكالي» و«الليبرالي» و«الفرانكفوني» والمذهبي والطائفي والانتهازي والمزايد، وهذه الضجة الكبرى تنطوي على أجنة سوية أو مشوهة، ومن حق كل عاقل أن يفكر، وأن يقدر، وأن يبدي تحفظه وتساؤله، فذلك حق مشروع، ولكن تجب الاستبانة، وتفادي سوء الظن، والتفريق بين الحقائق والشائعات، فإلقاء الكلام على عواهنه حول القضايا المصيرية قد يعيق عمليات الإصلاح والتطوير، ومما يزيد مشروعية التحري والتساؤل ما يشاع في الأوساط العالمية، من أن المناهج التعليمية في المملكة تفرخ الإرهاب، وأن هواجس التغيير والتطوير تطال الثوابت الدينية، ولعلنا نستعيد مبادرة «باول» في 12/12/2002م القائمة على أربعة مبادئ منها «الإصلاحات التعليمية» فما المقصود بها، أيريد العلمنة أم العلمية؟
وفي ظل هذه الظروف المدلهمة يشرع الخوف والتساؤل، وحسناً فعل المسؤول بالإعلان عن أسماء اللجنة المسؤولة عن تطوير المناهج، لقد فتح هذا الإعلان أبواباً من الآمال الباسمة والاطمئنان الواثق، والتفاؤل العريض، فالناس قبل هذا محتقنون، وحق لهم الاحتقان، فما يشاع عن مناهجهم من قول غير موثق، يبعث على الارتياب، والعامة لها أمثالها الناطقة بالحكمة كقولهم:«إذا قيل رأسك ما هو عليك رحت تلمسه»، فنحن وإن كنا واثقين بحملة المسؤولية مطمئنين بالتزامهم بمقتضيات سياسة التعليم المعلنة، إلا أن كثيراً مما يدور على الألسن وعبر الوسائط الإعلامية من أبناء البلاد أنفسهم، ومن غيرهم، يبعث على الخوف المشروع، ولقد سبقنا« أبو الأنبياء» بطلب الرؤية للاطمئنان :«أرني كيف تحيي الموتى»، وليس على أحد من بأس أن يقول :« أروني كيف تطورون المناهج»، وواجب المسؤولين مواجهة الرأي العام، وبسط أهداف التغيير وأمدائه، وعدم الامتعاض من الأسئلة الملحة، ذلك أن قرناء السوء يخوفون الخليين، ويفترون الكذب، ويطلقون الاتهامات جزافاً، ويحسنون صنع الحرب النفسية، والمسؤول المطمئن إلى مشروعية فعله، يتصور أن الناس جميعاً يعرفون ما يعرف، ومن ثم يكل الناس على ما يتصور بلوغه إليهم.
وإذ كان لإعلان أسماء لجنة المناهج أثره الحسن على كل من لقيت، فإنه يحسن أن تجرى لقاءات متتابعة عبر وسائل الإعلام مع الأعضاء، يتحدثون فيها عن وجوه التطوير والتغيير، وبخاصة ما يتعلق منها بالعلوم الشرعية، ليحبطوا دعاوي المرجفين الذين يربطون عملية التغيير بما يروجه الإعلام الغربي، وليكشفوا عوار ما يتلقفه الفارغون الذين جبلوا على النوال وعدم المبادرة، وهم ألد الخصام، ولو أن المعنين بجلد المناهج عادوا لما قبل الحادي عشر من سبتمبر، وقرؤوا ما قالوه بألسنتهم عن العملية التعليمية، وما كتبوه بأقلامهم عن ضعف المناهج وعدم تأثيرها تعليمياً وتربوياً، ولو أنهم قرؤوا التقرير الذي أعده «سعد الدين إبراهيم» من قبل وأصدرته «مؤسسة ابن خلدون» عن التعليم العربي، لوجدوا أن ما قالوه من قبل، وما قرؤوه، لا يأتي على ذكر ما يتداولونه اليوم، ولم يقل النقاد، ولم تقل المؤسسات الراصدة بأن المناهج تصنع إرهاباً، علماً بأن «مؤسسة ابن خلدون» مظنة العمالة والإثارة والتشكيك.
فمن الذي صنع هذه الضجة؟ وإذا كان في المناهج ما يوحي بالعموميات والاحتماليات فإن من أولى مهمات اللجنة تقييد المطلق، وتحديد المعمم، وتفادي الحدِّيات الصارمة.
وإن كان ثمة تحفظ فإنه على وقوعات فردية أو آنية تمارس على هامش المناهج أو في ظلها من مناشط، ربما وجهت إليها ظروف استثنائية، وهذه تمت تحت بصر الجميع وسمعهم، ثم إن الطفرة التي اجتاحت البلاد قلبت الأوضاع رأساً على عقب، وغيرت المفاهيم والمواقف، ومناهج التعليم آخر من يعلم، ولأن اللغط يقوم على الاهتياج الأعزل فإنه لا يفرق بين المناهج والمقررات والتربية والتعليم وطرق التدريس والوسائل والأزمنة والأمكنة، ولا يحسب لضعف المهارات ولا لقياس الجودة ومقاييس الأداء والضعف اللغوي والحشوية والمنهج الحواري أي حساب.
وسواء قال الغرب أو لم يقل فإن كل مفردات التعليم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر والتطوير، سواء منها ما يخص العلوم البحتة أو الإنسانية أو الثقافة الإسلامية، فلكل زمان أولوياته، والإسلام يضع كل الاعتبار لفقه الأولويات، فنزع قضية وإنزال أخرى، لا يعني إلغاء الأولى أو التخلي عنها، وإنما يعني أنها لم تكن الأهم في السياق القائم، ولقد وجهنا الرسول المعلم عملياً إلى فتيا المناسبات، وإجابته عن طلب «التوصية» وعن «أي الأعمال أفضل» خير دليل.
ومما يساعد على تصعيد الشعور بالخوف ما يقترفه البعض بحق مقررات العلوم الشرعية، وما يلمحون إليه من رغبات ليست على شيء من الحق، وفوق ذلك فإن هناك مبالغات غير مبررة، تنحي باللائمة على المقرر، وعلى المعلم، وعلى المشرفين على النشاطات الطلابية، ومع أن في كل ذلك ما يحتاج إلى إصلاح، إلا أنه لا تجوز المزايدة وانتهاز الفرص وتحريف الكلم عن مواضعه، ومن الطبعي أن تبدو في المقررات كلمات حادة أو عبارات حمّالة، ومن الطبعي أيضاً أن يكون من المعلمين من لا يحسنون التأويل، ولا التوصل السليم، ومن الطبيعي أن يتطوع متشددون في النشاط الطلابي فيوغلون في الدين بغير رفق، كل ذلك ممكن، وكل ذلك متوقع، ولكن الوقوعات الفردية لا يمكن أن تجعل سمة عامة كل شيء، ولا يمكن أن تحفز على اتهام مفردات التعليم ومحاكمتها، فكل ذلك لا يجوز تضخيمه لإدانة المناهج والمعلمين والوزارة من ورائهم، وإذا كنا نسلم بوجود نقص أو تقصير في العملية التعليمية، ونحن مسلمون ولا شك، فإننا نجد في المقابل مزايدين يطلقون الاتهام ليسجلوا لأنفسهم مواقف زائفة، ولو طلبت منهم البينة لسقط في أيديهم، ومثل هذه المزايدات تثير الرأي العام.
لقد قرأت وسمعت حملات جائرة لن تزيد الأمر إلا تعقيداً، وكل مجازفة في الاتهام تولد مجازفة في التبرئة، وفيما بينهما تضيع الحقيقة، وعمليات التطوير جزء من العملية التعليمية، والمسؤولون عن المناهج يمارسون ذلك منذ أمد بعيد، وما من أحد أبدى تخوفه، غير أن الظروف الاستثنائية عمقت الخوف. فالوزارة بعمليات التطوير والمراجعة تمارس شطراً من مسؤوليتها، ولديها أجهزتها المسؤولة عن تطوير المناهج، ولم يثر فعلُها أي تساؤل، فالقائمون عليها أهل للمسؤولية والثقة، ومصائب الأمة تكمن في تقحم الجهلة المتطرفين من الطرفين، وفي الإمعان في تسييس الدين والتعليم وشؤون الحياة، فالسياسة ترتبط بالمصالح التي لا تدوم، فيما تقوم القضايا الإسلامية والتربوية على الثبات والمبدئية، وفوق كل ذلك فإن هناك خلطاً عجيباً بين الثوابت والمتغيرات، والتعليم والتربية، فالعلم الخالص صناعة يجب أن يراعى فيها العرض والطلب، وحاجة السوق، ومتطلبات التنمية، فيما تتجه التربية الى تنمية المهارات وتأصيل القيم وتهذيب الأخلاق وإظهار الدين، وتثبيت معالم الحضارة، وهذا ما يعرف ب «أسلمة المناهج»، والأسلمة لا تعني تغيير القوانين العلمية أو التدخل في السنن الكونية، أو فرادة المناهج والطرق، وإنما تربط المكتسب بالحضارة وتصطبغ بها.
والتركيز على تغيير المناهج، والقول بأن الإصلاح يبدأ منها، ووضع البيض كله في هذه السلة يعد من الاطلاقات المعممة، فالمقررات كتب ورقية، والرهان على الحذف والإضافة رهان لن يبلغ شأوه، وإذ تكون الإشكالية أوزاعاً بين المنهج، والمقرر، والمدرس، وطرق التدريس وكافة الوسائل والمباني فإن علينا ألا نراهن على نزع صفحة وإحلال أخرى، وعلينا ألا نسلم بأن مناهجنا تصنع الإرهاب، ولا أنها دون غيرها من المناهج العربية، ولا أن تكون رغبتنا في التغيير من أجل تجفيف مستنقعات الغلو والتطرف، الغلو والتطرف والإرهاب لها مصادرها التي يعرفها أولو الدراية بخبايا السياسة، والذين استثمروا الأحداث العالمية للضغط على الشعوب المسلمة للدخول في «العولمة» كافة يزيدون في احتقان الرأي العام ويهيئون لاشتعال المقاومة والإرهاب، ومن الخير للبلاد والعباد أن يكف المتطرفون من كل الفئات عن المزايدات وتسجيل المواقف، وأن تقوم الوسطية في كل شيء، بحيث لا يكون تطرف إسلامي، ولا تطرف علماني، ولا مزايدات طائفية أو مذهبية، مع الكف التام عن تداول ما يقوله الغرب حول مصادر الإرهاب، ذلك أنه ناتج أوضاع عالمية، يعرفها حذاق السياسة، والإحالة إلى المناهج وحدها حيلة لا ينخدع بها إلا الخب، وحين نبرئ مناهجنا من صنع الإرهاب، وتبني التطرف، فليس معنى هذا أن نصر على سلامتها والإبقاء عليها، ولا أن ندعي قدسيتها، وتجريم المساس بها، إنها صناعة بشرية، وكل صناعة بشرية لا تكتسب الثبات، ولا تسمو فوق المساءلة، وحين نباشر إصلاح المناهج أو تطويرها أو تعديلها أو تصحيحها تحت طائلة اتهامها بصنع الإرهاب، نقع في الخطأ، أو قل نستمر فيه، وقد تلهينا الأوهام عما يجب ان تمتد اليه يد الإصلاح، المدرس والوسائل والمباني وطرق التدريس وكل مفردات العملية التعليمية بحاجة إلى أن نتعهدها بالتطوير، ولقد سمعت في اللقاء الثاني للحوار الوطني كلمات لاذعة، لانطوائها على تخوف مثل «التدريس مهنة من لا مهنة له» و«البلاد ورشة لتدريب الوافدين» و«التعليم في واد والتنمية في آخر».
وعتبي على الذين يتصورون أن الاصلاح يقتصر على مواد «العلوم الشرعية» وحسب، وعلى الذين يتصورون أن المناهج هي الصانع الوحيد للإنسان ولفكره، وعلى الذين يغفلون أو يتغافلون عن التقصير الحقيقي، وحين لا أرى من بأس في إخضاع «العلوم الشرعية» كما العلوم الإنسانية، وكما العلوم البحتة أو التجريبية أو الرياضية لعامل الأولويات، فإنني أرى البأس كله في ربط التغيير بالأحداث، أو الخنوع للاتهامات، والقبول الطوعي لها، أو الالتفات إلى عشاق الأضواء والمشتغلين في بؤر التوتر والمتعمدين لخلط الأوراق، وإذا أراد الله بالأمة خيراً حفز علماءها وخبراءها ومتخصصيها وقادتها لإعادة النظر في كل شيء، عند كل نازلة، إذ كلما ألمت بالأمة نازلة أو قامت حاجة استدعوا من نصوص الشريعة أو تجارب الحضارات ما يصلح لمواجهتها، فإذا نزلت بساحتهم أخرى شغلوا بما يناسبها، وتعمد إرجاء قضية وتقديم أخرى لا يعد خطيئة ولا تقصيراً بحق الدين، والنفور الكلي للتفقه في الدين إضاعة لمطالب الحياة، فالمتعلمون لا يراد منهم أن يكونوا أهل ذكر وإنذار وإفتاء، وإنما عليهم أن يتعلموا من الدين ما هم بحاجة إليه، مما يتعلق بالأخلاقيات والمعاملات والعبادات، وما سوى ذلك عن عويص المعارف الشرعية يترك للمتخصصين الذين يرجع إليهم في الفتيا وغيرها، ومن كلمات الأصوليين : «ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب» وهذه القاعدة لو وعينا مقتضاها لعرفنا ما نحن بحاجة إليه من كل شيء، ولكيلا نصعد الخلاف يجب أن نعرف من نكون، وما طاقتنا، وما نحن بحاجة إليه؟ وليس بمقدور السياسة التعليمية أن تستجيب لكل متمذهب، ولا لكل متذوق، ولا لكل متلق لركبان المستجدات، ولقد قرأت لمعالي الأخ وزير التربية والتعليم في 18/11/1424هـ «الجزيرة ص3» ما نسب إليه: «فنحن أصحاب دعوة ورسالة سامية ترفض التطرف والغلو بالقدر الذي نرفض فيه الانحلال»، وتلك كلمة متوازنة، وضابط لكل تغيير.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:22 PM

سلبيات الإفراط والتفريط والعنتريات..!
د.حسن بن فهد الهويمل


و«المستغربون» على أي مستوى تجاهلوا أن «الصهيونية العالمية» المجرَّمة من كل الشرفاء في العالم ورمزها القائم «إسرائيل» ما كان لها أن تكون لولا مواطأة الغرب ودعمه وحمايته، وهذا الميل مسقط لدعاويه، ومضر بمصالح الأمة العربية، ومحفز قوي على احتقان الشعوب العربية، وليست الخطيئة قصراً على مجرد الوجود الصهيوني وحسب، وإنما تمتد إلى آثاره ومقتضياته، فالصهيونية لا يقر لها قرار بالوحدة العربية، ولا بوحدة أقاليم الدولة الواحدة، ولا بالوحدة الفكرية، ولا بقيام أنظمة دستورية، وكيف يحتمل العربي المسلم تشريد خمسة ملايين فلسطيني، ويقبل بجمع الشتات اليهودي في قلب الوطن العربي، ومع التشريد والتوطين فإن المحتل والمستوطن لن يسعدهما قيام «الديمقراطية» التي يخادعان بها، وكيف يرضي الغرب بقيامها في بلاد أذن لنفسه أن يجعلها سوقاً لمنتجاته وميداناً للعبة ومختبراً لتجاربه، ولهذا فإنه لن يغض الطرف عن أي مبادرة إيجابية في أي قطاع: دستوري أو تعليمي أو اقتصادي أو صناعي، وكل الذي يشغله المحافظة على تفوق الكيان الصهيوني في كل مجال، ولن يتأتى له تحقيق ذلك في ظل المبادرات الإيجابية التي تخل بالتوازن، ولن يذعن إلا مكرهاً أو مضطراً، ولو اجتمعت كلمة العرب، وخلت ارضهم من الاشياع والاتباع، لكانت لهم القدرة على ممارسة الضغط، ووضع الغرب أمام مسؤوليته.
وأخطر ما يواجهه الشرفاء ارتباط المصالح الأمريكية الإسرائيلية، وقيام المصالح الإسرائيلية على استمرار تفوقها، وترسيخ التخلف في الوطن العربي، وتأصيل الفرقة: الفكرية والسياسية والعرقية والطائفية، واختراق الأجواء والأدمغة، وتعميق بؤر التوتر، والحرص التام على قيام كيانات سياسية غير شرعية، لا تملك الاستمرارية ولا الاستقرار بالإدارة الشعبية، وإنما تملكها بالثكنات العسكرية، وبحبل من الدول ذات المصالح، وما من أحد من المستغربين يود استدعاء مثل هذه الحقائق الدامغة، لأن مجرد تداولها كشف لسوآتهم.
وكيف يحلو للمستغربين التعذير أو التبرير أو الركون للغرب أو الثقة باطروحاته ووعوده، وهم يرون غزوه العسكري وتآمره الفكري رأي العين، متمثلة بامتصاص الخيرات، وإثارة العداوات، والتدخل في الخصوصيات، والاحتلال والقمع، ودعم الاستيطان، وتحريض الأقليات، والحد من إعداد المستطاع من القوة ومن رباط الطائرات والراجمات، وحجب «التكنولوجيا» الانتاجية، وإشاعة الاستهلاكية، والتستر على ما تلاقيه الشعوب من ويلات على يد أبنائها، مع قذف الطعم المسمم عبر مفاهيم جذابة كـ «حقوق الإنسان» و«المرأة» و«الحرية» و«الديمقراطية».
إن ضعف الشعوب العربية، وضعف كياناتها السياسية، وخوف الدول العربية من بعضها، واختلاف أحلافها ومصالحها وكل شيء فيها، مواطأة المصالح الاستعمارية للضعف والاختلاف، كل ذلك سيئة وأسوؤه يحتاج إلى تحرف جماعي، يستبعد المثاليات والعنتريات والتنازع وسيطرة الإحباطات، وتأثير العقد النفسية والمزايدات والتعذيرات، ويتوسل لمواجهة الواقع المتردي بالحكمة والأناة والتروي والعلم والعمل، وفق الإمكانيات المتاحة، وعلى ضوء الظروف القائمة.
ولسنا بدعوتنا محرضين على منازلة الغرب، ولا داعين لمقاطعته، ولا حائلين دون الاستفادة منه، ولا متحفظين على التفاعل الإيجابي معه، وإنما نريد تعاملاً ينطلق من الأشياء على حقيقتها، ويتوفر على الندية والتكافؤ، ولا شك أن تتابع النكسات، وانكشاف اللعب، وبوادر الغزو والتآمر يفضح تهالك المستغربين على ما تروجه المؤسسات الغربية وبوادر الغزو والتآمر يفضح تهالك المستغربين على ما تروجه المؤسسات الغربية من افتراءات تؤثر على السذج والمتسطحين.
ولقد سمعنا من يقول: إن عزلة المملكة عالمياً ستكون بسبب مناهجها، وعايشنا مروجين لهذه الفرية، وكأن أحداث التفجيرات فرصة سانحة للمسخ والإضعاف والتبعية، وإشكالية الأمة في «مناصرين» لا يحسنون المناصرة، وفي «متطرفين» لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وفي «مستغربين» يخادعون أمتهم، وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي «مستفزين» يغثون في صخبهم، وفي «موبوئين» بعقد الأبوية ورفض التغيير، وفي «حكام» متورطين في اللعب أو المجازفات، فالمناصر الجاهل، والمتطرف المدمر، والمستغرب المواطئ، والمتمرد المستفز، والحاكم المجازف عقبات عصية، تتعثر بها مسيرة الأمة، ويرتاب منها العقلاء، ويتجرع مرارتها الحكام الصابرون على اللأواء، وجيلنا التعيس عايش انتهازيين، هيجوا الشعوب على قادتهم، ومفكرين منحرفين، شككوا الرأي العام بثوابت دينهم، وإعلاميين مأجورين، استعدوا الغوغاء على مؤسساتهم، وحكاماً مجازفين متسلطين، ساموا شعوبهم سوء العذاب، وحين سقطت الأقنعة، وتعرت الحقائق، طفق هؤلاء جميعاً يخصفون من كل شاخص ما يستر مقترفاتهم، ووجدوا من يواطئهم على الإصرار على الحنث العظيم.. وهل من حنث يبلغ درك الخيانة للأمة والوطن؟ ومن المستحيل حسمها بين عشية وضحاها، والمجازف كالمثبط حذو النعل بالنعل.
والتجاهل والتناسي والغفلة والتغفل والغباء والتغابي سمة المصطرعين في المشهد السياسي والفكري، ولو علموا وذكروا وتنبهوا لكان أن تسللوا لواذاً، خجلاً من قبح ما صنعت أيديهم، وقل أن تجد أحداً منهم ابتدر القضايا، واستلها كما الشعرة من بنية الأمة، وإنما الجميع أصداء لما يطرحه الإعلام الغربي، وما تفيض به مطابخه السياسة، وها هم اليوم في سفسطات تلهيهم عما يجري في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان والسودان وما الجدل البيزنطي حول «المناهج» و«قضايا المرأة» و«الإطصلاح» إلا مؤشر غفلة مضرة، وما كانت تلك القضايا حاضرة المسرح الإعلامي، لولا أن جاء بها الغرب، لشغل المشاهد عما يجري من قتل وتفتيت وتشريد، ولو سألت مستغرباً عن حقيقة ما يغلي في مطابخ الغرب، وعما يراد بالعالم المستضعف، وعما يدور في المشاهد من مؤامرات ومواطآت وانتهاكات مؤلمة، تطال العقائد والأنفس والأوطان والأعراض والأموال لما تجاوز علمه ما يروجه الغرب عن «الإرهاب الإسلامي» و«الاصلاح السياسي» و«حرية المرأة» و«تغيير المناهج» ذلك أنه رهين ما تفرج عنه المؤسسات السياسية الغربية وسائر المنظمات التي تخادع الناس بدراسات وإحصائيات لا أساس لها من الصحة، وإشكالية هذا النوع من التبعيين أنه لا يفرق بين الوقوعات الفردية والمقاصد المبدئية، ولا بين مسؤولية المقترف وبراءة المبدأ، فأي الفريقين أحق بالمقت؟: القاتلون للأبرياء المخلون بالأمن، أم المواطئون للأعداء، المعذرون لمقترفاتهم وتجاوزاتهم، المشرعنون لممارساتهم، أم المقامرون بمقدرات الأمة، أم المزيفون لوعيها المغررون بشبابها، أم الحداثويون المستفزون للرأي العام بتجاوزاتهم القولية؟ أحسب أن جميع أولئك في السوء والإساءة سواء.
لقد مس الأمة الضر من الإرهاب، ومسها الضر من الاستغراب، ومسها الضر من عقدة الغزو والتآمر، ومسها الضر ممن يركنون إلى الذين ظلموا، ومسها الضر من المغامرات والمقامرات، ومسها الضر من تدنيس مقدساتها وإفساد قيمها الدينية والأخلاقية والفنية.
وما نزل هؤلاء جميعاً من السماء كما الكسف، وما انشقت عنهم الأرض كما اللغم، ولكنهم جميعاً منتج أوضاع قائمة، وسليل أنساق متعددة، ربما انفقنا الجهد والمال والوقت على تشكلهم.
ومصائب الأمة في الأنساق المنسوجة على غير مراد الحق، وفي السياقات المعاشة بكل ما هي عليه من تخلف، وفي الاندفاع الأهوج لإصلاح كل شيء في ظل العوائق الذاتية والغيرية، أو التردد الذي يترك الأمور على ما هي عليه، ولا نجاة للأمة إلا بحفظ التوازن، والإيغال في كل شيء برفق، وفهم طبائع الأشياء، وتفكيك بنية الأمة بأيد وطنية رفيقة، أيد تحسب للواقع حسابه، وتضع للإمكانيات مكانها، تمهيداً لإعادة صياغتها عبر كل المكونات: الذهنية والمعرفية والإجرائية، مستحضرة عروبتها وإسلاميتها ومقتضيات ذلك كله، ولن يتحقق الإصلاح المراد حتى تقوم الثقة مقام الشك، والعزم مقام التردد، وحتى يسلم الجميع لذوي الحل والعقد من علماء أفذاذ ومسؤولين شرفاء ناصحين، أثبتت الوقائع والتجارب سداد رأيهم، ونفاذ بصائرهم، أما إعجاب كل ذي رأي برأيه، وذهاب كل متعالم بما توصل إليه، أو القول بعصمة المسؤول وتساميه فوق المساءلة والنقد، أو جلد الذات المسلمة دون غيرها من المقترفين، فذلك العناد والفساد.
وحين تعترف النخب العربية: إسلاموية وحداثوية وليبرالية وعلمانية وظلامية واستغرابية بأنها طرف ضالع في الخطيئات، تكون الخطوة الأولى في طريق النجاة، وما لا مراء فيه أن طائفة من المفكرين والعلماء والساسة جزء من هذا النسيج، لأنهم سمعوا فسكتوا، وشاهدوا فأغمضوا، وخدعوا فصدقوا، وصنع الإرهاب خارج أرضهم ثم حملوا أوزاره فقبلوا، حتى شكوا في أنفسهم، وغلا ارتيابهم من مؤسساتهم:- التربوية والدينية والسياسية، ولما يزل المغلوب العربي يقول ما قالت:«حذام»، ولما يفكر بعد بأنه جزء من هذه التركيبة المتنافرة.
لقد بوركت أفعال في منتهى السخافة، ومجدت شخصيات في منتهى التفاهة، وزكيت مؤسسات في منتهى البدائية، وقعد مع أقوام يخوضون في آيات الله، وتولى الإعلام العربي كبر التزكية والدفاع والترويج، ولو أننا أعدنا قراءة ما سلف بالبصائر والأبصار، لكان أن سقطت أقلام، وتعرت شخصيات، وانكشفت سوءات، ولكننا قوم بلا ذاكرة، قوم لحظيون، نتطلع لما سيقال، ولا نمحص ما قيل.
لقد أشرت في أكثر من مناسبة إلى تهافت طائفة من النخب العربية على المتداول في المشاهد الغربية، وما تفيض به سائر مؤسساته، وتبنيهم الطوعي لتلك الظواهر والمذاهب، دون معرفة بجذورها الفلسفية، ودون تأصيل معرفي إسلامي، مع تقصير بحاجات الأمة، وعجز عن المبادرات، وها نحن نجد في الإعلام العربي، وفي مراكز المعلومات، وعبر المؤسسات المشبوهة ما يغثي النفوس من مسايرة وافتراء، ومع كثرة اللغط الرخيص لم تزل أوزاع من المتصدين للطرح الفكري والديني والسياسي تخلط بين الثابت والمتغير والمقدس والمؤنسن، وتشكك في قدرة الفكر الإسلامي على أدنى مشاركة حضارية، وتدعو لتبادل المنافع دون رد إلى المرجعية، فإذا طلبنا- على سبيل المثال- احترام الحجاب في «فرنسا»، فلنقبل بتبرج الفرنسيات في البلاد، وما أولئك وهؤلاء في مقولاتهم تلك إلا مسخنون لما غب من الطبيخ الاستشراقي، وراغبون في الاستغراب، وليست لأحد من أولئك مبادرات، ولا معايير، ولا مرجعيات، ولا ضوابط لسيل المطلحات.
فما الوسطية؟ وما التطرف؟ وما حد التعددية المذهبية؟ وما ضوابط التقارب؟ بل قد نسأل: ما الإسلام؟ وما الإيمان؟ وما الإحسان؟ فكل طائفة تفهم الأشياء وفق مرادها، وعلى ضوء مصلحتها، وحين نطلق التعويل على الإسلام، فأي إسلام نريد؟ ذلك أن لكل فرد تصوره ومفهومه، إن هناك خللاً في البنية الفكرية أدت إلى تعدد الموازين والضوابط الشرعية واختلاف القواعد والأسسس العقدية، وبالذات حول قضايا الجهاد والبراء والولاء، وحدود التعامل مع غير المسلم، كما أن هناك غياباً أو تغييباً لمقتضيات الدستور المعول عليه، مع تمرد مكشوف، على المرجعية: نصية كانت أو شخصية.
وإذا كان النخبويون تخادعهم المؤسسات السياسية الغربية المتآمرة فإن العامة تجتالهم المؤسسات الإعلامية المغرضة، فيما تكون الدهما نهباً لكل ناعق، وحينئذ لا يكون هناك قاسم مشترك يدرأ عن الأمة الفوضوية، وأخطر ما تعانيه الأمة ما يتعرض له شبابها من تعبئة فكرية ودينية وسياسية ليست على مراد الحق، وليس أدل على ذلك من اقتراف عمليات التفجير باسم الدين، وعلى أيدي شباب مسلمين، نحقر عبادتنا عند عبادتهم، غير أنهم- وكما أخبر الصادق الأمين:- «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، وكل يدعي أنه «الوسطي» حتى الذي يخوض في الدماء، ويكفر الدهماء، وينقض الميثاق، يركنون لإعلام الغرب ومؤسساته، والعارفون يغضون الطرف طوعاً أو كرهاً عن زعامات لعبت دور البطولة الزائفة، ثم ارتدت على أدبارها، الأمر الذي حفز«سلفان شالوم» وزير خارجية العدو الإسرائيلي إلى القول :« إن إسرائيل تسعى إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع عشر دول عربية»، وهذه العلاقة مشروطة بالتخلي عن أسلحة الدمار الشامل، فهو المنعم المتفضل، ومن ثم لا ينعم إلا بشرط.
لقد خنعت بعض الزعامات لمطالب الغرب، لأنها اقترفت على مدى عمرها السياسي خطيئات بحق أمتها وبحق الآخرين، حتى إذا مكنت من نفسها، بالاعتراف والتحمل، قالت: نعم، لتنجو من كسر العظم وحز الرقاب، واضطرت إلى فتح أبوابها للمحققين والمراقبين والمفتشين والمدمرين للسلاح، فيما قالت «كوريا» المتوازنة في الفعل والترك: إن قول نعم، والقبول بتدمير السلاح «ضرب من الجنون».
لقد آن الاوان للكف عن المزايدات الرخيصة وخلخلة تلاحم الأمة والتلاعب بمثمناتها، ولم يبق بعد كل هذه الاحباطات إلا العمل على وضع ارتيادية- «استراتيجية» - سياسية وفكرية وإعلامية توقف الانهيارات الفكرية والأمنية، وتحول دون التنازلات الموجعة، وتمكن القادة الناصحين لأمتهم من بدء الخطوة الأولى في سبيل الإصلاح الشامل، وعلى الخطاب «الإسلاموي» المتعدد الأصوات والانتماءات الخلوص من الفوضى والتعددية والحدية، والعمل على تحديد المرجعية والمفاهيم، وتحرير العقل من تراكمات الملل والنحل وتفعيله، والقطيعة مع أي خطاب جامد متعصب أبوي إقصائي حدي متطرف، وإشاعة التسامح والتيسير والوسيطة وحسن الظن والتماس المخارج لمن خانه التعبير، وفق معايير وضوابط لا تقود إلى التمييع والانمساخ وخلط العذب الفرات بالملح الأجاج، وعلى الخطابات «الراديكالية» و«الليبرالية» والانبطاحية المتعلمنة والمتعولمة والمتعالمة والظلامية الدخول في الدين كافة، والرد إلى الله، والرسول، وتجنب الاستفزاز والإثارة، فاللحظات الحاسمة تتطلب قرارات حاسمة.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:23 PM

أدب الرحلة عند العبودي..!(1/2)
د. حسن بن فهد الهويمل


يوم لا أنساه، والأيام المحفورة في الذاكرة كثيرة منها المفرح، ومنها المترح، ومنها المخيف، ومنها المطمئن.. تتجاوز في أعماق النفس بتناقضاتها الصارخة، ومتى عفت مع تطاول الزمن، جاءت المناسبات كما السيول التي تجلى الطلول.
وتكريم العلاَّمة معالي الشييخ محمد بن ناصر العبودي في المهرجان الوطني أعاد لي يوماً يفصلني عنه نصف قرن، خمسون عاماً، إنه زمن طويل، ولكنه لم يستطع طمس أحداث ذلك اليوم، فكأن بيني وبينها ساعة من نهار.
في صبيحة الخامس عشر من شهر صفر عام 1374هـ لملمت أطرافي المبعثرة، وغسلت وجهي المغبر، ولا أستبعد أنني استعرت عباءة وجذاء، ودفعت بكل هذه الملفقات إلىمكتب طيني صغير، يقبع في أقصاه رجل مهيب الجانب، تزينه وضاءة العلم، ويملؤه حنو المعلم، إنه العلاَّمة محمد العبودي، كنت يومها في السنة الرابعة الابتدائية، وكان لدى (المعهد العلمي) إذ ذاك مرحلة تمهيدية، يقبل فيها المتفوقون، ليدرسوا في المرحلة التمهيدية.
لم أكن متفوقاً، ولكن والدي جار جنب لفضيلته، ومازال الرسول يوصي بالجار، حتى كاد أن يورثه. نظر إليَّ كما لو كان يتقرأ ملامحي، ثم دفع بي إلى المراقب ليلحقني بالصف الأول تمهيدي، وكان حقي أن ألحق بالصف الثاني، ولكنه قوَّم أشيائي، ولم يقوِّم معارفي، فكان أن ضاع من عمري عام دراسي. هذا اليوم الاستثنائي في حياتي أدخلني إلى عوالم لم أكن أعهدها من قبل.
وبعد سنتين أو ثلاث جاءت زيارة الملك سعود- رحمه الله- إلى القصيم ومن ضمن برنامجها زيارة المعهد, فكان أن تقلدت مكبر صوت، لأهتف بكلمة واحدة (يعيش جلالة الملك) يرددها من ورائي الطلاب المصطفون على جانبي الطريق، لقد مكثت أسبوعاً أردد هذا الهتاف وأسبوعاً أطبقه، وساعة العسرة تلعثمت، فقلت:(يعيش جلالة الملوك) فكان أن سيئت وجوه المدربين، وارتبك المرددون من ورائي، ولم يشف نفسي، ويذهب سقمها إلا تلك التلويحة المخلصة من يد جلالته، مشعرة بالاستلطاف، مع نظرات حانية من خلف نظارة جلالته السميكة، ولكن الخوف ظل يساورني من مدير يقدم بين يدي مساءلته للمخالفين والمقصرين صفعةً على خد نحيف، وأحسب أنه لم يسمع ما سمع غيره، فمرت الحادثة بسلام.
لقد عودنا الانضباط والطاعة، وكانت له أياديه البيضاء في التأسيس للتعليم، وتعويد القراءة في (مكتبة المعهد) التي تعهد بإنشائها وإمدادها، وكانت انطلاقتي القرائية منها ومن (المكتبة العامة).
إنها ذكريات عذاب، وإن لم تكن على شيء من اليسار ورخاء العيش وآثار النعمة.
وحنين الإنسان أبداً إلى زمن البراءات والتطلعات، فالراكضون في عقد السبعينات- وأنا منهم- يصحبون الدنيا بملل وضيق، وإن طال أملهم، وأحبوا دنياهم.. ولأن حديثي عن جانب من حيوات المحتفى به، فإنني سأضرب صفحاً عن ذكريات العذاب والمقدمات المهمة من حياة المختفى به، لأدخل إلى (أدب الرحلة) عنده.. ومعالي الأستاذ (محمد العبودي) عالم وأديب ومثقف، له اهتماماته التاريخية والجغرافية والأدبية، وله نشاطاته التعليمية والدعوية، ولقد اسعفته ظروفه العلمية والعلمية، فكان أن استثمر كل لحظة من حياته، تعلماً وقراءةً وكتابةً.. ويأتي ( أدب الرحلة) في مقدمة إنجازاته التأليفية كثرةً، واتساعاً، واشتهاراً.. إذ عرف (العقاد) مفكراً وهو شاعر، فقد عرف(العبودي) رحالة، وهو العالم المتعدد الاهتمامات والقدرات والمؤلفات. ذلك أن عمله الرسمي تعانق مع اهتمامه بالرحلة وآدابها.
وقبل مباشرة الحديث عن هذا الفن السردي المعرفي، نور الإشارة إلى (أدب الرحلة) بوصفه لوناً من ألوان السرديات, تتنازعه معارف متعددة، فهو كما الثقافة, يأخذ من كل شيء بطرف، إذ يكون تاريخاً أو جغرافيا أو علم اجتماع أو علم سكان أو سيرة ذاتية، أو ما شئت من أنواع السرديات العلمية والأبداعية.. والرحالة وحده القادر على إعطاء (أدب الرحلة) عنده نكهة خاصة، تميزه عن غيره ممن كتب في هذا اللون.
فما(أدب الرحلة): فنيّاً وتاريخيّاً وموضوعياً؟ ومن هم أعلامه؟ وما نصيب الحضارة الإسلامية من هذا القول السردي؟.. وحديثي عن علم من أعلام هذا الأدب يقتضي اللمحة دون البسط، إذ لست بحاجة إلى الرصد التاريخي لهذا الفن، وفي الوقت نفسه لن أطيل الوقوف على الأبعاد الفنية وتحولاتها، ذلك أن (أدب الرحلة) واكب الوعي الإنساني، واختلط بعلوم: (الجغرافيا) و(التاريخ) و(السياسة).
ولم يكن علماً مستقلاً، وإن أشير إليه عرضاً في دراسة الأعمال أو الشخصيات.
لقد كان لكل حضارة نصيب من هذا الفن، ولا أحسبنا بحاجة إلى الدخول في ضوائق المفاضلة أو الريادة, فالرحلة لصيقة بالإنسان، وحديثه عما لقيه فيها من نصب، وما شاهده من أشياء يأتي عفوياً.
والشعر العربي يفيض برصد ما يعانيه الشعراء المسافرون، في ظعنهم وإقامتهم، ولكن تسجيل معاناتهم، وما يتحدثون عنه من راحلة ورحلة وأطلال ومحبوبة وموارد مائية وجبال شاهقة وأودية سحيقة: غائرة الماء أو واقعاً في صميمها، ومطالع القصائد العربية القديمة لا تخرج عن وصف ما يمر به الشعراء، وما يقفون عليه من إقواء وعفا وأحجار وملاعب وأطلال ومواقد وبقايا معاطن، ولقد تقصاها دارسون ك (حسين عطوان) و(وهب رومية) وآخرون، غير أن ما نحن بصدده يختلف تماماً عن الرحلة في الشعر العربي، وعن المطالع الطللية أو الخمرية.
فالشعر لا يحفل بالمشاهد والمواقف إلا بقدر ما تنطوي عليه من ذكريات مرّ بها الشاعر، ثم هو يتحدث عن الصحراء لمجرد أنها ظرف مكاني للقاء متخيل أو حقيقي مع محبوبة حقيقية أو وهمية.
و(أدب الرحلة) اتخذ مستويين إجرائيين: مستوى الرواية الشفاهية، ومستوى التدوين. والشفاهي سابق على التدوين، ولكل حضارة بداياتها الحضارية في عمق التاريخ، ولكل علم بداياته العفوية. فلقد كان الراحلون من كل نحلة وعصر وعنصر يتحدثون إلى بعضهم كما يقول الشاعر:
(أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا.... وسالت بأعناق المطي الأباطح)
وإذا عادوا إلى ديارهم، رووا لمن خلفهم ما لقوه في سفرهم من نصب، وقد يبالغون فيما يلقونه ويشاهدونه، ثم إن المتلقين عنهم يعيدون ما سمعوه للمتعة أو للاعتبار، فكان (أدب الرحلة) شفاهيّاً كأي بداية معرفية أو فنية، وحين بدأ التدوين، دونت العلوم والمعارف الجغرافية والتاريخية، واختلط (أدب الرحلة) فيها، ثم اتخذ سبيله إلى التميز والاستقلال، وما أن أسهم الرحالة في الكتابة حتى مالوا شيئاً قليلاً إلى (أدب الرحلة)، فكان أن تخلق هذا الأدب، كما الأجنحة في الأرحام، وامتاز عما سواه من فنون الكتابة، والرحلة غير الاغتراب، ف (المهجريون) وطائفة من (العقيلات) كما يسميهم النجديون، خرجوا من ديارهم ولم يعودوا، ومن ثم نشأ (الأدب المهجري) و(أدب الاغتراب)، وقد يتداخلان مع (أدب الرحلة).. و(الرحالة) غير (المهاجر) وغير (المغترب)، فالرحالة ينطلق في مهمة ليعود إلى بلده.
ولقد خلفت لنا كل الحضارات الإنسانية مخطوطات، يمكن أن تكون بدايات لهذا الفن السردي.
ففي كل حضارة، وعند كل أمة رحّالتها وهواة المغامرات فيها.. قيل إن كتاب (بوزانايس): (جولة في بلاد الإغريق) المؤثر الأول في (أدب الرحلة) وهو قد ظهر في القرن الثاني الميلادي، والحشد المعرفي لهذا الكتاب لم يجعله المؤسس الأول لهذا الفن، بل جاء من بعده مؤرخون وجغرافيون أسسوا لهذا اللون من السرديات، إذ خصوا (أدب الرحلة) بكتب مستقلة، لا تتسع إلا لما يدخل في هذا اللون من الأدب حسب مفهمومه الحديث، وفي القرن الرابع الميلادي تجلت التقاليد الأدبية (لأدب الرحلة)، كان ذلك على يد (إكسينفون) في كتابه (أنابيزيس) ، وميزة هذا العمل- كما يرويه المطلعون عليه- تتمثل في أمانة الوصف، وفي احترام القيَّم الفنية.
والراصدون لهذا النوع السردي الحفيون به, يتعقبونه في مظانه عصراً عصراً، حتى العصر الحديث، يرصدون للتحولات السردية والدلالية، يؤرخون لهذا اللون ولرجالاته، ويصفون فنياته وموضوعاته، ولما أن جاء عصر النهضة وأصبح معه( أدب الرحلة) نوعاً أدبياً متميزاً، له سماته وخصائصه وطرائف أدائه، نهض في تكوينه الرحالة والمكتشفون والمستشرقون والمناديب وذوو السفارة السياسية والدينية والعلمية، وساعدت وسائل الموصلات والاتصالات المتطورة على توسيع قاعدته ومشمولاته, أصبح هذا اللون أدباً وعلماً في آن، وتعددت فصائل المهتمين به والمستثمرين له، وكاد أن يختلط ب (اليوميات) و(المذكرات) و(الذكريات) و(السيرة الذاتية)، وفي خضم هذا الزخم، عرفت الآداب: (الأوروبية) و(العربية) عمالقة في (أدب الرحلة), ومن تعقب ذلك عند من كتب عن (أدب الرحلة) عرفهم بأسمائهم وبأعمالهم، وعرف الأهداف والدوافع والنتائج، فطائفة من الدارسين ذيلوا كتبهم بمسارد للرحالة ولكتبهم ولمن سبق من الدارسين لهذا الفن.والرحلة وسيلة وليست غاية، ومن الرحالة من حركته الأطماع السياسية أو الاقتصادية أو الدينية، ومنهم من استهوته الرحلة وحب الاطلاع, وقلَّ أن ينفك التدوين عن الأهداف والنوايا والرغبات: السيئة أو الحسنة، ولكن (أدب الرحلة) حين يصاغ باقتدار ينفصل عن خصوص السبب إلى عموم الفائدة، فيكون العمل إبداعاً إنسانياً، تمتد إليه الأيدي دون النظر إلى الدوافع والرغبات.
ولقد أومأ كثير من الدارسين إلى أنواع كثيرة في (أدب الرحلة) وإلى اهتمامات متعددة، جعلت هذا الأدب شيقاً ومفيداً، إنه أدب واقعي، يحمل رسال معرفية، وإن كان ثمة إمتاع فإنما هو إضافة يوفرها تمكُّن الكاتب من لغته ومن فنيات السرد، هذا إذا استبعدنا (الرحلات السندبادية) ورحلات المغامرات التي تعتمد على الخيال، وقد تمتد إلى الخرافة والأسطورة، وهذا اللون لا يدخل فيما نحن بصدد الحديث عنه.. ولأهمية (أدب الرحلة) فقد ألفت عنه كتب عدة تعمدت التأريخ لهذا اللون أو التنظير له أو الدراسة التطبيقية لبعض الرحالة ورحلاتهم.
أعرف من هؤلاء (شوقي ضيف)، و(حسين نصار)، و(الحسن الشاهدي) ،و(حسني حسين)، و(علي مال الله)، و(جورج غريب)،و(حامد النساج) ،و (عواطف نواب). كل هؤلاء ومثلهم معهم لم يكتبوا أدب رحلة، ولكنهم درسوا هذه الظاهرة، ونظروا وأرخوا لها أو درسوا كتاباً في الرحلة دراسة تطبيقية.
أما الرحَّالة الذين خلفوا للثقافة العربية والعالمية كتباً في الرحلة فأكثر من أن يحصروا.. وممن اشتهروا في هذا الفن في القديم (ابن حوقل)، و(المقدسي) و(المسعودي) و(البيروني) و(ابن جبير) ومئات غيرهم. وفي العصر الحديث ( الطهطاوي) و(الآلوسي) و(عبدالله فكري) و(الشدياق) و(البستاني) و( طه حسين) و(هيكل) و(حسين فوزي) و(أمين الريحاني) و(أنيس منصور) وآلاف سواهم، ولكل واحد طرائقه واهتماماته ودوافعه فمن متعمد للتسيلة، ومن مهتم بالفائدة، ومن متحرر من كل القيود، ومن ملتزم محتشم، ومن كاتب بلغة أدبية، ومن كتب بلغة علمية.
أما على مستوى (أدب الرحلة) في المملكة السعودي، فقد استوفى جانباً منه الأستاذ(عبدالله بن أحمد حامد آل حمادي) في رسالته الأكاديمية(أدب الرحلة في المملكة العربية السعودية)، وفيما يتعلق بأدب الرحلة عند العبودي فقد تقصاه الأستاذ(محمد بن عبدالله المشوح) في كتابه المطبوع حديثاً(عميد الرحالة محمد بن ناصر العبودي)، وممن كانت لهم كتب في(أدب الرحلة) من علماء المملكة العربية السعودية وأدبائها ومؤرخيها فهم: العلاَّمة(حمد الجاسر)، و(أحمد عبد العفور عطار)، و(عاتق البلادي) و(عبدالعزيز الرفاعي) و(عبدالعزيز المسند) و(عبد القدوس الأنصاري) و(عبدالعزيز الرفاعي) و(عبدالله بن خميس) و(علي حسن فدعق) و(فؤاد شاكر) و(محمد السديري) و(محمد عمر توفيق) و(يحيى المعلمي)، وآخرون.. وهؤلاء يتفاوتون في مستوياتهم واهتماماتهم، ولكنهم جميعاً لم يتميزوا بما كتبوا في أدب الرحلة، بمثل ما تميز به (العبودي) لا من حيث الكثرة العددية التي لم تسبق، ولا من حيث التقصي والشمول والتنوع، وقد يتفوق بعضهم على بعض بأسلوبه أو بتبويبه أو بعمق ثقافته أو بدقة معلوماته.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:24 PM

أدب الرحلة عند العبودي..! 2-2
د.حسن بن فهد الهويمل


والعبودي الذي استهل أعماله التأليفية بدراسة (الأمثال العامية في نجد) تخطى هذا الاهتمام، وسبح في معارف متعددة، فكتب في الأنساب والجغرافيا والدراسات القرآنية والتراث، وطبعت له عدة مؤلفات في مختلف المعارف وفي عدة أجزاء، منها (معجم بلاد القصيم) و(أخبار أبي العيناء) و(الأمثال العامية في نجد) و(كتاب الثقلاء) و(نفحات من السكينة القرآنية) و(سوائح أدبية) و(صور ثقيلة) وغيرها، وهو فيها توثيقي ممحص، يضرب الأقوال ببعضها، حتى تنقدح له الحقيقة. فعل ذلك في معجمه الجغرافي عن القصيم. وهو معدود من الموسوعيين، وليس من ذوي الاختصاص، ولكنه حين يكتب في فن ينازع المتخصصين إمكانياتهم. ويكاد (أدب الرحلة) عنده يغطي كل جوانب حياته، وينسي المتابعين جهوده العلمية والعملية وإسهاماته المتعددة في مجالات متنوعة. والذي يلتمسونه في حقل معرفي لا يأتونه من أقطاره، إنه عالم متضلع من التراث العربي بكل تنوعاته العلمية والأدبية. وانقطاعه للتعلم والتعليم وملازمته لكبار العلماء وعمله معهم مكنه من التوفر على الكتب والمراجع التي لم تكن في متناول أنداده، ثم هو رجل إدارة حازم، تقلب في عدة مناصب تعليمية ودعوية، وجاء اهتمامه ب(أدب الرحلة) بعد أن لحق وظيفياً ب(رابطة العالم الإسلامي)، ومكنه عمله الدعوي من الرحلات المتواصلة والمهمات الرسمية المقيدة بأداء المهمة الدعوية على أصولها، وما فضل من جهد أو وقت قضاه في المشاهدات، وتقصي جوانب الحيوات المتعددة لشعوب العالم، وتفحص المعالم والآثار والمتاحف والمناظر الطبيعية وأحوال الشعوب ودياناتهم ومستوياتهم الحضارية والمدنية والاقتصادية. وهو راصد دقيق بعيد عن المبالغة والإغراق في الخيال، وأدبية النص عنده من تلك الخلفية المعرفية في أدب التراث وعيون الشعر العربي، وقد فاقت مؤلفاته المطبوعة مائة كتاب، وله مثل ذلك من المخطوطات، وجل هذه الكتب تمثل (أدب الرحلة) بحيث لم يسبقه أحد في حجم ما كتب في هذا اللون، ومن أسباب تألقه في هذا المجال سفارته المتنقلة، وتوفير كل الوسائل له، وشغفه الذاتي بالرحلة، وحرصه على تدوين كل ما يعن له من مشاهدات وملاحظات. ولقد قال عن نفسه ما يدل على دقة الملاحظة عنده، حتى لكأنه (الجاحظ) في عنايته بأبسط الأشياء، ومن ثم تراه يحتفي بكل التفاصيل، فإذا أقيم حفل تكريمي استوفي فقراته، وإذا ألقي خطاب ساق مجمله، وإذا جلس على مائدة ذكر ألوان الطعام فيها، وإذا دخل سوقاً ذكر طرائق بيعهم وطرائف تصرفاتهم. ولقد تجلت في كتاباته العفوية والبساطة والتقريرية والنمطية والاهتمام بكل دقيق وجليل، فهو بين إقلاع واستواء وهبوط واستقبال وتوديع وجولات رسمية ورحلات خلوية إلى أطراف المدن، لا تقتصر على المواقع الدعوية، وفئات الدعاة والقضايا الدينية، وجولات راجلة يقتطعها من وقت راحته، يدخل الأسواق، ويختلط مع الباعة ولا يتحرج من السؤال عن أي ظاهرة، ينقب عن الآثار، ويتفحص المتاحف، ويستعرض المكتبات، وكتاباته تتسم بالتسجيلية، وكأني به يرصد كل شيء في مذكرة محمولة في جيبه، حتى إذا خلا له المكان أعاد صياغة ما كتب والبسط فيه، ثم الدفع به إلى المطابع، لا ينظر إلا في ترتيب الأحداث والوقوعات، ومن ثم يحصل التكرار، وبخاصة عما يعرض له من مواقف متكررة في المطارات والمطاعم والمساجد والأسواق، وإن كانت له إلماحات سريعة يخلص بها من الرتابة والنمطية، وأكاد استبين محاور كتب الرحلات عنده، فهي تتحدث عن قضايا (الدعوة) و(الأقليات) و(الأجناس) و(اللغات) و(العادات) و(أحوال الشعوب) و(أطرافاً من تاريخهم) و(جغرافية بلادهم) و(أنماط الحياة عندهم) و(الأزياء) و(تصميم المباني) و(أنواع المستعملات) و(أحوال النساء) و(عاداتهن) و(المأكولات) وكل ما يخطر على بالك حتى (الفلكلور الشعبي) حتى (الغناء) و(المغنين) الذين لا يعنيه من أمرهم شيء، ولكنه إذ فرض عليه السماع أشار إلى شيء مما عندهم، وإن لم يهتم بالاستماع، وقد يشير إلى (الرقصات الشعبية) وغيرها، ثم لا يجد حرجاً من التعرض لها على سبيل الوصف، وقد يمعن في وصف النساء وأزيائهن ومحادثاتهن ببراءة وعفة، ومع كل ذلك فإن المحرك الرئيس عنده هموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولأنه يمارس في رحلاته عملاً رسمياً فقد استوفى في كتبه تلك الأعمال تحدث عن (الجمعيات) و(المنظمات) و(جماعات تحفيظ القرآن) و(إعداد الدعاة والأئمة)، كما فصل القول عن الاجتماعات والمؤتمرات واللقاءات وما دار فيها وعن الكلمات التي ألقيت وعن الترحيب الذي يلقاه وعن المهمات التي أنجزها، ولا أشك أن تثار الآراء والأفكار والمواقف تشكل خصوصية في أدائه السردي، ولكن كثرة أعماله، وتركيزه على قضايا الأقليات يفوت على المتابع الوقوف على اللمحات الكثيرة، أو بمعنى آخر الجوانب الأخرى التي لا تسمح مهماته الرسمية الوصول إليها، وقد يضيق المتابعون باحتفائه بالوقوعات العادية المتكررة في كل رحلة. وأسلوب الكاتب يتسم بالوضوح والسلامة، والميل إلى التقريرية، وأشواطه الدلالية تعتمد التجزيئية، وله استطرادات قصيرة - كما وصفه - أحد دارسيه. ولأن أدب الرحلة عنده واكب السفارة الرسمية ومتابعة أحوال المسلمين والأقليات الإسلامية في آفاق المعمورة فقد ارتبطت القضايا والموضوعات بذات الرسالة أو كادت، ومع أننا لا نسلم بذلك على إطلاقه، إلا أننا نجد همه منصباً على قضايا المسلمين والأقليات منهم.
بدأ العبودي الرحلة والكتابة فيها منذ أربعة عقود، وخلال هذه المدة طاف أرجاء المعمورة، ولم يتمكن غيره مما تمكن منه، فالذين كتبوا في (أدب الرحلة)، كتبوا عن رحلة امتدت شهراً أو شهرين لبلد سياحي أو دولة اقتصادية، أما هو فقد امتدت معه الرحلات أكثر من أربعين سنة، وأتت على ما أتى عليه الإسلام، حتى لقد أوغل في البلاد الشيوعية التي لم تكن تسمح بأي تحرك إسلامي، ولعل تسامحه وبعد نظرته ودفعه بالتي هي أحسن ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة فتح له الحدود والقلوب، ولما يزل لا يحط من سفر إلا إلى سفر، ولاهتمامه بأدب الرحلة فقد أعطى نفسه مزيداً من الجهد والوقت ليتعرف على كل شيء. لقد وقف على طبائع الدول والمدن وأهلها وما فيها من أنهار وجبال وأودية وأعراق وعقائد وعادات، وما هي عليه من غنى وفقر، وما هو نظامها السياسي، وتقصي مشاكل الأقليات، ولقد بلغت مؤلفاته في أدب الرحلة قرابة مائة وعشرين كتاباً، طبع منها سبعين كتاباً، وآخر ما طبع له فيما أعلم (القلم وما أوتي في جيبوتي) ولقد شدني من كتبه أولها (أفريقيا الخضراء) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1384هـ وكان الأوسع والأدق والألصق بأدب الرحلة، وهو فيما يكتب يعتمد العناوين الجانبية، فله مشاهدات تسجيلية، وملاحظات نقدية، وتساؤلات تعجبية، ومعلومات نقلية، ولا يكاد ينفك من الحديث عن الوسيلة من طائرة أو سيارة أو باخرة أو قطار أو سيارة أجرة، وقد يتحدث عمن يقود تلك الوسائط أو يخدم فيها. وحتى الحفلات والاستراحات والوجبات والجلسات الخاصة أو العملية والفنادق والمساجد والمتاحف والجمعيات يفصل القول فيها، وقل أن يترك الرصد التاريخي والسياسي للدولة أو المدينة التي يزورها، يتحدث عن نباتها وتصميم مبانيها وطبها الشعبي وعادات الزواج وشعائره والأعياد ومناسباتها وملابس الرجال والنساء وما لا يخطر للقارئ على بال، ويكاد يكون الحديث عن الإسلام والمسلمين محور الحديث في كل ما كتب في رحلاته، وهو حريص على اللطائف والمثيرات، يرصدها، وقد يبالغ في تعميق أثرها، وبالذات عند حديثه عن النكسات الاقتصادية، كقوله في كتابه (صلة الحديث عن أفريقيا) (الدجاجة بتيس والتيس ببقرة) فالعنوان لا يوحي بمضمونه، ولكنه يشوق إليه، وله نظرات ثاقبة في أحوال الشعوب وطبائعهم، حتى لكأنه موكل بكل دقيق وجليل في حياة من يرى ويجالس ويحادث، يقول في كتابه (غيانا وسورينام): (ومن أهم ما يميز الهنديات الأمريكيات عن الهنديات الآسيويات كثرة ابتسامهن للرجال وبساطة طباعهن وإسراعهن إلى الاستجابة للحديث) ص96. وهو يخص المرأة بأكثر من إشارة، لها أكثر من معنى، وفوق ذلك فهو كثير التفصيل في وصف التحركات، ويكاد (أدب الرحلة) عنده يتحول إلى سيرة ذاتية في كثير من أحاديثه. وهو بهذا الاستطراد والتنويع يراوح بين (اليوميات) و(المذكرات) و(الخواطر) و(السيرة الذاتية) و(أدب الرحلة)، وقل ان يخلو أي كتاب من صور (فوتوغرافية) ملونة، يكون فيها بين مودعين أو مستقبلين أو مشاركين في رحلة برية أو مهمة رسمية، يصور الأنهار والجبال والأودية والمساجد والأسواق والآثار، وكل ما هو ملفت للنظر، وقل أن يخلو كتاب من حديث عن مسجد، يذكر بانيه ومصممه وما فيه من زخارف، وقد يتحدث مع إمامه ومؤذنه، ويتعرف على ما يمارس فيه من البدع، إن كان ثمة بدع، وحين يصرفه المرافق عن شيء من ذلك، يلح بطلب الوقوف على كل شيء، وإن كان لا يقره، بحيث يصرف المثبط بقوله: -(إنني أحب أن أطلع عليه فالاطلاع مهم في هذه الحالة التي ربما تكون فرصة ولو في المستقبل بتبصير هؤلاء المخرفين المنحرفين) ص88 من كتاب (في شرق الهند) وهو يوزع كتبه إلى مجاميع حسب القارات أو التكتلات السياسية (أفريقية) و(أوروبية) و(هندية) و(آسيوية) و(أمريكية جنوبية) و(بلقانية) و(أسترالية) و(روسية) و(سيبيرية) وكيف لا يصنفها إلى مجاميع جغرافية، وهي تنيف على المائة كتاب، وكل مجموعة تنيف على عشرة كتب، وأحسب أن (رحلاته الهندية) تفوق كل رحلاته، فهي تفوق العشرين كتاباً، طاف بها شرق الهند وشماله وبلاد الهند والسند، وهو يطلق على كتبه مسميات أخاذة، ففي رصده لرحلاته إلى (مولدوف وأرمينيا) يطلق عليها (مواطن إسلامية ضائعة) أو (تائه في تاهيتي) أو (من بلاد القرنشاي إلى بلاد القيرداي) أو (سطور من المنظور والمأثور عن بلاد التكرور)، وهو في اختيار العناوين وتركيب العبارات ذو أسجاع مستساعة.
والعبودي من الكتّاب الذي يهتمون بتدوين المعلومات والملاحظات ما دق منها وما جلَّ، دون تكلف أسلوبي أو معاضلة تعبيرية، وما فيه من صياغة أدبية فصيحة فإنما هي قدرة ذاتية وكسبية، فالمؤلف عالم بالتراث، ومؤلف قبل أن يفرغ لأدب الرحلة، والمتابع لكتبه لا يقدر على تصنيفه لا جغرافياً ولا اجتماعياً، ولا سياسياً، ومن ثم فهو أقرب إلى الموسوعيين. والمؤلف متوفر على القيم العلمية والأدبية، ولكنه توفر عفوي، واللغة التي يعتمد عليها ويتوسل بها لغة فصيحة سليمة، لا يعمد فيها إلى التزوير ولا إلى التنفيح، ولكنه يكتب على سجيته، وكأنه يتحدث إليك، وذلك سر الإكثار وسر القبول، فلو كانت له عناية لغوية أو أدبية أو معرفية، لكان أن قل عمله وانفض سامره. ومع العفوية فقد احتفظ بمستوى أدبي ولغوي ومعرفي يجعله في مصاف غيره من الرحالة، وإذ لا تقدر على تصنيفه من بين الرحالة فإنك لا تجد منهجية محددة، ولا خطة في التأليف صارمة، يدون ملاحظاته، ثم يعود إليها ليبسط القول فيها، وخطة الكتابة عنده مرتبطة بتنقلاته، ومنهجيته تراوح بين الوصف والتحليل والنقد والسرد الحكائي، وهو الراوي والبطل، وقل أن يتحدث بضمير الغائب، أو أن يدع لمتحدث آخر ليأخذ زمام المبادرة إلا ما يأتي من حوار. ومهما اختلفنا معه أو اتفقنا فإنه الرحالة المتمكن من آلياته، الشمولي في تناولاته، المضيف في معلوماته. لقد ترك للمكتبة العربية والعالمية وثائق معرفية متعددة، قلَّ أن تكون حاضرة المؤرخين أو الجغرافيين، وهو بما خلَّف من معارف، وأنجز من أعمال، وقام به من مهمات تعليمية ودعوية جدير بالتكريم والاحتفاء. والمهرجان الوطني بهذا التكريم يعبر عن مشاعر العلماء والأدباء والقراء، وينهض بواجب وطني، فالعلامة معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي علم من أعلام التربية والتعليم ومن الدعاة الناصحين، ومن العلماء المتمكنين، ولما يزل ثر العطاء، تختزن ذاكرته مشاريع معرفية متعددة، وكتاباه في الأمثال والجغرافيا خير شاهد على توثيقه وتقصيه، نسأل الله له مزيداً من الصحة والتوفيق.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:24 PM

أيها المشتغلون في شأن الحج:خذوا عني رأي مجرب..!
د.حسن بن فهد الهويمل


ما ان تجرعنا مرارات الحزن والألم على (رجال الأمن) الذين قضوا نحبهم مغدوراً بهم, وماتوا وهم يؤدون واجبهم, دون ان يطلقوا ناراً, أو يدفعوا أذى, حتى اصابتنا مصيبة (الحجاج) الذين ماتوا, وهم يؤدون مناسكهم, وليس من السهل ان يحتمل الانسان المسلم مصيبتين في الاشهر الحرم, وفي البقاع الطاهرة: شهداء الواجب وشهداء الشعائر, ولن يشفي نفوسنا, ويلملم جراحها إلا ان يحق المسؤول الحق, ويوقف كل الأطراف, ليسألهم: لماذا حصل هذا؟ وكيف حصل؟ إلا حين لا تتكرر مثل هذه المصائب, وقبل ان نخوض في الحديث عما كان, وعما يجب ان يكون, علينا ان نشهد بما علمنا, وألا نكتم الشهادة, ومن يكتمها فإنه أثم قلبه, وما نشهد به, ونشهد الله عليه, ونقوله لوجه الحق, ولا نخشى فيه لومة لائم, ونعرف اننا سنسأل عنه يوم القيامة: ان دولتنا خير من يلي امر الحاج, وخير من يطهر البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود, وانها بذلت في التوسعة والإصلاح والخدمات ما لا مزيد عليه, وانها لما تزل من أحرص الناس على توفير أقصى ما يمكن توفيره للحجاج والمعتمرين, ومن غمطها حقها أو قلل من جهودها فقد ظلم نفسه, ولقد امتدت هذه الاخلاقيات الى المواطن, فكان ان تبارى الموسرون في توفير المأكل والمشرب والإيواء, وتسابق المتطوعون في الإرشاد والتوعية والمساعدة, وما من منصف إلا ويثني على جهود الدولة وانفاقها في الاعمار والكباري والأنفاق, واستنفار كل الأجهزة: الأمنية والصحية والمرورية والإرشادية, وكل ذلك شرف وفضل ومنة من الله على أهل هذه البلاد, لا يدلون به, ولا يمنون, ولا يريدون الجزاء ولا الشكور إلا من الله, فكل الفعل لوجهه الكريم, ومع كل ذلك فإن من واجبنا جميعاً ان نبدي اسفنا واستياءنا مما حصل, حتى ولو جاء من الحجاج انفسهم, ذلك انهم يجهلون, ولا يمتثلون, ويعرضون أنفسهم للخطر, وكان حقاً على المسؤولين حمايتهم من جهلهم, وحملهم طوعاً او كرهاً على امتثال التعليمات, وإلقاء التبعات على المتوفين أو الناجين لا يحسم المشكلة, وفداحة الحدث لم تكن من السباطة بحيث ترفع اوراقها بهذا التصريح او ذاك, ولا يجوز احتمال الكارثة دون تقصي اسبابها, ومعرفة اطرافها, ممن وكل إليهم التفويج, او التنظيم, او المراقبة والرصد او الارشاد, وولي الأمر الذي استنفر كل طاقاته المادية والبشرية, ووقف بنفسه مع كل الاطراف للاشراف, لا يرضى ان يتعرض الحجاج لمثل ما تعرضوا له, والمواطن السعودي يحس بالمرارة والألم, لأن الدولة لم تأل جهداً, ولم تقتصر في شيء.
ولما أن جاء الحدث بهذه الضخامة والفداحة, وفي ظل امكانات واستعدادات متفوقة, لم يكن بالإمكان إهالة التراب عليه, ولا تجاوزه, ومن ثم بادرت الدولة بتشكيل (هيئة لتطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة), وأناطت بها وضع خطة شاملة تمتد لعشرين عاماً, وخولتها الاستعانة بكل الاجهزة الحكومية, ومراكز البحوث, والخبرات المتخصصة, داخل المملكة وخارجها, ومن قبل هذا أصدرت (هيئة كبار العلماء) بياناً ارتأت فيه ضرورة النظر في أمر الشعائر, والخروج برؤية شرعية تسهم في تلافي الكوارث, وأحسب ان هاتين المبادرتين مؤشرا إحساس بفداحة الحدث, وإضافة جديدة للاهتمام المتواصل بشأن الحج وشعائره, والأمل معقود بنواصي الأطراف المناط بها هذا الشأن:




فما استعصى على قوم منال
إذا الاخلاص كان لهم ركاباً


مع الاعتذار ل(شوقي)
ولو أن ما حصل يوم الحج الأكبر نتيجة عجز في الانفاق, او قلة في العدد والعدة, لكنا طالبنا بمزيد من الانفاق والقوى, ولكن في الأمر ما فيه, فالحجاج بجهلهم, والمطوفون باستخفافهم, واصحاب الحملات ببدائيتهم, وضعف امكانياتهم وطمعهم, والجهات المسؤولة باتكالية بعض افرادها, او بتداخل بعض مسؤولياتها, والعلماء بتشددهم, والزمان والمكان بضيقهما عن استيعاب الكثافة البشرية, كل ذلك اسهم في وقوع الكارثة, ويجب ان نحدد السبب ونشخص المشكلة, بثقة البريء, وقوة المحق, فاذا قلنا ان ما حصل ناتج خطأ, فأين المخطئ؟, لقد تسرع المسؤولون, وتفاوتوا في تصور الأسباب, وتسابقوا في القاء اللائمة على الحجاج, فلوزير الحج رؤية, ولوزير الصحة الاندونيسي رؤيته, ولقائد القوات الخاصة رؤيته, ونحن امام كل الجهات المشتركة في التنظيم والمراقبة, وهي كثيرة, ومن ثم فإن كل جهة سوف تجتهد في نفي المسؤولية عن نفسها, وليس من سداد الرأي ضياع الحدث بين الجهات, فالناجون من الحجاج شهود بما علموا, والمباشرون من المسؤولين حول موقع الحدث خير من يجسد الحدث وملابساته, المهم ان يكون هناك تقص ومساءلة لتحديد المسؤولية, ووضع ترتيب لا تتكرر معه فاجعة أخرى.
وإذا لم نكن جادين وحريصين ومحصحصين للحق فإن كارثة اخرى ترقب حجاجاً آخرين, وإذا كنا نتوقع مثل ذلك في ظروف لا يعلم كنهها إلا من غالبها, وتجرع مفاجآتها, فإننا يجب ألا نسلم لكل كارثة, بدعوى أن كثافة بشرية بهذا القدر سيؤدي ازدحامها الى كوارث فادحة, وعندما نراهن على الصدق والإخلاص والتفاني والاقتدار, فإننا لا نراهن على التوفيق, ولا على نجاح الخطط, وإذا كان (الحاج) بجهله وتسرعه وتسيبه وافتراشه للأرض في المواقع الحساسة, وإذا كان (المطوف) و(صاحب الحملة) بحرصهما على إنجاز شعائر يوم النحر بسرعة البرق, ليفرغ كل واحد منهما لنفسه, وإذا كان (العلماء) الورعون بفتاواهم المتشددة يساعدون على حصول الأزمات والاختناقات, فإن على المسؤولين ان يتدارسوا الأمر كله, وبشكل جماعي, تدعي اليه الكفاءات العلمية والمهنية والمرورية من الداخل والخارج, ولا يجوز استعراض الملفات من جهات محدودة العدد والامكانيات, ليقال في النهاية: ان ذلك قضاء وقدر, ايذاناً برفع الملفات, وإذا كنا نسلم بقضاء الله وقدره, ونؤمن بأن كل شيء لا يحصل إلا بعلم الله, حتى الورقة التي تسقط من الشجرة يعلمها, وحتى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في ظلمة الليل, فإن علينا ان نفرق بين (الاتكال) و(التوكل), وفي الأثر (اعقلها وتوكل), وإذا أعطت الدولة عطاء من لا يخشى الفقر, وإذا وضعت خططاً للمرور وللراجلين, وللدفع من المشاعر, وفوّجت الحجاج, ثم خولفت أنظمتها وتعاليمها, فإن الضحية ستكون الحاج البريء الذي لا يعرف ماذا امامه, ان بامكاننا ان نتلافى المصائد الخطرة, لأنها معلومة, ومحدودة: الزمان والمكان, بل أكاد اجزم أن احلك الظروف تبدأ من الدفع من (مزدلفة) حتى رمي (جمرة العقبة) والموت الزؤوم في رمي تلك الجمرة, وعلى المسؤولين ان يرموا بثقلهم في هذه اللحظات الحاسمة, ولأنني حججت أكثر من مرة: راجلاً وراكباً ومفرداً وقارناً ومتمتعاً, وحدي او مع أهلي, قبل التوسعات وبعدها, فإنني أحس بأن الأمر قابل للحل, وأن الأخطاء في مثالية التعليمات, وتداخل المسؤوليات, وكثرة المخيمات الحكومية, وتشكيل المسؤوليات الجديدة في كل عام, وانفصال المطوفين وأصحاب الحملات عما يدار في غرف العمليات, وتهافت الجميع على إنجاز شعائرهم في صبيحة يوم النحر, وكثرة المتخلفين والمفترشين والباعة, وغياب فقه التيسير, وجهل قواعد الضرورات, وتكاد الإشكالية تنحصر في تأخير الدفع من مزدلفة ومباشرة رمي (جمرة العقبة), فالناس جميعاً والمطوفون وأصحاب الحملات على وجه الخصوص, وحتى الأفراد يودون ان ينهوا أعمال يوم النحر في أسرع وقت, ليسترخوا في مخيماتهم, وذلك بمواصلة السير, وإنهاء شعائر يوم العيد, من (الرمي) و(النحر) و(الحلق) و(الطواف) و(السعي), والعودة الى المخيم بمنى, وبهذا يكون كل شيء قد انتهى بالنسبة للحاج وللمسؤول عنه, وأسال به خبيراً, فذلك ما كنا نشعر به, ونسعى إليه حينما نحج, ولا يصرفنا عنه صارف, نخالف الأنظمة, ونتحايل على الخطط, وندفع برجال الأمن والكشافة والطوارئ, ونتنازع معهم, ونرى انهم يحولون بيننا وبين المشاعر, وإذا سقط حاج او تأذت مجموعة, أنحينا باللائمة على المسؤولين, واستبقنا الحدث نلوك ألسنتنا, وندوك ليالينا, وما من احد سأل نفسه او حاسبها على تعمد المخالفة للأنظمة, ومع كل ذلك فالمسؤولية لا يمكن ان تسقط في الأرض, لابد ان نبحث عن المسؤول, سواء كانت المسؤولية مشتركة او محددة, وسواء اسهم فيها الحاج او لم يسهم, المهم ان نعرف الخلل, وأن نحدد المسؤول عنه, وإن لم نفعل كنا كمن يرم جرحه على فساد, ومما يسوؤنا, ويغثي نفوسنا ان هذا الحدث اتاح فرصة ثمينة للحاقدين والمأجورين وسماسرة النخاسة الإعلامية, قبدل ان يأسوا او يواسوا او يتألموا أو يقدموا النصيحة, انطلقت ألسنتهم الحداد موغلة في النيل والسخرية من البلاد والعباد, مستعدية الرأي العالمي, وحين نعود إلى الكارثة وملابساتها, نجد أننا امام زمان محدود, ومكان محدود, وأداء فردي وجماعي فوري من أناس يختلفون في لغاتهم ومعارفهم وأحوالهم الصحية, وأمام تعليمات لا تطبق, ونظام لا يحترم, وتوعية لا يستمع إليها, واختلاط في المسؤوليات, وتداخل في المهمات ، وأفراد جدد جمعوا من أطراف البلاد, وكل هذه الهنات قابلة للحل, فأما ما يخص (الشعيرة) وحكم الشرع فيها, فذلك موكول أمره إلى (هيئة كبار العلماء), وقد اجمعوا أمرهم, وخولوا ولي الأمر, ولما كانت الانساك بكل اركانها وواجباتها ومستحباتها ومباحثاتها ومحظوراتها بين أيدي العلماء, ولما ان كان الاختلاف قائماً على اشده بين المذاهب عامة, وبين مجتهدي المذهب الواحد على وجه الخصوص, وفي الاختلاف رحمة وفسحة ومجال لمراعاة الأحوال والظروف, فإن على العلماء ان يتقوا الله, وييسروا على الناس, تمشياً مع قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) و(التقوى على قدر الاستطاعة) و(إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ولكل قاعدة أو أمر أو نهي ضوابطه التي يعلمها أهل الذكر لا أهل الفكر, ولما كانت (جمرة العقبة) هي العقبة, ولما كان فقهاء الأمة قد وضعوا زمن اختيار, وزمن اضطرار, وزمن اداء, وزمن قضاء: فمن رماها بعد طلوع الشمس وقبل زوالها فقد رماها في وقتها, فإنهم قد اختلفوا فيمن رماها قبل الفجر او بعد الزوال: فالمالكية شددوا في ذلك, فيما أجاز ذلك الأحناف والشافعية والحنابلة, وإن كان المستحب عندهم الرمي بعد طلوع الشمس وقبل الزوال, وحجة المالكية حديث (خذوا عني مناسككم) عند أحمد ومسلم 318/3: 943/2 وحديث (لاترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) وهو في السنن والمسانيد, ومن جوز الرمي قبل طلوع الفجر, وبعد الزوال, فحجتهم حديث (أسماء) وهو في الصحاح والمسانيد والسنن, وحديث ذوي الاعذار, وحديث: (رميت بعدما أمسيت, قال: لا حرج) وهما في الصحاح والمسانيد والسنن, وما سئل الرسول في يوم النحر عن شيء إلا قال: افعل ولا حرج, وإذا كانت المسألة خلافية, فإن على العلماء, وقد شهدوا ضرورات مهلكة وشدة مرعبة ان ييسروا على كافة الحجاج ما وسعتهم خلافات الفقهاء وفقه التيسير, وبخاصة مع النساء والمسنين والمرضى, وفي أوقات الذروة, وأن يجعلوا الوقت مفتوحاً من بعد نصف ليلة العيد الى ما بعد الغروب, وأن يوجهوا الى الدفع من مزدلفة قبل منتصف الليل, والاكتفاء بالمرور بها وجمع الجمرات, اسوة بمن مر بعرفات, وكيف لا والله يقول (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) والرسول الرؤوف الرحيم بأمته يقول (يسروا ولا تعسروا), ومع أن (الحج عرفة) فقد يسر الرسول صلى اله عليه وسلم الذي لم يدرك الوقوف إلا قبل طلوع الفجر, وإذا لم تنحل المشكلة بالتيسير, فعلى الجميع اتخاذ الخطوات التالية:
الخطوة الأولى:
المصير الى التوكيل الإلزامي, للنساء والمسنين والمرضى وحمل الدول الإسلامية على توعية الحجاج.
الخطوة الثانية:
المصير الى تأخير الرمي لليوم الثالث, بحيث يسمح للنساء والمسنين والمرضى بتأخير الجمرات الى اليوم الثالث, ورمي الجمرات دون توكيل, وفي ذلك خلاف معتبر.
الخطوة الثالثة:
التفويج المزدوج, وضبطه بالضوابط التالية:
أ- تصنيف الحجاج إلى ثلاث فئات: حجاج الطوافة, والحملات, والأفراد.
ب- تفويج التحرك من المخيمات, وتفويج الدخول الى مواقف الرجم.
ج- أي وفاة تتم بسبب المخالفة يتحمل المطوف أو صاحب الحملة دية الميت.
د- التعرف على جنسيات المفوجين, ومنع أي جنسية تسبق زمنها.
الخطوة الرابعة:
منع الافتراش في مواقع الازدحام, وإيجاد بدائل, واستخدام خراطيم المياه, لتفريق المفترشين في أماكن الاختناق, وعدم مراعاة المشاعر على حساب فساد الشعائر.
الخطوة الخامسة:
تحويل الحملات الداخلية الى شركات قوية مدعومة ومدربة, ومنع التملك الشخصي للحملة, بحيث يكون لكل منطقة شركة قوية أو أكثر, ويكون لها شعار. ولسياراتها لونها الخاص, وتشكل لها مجالس مناطقية, وليس هناك ما يمنع من إسهام الدولة وشركة النقل الجماعي والمصالح الحكومية كالتقاعد والتأمينات.
وإذا كانت الإشكالية في المكان, فإن على المسؤولين النظر في أمره توسيعاً لدائرة أحواض الرجم, ورفعاً للشاخص فيها بالقدر الذي يحقق شرطي الرجم: قذف الحصوات باليد, واستقرارها في الحوض, وتحويل مكان الوقوف للرجم إلى أدوار كالمدرجات, وتهيئة مداخل واسعة وكثيرة تفصل بينها جدر بطول القامة, بحيث يدخل الحاج الطريق إليها, دون ان يعرف إلى أي الأدوار يسير, موهمة بالتجانس والتساوي والتجاور وطويلة بحيث تستوعب أكبر قدر ممكن وتوزع الحجاج على الأدوار بالتساوي, دون تدخل أو توجيه, وإذا انتهى الحجاج من الرمي, تكون لهم مخارج مماثلة لا تتسبب في تلاقي الأفواج, ورهان النجاح يتحقق بالوعي والانضباط ودقة الملاحظة وتشكيل ادارة أمنية ومرورية مستديمة.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:26 PM

مصداقية التسامح ومغالطة التماكر
د. حسن بن فهد الهويمل


يفترى على الإسلام بأنه فرض نفسه بالسيف، وشق طريقه بالعنف، وتولى كبر الإفك العظيم والتماكر الأثيم طائفة من المستشرقين الجلدين، وتلقاه عنهم الموغلون في الاستغراب وأصحاب ثقافة الضرار، وأشاعه السماعون من المخفين عقلاً ومعرفة والمجتثين مكانة وكلمة. وكل متسلل إلى سوح الفكر دون تأصيل معرفي حضري شرعي تستخفه المغالطات، كما استخف سحرة فرعون الدهماء واسترهبوهم. ومن ملك ناصية المعرفة الشرعية، وتضلع من تراث الإسلام، وعرف دخائل الحضارات السائدة والبائدة، تلقف حبال أولئك وعصيهم بعصا موسوية. وما أضر بالأمة إلا سفهاؤها المتصدرون، وجهلتها المتعالمون، وعبدة المادة المتهالكون.
والمؤلم أن عمالقة الفكر العالمي وقادته، وزعماء الإصلاح ورواده من علماء الغرب لا يكتمون الحق، ولا يجدون غضاضة من القول عن عظمة الإسلام وعبقرية رسوله. ووثائق الإثبات القولية والفعلية قريبة التناول لمن طلب الحق، فلو نظرنا الى موقف الإسلام من أصحاب الديانات الأخرى، وقفينا العقول على آثار النصوص، لتبدت لنا أسمى آيات التسامح. فالإسلام لا ينال من الرسل، ولا من دياناتهم ولا من كتبهم، بل يعلن الإيمان بما أنزل على موسى وعيسى، وما أنزل على النبيين من قبلهم، ولم يفرق بين أحد منهم، ومن أنكر رسالة موسى أو عيسى فقد كفر بما أنزل على محمد. فيما يكذب اليهود عيسى ومحمداً عليهما السلام، ويكذب النصارى محمداً عليه السلام. وإذ يقطع المسلمون بتحريف الكتب اليهودية والنصرانية ونسخهما بالإسلام يقف (العلمانيون) من الديانات كلها موقف النفي والتعطيل، واستبدال الذي هو أدنى. فالدخول في العلمنة الشاملة إسقاط لكل ديانة. ومع وضوح الحق فإن مشيئة الله مرتبطة بحكمة لا نعلمها، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة)، ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم. وهذه المشيئة تمنع إكراه الناس على الإيمان. والرسول المؤيد لا يهدي من أحب. وما عليه إلا البلاغ، لنفي السيطرة والإكراه في الدين، ولكي يتحقق ذلك، وجه رسوله إلى الدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة وألزمه المجادلة بالتي هي أحسن، ووصفه باللين، ونفى عنه الفظاظة والغلظة، وتلك بعض مؤشرات التسامح.
وتسامح الإسلام يتوثق في القول والفعل، وليس ادعاء يجتره الأدعياء، ويقلبه المزايدون. وإذا مرت بعض طوائف الأمة الإسلامية بمراحل عنف أو تسلط فإنما ذلك من أخطاء التطبيق، والمنصفون يفرقون بين مقتضيات المبدأ وأخطاء الممارسة، وبين النسق والسياق. وكم من مسلمات وسوائد ما أنزل الله بها من سلطان، ولهذا بشر الرسول أمته بالمجددين. والمتابعون لتاريخ التطرف والغلو يدركون أن هناك محطات مظلمة في تاريخ المسلمين، عول عليها المغرضون من المستشرقين، وتلقفها المرتابون من أبناء المسلمين، واجترتها وسائل الإعلام للإثارة والجذب. ولو أذعن المتقصون للمراحل التاريخية الإسلامية للحق، لنظروا إلى النص المحفوظ والنطق الموحى، وانطلقوا منهما، فالله أنزل القرآن وتعهد بحفظه، والرسول لا ينطق عن الهوى، ولا يتقول على الله، وهو فيما يفعل يفرق بين الرأي الذي يراه والوحي الذي يتلقاه، ولهذا جاء القرآن في مواضع كثيرة، يستدرك على الرسول وينهاه، ويأمره، ويعتب عليه، ويحذره، والصحابة يراجعون الرسول، وقد يأخذ بما يرون.
والله حين يأمر رسوله بالدعوة إلى سبيله (بالحكمة والموعظة الحسنة) يستثني من هذا التعامل الذين ظملوا، كالمقاتلين في الدين، والمخرجين من الديار، والمرتدين بعد الإيمان والناكثين للعهود المفارقين لجماعة المسلمين والمحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا. وما من حضارة إلا ولها لسان ينطق وسنان يفصل، وحمى وحدود، ومحظور ومباح. وإذا كانت الضرورات الخمس مكفولة الحماية، فإن ذلك لن يتحقق إلا بقوة رادعة أو حكمة بالغة.
وحين لا يكون قتال على الدين، ولا إخراج من الديار ولا اعتداء على الضرورات، ولا انتهاك للحرمات المتفق عليها يكون التسامح والإبلاغ القولي. وحين تحتدم مشاعر الرسول، ويبخع نفسه على آثار من لم يؤمن بالقرآن أسفا يأتي القرآن ليهدِّئ من روعه، ويثبت فؤاده {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. ومتى تولى المشركون عن التوحيد فما على الرسول إلى أن يقول لهم: {اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. وحتى المشرك المستجير، علينا حمايته، وإسماعه لكلام الله، وإبلاغه مأمنه. ولأن الإسلام قيم وسلوكيات، فقد ألزم أتباعه بالعدل مع المشنوئين والأقربين، كما ركزت نصوصه على الوفاء بالعهود، وجعله من علامات التقوى. وقد عقد الرسول عهودا كثيرة وفعل ذلك خلفاؤه من بعده، وكانت وصايا خلفائه الراشدين في غاية الرأفة والتسامح، وما دخل الناس في دين الله أفواجاً إلا بعد أن عايشوا التسامح فعلاً لا قولاً، ووجدوا من المسلمين وفاء ورأفة ورحمة.
والعهود التي أبرمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين التزم بها، مع أن بعض الصحابة حسبها من الجور على الإسلام والمسلمين. وما كان الرسول ليبرم عهداً يجور به على الإسلام، ولكن البعض من الصحابة لا ينظر إلى العواقب، ولا إلى وعد الله بإظهار الدين. أما الرسول فيعلم أن المسألة مسألة زمن، وأن العاقبة للمتقين، ولهذا فقد ألمح إلى ذلك مع (سراقة بن مالك) وفي حديث (زَوْي الأرض) وحديث (الأمن وخروج الظعينة). وشروط (صلح الحديبية) من خلال المنظور البشري جائزة بحق المسلمين، ولكن الحكمة الربانية تخفى على البشر في بعض المواقف، كما خفيت على موسى عليه السلام، وهو يتبع (الخضر) ليعلمه مما عُلّم رشدا. ولقد امتُحن الوفاء بالعهود حين قدم (أبو جندل) و (أبو بصير مسلمين، فردهما الرسول إلى قريش، ولما صاحا به، واستعطفاه، أوصاهما بالصبر والاحتساب.
ولقد تجلت رحمة الإسلام وتسامحه، في مواقف كثيرة مع (أسرى بدر) وإطلاق أسرى 0بني المصطلق)، ومن قوله لأهل مكة عام الفتح (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، والمتعقب للفتوحات الإسلامية ووصايا المجاهدين يقف على أبهى صور التسامح، ولقد ألمح المستشرق (آرنولد) إلى طائفة من تسامح المسلمين في كتابه (انتشار الإسلام) حيث أشار إلى طائفة من النصارى الذين استوزرهم الأمراء وإلى طائفة من الأطباء الذين استخدمهم الخلفاء. وفعل مثل ذلك (هنري كاستري) في كتابه (الإسلام)، وكتب عشرات المستشرقين المنصفين عن عظمة الإسلام، ولقد تعقب مفكرو الإسلام المعاصرون أقوال المفكرين الغربيين عن الإسلام وعن الرسول، سواء منها ما كان حقا أو ما كان باطلاً، وقربوا ذلك لمريديه عبر عشرات الكتب التي تعمد المستغربون تهميشها والتعتيم على أصحابها. واستعانة المسلمين بغيرهم في مجالات العلم والطب والتجارة والإدارة مؤشر تسامح وثقة وبحث دؤوب عما تتطلبه الحياة المتجددة تجدد مياه النهر المتدفق. وما فعل غير المسلمين مع المسلمين ما فعله المسلمون مع غيرهم، وما انفتحت حضارة على المستجدات انفتاح الحضارة الإسلامية. وتاريخ بغداد، ودمشق، والأندلس حافلة بالمواقف الرائعة. وما حصل من بعض قادة المسلمين عبر التاريخ الإسلامي من قسوة عارضة فإنما هو ناتج جهل أو هو بسبب استغلال غير المسلمين لتسامح المسلمين، وتمكين غير المسلمين من ممارسة الأعمال المؤثرة على أمن الأمة. والإسلام لا يحول دون عمل غير المسلمين في بلاد المسلمين ولا يمنع التعامل معهم، وأكل طعامهم، والزواج من الكتابيات، وتبادل الحب الطبيعي معهن، وإن بقين على دينهن، وليس أدل على ذلك من تعامل الرسول مع يهودي، ورهن درعه عنده. وثقة المسلمين بأنفسهم حفزتهم إلى التعلم على أيدي غير المسلمين وقد جاء ذلك مع (أسرى بدر). وأي إجراء يحسبه أهل الكتاب إجحافا بحقهم فإنما مرده الحرص على المشاعر العامة. فالعامة من المسلمين قد لا يستوعبون تسامح الإسلام، ومن ثم تكون هناك ردات عمل من غلاة أو متشددين أو ورعين، وقد تطال الأذية (الذمي) و(المستأمن)، وما ذلك من خلق المسلم الحق. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من آذى ذميا فقد آذاني، ومن قتل ذميا لم يرح رائحة الجنة). وفي مقابل تسامح المسلمين وتوددهم وبرهم نجد أن هناك سوءا في التعامل من اليهود على من سواهم، وتسلط من الدول النصرانية على المسلمين، وصراع المصالح لا يحال على المبادئ، ومن قال بصراع الحضارات وأحال عليه كل خلاف فقد أساء الفهم.
وإذ تعقب المستشرقون التاريخ الإسلامي، ونقبوا فيه، ووقفوا على محاسن الإسلام، وأبرزوا جوانب منها، واستفادوا منها فإن طائفة من المفكرين العرب استدبروها، وتهافتوا على ظواهر الحضارة الغربية، وبهرتهم مواقفها من (الحرية) و(الحقوق) و(قضايا المرأة) وما شيء من محاسن الحضارة الغربية إلا وفي الإسلام ما هو خير منه. فالذين يتحدثون عن معطيات (الديموقراطية) يظنون أنها من عند الحضارة الغربية، ولو عرفوا عدالة الإسلام ومساواته وما كفله من حرية في التعبير والتفكير والرأي لكان أن قالوا (للديمقراطيين): هذه بضاعتنا ردت إلينا. ومناوأة الفكر السياسي الإسلامي ل(الديمقراطية) مناوأة فكر لا مناوأة إجراء ومقاصد، ف(الديمقراطية) ترد للشعب، والسياسة الإسلامية ترد لله والرسول، فيما تلتقي المطالب والمقاصد.
والمتعلمنون والمستغربون شغفتهم الحضارة الغربية حبا وأعشت عيونهم عما اشتملت عليه حضارتهم الإسلامية من تسامح وتفاعل، وتمتع بزينة الله، وأخذ بكل معطيات العلم ومكتشفاته، واحترام للعقل وابتكاراته، وتأكيد على العدل والمساواة والإحسان. ولأنهم تلقوا فيوض الحضارة الغربية، وهم على جهل تام بحضارتهم، لم يستطيعوا التخلص من عقدة الضعف وقابلية الخنوع. وإذا قيل لهم إن في حضارتكم ما هو أهدى وأجدى، وأنها لا تمنع من صناعات السلم والحرب وتعلم الطب والفلك والهندسة، ولا تمنع من إقامة المعامل والمختبرات وإجراء البحوث والتجريب وممارسة التجديد وغزو الفضاء، وأن نصوصها تتسع لثورة المعلومات والاكتشافات والاتصالات، وأن الفكر السياسي الإسلامي فيه من المرونة وقابلية الاستفادة ما يجعله مفتوحا لكل جديد، جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابتهم. ومن تباهى ب(الديمقراطية) فإن مصادر التشريع الإسلامي لا تمنع من تأسيس النقابات والاتحادات والمجالس وسائر الهياكل التنظيمية والضوابط الدستورية والقانونية والقضائية والاتنخابية، ومن أخذ بمبادئ الإسلام فقد أخذ بحظ وافر من العلم والتحضر.
ومن علامات الجهل ومؤشرات الغفلة الخلط بين الإسلام وأوضاع المسلمين، فإذا أخفق أحد من الإسلاميين في التطبيق، وإذا ضعف المسلمون وتخلفوا وجار حكامهم، لم يجد المناوئون للإسلام من أبنائه مانعا من إضافة هذا الإخفاق والضعف والجور إلى الإسلام. والذين تورطوا في الثورات الدموية، واتسعت خطاباتهم للقومية والشيوعية والحزبية، وتغنوا ب(الديمقراطية) باؤوا بالفشل الذريع، لقد هربوا من جور الحكام والضعف العام وحسبوا أن للإسلام دورا في ذلك، فادعوا الأخذ بأنظمة الغرب. ومع كل النكسات لما يزالوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وكيف يجرؤ مسلم على اتهام إسلامه بالإخفاق، وهو من عند الله؟. وما من متحدث عن الإسلام من أبنائه المستغربين إلا ويبدو خلال كلامه وميض الفتنة، فهم لا يتورعون عن المجازفة بالاتهام والتحذير من الإسلاميين والمطالبة بإلغاء المؤسسات الإسلامية ك(هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(المحاكم الشرعية) و(الجمعيات) التوعوية و التعليمية و(المنظمات) و(الروابط) ذات الطابع الإسلامي، ولم يزالوا في خوف من الأسلمة وإظهار الدين ولم ينظروا إلى المنظمات والمؤسسات والجمعيات التي تخدم الحضارات الأخرى.
ومثل ذلك مؤشر إذعان وتصديق لسيل الاتهامات التي يطلقها المغرضون، وكأن الإسلام مصدر التخلف والغلو والتطرف والإرهاب. ومكمن النقص المعرفي والتخبط المنهجي .إن طائفة من المفكرين يخلطون بين تاريخ المسلمين السياسي وتاريخ الإسلام الحضاري.
وعندما تحدثت وسائل الإعلام الغربي عن التطرف والإرهاب والغلو ونسبته إلى الإسلام ومناهجه التعليمية تلقاه السماعون للكذب المعولون على الأعداء، وأذاعوه، ولم يفكروا بما في هذا الاتهام من جور ومكيدة وتمهيد للقضاء على المسلمين ليستبدل الله غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم، وتلك سمة المنهزمين ومرضى القلوب. وليس أدل على الانهزام من القبول بالشائعات، ومسايرة اللوبيات المغروسة في المحافل الغربية. ولقد وقفنا على فلتات ألسنة مريبة، تشيع عن كافة المؤسسات الإسلامية قالة السوء، وتتشايل مع الحملات المسعورة، وتقبل بإحالة الغلو والتطرف والإرهاب على المؤسسات العلمية والفكرية والثقافية، وكل ذلك إنكار ضمني لتسامح الإسلام ووسطيته وإكرامه للإنسان وعصمته للدم والمال والعرض وتحريمه للظلم والجور. ولو أن المرتابين جندوا أنفسهم لتقصي الأحداث والأوضاع، وردوا كل معلول إلى علته وكل تطرف وغلو إلى مصدره، وعرفوا أن اللعب السياسية وراء كل خطيئة، لكان أن صححت المسارات المنحرفة في الحضارة الإسلامية والحضارات المهيمنة.
وإذا كانت الجيوش تغزو بعددها وعتادها فإن الكلمة الخبيثة تواكب قوافل المحاربين عبر وسائل الإعلام وسائر الوسائط السريعة النقل، وما من مستشرق أو مبشر أو مستغرب إلا ويمارس الإغراء والإغواء والإغراق في الاتهام متوسلا بكل الوسائط.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:26 PM

هذا المقال معاد هنا لاتصاله بمقال آخر له


إلى الظلاميين في زمن الادعاء التنويري..! 1-2
د.حسن بن فهد الهويمل


تظل الأيام معي كما هي مع (المتنبي) أشكو إليها ضيق الوقت، وتشتت الفكر، وجور الجشع القرائي، وهي جند ذلك كله، تحرمني من قراءة من يفرحني، ومن يترحني، ومن يجمجم عما في نفسي، ومن يتحدى مشاعري، ومن هو فوق هام السحب، شرفاً في اللفظ، وتألقاً في المعنى، ومن هو مترب مقو، لا يغني ولايقني، ومن يؤذي كما العقرب التي يقول ملسوعها (حب الأذية من طباع العقرب) ومن هو برُّ رحيم، يحمل هم أمته، ويرود لها موارد النجاة، ومن هو فظ غليظ القلب، لايحمي ساقه، ولايرود لمقدمة.
وفي هذا الزمن المتلفت كتبته الأحداث والمتصابئون على كل الضوابط، أمرٌّ بمقترفات كتابية لطائفة من مدعي التنوير والطلائعية، ولمن خلا لهم الجو من مبتدئين، ويسترفدون مقروءهم الآتي، فيأتون به كما (طيلسان ابن حرب). ومع طوفان التعاضد مع المضل، واسترفاده، منَّيتُ نفسي بقراءة ذلك كله، لأتمكن من نصر الأخ الظالم أو المظلوم، استجابة لحديث: - (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). حتى إذا توارت تلك المقالات بالحجاب، بكل ما تحمله من خطأ وخطل ومناصرة وتخذيل، رأيت الناس منها في برم وضيق وتذمر، فقلت مكرهاً: ردوها عليَّ، لتظل في حقيبتي أياماً، وحين لايجود الوقت بساعة من نهار لقراءتها، ألقيها جانباً، وفي النفس ما فيها من الحسرات. غير أن امتعاض الخيرين واستياء الغيورين يضطراني لإرجاع البصر، ولو لمرة واحدة، لأرى أكثر من فطور. وكلما هممت باستخدام المجسات والمسابير، ونقض الأنساق الثقافية التي تصدر منها تلك الآراء الفجة والتصورات الخاطئة، وتحيل إليها، شُغلت بنوازل يرقق بعضها بعضاً.
ولما أن بلغ السيل الزبى، وتجرأ على الثوابت من لايزن الأمور، عقدت العزم على مكاشفة أولئك الموغلين في الإثارة والتجديف ضد التيار. ولقد تذكرت وأنا في حمأة الاستياء قول الله لرسوله {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} ولمحت في هذه الآية معطى دلالياً، في غاية الأهمية، وهو أن عظمة المبدأ لاتكفي وحدها لاستمالة الآخرين وإقناعهم، بل لابد من وسيلة تُمتِّع وتستميل وتقنع، وهي (اللين والتودد) ومن قبل هذا قال الله لموسى وهارون، حين أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} وما أصحابنا الذين أوذينا باستفزازهم ومزايداتهم إلا مسلمون جنحوا للغرب، وأُشربوا في قلوبهم عجله، وقليل منهم مجتهدون، لم يحالفهم التوفيق في كثير مما يقولون. وما هم ونحن إلا طلاب حق، وحقهم علينا ألا نسيء الظن بهم ابتداء، وفي الوقت نفسه لايخدعنا الخبُّ ولا المتماكر، ومن غايته الحق فواجبه ألا تأخذه العزة بالإثم، فإذا قيل له: اتق الله، لزمه الإذعان ومحاسبة النفس قبل أن يحاسب، والكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. والذي أتوقعه في سائر الكتبة في صحفنا - على الأقل- وفي المشاركين في حوار القنوات من أبناء البلاد أنهم لايتعمدون المخالفة. وأن أحدهم يكتب ما يكتب، ويقول ما يقول عن حسن نية وسلامة قصد وحرص على الموافقة لمقتضيات الدين ومقاصده، وإذا اندس فيهم من لايحمل همهم، أو حاد أحد منهم عن جادة الصواب، لزمهم التنبه له، والبراءة مما يصنع. ولنا في (نوح) عليه السلام وابنه قدوة، ولنا في أبي الأنبياء (ابراهيم) عليه السلام وأبيه أسوة. وأملنا أن يكون المثيرون قولا وعملاً واعتقاداً من أهلنا، فأبناء الفطرة رجاعون إلى الحق، ولو ثبت أن أحداً ممن نحسن الظن به يتعمد مناقضة الأحكام، ويصر عليها، لما وسعنا إلا مواجهته بما هو عليه، ولا كرامة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وهناك فرق بين الخطأ ابتداء، والخطأ إصراراً وعناداً، فمن بان له وجه الصواب، ولم يرعوِ، فهو مصر معاند، وعلى من يملك تغيير المنكر باليد أن يأطره على الحق، متى تبين له العناد والإصرار وتعمد المخالفة. ومصائب الأمة في مفهوم الثوريين للحرية، وفي إيمانهم بحتمية العداء لكل أشكال السلطة، وتخوين الموالين لها، وهو مفهوم خاطئ، مخالف لآليات الحضارة الإسلامية وأساليبها في الحكم وإنكار المنكر. ولأن طائفة من الظلاميين باسم التنوير يخلطون بين الشرائع والمناهج والإجراءات، ويدعون أنهم وقَّافون عند الكتاب والسنة، وأنهم يسلمون لهما، وأن ليست لهم الخيرة من أمرهم، متى قضى الله ورسوله أمراً، فإن واجب العلماء أن يرشدوا ضالهم، وأن يعلموا جاهلهم. وإذا لم يقيض الله لهم من يواجههم بالحقائق فإن واجب كل واحد منهم أن يسأل نفسه: لماذا أصادم الرأي العام؟ ولماذا الناس يختلفون معي؟ ولماذا يتعرضون لي بالسب والشتم والمضايقة عبر قنوات الاتصال والمواقع؟ هل الناس جميعاً على ضلال، وأنا وحدي على الحق؟ وهل سألت نفسي يوماً ما: عماإذا كان ما يقوله الناس حقاً؟ وهل تواضعت لحظة من نهار، وحملت مجموعة من مقالاتي أو كتبي المثيرة للاشمئزاز لمن شهد له الناس بالعلم الشرعي والتقوى والوسطية، وطلبت منه عرضها على مقاصد الشريعة ومقتضيات نصوصها القطعية، ؟ وهل اختلافي مع المفكرين الإسلاميين وفقهاء الأمة من الاختلاف المعتبر؟ ولماذا هذه الجفوة بيني وبين حملة العلم الشرعي والفكر الإسلامي المستنير وركوني لمن هم موضع الشبه؟ إن الكلمة مسؤولية، وهي دمار أو عمار، وحملتها ممن يسنون سنناً حسنة أو سيئة، وهم شركاء بالأجر أو بالوزر إلى يوم القيامة، وما قامت الملل والمذاهب والنحل والأحزاب والدول (الدكتاتورية) من (ماركسية) و(فاشية) و(نازية) إلا على اللسان والسنان ({وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}. والمؤسف أن كثيراً من الكتبة والمحاورين يطلقون الكلمات المدانة أو الاتهامات المعمَّمة، لايلقون لها بالاً، تهوي بسمعتهم، وتشكك في نواياهم، فيما يتقحم المشاهد مبتدئين بثقافة سمعية، لاتؤهلهم للقيادة الفكرية، ومع ذلك لايراجعون، ولايتراجعون، ولاينفكون من العناد، ومعول نكراتهم وأحداثهم أنهم لايلوون على مثمنات، ولايخشون استعداء الناس، وكأني بسراتهم وجهالهم يردد كل واحد منهم: - (أنا الغريق فما خوفي من البلل)، وطائفة منهم متمكنون في علمهم غير أنهم فهموا الاصلاح والتجديد على غير مراد الحق، فكان أن عولوا على حضارة الغرب لتنقذهم من التخلف. ولما أن كانت حركات الاصلاح الغربي قائمة على (العلمنة الشاملة) فإن البعض من هؤلاء لايجد حرجاً من مقاربة ذات التوجه، ولايخفي تذمره من نفاذ (التيار الديني) في كبريات المؤسسات، وليس من الكياسة أن نداهن هؤلاء، ولا أن ندعهم وشأنهم، ذلك أنهم معنا في السفينة، وخلخلة الوحدة الفكرية من أخطر الظواهر، وما نعايشه عبر وسائل الإعلام الصحفية والقنواتية ومراكز المعلومات وبعض المواقع نذير شؤم، فالمفكرون ومن دونهم يصطرعون حول الثوابت والمسلمات، وليس الخلاف فيما بينهم معتبراً.
وما أكثر السامريين المصرِّين على أن المناوئين لهم ما ضويون، وأكثر المصدقين لهم، ومتى أطلقوا (الماضوية) ظنوا أنهم حسموا الموقف لصالحهم، وما عرفوا أن أكثر الوقافين عند حدود الله أمضى منهم في التجديد، وهل من التجديد، ما يكتبه نكرات متعالمون، أومثقفون مستغربون؟ يتناولون فيه قضايا (المرأة) و(المناهج) وسائر الأوضاع بطريقة مؤذية، وكأن من حولنا من الدول العربية ممن أتاحوا للمرأة التبرج والاختلاط والخلوة ومزاحمة الرجال، وملأوا مشاهدنا بالمغنيات والممثلات والراقصات قد حققوا من وراء ذلك غزو الفضاء، وصناعة الإنسان، وسلاح الردع، وكانوا أعزة أغنياء، وأننا بالتزامنا ومحافظتنا تخلفنا عنهم، وفاتنا الركب.
ومع ما غمرنا من طفح القول ومشبوه الكلم فإنني لا أجد الوقت الكافي لقراءة كل ما يدور من دعوات مغثية، تثير الاشمئزاز ، وتبعث على الخوف. لقد زودني البعض بقصاصات وكتب، وزودني آخرون بنقاط مستوحاة مما ينقمون به على مثل هؤلاء. وإذا لم تكن تلك النقاط مبتسرة من سياقها فإنهم محقون في تذمرهم. وأحب في غمرة التمرد مناصحة من أتوسم فيهم الخير من شركائنا في مهنة الكتابة، وهي مهنة معتقة أو موبقة، وكلي ثقة برحابة صدورهم وثقتهم بأنفسهم، ومفاتحتي إياهم دافعها الحب لعقيدتي ولوطني وحرصي على سلامة المجتمع الذي أنتمي إليه، وأنعم بأمنه واستقراره وتلاحم أبنائه، وحبي للكتبة أنفسهم، امتثالاً لحديث (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وإذا كنت أحب لنفسي أن يستعملني الله في طاعته، وفي خدمة عباده، وأن أمتلك الشجاعة في محاسبة النفس، والقدرة على كف اللسان، وعدم قفو ما ليس لي به علم، وتحامي افتراء الكذب على الآخرين، وإذا كنت حريصاً على أن تظل الفتن نائمة، والأمة متلاحمة، ولو على المفضول، اقتداء بالرسول الرحيم، يوم فتح مكة، حيث لم يعد بناء الكعبة على قواعد ابراهيم، جمعاً للكلمة، وتفادياً للشقاق والتفرق، إذا كنت في ذلك كله كذلك. فإنني أحب لكل عالم أو مفكر أو كاتب أن يكون كما أريد. ولعل أصحابنا الذين يقترفون ما هم مقترفون من مخالفات لا تحتمل التأويل ولا التبرير على علم بأنني أحرص الناس على أن يأخذ كل مقتدر حيزه، وأنني أبعد الناس عن مصادرة الحقوق والإقصاء، ولست ممن تأسره المذهبية، ولا ممن لا يرى إلا واحدية الرأي، ولست حدياً صارم الحدية. وحين لا تجمعني بأحد منهم إلا اخوة الإسلام، ونعمّا هي من علاقة، إذا أخذناها بحقها، فإن من أولويات حقها أن أصدقهم القول، وأن أنصح لهم، وأرجو ألا يكونوا ممن لايحبون الناصحين. والصدق والنصيحة لا تتحققان إلا إذا كان كل واحد مرآة صافية، ينظر فيها الآخر ذاته المعنوية بكل ماهي عليه. وإذا بدت من أحدنا غلطة فمن حقه على كل متلق أن يبادر إلى إهدائها إليه، ورحم الله من أهدى عيوبنا إلينا، وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه. وكم أود من بعض أولئك الذين يخوضون في مصائر الأمة بغير علم، ويبغون حكم الجاهلية في قضايا المرأة والمناهج والاجتماع، أن يكونوا على علم بفقه الأحكام، وفقه الواقع، وفقه الأولويات، وأن يعرفوا قواعد المذاهب وأصولها وشروط الاجتهاد عندها، وحدود الحرية ومجالات الاختلاف، ومقاصد الشريعة، وسد الذرائع، ودرء المفاسد، والمحرم لذاته، والمحرم لغيره، ومدى حق السلطان في الحظر والإباحة والطاعة، ومقصد الأصوليين من مقولة (لا اجتهاد مع النص) ذلك أن جهل مثل هذه القاعدة بالذات أردت علماء وفقهاء ومفكرين، ف (النص) هنا: هو ما لايحتمل إلا دلالة واحدة، وليس المقصود به مطلق القول. وحين لايحتمل النص إلا دلالة واحدة، لايكون للاجتهاد فيه مكان. وكثير من المتعالمين: إما أن يخوضوا في كل نص، أو يحجموا عن الخوض في كل نص، ولايفرقون بين القطعي والاحتمالي، محققين معجزة من معجزات الرسول الغيبية في (رفع العلم) في آخر الزمان، وذلك ما تعانيه كافة المشاهد في راهنها. فلقد شارفنا على نزع العلم الشرعي أو كدنا، وعلى نزع الورع والحياء أو كدنا. وأين المتسرعون اليوم من (أبي بكر الصديق) الذي سئل عن (الأب) في قوله تعالى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم؟ وأين هم من (الفاروق) الذي يجمع الصحابة عندما تنتاب الأمة نازلة؟ ويطلب من رواة الأحاديث من يشهد لهم، بل أين هم من (لا أدري) وهي نصف العلم، ومن قالها فقد أفتى. لقد سمعنا أغيلمة أحداثاً يتشامخون، ويتعملقون، ويقولون بكل جرأة في قضايا الأمة: الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية. وارتيابنا من الاحتفاء بهم، وتمكينهم من وسائل الإعلام، مع ما هم عليه من ضحالة في التفكير وسوء في التعبير، ورأينا أشيمطين متصابين يوغلون في النيل من حراس الفضيلة، ويبسطون أيديهم لناشئة ليست على شيء من العلم، ولا على شيء من التجربة. وإذا قيل لهم: اتقوا الله، وقولوا قولاً سديداً. قال قائلهم: -نحن رجال وهم رجال، وقال آخرون: -إن ما نقوله من حرية الرأي والتعبير المكفولة لكل إنسان. وحسبك من هؤلاء ما تشاهده من قتل للأبرياء، وهدم للمتلكات، وإخلال في الأمن وخلل في الفكر، وتمردعلى السلطة، وخوض جريء في آيات الله. ولو أنهم لم يؤلهوا الهوى، ولم تعجبهم آراؤهم، ولم يتزببوا في زمن الحصرمة، ولو أنهم عرفوا قدر أنفسهم، لكانوا قد سألوا أهل الذكر، وردوا خلافهم إلى الله والرسول وأولي الأمر منهم. وإذ تكون حجتهم في التغيير ضعف الأمة وتخلفها، تكون حجتنا ذات حجتهم، ولكننا نختلف في الحل، فهم يودون اللحاق بحضارة الغرب والانسلاخ من حضارتهم، فيما نود فهم الإسلام ومقتضياته والانطلاق منه والرد إليه، بحيث يكون النور الذي نهتدي به موقداً من شجرة زيتونة لاشرقية ولاغربية.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:27 PM

إلى الظلاميين في زمن الادعاء التنويري (2 2 )
د. حسن بن فهد الهويمل


وإذ مسنا الضر من تطرف الموغلين في الدين بغير رفق وبغير علم فإننا على وجل من المتطرفين في الفكر، الخارجين على رأي الجماعة، المستمرئين للنيل من كفاءات الأمة العلمية والفكرية، ومن القائلين في القضايا الفكرية والتربوية والاجتماعية دون تثبت، ودون تسليم للمرجعيات المعتمدة، وكيف يقبل عاقل رشيد الخوض في (قضايا المرأة) دون استصحاب الموقف الإسلامي، ودون تحفظ او استثناء في زمن نرى فيه تسليع المرأة واستغلال جمالها في الإعلام والتمثيل والدعاية والتجارة، وقبولها تلك النخاسة، واستمراء الرجل لذلك وما من عاقل رشيد غيور يقبل على محارمه أن يكن كاسيات عاريات مائلات مميلات، ولقد خصم الرسول صلى الله عليه وسلم الشاب الذي طلب منه ان يحل له الزنا، فكان أن سأله عما إذا كان يرضاه لأمه أو لأخته أو لزوجته أو ابنته.
وفي الوقت نفسه لن يمانع اي عاقل رشيد أن تأخذ المرأة وضعها الطبيعي في المجتمع، وأن تكون عضواً عاملاً، متى دعت الحاجة الى خروجها من المنزل. وحين يتحدث مدعو الإصلاح عن (حقوق المرأة) فعلى اية شاكلة يرونها وما التجربة المثلى التي يحيلون إليها؟
إن التجارب القائمة في سائر أنحاء العالم تقتضى المصير الى التحديد والتوصيف ووضع الضوابط، وهذا ما اختلف فيه مع الظلاميين، ولأنني لا اريد نسف الجسور، ولا تعطيل قنوات الاتصال بيني وبين أي محرض على التمرد والسفور والاختلاط وعلمنة المناهج فإنني أحاول أن اضع كل واحد أمام ضميره، ولن أقابل مجازفات اولئك بمجازفات مماثلة، تحيد بكل الأطراف عن جادة الصواب، وتؤدي الى المجاراة في المنهي عنه، ولن أبحث عن شواهد الإدانة، ولن أصعد الخلاف، فأنا طالب حق، ولست طالب انتصار، ومبدي نصح، ولست باحثاً عن إدانة، وكم أود أن يجري الله الحق على لسان من أخاصم. وإذ لا اقطع بضلال أحد، فإنني لا أريد لهذا البلد الذي قام على العقيدة السلفية الوسطية، الرادة عند الاختلاف الى الله والرسول ان تعصف به الأهواء، ولا أن تؤول أموره وأحواله الى ما آلت إليه أحوال الدول التي شط أبناؤها في آرائهم ومواقفهم وتصرفاتهم، فكان ما نراه من تصدع في التلاحم، واختلال في الأمن، ونقص في كل وجوه الحياة، وما ذلك إلا بسبب صدام الأفكار، وتنازع السلطة والخروج على شرعة الله ومنهاجه. وما نقم مني البعض تصريحاً أو تلميحاً إلا لأنني ادعو الى أخذ الحذر من دعاة السوء، والتزود من المعارف قبل التصدي والتصدر، امتثالاً لأمر عمر: (تفقهوا قبل أن تسودوا) والرد عند الاختلاف الى الله والرسول وأولي الأمر.
فإذا قلت: إن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت، فليس معنى هذا انني اعارض التعليم والعمل ومشاركة المرأة بما هي أهل له، ثم إنني بهذا القول أرد الى الله، والله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } فلماذا يحيل الناقمون القول عليّ، ولا يحيلونه الى مصارده. وإذا كان الوضع الطبيعي أن تقرّ المرأة في البيت، فإن الوضع الاضطراري ان تبرحه، وحين تكون المبارحة اضطراراً كان لابد من ضوابط، وليس من متقضيات القرار تحريم الخروج والعمل، ونساء الصحابة خرجن وعملن، والرسول عمل أجيراً عند (خديجة) والتحفظ الذي نقول به حملنا عليه ما آلت اليه أوضاع المرأة من تبذل وامتهان وإخلاء للبيت لتحلته امرأة اجنبية. وإذا قلت: إن عمل المرأة مشروط بشرطين (قيام الحاجة وعدم الاختلاط) فإنما أرد الى الله، والله يقول على لسان ابنتي شعيب: { لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (23) سورة القصص فصدور الرعاة من الموارد خشية الاختلاط، وشيخوخة الأب لتأكيد قيام الحاجة لعمل المرأة، وإذا قلت: إن عمل المرأة خارج المنزل ضرورة تقدر بقدرها، فإنما أرد الى الله، والله يقول لآدم: { فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (117) سورة طه ولم يقل (فتشقيان)، لأن العمل الشاق من مسؤوليات الرجل. ولأن الرجل هو الكادح والمنفق فقد كفي الحمل والرضاعة، وحّمل القوامة والسعي في مناكب الأرض، فيما أعطيت المرأة ما لم يعط الرجل من الحنان والعطف والنعومة،وأعطي الرجل ما لم تعطه المرأة من القوة والخشونة الجسدية، فما عيبت امرأة في بكاء، وما حمد رجل عليه ولأن لكل من الرجل والمرأة خصائصه الجسمية والنفسية، وله مجاله الاختياري الملائم لخصائصه فإن القول بمطلق المساواة، أو القول بتوحيد المناهج قول مخالف للسنن الكونية التي رتبت عليها السنن الشرعية، وإذا قام الاختلاف العضوي والنفسي بين الرجل والمرأة فإنه يلزم من ذلك قيام الاختلاف في المهمات والاحتياجات، وإلا أصبح التنوع من العبث، ولأن الله رتب الكون على ثنائية الازدواج، فقد فضل احدهما على الآخر، ليجعل له سلطة التدبير المتخلية عن التسلط والاستبداد، ومن ثم كان جل الخطاب للمفضل، ولم يكن خطاباً ذكورياً كما يعتقد البعض، ومع ان الغرب أوغل في المساواة الا أن المرأة الغربية تظل دون الرجل في كثير من المسؤوليات بما فيها رئاسة الدولة، ذلك ان الطبيعة تغلب التطبع، فالمرأة الغربية لها مطلق الحرية في الفعل والترك والمشاركة، ومع هذا تظل مسبوقة بمسافات كبيرة من قبل الرجل، لا بقوة القانون، وإنما بتفاوت التكوين والمصير العفوي للطبيعة البشرية، والقائلون بغلبة الخطاب الذكوري العربي لا يفكرون بغلبة الرجل الغربي على المرأة مع غياب الخطاب الذكوري.
وحين أقول بمنع السفور والاختلاط فإنما ارد الى الله، والله يقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} ويقول {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وإيما امرأة خضعت أو اختلطت أو خلت أصبحت عرضة للريبة والطمع، ولنا في أم المؤمنين (عائشة) رضي الله عنها موعظة، لقد تعرضت لخلوة اضطرارية، فكان (حديث الإفك)، وفي الأثر أن نفراً مروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يكلم ابنته، فقال: إنها فاطمة، ولما عجبوا قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، أو كما في الأثر فأين نحن من (عائشة ومحمد وفاطمة)، ولما حصلت الخلوة بين (يوسف) عليه السلام وامرأة العزيز{غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } (23) سورة يوسف ولما كان حديث البعض من دعاة التفرنج عن المرأة يتجاوز المشروع كان لزاماً علينا أن نرد قولهم الى الله والرسول، وعليهم أن ترحب صدورهم إذا قلنا: هاتوا برهانكم ولا برهان إلا من آية أو حديث، نذعن لهما ونسلم، ونحن طلاب حق وبلادنا محكومة بالكتاب والسنة. وتجربة (المنتدى الاقتصادي) خير دليل على أن الناس بحاجة الى وزاع سلطاني، وأطر على الحق، وفي الأثر: أن الله ليزع بالسطان ما لا يزع بالقرآن. وحين لا نتناهى عن منكر فعله المتسرعون طالنا ما يطال اليهود الذين أخبر الباري عن عدم تناهيهم عن المنكرات، ومشروعية اشتراك المرأة في المنتديات والمؤتمرات لا يستدعي السفور ولا الاختلاط، وما أضاع الأمة وحرمها من سماحة الإسلام إلا الافراط في المنع او التفريط في الإباحة، ولو أن النسوة اللائي اشتركن في الملتقى عرفن ما لهن وما عليهن لكان أن تمتعن بحقهن المشروع الذي يوفر كل الحقوق ويمنع كل التعديات.
والذين يدعون فيما يكتبون أنهم مصلحون، وان المرأة محرومة من حقوقها المشروعة، ثم يسوقون شواهد من وقوعات أو من تعامل جائر مع المرأة يحيلون ذلك الى الكافة، والكافة منه براء، وعليهم حين يحكمون على جور أملته العادات أن يربطوا الأسباب بالمسببات، وان يقارعوا تلك الظواهر بما درج عليه سلف الأمة، فالمرأة لها مثل الذي عليها بالمعروف، واشكاليتنا في تحديد هذا المعروف، فهو واقع بين افراط المتشددين وتفريط المتسيبين، أقول قولي هذا وأنا اعرف حق المرأة في (العلم) و(العمل) و(التجارة) والخروج المنضبط، وانها نصف المجتمع، وشقيقة الرجل، وأن قوامة الرجل الشرعية لا تسلب حقاً، ولا تعطل قدرة، ولا تمنع من الاستجابة لخدمة المجتمع في المجال الذي لا تسده إلا المرأة، أو أن من الخير ألا تسده إلا المرأة، وتقرير ذلك كله لذوي الاختصاص والمسؤولية، فمثل ذلك النوازل، و(فقه النوازل) لابد له من اجتهاد جماعي ورؤية مؤسساتية، فحين لا يكون على المرأة (جهاد) ولا (نفقة) وحين تلزمها الشريعة الإسلامية بالمحرمية في السفر، فمن ذا الذي يقرر خروجها وجهادها وانفاقها وسفرها في حالات الضرورة؟
وحين تقتضي الحياة خروج المرأة من البيت للدراسة او للتجارة او للعمل، فمن ذا الذي يحدد ذلك ويرسم طريقه ومجالاته، أهل الذكر والحل والعقد أم المستغربون المتعلمنون؟
أقول ما تقرأون، ولي تجاربي التي تحميني من الاتهام بالشدة والإمعان في منع المرأة من حقوقها المشروعة، فأنا اب لاثنتي عشرة بنتاً هن عندي زينة الحياة وبهجتها، ثمان منهن جامعيات، واربع منهن عشن في أمريكا مع ازواجهن ودرس بعضهن هناك، وواحدة منهن اعطت محاضرات في الكمبيوتر في الجامعة، وهن زوجات موفقات، منهن العاملات، وأكثرهن ربات بيوت، عملن ثم فضلن التفرغ للزوج والأولاد وشؤون البيت بالطوع والاختيار والاستغناء، ولم ازل اشرف على ثلاث رسائل دكتوراه لثلاث طالبات، فهل سيكون موقفي من المرأة القائم على القرار في البيت والتزام الحجاب وتفادي الاختلاط والخلوة والتبرج سبباً في ضياعهن أو جهلهن او تعطيل نصف المجتمع، كما يحلو لدعاة السوء أن يقولوا عني؟
دعك من قضايا المرأة، وخذ بيدي الى قضايا (المناهج)، و(السياسة)، ولما كنت ابني بجدة (المناهج) تعلماً وتعليماً وممارسة منذ نصف قرن فإنني حقيق بالقول، ولا فخر، لقد درست في ثلاث جامعات عربية، وتخصصت في التربية وعلم النفس، ومارست التعليم على مدى خمسين سنة، وحاضرت في المناهج، وألفت في ذلك، وخبرت التعليم من الكتاتيب حتى الدراسات العليا، وأشرفت على رسائل الدكتوراه وناقشتها، ولم أزال اتقلب في التعليم منذ السادسة عشرة من عمري، ومع ذلك لم اسلم من الغمز واللمز والسخرية، وكأنني كهفي أبعث بورقي الى المدينة. وحين أقول: أن مناهجنا لا تصنع ارهاباً، ولا تكفر أعياناً، فإنني أقول: إنها في الغالب لا تخرج إلا كتبه، وانها لا تساير خطط التنمية، ولكنها مع هذا ليست سيئة بالقدر الذي يشيعه المستغربون والمتسرعون، ويكفي أنها خرجت الأطباء والمهندسين والعلماء، وعشرات الآلاف من المتخصصين في مختلف العلوم الإنسانية والعلمية، وربما كانت بلادنا من أكثر دول العالم في الابتعاث للدراسة الى الخارج، وما كان احدهم بدعاً في تربيته وتعليمه، وما كانت مناهجنا من قبل مثل جدل ولا استنكار ولا استغراب.
والذين عادوا متأثرين بالأفكار الغربية شكلوا طوائف (ليبرالية) و(فرانكوفونية) ان هم إلا سليل تلك المناهج التي تتهم من الداخل والخارج، ومع إصرارنا على التطوير فإننا نفرق بين الاتهام السافر والملاحظات المتزنة، وإذا لم نطور مناهجنا يوماً بعد يوم، ونأخذ من مناهج الغير أحسنها وأقدرها على مواكبة الحياة المعاصرة سبقنا العالم. وأسلمة المناهج لا تشكل عقبة في طريق الإصلاح ومواكبة الحياة، ومن فهم الأسلمة على غير ذلك ففهمه مرورد عليه، وعمليات التطوير شيء والاتهام والاستعداء شيء آخر، والذين يسايرون الأعداء في اتهام مناهجنا بالارهاب أو بالتكفير، ويحتمون بمراوغة اللغة، يجهلون او يتجاهلون (سبعين عاماً) من عمر التعليم، ويتجاهلون الملايين من مخرجاته ممن يختلطون مع مختلف الجنسيات والأديان، ويجوبون آفاق المعمورة، دون ان يمسوا أحداً بأذى، ولقد كان (الأمريكيون)، بالذات يذرعون فضاء أرضنا جيئة وذهاباً، منذ عهد الملك (عبدالعزيز) الأشد تمسكاً بالسلفية، ينقبون عن المعادن، لا يرافقهم إلا أعرابي طارت شهرته في الآفاق، ولهم اسهامهم في تعليم أبناء البلاد، مما هم بحاجة إليه في القطاعات العسكرية والتخصصات العلمية، كما أنهم يمارسون مختلف الأعمال في المستشفيات والمصانع والمؤسسات، وما قيل عن احدهم انه قتل غيلة، ولم تكتشف اللعبة، وهمت كل طائفة بأختها وصفيت الثارات، ولكيلا ترد الأحداث الى مصادرها فتتعرى اللعبة، وينفضح اللاعبون، حملت المناهج وزر غيرها، واستخدم طغام الظلاميين لترويج الفرية.
أما السياسة فلست ابن بجدتها، ولكنني قارئ نهم، بدأت قراءتها فيما كتب عن (لعبة الأمم)، وصدام المصالح، وصراع الحضارات، ودسائس الاستشراق، ومكر التبشير، ومكائد الاستعمارو وسير الزعماء ومذكراتهم، والاستخبارات ومغامراتها وقصص الثورات وعمالتها، ومتابعة الوثائق التي يفرج عنها كل حين وملفات القضايا المصيرية، وما تعانيه الشعوب من ويلات، وعايشت احداثاً مؤلمة من نكسات واحتلال وتطبيع ومواطآت وتراجعات مؤلمة، فتبين لي ان العالم العربي والإسلامي يعيش تحت وطأة لعبة سياسية كونية، أتت على مقدارته وأمنه، وأذهبت ريحه، ولما يزل يخرج من لعبة قذرة، ويدخل في أخرى، ومن تعاطى السياسة كما يتداولها الاكاديميون او كما تبثها وسائل الإعلام فقد يضر بمصالح أمته السياسية، فن الممكن، ولقد عايشها عقلاء مجربون، فخرجوا من مستنقعاتها، وهم يلعنون ساس ويسوس وما تصرف منها وعجبي من مفكرين وكتاب يظنون ان ما يقوله الإعلام الغربي حق لا مراء فيه، ومن ثم يرتبون أمورهم ومواقفهم على ما ينتهي إليهم منه وصدق الله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46) سورة الحج
وبعد: كل الذي أرجوه من اولئك الذين آذوا البلاد والعباد ان ينظروا في مسلماتهم، وان يتزودوا من العلم الشرعي، فهو مرجعية حضارتهم، وان يؤصلوا لمعارفهم، وان يمحصوا مواقفهم بالمراجعة والمحاسبة والمساءلة، وحين تلتبس عليهم الأمور، عليهم ألا يجدوا حرجاً في أن يسألوا أهل الذكر، فدواء العي السؤال، وفوق كل ذي علم عليم، وإذا كان بعض اولئك غاضباً على الذين يؤذونه بالاتصالات، ويسبونه من خلال المواقع المعلوماتية، ومن خلال الردود والرسائل فليعلم ان البادئ أظلم، ولو ترك القطا لنام، وما بعد البعد نقول: (انج سعد فقد هلك سعيد).

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:27 PM

أيها المستجيبون والممانعون عقلنوا خطابكم..!!
بقلم د. حسن بن فهد الهويمل


لم يعد الزمن مواتياً، بحيث يصدع كل امرىء بما يرى، ولم يكن الدين انتقاء، بحيث يؤمن الكسالى ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، ولمّا يكن أحدنا ك (ذي القرنين) الذي آتاه الله من كل شيء سبباً.. وأمام تعذر الصدع وفساد الإيمان الانتقائي، يتميز الصِّدِّيقون ممن يعبدون الله على حرف. ومع تداخل القطعيات بالاحتمالات فقد مضت سنة الله في خلقه على التفاوت في العقول والأفكار والاهتمامات والرغبات والقدرات: الحسية والمعنوية، ولما علم الله أن فينا ضعفاً خفف عنا. ومع كل ما سلف تبلى الأمة بالموغلين والمنبتّين والغلاة والبَرِمين من الاختلاف. وحين نُروض أنفسنا على مشروعية التفاوت والاختلاف في الأمور الاحتمالية، يكون حريَّاً بنا أن نفرق بين الاختلاف المثري والتنازع المصمي، وأن نتوخى جدال من يشاركنا المصير بالتي هي أحسن. والمتابع لما يدور في القنوات الفضائية، وما يقال في المؤتمرات والندوات والمجالس الخاصة يصاب بالإحباط. لا لأن الناس يختلفون، ولكن لأنهم في المواجهات يحيلون إلى سوء النوايا، وفساد المقاصد، وتزكية الذوات، وتخوين الآخرين، والإمعان في الشك والارتياب. وحين تفضي المناكفات والملاسنات إلى التجريح والاتهام تهمل القضايا، وتصبح المشاهد كحلبات المصارعة، لا ترى فيها إلا متلاكمين، يبحث كل واحد منهم عن الضربة القاضية.
ومتى أدى التناوش الكلامي إلى نبش الضغائن، يصبح الصمت من ذهب والحياد من فضة. والصمت والحياد مصائر اضطرار لا موارد اختيار، وسمات انهزام لا علامات انتصار، وليسا من الإسلام في شيء، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، كما أن الخائض في جدل لا تحكمه ضوابط يعد سفاهة وإسفافاً، وانزلاقاً في مهاوي الرذيلة. ومؤدى الإسلام: الاستسلام والانقياد والخلوص وعدم الخيرة من قضاء الله ورسوله. وحين يندر الإجماع لا يتعذر الاجتماع، إذ ليس شرطاً تلازم عدم الإجماع في الحكم مع عدم الاجتماع في الكلمة. ولنا في أئمة المذاهب قدوة، فهل نقم (أحمد) على (أبي حنيفة)؟ وهل سخر (الشافعي) من (مالك)؟. والخائضون في الشأن الإسلامي أو الوطني أو الفكري أو الاجتماعي أو الأدبي بغير علم ولا روية ولا تجربة يمسُّون مثمنات حسية ومعنوية تطال الشاهد والغائب. والشأن العام حق جماعي، الناس فيه شركاء، فالسكوت والقول إشكاليتان، متى لم يسعد النطق، ولم يجمل السكوت.
وإذا كانت طائفة من العلماء أو المتعالمين والفلاسفة أو المتفلسفين تتقحم سوح الجدل بعبارات نابية، واتهامات سافرة، ومعلومات ضحلة، وتأويلات بعيدة، فإن طوائف أخرى تتعمد التدابر والتباغض، دونما سبب يستدعي ذلك.
والاختلاف في الرأي المشروع لا يسوّغ القطيعة، مثلما أنه لا يسوّغ الوقيعة فالإسلام لا يتحقق إلا بالأخوة والمودة والرحمة بين المسلمين، ولهذا وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجسد الواحد والبنيان الذي يشد بعضه بعضاً. والتهاجر مناف للاعتصام بحبل الله، والتدابر مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم . وهجر العصاة والمبتدعين الذي يعول عليه البعض ليس على إطلاقه، فإذا ترتب على الهجر مفسدة أكبر من مفسدة المخالطة، أصبحت المخالطة مطلوبة، ذلك أن الأصوليين يقيمون أحكام الإسلام على التغليب، ويحكمون مواجهة المخالف بالأفضل، بحيث تكون باليد أو باللسان أو بالقلب، وممارسة الإنكار دون مراعاة مقتضى الحال مفسدة للحياة. والاختلاف في الآراء لا يحال على الابتداع، ولا على المجاهرة بالمعاصي، وإذا ندر إجماع الأمة، وجب عليها ملاطفة المخالف ولو في الفروع على الأقل.
وفي الوقت نفسه فإن على كلّ ذي رأي مخالف مراعاة مشاعر العامة، فالمجاهرة مدعاة للاستفزاز والاشمئزاز, وإذا اختلف الخاصة أو العامة مع غيرهم، وجب عليهم الإبقاء على جسور التواصل. فالمسلم مطالب بالدعوة والدفع دونما صلف أو إكراه، ونسف جسور التواصل يحول دون الإسماع وإبلاغ المأمن المأمور به في حق المشرك. وما كان بين الأطراف من عداوة فإنه يزول بالإجارة والأمان والدفع بالتي هي أحسن، وكل ذلك مطلب إسلامي، والمصير إلى التهاجر والتدابر من معمقات الفشل المنهي عنه.
والعداوة لا تكون إلا حين يكون سوء الظن بالمسلمين: خاصتهم وعامتهم وولاة أمرهم، وإلا حين يكون سوء التقدير والتدبير. ومواجهة المخالف بالحق عالماً كان أو سلطاناً واجبة، ولكنها لا تكون إلا وفق ضوابط وشروط وأساليب لا تعمق الخلاف. ولهذا حث الإسلام على السمع والطاعة، تفادياً لما هو أسوأ، فقد يكون هناك جور وأثرة أو تقصير أو إبطاء. ومواجهة ذلك كله مشروعة، ولكنها مشروطة. ولقد أخبر الصادق المصدوق بالمتغيرات، وبما ستؤول إليه حال الأمة (ومن يعش منكم فسيرى أختلافاً كثيراً). وأمام حتمية الاختلاف رسم طريق الخلاص. وحين لا يُحسن العامة أو الخاصة معالجة ذلك، يتحول الجور إلى عنف، والأثرة إلى استبداد، والإبطاء إلى تعطيل. وكم فوتت المعارضة الفجة فرصاً ثمينة. وفي كتاب (الإمارة) ل(الخلال) آيات صريحة وأحاديث فصيحة وأقوال محكمة لعلماء الأمة الذين يجمعون بين العلم والتجربة، ويمتازون بحسن التصرف وبعد النظر، ويغلّبون درء المفاسد على جلب المصالح، وكل هذه الآيات والأحاديث والأقوال تحث على الاجتماع والاعتصام والسمع والطاعة والمناصحة والصدق والأمانة والوفاء. وليس معنى هذا أن يُسلِّم الناس للظلم والاستبداد، ولكن عليهم أن يعالجوا الأمور وفق متطلبات المرحلة، وإذا كانت مرجعية الأمة (الكتاب والسنة) فإن الاختلاف حول المفاهيم والدلالات لا يقتضي الطعن في أمانات الناس ونواياهم. ومن اختلف مع غيره حول مفهوم آية أو حديث، لزمه سماع الرأي الآخر، واستقصاء حيثياته ومعرفة الأصول والقواعد والآليات والمناهج المعول عليها، وتفادي الوقوع في تأليه الهوى والإعجاب بالرأي، والمتابع لمعطيات الفكر السياسي الإسلامي يجده جماع الخير كله، فلا هو حفي بعنف الثوريين، ولا بمداهنة المتزلفين.
وكم يكون خيار التعاذر والتعايش أفضل من التلاوم والتدابر، وبخاصة في ظروف عصيبة كالمعاش على كل الصعد. ومما يخاف منه العقلاء تمادي الأطراف المتنازعة فيما تذهب إليه، دون السماع والإسماع في أجواء من الأمن، فالمخالف يصر على الحنث، والمناصح لا يتخول بالنصيحة، ولا يتوخى الوسطية، ومن ثم يصطدم إصرار الحانث بفظاظة الناصح وغلظته، ثم تكون الفتنة. وإذا كان الاختلاف سمة المجتمعين وفق أي رابط عقدي أو مدني أو إقليمي أو لغوي أو عرقي أو أسري فإن الأوجب اتخاذ الآلية الحضارية لتفادي التمادي في الغي أو الصدام في المواجهة. وإذا كانت المحاكم المدنية - القانونية أو الشرعية، تتولى فض المنازعات وفك الاشتباكات بين الدول والأفراد والجماعات عند اختلافهم حول الحقوق فإن قادة الفكر السياسي أحق بوضع الآليات المناسبة لمواجهة الاختلاف في وجهات النظر حول القضايا المشتركة، فالحق الجماعي أولى من الحقوق الفردية، وحين لا تكون آلية ولا منهج تدخل الأمة في الفوضوية، مستنزفة كل طاقاتها في سبيل الهوى والشيطان. وما من أمة إلا ولها دستور وقانون، يحكم الأول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويحتكم الخصوم إلى الثاني لفض المنازعات. وأي تجمع يكون بعض أفراده فوق القانون يقع في الفتنة من حيث لا يشعر. والتجمع الحضاري لا يحكمه الرجال، وإنما تحكمه الأنظمة والمؤسسات، وما الرجال إلا منفذون ورعاة، ومع هذه المسلمات البدهية لا مناص من اختلاف وجهات النظر حول المفاهيم والإجراءات.
والاختلاف يكون بين العلماء حول الأحكام والمفاهيم والمقتضيات، ويكون بين الساسة حول المواقف والمصالح والقضايا، ويكون بين العامة والسلطة حول الأوضاع والإجراءات والحقوق والواجبات. وكل مجتمع بشري تتعدد فيه الفئات والرغبات والمسلمات يقوم بين فئاته اختلاف، فإذا بادره عقلاء الأمة وأهل الحل والعقد وجهوه الوجهة السليمة، وإن استحكمت الفوضى، وغلب السفهاء، فسدت الحياة واستشرت الفتن. وكل اختلاف لا يبادره حكماء القوم ينتقل من التلاسن إلى التطاحن، ومن إراقة الأحبار إلى سفك الدماء، ومن البحث عن الحق إلى البحث عن الانتصار:




وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو
وما هو عنها بالحديث المرجّم


وكل حرب دامية لا تكون إلا ناتج خلاف لا يبادره حكماء القوم، والنار من مستصغر الشرر، وكم قال الحكماء:



أرى خلل الرماد وميض نار
وأخشى أن يكون لها ضرام


وإذا كانت الأمة - أي أمة - تتوفر على أمن وارف، واستقامة راشدة، ورخاء عام، ثم لم تكن شاكرة لأنعم الله، مراعية لحقه، انقلب الأمن خوفاً، والاستقامة انحرافاً والرخاء فقراً. ومتى أصيبت الأمة بأمر جلل وجب عليها التفتيش في علاقتها مع بارئها أولاً. وتحصين حدود الأرض لا يكون إلا بعد تحصين حدود الله، فإذا كانت على مراد الله، وجب عليها أن تنظر في علاقاتها مع نفسها ومع غيرها.
لقد تعرضت الأمة العربية في تاريخها الحديث لمتغيرات سياسية وفكرية، كشفت عن رداءة في التصورات وأخطاء في الإجراءات. وليس أضر على الأمة من سيادة الخطابات الطارئة: خطابات (الثوريين) في مجال السياسة، وخطابات (الحداثويين) في مجال الفكر والأدب، وخطابات (المداهنين) و(المتعلمنين) و(الراديكاليين) و(الليبراليين) في مختلف المجالات، وخطابات (الإسلامويين) المتطرفين. والخطابات المتلاطمة في مشاهد الأمة مدانة بالوثائق والمصائر. فهل حال الأمة تسر، بحيث نتخذ من هذه الخطابات قدوة، لاستكمال المسيرة؟ مع أنها تعد الخطابات السائدة ؟
إن مواجهة السوائد والمسلمات الخاطئة بالخطابات المتشنجة المخوّنة المحرضة لا تختلف عن خطابات التزكية والتصنيم والتكريس والتبرير، وليست السكونية الاستسلامية بأحسن حالاً من المغامرة غير المحسوبة، وما أضر بالأمة إلا المغامرون الذين يصرون على القفز، مع إمكان المعالجة المرحلية، وإلا السكونيون الذين يبطئون، ويفوتون الفرص.
ف (الثوريون) اختلقوا الاختلاف مع السلطات الشرعية، وحين أسقطوها تحولوا إلى وحوش ضارية، وتحولت لغة الحوار عندهم إلى لغة السلاح، فكان أن أثخنوا في أوطانهم، وحولوها إلى زنزانات خانقة ومقابر جماعية، و(الحداثويون) اختلفوا مع ثوابت الحضارة، وحين همشوها، تحولوا إلى هدامين ودعاة سوء في الأفكار والأخلاق، (والتنويريون) اختلفوا مع الماضويين، وحين تهيأت لهم الأسباب طافوا بقومهم على سقط الحضارات، و(الإسلامويون) الذين اتخذوا الإسلام غطاء لأطماعهم، جعلوا العنف سبيلاً لتحقيق مآربهم، فكان أن أتاحوا الفرصة لأعداء الإسلام لجعله مصدراً للإرهاب. وحين ننقم على نوابت السوء، لا نزكي مناقضها، ولا ندعو إلى رفض الإصلاح والتجديد، وإنما نود أن يكون المصلح والمجدد عوناً للأمة على تجاوز المنعطفات الخطيرة، بحيث يتخول المصلحون والمجددون الرأفة والرحمة والحلم والأناة والرد إلى مصادر الحضارة ومنجزات علماء الأمة المشهود لهم بالعلم والصلاح والصدق والأمانة.
ومن تصور أن ما نقول من باب التهويل أو التخذيل فلينظر إلى ظواهر الحياة ومصائر الأحوال، ثم ليكن حكماً عدلاً، يزن الأمور، ويربط الشاهد بالغائب، وإذ نقطع بحتمية الاختلاف وضرورة الإصلاح، ولا نجد أي مبرر لإبقاء الأمور على ما هي عليه فإننا نود أن ننظر في الآليات والمناهج والإمكانيات والأرضيات والأوضاع وأحوال الأمم المؤثرة في مصائر العالم، وأن نسبق ذلك كله بالإعداد الحسي والتهيئة النفسية والأخلاقية، فالذين فتحوا عيونهم على أوضاع ونشِّئوا عليها، لا يمكن قسرهم وتحويلهم بين عشية وضحاها، فالسوائد والمسلمات أقوى من الطوارىء، ولنا في قصص الأنبياء أسوة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} فعقدة (الأبوية) ماضية في الأمم، ولا يقدر على تحولها إلا العقلاء الذين يقدمون بين يدي ممارساتهم ما يطمئن الذين اعتادوا على أوضاع يظنون أنها الأفضل. ومن عايش أوضاع من حوله، واكتوى بمصائرها، تمنى الإبقاء على المفضول خوفاً من ذهاب الفاضل والمفضول معاً.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:29 PM

تكاثر المسؤوليات أم طوفان الغثائيات..!
د. حسن بن فهد الهويمل


لكل زمان ظواهره وطرائق أهله، كان (الشعر) سيد المواقف، ولسان السلطة ثم سيئت مشاهده، حين جاء الإعلام بكل تنوعاته والسرديات بكل أنواعها، حتى قيل ب(السلطة الرابعة)، و(زمن الرواية)، فيما قيل من قبل:(الشعر ديوان العرب) الأمر الذي قفز بأرباب الكلمة الصحفية من الهواية إلى الاحتراف، ومن الهامش إلى المتن، وما أن فاق الطلب العرض، رعي الهشيم، وسبح البغاث في مجالي النسور.
والنخبويون أو المتنخوبون الذين يلتزمون بالكتابة الدورية المنتظمة في الصحف والمجلات، أو يقدمون البرامج الإذاعية أو التلفازية في الأسبوع مرة أو مرتين، لايجدون بداً من أن يقولوا أو يكتبوا: طوعاً أو كرهاً. وقد تصاب آليات بعضهم بالتعثر، أو يصبح ماء معارفهم غوراً، لأي سبب، فيضطرون إلى الاجترار الممل، والتكرار المخل. والمتلقي الذي اعتاد على الجاهزية، لايفكر بما يعانيه الكاتب الجاد الذي ضُرب له موعد، وأفرغت له صفحة أو بعض صفحة، ليطلع من خلالها على قرائه طلوع البهجة أو طلوع المنون، في موعده الذي لايتقدم عنه ساعة ولايتأخر. والمعاناة تتضاعف حين يعيش الكاتب تحت رقابات متعددة: مجتمعية أو سياسية أو دينية أو نسقية ثقافية. فالمجتمع بكل ما يعج به من مؤسسات منظورة: شرعية أو تطوعية، أو غير منظورة، يكاد يكره الكاتب أو المتحدث على لزوم ما لايلزم. وبعض فِئام من الناس صنعت ذهنياتها على غير هدى ولا كتاب منير، مما يجعل رقابة بعضها تسلطات متعنتة، تحمل على كتم الحق مخافة الأذية.
وإذ يكون الكاتب في عيون المتابعين في مستوى معين: موضوعياً، وموقفياً، ومعرفياً، يكون عليه ألا يفقد درجة من هذا المستوى. والمحافظة على المكتسب أضعف الإيمان. وكان على المتلقي أن يتصور نفسه، وقد أصيب بوعكة صحية، أو امتلأ وقته بمناسبة فرح أو ترح، أو مر بظروف يكثر فيها اللغط، وتستحكم فيها الخلطة الملهية عن كل مكرمة، أو تتضاعف فيها المجاملات والمداراة، ثم لم يشعر إلا بهاتف المسؤول، يستعجله المقال لقرب موعده. وكيف يتمكن الكاتب الذي يحترم مطبوعته وقارئه، وهو واقع تحت طائلة المشاغل، من تجهيز مقاله المناسب في موعده المحدد، وفي مستواه الذي يريد؟ ولاسيما إذا كان في وسط لايحسب للوقت أدنى قيمة، ولايعرف كم يبذل الكتبة الجادون من جهد ووقت وطول قراءة، لكي يتمخضوا عما يرضيهم، ويحفظ مكانتهم عند قرائهم. ومجتمعات الفضول يفاجئك بعض أفرادها في ذروة اشتغالك وانشغالك بزورة غير مشروعة، بحيث لايستأذن في لقاء، ولايتخول فرصة فراغ، ولاتكون الزورة غبّاً، ولاينتشر إذا طعم. وقد يهاتفك في عوراتك الثلاث، فيطيل الحديث، ثم لايقول شيئاً. وكيف لايضيق الجاد بالفضوليين، ورسول الهدى قد أسعفه الذكر الحكيم، حين وجه بالانتشار بعد الفراغ من الطعام، وحين روضه باصطبار نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي. وما طردهم، ولاتعجل بالانصراف عنهم إلا لمهمات دعوية، حتى لقد عبس وتولى حين داهمه (ابن أم مكتوم) وهو يستدرج صناديد قريش للإسلام. وقليل من الناس من يعرف أدب المجالس ويتخلق به. والموزَّعُ المسؤوليات يود لو فرغ لنفسه ولأهله الذين لهم عليه حقوق كثيرة، لم يف بأقلها تحت وابل المساءلات، والمسؤوليات، وطوفان الفضول. ومع أن مجالسة الرجال لاتمل، إلا أن خير جليس في الزمان كتاب، وخلوة التأمل والاسترخاء المستجم خير من شد الأعصاب ولو بحضرة الأحباب.
وسمني ما شئت: سميناً أو ذا ورم، نخبوياً أو متنخوباً، فلقد بقيت ذات (عيد) طوال أيامه الحوافل، أستقبل وأودع، وبقي من حولي في جيئة وذهاب، لإحضار وجبة، أو لرفع أخرى. وفي أعقابه تفرقت بأولادي الأودية والشعاب في رحلات خلوية، وظلت الجريدة تطحن كتابها، فهي على موعد مع قرائها في مطلع كل يوم، وهي الأحرص على إمتاعهم واستمالتهم وإقناعهم، ولايتأتى لها شيء من ذلك، حتى تحلب المفكرين والساسة والأدباء أشطرهم، وتقدمه قولاً ممتعاً ومفيداً للقارئين. وهي كما كتابها في عناء وشقاء، فعن يمينها وشمالها من يباريها، كما الخيل تباري الأعنة في لزز التنافس. وكيف لها أن تنام بمقلتيها، ومن حولها عجلان ينتهب الخطى؟. وكم شكوت إلى ذي مروءة ما أعانيه، ولكن (كلنا في الهم شرق)، ومهما عدونا فإننا لن نسبق ظلنا.
وما أن لملم العيد ما عاد به علينا من أحبة، وما تأبطه من عوارض، إن أمطرت، فستمطر كسفاً من السماء، وما أن تداعى الكافة على مدنهم وقراهم للعمل أو للدراسة أو لانتظار ما لا يأتي، خوى البيت على عروشه، وخلا من زائريه، وقامت السكينة مقام الضجة، يومها أحسست أنَّ من حق نفسي عليَّ أن أُروح عنها، فهي تمل وتكل، مثلما تمل الأجسام. ومع أن هم الأعمال المؤجلة يعكر صفو السياحة، إلا أنني مصر على الترويح واللهو البريء، وكيف لا، والرسول -صلى الله عليه وسلم - يقول عن الأنصار: (يعجبهم اللهو)، وهو قد أخذ بيد عائشة يوم العيد لتنظر معه إلى (الأحباش) وهم (يزفنون) في المسجد. وهو بأبي وأمي، قد اضطجع مستدبراً جويريات -لسن بالمغنيات- يضربن الدف في بيت الصغيرة المدللة، الأمر الذي تمعر معه وجه أبي بكر، وصاح بهن: -أَمزمار الشيطان في بيت رسول الله، مما حمل رسول الهدى على نهيه عن نهرهن، معللاً ذلك بأن اليوم يوم عيد، وكأني بمزمار الشيطان يباح في يوم العيد، فلو لم يكن الغناء من مزامير الشيطان لما أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قول أبي بكر، والفقهاء بارعون في التأصيل الشرعي واستنباط الأحكام ومع كل ذلك فأنا أعرف حدود ما أنزل الله في أمر اللهو المباح والمحظور، ولست ممن يسعى لشرعنة الفسق والفجور الذي تفيض به المشاهد كافة، ولست مع الذين يميلون كل الميل إلى سد الذرائع، وتحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، تاركين الحقوق المشروعة كالمعلقة. ف(المتصوفة) أو طائفة منهم، جعلوا الغناء جزءاً من العبادة، فيما توسع (الظاهريون) في إباحته، وكرد فعل لهؤلاء وأولئك جاءت طائفة من الورعين فحرمته على الإطلاق، ولم تستثنِ، وضرب العامة بكل هذه الأقاويل عُرْض الحائط، وشرعنوا لأنفسهم ما يريدون، وبين هذا وذاك ضاع الحق الصراح.
ولما لم أكن حفياً بهذا الخلط العجيب، توخيت الوسطية في كل شيء، مبتغياً بين ذلك سبيلاً، وأعني بالوسطية (العدل) و(الاستقامة)، والفضيلة وسط بين رذيلتين، ومع ذلك ف(لا اجتهاد مع النص القطعي الدلالة والثبوت)، وليست الوسطية ما يتداوله العامة، إنها صفة عموم وليست خصوصية حدث. ولكي أنال قسطي من الراحة، تركت المسؤوليات خلف ظهري، وأتحت للتنائف ان تتهاداني مع رفقة لاتقل مشاغلها عن مشاغلي، ولكنها أصرت على استدبار الجد واستقبال الفراغ. وانطلقنا ترفعُنا النجاد، وتحطنا الوهاد، نقضي كل لباناتنا بأنفسنا، لانرقب زوجة ولا خادمة ولا ابناً باراً. نعجن ونخبز، ونحتطب، ونسقي لأنفسنا ولا يسقي لنا أحد، ننام في العراء، ونستضيء باللهب، ونصطلي على فاكهة الشتاء (ومن يرد أكل الفواكه شاتياً فليصطلي)، ونحسو قراح الماء، والماء بارد. ونحقق سكن الليل ومعاش النهار، وإذ بورك لأمة محمد في بكورها، فإن الناس في بيوتهم وأسواقهم ومدارسهم ومكاتبهم، يَدَعُون ذلك لسوارح الكلاب وأسراب الطيور. ولما كانت أرض الله آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، في زمن الفتن العمياء، فقد ذرعنا فضاء الله، كما لو كنا موكلين به، ومن كتبت عليه أكيال مشاها، وحين تقضت لبانات كثيرة:




(أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح)


وتمنيت لو كان بالإمكان ذرع فجاج الأرض على صهوات الجياد أو على ظهور الإبل.
وبعد أيام مرت كلمح بالبصر، عدت متلكئاً، فالأعمال لاتنجز نفسها، ولكنها تترصد، وتتربص، حتى إذا عاد إليها الشجي تكاثرت من حوله كما:



(تكاثرت الضباء على خراش
فما يدري خراش مايصيد)


وقلت في نفسي: إنها راحة ساعة، وشقاء دهر، وعند الصباح يضرب النائمون كفاً بكف. والاتكاليون من ينعمون بما أترفوا فيه، والمنبتُّون من لايروحون عن قلوبهم. وبين المترف والمنبت ضاعت مثمنات كثيرة.
وكيف يتأتى لمثلي حفظ التوازن، ثم لاتتكدس الأعمال والمطبوعات من حوله بشكل لاقبل له باحتماله. لقد كنت حفياً باستعراض المطبوعات اليومية والأسبوعية والشهرية وما يُهدى من كتب: إبداعية أو نقدية أو تحقيقية، ولما أن عدت إليها وجدتها كورق الخريف تغشى مسارح النظر. ولك ان تتصور إنساناً تمر به كل يوم عشرات المطبوعات، بحيث لايجد بداً من استعراضها والتقاط ما ينقصه أو يلائمه منها، ثم غاب عنها أسبوعاً أو أكثر، وعاد، وكان عليه أن يفليها، منقباً عن لذعة أو لسعة أو لدغة أو نادرة هنا أو هناك، أو متابعاً لفيوض الآراء والتعليقات والتحليلات في مختلف القضايا والمعارف والأحداث، ولاسيما في زمن رديء، تداعت فيه الأمم على مثمنات الحضارة، وأعانها عليها متأمركون أو متفرنسون، يقعدون مع المتسهزئين والخالفين.
وفوق ذلك فإن النقاد لايغفل بعضهم عن بعض، فهم أبداً في عراك مستحر، فمشاهدهم لاتعمر إلا بالفرضيات وافتعال الخلافات، ولهذا يتعمدون الإثارة، مثلما يفعل شعراء النقائض، بإغراء واستدراج من الخلفاء الذين يودون تلهية الناس بالهجاء وتسليتهم بالمذكرين والقصاص. والصحف اليوم تفعل فعل الخلفاء من قبل، ولكل زمان وسائله وآلياته ورجاله، ودعك من استطلاعات الرأي التي يبدهك بها خلي عن أتفه الأشياء، ومن إجراء المقابلات المكرورة المملة، ومن أخذ الانطباعات والتصريحات عن كل مناسبة، فهي تنتابك عبر كل وسائل الاتصال المتاحة، ومن وراء ذلك كتب يفتري أصحابها الكذب لتسليعها، حتى إذ امتلأت جيوبهم من لعاعات الدنيا، وتلطخت سمعتهم من التكذيب والتجهيل بادروا المشهد بلعبة صبيانية أخرى. والمتابعون لفيوض القول في شر مستطير، فهم بين منشَّئِين في الحلية، ومستفزين في الآراء، وخليين من كل معرفة، أغرموا بدس الأنوف في كل شيء، يتحدث أحدهم عن الدين والسياسة والاقتصاد وكل الظواهر والمبادئ والقضايا، ويحضر المناسبات بزي عربي، يحاول به أن يخرق الأرض او يبلغ الجبال طولاً، يكتب مع الكاتبين، ويخوض مع الخائضين، فيما يهم، ومالا يهم، وما يتصوره ومالا يتصوره، يكتب القصة والرواية والقصيدة: مغالبة أو استكراهاً، ويخط بيمينه النقد بشقيه: التنظيري والتطبيقي، وينشئ المشاريع، ويشرعن للتفاهات، ويقايض ويقارض، يمدح ليمدح، ويشهد ليشهد له، ويعين ليعان، ويعطي ليأخذ، وكأنه الكل في الكل، وماهو إلا القطمير أو الهباء المنثور.
ولو تجاوزت المشاهد المعهودة، وتسلقت محاريب (الانترنت) لرأيت العجب العجاب، فبعض أصحاب المواقع كالقرد المقَّفص في حديقة، يمر به الفارغون الذين يتفننون في إثارته، حتى تخور قواه، ويلوذ بالصمت. لقد جاءني بالأوراق المسحوبة من المواقع من لم أزود، فقرأت فيها المضحكات المبكيات، فالمتوقع يسأل عن كل شيء، ثم لايتحرج من الإجابة عن كل شيء، ومع الضربات الموجعة تراه متشامخاً متورماً، يغرس يده في تراب أبجدياته السرابية، يحثوه يمنة ويسرة، وكأنه يملك عصى موسى، وطب عيسى، وبلاغة محمد. لقد كدت أتسلل خجلاً مما أرى، ومما أسمع، فكل متورم يرى أنه ابن بجدة العلوم والمعارف وحذامها. وإذا كان الغرب ينتج الآلة للاستفادة والإفادة فإننا نستهلكها للعبث والإثارة، وبئست المهنة، وبئس الممتهن. والرحلات الخلوية التي يستجم بها المثقلون بالأعمال لم تعد قادرة على استعادة الراحة، فالإشكالية لم تكن من تكاثر المسؤوليات، ولكنها من طوفان الغثائيات. ولا أحسبنا قادرين على الرشد في زمن لاتسمع فيه إلا الجهر بالسوء، من ظلم، وممن بطش بالأبرياء العزل بطش الجبارين، وكل ألدٍّ في الخصام على ثغر إعلامي، يتجشأ من فراغ، وقد امتلأتْ نفسُه حقداً وضغينةً على مَنْ آتاه الله من فضله.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:29 PM

لعبة الموت بين: (شارون) و(ياسين)..!
د. حسن بن فهد الهويمل


أن تموت بلا ثمن، فتلك خسارة فادحة، وأن لا يُحسن الخلف استثمار الثمن فذلك تفريط مدان. وكل الأبطال يختارون الشهادة، و(ابن الوليد) مات على الفراش حتف أنفه.
وحين يكون الموت واحداً، والأسباب متعددة، فإن المحظوظين يودون أفضل الأسباب. و(أحمد ياسين) رحمه الله شيخ كبير مقعد، لم تعد الحياة تساوي عنده جناح بعوضة، وليس بمستبعد ان يقضي نحبه بين ساعة واخرى. لقد وهن عظمه، واشتعل شيبه، وانشلت حركته، والتاث لسانه، فهو مقبل على الآخرة، ولو مات بأي عارض غير الاستشهاد لكان رحيله بلا ثمن لمن خلفه من الصامدين، ولكن الله تفضل عليه وعلينا بهذه النهاية الثمينة، فله منا الدعاء المضاعف على جهاده واستشهاده. والغدر به حمَّل رفاق دربه دمه، وهو حمل ثقيل، ومتى أضاعه قومه مات بموته خلق كثير، وضاعت بضياع دمه حقوق أكثر.
لقد جاء استشهاده بيد وغد من أوغاد اليهود، فسق عن أمر سيدته وصانعة جبروته، ولما يزل يقول شططاً، ويفعل فحشاً. وحين طُعن (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، وهو قائم يصلي في المحراب، كان سؤاله عن القاتل، مخافة ان يكون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما علم بأن القاتل غلام المغيرة بن شعبة، حمد الله.
وإذا كان (شارون) يريد بقتله للشيخ المعوَّق -وهو خارج من المسجد- التخلص من شخصه، فقد حقق ما يريد. أما إذا كان يريد أن يقمع إرادة الشعب الفلسطيني، ويجهض مواقف الشعوب العربية والإسلامية فإنها حية لا تموت، ولن تنقلب على أعقابها بعد قتله. و(شارون) منذ أن دخل (المسجد الأقصى) إلى أن استخدم أفتك الأسلحة يمارس التصعيد، ظناً منه أن إذلال الإنسان العربي يوهن العزم، ويحسم القضية. وإذا كان الصهاينة والمتصهينون على شاكلته في الاقتحام والمحاصرة والتصفية والهدم، فإن العاقبة للإنسان الفلسطيني، لأنه مظلوم، والله أقسم على نصره ولو بعد حين. واغتيال الشهيد حين يُحسب بعوائده الإيجابية يصير كما العملية الفدائية، وإن خطط له في (الكنيست). وكم من متجبر متكبر فكر وقدر، ثم قتل كيف قدر. و(شارون) فعل ما كان قد فعله (فرعون)، حين اتخذ موسى، ليكون له عدواً وحزنا. و(شارون) يريد ان ينتفع من قتل (أحمد ياسين)، ولكنه أذكى الحماس، ووحد الصفوف، وعمق الكره، وخيب الآمال، وأحرج الأصدقاء والداعمين والمهرولين، وشرعن لمزيد من العمليات الفدائية. ولو كان ذكياً استذكر ما ترتب على اغتيال (عباس الموسوي) و(يحيى عياش) إذ جاء بعد (عباس) (نصرالله) الأشد، وأسقط اغتيال (العياش) (بيريز) بعد اغتيال ستين صهيونياً.
و(شارون) بجريمته يزج بالمنطقة في أتون الفتن، مثلما جرَّت (لوبياته) دول التحالف ليرموا بفلذات أكبادهم في الصحاري والكهوف والمغارات. وهو بفعلته النكراء يدفع بشعبه إلى حمامات الدم، ويعرضهم للقتل والخوف والإذلال، وما أغباه حين أغراه الوضع العربي المنهك بمزيد من العمليات الإرهابية. وإذا كان قادة العالم العربي في وضع لا يقدر أحدهم معه أن يتجاوز كلمة الشجب، فإن إرادة الشعوب العربية لا تقهر، والشعب الفلسطيني يستمد طاقته من إرادة الشعوب العربية والإسلامية. ومتى استبطن الإنسان العربي الريبة والكره للمحتل والداعم فإن حياة المحتل في خطر، وسوف يقضي أيامه وراء ترسانته، وبئست حياة لا تحميها إلا الترسانات أو الجدار العنصري، وكلما رفع الصهاينة درجة الاستعداد والتخندق، كان ذلك على حساب التنمية والاستقرار.
وإذا كان المحتل الصهيوني يراهن على (الفيتو الأمريكي) و(الإف15) و(الأباتشي) فعليه أن ينظر إلى من هو فوق الخلق يدبر الكون، ويعد بنصر المظلوم، ولو بعد حين. ومن ركن إلى الله فليقبل قضاءه وليفر إليه، وليتعرض لوعده بشرطه { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم }. وعلى الشعوب العربية أن تستوعب الحدث وان تستثمره، وان لا تدعه يمر بدون ثمن، ولكي تستعيد الأمة عافيتها ووضعها الطبيعي، لا بد لها من تجاوز الجزئيات إلى الكليات، وتفادي بؤر التوتر المفتعلة، ولن يتحقق شيء من ذلك إلا بتوحيد الجبهة الداخلية، واجتياز الظروف العصيبة بقوة المؤمن وثقة المحق.
لقد حمدت الله حمداً كثيراً على هذه النهاية السعيدة للمجاهد (أحمد ياسين)، بل هي نهاية سعيدة له وللأمة العربية والإسلامية. إنه في حالة حرب مع المغتصب، والصهاينة لن يقدموا له باقة من الورود، ولكنهم لو كانوا يفقهون لتركوه يرقب أجله القريب، غير أن غباءهم جعله بطلاً: حياً وميتاً، وتلك خسارة فادحة لهم. لقد ضج العالم بالاستياء والاستنكار والإدانة، وتوعدت الفصائل بالانتقام، مما حدا بأمريكا إلى القول: لم يكن لنا دور ولا علم، وذلك مؤشر خوف، وحين لم تشجب فلأنها أسيرة (اللوبيات). وموقف كهذا في غاية الضعف والوهن، فهي من جانب تحاول النجاة بنفسها من الرد العنيف، وذلك بنفيها العلم أو الإسهام، وهي من جانب آخر لا تقدر على اتخاذ موقف جريء يدل على استقلالية قراراتها. لقد تبين أنها محكومة بالخوف من المقاومة، ومسلوبة الإرادة الحرة من جماعات الضغط الصهيوني. وكيف لها ان تنهض بمهمات (القطب الواحد) وهي خائفة عاجزة: خائفة من ردود الفعل، وعاجزة عن الاستبداد بالرأي؟؟.
لقد رأيت وسمعت المنتحبين المتفجعين، ولم أكن لأحزن معهم، فالشهيد لن يدفع أجله، ولو مات على فراشه لمات ميتة مجانية، أما وقد كان لحياته ثمن، ولموته ثمن، فإن ذلك غاية ما يمكن ان يتطلع إليه مثله. لقد خدم أمته حيا وميتاً، وسيظل حدث وفاته وقودا لنفوس ظمأى للكفاح المسلح.
ومن غباء (شارون) أنه تعجل في استثمار الانكسار العربي، شأنه شأن كل متسرع في استثمار النتائج قبل نضوجها، ولأنه الغريق في وحل الجرائم فإنه لم يعبأ بما يضيفه إلى سجله الدموي من جرائم، لا يحتملها الضمير المتوحش، وكيف لا يخجل من مواجهة شيخ مشلول محمول بثلاثة صواريخ، تكفي لمواجهة كتيبة مدججة بالسلاح؟! وهو بسلسلة جرائمه المستقذرة من كل شرفاء العالم يصعد الأزمات، ويدفع بالمنطقة إلى دوامة العنف والإرهاب الذي سيكون له ولقومه النصيب الأوفر منها. وإذا كان العرب قد جنحوا للسلم، وتلاحقت مبادراتهم التنازلية، فإن لكل شيء نهاية، ولا أحسب الشعوب العربية ستلحق بقادتها في طريق التنازلات. وحين لا يكون من الموت بد، فمن العار أن يموت الانسان العربي ميتة مجانية، لا قيمة لها. وما عمليات الانتحار إلا إنهاء لحياة فقدت مشروعيتها. ولما يزل بإمكان (أمريكا) ومن معها توفير أدنى حد من الحياة السوية للإنسانية المعذبة في كثير من بقاع العالم، وبهذا تتفادى ما تحسبه ارهاباً. لقد أنفقت (المليارات) وأزهقت أرواح الآلاف من شبابها في سبيل مطاردة الإرهابيين، وما زادتهم إلا عتواً ونفوراً. وليس من شك أن الإنسان -أي إنسان- حين يقف أمام خيار الموت بلا ثمن أو بثمن فإنه سيفضل الموت بثمن. وما الإقدام على العمليات الانتحارية إلا من أجل الخلوص من مأزق الإذلال والامتهان والقتل العشوائي، وعلى (أمريكا) أن تتخذ طريق العدل والمساواة، وأن تعدل عن التدخل في خصوصيات الشعوب، فذلك الطريق القاصد لتجفيف منابع الإرهاب.
وعلى الذين اختاروا مواجهة الإرهاب بالسلاح الفتاك ان يأخذوا على يد سفهائهم، إذ ليست هناك سفاهة تضاهي سفاهة (شارون) وعصابته، فالحروب المعلنة لها أعرافها، بحيث لا تطول الزعماء، وحين لا يسلم (شارون) لهذه الأعراف تتفجر الأوضاع بشكل همجي من كل الأطراف. ولربما أنه فعل فعلته تلك لكسر شوكة الحركة أو لتفويت نشوة الانسحاب من (غزة) أو لبدء عمليات تصفوية شاملة، واسرائيل الأخسر بكل المقاييس. لقد اختار (شارون) المواجهة على المحاورة، والسلاح على السلام، وغره في ذلك ما أمده به الناس من حبال قد تورده موارد الهلكة، وعلى الدول الكبرى التي تلوح للأبرياء بطعم الإصلاح و(الديمقراطية) أن تخلي بين القادة وشعوبها، وألا تستخدم أرضهم للعب الكونية والتجارب العسكرية، وأن تحجز سفيهها الذي أحرجها مع أصدقائها وحلفائها وشركائها في الغنائم.
لقد وجه (شارون) لطمة لكل الأطراف، وجاءت جريمته لتجعل القادة العرب ومؤتمرهم القادم أمام تحديات لا أحسبهم بأوضاعهم الداخلية والعربية قادرين على مواجهتها بما يشفي ويكفي، غير أن الخطوة العملية هي أن يعي المؤتمرون قوة اللطمة، وأن يعرفوا أنهم إن لم يردوها بأقسى منها أو بمثلها فإن لطمة أخرى ترقبهم. ومن أمن العقاب أساء الأدب و:
(من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام)
وليس هناك أسوأ من ممارسات (شارون) المعلنة كما الفواحش، والمكتومة كما النفاق، ولن يثنيه عن تماديه إلا التضحيات من قادة الأمة، متى نجحوا في تلافي الخلاف، ومتى أصلحوا بينهم ووحدوا موقفهم ورجعوا إلى ربهم، وبذلك يواجهون عدو الله وعدوهم. والشعوب العربية المحتقنة لن تسمح للقادة باتخاذ موقف متخاذل. وأمام هذه الانتهاكات المتلاحقة فإن واجب الأمة العربية وقادتها وإعلامها ان يستثمروا الحدث بأسلوب حضاري، يحاصر اللوبي الصهيوني الذي لما يزل يمارس لعبته القذرة على المؤسسات الأمريكية المهيمنة على العالم. وبوادر النصر في تسلل (الدول الأوروبية) من الهيمنة الأمريكية، ومجال اختراقنا لن يكون عبر المؤسسات الدستورية والتنفيذية الأمريكية الواقعة في شرك الصهيونية واليمين المتطرف، وإنما هو في دول أوروبا التي أحست بأنها تتجرع مرارات التصرف الأمريكي، ورهاننا في الشعب الأمريكي الذي أضلته الامبراطوريات الاعلامية، ومتى أحست أوروبا بأن العرب يثمنون مواقفها، خلعت ربقة التبعية للغطرسة الأمريكية، وليس شرطاً ان نضع كل البيض في سلة القادة الأوروبيين، ولا أن نصعد خلافنا مع أمريكا، كما أنه ليس من المعقول ان يرجع الأوروبيون خفاف العياب، فيما تعود أمريكا بجر الحقائب، إننا بالحكمة والتصرف الحسن نضع الصهيونية العالمية وحلفاءها أمام مسؤولياتهم.
وواجب دول المنطقة، وهي مقبلة على قمة استثنائية بكل ظروفها، أن تترك ملفاتها الإقليمية في بلادها، وأن تدع المزايدات والعنتريات وتجييش العواطف، وأن تفاتح نفسها من (درجة الصفر)، فالوضع العربي لم يعد قادراً على احتمال مزيد من الخطابات الثورية الهوجاء. لقد ضاع العراق، وكان بإمكان المؤسسات السياسية العربية ألا يضيع، ولقد شرعنت التصرفات الرعناء لبعض القادة العرب لأوضاع استسلامية شاذة في المحيط العربي، وكان بإمكان القادة العرب ألا تكون، ولقد قامت حروب أهلية وحدودية في كل أنحاء الوطن العربي، وكان بإمكان القادة العرب ألا تقوم، ولما تزل الأوضاع الأمنية والاقتصادية والعلاقات العربية العربية تزداد سوءا، وكان بإمكان القادرين من القادة العرب إيقاف هذا التدهور. ومن العيب الكبير أن يكون القادة قادرين على تصحيح الأوضاع ثم لا يفعلون.
إن على قادة العالم العربي، وهم يتنادون إلى مؤتمرهم، أن يفقهوا واقعهم، وأن يفقهوا أولوياتهم، إذ لا سلامة بدون فقه عميق للواقع، ولا عملاً سليماً بدون توفر على فقه الأولويات. ففقه الواقع يقي من المثاليات والمغامرات، وفقه الأولويات يحمي من الاشتغال في الثانويات. وحين لا يكون بمقدور الأمة العربية مواجهة اسرائيل عسكرياً، فإن في مقدورها التخطيط الدقيق لمواجهة اقتصادية وسياسية واعلامية وقانونية، فالمقاطعة والمحاصرة والتصدي والصمود والمرافعة القانونية مع وحدة الصف والهدف، وتصفية الخلافات، والانطلاق إلى المحافل الدولية بخطاب واحد معقول ومقبول، ستضع الكيان الصهيوني على نار هادئة. وعلى الاعلام العربي ان يتخلى عن النحيب والتفجع، وأن يدع الخطابات الرعناء والمثاليات الجوفاء والعنتريات الهوجاء والهجاء الفاحش، فما عاد من الخير أن يكون نصرنا بكاء، ومساعداتنا شتائم. والوضع المتردي يتطلب تضميد الجراح، ورأب الصدع، ورفع المعنويات. ومن خلف مجاهداً في أهله كان له مثل أجره، والشعب الفلسطيني المحاصر اقتصادياً والمخوف أمنياً بحاجة إلى ايصال المساعدات (اللوجستية) إلى مدنه وقراه ومخيماته، لكي يقدر على الصمود والصبر والمصابرة. وليس هناك ما يمنع من إشباع الجوعى، وستر العراة، وعلاج الجرحى، وفك الاختناقات عن طريق المنظمات الإنسانية.
ومتى استطاع الشعب الفلسطيني الفراغ من مشاكله الداخلية تفرغ للمواجهة وحسم المواقف لصالحه، ولن يتحقق ذلك إلا باستغنائه، وبتلاحم جبهته الداخلية، وبالتنسيق بين منظماته وجبهاته، وذلك وحده الذي يمكنه من إرهاق العدو: تصدياً وتحصناً. وتلك كانت رؤية الملك (عبدالعزيز) رحمه الله، منذ أن أعلن الاستعمار البغيض عن قيام دولة صهيونية. وإذا عرف الجميع أن القوى الفاعلة في المحيط العربي لا تريد للمنطقة الاستقرار والفراغ لمشاكلها الداخلية، فلا أقل من أن يلتف القادة حول أنفسهم، ليخرجوا بحل معقول، يبقي على أدنى حد من العيش الكريم.
إن إقدام الصهاينة على اغتيال قيادي مسلم معتدل في خطابه، وتخاذل الدول الكبرى في مواجهة الانتهاكات، دليل على أن القوى الظالمة لا تريد لهذه المنطقة ان تأخذ وضعها الطبيعي. وحين أذعن الجميع لأمريكا في خططها التصفوية للإرهاب، فليس من المعقول ان يقبل شرفاء العالم مواطأتها للصهاينة، وإطلاق أيديهم لتصفية الشعب الفلسطيني. وفي النهاية فإن الإرهاب لا يصنعه إلا الظلمة المعتدون:
(واحتمال الأذى ورؤية جانيه
غذاء تضوى به الأجسام)
ولن يقبل العقلاء دعاوى الأعداء المغتصبين للحقوق، المنتهكين للحريات إلا مكرهين:
(ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى
عدوا له ما من صداقته بدُّ )
ومع كل الترديات فإن المتفائلين لن يفقدوا الأمل، ولن يظنوا بالله الظنون، ونصر الله آتٍ { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب }.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:31 PM

إلى جنة الخلد يا عبدالسلام
د.حسن بن فهد الهويمل


كنت أسمع عن الشاب التقي النقي عبدالسلام البرجس، ولما أره، ولما رأيته زدت محبة له وإعجاباً به، لم ألقه إلا مرتين، كانت الأولى في اللقاء الثاني للحوار الوطني في مكة المكرمة، وكانت الثانية في لجنة المشورة في المهرجان الوطني، ولقد عرفت فيه حسن الخلق وبشاشة الوجه والاقبال على الكافة بروح عالية وخلق جميل، ولقد أسهم في اللقاءين بوعي ووسطية وحرصٍ على مصلحة الأمة.
وكنت على موعد معه لاستضافته في المنطقة لالقاء محاضرة وفوجئت بخبر وفاته -رحمه الله- بعد عودته من المنطقة الشرقية مسهماً في الدعوة والارشاد، وفقد شاب مثله في علمه وخلقه يعد خسارة فادحة نسأل الله له المغفرة والمثوبة ولذويه الصبر والسلوان، لقد كان رحمه الله حريصاً على التواصل يتحرك بين المؤتمرين كالنحلة، يصحح مفهوماً أو يضيف معلومة، وكانت مداخلاته -رحمه الله- في غاية الهدوء والتهذيب، ولم تمر جلسة من جلسات الحوار إلا وكانت له اضافة يوافقه من يوافقه ويخالفه من يخالفه، وما كان في يوم من الأيام متعصباً لرأي ولا مستبداً بموقف.
وكانت رؤاه التي يطرحها تتسم بالوسطية والواقعية والمعقولية وكلما استشف امتعاضاً من أحد تصيَّده في ردهات الفندق أو على طاولات المطعم وجادله بالحسنى، وكان مجلسه لا يمل، ولقد أسفت كثيراً على تأخر اتصالي به ورحيله قبل الاستفادة من معارفه.
وكم اتمنى من زملائه ومخالطيه تجميع تراثه من محاضرات وندوات ولقاءات وكتب وتجهيزها للطباعة لكيلا تضيع بوفاته.
نسأل الله ان يجعله مع الصديقين والشهداء والصالحين وان يخلف عليه شبابه وأن يجبر مصاب أهله ومعارفه واصدقائه.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:32 PM

القمة العربية بين جدلية التأجيل وحتمية التفعيل..!!
د. حسن بن فهد الهويمل


بعد مفاجأة التأجيل تقاطر الساسة والمفكرون والإعلاميون بمختلف أطيافهم، وتعدد مشاربهم، وتنوع انتماءاتهم من عُرْب ومن عجم على الخوض في الحديث عن القمة متوسلين ببعض العلم، ونادر المصداقية، وكل الفصول، ولم يغادروا من متردم، وما من آراء اشتطت كما هي حول تنازع المؤتمرين للتوصل الى صيغة مقبولة لجدول الاعمال وبنود التوصيات. ولقد غفلت كبريات الصحف عن المؤتمر وارهاصاته، حتى اذا فوجئ الجميع بالتأجيل، حدَّقت الأبصار المزلقة، وهبت الصحافة العالمية، وانتفضت الفضائيات، وتحركت مراكز المعلومات، لاحتناك مألوف الشقاق بين الإخوة الأشقاء.
ومع تلاطم الآراء، فالمقول دون الفرضيات، وحين لا تكون للرؤى مرجعية: شخصية أو نصية تحسم الخلاف تتشعب اشكالياتها، ومتى لم تبلغ الآراء قطعية الدلالة والثبوت، يكون الجميع في حل من القول والسكوت، وكم ترددت في الحديث عن التحول من المؤتمرات التي لا تنفذ توصياتها الى المؤتمرات التي لا تعقد جلساتها، فكل طرف يدّعي انه الأسلم في التوقف، والأحكم في التصرف، ولكيلا أعمّق الخلاف فسأصرف النظر عن تحديد المسؤولية، وكيف لا اصرفه والواعون يعرفون الموضعين في التخذيل، الساعين لإفشال المبادرات، المربكين لكل لقاء يعوّل عليه المقهورون تعويل الظماء على احتساء قراح الماء، ولسنا نبحث عن النجاة بقدر بحثنا عن توصيات متواضعة، تحفظ ماء الوجه، وتحق بعض الحق، بوصفه ضالة كل مخلص لمجمل القضايا: المحلية والعربية والإسلامية والعالمية. ومن المسلمات المغفول عنها عند المشاحة، تشابك مصالح العالم، وتداخل قضاياه، إذ كل فعل فج ينعكس أثره على المشاهد: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، وواجب قادة الفكر وسائر المؤسسات تحامي السلبيات والدعاوى الطوباوية، وما أضاع المثمنات إلا الهدهدة بمعسول الخطابات، ولما لم يكن بالإمكان تصفية الآخر، ولا إقصاؤه، ولا الإيثار على النفس، فلا أقل من تجافي الأثره، ولم يبق - والحالة تلك - إلا التعاذر والتعايش والاحتفاظ بأدنى حد من الحق والخصوصية، والدخول على القضايا برؤية متوازنة تحفظ الحقوق، ولا تسيء للجار الجنب ولا للصاحب بالجنب. والإسلام الوسطي وجّه إلى العدل بمحكم التنزيل :-{ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} و{وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}، و{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} فالقسط والعدل مع الأقربين والأبعدين مقتضى إسلامي، والعدول عنهما وقوع في الظلم من القادرين، واستعداء للآخر من العاجزين، وما أكثر المجازفين في القول العاجزين عن درء التعديات.
والخطابات التهييجية والمزايدات الرخيصة واللعب بعواطف الدهماء تعودناها في ساقة المؤتمرات ومقدماتها، الأمر الذي يضطر ذوي الحلم والأناة إلى بذل أقصى الجهود لتفاديها: إما بالغياب، او المغالبة، او بالتمرير السلبي، وما أفقد القمم السابقة أهميتها إلا التعنّت، لكسب الرأي العام، والذين يعوّلون على المزايدة أو الاستفزاز لا يلوون على مثمنات، ولا يخشون عواقب الأمور، ولا يلتزمون بعهد، ولا يوفون بذمة، وهم في مزايداتهم واستفزازاتهم يخاتلون ذاكرة عربية مخروقة وغفلة معتقة. ولو أن الرأي العام يملك القدرة على الحفظ والاسترجاع، لكان أن أحبط اللعب وعرّى اللاعبين، وأصحاب المواقف المسؤولة لا يقبلون بالقرارات الحبرية التي تأخذ طريقها إلى رفوف الجامعة، كأي قرارات فوق الإمكان، وما قتل الأحرار إلا معرفة الحق والعجز عن إدراكه ومعرفة المبطل والعجز عن مواجهته.
والتأجيل المفاجئ جاءت تداعياته في الشارع العربي متراوحة بين اللامبالاة، والمؤاخذة، والتبرير، والسخرية، واجترار ما سلف من قمم. لقد تداوله نقاد المنافي وحداد الألسنة وألدوا الخصام ومحترفو السياسة عبر آليات ومناهج ومقاصد متباينة، وأصحاب القضايا أكثر تخذيلاًَ. فالعراقيون قللوا الأهمية من الإمضاء أو الإلغاء، والشارع العراقي المنشق على نفسه جسد انشقاقه من خلال آرائه، فطائفة استدعت مواقف القمم السابقة من الشأن العراقي، ولم يكن الاستدعاء بريئاً، وإنما ارتبط بمواقف: ذاتية وحزبية وطائفية، ومن الصعب التعويل على شيء منها، لكونها وليدة انفعال تستدعيه الظروف السيئة التي يمر بها الشعب العراقي، وتماهى فلسطينيو: الشتات والداخل مع تشاؤم العراقيين، وتراوحت آراء من سواهم بين المثالية والواقعية والتفاؤل والتشاؤم، وبما أن القمة غير قادرة على اتخاذ موقف حاسم في الشأن العراقي فإن المواطن العراقي لا يجد بداً من النيل من المؤتمر في حال انعقاده أو تأجيله أو إلغائه. والشأن العراقي يشكل عقبة صعبة التطويع للمؤتمرين، كما القضية الفلسطينية، فما كان وليد ظرف طارئ، وإنما هو نتيجة تراكمات من الأخطاء والسلبيات على مدى ثلاثين عاماً، ولما لم يحسم شيء منها في حينه، فقد أصبحت فوق الطاقة، وتحميل قادة الأمة العربية للقضايا المستعصية فيه إجحاف، فالإنسان العراقي عليه كفل من ذلك، واللعب الكونية المحكمة الصنع على صانعيها ومنفذيها والضالعين والمدلسين كفل من ذلك، وإدانة الشاهد دون الغائب أبعد للتقوى، وعقلنة التصرف تستدعي تمحيص المواقف، وتحرير القضايا، وتحديد المسؤوليات.
ووسط طوفان الآراء والمواقف لا أجد غضاضة من إرجاء القمة، لمزيد من المراجعات والمشاورات، وتلافي نقاط الاختلاف، والبأس كل البأس ألا تعقد القمة، أو أن تعقد ثم لا تفعّل التوصيات، والخرّاصون يجعلون إصلاح الشأن العربي وتجديد هيكل الجامعة بؤرة التوتر، إضافة الى الشأنين (العراقي) و(الفلسطيني)، والمهم هو الإسراع في اللقاء والوصول إلى صيغة مناسبة للإصلاح الشامل ومواجهة معقولة للأحداث الجسام، والمتسرب من مداولات وزراء الخارجية حول الشأن العراقي لا يعد محرجاً، ولا مسيئاً لأحد، فالمتوقع ان المؤتمر سيرحب بالدستور العراقي، ويستنكر استهداف المنشآت العراقية والإنسان العراقي، ثم ان الدول العربية مقتنعة بحتمية الإصلاح الشامل، وهي مقبلة عليه، ولكنها محكومة بخصوصيات وإمكانيات وأولويات وأنساق ثقافية واجتماعية ودينية لا يمكن معها تجانس الأداء ولا توافق الإيقاع، كما ان القادرين على دفع الضرر لن يسلموا لكل تطلعات التحالف حول صيغة (شرق أوسطي كبير) لما تنطوي عليها من تمكين جائر لإسرائيل وتفعيل سريع للعولمة وتعميم شامل للعلمنة.
ومما يرفع من درجة التوتر أن الناس ينظرون إلى المؤتمرين على أنهم قادرون على كل شيء، وأنهم أناس يختلفون عن سائر الأناسي، فكأن لهم عقولاً تختلف عن عقول العامة، وأفئدة تختلف عن أفئدة الخاصة، وأنهم يفعلون ما يقولون، ولا يُسألون عما يفعلون، وما علموا أنهم محكومون ب(استراتيجيات) عالمية، وأحلاف ثنائية، وظروف معقدة، وإمكانيات متواضعة، ولو أن العامة نظروا إلى كافة المسؤولين كما خلقهم الله، ما وهنوا، وما استكانوا، ولما استيأسوا من روح الله.
ولقد كنت من قبل أحسب ان كل مسؤول يأتي على قدر من مسؤولياته، وأن كل بطل يولد على صهوة جواده، حتى إذا تمكنت من المتابعة والرصد والتقويم والوقوف على دخائل الأمور، تبين لي أن منهم من يقول ما لا يفعل ويدعي مالا يقدر عليه، ومع تلاحق الإحباطات يجيب ألا نيأس، وألا نبتئس، وألا نبخس الناس اشياءهم، فكم من رجل يعدل ألف رجل، وكم من مئة من الإبل لا تكاد تجد فيها راحلة، والشارع العربي معه بعض العذر، فالارتباك المعاش جاء من شدة الصدمة وتلاحق الإحباطات، ومن ثم راح الناس يتساءلون، ويلحون في التساؤل: هل قرار التأجيل جاء بإرادة عربية مدركة لتصرفها، مسبوقة بتنسيق مستعجل مع خاصة الخاصة، أم أنه جاء بالإكراه؟ المؤكد أن بوادر الفشل لاحت في الأفق في وقت مبكر، وكانت هناك تنبؤات لتعثر المؤتمر بسبب اعتذار بعض القادة من ذوي الوزن الثقيل، وأياً ما كان الأمر فإن إلغاء القمة أو تأجيلها لن يكون بدون أسباب جوهرية، وبدون ظروف ضاغطة لا يمكن احتمالها أو التغلب عليها، ولقد أحال المتنبئون إلى تخوفات (الرئيس الجزائري)، حيث وصف القمة بأنها تمر بحالة من الغموض المؤدي إلى تعثرها، ولم تشر هذه التخوفات إلى إلغائها أو تأجيلها، وإن أحيل التخوف إلى اعتذار البعض عن حضورها.
وإرهاصات الفشل تبدّت في الجلسة الأخيرة التي امتدت خمس ساعات وارتفعت فيها حدة التلاسن بين ثنائيات عربية، ولقد كانت نقاط الاختلاف المتداولة تمس قضايا حساسة مثل:
* الإصلاحات السياسية والدستورية والاجتماعية التي يلوح بها الغرب تمهيداً لشرق أوسطي كبير، تخترق فيه إسرائيل والعولمة والعلمنة اقتصاد العالم العربي ومؤسساته وثقافاته.
* تفعيل دور المرأة العربية في مختلف الحقول الإجرائية.
* قبول صيغة للديمقراطية المؤمركة.
* إعادة هيكلة الجامعة العربية بشكل يؤثر على السيادة الإقليمية.
على أن التفاعل مع الطرح الأمريكي يشكل حساسية مفرطة بسبب فجوات الاختلاف الواسعة، فمن (مرتمين) في الأحضان، إلى (متمنعين) مبقين على التواصل، إلى (متأبين) لكل طرح. ومستويات الموافقة المطلقة، والوسطية المتوازنة، والرفض العنيف لكل الطرح الأمريكي ربما كانت من (محفزات) الفشل.
وفوق كل ذلك فقد لعب بعض المؤتمرين دوراً تحريضياً استفزازياً لتأزيم المواقف والحيلولة دون الوفاق، ومن يدري فكم تحت السواهي من دواهٍ والسياسة فن الممكن، كما أن بعض الوزراء المجهِّزين للقمة لم يفسح لهم في الوقت لمزيد من التقريب بين وجهات النظر، فيما لم تستغل طائفة منهم القواسم المشتركة، حتى إذا ضاق عطنهم عن احتمال الاختلاف تمخض الموقف عن التأجيل، ولربما تصور المضيف إن اختلاف الوزراء سيحول دون تجهيز صيغة توفيقية لخروج القمة بتوصيات مناسبة، ولقد قيل بأن (الأجندة) الإقليمية والعربية شارفت على النهاية، واتجهت صوب الاتفاق او التوفيق، ومن ثم جاء قرار التأجيل صدمة مذهلة للمؤتمرين أنفسهم، الذين لم يدر بخلد أحد منهم أن الأمر سيصل إلى هذا الحد.
ولربما كانت هناك أوراق عمل وفد بها أصحابها لم تكن في الحسبان حدت بالزعيم التونسي لاتخاذ قرار التأجيل، وهو قرار أسخط الناس جميعاً، وحمّل تونس كل التبعات، ومع كل ما سبق فإنه لا يمكن العدول عن مناقشة التأجيل بحكمة وروية، فالحكم المطلق عليه قد يعمق الإشكالية، وتونس دولة مضيفة، ومن حقها تفادي الصدام أو الفشل، ولعلها لم تر أفضل من الإرجاء لمزيد من الدراسات، فما عاد الشارع العربي يقبل بالتمييع أو بالتنابز، والتأجيل فيما أرى افضل بكثير من الصدامات والسلبيات، فما عدنا نحتمل المزيد من الأخطاء والمزيد من العجز عن مواجهة الظروف العصيبة.
ولتصعيد النيل قيل: بأن الزعيم التونسي انفرد باتخاذ القرار بناء على توصية من امريكا، ولاسيما أنه عائد منها قبل القمة، وقد تحال تلك المقولة إلى عقدة التآمر، والتآمر والغزو قائمان، ولكنهما ليسا بهذه العمومية، ويحول دون صدقية هذا التوقع - فيما أرى - إسراع الدول الأكثر وسطية والأكثر تفاهماً مع أمريكا إلى التعجيل بعقد القمة في أقرب فرصة، ولو أن امريكا وراء الإلغاء لكان أن مارست ضغوطاً مماثلة على الدول القوية والمؤثرة في المنطقة، ولو أن امريكا حريصة على الإصلاح السياسي والاجتماعي كما يشاع لكان تنفيذ المؤتمر تعجيلا للإصلاح الذي تريد.
وفي هذه الظروف العصيبة التي تداعت فيها أيدي الأكلة على قصعة الأمة يجب على المتابع السعودي، وقد هيأ الله له أجواء ملائمة لرصد التقلبات السياسية أن يمارس الحياد الإيجابي، بحيث يتقي التأثر السلبي بالمتغيرات المفاجئة، إذ كل من تمكن من الرصد السليم للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية يود أن بينه وبينها امداً بعيداً. وليس في الحياد الإيجابي إلغاء للذات والأثر والتحرف للأفضل، فما من عاقل رشيد إلا وعليه كفل من نوازل الأمة، وإن لم ينفر المقتدرون لسد الثغور وحماية المكتسبات فإنه سينزل بساحاتهم ما يقض مضاجعهم، والإحجام والإقدام إن لم يُقدّرا يزيدان في الارتكاس، ولأن الواقع العربي والعالمي بلغ من التعقيد والتوتر حداً لا مزيد عليه فإن على أهل الحل والعقد التريث في المواجهة والاستشارة والاستخارة والمقاربة الرفيقة، فما عاد بالإمكان احتمال مزيد من المغامرات، ومع أن التعنت الأمريكي والاعتداء الإسرائيلي لا يحتملان، إلا أن بالإمكان احتمال الأذى والصبر والمصابرة والمرابطة والانحناء للريح الهوجاء لتمر بسلام، ومؤتمر القمة وإن استجاب لكل (الأجندة) فإنه لن يخرج بقرارات مصيرية، ذلك أنه يواجه ب(الاستراتيجية) الإسرائيلية التي لا تطاق وبمقتضيات احتلال دول التحالف التي لا تحتمل، وبالضعف والهوان، وبالتردد العربي في تحقيق الإصلاحات السياسية كما يريدها الغرب.
وصفوة القول: إن الذين يحرّضون على تقحم المشاكل دون النظر في الظروف والملابسات والإمكانيات وعواقب الأمور، يعرّضون مكتسبات الأمة لمزيد من الضياع، والمثبّطون الوجلون السلبيون الذين لا يهتمون بأمور أمتهم، ولا ينهضون بمهماتهم على وجهها، يتركون ثنياتهم للمترصدين والمتربصين، والمستغربون أدلاء كما الأغربة، وما أضاع الأمة إلا المغامرون الذين ينكبُّون عن ذكر العواقب جانباً، وإلا الهيابون الوجلون الذين لا يزيدون أهلهم في ساعات العسرة إلا خبالا، وإذا كان للصعود في سلّم المجد ناموسه فإن للانحدار في درك الضعف اسبابه، وجهل النواميس والأسباب مؤذن بمزيد من الانكسارات.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:32 PM

هوامش على ( ملتقى قراءة النص)..!
د. حسن بن فهد الهويمل


قد يجتالني شيطان الغرور، فأقول عن نفسي ما قاله المصاب بجنون العظمة:- ما حطَّ من سفر إلا الى السفر، فكأنه موكل بفضاء الأرض يذرعه. وأحسب أنه ليس مهماً متابعة المرء للأسفار، ولا تعدد المهمات التي يُندب لها، أو يُدعى إليها، ولا المناصب التي يتبوأ غرفها، وإنما المهم ما يتركه من أثر حسن في كل مهمة ينهض بها، أو موقع يحل به، قلّ ذلك أو كثر، وما أكثر الذين تكشف المسؤوليات سوءاتهم، وما أكثر الذين يطيلون الكلام، ثم لا يقولون شيئاً، وما أكثر الذين يطوفون ابتغاء النجاة من الهلاك فيهلكون كما ( تأبط شراً)، وما أكثر الذين يقترفون إصدار الكتب التي لا تساوي المداد والورق، وما أكثر الذين يتمطون بتثاقل على أنهر الصحف ثم لا يقرؤهم إلا المجيز والمصحح والطابع، ومهما خبَّ الإنسان أو وضع، ومهما طار وارتفع، فإنه عائد الى الارض التي انطلق منها، و(حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)، حتى ولو كانت ( العضباء) ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. و:-(ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع)
فكل إنسان له حد ينتهي إليه، ولقد قالت الأعراب:-( ما رأيت علة كطول سلامة)، فالمعافى من الأمراض يرقبه على مشارف الطريق أرذل العمر، وساعتها لا يعلم من بعد علم شيئاً، والحكمة الربانية بادرت الأنبياء والرسل بالموت، وهم في أوج عطائهم، لئلا تتحول هيبتهم، وتختلط أقوالهم. والذين على شيء من أصول علم ( الحديث) تمر بهم مصطلحات ك ( الاختلاط) فالثقات حين تتقدم بهم السن، ثم يروون أحاديث في أرذل العمر، يتحفظ عليها أصحاب السنن والمسانيد والصحاح، لتكون دون الصحيح، مع أنهم فيما رووه في أشدهم يعد صحيحاً، ومن ثم يقال :- فلان ثقة فيما رواه قبل أن يختلط، وما دام أن كل إنسان سيرد هذا المورد، فإن على الكيِّس أن يعيد ترتيب أموره، قبل أن يقع في أوحال الشيخوخة، وبالذات ( أهل الدثور)، ممن يرقب وارثهم عجزهم أو اختلاطهم، ليحجر عليهم، والحجر حبس، يكون فيه المالك مسلوب الحرية، لا يختلف عن نزلاء دار العجزة، تحدد وجباته ونفقاته، وما أكثر المسوِّفين من المقتدرين ورجال الأعمال الذين إذا حضرتهم الشيخوخة قال مفرطهم:- ياليتني أرد فأتسلط على مالي أنفقه في سبيل الله، ولكنها كلمة هو قائلها، ومن ورائه ندامة ( الكسعي).
لقد تداعت هذه الهواجس المخيفة يوم أن خالطت البعض في أشدهم، ثم رأيتهم بعد أمة على أعتاب الشيخوخة، فرأيت خلقاً آخر، وسبحان المغير الذي لا يتغير، ومتى تقدمت بالمرء السنون فإن حاله تختلف، وانطباعاته تختلف، ومواقفه تختلف، ورؤاه تختلف، والذين لقيتهم في خريف العمر، وهنت عظامهم، واشتعلت رؤوسهم شيباً، ينظرون الى الحياة بعيون مودع، ومشاعر المودع تختلف عن مشاعر المستقبل، وكم كنا نستقبل صرخة المولود بالضحكات، ونودع أنين المحتضر بالتنهدات، وما من حي إلا وله موعد مع الأنين، فماذا أعددنا لهذه اللحظات الحرجة؟!
عفا الله عن ( أبي عثمان الجاحظ) أمير البيان وشيخ الاعتزال، فلقد شوَّق لي الاستطراد، وحبب لي تداعي الأفكار، وقذف في قلبي حب السبحات في آفاق المعرفة والتأمل في أحوال الناس من خلال تحولاتهم، فما عدت أستنكف من ذلك، وإن رآه المنهجيون إخلالاً في الخطة وخطوات الكتابة، ثم إن لهذه الموعظة الحسنة دواعيها.
لقد جئت الى ( جدة) بغرام غريق، وهوى لا يفيق وذكريات عذاب، جئتها وأنا غلام اذا هز القناة ثناها، وعدت اليها وانا على اعتاب الشيخوخة، والتقيت بإخوة وزملاء من مفكرين وأدباء وإعلاميين، يحمل كل واحد منهم هموماً أدبية وفكرية، جئت مشاركاً في ( ملتقى قراءة النص الرابع) وكنت قد جئت في (الملتقى الأول) قبل خمس عشرة سنة أو تزيد، وكنت إذ ذاك مجادلاً لا تغمز لي قناة، ولا يعزني مخاصم بالخطاب، أما اليوم فكنت متسامحاً، لا أكلم الناس إلا رمزاً، مما جعل البعض يظن ذلك تراجعاً في الموقف من الحداثة أو مداهنة للحداثيين، وما عرفوا أن للزمان حكمه، وللتجارب احكامها. وعلى هامش (الملتقى الرابع) تعددت المناسبات، حتى كادت تطغى الهوامش على المتن. هذه الهوامش ذكرتنا بالأيام الخالية، أيام الشباب، فعلى هامش الملتقى دُعي المشاركون الى لقاء الإعلاميين في منزل الاستاذ ( عبد المقصود خوجة)، وهو من هو في كرمه وطيب معشره ومشاطرته. وصالونه العامر بسديد القول، وصفوة القوم، وتنوع الأطياف، وتفاوت الأعمار من أعرق الصوالين وأجداها، مع ما بشر به رواد صالونه من نقلة نوعية، تتمثل بتحويله الى مؤسسة مستقلة، لها دخلها الثابت وأعضاؤها الأخيار، وهذا اللقاء الممتع جمعنا برجال الإعلام المتقاعدين والعاملين والمتعاونين الذين تقاطروا على المنصة ليحدثونا عن ذكريات خُضر وأُخر يابسات. في هذا المساء رأيت فعل الزمن وكر الجديدين، نظارات مقعّرة، وعصي تحنى عليها الاصابع، وظهور محدودبة، وخطوات متقاصرة، وأصوات خافتة مبحوحة، وأطراف مرتعشة، وكم كانوا من قبل يملؤون الرحب بأصواتهم الجميلة وكلماتهم العذبة، نسمعهم من الإذاعة، ولا نراهم، ونتصور أن تلك الأصوات الندية تهبط علينا من السماء، كما الطل على جنان الروابي. كان ذلك يوم أن كانت الاذاعة سيدة الموقف، لا تزاحمها قنوات، ولا تهمّشها مواقع، ولا ثورة اتصالات.
وكيف يتصور طفل مثلي مذيعاً يتحدث من جهاز صغير، لا يقدر على امتلاكه، ولا على حرية استماعه، فلقد كانت حيازة ( الراديو) من الموبقات، حتى لقد كنت أعرك اذني حين استمع الى المذيع، لكيلا يعلق بها وضر الاثام، تشكلت صورة أولئك في ظل هذه الظروف، فكانوا في تصورنا كالغول، أو كالعنقاء، أو كالخِل الوفي، و( الخوجه) اعتاد على تكريم الصفوة، ولقد طالتني أفضاله حين كرمني يوم 14-7-1414هـ أي قبل عشر سنوات.
وفي هذه السهرة الممتعة في ساحات قصره، كرّم رمزاً من رموز الإعلام، عرفناه من قبل ومن بعد ب( بابا عباس) إنه الاذاعي والدبلوماسي والقانوني ( عباس فائق غزاوي) بكل ما يحمله من وقار العلم، وحكمة التجارب، وإشراقات ( الدبلوماسية)، ومن حوله عشرات الإعلاميين العاملين والمتعاونين والمتقاعدين.
لقد كانت ليلة متحفية أخرجت الارض أثقالها من رجال الكلمة المسموعة الذين جفوناهم في وقت هم احوج ما يكونون الى الذكر والتكريم. وكنا قد قضينا ليلة سلفت كُرِّم فيها الشاعر الفذ ( إبراهيم العواجي) حضرها صفوة الادباء والنقاد، فكان أن جمعت السهرتان خيار الادباء وعمالقة الاعلاميين يتحدثون عن اخبارهم، وكأنها اساطير الاولين اكتتبوها او امليت عليهم، وحين بدأ حديث الذكريات في ليلة الاعلاميين، عدت الى طفولتي، وأحسست أنني اعدو في الفيافي والقفار، وأسبق ظلي، تذكرت الأموات، وتعرفت على الأحياء، تذكرت (عبدالله بالخير) و( الزمخشري) و( يونس) و( الذيابي) و(الشعلان) ، ولقيت (كريم، وصبحي، ونجار، والعسكري) وعشرات آخرين، وتقت إلى لقاء (العيسى، والشبيلي، والشبل، وغالب)، وذكروني بالمتعاقبين على الوزارة، ممن تليت كلماتهم بالإنابة، ذكروني بمعالي الشيخ (إبراهيم العنقري) بكل رزانته وبعد نظره، وبمعالي الأستاذ (علي الشاعر) بكل حزمه وانضباطه، وبمعالي الدكتور( محمد عبده يماني) المتألق بحضوره الفاعل، وبمعالي الأستاذ (جميل الحجيلان) الذي أجمع المؤتمرون على سمو أخلاقه وبراعة قيادته، وبمعالي الدكتور (فؤاد الفارسي) بتفتحه وتفاعله.
لقد كان ( ملتقى قراءة النص) مناسبة طيبة جمعتنا برجال الفكر والأدب والإعلام، وجاءت على هامشه أشياء لا تقل أهمية عما دار في الجلسات من قراءات ومناقشات، ومع ما أحس به من سعادة بهذه المناسبة، فقد استأت من عزوف الكثير من الادباء وانشغال كبرائهم عن الحضور الفاعل، وضقت ذرعاً ببعض مداخلات وتعليقات توازعتها جلسات الملتقى وصفحات الصحف، ولست ببعيد عن مثل هذه اللقاءات وتلك المناكفات، فلقد حضرت (الملتقى الأول) الذي يشيد به من لم يشهده، وحضرت ( الملتقى الرابع) الذي يسخر به من لم يشهده أيضاً، وسمعت لغطاً فارغاً وتحاملاً مشيناً، ف( الملتقى الأول) كما يقول بعض المجازفين في الاحكام: حفل بأساطين الفكر والادب، فيما جاء ( الملتقى الرابع) هزيلاً يمثل الانكسار، وهكذا تتحكم المذهبية المنغلقة على نفسها في أهواء البعض، ولست معنياً بتزكية الملتقى، ولا بالدفاع عن المشاركين، فما من عمل ولا عامل إلا وله نصيب من التألق، وعليه كفل من الاخفاق، وكل الذي يهمني احترام المصداقية، والتخلي عن الشللية، ولزوم النقد الموضوعي البناء.
ذلك أن تعميم الاحكام يصيب أقواماً بجهالة، فالملتقى حفل بأساتذة وأدباء وباحثين، اصاب من اصاب، وأخطأ من أخطأ، وهم احوج الى من يفكك بحوثهم، ويوقفهم على مواطن النقص والتقصير.
أما الحكم على فشل الملتقى، وتعميم سمة الضعف على كل الأوراق، والتقصير من كل المشاركين والسخرية بهم، فأمر لا يقبل به أحد، وهو مؤشر فشل ذريع وتصوح معرفي.
وحين تكون الشنشنات معروفة ومتوقعة لا تزيد المسهم المتفاني والمتابع الجاد إلا ثقة بالنفس.. ورئيس النادي وأعضاؤه الذين لم يجدوا ما يحملون الملتقى عليه إلا أن يقترضوا مؤنة الملتقى، ولما يقصروا في تحمل تبعات الاستقبال والتوديع والتنظيم، جديرون بأن يقال لهم: أحسنتم لأنفسكم ولمشهدكم الأدبي، واذا نقم البعض من ضعف الاوراق، وعدم جدية بعض المشاركين، فليس من اللائق الاطلاق، وليس من ادبيات الحوار نسف كل الجهود، ولو أني عنيت وحدي بشيء من الملام، لآثرت الصمت، وما ضقت من همزات ولمزات سمعتها تتكرر من ثلاثين سنة، كاتهام ورقتي بالإقصاء والمصادرة ونفي الآخر، ولو أن القائل تواضع، وتغلب على هواه، وقرأ الورقة، أو تلطف واستمع بأذن واعية، لكان أن هدي إلى مواطن النقص واهداها إلينا، فهي ضالتنا وحاجتنا.
وعيب مشاهدنا أنها أوزاع، تعرف ما سيقوله كل فريق، فكل واحد رضي برمجة نفسه، ليكون كآلة التسجيل تغمزه فيقول ما استودع من قبل، حتى في تجمعهم داخل القاعات أو خارجها، يأوي بعضهم الى بعض، يكثرون لمشايعة من يهوون، وإن كان أعيا من ( باقل)، وينفضّون من حول من لا تهوى أنفسهم، وإن كان أفصح من ( سحبان وائل) ، ولأنني لست منتظراً من يثبت أقدامي بمنافحته، ولا خائفاً ممن يزلقني ببصره فإنني مستاء للمشهد الادبي، متألم من استفحال الشللية، فزع من جور الاحكام، حتى لقد قال أحدهم:- إن فشل ( الملتقى الرابع) بسبب غياب عضو من أعضاء النادي، وكأن الساعة آتية إن لم يعد هذا العضو لإيقاف عجلة التدهور، وما هذا القول إلا مؤشر على تصوح المشهد الادبي. واذا كنا نتحفظ على بعض الأوراق ، ونستاء من بعض المتحدثين فإن ذلك لا يستدعي أن نقول :-( ردة ولا أبا بكر لها)، ولقاء مثل هذا يحتاج الى حضور، يستمع الى القول، وينقب عما في الاوراق من تقصير في المادة أو خلل في المنهج، ثم لا يجد حرجاً من محاورة المنتدين، وأيُّ منتدى كهذا، يحتاج الى صحافة يقرؤ مناديبها الاوراق، ويقدمون ملخصات لها، والى متابعة اخبارية، لا تبخس المؤسسات الثقافية اشياءها، والمؤسف ان الملاحق الادبية في صحفنا، محرمة على بلابلها، حلال للطير من كل جنس، وفي ذلك انهزام وتقصير، واذا كنا نحتفى بالآخر، ونفسح له في صحافتنا، فإن من حقنا أن نحصل على مساحات مماثلة في ملاحقهم، وكم اشفقت على مساكين من ادبائنا، يعرضون انفسهم على من ينظرون اليهم باحتقار، ولو أنهم صانوا كرامتهم، لكانوا أنداداً، يفترسون حقهم، ولا يستجدونه.
ولقد شاهدت مواقف مخجلة في مؤتمرات حضرتها في الداخل والخارج، تتمثل في تهافت شبابنا وبعض كهولنا على أصنام لا تحمل طهر الصنم- كما يقول أبو ريشة -.
والذين مجدوا ( الملتقى الأول) ونالوا من ( الملتقى الرابع) أحالوا المكارم الى فلول الحداثة الفكرية، ممن جيء بهم من خارج البلاد، يوم أن كانت الحداثة على أشدها، أمثال ( كمال أبو ديب) و( جابر عصفور)، حتى لقد ذكرهم الناقمون من الملتقى بأسمائهم، وكأن ليس في بني عمهم رماح، وإذا كنت ممن حضر الملتقى الأول، ونافح عن قيم التراث، فإنني مشمول بكرم المشيدين به، مع أنهم القوم الذين يشقى بهم جليسهم، لقد ضاقوا بي ذرعاً، غير أنني مع هذا لا أعباً بثناء القصد، فضلاًً عن ثناء الشمول، وحاجتي فيمن يمحضني النصح، لا فيمن يستدرجني بالمدح. لقد جاء ( الملتقي الأول) في عنفوان الحداثة، وقدمت فيه ورقة تغيظ الحداثيين، حيث أبنت فيها عن ملامح الموروث في النقد الحديث، حتى لقد سخر قوم، واستاء آخرون، ونقبت طائفة منهم في تلافيف الورقة بحثاً عن أخطاء في المنهج أو نقص في المعلومات، ولم أستنكف من مراجعة ورقتي، ولا من قبول الحق، لأنه ضالتي، وقدمت في
(الملتقى الرابع) ورقة عن ( قصيدة النثر) وقطعت بعدم شعريتها، غير أن مداخلات البعض لم تحفزني على المراجعة، لأنها أحكام جاهزة مهترئة من الاجترار ، والورقة مطروحة بمادتها ومنهجها وموقفها، وهي أحوج ما تكون الى ناقد مقتدر، يصدع بالحق، ليقول فيها ما يسد خلالها، وليست بحاجة الى هجاء مفحش، ولا الى مدَّاح مداج.
ومع كل ما سلف فإنني مشفق على كل الذين حاولوا وضع العصي في عجلات المؤسسات الفاعلة، متمنياً أن يقولوا عن فعالياتها الحق، وأن يمارسوا النقد الموضوعي الذي ينفي عن مشاهدنا ما علق فيها من سلبيات ما كان لها أن تظل معوقاً لمسيرتنا المباركة.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:33 PM

قول في لغة القول..!
د.حسن بن فهد الهويمل


- أذكر أنني قبل سنوات عبرت أحد ممرات الجامعة راجلاً في طريقي إلى قاعة الامتحانات للمراقبة، فشاهدت على جنباتها أكداساً من مذكرات الطلبة مطروحة في الطريق، ولما أن استهواني عنوان مذكرة في خمس ورقات عن (تنمية اللغة)، استعرضت مقاطعها على عجل، ثم نبذتها حيث تركها صاحبها، وتبدى لها أنها محفزة للمطلوب، وليست مستوعبة له.
ولما لم تكن في مستوى تطلعي، ظلت الفكرة تساورني، حتى إذا طلبت مني (جريدة البلاد) قبل عقد أو يزيد الانضمام إلى كتابها، بدأت معها، وتواصلت كتابتي قرابة خمس سنوات على ما أذكر، وكان مما أطلت الكتابة فيه الحديث عن (تنمية اللغة) مما أتاح لي الوصول إلى المراجع التي تتناول تاريخ اللغة وفقهها وسائر علومها في التراث والمعاصرة وجهود (مجامع اللغة العربية) التي لم تشع في أوساط المعنيين، وخاصة في قطاع الترجمة؛ الأمر الذي أدى إلى فوضى المصطلحات. وكنت من قبل على صلة باللغة وعلومها يوم أن كانت (البنيوية) سيدة الموقف، عند نقاد (المغرب العربي) ومن شايعهم من المشارقة. ومن خلال تلك المتابعة تجلت لي عبقرية اللغة، وتبدى غناها، واستأت من عقوق أبنائها وتماديهم في النيل منها، والتمكين للعاميّات عبر الشعر العاميّ، وما واكبه من دراسات، الأمر الذي اضطرني إلى إعداد كتاب عن (الإبداع الأميّ المحظور والمباح)، ولقد وقفت على دعوات مشبوهة، تبناها مناديب الاستعمار ومَن حولهم من الأشرار. ولما تزل تراودني فكرة إخراج كتاب عن لغة أذن الله أن تحفظ بحفظ القرآن الذي وسعته: لفظاً وغاية. على أن تكون نواة هذا الكتاب المرتقب تلك المقالات التي رجعت في إعدادها إلى أكثر من مائة كتاب في القديم والحديث والمترجم، وكلما هممت بالعودة إلى تلك المقالات، لاستكمال ما ينقصها، وإعدادها للطباعة، صرفتني التزامات أخرى. ولقد حفزني على ذلك ما تعانيه اللغة من سوء في المناهج، وخلل في طرق التدريس، واحتفاء مريب بالعاميات، وشيوع للهجات المحلية في الصحف والمجلات وسائر الوسائل الإعلامية، وضعف عام في اللغة، يطول أقسامها في الجامعات، ويوهن عزم المبدعين فيها من شعراء وقصّاص وروائيين. وظاهرة الضعف اللغوي تشغل العلماء والتربويين، وما من أحد بادر بحل يوقف التدهور، وإن خامر الجميع خوف وتحرف.
- في تلك الأجواء المشحونة بالخوف والترقب، هاتفني صديق قديم، طواه نسيان التقاعد، فما عاد يذكر نفسه، فضلا عن أن يذكره الآخرون، وكانت له اهتمامات بالكتب التراثية، يسألني عن كتب سبق أن اشتريتها منه في سني الطلب، وكنا إذ ذاك نتداول الكتب فيما بيننا استعارة أو ابتياعاً. حين نحتاج نبيع ما يسدّ الحاجة، وحين نتسلم المكافأة الزهيدة من (المعهد العلمي) نشتري ما نحن في حاجة إليه، وكم أسفت على بيع كتاب لا يعوّض، ولكن الحاجة تلجئ الإنسان إلى بيع أعز ما يملك. وفي كتب التراث حكايات مؤلمة، ساقها العلماء والأدباء والمفكرون، صوّروا فيها ما يعانونه من شظف العيش، وقسوة الحياة، واضطرار بعضهم إلى بيع مكتبته أو بعض كتبه، وقد يبلغ الإحباط بأحدهم حدّ الإقدام على إحراق كتبه، نكاية بمن لا يقدرون العلم وأهله، كما فعل (أبو حيان). وحديث الأدباء عن المعاناة تمثل نواة (السير الذاتية). وما أتعس الحياة؛ فلقد كنا من قبل أشداء أقوياء نلتهم ما يقع في أيدينا من كتب وصحف ومجلات، نتبادلها عن طريق الاستعارة، ولما وسّع الله علينا بالمال والمساكن والوسائل، وأصبح بإمكاننا الحصول على ما نريد، تعطلت فينا أشياء كثيرة، وهنت قوانا، وضعُفت أبصارنا، وتشعبت مسؤولياتنا، فكنا ننظر إلى أكوام المعارف نظر المتحسر، فيما نجد من حولنا من الشباب الذين يتمتعون بما كنا نتمتع به من قوى بصرية وذهنية، ويمتلكون من الوسائل والأموال ما لم نكن نملك، يفرطون بقوّاتهم وإمكانياتهم وحياتهم التي لا تعوض.
- وكان فيما سأل عنه صديقي القديم الذي عانى ما عانيت من شظف العيش، ما ألف حول (الكلمات الدخيلة في القرآن)، الأمر الذي حملني على العودة إلى حقل اللغويات في مكتبتي، واستعراض ما يتعلق بهذا الحقل المعرفي. لقد قضيت بعض الوقت في سياحة علمية ممتعة، حرمتني منها صوارف المسؤوليات، والبحث في لغة القرآن، سواء في الصوتيات أو الصياغات أو المعاني أو الأساليب أو القراءات، وما يندرج تحت ذلك من نحو وصرف ولهجات واختلاف في توجيه المعاني والتأويل يفضي بالمهتم والمتخصص إلى آفاق رحبة فيها متعة واندهاش. وكلما انقطعت إلى التراث اللغوي أشفقت على المتهافتين على محدثات العصر المقوين من التراث، ممن حرمهم الله من ثروة لا تعوض. وكل مندفع وراء المستجدات دون تحصين وتأصيل، يورده الاندفاع موارد الهلكة.
- ولربما يكون من المفيد أن نشير إلى عنوان هذا المقال وهو: (القول في لغة القول) لما يوحيه من أن هناك لغة ليست من القول، وما لا شك فيه أن العلم الحديث القائم على الرصد والتجريب، والمعتمد على المختبرات والمعامل وجمع المعلومات، وتسجيل الأصوات، وتحليلها وتصنيفها وتوصيفها، أثبت أن للجسد لغة، وأن للعيون لغة، وأن لكل أمة سابحة أو طائرة أو ماشية أو زاحفة لغة، لا يفقهها إلا مَن لا تختلط عنده الأصوات. وها نحن اليوم أمام (برمجة اللغة العصبية) بين مندفع لا يلوي على شيء، ومتمنع لا يقبل بأي شيء. ولقد أشرت إلى لغات الأمم التي لا نفقهها، والجهل بالوجود لا يعني العلم بالعدم، وأثناء التقصي والمتابعة، وقفت على بعض المؤلفات المترجمة، ووقعت يدي على إبداعات روائية وقصصية وشعرية، تشير إلى لغة الجسد، وأحسن ما قيل في ذلك:
(وتعطلت لغة الكلام وخاطبت
عيناي في لغة الهوى عيناك)
كما عثرت على إشارات عن نباهة الحيوان. وتوسعت في الحديث حين تداركت على (البنيويين) قولهم عن (الإنسان بوصفه لغة) وتحفظت على المقولة المتداولة (الإنسان حيوان ناطق) وتبين لي فيما بعد أن الترجمة لهذه الكلمة محرفة، إذ ليس المقصود منه (النطق) وإنما المقصود (المنطق) ولم يتسن لي تقصّي هذا الخطأ الشائع، واتخذت سبيلي في البحث عن إمكانية اللغة لمخلوقات غير إنسانية، وسقت شواهد من القرآن الكريم حول لغة الحيوان والطيور والزواحف، وأن لكل أمة من الأمم لغتها، والله يقول: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} وهي مثلية متعددة ومتنوعة تنوع إمكانيات البشر، وقوله: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} وكذلك تسبيح كل شيء بحمد الله مما لا نفقهه. كل ذلك يثبت أن الإنسان لا ينفرد باللغة ولا بالضحك، وإنما ينفرد بحمل (الأمانة). وقد اختلف المفسرون في تحديد مفهومها، وليس ذلك مجال تقصيها، وقد يكون ما ذهب إليه فلاسفة اليونان من أن ميزة الإنسان (المنطق) لا (النطق) هو الأقرب، لمواكبتها بعض الرؤى حول (الأمانة) المعروضة على السماوات والأرض والجبال. فإذا كانت الأمانة هي أمانة التكليف، فلا تكليف إلا بالعقل، وإذا كانت الأمانة هي العقل، فهو مناط التكليف. ولما عدت إلى مكتبتي، تذكرت الشحيح الذي ضاع في الترب خاتمه، فأطال الوقوف، ودقق في التنقيب، وخاصة حين أكون بين كتب اللغة، ما تقدم منها وما تأخر. ولقد زاد اهتمامي بعلوم اللغة بعد أن اجتذب العلماء الغربيون منهج (البنيوية) من حقله الفلسفي إلى حقول اللغة والاجتماع والنقد، وبعد أن تهافت عليها من المستغربين من لا يحسن الفهم ولا يتقن الإجراء. ولقد سبق ذلك التهالك ظهور مدارس حديثة: شرقية وغربية، ووقوع طائفة من مثقفي العالم العربي في حبائل تلك المدارس، دون علم باللغة العربية ومعارفها، ودون إدراك للجذور الفلسفية لتلك المذاهب، مع العجز الواضح عن التطبيق السليم. ولقد عرض البعض للمفاهيم الخاطئة، وضرب مثلاً ب(التقويضية) ومترادفاتها: (التشريحية) و(التفكيكية) وسوف أعود إلى ذلك، متى يسره الله، والعودة ملحة، ولا سيما بعدما انزلق البعض في خضم النقد الغربي الموغل في المعيارية والمعرفية، ولقد سبقت لي إلمامات ترتبط بتعالق النقد الحديث بالمستجدات الغربية، حاولت فيها ردّ بعض الظواهر النقدية إلى التراث، وكان ذلك بعنوان: (ظواهر النقد الحديث وجذوره في التراث) ونشر في هذه الجريدة أيام (3، 10، 24-9-2002م). والمناهج اللغوية التي ابتدرها (سوسير) أشعلت معارك طاحنة، لم يخبُ أوارها، ولعل آخر صيحات المناهج منهج (التحويلية)، وصراع الرؤى حول (الاكتساب) و(الملكة) وهو صراع تلقاه البعض باندفاع غير محسوب، وكل مندفع لمذهب أو تيار يحكم بموت ما سواه، و(تشومسكي) رائد (التحويلية) مدرسة لغوية، لا غبار على حصافة رأيه وعمق تجربته، والإشكالية فيمن يراه البديل، لا فيمن يراه الرديف، ونحن لا نمانع أن يكون منجزه إضافة متميزة، نسترفده لا ننقطع له، إذ من المفيد أن نتلقى أطروحات الغرب، وأن نفهم ما فيها، ولكن من المضرّ أن نلغي ما نحن عليه، أو أن ننفي تراثنا، لنحل محله الطارئ الذي قد لا يسد خلة، ولا يستجيب لحاجة. وكم هو الفرق بين الاستفادة من الشيء والانقطاع له. لقد تحدث الأستاذ الدكتور (سعد بن عبد الرحمن البازعي) عن جرائر (استقبال الآخر) أي جعله قبلة كما يستقبل المصلي الكعبة، وذلك ما يفعله كثير من المتسطحين الذين طافوا يبغون نجوة لمشاهدهم الفكرية والأدبية من الهلاك المعرفي، فهلكوا هم بأنفسهم. وحين نتصدى للمستغربين والظلاميين فليس معنى هذا أننا ماضويون، نرفض الجديد، ونحرّم التعالق، ونجرّم الحوار المتكافئ، ونرحل إلى التراث، ولا نرحل به، ونشتمل به، ولا نستبطنه، ومن تقوّل علينا، فقد افترى الكذب، ولا يجتر مثل هذه المفتريات إلا من أعوزته الحجة، وخذله الدليل. وكم حاولنا جاهدين ثني هؤلاء عن تحميلنا ما لا نحتمل، ولكنهم لو رضوا بذلك، لسُقط في أيديهم. فنحن مع التجديد إلى أقصى حدوده، ومع المناهج الحديثة التي لا تلغي خصوصيتنا، ولا تمسخ صورنا، ولا تضر بتراثنا، ونحن أبداً مع الاستفادة، ومع الحوار، ومع تبادل المعارف، ولكننا لسنا مع الاستبدال والتخلي عن الموروث، ولسنا مع التقليد الأبله، ولا مع الفهم الخاطئ، والادعاء الكاذب، ولا مع الذين إذا خلوا إلى أساطين الغرب قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون. وإذا كنا نؤمن بأنه لا يمكن أن يكون هناك حضارة بريئة، فإننا في الوقت نفسه نثمن التفاعل والتقارض والتعالق والتثاقف، ولكن وفق ضوابط وآليات، ووفق إمكانيات استثنائية، يتوافر عليها كل داخل على الحضارات الأخرى، وما من داخل لم يؤصل لمعارفه، ولم يحرر مسائله إلا هو هالك لا محالة، وما أكثر المقتفين آثار الغرب بناجين، لأن اقتفاءهم غير واع وغير سديد، والراصد للتاريخ الفكري والأدبي والفلسفي المعاصر تتبدى له سوءات لا يجد أصحابها ورقاً يخصفونه لسترها، ومع التعري المخجل يظل العراة في مغالطاتهم يعمهون، وتجربة الاستغراب في انحدار، منذ (الطهطاوي) ومروراً بالصليبيين العرب أمثال (جرجي زيدان) و(سلامة موسى) و(لويس عوض) و(غالي شكري) وانتهاءً بأساطين الحداثة (أدونيس) و(عصفور).
- وحين نعود إلى (القول في لغة القول) نجد أنفسنا أمام تراث لغوي يعد من مفاخر الإنسانية عامة، وما أضاعه إلا العققة من أبناء الأمة، الذين عاشوا تحت وطأة الانبهار أو المواطأة. ويقيني أن اشتغال علمائنا الأوائل باللغة لا يضارعه أي اشتغال في أي لغة أخرى، وأن عراقة اللغة العربية لا تدانيها أية عراقة، وأن نماءها وهيمنتها لا يمكن أن تطاولها فيهما أية لغة في العالم. ذلك ما نعتقد، وإن سخر مَن سخر، وامتعض من امتعض. ومما يحز في النفس أن المبهورين بمنجز الآخر يسخرون من دعوى المفاضلة، فما دامت اللغة (ملكة)، فهي مشاعة بين الأمم كافة، ولا فضل للغة على لغة، وكل لغة تغني أهلها، وتسدّ حاجتهم، وإذ نمضي مع هؤلاء في كثير من رؤاهم فإننا نرى أن اللغات تتفاوت في عراقتها، وتراثها، وضوابطها، وما ألف فيها من معاجم، وما اكتشف فيها من تصريف واشتقاق وتوليد ونحت وتعريب ونقل، وما قعد لها من ضوابط، تخدم المباني والمعاني والجماليات الصوتية، وما اكتشف فيها من قدرة على استيعاب الحضارات البائدة والقائمة. واللغة العربية من أفضل اللغات وأعرقها وأحفلها بمختلف المعارف. لقد واجهت اللغة نقلات خارقة، لم تظفر بها أي لغة، وصمدت بكل اقتدار. فلقد كانت في الجاهلية لغة مشافهة وفن، ولغة شعر وعواطف، ولما أن وسعت كتاب الله لفظاً وغاية، دخلت في التحدي، فكان أن استوعبت لغة الدين الجديد، وما جدّ فيه من مصطلحات ومعارف وعلم في التفسير والفقه والحديث وعلم الكلام وأصول تلك العلوم، ثم واجهت تحديات الترجمة في العصر العباسي، واستوعبت حضارات سادت ثم بادت، ولم تلن لها قناة، وها هي الآن تواجه مستجدات العصر الحديث لتكون بهذا: لغة العاطفة والعقل والعلم. ولم تواجه خلال تلك المراحل الثلاث أية إشكالية، ولم يتحرف علماؤها لإجراء يؤثر على خصوصيتها، لا في مبانيها، ولا في معانيها، وإذ قلنا لناشئة الأمة وكهولها: خذوا حذركم، وانفروا جميعاً لحفظ لغتكم، قال قائلهم: هي محفوظة بحفظ القرآن، وما علموا أن الخوف على حَمَلَتها لا على ذاتها، ولقد حذرنا الله بقوله لرسوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}، فالقرآن الذي نزل بلسان عربي مبين سيظل كما هو، فيما نكون بالتفريط من الأعراف، فلسنا عرباً نشرف بعروبتنا، ولا عجماً نعذر بعجمتنا.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:33 PM

الإرهاب بين تضارب المفاهيم وتعدد الأسباب 1-2
د.حسن بن فهد الهويمل


- يحسن بنا، ونحن في لجة من مخاضات أُذن لها أن تقلب الأوضاع العالمية رأساً على عقب استبعاد الافتعال والانفعال، وقصر الحديث على التناول الموضوعي والبحث المعرفي، بعيداً عن صخب الخطابات التنصلية، ومآزق التزكية الذاتية، والانحاء باللائمة على الآخر، دون مصلحة أو برهان. ومتى اعتمدنا في تناولاتنا تبادل الاتهامات، وممارسة الإقصاء والإدانات، زدنا الوضع تعقيداً والحل استحالةً، وانفض سامرنا بوضع أشد انغلاقاً مما سلف، والمؤتمرات العالمية حين تقارب ظاهرة كالإرهاب، يحسن بها تجسير الفجوات وتجفيف المستنقعات، وأحسب أن أوضاع العالم المتوترة تستدعي الكلم الطيب، والقول السديد، والدفع بالتي هي أحسن، استجابةً لأمر الله:{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ومتى كان التعايش السلمي ممكناً فإن المصير الى ما سواه جناية بحق البشرية فوق أي أرض وتحت أي سماء وعلى أي ملة:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، والدين الإسلامي أقدر الاديان على وضع الحلول السليمة للأزمات المستعصية، وتوفير أجواء تحقق للإنسانية العيش الكريم، وكيف تتأزم الأمور في ظله؟ وهو لا ينهى عن البر والقسط لكل مخالف في العقيدة، ما لم يقاتل في الدين خاصة، أو يخرج المسلمين من ديارهم، أو يظاهر عليهم الأعداء والمحاربين، وما لم ينبذ المسلمون إليهم على سواء، ولن تتأتى الرغبات المشتركة إلا إذا حررنا مسائلنا، وقاربنا بين مفاهيمنا حول القضايا المشتركة، وحددنا مصادرها، ورسمنا أساليب مواجهتها، ومتى توخت الحضارات العدل والصدق، ووفرت الحقوق، ووحدت المواقف والمكاييل، أمكن الانتقال من الصدام إلى الحوار، ومن التناحر الى التعاذر، ومن التناوش إلى التعايش. ومجموع تلك الهموم الممكنة تتشكل منها تلك المقاربة الحذرة.
- ولما كنا نود الحديث عن إشكاليات الإرهاب المتمثلة باختلاف المفاهيم وتعدد الأسباب وتنوع الانتماءات وأساليب المواجهة، اقتضى التناول المعرفي السليم تعريف كل مفردة بما يقربها الى الطرف الآخر، فإذا استقرت في الأذهان استقراراً معرفياً عقلانياً أمكن النفاذ الى صلب الإشكاليات، لتصورها أولاً، ثم اتخاذ أجدى الحلول وأهداها وأيسرها، وسوف يكون حديثنا عن المفاهيم والأسباب أولاً ثم نفيض الى سائر الإشكاليات، ولأن لكل طائفة من الأناسي والمفكرين والساسة رؤيتها وموقفها ومرجعيتها، فإن من أوجب الواجبات استكناه الرؤى والتصورات وحدود المرجعيات، ومحاولة التماس القواسم المشتركة والانطلاق منها، وحديثنا يمتد الى كلمات: تعريفية وإجرائية: ك ( الإرهاب)، ومفاهيمه و( الأسباب) وتعددها و( الانتماءات) وتنوعها و( المواجهات) وأشكالها، وتلك حيازات دلالية واجرائية، تتداخل كالدوائر، وتفترق كالمتوازيات، فما الإرهاب بوصفه ظاهرة؟ وما هو بوصفه فعلاً إجرائياً يمس أطرافاً معينين، ويقوم به أطراف معينون، ويقع في ظل ظروف معينة؟ ثم: ما الأسباب؟، والإشكالية ليست قصراً على تعريف جامع مانع، يتفق عليه كل الأطراف، وإنما هي في توحيد المواقف وتجنيس المواجهات، وأخشى ما أخشاه أن يتحول الإرهاب من مُفْرز لعبة الى لعبة مستقلة.
وكل التساؤلات عن الظاهرة وأسبابها مشروعة لكل طالب حق يطرحها بين يدي حديثه عن الإرهاب، ومن أراد إطفاء لظى الفتن لزمه التحري والتحسس عن وجوه الالتقاء، وهي ممكنة عندما يجنح الجميع إلى السلام لا الى الاستسلام. ومعضلات المفهوم أنها مرتبطة بالأزمنة والأمكنة والأحوال والمنفذين والمتضررين، وحين تخترق تلك المعضلات سدة المصطلح، لا يكون كما يجب جامعاً مانعاً، لاضطراب أحوال المتجادلين حوله، بحيث يتعذر الخروج بمفهوم جمعي، ولكن اليأس لا يمنع من زحزحة المشكل، ليقترب من فرصة الحوار، وقد يؤدي الحوار الحضاري الى تنازلات جزئية، لا تمس جوهر المفاهيم، ولكنها توفر أرضية مشتركة، تقترب بالمفهوم من هامش الاتفاق أو التعاذر، وعندها تمتلك الأطراف المعنية فرصة الخلوص من دوامة الاختلاف المعمق للظاهرة، والإرهاب بوصفه ممارسة غير منتمية مسَّ العالم كله بالضر، ولما تزل كل أمة معرضة لمزيد من الممارسات الإرهابية، ذلك أنه آلية لتصفية الحسابات بين الدول والأحزاب والطوائف والأعراق والحضارات، حفز إليه تعذر المواجهة العسكرية لحسم المواقف، كما أسهمت في تشكله المفاهيم الخاطئة للحرية والحقوق وأغرى به تنازع السلطات، وعمليات الإقصاء والمصادرة، وتلاحق الثورات الدموية، وإخفاق كل المشاريع الوحدوية والقومية والحزبية، وتجذر الانهزامية، وخيبة الأمل، ولربما أشعل فتيل الإرهاب تصادم المصالح، وتعارض الأهداف، وعدم توازن القوى وتعددها، والوقوع في إشكاليات القطب الواحد، وتفكك كيانات تنطوي على ( إثنيات)، وطائفيات وإقليميات، كل واحدة منها ترى أحقيتها بالاستقلال أو بالسلطة، مع عجز واضح وانحياز مكشوف للقوى القادرة على ضبط الإيقاع العالمي، ووقوع العالم في المتناقضات، التي أملتها اللعب وتناقض خطاباتها، فالإرهاب :- وضع العنف موضع الحوار، والهوان:- وضع الحوار موضع الدفاع المشروع، فإذا أمكن الحوار فلا مناص منه، وإذا قامت السلطة المشروعة العادلة الرفيقة فلا مقاومة، ومن مارس أحد النقيضين من عند نفسه، أسقط الأمة في الفتنة أو الذلة، ( والفتنة أشد من القتل).
- وتصور الظاهرة يسبق الحكم عليها، والخلفيات المعرفية والثقافية والفكرية لا تمكن الباحث من الاستعانة بنظرية معرفية بريئة، وقراءة الأشياء من درجة الصفر مستحيلة وغير مشروعة، والمعضلة في صدق النوايا وسلامة التوجهات، وليست في تعدد التعريفات، ومع ذلك لو عدنا الى مفهوم ( الإرهاب) في ظل كل هذه التوقعات، ومن خلال منظور إسلامي لوجدناه موازياً لمفهوم ( الردع)، فالدول الكبرى حين تخوض سباق التسلح وحرب النجوم، وحين تمتلك وزارات الدفاع عندها أخطر المعامل والمختبرات والتجارب الجرثومية والكيميائية والنووية فإنما تريد أن تكون مهيبة الجانب، وذلك ما حث القرآن عليه أمة الإسلام {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، ولم يكن الإرهاب بوصفه من مصطلحات الإسلام ممارسة فعلية للقتل العشوائي والتدمير الشامل، وإنما يعني الإخافة والردع، وليس المصطلح بمفهومه الإسلامي مرتبطاً بمفهومه الغربي المعاصر. و(الرهبة) تكون محمدة عندما تكون من العبد لربه، وقد أمر بها القرآن (فإياي فارهبون) و( وإياي فارهبون) وتكون مذمة من جانب المخلوق المبطل للمخلوق المتردد (واسترهبوهم) ومحمدة من جانب المخلوق المحق للمخلوق المبطل ( لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله).
و( الرهبة) و( الرهبان) مصطلحات دينية لديانات سلفت، والإسلام له مفهومه إزاءها، فهو يحفظ التوازن بين ( الرهب) و( الرغب)، و( الرجاء) و(اليأس) فلا رهبة دون رغبة، ولا يأس دون رجاء، وعقيدة السلف الصالح الوقاف عند الحدود وسط بين الخوف والرجاء. و(الإرهاب) بالقوة حين يقابل ( الردع) يكون مشروعاً وحقاً مشاعاً بين الحضارات، لتحقيق سنة التدافع، ولولاها لهدمت صوامع وبيع ومساجد، ومن وفر قوة الردع لنفسه، وحققها على مرأى ومسمع من الناس، فليس من حقه أن يحظرها على غيره، وما تمارسه الحضارة الغربية المتغطرسة من حظر للتسلح المتكافئ، يصل حد المحاصرة، والتدخل السافر في شؤون الغير مظنة ( الإرهاب) التدميري، الذي تحاربه كل الحضارات، بما فيها الحضارة الإسلامية. والذين يجعلون ( الجهاد) إرهاباً، يحملون المفهوم ما لا يحتمل، و( الجهاد) حين يكون ذروة سنام الإسلام في ظل تسامحه وجنوحه للسلام، لا يتسع للمفاهيم التي يتداولها المغرضون، ولما كان الإرهاب ذروة الغلو والتطرف، كان لابد من معرفة الدركات المؤدية إليه.
ف ( الغلو) ظاهرة عرفتها كل الديانات، ولقد ظهر مصطلح ( الغلو) المنهي عنه بالنص القرآني عند بعض الطوائف الإسلامية، ولا تخلو طائفة إسلامية من غلاة لا يمثلون ( الوسطية) في الطائفة، ومع أن النص القرآني نهى أهل الكتاب عنه مرتين فإنه بحق المسلمين أولى، غير أن الغلاة لا يقرون بالغلو، والناقد المنصف يجب عليه ألا يحمل أي مذهب إسلامي ما يمارسه المتطرفون فيه، فضلاً عن أن يحمل الإسلام مسؤولية الإرهاب، والمتقصي لتاريخ الملل والنحل يجد أن لكل نحلة طرفين ووسطا، والإسلام حث على الوسطية، ونهى عن الغلو.
والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالإيغال الرفيق في الدين، والمتعاملون مع الطوائف أو الدارسون لها يجب أن يكونوا عدولاً، بحيث لا يداهنون، ولا يتحاملون، ولا يغضون الطرف عن تجاوزات لا يحتملها النص، فالمتأول المخطئ يختلف عن المخالف المتعمد للمقتضى القطعي، والمستغل للنص الحمَّال يختلف عمن يلوي عنق النص ليوافق هواه، وليس هناك ما يمنع من المداراة التي تكفل التعايش والتعاذر، وهي رخصة لا عزيمة، ولهذا قال الله تعالي في أعقابها :( ويحذركم الله نفسه)، وكم هو الفرق بين المداهنة والمداراة والتعامل والموالاة، وليس من مصلحة الأمة التعذير، ولكن مصلحتها رهينة التعايش والاشتغال في المساحات المشتركة، فالزمن لا يحتمل مزيداً من التنازع، ولما كان الغلو والتطرف والتكفير بيئة مناسبة لنشوء الإرهاب، كان لابد من تحديد دقيق لهذه المفاهيم، ذلك أن الاختلاف المتناقض حول المفاهيم هو الآخر يؤدي الى العنف والإرهاب.
فما حقيقة الغلو والتطرف بوصفهما من بوادر الإرهاب؟ وما معيارهما؟ أحسب أنهما يعنيان طرفي الظاهرة ، ف ( الغلو) و( التسيب) طرفان، فيما يكون ( الاعتدال) وسطيا, وحديث الناس يكثر عن التطرف الغلو والإفراط، فيما لا نجد من يتحدث عن التطرف المقابل، وهو (التفريط) ، والحديث عن ( الغلو) يعني نصف الحقيقة، فالمتشدد المتنطع المضيق على الناس المعول على سد الذرائع في تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق لا يقل إيذاء عن الذي فرط في جنب الله، ممن يقبل خطاب العهر والكفر، ويوالي كل خائض في آيات الله بغير علم باسم حرية التعبير، فالتفريط قد ينشئ التطرف على سبيل الفعل ورد الفعل . ف (المرأة) المتبرجة الكاسية العارية المائلة المميلة الفاتنة، تحمل المتشددين على مواجهة التبذل بالغلو والتطرف، ومثلها ( المتعلمن) المستفز و( الحداثوي) المدنس للمقدس، ومن خلل المفاهيم الانحاء باللائمة على ( المتشدد) في الدين، وغض الطرف عن الفاتنة والمستفز، وليست حال( المتنطع) و( المتميع) بأسوأ حالاً من المتعصب لمذهبه، المعطل للاجتهاد، وعلى كل الأحوال، فإن الرد الى الله ورسوله يحتاج الى فهم سليم للنصوص على ضوء المقاصد الإسلامية، وآليات تفكيك البنى الدلالية، كما هي عند علماء اللغة.
والخلط العجيب أو الميل لجانب دون آخر عمَّى على الناس فهم الأشياء على حقيقتها، فلو سئلوا: ما الإرهاب؟ لما اتفق اثنان على تعريف جامع مانع له، واختلاف الناس قائم على الرغم من توفرهم على كل ما يتداول من قول حول تلك الظاهرة.
ولأن مفهوم الإرهاب تحول إلى إشكالية معقدة، فإن الناس رضوا بالتوصيف لا بالتعريف، والتوصيف مرتبط بذات الحدث لا بذات الظاهرة، ولو قيل في تعريفه :( إنه ممارسة العنف ضد من لا يستحقه ممن ليس يملك حقه).
لكان أن جاء من يضع المحاذير، ومما يعمق الإشكالية تعدد مثيرات الإرهاب، اذ إن لكل مثير حيثياته ومغايرته، فالمثير السياسي أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الفكري، أو الديني، أو غير ذلك، يختلف عما سواه، وباختلاف المثير يختلف المفهوم والموقف، وحتى لو مارسنا التجريد، ونظرنا إلى الإرهاب من درجة الصفر، لكان أن واجهتنا إشكاليا أخرى، ترتبط بالمثيرات والحواضن، وذلك كله لا يمنع من أن نشير الى المفاهيم العامة التي تقترب بالإرهاب من التجريد.
فالمنصفون يرون أنه ليس مرتبطاً بفكر معين، ولا بظرف زماني أو مكاني محدد، ولا بجنس مخصوص أو حضارة معينة، وحين يكون فئوياً تكون له أسباب عارضة: ذاتية أو خارجية، لا يستطيع المنصفون إنكارها. فالتسلط والكبت والاحتلال والاستبداد وسلب الحريات وفرض المبادئ والحزبيات وحكم الطائفة أو العرق والفقر والبطالة والأثرة ومواطأة المغتصب الظالم ومساعدته والإخفاقات المستمرة للمشاريع الثورية، وغياب الدستور، وتعثر السلطة المشروعة كل هذه أسباب محرضة، ولكل سبب مفهومه وحيثياته، وهنا يمكن القول: بأن التصدي للظلم ومقاومة الاحتلال لا يعد إرهاباً بالمفهوم المتداول، ومما يشكل عقبة في التفريق بين ( الإرهاب) و( المقاومة) تعارض القوانين والاتفاقات الدولية مع بعض الممارسات، ولو أخذنا على سبيل المثال- القضية الفلسطينية- لوجدناها الأكثر خلطاً للأوراق، فإذا كانت القضية عادلة والمقاومة مشروعة، فليس معنى هذا أن نجعل كل عملية من العمل الفدائي المشروع، فالفدائي قد يفجر نفسه بين أخلاط من الديانات والجنسيات، ممن لا يعدون من المحاربين، وقد يمارس الفعل في زمن الاتفاق على تصفية الخلافات، مع أن عملية الانتحار قضية خلافية، وقد لا تكون من الاختلاف المعتبر.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:35 PM

الإرهاب بين تضارب المفاهيم وتعدد الأسباب..! «2-2»
د.حسن بن فهد الهويمل


وفي ظل تعدد الأسباب والمفاهيم، والمواقف والمكاييل، والحياد والانحياز تبدت للمتابع عشرات الرؤى والتصورات والثغرات المعمقة للمعضلات، بحيث لم تكن إشكاليات الإرهاب وقفاً على التعريف، وإنما امتدت إلى المفاهيم والمواقف. وأزمة المصطلحات تتنازعها المدلولات اللغوية، والمقاصد الاصطلاحية، والأنساق المعرفية، والسياقات السياسية، فجذر (رهب) من حيث لغويته، يعني (التخويف والقمع). ومن حيث (إجراؤه) يعني مباشرة (الاعتداء): حسياً أو معنوياً. ومن حيث (الممارسة) يكون: (فردياً وجمعياً) و(دولياً). ومن حيث (الأهداف) يكون ضد أي كيان: سياسي أو ديني أو عرقي. ومن حيث (الدوافع) يكون بسبب اضطهاد أو اعتداء أو انحياز، أو هو مبدئي تمليه (أيديولوجية) معينة، وتفرضه نحلة متطرفة. ومن حيث (النتائج) يؤدي إلى الفوضى والاضطراب واختلال الأمن وإهلاك الحرث والنسل. وفي ضجة التنازع هناك مسلمات قد لا يختلف حولها أحد، تتمثل في: الدلالة لا في المفهوم، وفي الإجراء والمصدر والإعداد والأهداف والدوافع والنتائج. وحين نفرق بين (الدلالة) و(المفهوم) نضع في الاعتبار تعدد المفاهيم بتعدد المتلقين، وفي ضوء ذلك يتعذر علينا الاجتماع على تعريف جامع مانع، تلتقي حوله الأطراف. وحين يتعذر الاتفاق الكامل، يتعذر الحل الشامل. ولا يود مخلص أن ينفض سامر المؤتمرين بمعروف حول الإرهاب والموقف منه دون التوصل إلى حل وسط، تحكمه التنازلات الجزئية، للخروج ولو بأقل الفوائد. وبدهي أن القول بالخير المحض كالقول بالشر المحض. فالخيرية المطلقة لا مكان فيها للاختلاف، والبشرية المطلقة لا مكان فيها للاتفاق. والمشاهد العامة فيها اتفاق نسبي، واختلاف نسبي. لوجود خيرية نسبية وشرية نسبية، وواجب الخيرين توسيع قاعدة الخيرية، وتضييق جانب الشر، ليحصلوا على الحكم التغليبي، وينجوا من مضلات الفتن.
وفي خضم التنازع حول المصالح والمفاهيم دخلت كلمة (الإرهاب) أروقة الجمعيات والهيئات والمنظمات، واكتنفها المعنيون من كل جانب، مما حفز على تشكيل لجان تنقيب عن المعلومات وأخرى تحللها، وأعقب ذلك مؤتمرات تصدر التوصيات، وكل (حرب كونية) أو إقليمية تصفي ذيولها بممارسات، يسميها قوم إرهاباً، ويراها آخرون دفاعاً مشروعاً والناس أوزاع بين هذا وذاك، حتى لقد تحولت هذه الكلمة العصية من كلمة عابرة إلى مصطلح مراوغ. ومحاولة تحديد بداية تاريخية للإرهاب، يعني الحصرية المرفوضة: عقلاً وشرعاً وقانوناً. فالإرهاب بدأ مع بداية التجمع الإنساني، واستهله (قابيل) و(هابيل)، وقصة بسط اليد للقتل أو كفها، تعني أن هناك معتدياً ومعتدىًعليه. ولسنا بصدد تحديد البدايات، وإنما نحن بصدد تحديد المرحلة الواعية للمفهوم، أو قل مرحلة (الإرهاب) المنظم المواكب للمواجهة الجمعية، مواجهة التفهم والحل. وأحسب أن اتفاقية عام 1937م المصوغة تحت رعاية (عصبة الأمم) هي بداية التأسس للحدث والمفهوم، وتبع ذلك إنشاء (المحكمة الجنائية)، ثم توالت بعد ذلك المؤتمرات والتوصيات، وإنشاء المحاكم والمنظمات والجمعيات، للحيلولة دون الظلم أو التعدي، ولما تكن تلك المؤسسات والهيئات قادرة على ممارسة مهماتها بحيادية ومساواة، بل أصبحت في كل الأحوال إلا ما ندر أداة طيعة للأقوى، بحيث أصبحت بفعلها المنحاز أو المتخاذل محرضة على توتر الشعوب وغضبها. ومع تلاحق الأحداث غير المشروعة، تنامت المواقف المضادة، ومنذ السبعينيات أصبح (الإرهاب) مصطلحاً حاضر المشاهد الاعلامية والسياسية. ولقد ارتبطت الاهتمامات والاتفاقيات بأحداث ووقوعات، سماها المتضررون إرهاباً، فيما سماها المنفذون مقاومة مشروعة، ولربما كانت دورات (الأمم المتحدة) تنطوي ملفاتها على مزيد من الدراسات والتوصيات التي لم تُفعَّل، بسبب اقتضاء بعض المصالح حماية المنظمات الإرهابية باسم المعارضة المشروعة، وساعد على ذلك تفاقم المشاكل الإقليمية وتسلط السلطات، وتعاقب الثورات والانقلابات، وارتباط ذلك بالتصفيات الجسدية والمقابر الجماعية والمنافي والسجون، ولما كانت الدول الكبرى ك(أمريكا) التي هي الأقدر على تفعيل التوصيات لم تعرها أي اهتمام، فقد رقدت على رفوف الهيئة، ومتى لم تتعرض دولة عظمى ك (أمريكا) للإرهاب، فإنها لن تلح في أمره، وحين لا ترمي بثقلها، لا يكون للظواهر وزن ولا حضور، وكم عانت دول عربية ك (المملكة) من العمليات الإرهابية، وكم حذرت ذوي النفوذ، ولكنها لا تُسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين. ولعل من المحفزات على تهميش قضية الإرهاب من قبل تناقض الآراء والمواقف، وتعدد المفاهيم، وحين اكتوت الدول المهيمنة بلهيبه، عدَّلت من مواقفها، حتى لقد تحولت المعارضة والمقاومة عندها إلى إرهاب، ولولا اكتواؤها لكان الإرهاب معارضة مشروعة تحتضن أطرافها. وإذا لم نستطع مواجهة الحقائق المرة وقول ما نعتقد وما نتصور أو لم نرغب ذلك، ظل الحديث من باب اللغط الممل. وحين يستولي علينا العجب بآرائنا، والانفراد بالحل، والإصرار عليه، نكون كمن يسعى بمحض إرادته لتعميق الخلاف، ومن ثم لا بد من التسديد والمقاربة. فالقول بأن الإرهاب على إطلاقه معارضة، وتعمد مواطأة الإرهابيين وإيوائهم بوصفهم مقاومين أو معارضين لاتفاق فعلهم مع المصالح العارضة وغير المستقرة، وتعدد المواقف أمام الأعمال المتجانسة، والانحياز السلبي، وفرض الرأي بالقوة، كل ذلك مؤذن باتساع دائرة الإرهاب والاختلاف معاً. وإذ تتباين وجهات النظر حول المفاهيم، تختلف كذلك حول الأسباب وأساليب المواجهة. وحين تعرضت أمريكا لأبشع صور الإرهاب، أقبل الناس عليها يزفون، وتقبلوا مفهومها وأسلوب مقاومتها، حتى لقد طرحت أقسى تعبير عرفته الإنسانية: (من لم يكن معي فهو ضدي). ومع تعدد المفاهيم وتنوع الأسباب تتعدد طرائق التنفيذ ليكون الإرهاب بمفهومه المطلق أوسع من التفجير وأبعد، والمتتبع للاتفاقيات الدولية، يدرك أنه يتسع لإجراءات ومجالات متعددة: كالملاحة والموانئ والمنصات والمطارات واحتجاز الرهائن وخطف الطائرات والقرصنة وتسريب المواد النووية والاغتيالات والمظاريف البريدية المفخخة والمساحيق السامة ومخالفة الاتفاقات الدولية.
وأي تخويف تمارسه جماعة مسلحة تحت أي مطلب يعد إرهاباً. غير أن ممارسة التفجير للمنشآت طغت على بقية الأنواع الأخرى، وبهذا العنف دخل الإرهاب إطار الزمان والمكان والحدث، وانفصل عن محدوديته، ومهما تعددت الأسباب فإن الإرهاب واحد بوصفه ممارسة، ومتعدد بتعدد أنواعه وظروفه وأحواله. والإرهاب أنواع، يتعدد بتعدد الظروف والأحوال، وقراؤه العدول يضعون قيماً حكمية لهذه التعددية، فإذا حمي وطيس الحروب، أو استشرى الظلم والقهر كان الإرهاب مخاض ظروف طبيعية، بمعنى أنه متوقع ومرتقب، وإن كان مرفوضاً في أعراف الدول، أما حين لا تكون حرب ولا يكون ظلم فإنه يكون مثيراً لعدم توقعه، وبهذه الأجواء يدخل إطار العبثية وصدق رسول الله الذي أخبر أنه في آخر الزمان (يكثر الهرج) ولا يعرف القاتل والمقتول لماذا حصل ما حصل.
وحين تنبعث الفتنة في إقليم دون غيره بسبب الجور والظلم أو بسبب التعدد الطائفي أو العرقي، أو بسبب غليان الأوضاع العالمية تكون ممارسة الإرهاب تعبيراً عملياً عن رفض الواقع القائم، وأسلوباً من أساليب حمل المتسلط باسم السلطة على فك الاختناقات، وإقامة العدل والمساواة ومنح الأقليات حقها المشروع بوصفها شريكة في الحقوق والواجبات.
وفي هذه الحالة تختلف المفاهيم والمواقف والأسباب، وبخاصة حين تتحكم العلاقات والمصالح المتبادلة بالتدابير والوسائل. وفي ظل هذا التحكم تجد قوماً يصفون أي مواجهة بالإرهاب، وآخرين يعدون مثل ذلك شأناً إقليمياً، وقد نجد من يؤيد ويدعم، ولربما تعم العمليات آفاق المعمورة، وتصبح كل دولة معرضة للإرهاب، وذلك ما نشاهده الآن، أو قد تكون دولة دون أخرى معرضة مصالحها للإرهاب، وهذه الأنواع تضع المتابع في حيرة من أمره. فمتى يقطع بأن مثل هذا العمل وفق تنوع أوضاعه إرهاب أو مقاومة؟ والتعاطف مع المتضرر لا يحسم المشاكل، والمسايرة للمفاهيم الناتجة عن مواقف الانفعال لا تحظى بالقبول. وإذا كاد الناس يُجمعون على أن الحسم العسكري مع إمكان الحل السلمي يعد إرهاباً دولياً، فإنهم سيختلفون مع من يمارس ذات الحل العسكري اضطراراً، ليكون الأمر غمة، ونصف الحقيقة لا يضمن نصف الحل.
وفي حمأة الجدل الصاخب لم يعد من نوافل القول بأن الحديث عن (الإرهاب) حديث طال وتشعب، واختلفت فيه الآراء، وتعددت المواقف، وتباينت المفاهيم، وقيل فيه وعنه ما لم يُقل في أي قضية أخرى، لقد شاع الحديث عنه بين سائر العلماء والمفكرين والساسة، ووسعته علوم الدين والإجرام والنفس والاجتماع والسياسة والقانون. وما من داخل في متاهته إلا وله فيه قول يحيل إلى مرجعية خاصة، وينطلق من سياقات خاصة، وتوجهه أنساق وظروف خاصة، وفي ذلك ما فيه من مضاعفة الرعب والخوف، وكأننا في إرهاب الإرهاب. ولو صدق المهيمنون بالسلاح و(التكنولوجيا) مع أنفسهم ومع من حولهم من الأنداد، ومع سائر الشعوب المهمشة والأجناس والديانات المضطهدة لكان أن عرف الجميع الحق وتوفروا عليه، ثم لا يكون هناك إرهاب ولا سباق تسلح ولا هضم لحقوق ولا استعمار ولا احتلال ولا استيطان ولا إبادة ولا تفرقة بسبب عرق أو لون أو دين. وحين تملك المصالح و(الاستراتيجيات) حق إطلاق المصطلحات وتعريفها، ثم تتباين المصالح وتتعارض (الاستراتيجيات) يكون من حق المباين والمعارض أن يسك مصطلحاته، وأن يعطي مفاهيمه، أو يتلقى مصطلح الآخر، ويفرغه من محتواه، تمهيداً لشحنه بمفهوم مغاير، وعندئذٍ يظل الخلاف والتنازع في نمو مطرد، وذلك ما يعانيه العالم حول مصطلح (الإرهاب).
وإذ نقول بأن الإرهاب سليل اللعب السياسية فإننا لن نغفل الحواضن والمواثرات الأخرى. فالتطرف (العلماني) لعب دوراً تحريضياً، والتطرف (الحداثوي) لعب دوراً استفزازياً، و(التنظيمات الإسلامية الغاضبة المتطرفة) لعبت دوراً تضليلياً. وسائر المنظمات والأحزاب والجماعات، وبخاصة ما كان منها خارج السلطة تشكل أرضية قابلة لتفريخ الإرهاب، ولكن يجب ألا تغيب عن بالنا الضغوط المثيرة للغضب، بحيث لا نهمل أحداثاً شكلت منعطفات خطيرة في حياة الأمة تمثلت في:
- تلاحق الانقلابات والثورات العربية التي نشأ في ظلها طغيان الخطاب التشنجي الاستعدائي، واستمرار الخيانة، ونقض العهود، والتصفية للخصوم بالاغتيالات.
- استشراء الضعف والوهن والحزن في كيان الأمة العربية مع تنامي العنف والشراسة في الكيان الصهيوني، والتقدم المادي والرسوخ المؤسساتي في الغرب.
- نكسة حزيران التي أحبطت الإنسان العربي 1967م.
- الثورة الإيرانية وإعلان الجمهورية الإسلامية 1979م.
- اعتماد تصدير الثورات والمبادئ عبر الخطابات الإعلامية.
- فشل كل المشاريع الوحدوية و(الديمقراطية) والحزبية والقومية.
- ظاهرة التطبيع والهرولة مع العدو الاسرائيلي 1981م، في ظروف استشراء الإرهاب والتطرف اليهودي.
- الحس الكنسي الذي قوّى الروابط بين اليمين الأمريكي والتطرف الصهيوني.
- الحرب الأفغانية، والتوسع في أسلمة الحرب، والتعبئة الجهادية.
- الحرب العراقية الإيرانية، وتناقض الآراء والمواقف.
- احتلال العراق للكويت، وتصدع الصف العربي وانهيار القومية.
- تحرير الكويت من قبل التحالف العالمي، وغياب الحل العربي.
- احتلال العراق تحت ذرائع لم يتحقق أدناها، ودون إجماع عالمي، واستشراء الإرهاب في ظل الفراغ الدستوري.
- انكشاف اللعب الكونية والإقليمية وسقوط الأقنعة.
كل ذلك أدى إلى الإحباط واليأس واللامبالاة، ومع كل ذلك فإن العالم لم يشأ التفريق بين الإرهاب المرفوض والمقاومة المشروعة، وستظل إشكالية المفهوم في تنام وانبهام، حتى يأذن الله لهذه الأمة باستعادة عافيتها ومكانتها بين العالمين، ولكي نكون قادرين على تحرير المفاهيم وتحديد الأسباب يجب استبعاد الوقوعات الصارخة، فحدث مثل تفجير (الرياض) الأخير لا مجال فيه للاختلاف، لأن له سياقه الخاص الذي لا يؤدي إلا لموقف واحد، هو الرفض والاستنكار والتحريم والتجريم.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:35 PM

الإرهاب وتدافع الانتماء 1-2
د.حسن بن فهد الهويمل


وبعد تجاوزالتعريف والمفهوم والحواضن والمحفزات نلتمس الحديث عن (الانتماء) الذي تدفعه كل طائفة عن نفسها، وتدفع به إلى غيرها، وإن كنا قد ألمحنا إلى أطراف من جدلية الانتماء في مجمل سياقات المفاهيم والأسباب، أو قل إن بعض الأسباب تحيل إلى الانتماء، لترابط ذلك كله ببعضه وما الفصل بينهما إلا كما الخطوط الوهمية، ودوَّامة الانتماء لا تختلف عن دوامة المفاهيم والأسباب.
وما من حزب أو نحلة أو كيان إلا ويدفع عن سمعته معرة الاتهام، وإذ يكون من حق كل بريء أن يدفع عن نفسه نسبة الإرهاب إلى مؤسساته أو مبادئه فإن الدفع لايقتضي الاتهام، ما لم تقم الحجة بالبراهين والشهود. والحق أنه ليس للتطرف والغلو والإرهاب انتماء، وإن اتسمت بعض الطوائف بشيء من ذلك، وليس من العدل القطع بانتماء الإرهاب لدين من الأديان، ولا لعرق من الأعراق، ولا لعصر من العصور، بل ولا لحضارة من الحضارات. والإرهاب في حقيقته عرض لمرض، فمتى نزل بساحة قوم في أي بقعة من الأرض فإنما هناك خلل يعرفه قوم، ثم ينكرونه، أويمارسونه ويصفونه بحق الدفاع عن النفس المعتدية، ويجهله آخرون، ثم يضربون في بنيات الطريق، بحثاً عن مصادره. فالعالم إزاءه بين جهل أو تجاهل، وعلى كل الأحوال فإن الإرهاب وسيلة، وليس غاية، وعرض وليس جوهراً. ولن تتأتى المواجهة الايجابية إلا حيث يتحقق المعنيون من أسبابه. لماذا وجد الإرهاب في هذا الزمان، وفي تلك البقعة، وعلى يد هؤلاء الأفراد أو الجماعات؟ فممارسته ليست عبثاً ولا تسلية والمنتحر لا ينتحر إلا عن عقيدة نافذة في الأعماق. والراصد لحركات الإرهاب يعرف شيئاً، وتغيب عنه أشياء، فبقدر معرفة أسبابه وانتمائه يكون سداد الرأي وصواب المواجهة، والحصيف من يتقصى كل المتعلقات، ومن يدقق في كل الأوراق، ولا يستعرضها، ذلك أن عقابيله كما الفتن تُصيب الضالع والممانع، ومتى أخطأ المتصدي في التوقيت أو في التقدير تفاقم الخطر. فالعمليات الإرهابية حين تنفلت خيوطها، أو حين يخطئ الطرف المقابل في تحديد مصادرها، يستشري ذووها، ويستمرئون مواصلة الأعمال الإرهابية، وليس من العدل المجازفة في نسبة الإرهاب لمن تقوم مبادئه على التسامح والتصالح والتعايش.
والأمة الإسلامية أمة الوسط، أقرب إلى التبين، وأبعد عن العنف في القول أو في الفعل، وأجواؤها أبعد الأجواء عن الإرهاب بكل مفاهيمه، ولقد استلهمت ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، وهي الأكثر إمعاناً في التثبت امتثالاً للتوجيه الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ففي الآيتين أمر في عدم مباشرة الحرب إلا بعد التبين، وأمر بالتثبت في الحكم على الناس بالكفر. فهناك منع للفعل ومنع للقول، وهما مصدر الإيذاء. وأمة هذا شأنها لايمكن أن تتهم بالإرهاب، ذلك أن مؤشرات الغلو والتطرف تكمن في المبادرة في القتل أو التوسع في التكفير، وليس في القرآن ولا في صحيح السنة ما يوحي بشيء من ذلك. وكلما كانت هناك أركان وواجبات ومستحبات ومباحات لأي حضارة كانت هناك محرمات ومكروهات، ولايمكن تمييع الأمور باسم الحرية أو الوسطية أو التسامح، فالدين والحضارة والطائفة لايتحقق شيء منها إلا بشرطه، وتمثل الشرط والدفاع عن المقتضى لايعد إرهاباً. وما كان الإسلام بدعاً بين الديانات الإنسانية في محققاته، وحين يكون من لوازم أي ديانة (الإيمان) و(الكفر) و(الردة) تكون الضوابط والاحترازات. ومع هذا نهي عن التنابز بالألقاب، وأمر باجتناب الظن، ووردت آيات تحذر من ذلك. وهل بعد تكفير المسلم من ظن سيئ؟. والإسلام نهى المسلمين عن قفو ما لا علم لهم به. وأوضح شيء في النهي عن التكفير ما جاء في صحيح مسلم (إذا كفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهم) وفي رواية (إلا حار عليه) وفي البخاري (ولايرمين بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك) وعنده (ومن قذف مؤمناً بالكفر فهو كقتله) وعند أبي داود (ثلاث من أصل الإيمان -منها-: الكف عمن قال لا إله إلا الله لانكفره بذنب) وفي حديث آخر جمع بين تحريم الدماء والأعراض والأموال، والثلاثة مجال الإرهاب. وعقيدة السلف الصالح ألا نشهد على أهل القبلة بكفر ما لم يظهر، وما في السرائر متروك لله. والاحتراز من التكفير واجب المستبرئ لدينه وعرضه، وتعمد القتل لمن نطق بالشهادتين بحجة التقية والنجاة يعد قتلاً لمعصوم، حتى ولو قالها حين يظفر به المسلم أو حين يعاين الموت. وقصة (خالد بن الوليد) رضي الله عنه واضحة في ذلك. وعلماء السلف المتشربون لأصول الدين السليم يدركون خطورة التوسع في التكفير، ولا يرونه إلا في الخارج من الملة الميت على ذلك، وفي تكفير المرتد عن الدين شرط الموت على ذلك، تمشياً مع قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} وقد أشار (ابن الجوزي) إلى أن حكم الكفر يستقر بالموت عليه.
وقد جاء ذكر الموت على الكفر في أكثر من آية قرآنية و(لابن تيمية) رحمه الله رؤية دقيقة في موضوع التكفير، لو وعاها الموغلون، لما كان لهم أن يقعوا في مثل هذه المآزق، ولما كان لأحد أن ينسب الإرهاب للإسلام، ومصطلحات علماء الكلام قد يكفر بموجبها من لم يفهم مقاصد المصطلح، وقد ضرب ابن تيمية مثلاً في مصطلح (تحيز الخالق) عن المخلوق. واحترازات السلف في شروط التكفير وموانعه تحول دون انتماء الإرهاب إليهم، فهم لايكفرون قائل كلمة الكفر جهلاً أو عن شبهة، ولايكفرون معَّيناً، وكون القول أو الفعل كفراً لايحكم على صاحبه به، والتحرز من تكفير المعين تحرز إيجابي. والسلف الصالح الوسطي المستنير لا يُقْدِمُونَ على التكفير أو التفسيق إلا وفق ضوابط وقواعد في غاية الشدة والاحتراز. واحترازهم يذودهم عن الاتهام، وحسن الظن بالمسلم يحجرهم عن المجازفة بالتكفير، وتوخيهم العدل والإنصاف يحيد بهم عن المجازفة في الأحكام. وأمة هذه أخلاقها لايمكن أن ينسب إليها عنف ولا إرهاب، وما رأيت حجة ساقطة كحجة من يحيل الإرهاب إلى الإسلام بعد وضوح رؤيته وتجلي موقفه من المخالف.
والذين يجازفون بالتكفير، ولا يحترمون أعراض المسلمين، لاشك أنهم لن يحترموا دماءهم وأموالهم. ولقد اجتاحت الأمة موجات من الاستياء والإحباط، أدت إلى ظهور طوائف من الغلاة الذين حملتهم شدتهم إلى مقاطعة الأمة واعتزال مساجدها، والتوقف عن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المجتمعات في نظر هذه الجماعات الغالية كافرة، وليس بعد الكفر ذنب، حتى لقد قاطع بعضهم المدارس والوظائف، ولعبت بهم عواطف دينية هوجاء، حادت بهم عن الموضوعية وعن منهج السلف مع المخالف، ومثل هذه الموجات العارضة لا تجيز القول بأن الإسلام مصدر الإرهاب، والديانات القائمة والمنقرضة قد تتعرض لفترات مرضيّة تتمثل بالضعف أو بالعنف، والأمة الإسلامية مرت بحالات ضعف صعدت عندها حالة الاستياء، وهي اليوم في أسوأ حالاتها، وبعض طوائفها غلت في الدين، وتوسعت في التكفير، وكان لطائفة التكفيريين أصول في غاية السذاجة والبدائية، والقول من خلالها مؤشر جهل وتخلف، كالقول: بأن عرب اليوم ليسوا في تمثل اللغة وفهم مقاصدها كعرب الأمس، ممن نزل القرآن بلغة التخاطب عندهم، وكالقول بثنائية الديانات: الكفر الخالص، أو الإيمان الخالص، وليس بين هذه الثنائية دركات ولا درجات، وكقسمتهم الإسلام إلى أصول وفروع، ثم القول: بعدم العذر لجاهل في الأصول. وابتسارهم الآيات من الذكر الحكيم هي أبعد ما تكون عن مساندة ما يذهبون إليه، ومثل هذه الطوائف ليست على شيء من الحق، ولايجوز لمنصف أن يتصور الإسلام من خلالها. ولقد تقصى هذه الأصول، وفندها واحداً واحداً الأستاذ (عبدالفتاح شاهين) في كتابه (ظاهرة التكفير: شبهات وردود)، وتبدت لطائفة من العلماء والمفكرين الراصدين للحركات الإسلامية بعض المشكلات المصاحبة لهذه الحركات، سواء منها من كان في الحكم أو من كان خارجاً عليه معارضاً له، وسواء منها من كان ذا طابع سياسي أو كان ذا اتجاه تعبدي سلوكي تعاملي، لا ينظر إلى المسؤولية، ولا ينازع السياسة سلطتها. ولعل من أبرز المشاكل التي ارتبكت بسببها بعض الحركات الإسلامية: فقد التخطيط، واضطراب المفاهيم، وتعدد مجالات الأداء وحدودها، ونقص الكفاءات البشرية: إدارةً وقيادةً، والخلط بين الحل المرحلي والنهائي، ووضع الأهداف في معزل عن الإمكانيات، والتقاعس عن المحاسبة والتقويم، ونقد الذات، وتحمل مسؤولية النكسات، مع ممارسة الإسقاط، والمبالغة في دعوى الغزو والتآمر، وتجزيئية الرؤى والتصورات، وتغليب جانب الصدام والصراع على الحوار والتعاذر والتعايش، والإغراق في المثاليات والعنتريات والعواطف والانفعالات، في ظل فقد الأجواء الملائمة. وكل هذه العوائق لاتخول التخطي للإرهاب، ولكنها قد تجر إليه، وفي ظل هذه العوائق تتحفظ المؤسسات السياسية على تلك الحركات الاسلامية والقومية والطائفية، وتصعد التحفظ، بحيث يصل إلى حد التضييق والخنق، وقد تأخذ البريء بالمذنب فتكرهه على المواجهة غير المشروعة. ولقد مرت الحضارة الإسلامية كغيرها من الحضارات بفترات تاريخية تمخضت عن حركات غالية في السلوك أو في التعامل، أدت إلى صدامات دموية معلنة وتنظيمات سرية متغنِّصة. ولما تكن الحضارة الاسلامية وحدها مَنْ مر بهذه الحالات، فكل حضارة لها مراحلها التي يستفحل فيها الغلو والتطرف. وما مِنْ منصف نسب الإرهاب إلى هذه الحضارة أو تلك، لمجرد أن طائفة أو نحلة غلت، ولوت أعناق النصوص، أو ابتسرتها من سياقاتها لتوافق نوازعها. ولقد عرف التاريخ السياسي الإسلامي قوى المعارضة ك(الخوارج) و(الشيعة) و(المعتزلة) و(المرجئة) و(الهاشميين) و(الزبيريين) بكل أبعادها: الدينية والسياسية، ولقد صنفها البعض إلى يمين ويسار، مسايرة للتصنيفات المعاصرة، فيما وصفها البعض الآخر ب(قوى الظل) والتمس بعض الثوريين المعاصرين أسباباً سياسية مباشرة لقيام هذه التنظيمات، بحيث عول على (الملكية الوراثية) في العصرين: الأموي والعباسي، والخلافة الكسروية المتداولة بين: الفرس والأتراك في العصر العباسي، وتبادل المواقع في المشهد الفكري بين الطوائف الإسلامية. وتاريخ الدول المتتابعة مليء بالأحداث الجسام، وظروف سياسية ودينية كهذه مؤهلة للتنظيمات السرية، وقد راوحت تلك الحركات بين العنف الثوري والدعوة السرية المنظمة، تصعد حتى تبلغ ذروتها على يد (القرامطة) و(الحشاشين) و(الزنوج) ثم تخبو وتبلغ قعرها عند (المرجئة) و(الباطنية)، والعنف الثوري المعاصر لايحمِّل الأمة العربية ولا الإسلامية معرة الإرهاب، فكم من حكومات إسلامية معتدلة، وكم من حكومات ثورية تجاوزت مرحلة العنف، واستقرت أمورها بعد موجات من العنف الدموي، والقارئ للتاريخ الفعلي (للثورة الفرنسية) يروعه ما مُورِسَ فيها مِنْ عنف دموي، تستر عليه الممجدون لأم الثورات في العالم، والحروب العالمية الهمجية ليست من صنع الإسلام، والتعذيب غير الإنساني للسجين والأسير، والعنف في المواجهة، والاستيطان الصهيوني، والاحتلال البغيض، كل ذلك ليس من الإسلام ولا من المسلمين، بل هو واقع عليهم، وما من أحد قال بنسبة الإرهاب لحضارة الغرب التي أرهقت شعوب العالم، وكادت تفقدها صوابها وحكمتها في معالجة الأمور.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:36 PM

الإرهاب وتدافع الانتماء..!! 2 -2
د. حسن بن فهد الهويمل


ومهما حاول العالم التنصل من ظاهرة الإرهاب، واجتهد في تحميلها جهة دون أخرى، فإن التاريخ السياسي الحديث يضع أصبعه على مفاصل المشكلة، وذلك بتتبعه لبؤر التوتر في العالم،المشكلة، ولو حاولت جهة ما تضييق الخناق عليه وتجفيف منابعه، لندت جراحات مفتوحة، تفور دماً، ولن يتمكن العالم من محاصرة الظاهرة مع وجود تلك البؤر، وإذا نسل منها العنف والتوتر، فقد لا تحتمل إثمه، ولا تقبل انتماءه إليها. فأين العالم من (قضية فلسطين)؟ وأين هو من ذيول حروب مجانية، حركتها المصالح الغربية: ك(أيلول الأسود)، (حرب لبنان) و(العراق) و(إيران) و(أفغانستان) و(الكويت) ودول الاتحاد المنهار؟، وأين الإعلام الإسقاطي من مشكلة (الصحراء الغربية)، و(الجنوب السوداني) و(إريتريا) و(الصومال) و(تشاد)، وحركات التحرر في (أمريكا اللاتينية)، والحروب الطاحنة في (جنوب شرق آسيا)؟. وأين المغالطون من الحروب الأهلية التي تذكيها الأقليات: العرقية والطائفية ويستثمرها عبدة الدرهم والدينار والخميصة كمشكلة (الأكراد) و(السيخ) و(التاميل)؟ وستظل تلك الحركات والتنظيمات المشروعة وغير المشروعة لعبة في يد الكبار، يحركونا كما (مسرح العرائس)، ولا يبالون في أي وادٍ هلك أصحابها. كل تلك المشاكل العالمية والإقليمية التي تتحرك ذاتياً تارة وبتدخلات خارجية تارة أخرى تعد بؤر توتر ومستنقعات تفرخ الإرهاب، وتسقط مقولة: إن الإرهاب بدأ من الإسلام وإليه يعود، وقد تتكون جينات الإرهاب من الشيء ونقيضه، فالتماس بين عقيدة وأخرى على أرض مشتركة محفز طبعي له، وبخاصة حين لا يحصل التوازن، ولا يتحقق تكافؤ الفرص بين الطرفين المشتركين في اللغة والأرض. ودعك من (الحركات الإصلاحية) سواء كانت منطلقاتها: دينية أو تربوية أو إدارية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، فإنها تتعمد الإصلاح لما هو غير صالح، فيما يكون وراء الأوضاع الفاسدة مصالح غير مشروعة، يحافظ عليها المستفيد، وقد يدخل في مواجهة مع المصلحين، ولكل من الأنصار والخصوم خطاباتهم المتواجهة. ومهما حاولنا عزل أي حركة عن تأثرها بكافة الأنساق والسياقات الماثلة للعيان أو الكامنة في اللاوعي الجمعي فإننا لا نستطيع ذلك. فالاستجابة العفوية أو الثقافية أو العرفية تعيش حالة من الكمون. ولو نظرنا إلى بداية (الحركات الإصلاحية) الدينية، لوجدنا الدعوة الإصلاحية التي قام بها المصلح المجدد (محمد بن عبدالوهاب) وإلى جانبها الحركات: السنوسية والمهدية والباديسية، ومن بعد ذلك (الإخوان المسلمون) في مصر وتحولاتهم على يد الحركيين المتسيسين، ووجود حركات في الوطن العربي، تستمد من حركة الإخوان طرائقها وأهدافها. كل هذه الدعوات تمر بتحولات لا يراها المعتدلون، ومع ذلك تنسب إلى الأصل. إن هناك انشقاقاً وإغراقاً في التطرف، وظهور فرق التكفير والهجرة لاشك أنه مؤشر خروج على مبادىء الدعوات الإصلاحية المعتدلة. وإلى جانب هذه الحركات - وبعد أن شرعت الشعوب العربية بمقاومة الاستعمار التقليدي - نشأت حركات: قومية وحزبية و(ثيوقراطية) وتجديدية وحداثية ومحافظة، واستعيدت مصطلحات قديمة على غير مراد ذويها ك(دار الحرب) و(دار الإسلام) و(الجهاد) و(الولاء) و(البراء) والاختلاف حول مفهوم (الذمي) و(المواطن) والدخول في صراع مستميت مميت، تغذيه أيد خفية، لا تريد لهذه الأمة الاستقرار. ولاشك أن لكل حركة أسسها ومرجعياتها: النصية والقواعدية والمذهبية. وكلما أخذت الحركات سبيلها إلى الشيوع والسيطرة، نهضت بإزائها حركات مضادة، تحركها أزمات كامنة كأزمة الهوية والشرعية، أو تحركها قوى معادية أو خائفة، وقد تطفو على السطح محرضات ذاتية، لا يلقي لها المتابعون بالاً، ولكنها وقود خفي، كاستشراء (الفساد) بكل صوره و(الظلم) بكل أشكاله (والطبقية) بكل صراعاتها: الخفية والجلية، والشعور بالضعف الحسي والمعنوي بإزاء الدول الكبرى المتسلطة، وافتقار التحديث إلى أرضية علمية وثقافية و(تكنولوجية)، وهذه التحديات تخلق حالات نفسية غير سوية، تتمثل بالتعصب للرأي، والاستعلاء والعدوانية والتشدد والشك وممارسة التخلي والإسقاط وادعاء العصمة، وتضخيم عقد الغزو والتآمر، وكل هذه المحرضات لا تخول أحداً بربط الإرهاب ربطاً عضوياً بالإسلام بوصفه المرجعية لهذه الملل والنحل.
والإرهاب قد تمارسه مؤسسات وأحزاب وطوائف وعرقيات وحكومات وأفراد، بوصفه الخيار الوحيد لمواجهة التحديات، وقد يكون منعطفاً خطيراً لاجتياز مرحلة عصيبة، من قَصره على ديانة خاصة أو طائفة أو حكومة أو عرق، فَقد المصداقية. ومقاصد الإرهاب متعددة، والمتعقبون لتاريخه يقفون على مقاصد عدة فمن مقاصده: فرض نمط سياسي معين، فقد تستخدم الإرهاب حكومات مستبدة لإخضاع الشعب المضطهد على التسليم والخنوع. ولقد أشار بعض المؤرخين إلى (الثورة الفرنسية) في آخر القرن الثامن عشر الميلادي، وتاريخ الثورة الفرنسية المتداول لا يشير إلى الإرهاب، ولكن الأحداث والوقوعات واستشراء القتل والاغتيالات تعد ممارسات إرهابية. وقد تستخدمه حكومات تفرض سيادتها على شعب من الشعوب، لإشاعة الروح الانهزامية، والرضوخ للمطالب التعسفية. ولقد مر الاستعمار التقليدي ومقاومته في الوطن العربي بأوضاع دفعت إلى المواجهات الدموية. وكل دولة قوية تفرض سلطتها بالقوة على أي شعب لا يبادرها بالمواجهة العسكرية تعد دولة تمارس الإرهاب الدولي، وإن لم تكن بمجمل سياستها إرهابية. وقد تستخدمه أقليات عرقية أو دينية، لتحقيق وجودها، والحصول على حقوقها إلى جانب الأكثرية، وهذا اللون يختلف قراء الأحداث في تصنيفه: فمنهم من يراه دفاعاً عن الحقوق ومقاومة ضد الظلم والاستبداد ورفض الإقصاء والتهميش. ومنهم من يراه إرهاباً وإخلالاً بالأمن. وأحسب أن مثل هذا اللون يتسع لكل القراءات، وتحكمه الظروف وطبيعة الأوضاع. ف(الأكراد) مثلاً تتقاسمهم عدة دول، وليست لهم حقوق مستقلة، وقد تكون مقاومتهم في بعض الأحوال مشروعة، ولكن التعدي على الآمنين والأبرياء مجال اختلاف واسع، والإطلاقات غير الدقيقة لا تصيب المحز، ولا تحق الحق، وحتى قمع تمردهم داخل الدولة مسألة فيها نظر، فهي إرهاب عند قوم، وتصرف مشروع عند آخرين. ومثلما تعرضت (أفغانستان) للتدخل (السوفييتي) فإنها تعرضت مرة ثانية للتدخل (الأمريكي)، ولغة الخطاب مختلفة إزاء التدخلين. وفي مثل هذه الحالات تجب الدقة وعدم المجازفة في الأحكام. و(الجهاد) و(المقاومة) و(الإرهاب) ممارسات لا يجوز الخلط فيما بينها، ومع كل التحفظات فإن الأحكام تنطلق من مفاهيم متباينة ومصالح متعددة. ومع صعوبة التقارب في وجهات النظر يجب على كل مستقل أن يتحرى الحق، وأخطر من ممارسة الإرهاب تناقض المواقف، وفقد المصداقية، فربط الإرهاب بنحلة أو قومية، لا يختلف عن وصف المقاومة بالإرهاب، أو جعل الجهاد الإسلامي إرهاباً.
وفي ظل اختلاف المفاهيم والمواقف فقد تستخدم الإرهاب جماعات إرهابية بطبعها ووضعها، ومثل هذا المفهوم ينطبق على (الإرهاب اليهودي)، فلقد تشكلت عصابات إرهابية قبل الإعلان عن قيام دولة يهودية في أرض إسلامية يعد اليهود أقلية فيها. ولقد مارست هذه العصابات أبشع العمليات الإرهابية، عبر عصابات يهودية مدربة، مثل عصابات (أرغون زفاي) و(شترن) و(آغودات) مثل نسف المنازل، وإلقاء المتفجرات في الأسواق، واغتيال الأطفال والنساء، وتنظيم المذابح الجماعية، كمذابح (دير ياسين) و(ناصر الدين) و(حوامسة) و(عليوط) و(حلحول). وكان الهدف من هذا الإرهاب حمل السكان الأصليين على الهجرة، وإخلاء القرى والضواحي والمزارع والمدن، تمهيداً لاستيلاء الصهيونية عليها، بمواطاة ودعم من دول العالم، ولو لم يكن هناك حبل من هذه الدول لما استطاع اليهود إقامة دولة عنصرية مغتصبة، فالاستعمار البريطاني أعطى الوعد، والولايات المتحدة تعهدت بدعمه وحمايته. ولم يكن الإرهاب شرقياً، إذ هناك جماعات إرهابية أوروبية مثل جماعة (بادر هوف) الألمانية و(الألوية الحمراء) الإيطالية و(توباماروس) بأمريكا الجنوبية. ولقد نيفت المنظمات الإرهابية على الثلاثمائة منظمة، كلها شرقية أو غربية، وإن كان هناك جماعات مقاومة ليست من الإرهاب في شيء، تطلق على نفسها جماعات التحرير، واكبت الاستعمار التقليدي، وقاومته: سلماً وحرباً، وخاضت معه المؤتمرات، ومثل هذه الجماعات، تمتلك شرعية المقاومة، فيما يطلق عليها الطرف الآخر صفة الإرهاب، مثل (الجبهة الوطنية) في مصر التي أسست عام 1936م للتفاوض مع الحكومة البريطانية، ومثل (جبهة التحرير الوطني) في الجزائر التي تشكلت عام 1951م، ورسمت لنفسها سياسة تقوم على مقاومة الاستعمار، وإنشاء دولة جزائرية، ومثل (جبهة تحرير الجنوب المحتل) في عدن.
وهناك جبهات شرقية متعددة، مثل (الفييت كونج) الفيتنامية لمقاومة الاستعمار الفرنسي. وقد تتكون جبهات لمقاومة حكم قائم، وليس لمجابهة مستعمر خارجي، ويندرج تحت هذا المفهوم أحزاب المعارضة. وعلينا أن نفرق بين (الجريمة المنظمة) و(الإرهاب) ف (المافيا) غير (الموساد) ومثل هذا يدخل في تعدد المفاهيم والرؤى. ولو نظرنا إلى ظاهرة (الحرابة) في الفقه الإسلامي، لوجدناها لوناً من ألوان الإرهاب غير المنظم، وقد يتخذ الإرهاب مفهومه الدقيق حين يخيف المجتمع، ويعرضهم للقتل ويعرض ممتلكاتهم للتدمير.
وإذ نقول بأن الإرهاب لم يكن عربي الأصل والمنشأ والولادة فإن ما نقوله ليس ادعاءً لا نقيم عليه حجة، فالمتتبع للأحداث في السبعينيات والثمانينيات يدرك أن دولاً أوربية ك(فرنسا) و(ألمانيا) و(إيطاليا) و(إسبانيا) تجرعت مرارات الإرهاب، وها هي الأحداث الموجعة في (إسبانيا) التي أدت إلى تفجير القطارات، تؤكد أن الإرهاب عالمي الأصل والولادة والنشأة. ومثل هذه الأحداث المروعة تؤكد على أن هناك منظمات لما تزل قائمة، وأفعالها تقع ضمن المفهوم الدقيق للإرهاب، وكم من عمل إرهابي لا يكون لدفع ظلم، ولا لتصفية ثارات، وإنما يكون لإثبات وجود، أو لفت نظر، أو يكون للحيلولة دون نفاذ اتفاق تقترب منه فئتان أو دولتان، ولقد وضع الإسلام أعدل المواقف عند اقتتال الطوائف، فقدم الصلح، وعند البغي شرع القتل، حتى تفيء الطائفة الباغية إلى أمر الله، وبعده تبقى كل الطوائف إلى إطار الأخوة الإسلامية، وقد تتعمد مراكز القوى وجماعات الضغط إفساد بوادر الصلح فتمارس الإرهاب كوسيلة للإفساد والحيلولة دون السلام العادل. ومثل هذه الرسائل الموجعة لا تشكل ظواهر وأعراضاً، وإنما هي تعبير عن الإحباط أو تذكير بالوجود الفاعل والمؤثر، ومما يلفت النظر ويربك المواقف ما تتصف به بعض الدول من عنف في مواجهة الخصوم، ومن ثم تمارس الإرهاب تحت سمع العالم وبصره، نجد ذلك في (إسرائيل)، وقد تمارسه قيادة الدولة عبر عملائها واستخباراتها، حتى إذا انكشف أمرها أذعنت، وتحملت تبعات ذلك. وتاريخ الثورات الحديث مليء بمثل هذه الممارسات الإرهابية، وقد تسهم الدول كافة أو دولة بعينها أو مجتمع من المجتمعات بتشكيل فصائل إرهابية سواء جاء ذلك الإسهام اختياراً أو اضطراراً أو جهلاً أو تعمداً، نجد ذلك عند من حُملوا على المشاركة في (الحرب الأفغانية) فعند عودتهم كانت لهم رؤى وتصورات وتصرفات أخلت بالأمن، ومست سيادة الدولة، ومن ثم أدت إلى مطاردتهم ومحاصرتهم وعزلهم عن المجتمع، وأي انقطاع اضطراري تنشأ عنه عقد نفسية، تتطور إلى حقد فمواجهة، والتعبئة الجهادية التي مارستها كافة الوسائل الإعلامية أثناء (الحرب الأفغانية) وتسهيل مهمة الشباب المتحمسين لمواجهة الاحتلال الروسي لدولة مسلمة شكل ذهنيات ترى مواصلة الجهاد ضد أي دولة غير مسلمة، وحين ضُيق الخناق على عشرات الآلاف من العائدين من أفغانستان والمقيمين فيها، تفرقت بهم السبل، وتلفقتهم عصابات خفية، وظلت فكرة الجهاد قائمة عندهم، وبعض هؤلاء الأشتات دخلوا اللعبة مرة ثانية عامدين متعمدين، مما أضر بالمشروعات الدعوية والإصلاحية، الأمر الذي حفزهم على إعادة تنظيم صفوفهم، وممارسة ضرب المصالح العائدة للدول التي مارست مطاردتهم، ومثل هذا العمل يعد إرهاباً، لأن الدول التي دخلوها ومارسوا الإرهاب فيها، لها سلطاتها، ولها أنظمتها، ولا يجوز الإخلال بالأمن تحت أي مبرر، ومع التحفظ على كثيرٍ من المفاهيم والمواقف فإن ذلك لا يبرر الإرهاب، وبخاصة داخل دولة لا تستدعي أوضاعها أي لونٍ من المواجهة.
ومما يزيد الإرهاب استشراء ويعمق الخلاف، الخلط بين الإرهاب والمقاومة، فكفاح الشعوب من أجل تحرير نفسها من السيطرة أو التدخل الأجنبي عمل مشروع، ومع ذلك لم تمنح هيئة الأمم المتحدة مشروعية ذلك إلا بعد ضغوط ومداولات، غير أن الأقوى هو الأقدر على تحديد المفاهيم، وليس أدل على ذلك من مقاومة الشعب الفلسطيني المستنكر من قِبل الإعلام الغربي وانتهاكات الجيش الإسرائيلي المحالة إلى الدفاع عن النفس. وكيف يقبل عاقل هذه الرؤية الجائرة؟ وهذه المقاييس المغالطة تسقط هيبة القرارات الدولية، وتدفع بالشعوب المغلوبة على أمرها إلى التنظيمات السرية والمقاومة العنيفة، التي قد تطال الأبرياء من رعايا الدول المتواطئة مع الظلم. وخلاصة القول في إشكالية انتماء الإرهاب أن ليس له أبوان شرعيان، وإنما هو لقيط أنجبه اتصال غير مشروع.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:37 PM

الإرهاب وطرائق المواجهة..!
د. حسن بن فهد الهويمل


لك ما يمكن قوله عن «الانتماء» في محاولة لإسقاط الادعاء المخادع الذي راوح في مخادعته بين تحميل الإسلام معرة الإرهاب، واتهام المناهج الدراسية بالتمهيد له. وخلاصة القول: أن الإرهاب ليست له أرض ولا ديانة ولا جنس، وأنه عرض لمرض، متى وُجد العرض فعلى المهتمين التماس المرض، وأن من مثيراته ممارسات غربية خارجة على الأعراف الدولية. وحينئذ نكون أمام «المواجهة» وهي عصية الانقياد ك» المفهوم» و» السبب» و» الانتماء» ، وإشكاليتها أن لكل سبب أسلوباً في المواجهة، لا يصلح إلا له. وإذا كانت مثيرات الإرهاب: دينية أو سياسية أو عرقية أو غيرها، وليست مرتبطة بلعب كونية، فإن المشكلة تتفاقم، وقد تتحول إلى «حرب أهلية» ، تفقد فيها الدولة السيطرة على الأوضاع، وتفقد فيها الأمة الحياة السوية، وقد تتعرض البلاد لفراغ دستوري، ولربما يمس الفراغ الدستوري دولاً مجاورة، ويغري دولاً انتهازية، كي تستغل الفوضى لغرس أقدامها، وتحقيق مكتسبات لا تحلم بها. وليس بمستبعد أن تستشري الفتن في المنطقة برمتها، فتصيب القاصي والداني، وقد ينقلب الضرر على مثيره. وأي دولة لا تضمن جبهتها الداخلية يكون الإرهاب فيها نذير شؤم على أهلها. وحينئذ لا بد من تقصي الأسباب والعمل على تلافيها، والتصنت لحسيس الداخل لا لزعيق الخارج، واتخاذ الحلول المناسبة، وعدم التعويل على الحسم بالقوة، لأن للقوة تداعياتها المضرة، وليس من الحصافة اقتصار المواجهة على مطاردة الفلول، فذلك مؤذن بتصعيد العنف، ولهذا لا بد من الفصل بين العرض والمرض، وتجاوز العرض إلى المرض. فالصداع قد تهدئه المسكنات، ولكنها لا تمتد إلى المرض المثير له. ولقد بدأت العمليات الإرهابية في بعض الدول على شكل مظاهرات فئوية أو كلية، تصاعدت بسرعة، لهشاشة الجبهة الداخلية وقابلية المجتمع للانفجار، وتحولت من الهتافات والشعارات إلى العنف والتخريب، وإشعال الحرائق، وتعطيل الحركة والعمل، والامتداد بسرعة من شارع لشارع، ومن مدينة لمدينة، حتى إذا وجد المتصدون للإرهاب أنفسهم أمام طوفان الغضب، اضطروا إلى التخلي عن مهماتهم والانضمام إلى الجماعات المعارضة التي تعبِّر عن معارضتها بنسف الجسور، وتهديم المؤسسات، وإحراق الممتلكات. وقد تعلن الدولة حالة الطوارىء، وتنزل فرق من الجيش إلى الشوارع، وعندما تستنزف الدولة كل وسائلها وإمكانياتها، تخنع أو ترحل، أو لا تتمكن من كل ذلك، فتسقط. ولقد شهد العالم أنواعاً من المظاهرات المصحوبة بالعنف الذي أسقط الحكومات. أما حين تكون الدولة شرعية وجبهاتها الداخلية متماسكة، والإرهاب فيها محصوراً في فئة قليلة، ليس لها عمق بشري، ولا مشروعية، فإن عمليات المطاردة تكشف عن فئات الإرهابيين، بحيث يسقطون الواحد تلو الآخر. وهذا اللون من الإرهاب يكون جزءاً من لعبة سياسية، استكملت مهمتها، ولم تأبه بفلول المنفذين لها، أو هو إفرازات لعبة سياسية. وأقرب مثلين «أحداث إيران» زمن الشاه «وأحداث المملكة» زمن استفحال الظاهرة في العالم، بعد الحادي عشر من سبتمبر. فأحداث «إيران» أسقطت الدولة، فيما بدأت بوادر سقوط الإرهاب في «المملكة» . وقد لا يكون الإرهاب ناشئاً من خلاف بين السلطة والأمة، وإنما هو ضد مصالح دولة كبرى منتشرة في أنحاء العالم، وعندئذ تدخل حسابات الخسائر والأرباح، وحين يتغلب الإرهابيون في نظر الدولة المحتلة، تلملم أطرافها، وترحل، تاركة البلاد تعيش حالة من الفوضى وحمامات الدم، وهذا ما نخشى وقوعه في العراق، فالتحالف أسقط الحكومة، وأحدث فراغاً دستورياً، لم يسده بعد ورحيله، وذلك مؤذن بحرب أهلية مدمرة. والمتابع للحروب الباردة والساخنة وصراع المصالح، يقف على أعمال إرهابية خطط لها المتنازعون على الغنائم، ونفذت في موقع التنازع، وعدت من المقاومة المشروعة. وقد تتشكل في الدولة الواحدة مراكز قوى متعددة، تقود البلاد إلى تناوش في السلاح، منذرة بتفكك الوحدة الوطنية وتعدد الكيانات، متى كانت تركيبتها السكانية من عدة طوائف أو قوميات أو كانت أقاليمها ذات خصوصيات جغرافية أو تاريخية. ومثل هذه الأحوال تستدعي النظر الثاقب، وعدم خلط الأوراق، ولا يمكن مواجهة أي عمل إرهابي، وقطع دابره إلا برصد دقيق لكل ملابساته، ودراسة متقصية لأسبابه: داخلياً وخارجياً، ورسم خطة ناجزة أو مرحلية لمواجهته، والحيلولة دون نمائه وانتشاره وإيقاظه للخلايا النائمة. فالمواجهة قد تكون بالمثل، وقد تكون عن طريق الحوار والتنازلات، وقد يكون الإرهاب عرضاً زائلاً، لكونه إفراز ظروف خارجية، لا يكون للبلد فيه إلا الظرفية المكانية. وليست المواجهة قصراً على رجل الأمن، وليس الحل وقفاً على المطاردة والمصادرة، وتبادل إطلاق النار، وليست التصفية حصراً على التصفية الجسدية، فإذا كان وراء الإرهابي مبادىء يؤمن بها، فإنها ستظل قادرة على التفريخ، وإذا كان لا يفل الحديد إلا الحديد، فإن الكلمة المحكمة لا يفلها إلا الكلمة الأحكم، والذن يُقدِمون على العمليات الانتحارية، يستمدون إقدامهم على الموت من مبادىء يؤمنون بها، ومن علماء يزينون لهم الانتحار باسم الاستشهاد، ومثل هؤلاء لا يحسم شرهم القتل، ومن ثم لا بد من سلاح الكلمة، لتصحيح المفاهيم، وتحصين من لم يخترق الانحراف أدمغتهم.
والتصفية الجسدية قد تمتد إلى شباب غرر بهم، واتخذوا سبيل الإرهاب عن قناعة، ولو هيئت لهم حواضن فكرية ودينية وسطية متزنة وقادرة على استمالتهم وإقناعهم لكان أن تحولوا عما هم عليه، وندموا على فعلهم، ومتى أمكنت المواجهة بالموعظة والتوعية، فإن المصير إلى غير ذلك مصير إلى المفضول مع إمكان الفاضل، والمواجهة السليمة الحكيمة تكون من هذا ومن غيره، ولكل حدث حديث. والمصابون بداء التطرف والغلو والإرهاب لن يقتصر فعلهم على التفجير والاغتيال، إذ ربما يكونون أصحاب قضية، لهم أهدافهم وذهنياتهم، ولهم نظرتهم المستقبلية القائمة على الدعوة، وتنشيط الخلايا وتنميتها، وحين تكون قضيتهم عقدية فإن من الصعوبة بمكان قطع دابرهم بقوة السلاح بل لا بد من قوة الكلمة، ولقد شهدنا مؤشرات لذلك، وليس ببعيد أن يعيد التاريخ نفسه، ونرى خوارج العصر يمثلون الغلو والتطرف الذي اتصفت به طائفة الخوارج في الصدر الأول من الإسلام، ولقد شهدنا «معتزلة العصر» ممن عولوا على العقل، وهمشوا النص في «نظرية المعرفة» . والتطرف العقدي أنكى من التطرف السياسي، وإذا كانت حركة التطرف العقدي تتنامى، والشباب من حول المتطرفين يتعاطفون معهم، ويستمعون إليهم، ويتقمصون رؤيتهم، ويمارسون عملهم، فإن الحل الأمثل لا يكون في واحدية المواجهة, ولا في عنفها، ولا يكون - أيضاً - في تسامحها، ومن ثم لا بد من التفكير والتقدير والنزول بكثافة الإمكانيات العلمية والثقافية والإعلامية، لإيقاف تشكلهم الذهني ونموهم البشري، والحيلولة دون ممارستهم للدعوة والتغرير بالناشئة، ثم النظر في أساليب الدعوة والإرشاد والموعظة، وتشكيل كوادر قادرة على مقارعة الحجة بالحجة، وقادرة على اعتماد الأسس النفسية الممكنة من اختراق أجواء الآخر، واستبعاد أي أسلوب قسري فوقي متعنت، والحيلولة دون قيام أي كيان تطوعي، لا يخضع للمراجعة والمساءلة والتقويم المستمر. والمتابع للخلايا والمنفذين يدرك أن وراءهم تعبئة ذهنية منظمة وقادرة على التكيف مع الأوضاع والسرعة في تحولات الخطاب، ولما كان الإرهاب يتطلب تعبئة حسية ومعنوية، تعبئة السلاح، وتعبئة الأفكار، كان لزاماً على المسؤولين والمقتدرين من المواطنين أن تتضافر جهودهم لمواجهة التعبئتين:
- التعبئة المادية.
- التعبئة المعنوية.
ولما كانت التعبئة الحسية عند الإرهابيين قائمة على صنع المتفجرات، وتهريب الأسلحة، وتخزينها فإن المعنيين من المسؤولين والمواطنين أمام ثلاثة أنواع من أنواع التعبئة الحسية: - «التهريب» و» التصنيع» و» التخزين» ولكل نوع أسلوب مواجهة، ذلك على مستوى المواجهة الحسية، وهي أهون المواجهتين.
أما المواجهة المعنوية فإنها ذات شقين:- مواجهة الذات، ومواجهة الآخر، وكلتاهما تحتاج إلى تحرف متوازن. فالذات تحتاج إلى النقد والمساءلة والتقويم والتطوير، والآخر يحتاج إلى خطاب يراوح بين الإحكام والتفصيل، والمواجهة تكون بإزاء خطر قائم، وآخر متوقع القيام. فهناك مواجهة تتمثل بأخذ الحذر، وأخرى تأخذ بزمام المبادرة. والخطر القائم يكون قابلاً للنمو أو الانكماش أو الاجتثاث، وقد يتبدل من حال إلى حال، على سنن السباق بين أساليب الجريمة وأساليب المواجهة، وعلى ضوء هذه التوقعات يحتاج المسؤول إلى مراجعة مستمرة لكل أساليب الاحتياط والمبادرة، فذلك يحول دون جمود آلية المواجهة، واكتساب المناعة عند الممارسة الإرهابية. ولأن الجريمة والمكافحة في سباق مستمر، فكلما تفنن المكافح في آلياته تحرف المجرم في محاولاته فإن الوقوف في المكافحة ولو للحظة واحدة أو ارتهانها بالمقاومة المسلحة تمكن الجريمة من التحرف الماكر. وهكذا يستبق كل من المجرم والمكافح طريق النجاة. والظفر والنجاة مبتغى الطرفين، وكل طائفة تعد لهما ما استطاعت من قوة أو حيلة.
وما تعرض له رجال الأمن من قتل وما تمكن منه الإرهابيون من الإفلات والنجاة تعد مؤشر تفاوت في إعداد الخطط واتقانها، ودليلاً على تعدد الحيل للوقيعة في الطرف الآخر. وحين تتخذ المواجهة مساراً واحداً وأسلوباً واحداً، يتحرف الإرهابيون أنفسهم أو المخططون لهم من وراء الحجب لأساليب تمويهية، وقد تضطرهم المحاصرة إلى التحول من التفجير إلى الاغتيال، وقد يُضَيَّق الخناق عليهم، فَيُمارسون البيات، من ثم يتحولون من عصابات تنفذ الأعمال الإرهابية إلى دعاة على أبواب الفتنة، كما يجد المستفيدون فرصة التغرير والتضليل والتعبئة الذهنية، والجميع يتحينون فرص الغفلة أو الضعف أو خطأ التقدير والتوقيت والتدبير، فيما يتصور المتصدون لهم من رجال الأمن والمباحث أنهم قد قطعوا شأفتهم. ولهذا لا بد من تنوع أساليب المواجهة وتعددها واستمرار التوعية والمتابعة، ودخول المؤسسات الثقافية والفكرية والإعلامية والدينية طرفاً فاعلاً في المواجهة، وليس طرفا متطوعاً، وليس من المعقول ِأن تقتصر تلك المؤسسات على مواجهة نفسها ومساءلة بعضها. وفي تعدد أساليب المواجهة وتنوعها، وعدم الإذعان لمن يحيل على المناهج أو على الحركة الإصلاحية أو على بعض المؤسسات الخيرية بشائر خير. ومكمن الخطورة أن القبول بإحالة الإرهاب إلى المؤسسات التربوية والدعوية والخيرية يصرف المواجهة عن مسارها الصحيح. ومع أننا نصر على أن الإرهاب وافد على البلاد، وأن المؤسسات الإسلامية والدعوية والتربوية منه براء، إلا أن من الحصافة أن نأخذ كل شيء في الاعتبار، وألا تحملنا الثقة على الغفلة، إذ كل شيء ممكن، ولا أقل من الرصد والتحري، ووضع كل مؤسسة تحت المراقبة والمتابعة، والنظر في أساليبها التربوية والدعوية، فإذا سلم «المقرر» و» نصوصه» فقد لا يسلم «المنهج» ،وإذا سلم «المنهج» فقد لا يسلم «الموصل» للمعلومة، وإذا سلم الجميع فقد تكون «المرحلة العمرية» للطلبة غير قادرة على استيعاب المقتضيات وتمثلها، ومن ثم لزم تحديث الناس بما يعقلون، فسلامة المقرر والمنهج والمدرس قد يقابلها عقل المتلقي الذي أعطي ما لا يعقل ،ولقد نهي حملة العلم الشرعي عن محادثة الناس بما لا يعقلون، حتى لقد عُدَّ مثل ذلك من دواعي الكفر بالله ورسوله، والدعوة المرحلية سبيل الرسل. ولقد أومأ أحد المسؤولين إلى أن «مادة العقيدة» تقع في عشر ورقات، ويمكن أن تقرأ في ساعة، ولكنها مع المدرس تظل طوال العام، فماذا هو قائل؟ إذ ما من أحد إلا وهو عرضة للخطأ أو الغفلة التي تمكن الماكرين من استغلال غفلته واختراق أجوائه، وليس بمستبعد أن يحرف الكلم عن مواضعه. ومن زكى مؤسساته وغفل، سبقه إليها من لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار إلا بالإفساد. وقد يعمل الإنسان لا يريد من عمله إلا الخير، وليس في نيته إلا ذلك، ولكن عمله يؤدي إلى ما سواه، وقد يندس في المؤسسات من ليسوا من أهلها، مستغلين الثقة المتبادلة ودعوى الحصانة أو العصمة. والقطاعات الأمنية والتربوية والتوعوية والإعلامية مسؤولة أمام الرأي العام عن كل ما يحصل من تقصير أو انحراف. وكل بلاد العالم معرضة للمؤامرات والمكائد واللعب الكونية، وكل مواطن على ثغر من ثغور أمته، عليه ألا تؤتى الأمة من قبله.
وإذا لم تأخذ الدولة حذرها، أخذتها المصائب من كل جانب، وليس أدل على ذلك من اختراق الحدود بأفتك الأسلحة والمتفجرات، واختراق الأفكار بأضل الأقوال. ولو كنا حذرين لما كانت الأسلحة بهذا الحجم، ولما كان الانحراف بهذه الخطورة. وصفوة القول أن تكون المواجهة حضارية متعددة المستويات، فوضع المواجهة المسلحة في موضع الحوار والتوعية مدعاة إلى مزيد من التدهور، ويقال مثل ذلك عن وضع الرأفة والرحمة والحوار موضع المواجهة المسلحة، فالمسألة مرتبطة بالأحوال، ولا يجوز الرهان على مواجهة محددة، ولكي تكون المواجهة حاسمة لا بد أن نحدد «المفهوم» و» الأسباب» و» الانتماء» فإذا وضح الأمر أمكن حسم المشكلة. وإشكالية العالم الثالث أن أموره تقضى في غيابه، وأنه لا يستشار عند حضوره، وأن خطابه نقيض إمكانياته، وأن أزماته في مؤسساته، وأن العالم المتغطرس يتخذ منه مجالاً لتصفية الحسابات واكتشاف القدرات، وكل لعبة يخطط لها، ثم لا يتقن تنفيذها، تكون مهيأة لتفريخ الإرهاب بوصفه الحل الوحيد لمواجهة التحدي.
ولا يمكن حسم الإرهاب إلا بمواجهة الذات قبل مواجهة الآخر.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:37 PM

التيه في التغرير والتعذير لدولة الأخطبوط..!
د. حسن بن فهد الهويمل


لا مساس فقد وقع الفأس على الرأس، والمثير أنه رأس بحجم الكرة الأرضية، بما جمع وأوعى من علم بظاهر الحياة الدنيا. وامكانياته الدقيقة العميقة الشاملة لم تحم دم الجنود الأمريكان وأشلاءهم من التدفق والانتثار في الصحاري والقفار، كأرخص ما يكون من الدماء والأشلاء، ولن يكون هذا الوضع مخاض هذه الامكانيات، ولا يمكن أن يهون عليه دم أبنائه، وهو الأنقى عنده من ماء السماء، والأثمن من كل سائل يُسيل اللعاب. وما كان لأفراد جيشه أن يُتخطفوا من كل جانب، وعلمه بدقائق الأشياء يفوق قدرة الشبكات العنكبوتية. ولو تصور الأعمى الأصم حجم الانفاق على مؤسساته:- الاستخباراتية والمعلوماتية وأقمار التجسس لقطع بأن أدق التفصيلات في حيوات الأناسي والمؤسسات والمنظمات لا تعزب عن علمه، ولتصور أن الكرة الأرضية ما هي إلا حبة مسبحة يقلبها بين أصابعه، وكيف يند عن علمه شيء من ظاهر الحياة، وهو ينفق أكثر من (ثلاثين مليار دولار) على المهمات التجسسية والمعلوماتية. ورغم ذلك ضاع دمه، وخفت هيبته في (العراق)، كما حصل من قبل في (فيتنام) و(لبنان) و(الصومال) ولم يتردد في الفرار من الزحف، وما كان فراره لتحرف ولا لتحيز، وإنما هو الفشل في التخطيط والخوف من تصاعد الخسائر. ومع المجازفات لن يكون القرن الواحد والعشرون قرناً أمريكياً كما يقول (بيارنيس) - ولنا عودة لهذا الكاتب - وأمام هذه النكسات الموجعة، والتدبير المرتبك، والحسابات الخاطئة، تستبعد طائفة من حملة الأقلام وقوع (أمريكا) في الخطأ، ولا تني في التبرير والتعذير. وما هي مع هذه الأخطاء الصارخة إلا كالعين المرمودة والفم السقيم. وصدق الله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وحجة المنكرين لأخطاء التقدير والتدبير أنه من المستبعد، بل من المستحيل أن يكون تصرف (أمريكا) مرتجلاً، فهي عندهم بما وهبها الله من علم بدقائق الأمور تواجه الأشياء عبر مؤسسات استشارية، ومطابخ سياسية، وفرق عمل تصيب المفاصل، تمشي وئيداً في خططها، متخذة (استراتيجيات) طويلة الأجل، لا تعدل عنها، ولا تساوم عليها. وهي تعرف ما سيلاقيها، وكل عمل تباشره يكون لديها عنه من المعلومات ما لا تحتاج معه إلى مزيد، كما أن لديها عدة طرق، وعدة احتمالات، وعدة (سيناريوهات)، لن تفاجأ معها بمقاومة، ولن ترتبك بتمرد، ولن تتراجع من أجل خسائر تعرفها سلفاً، وخططها مرسومة، ومسارها محدد، ذلك ظن المبهورين الذي أرداهم. وإن تعجب فعجب قولهم:- إن ما يراه الناس أو يسمعون به من قتل أو تفجير أو اكتشاف تعذيب وحشي إن هو إلا بعض لعبها التي أحكمتها وتمويهاتها التي رسمتها، وكل شيء عندها محسوب ومحدد. ذلك قولهم بأفواههم، يعللون الضربات الموجعة، ويعذرون عن الأخطاء الفاحشة. وإذ لم نكن دونهم في معرفة امكانيات (أمريكا)، فإنهم دوننا في تقدير حجمها أمام قدرة من بيده أزمَّة الأمور. وأحسبهم يجهلون أو يتجاهلون، ان فوق الكون رحمن لكل مخلوق رحيم بالمؤمنين، حرم الظلم على نفسه، وجعله بين خلقه محرماً، لا يعزب عن علمه شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو اللطيف الخبير، رب يدبر، وقضاء يمضي { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، لو عرف المخدوعون والمبهورون ذلك، لكانت لهم حسابات أخرى، لا تنكر الأسباب، ولكنها لا تسلم لها. نقول هذا ونحن نعرف الفرق بين التواكل والتوكل، ونعرف أن الأخذ بالأسباب واجب، وأن تركها دروشة، وأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وأن الملائكة لن تخفّ مردفة لتقاتل عنا، وألا نصر باعداد العدة والتعاون والاعتصام.
و(أمريكا) التي يراهن عليها البعض، تعيش حالة من الارتباك، تبدت في مقولات متذمرة، تفوه بها صناع القرار ومباركيه، مفادها ألا مقام لهم إذا كان الشعب العراقي لا يرغب ذلك، فيما قال آخرون نقيض ذلك تماماً. ولسنا على يقين من القرار الحاسم، غير أن ذلك كله مؤشر اضطراب. ومصيبتنا أن هذه المآسي الموجعة سوف تمر بالذاكرة العربية كسحابة صيف، كما نسيت من قبل مآسي موجعة مارسها الاستعمار: (البريطاني) و(الفرنسي) و(الايطالي).
وعذر الناس أنهم ممتلئون بمصائب حية، قد تلهيهم عن مآسي التاريخ. وعتبنا غير المُعتَب يستدعي التساؤل عمن غرر بهذه القوة العظمى، وجر قدمها إلى هذا الوحل، وعمن قام رهانه عليها، وأنها تصرف ذاتها بحكمة وروية، وأنها قادرة على حسم المواقف، متى شاءت، وكيف شاءت، وأنها مسددة الرأي في تأديب المتمردين على مصالحها، وعمن يتصور أنها جادة وصادقة في تسويق (الديموقراطية)، وفرض الاصلاح, وحماية حقوق الإنسان. فكل المغررين والمراهنين والمصدقين يقترفون تزييف الوعي العالمي عبر وسائط النقل ووسائل الاعلام، والخطيئة التي لا تغتفر أنه عندما يتحصحص الحق، وتنجلي الغمة، ينسى الكتبة والراغون ما قالوه، وما كتبوه من رهانات وتزكيات، ولا يترددون في استئناف أحاديث جديدة، هيئت لهم فواتحها. وكم قرأنا لمفكرين وساسة وكتاب مقولات قطعية، صارت هباء، وصارت سدى، وآلت إلى مزبلة التاريخ. والمؤلم أنهم يشحذون أقلامهم ليخوضوا في حدث غيره، وليدخلوا في رهانات خاسرة، يزيفون فيها الوعي، دونما خجل أو تردد. ولو كان عند أحدهم أدنى قيمة للمتلقي، لرفع قلمه، وطوى صحفه، وكفّ لسانه.
وكيف يكون الوهم أو التردد والأحداث المتلاحقة تشي بأن أمريكا تتجرع مرارات غزوها ولا تحصد إلا الكراهية ولا تواجه إلا المقاومة، وكان الأولى لها أن تفكر بالمخادعين. وكيف لا تفكر بمن يشوهون سمعتها وينصبون لها الفخاخ، ويتعمدون تدمير كرامتها وسمعتها، قبل أن يدمروا مثمنات خصومها؟ وليس أدل على ذلك من مداولات مجلس (الكونجرس) الذي يصيخ كل أعضائه لشرذمة قليلة مغروسة فيه.
والتعويل على عصابات الشر، من الحسابات الخاطئة، التي يستبعدها المبهورون، وما من حصيف ينكر خطأ أمريكا في التعويل على (المعارضة العراقية)، التي زينت لها الدخول في الحرب، وخدعتها بدعوى قوتها وتفكك الجبهة الداخلية. ومهما كان الحكم السالف سيئاً وظالماً فإن الاحتلال الأجنبي أظلم وأطغى. والفراغ الدستوري الذي أحدثه سقوط النظام، أيقظ الخلايا النائمة، ومكنها من ايذاء المحتل وخلط أوراقه، والدول المصطلية بنار الغطرسة الأمريكية وجدت الفرصة مواتية لتصفية الحسابات المتراكمة. لقد كان لاسقاط النظام أثره السيئ على العالم بأسره. والعقوق بدا بأبشع صوره، حين قال (بوش الابن): لن أكرر غلطة أبي بالتوقف دون اسقاط النظام وحسم الأمور. فيما كان الأب أصوب رأياً وأحكم تصرفاً. جاء لتحرير (الكويت)، والتف العالم من حوله، تحت هذا الهدف المشروع، ولما حررها، توقف قبل أن ينفض من حوله الحلفاء، وخرج راضياً بنجاح خطته قبل استشراء المقاومة، ولم يأخذه زهو الانتصار على كل المستويات: السياسية والعسكرية. ولو أن (الابن) سمع تحذيرات المخلصين، وجنب العالم ويلات الحروب، وجنب أمريكا كره العالم، واكتفى بمضاعفة الحصار ودعم المعارضة، لما حصل ما حصل. ولو أنه حين ارتكب خطيئة الحرب، لم يتسرع في حل الوزارات، وتسريح الجيش، والتمكين من تسرب أسلحته، لكان في ذلك بعض التوفيق. لقد توالت الأخطاء في: انتشار الجيش المحتل في المدن والأحياء. وفي اعلان الاحتلال. وفي تشكيل مجلس حكم مرفوض. وفي العنف والأثرة، وفي التراجعات والاضطرابات، وفي العجز عن ضبط الأمن وعودة الحياة الطبيعية. وعجبي من غياب رجالات أمريكا وأساطين الفكر والسياسة عن مثل هذه التصرفات، وعلم الله أن أي حليف ل(أمريكا) لا يود لها هذا الوضع، إنها بحاجة إلى عقود لاستعادة مكانتها وسمعتها.
وبوادر الأوضاع تؤكد أن التغرير قائم على أشده, تحركه عدة قوى: مؤسساتية وغير مؤسساتية. وليس هناك ما يمنع من تعرضها للتغرير، ومؤشراته فيما يتسرب من تصريحات اسقاطية، تدل على الوقوع في مصيدته. وتمادي المغررين بالغي قائم بأبشع صوره، وها نحن نسمع بالمجموعات المتشددة في (الكونجرس) وهي تنحرف لمكائد جديدة، وهم الذين طرحوا من قبل مشروعاً لتحرير العراق، وشرعنوا لذلك بحتمية القضاء على سلاح الدمار الشامل، واعادة الحرية والديموقراطية، وفك الأسرى والمساجين، وعودة الهاربين من ظلم البعث، وما شيء من ذلك تحقق. وأمام ذلك لا بد من البحث عن دوافع أخرى غير معلنة أو الاعتراف بأن دولة ك(أمريكا) يمكن أن تخدع، وبالتالي تسقط رهانات المزكين، ويصبح كل ما قيل وما حصل كذبة غير محكمة، مكنت لها أخطاء التدبير والتقدير والتوقيت. وعلى الذين يراهنون على تفوق (أمريكا) بكل شيء أن يلتمسوا لها المعاذير، ولا مجال للتبرير ولا للتعذير، فما يشاهده العالم من قتل وتفجير وتعذيب لا تمارسه الوحوش الضارية، فأين الحرية؟ وأين الديموقراطية؟ وأين الحقوق؟ وأين التاريخ النزيه؟ وأين المبادئ والمواقف؟ ومع كل هذه النكسات الإنسانية والحضارية نسمع ونرى أعضاء من (الكونجرس) لا يتحرجون من جر قدمها لمزيد من التوحش مرة ثانية وثالثة. وها هم أولاء يتحرفون لمشروع قانون جديد، خاص ب (سوريا) و(لبنان), باسم قانون تحرير (سوريا ولبنان), وكان حقاً أن يطالبوا بتحرير (الجولان) و(مزارع شبعا), أو منع اسرائيل على الأقل من القتل والهدم, ومنع أمريكا من امدادها بالسلاح ودعمها بالتأييد في كل المحافل، وكان حقاً على الطابور الخامس أن يكف عن جلد الذات الإسلامية ونبش تاريخها. وإذا كانت (أمريكا) و(بريطانيا) قد خسرتا الأموال والأنفس والمعدات والسمعة في دخول العراق، فمن ذا الذي يرضى لأهله وعشيرته التورط في جناية أخرى. وعلى الرغم من كل هذه الترديات، فقد أعطى الرئيس ضوءاً أخضر لتضييق الخناق على (سوريا)، وجاء ذلك على شكل اصدار عقوبات اقتصادية. والأسلوب الفج المرفوض بكل المقاييس لن يزيد الوضع العربي إلا تعقيداً وتصعيداً، وحتى المخادعة بالاصلاح لم يتعاطف معها إلا المتعلمنون المتسطحون, وهل عاقل يقبل من دولة تحكمه أن توجه لحاجات شعبها من الخارج؟ وهل أحد يتصور أن الخطأ لا يمكن اصلاحه إلا بالضغط الخارجي؟ العالم العربي أحوج ما يكون إلى الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي، ولكنه بالوصاية لن يكون كما يريد المواطن، لا من حيث الصبغة, ولا من حيث الأولويات. وما جدوى الاصلاح الذي تحمل عليه الدولة كرهاً. وما الاصلاح الذي تنادي به دولة لها دينها وللآخرين دينهم, ولها حضارتها, ولهم حضارتهم إلا مسخ وانسلاخ. والشعوب المتطلعة إلى الاصلاح حين يخدعها المحتل، تكون كالمستجير من الرمضاء بالنار.
وإذا اخترق المتشددون (الكونجرس) وأضلوا كثيراً من المعتدلين, وحملوهم على الزج بمثمنات دولتهم البشرية والمادية والأخلاقية فإن اختراقات الدول الصغيرة من باب أولى. والمجموعة المتآمرة على مصالح أمريكا في (الكونجرس) تسمى من باب المخادعة (مجموعات متشددة) والحقيقة أنها عصابات متآمرة على مصالح (أمريكا) وسمعتها، وعلى الموفين بعهدهم لها.
والتطوير والاصلاح مطلبان حضاريان، لا يجوز اتخاذهما مبرراً للتدخل. و(اسرائيل) المغروسة في الخاصرة العربية لا تريد للشعوب أن تملك ارادتها، ولا للحكومات أن تصالح شعوبها، ولا أن تصلح أوضاعها، لأن في ذلك مواجهة معها وسعياً جاداً لتقليم اظفارها. وما كانت (اسرائيل) التي غرست في (الكونجرس) عصاباتها تريد الرشاد للعباد. واقدام أمريكا على فعل عسكري أو سياسي ضد أي بلد عربي، سيمتد أثره السيئ إلى أمريكا نفسها. وها هي قد بدأت تفقد الأصدقاء والأعوان, وأخذت مصالحها تتعرض للاعتداء في آفاق المعمورة، ولن يبقى معها إلا العملاء والمأجورون، وهؤلاء غير مؤثرين، فالقبول أهم من القوة، والعدل أبقى من الظلم. ومن مصلحة أمريكا والعالم بأسره كشف هذه العصابات التي تتذرع بالشدة، وما هي في حقيقة الأمر إلا عدو متقنع، يخدم مصالح صهيونية، تضر بأمريكا وبأصدقائها، وتعرض وحدتها للتفكك. ومؤشرات افساد الأوضاع العربية، وتدمير العلاقات مع دولة القطب الواحد وجهت تلك العصابة إلى تقديم الدعم للمنظمات والأفراد داخل (سوريا) وخارجها، تحت ذرائع واهية، تتمثل بتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، ولست أعرف كيف يكون دعم المجتمع المدني بدعم الحملة الإعلامية ضد حكومة قائمة، وتدريب فصائل المعارضة على حمل السلاح، أليس في ذلك اخلال بالأمن، وإثارة للفتن، وتحويل البلد المستقر إلى بؤرة من التوتر والصدام. وإذ نزكي أحداً، ولا ندافع عن أحد، ولا نجرم المعارضة، ولا يحق لنا التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد، إلا أننا نود تفهم التلويحات الأمريكية، والبحث عن المغررين بها المعرضين لسمعتها المضرين بمصالح الشعوب المتصالحة مع حكامها.
وأمام هذه المغامرات الهوجاء وتتابع الترديات, تنفست حكومة الظل وبدأت تعليقاتها اللاذعة للرئيس (بوش) ولسياسته الموصوفة بالرعونة، وحين يتقاطر المعلقون على الأحداث بطريقة ساخرة، يصل الفعل إلى طريق مسدود، وحتى رؤساء الحكومات الموالية لأمريكا، استهوتهم التعليقات الساخرة أو الشامتة، فالرئيس (الفنزويلي) طلب من (بوش) الركوع أمام الباب وطلب المغفرة من الانتهاكات، و(آل جور) يسخر من (بوش)، ويصف تعذيب السجناء بوصمة عار على سمعة أمريكا، وتهافت القادة والزعماء والمعارضين على اجترار الكلمات الشامتة دليل على أن اللاعبين الاذكياء فوتوا لعبهم على دولة المخابرات والاستخبارات والأقمار الصناعية لجمع المعلومات. وواجب العالم العربي انتهاز الظروف، والنفاذ من هذا الواقع المتوتر، فالأمة العربية متخمة بالمصائب مثخنة بالجراح مفعمة بالأزمات، ومصلحة الشعوب في الحِلم والأناة والسكينة، ولن يتحقق شيء من ذلك إلا بوحدة الصف والهدف، وتنقية الأجواء، وتفعيل المؤسسات، ومصالحة الشعوب، والسعي بمصالحها، ومبادرة الاصلاح، وتلافي الأخطاء، وفضح المرجفين والمخذلين، والاعتصام بحبل الله المتين لدرء الخطر القادم، خطر التآمر من داخل (الكونجرس)، فالمسألة ليست مسألة تشدد، ولا مسألة تعصب كنسي. المسألة مسألة ابادة للإنسان العربي من خلال التغرير بدولة ليست لديها الخبرة الكافية بأوضاع الشعوب الرافضة للاحتلال. إن الوجود العسكري على أي أرض عربية يعني تفجر الأوضاع، واستشراء القتل العشوائي، وأمريكا خارجة من المنطقة عاجلاً أو آجلاً، ومن الخير لها أن تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:38 PM

عندما نفجع بالنخبة أو نخدع بالمتنخوبين!(1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


لكل فجيعة أو خديعة مؤشراتها، فالنخبوي حين تتشابه عليه القضايا ثم لا يعرف حمى الله ورخصه. والمتنخوب حين يتمظهر بالتماس مع الثوابت، ولا يتحرج من نسف المسلمات، أو حين يتباهى بتجريح العدول من صفوة الصفوة، تقع الأمة تحت طائلة الفجيعة والخديعة: فجعيتها على حماة يعطون الدنية في الدين، وخديعتها بأحداث يخوضون في آيات الله بغير علم. وليس من الفجيعة، ولا من الخديعة مراجعة الأقوال، ولا تعقب الأفعال، ولا الأخذ والرد عن بصر وبصيرة. فكل عالم مجتهد يؤخذ من كلامه ويرد، وكل مسؤول قصَّر أو تجاوز، يجب أن يوقف ويُسأل. ولقد قالها عمر: - (لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها). وما أضر بالأمة إلا التصنيم والتعذير والسكوت عن المريب. وكم نود ألاّ يتصورنا المصطلي بنار تأوهاتنا مسلِّمين لقول، ولا مصنمين لقائل، ولا متسامين بمسؤول فوق المراجعة والمساءلة. وكم نود ألاّ يحال امتعاضنا وتفجعنا إلى ماضوية ترفض الجديد، ولا إلى فَرَقٍ يهاب الاقدام، ولا إلى تردد يفوت الفرص، ولا إلى مداهنة تزين سوء العمل، ولا إلى جهل بالمعارف والمقتضيات والمقاصد. فنحن مع النقد والمساءلة، والتجديد، والتجريب، ولنا تواصلنا ومتابعتنا للطريف والتليد عبر كل مصادر المعرفة. نستشرف المستقبل، ونعطوا إلى وارق الحضارات، ونرفض التشبع والادعاء، ونتأبّى الارتماء في أحضان الغير، ونتحفّظ على المسخ والتمييع. وفي الوقت ذاته نحترم المسؤولية، ونقدِّر المسؤول قدره، ونفرق بين الممكن والمستحيل، والواقع والمثالية، والتوازن والميل.وكل ما نحن عليه أننا نمقت المجازفة في التجهيل، ونرفض الإيغال في التسفيه، ونشمئز من الإمْعان في التجريح، ونبرأ من الجرأة على ضرب الثوابت، ونعيب اجترار ما قد فرغ من قوله المستشرقون، ومن والاهم من المستغربين. وما أضرَّ بالأمة إلاّ تعالم الجاهل، وتعجّل الصدارة من غير ذوي الأحلام والنهى. ولكل زمان أغيلمته المندفعون، وكهوله المتصابون، الذين يربكون مسيرة الأمة، ويُصدِّعون تلاحمها، ويهددون وحدتها الفكرية. ولكل أغيلمة طرائقهم في التوهين، وآلياتهم في التصديع، ورؤيتهم في تصوُّر الحرية والحقوق.وفهم الأشياء على غير مراد منشئها وقوعٌ في الفتنة. وكم حذَّرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم- من الأحداث والأغيلمة، كقوله: - (هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش)، وكأنه يرى مغامراتهم عبر حقب التاريخ رأي العين.
وحين لم يتأدب المتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلب أحد الغيورين من الصحابة التنكيل به، إلاّ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه، مبيناً ما سيخرج من ضئضئة من نوابت سوء، نحقر صلاتنا وصيامنا عندهم، يحفظون القرآن، ولكنه لا يبلغ تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يحملون أثراً، ولا يمتثلون أمراً. وما من متجرىء على حيازات الأمّة إلاّ ويكون فيه شبه من أولئك، ويكون وراءه من يمده بالغي، ويمكِّن له في مسارح الفكر، وفوق أنهر الصحف، وعبر قنوات البث، وهم الدعاة الذين أخبر الصادق الأمين أنهم على أبواب جهنم. وإذا طُلَّت طائفة من هذه النوابت، قامت طائفة أخرى، تقول هجراً، وتفعل نكرا، ووجدت من يعذر لها، ويخذِّل الغيورين الناصحين، بحجج واهية، ومبررات مكرورة: كحرية التعبير، وحق الاجتهاد، ومشروعية الاختلاف، دون ضابط أو شرط أو إمكان. والمتابع للمغررين والمستجيبين يشمئز من أساليبهم في التغرير ومن سرعة الاستجابة لهم على كل المستويات. فإذا سمعوا قصيدة معوجة، أو قرؤوا قصة ملتاثة، أو بدههم رأي فطير، أو تعقبوا فكرة فجة لأحداث مبتدئين، طاروا بها فرحاً، وأسبغوا عليها من الثناء ما لم تأذن به أصول المعارف. وها قد حصحص الحق، وظهر ما كانوا يخفون من زائف القول. وما يقال على مدرجة الفن، قيل ما هو أقبح منه في سوح الفكر ومطارح السياسة، وفي كل يوم تسقط أقنعة، وتحاك أخرى، والأمة تتجرع مرارات المقترفات من أبنائها.
والمتابعون للتاريخ الفكري، يقفون على محطات زمنية يعرفها الخبيرون من لحن القول، حتى يقول المسكونون بالهم والذين معهم:- إنّ التاريخ يعيد نفسه أو يكاد. ويكفي المرء توثيقاً أن يستعرض أطرافاً من تاريخ (الخوارج) و (المرجثة) و (المعتزلة) ثم ليقفز إلى التاريخ الحديث، ليشهد مصارع الحرية والحقوق على يد قادة الفكر والأحزاب والمنظمات، وليرى كم تلاقي الأمة من متناقضات صارخة وتحديات سافرة. وإذا كان لكل نحلة منهجها، وآلياتها، ومقاصد تأويلاتها، وقواعد مذاهبها فإنّ أغيلمة العصر لا يحسنون إلاّ الهدم، والتفلت، وما لأحد منهم مذهب محدد المعالم. وكيف يواتيهم الانتحال ومبلغهم من العلم أقل من أن يثبت أقدامهم على مدرجة، ولا أن يوجه أفكارهم إلى نحلة، فما هم إلا أصداء باهتة لمقروئهم الآني. ولأنهم قد يجهلون نواقض الإيمان، ويفقدون آداب الحوار، وتخفى عليهم مسلمات الحضارة فإنهم يقعون في الحمى من حيث لا يعلمون. والمتقرىء للتاريخ الحديث في تنوعاته وتقلباته: السياسية والفكرية والأدبية والاجتماعية يسمع حسيس مذاهب: ماركسية ووجودية وعلمانية وحداثوية واجتماعية، تلقتها عرابات من ملل ونحل شتى، لا تدري ما الإيمان ولا الكتاب ولا الثقافة ولا الأنساق، ومن ثم فرقت كلمة الأمة، وكدرت صفو منابعها. وهل أحد لم يتأذ من ترديات الأحوال، واستفحال الهوان؟.
والقراءة المتأنية المتأملة لفيوض هؤلاء تؤكد أن بين أظهرنا من يقتفي آثار تلك المذاهب حذو القذة بالقذة، دون وعي لمفاسدها،ودون إدراك لمناقضتها. يعنفون حتى يكون الدم كالماء، أو يلينون حتى يكون النسك والفجور سواء، أو يتعقلنون حتى لا يكون للنص مكان، أو يتسطحون حتى لا يفعِّلوا نصاً ولا يطلقوا عقلاً. والمتقمصون لهذه الظواهر يقترفونها عن قناعة واعية أو عن تقليد إمعي. وليست مصائب المشاهد في استعادة التاريخ القديم أو الحديث وحسب، ولكنها في التخلي الطوعي عما يصلح الأمة، ويجمع كلمتها، والارتماء التبعي في أحضان الآخر، بحجة أنه المنقذ من التخلف والهوان.وظنّهم الذي أرداهم تصورهم أنّ الإسلام عوَّق المسيرة، وشرعن للعنف ومهّد للضعف والتخلف.وإذ نتوقع مثل هذه الآراء من ذوي الضغائن، ولا نستغربها من اليهود والنصارى المصرين على اتباع ملتهم، فإننا نمتعض من تداولها عبر ألسنة أبناء جلدتنا وأقلامهم، ولو أن نقمتهم على تراث أمتهم وقبولهم الحسن لما عند الآخر أقال عثرتهم، وجبر كسرهم، لقلنا فضلوا النقد على النسيئة، ولكن تهالكهم المزري ما زادهم إلا ذلة وهواناً وسخرية من الذين استعبدوهم.والراصد الحصيف يعرف أن التاريخ السياسي والفكري الحديث مرَّ بدعوات جادة، تحيل إلى المشروع الغربي بعلمانيته المارقة أو إلى المشروع الشرقي بماديته الملحدة، الأمر الذي عرض الأمة للتخبط، وحرمها من هداية الله إلى صراطه المستقيم، وعطَّل فيها إمكانية الابتكار والمبادرة. وما من فترة زمنية إلا خلا فيها من يفسد فيها، ويسفك المكتسبات على كل المستويات: الفكرية والسياسية والحضارية والتربوية والأدبية والاجتماعية. وكأن هذا التنوع أريد له أن ينقض عرى الإسلام عروة عروة. وفي عصر العلم وثورة الاتصال انبجست أكثر من عين، وعرف كل أناس مشاربهم الفكرية والمدنية، إلا هذه الأمة التي لا تشرب إلا كدراً وطيناً، كما استبدت كل أمة بشأنها إلا هذه الأمة التي يقضى أمرها غائبة ولا تستأمر عند حضورها، ويا ليت نخبها إذ زهدوا بقيمهم جاد عليهم عدوهم بما يحييهم. وما من دعوة بائسة مسترفدة إلا ولها كتَّابها وصحفها ومشاهدها التي تمثل بشاعة العائل المستكبر. وما زاد التهالك أمة الإسلام إلا ثبوراً وتتبيباً. ومع أزمة الابتكار والإنتاج لا يُحسن العائلون المتكففون إلا التناحر فيما بينهم، والتطاول على رموز أمتهم، والولوع بخطابات الاحتدام والحدية. ولو أن التناقض والتناحر والاختلاف كان حول المتغيرات، لما سيئت وجوه المهتمين بأمر الأمة، ولكنه مستحر حول الثوابت التي لا يستقيم أمر الحضارة إلا بها. وما أصيبت الأمة في مفاصلها إلا ممن لا يعرفون نواقض الحضارة، ولا يميزون بين ثوابتها ومتغيراتها، يقولون في الحريات والحقوق عن غير علم، وبدون ضوابط، الأمر الذي زجّ بالأمة في متاهات الفوضى والضياع.
فدعاة الحرية لا يقفون عند حد، ودعاة التسامح لا يتمعرون من مقترف، ولا يردون يد لامس، ودعاة الوسطية لا يلتزمون بمقتضياتها، والمتنطعون لا يسدون الذرائع، ولا يدرؤون المفاسد وحسب، ولكنهم يغلقون الطرق، فلا يبيحون زينة، ولا يحلُّون طيِّباً من الرزق. وهكذا تضيع الحقائق والقيم بين تناقض المواقف، واضطراب المفاهيم.فالمتفلتو ن لا يتحرجون من شيء، ظناً منهم أن التسامح لا يتحقق إلا بالمودة والمداهنة والموالاة والهرولة والتطبيع والتمييع واستمراء العهر والكفر. والمتنطعون يقولون على الله غير الحق، ودعاة الحرية المطلقة لا تتحقق عندهم حتى يكون من حق المتكلم أن يقول ما يشاء فيما يشاء متى شاء، وحق الفاعل أن يفعل ما يشاء على أي شكل شاء. ولهذا تجدهم يتهمون الوقافين عند حدود الله ب(الإقصاء) و (الأثرة) و (السلطوية) و (المصادرة)و (الماضوية) و (الرجعية)، يسفِّهون ذوي الأحلام، ويجهلون ذوي الأفهام، ولا يملكون أدنى حد من أدبيات الحوار. وما علموا أن لكل حضارة ثوابتها ومتغيراتها ومحظوراتها ومباحاتها، وأن لكل حضارة مساحة مشتركة تتداخل فيها مع الحضارات الأخرى، وتمكن المستشرفين للمستقبل من الاشتغال في مساحات التقارب والتحاور والتلاقح والتقارض، وأن هناك حضارة ومدنية وعلماً وفناً وفكراً. وأن الحضارات تشترك في المدنية والعلم وفي شيء مما سواهما، فيما تبقى الخصوصيات في الفكر والفن، والتباين في العقائد والعبادات والمعاملات. وما علموا أن الحضارة لا تكون إلا حيث تكون المغايرة، وليس شرطها الصدام ولا الوئام، وليس من مقتضيات أي حضارة سرمدية التعايش والتصالح، فالصراع أكسير الحياة، وتلك الأيام يداولها الله بين الناس. ومتى أمكن السلام فلا مكان لغيره. ومن الفجيعة والخديعة أن ندع العلم التجريبي، والتقنية المتطورة، وإعداد المستطاع من القوة الرادعة، ونتلقى فيوض الآداب والأفكار والسلوكيات. وما مثلنا في هذا التناقض العجيب إلا كمثل من يأكل إذا عري، ويلبس إذا جاع. وما ترانا في أسواقنا وبيوتنا إلا مقلدين مستهلكين.
والذين يلوون ألسنتهم بالمقولات المستفزة في الفكر والأدب والسياسة يدعون أنها من عند أنفسهم، وما هي إلا ناتج اختلاس غبي وحديث في المسكوت عنه عفة أو حرمة ليكونوا بهذا الاستدعاء أصداء باهتة ممجوجة لطائفة من المفكرين المعاصرين الذين بنوا أمجادهم على أشلاء أمتهم، حتى لكأنك تستذكر بمقولات من لا يستحون ما كان قد قاله من قبل (الجابري) في مشروعه عن العقل العربي، في تكوينه وفي بنيته أو في كتابيه : (إشكاليات الفكر العربي المعاصر)و (الخطاب العربي المعاصر)، أو ما قاله (العروي)في مشروعه عن مفهوم الدولة والحرية والقومية، أو ما قاله (حرب) في نقده لمجمل الخطابات، أو ما قاله (العالم) أو (حنفي) أو (غلوم) أو (الأخضر) أو (حسين أمين) في كثير من قضايا الأمة بغياً وعدوانا، ودعك من أساطين الحداثوية ك (أدونيس) و (أبي زيد) ممن لهم وعليهم، أو ممن عليهم وليس لهم. وحتى بعض هؤلاء ترى فيهم ملامح (طه حسين) في منهج الشك ومستقبل الثقافة، وضغائن (سلامة موسى) في صليبياته الحاقدة، وانفلات (قاسم أمين) في اجتماعياته، وعمالة (عبدالرازق) في سياسياته، وضلالات (أبي ريه) في ظلماته، وماركسيات (خليل عبدالكريم) في تاريخياته. وليس لأحد من أولئك الأغيلمة إضافة ولا مبادرة ولا استقلال، ولا أخذ محكم لا يتجاوز التناص إلى الاختلاس. ولا ينخدع بالمختلسين إلا الذين قصرت أخادعهم وخطواتهم عن أن يلحقوا بأساطين الفكر الإسلامي الأصيل أو يطاولوهم، ولما يعرفوا رموز الفكر المنحرف، وأساطين الحداثة الفكرية، وفلول الوجودية والماركسية، وبقايا الصليبية الحاقدة. وما أتاح لهؤلاء المتذوقين فرص الركض في فجاج الفكر والسياسة والدين إلا مثقفو السماع الذين لم يؤصلوا لمعارفهم، ولم يحرروا مسائلهم. والمؤسسات الثقافية والإعلامية بحاجة إلى مفكرين خبروا دواخل الفكر المادي ومنطلقاته، وعرفوا غثه وسمينه، وتابعوا استدعاءاته ومبادراته، ليأخذوا بحجز المتهافتين قبل أن تعريهم المشاهد، وينبذهم الرأي العام، وتخسرهم أمتهم. فكم من طُلعة توسم فيه المتابعون الخير، تقحم الحمى، فكان أن شاهت ملامحه. وكم من مجازف أوغل في النَّيل من رموز الفكر، فأدان نفسه، وأطفأ وهجه، وكم من متجرىء على المقدسات والمنزَّهات والقطعيات أردته جرأته، فعاش ذلة الخوف والهجر، وانطوى على نفسه.
والتعديات السافرة على فكر الأمة وعلمائها الذين أجمع السلف والخلف على عراقة أقدامهم في العلم وسلامة مقاصدهم، لا ترضي إلا مرضى القلوب. وصلاح الأمة وإصلاحها في تجديد خطابها والأخذ بأسباب الحضارة والمدنية ومراجعة المنجزات الفكرية لا تقتضي الإيغال في التجريح، ولا الإمعان في السخرية، والأمة بحاجة إلى من يحميها من دخن الفتن، لا إلى من ينبش عفن التاريخ، ويحيل ضعفها إلى ماضيها. ولا يتحقق ذلك إلا بالوعي، والوعي يتحقق بفقه القضايا، وفقه الواقع، وفقه الأولويات. فلا يكون حكم إلا بعد تصور، ولا تكون رؤية إلا بمعْرفة قَدْر، ولا يكون أداء إلا بترتيب المهمات. وقادة الفكر ورواد النهضة وزعماء الإصلاح سبقوا إلى التفقه قبل التسود، ولقد قالها عمر: تفقهوا قبل أن تسودوا.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:38 PM

عندما نفجع بالنخبة أو نخدع بالمتنخوبين..! 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل


وإذا كانت الأمة قد تأذت من البغاة المفسدين في الأرض، فإنها متأذية- ولا شك- من حملة الأقلام الذين يتخذون المضلِّين عضداً، وأكثر تأذياً من المتنطعين الهالكين المميتين للدين، وانحراف الفكر أخطر من انحراف الفعل، ذلك أن فلول الإرهاب تموت بموتهم ضغائنهم وأفعالهم المستنكرة، أما أصحاب الفكر المنحرف فزهاق أنفسهم لا يمتد إلى ما خلفوه من آراء وتصورات ومواقف، و (الكلمة) و (الرصاصة) تنطلقان: هذه من فوهات البنادق، وتلك من أفواه الأناسي، فإن أصابت الرصاصة هدفها آذت، وإلا ضاعت في التراب، أما الكلمة فهي باقية ما بقي الكتاب.
وما من إرهاب مسلح، إلا وله حواضنه ومنطلقاته: الدينية الغالية، أو العلمانية المتطرفة، أو الفكرية المنحرفة، أو الثورية الطائشة، أو اللعب الماكرة.
وحسبك داءً ما ترى الأمة عليه في الراهن، وفيما هو آت من فتن تموج كموج البحر، مما يهدد أمنها ووحدتها: الوطنية والفكرية. وكيف لا يخيف الواقع و(الفتيا) وهي آلية دينية ضرورية كادت تكون مصدر التضليل والتأزيم، وحلقات الدرس ومجالس الذكر خيف من عقابيلها، وكما ارتاب الناصحون من التجمعات التي لا يرقبها راسخ في العلم، وقاف عند الحدود، مدرك للمقاصد، يفقه الواقع، ويختار أيسر الأمرين. وحتى كاد يقع في مشاهد الفكر ما وقع فيه اليونانيون مع آلهتهم، يقدسونها في طقوسهم، ويسخرون منها في تمثيلهم، وذلك ما وقع فيه مردة الروائيين الذين وتَّروا أعصاب الغيورين. وما من متعالم حدث إلا يعد نفسه ابن بجدة: الدين والفكر والسياسة. ولم يعد غريباً أن نرى قارئاً يتهجى أبجديات المعارف، تستزله الدهماء بالمكاء والتصدية، بحيث لا يجد حرجاً من القول في القضايا المصيرية بما لم يأذن به الله. وإذا قيل لهم: - ليس هذا العش عشكم فأدرجوا، لاذوا بدعوى التعبير وحق المشاركة. وما عرفنا في تاريخنا الفكري والسياسي أن الناس سواسية إلا في الحقوق والواجبات. أما في المسؤوليات فإن لكل مجالٍ رجاله، وأما في التخصصات فإن لكل علم أهله، وآيات نفور الطوائف وسؤال أهل الذكر، والنهي عن قفو ما ليس للإنسان به علم ضوابط ومعالم، نسيها الناس فنسيهم السداد والتوفيق.
وأخطر ما تواجهه الأمة الفهم السقيم ل (الحرية) و (التسامح) و (الاجتهاد) و (الوسطية)، و (سد الذرائع) و (درء المفاسد)، ولقد أشرنا لهذه النقائص أكثر من مرة، لكونها مصدر كل انحراف. فكل متقول أو متأول أو متفسخ يحيل إلى حقه في حرية القول والفعل والاجتهاد وفُسح التسامح. ولو سألته عن: حدود الحرية، وشرط الاجتهاد، ومفهوم الوسطية، لم يحر جواباً. وأكاد أصاب بالغثيان حين تجمعني الظروف السيئة بطائفة من المتصدرين للقول في الشأن الديني والفكري والسياسي، ثم أنزلق من حيث لا أريد بمجادلتهم حول بعض القضايا المتعلقة بحرية التعبير، وحق القول في الشأن السياسي أو الديني. وكيف يتصور الإنسان نفسه تصوراً صائباً، وهو يتقحم كل جدل، ويقول في كل قضية، ويحكِّم نفسه في كل مسألة، يكون فقيهاً وعالماً وسياسياً ومفكراً في آن، وكأن الله قد جمع فيه كل شيء، حتى صار من آياته الكبرى.
ومما يؤذي المتأنين والمتثبتين أحداث مبتدئون، يبتسرون الأحداث من سياقاتها، ثم يلوون ألسنتهم بالقول فيها بمعزل عن ظروفها. أو ينظرون إلى الحدث الإقليمي الآني المعروف بكل ملابساته نظرة تعميمية، لا تشفي نفساً، ولا تبرىء سقماً، وقد يجنحون من التحديد إلى التمييع، ومن الحكم الناجز إلى الوعظية المترددة، مستبعدين احتمالات اللعب السياسية، والغزو والتآمر، مؤكدين على إدانة الذات، وتزكية الآخر، والثناء عليه، والتصديق بدعوى تحرير الشعوب، وجلب الديمقراطية، وإصلاح البيت العربي. ومعولهم في كل ذلك فيوض الإعلام، والمتداول من الدعاوى الزائفة. وما يدري أولئك أن ما يقال في العلن، يختلف عما يدور في (اللوبيات) وما يدار وراء (الكواليس). وما علموا أن ما تنطوي عليه الوثائق السرية نقيض ما تفضي به اللقاءات والمؤتمرات. وكل فعل متقنع بزيف الادعاء تمتد عروقه إلى طينة اخبال، طينة السياسة. وتاريخ الاستعمار الحديث لم يدع رذيلة إلا كان له منها أوفى نصيب، ومهما تعددت المسميات فإن الاستعمار واحد، وما الدول الكبرى في تبادل الأدوار إلا كمثل المصارعة الثلاثية أو الرباعية، يجول اللاعب حتى تنهكه اللكمات، فيلامس كف صاحبه، ليقفز إلى الحلبة مسدداً الضربات إلى الضعفاء والمساكين من أبناء العالم الثالث. وكم تجرع عالمنا المنهك بفعل أبنائه مرارات الاستعمار التقليدي الغابر، وها هو اليوم يسفُّ المل من جولة جديدة، ومن يدري فقد تتلقف (الصين) الراية من بعد، فقضاء العالم العربي أن يظل مسلوقاً بألسنة ابنائه الحداد، مثخناً بتداعي آلية المستعمر عليه بحيث أصبح إنسانه هدفاً وأرضه ميداناً ومقدراته فيئاً، فكأنه طريدة لذاته ولغيره. وليس التناوش بالكلمات أقلَّ خطراً من التناوش بالسلاح، والمتداول في مشاهد الإعلام وميض نار قد يكون لها ضرام.
ومصائب الأمة تتداعى عليها، كما القصعة والأكلة، وأغيلمتها كما (براقش) التي تجني على أهلها. وليست مصائب الأمة قصراً على المتعلمنين والمتحدثنين و (المتردكلين) وإنما هي من هؤلاء، ومن كل متطرف موغل في انتمائه بغير رفيق، متعصب لمذهبه دون موارية متعنصر لعرقه دون تواضع. والمتقصي لتاريخ الملل والنحل وسير أعلام النبلاء عبر التاريخ الحضاري للإنسانية كافة يقف على محطات بلغت فيها الحدة والحدية أقصى حالات التوتر.وما من متابع حصيف ينكر أن طائفة من (الإسلامويين) يستمرئون الحجر على التفكير، ويتعشقون التضييق على الخلق، بدعوى (السَّدِّ) و (الدرء)و (التورع). وإذا كنا نتأذى ممن يحيلون إلى النص الإسلامي المبتسر أو المؤول على غير مراد المشرِّع فإننا لا نقبل ردور الفعل التي تذر الإسلام كالمعلقة باسم الحرية والتسامح، او تأخذه بجريرة المسلم الذي لم يفهمه على مراد الله. وما نسمعه من امتعاض واتهام للإسلام ومنظماته ومؤسساته ينذر بخطر يتربص بالأمة، فاستدعاء الإسلاميين ومناهجهم ومنظماتهم وروابطهم وجمعياتهم عند كل خطأ أو خطيئة انتهاز دنيء للفرص، ومسايرة غبية للمتماكرين، ومزايدة رخيصة. والمنصف من يحاسب كل الأطراف: إسلامية كانت أو غير إسلامية، فكرية أو سياسية، اجتماعية أو أدبية (مؤدلجة)، ومن لا تأخذه بالحق لومة لائم. فالأمة مطعونة بمدى أبنائها: المتأسلمين والمتعلمنين والمتحدثنين، وبمدى أعدائها المتغطرسين على حد سواء. ولا يقيل عثرها إلا العقلاء المنصفون الواثقون بنصر الله، الذين يملكون الشجاعة والإرادة لقول ما لهم وما عليهم، ولا يخافون من النقد الذاتي ولا من محاسبة النفس.
وكل معجب برأيه، متخذ إلهه هواه، قاطع بصحة ما يقول وخطأ ما يقوله غيره، لا يزيد الوضع إلا سوءاً وتعقيداً، وهذا ما نراه ونسمعه ممن ينهون عن السوء ويقترفونه، ويدعون إلى الحوار الحضاري ثم لا يحسنونه. وحاجة الأمة إلى علماء متبحرين، ومفكرين متمرسين، وساسة معتدلين، يحقون الحق بالرفق واللين، ويجادلون، أو يدفعون بالتي هي أحسن، ينشدون الحق، ولا تعنيهم الغلبة. ومن أراد الانتصار على غيره، وأخذته العزة بالإثم، فحسبه مزبلة التاريخ. وما أكثر المحتدمين والحديين الذين يعدُّون أنفسهم كما الرعاة الذين لا يتحرجون من أن يهشوا بعصيهم الخاصة والعامة، وكأنهم أوباش لا تكفيهم الإشارة، بل لا بد من أن يضربوا بالعصاء. ومع إسرافهم في جلد الذات يرمون الآخرين بدائهم، ومن المقت الكبير أن تنقم من غيرك ما تفعل، تدعو إلى الحرية ولا تمنحها، وتطالب بأدبيات الحوار ولا تتحلى بها، وتخطىء المُقْصين والمهمشين، ثم لا تجد حرجاً في إقصاء المخالف وتهميشه.
وطالب الحق يفتح أبوابه ونوافذه، يحترم التعددية واختلاف التنوع، ويقول لكل صاحب قضية يتفق معه في الحضارة والمرجعية: - هلم إلى المحجة البيضاء، نرد إليها، ثم لا تكون لنا الخيرة بعد قضائها. ويقول لكل صاحب قضية يختلف معه في الحضارة والمرجعية، ثم لا يؤدي الاختلاف إلى قتال ولا إلى إخراج من ديار ولا إلى مظاهرة: - لكم دينكم ولي دين. وإذ لم يفرط الله في الكتاب من شيء، فقد وضع معالم في الطريق إليه. فعند الاختلاف في قضايا الفكر والدين أوجب الرد إليه وإلى رسوله، وقال وقوله الحق: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ولم يقل: كما ترى أو كما تهوى. وفيما يتعلق بأمور الدنيا جعل الرد إلى الأدرى بأمورها، وفق المقاصد الإسلامية. ومتى انبهمت الأمور جاء التوجيه الرباني: - {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. ولا يستقيم أمر الفكر والدين والسياسة إلا بالاتفاق على المنهج والآلة والمرجعية. وحوار الطرشان الذي نعيشه في كافة المشاهد مردُّه إلى الدخول في حلبة الصراع بعواطف جياشة، وبضاعة مزجاة، وادعاء عريض، وتعالق متناقض، واعتماد على الجاهزيات. والمتقصي للمتصدرين ممن عَدَت عيونهم للأضواء، لا يراهم إلا نقلة لا يحسنون الانتقاء، ولجوجين لا يحسنون إلا الضوضاء. وإذا توفر القوي الأمين على فضلة من الجهد والوقت والرغبة وفكك مقولاتهم، وجدها عبارات مبتسرة من مقروء آني. ف (الأحداث) يبيتون ليلهم يقرؤون في كتب الفكر الحديث، حتى إذ أشرقت الشمس بنور ربها، أطلقوا العنان لأقلامهم، لتعيد إلى الناس ما كنوا قد قرؤوه، ولم يفهموه.
فالذين يطالبون بحرية المرأة وعملها وحقها- على سبيل المثال- لا يضعون أي ضابط، ولا يحيلون إلى أية نحلة. ولو قلت لهم: هلموا إلى ضابط الإسلام، لقال قائلهم:- من هنا أتيت المرأة. فكيف نقبل ب (القرار) و (الحجاب) و (القوامة) و (التعدد) و (الإشهاد) و (الإرث) و (نقص العقل والدين) و (الضلع الأعوج) و (الهجر) و (الضرب) و (الرجم) و (المُحرَم) و (الولي).
وإذا تحفظت على تهافتهم على التجربة الغربية، قالوا : - وماذا في التجربة الغربية، لقد تصدروا العالم، واسترهبوهم، وجاؤوا بعلم عظيم، وكأن الكاسية العارية المائلة المميلة هي التي أنجزت العلم والحضارة. لقد غفلوا أو تغافلوا عن امتياز كل حضارة، وعن قدر التفاعل بينهما، وعما يجوز أخذه. ومن سلم للقطيعة كمن سلم للخلطة، وما أردى الأمة في مهاوي الهلكة إلا الإفراط أو التفريط، وإلا الحدية أو الاحتدام. وليست (قضية المرأة) التي اختلف الصحابة حولها، ولما تزل في اتساع وتعقد هي القضية المستباحة، فكل قضايا الأمة مستباحة، يقول فيها الجهلة والمبتدئون، وكل متحدث يحيل إلى الحق والحرية.
وليس بمستغرب أن نصاب بالغثيان من أغيلمة طالت أذيتها سلف الأمة وعلماءها، دون تحديد للمؤاخذة، أو مناقشة علمية لأوجه المخالفة، وما كنا ممتعضين من قراءة التراث، ولا متخوفين من عنصرة الخطاب، ولا رادين عن مراجعة المنجز العلمي. فكل الناس خطاؤون، ورحم الله من تدارك على العلماء أخطاءهم، وحرر الراجح من الأقوال، وتخوفنا ممن يترسمون خطى الكنسيين في الهيمنة أو خطى المصلحين في العلمنة. والمؤسف أن المستفزين للرأي العام يجدون من يستقطبهم من صحف الإثارة وقنوات الضرار والإضرار. والأدهى والأمر أن المحيلين إلى تجربة الغرب يمجدون عدله، ويتغنون بحريته، ويتباهون بتحضره، ويجرمون مقاومته، ويمتعضون من رفض احتلاله، ويسفهون المتحفظين على أهدافه ونواياه، على الرغم من أنهم يتجرعون مرارة ظلمه وعدوانه وإفساده، ومكمن فساد رؤيتهم انهم يخلطون بين مبلغه من العلم التجريبي وما يوفره لذويه من حرية وعدل ومساواة، وما هو عليه من فساد في الأخلاق، وانحراف في الفكر، واحتقار لغير إنسانه، وتعد على حقوق الغير، وظلم وإفساد، والله لا يحب الفساد، وينهي عن التظالم. ولو فصلوا القول، وعرفوا ما له وما عليه، لكان خيراً لهم. وإذا كانوا يدينون التاريخ الفكري الإسلامي أو السياسي بسبب وقوعات وأحداث عارضة، فإننا نقدمهم في ذلك، وما نبرىء تاريخ المسلمين من تجاوزات وإخفاقات لا تحتمل. ولو أنهم قاربوا الصواب وتمثلوا المقاصد، لما آلت أحوال الأمة إلى هذا الوضع، ومن العدل تعقب الحضارة المهيمنة واستقراؤها بما هي عليه من مبادىء منحرفة، وتعد سافر وتسلط جائر، وبغي عنيف. وليس ما يفعله الغرب من الوقوعات الخاطئة، ولكنه من أجل المصالح الجائرة، إن هناك فرقاً يجهله أو يتجاهله البعض بين (فساد المبدأ) و(خطأ التطبيق). فتاريخ المسلمين مليء بالوقوعات الخاطئة التي لا تتحملها المبادىء الإسلامية، فيما نجد أن المبادىء الغربية تفرز الأخطاء والتجاوزات، وليس أدل على ذلك من التعديات المتعمدة على القيم والمبادىء الإنسانية، وهي تعديات لا تحال إلى أخطاء الممارسة، وإنما هي متطلبات (استراتيجية)، وما عذابات الشعوب الإسلامية إلا شاهد إثبات لمن ألقى السمع وهو شهيد. وإذا أباح البعض لنفسه استدعاء حادث قتل أو جور أو سوء تصرف في التاريخ الإسلامي، وتلك أحداث قد لا نعرف أسبابها وملابساتها- والتاريخ كما نعلم لا يكتبه إلا المنتصر- فلماذا لا يمتعض أولئك من القتل الحي الحاضر المرصود بالصوت والصورة، مما يتعرض له العلماء والقادة الأبرياء من شيوخ وأطفال ونساء. وهل من بشاعة ووحشية وإذلال يعدل حصد الأسر الهاربة من لهيب القصف العشوائي؟ وكم من أسْرة ذاهلة إذا اقتربت من المنافذ أمْطرها المدججون بالسلاح بوابل من الرصاص.
وأي بشاعة ووحشية تعدل ذلك؟ ودعك من تعذيب الأسرى والمساجين، مما اعترف به المقترفون. فأين هؤلاء من هذه الأحداث؟ لقد قتل في شهر واحد ألف عراقي، وجرح أربعة آلاف، وكأن الشهداء المقتولين دون أموالهم وأعراضهم ووطنهم حشرات تساقطوا بفعل المبيدات. فأين الأغيلمة المتمردون على الشقاق من هذه الوحشية؟ وهل استدعاء مأساة الحلاج عند (عبد الصبور) وقتل الجعد عن غيره وليدة صدفة أم هي تشويه للإسلام بالإنابة؟.
ومن حقنا التساؤل عن استمراء النيل من عظماء التاريخ الإسلامي من علماء وقادة ومفكرين استناداً إلى مقولات احتمالية الثبوت، فيما يغض الطرف عن وقوعات حية قطعية الثبوت، يذل فيها أهل الطاعة، ويعز فيها أهل المعصية. إنها حرب القلم، وتلك حرب السلاح. وما هُدّت الحصون والأسوار بالمدافع، وإنما هدمت بأقلام الواقعين تحت طائلة التساؤلات.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:40 PM

النقاد حاضرون في مشهدهم..!
د. حسن بن فهد الهويمل


يثار بين الحين والآخر تساؤل عاتب عن غياب النقاد أو تخاذلهم في تلقي الإبداعات: الشعرية والسردية -المحلية على الأقل-. وقد يستدعي المثيرون نقاداً بأعيانهم، وقد يُضرب المثل بشعراء بأسمائهم، وليس هناك ما يمنع من مثل هذه الإثارات، غير أن بعض المثيرين يحيل إلى أسباب واهية. وعثرات المشاهد من الإطلاقات والتعميمات، ومن السهل أن يقول الكاتب ما يعن له، ولكن من الصعب الإتيان بالبراهين. ومما هو في هذا الصدد ما أثير من قبل على صفحات (المجلة الثقافية) 22-2-1425هـ الملحقة (بجريدة الجزيرة)، من أن المشهد النقدي متلفع بالصمت لأنه لم يفِ بحق شاعر كبير كالدكتور (عبدالرحمن العشماوي). والمحفز للحديث استدعاني من بين من يلام، بوصفي أنموذج المقصرين بحق من لا يستحق التقصير. وكأني عاقلة النقد، وحمَّال التقصير النقدي، وكأن أمر المشهد لن يستقيم حتى أثير عجاجته، وألزَّ في مضاميره، وليس فيما اقول امتعاض ولا استياء، ولكنه محاولة لدفع الالتباس، والحد من الإطلاقات التي تنحي باللائمة على سائر النقاد، وتصف المشهد بالتصوح، وقد تنفي وجود نقد متكافئ مع الإبداعات. ومعاناة المشاهد من هذه التعميمات التي لا يلقى لها المعنيون بالاً لفقدها الموضوعية، نقرؤها مكتوبة في الصحف والمجلات، ونسمعها أحاديث يتفوه بها المحاورون عبر الإذاعات والقنوات. ومثل هذه الإطلاقات تثبط العزائم، ولا تحيي موات النقد، وقلَّما تكون كالرياح اللواقح. وإذ أشكر للمستدعي ثناءه وتلطفه بالمؤاخذة، وتوسمه بي خيراً، أحب أن أطمئنه بأن النقد المحلي بخير، وأن الدراسات النقدية تكتنف الظواهر الأدبية والأعمال الإبداعية من كل جانب، وأن شاعراً مثل (العشماوي) يعيش حضوراً يليق بمثله، وليس بحاجة إلى من يقدمه إلى الجمهور. ولقد ذكرني ذلك بمقولة أحد الشعراء، وأحسبه (الصافي النجفي) حين لم يشأ تقديم ديوانه بالأسلوب المتعارف عليه، وإنما سماه (التيار) وكتب في مستهله:- (مقدمة التيار ما سوف يجرف).
وحين لا يمارس المشهد النقدي الاحتفالية بشعر شاعر ك (العشماوي) بالقدر الذي يتطلع إليه المعجبون به، فليس معنى هذا أنه لايستحق ذلك، ولا أن النقاد يرون شعره دون المستوى المطلوب، ولا أن النقد لم يكن حاضر المشهد. وإشارة المعاتب إلى قولي في تسجيلات (أحد) بخصوص موقفي من الشاعر إشارة مبتسرة. فالشاعر حين يفوق الشعراء ببعض خصائص الشعر ومقوماته، فإن هذا لا يمنع من توقع الاختلاف معه حول السمات:اللغوية والفنية والدلالية. وليس شرطاً أن يكون هذا الاختلاف ناتج ضعف أو تقصير، إذ ربما يكون ناتج تباين في الذوائق والانطباعات والرغبات، وتفاوتاً في سلم الأولويات عند المتلقي. فعشاق الهمس يعيبون الخطابية، وطلاب اللمحات يمتعضون من البسط، وهواة الغموض يضيقون ذرعاً بالمباشرة. ودعاة الفن للفن لا يقبلون خدمة الحياة والعقيدة، والذاتيون لا يرحِّبون بالغيرية، ولا يقبلون شعر المناسبات، والحالمون المسترخون على الأنغام الهادئة لا تطربهم الصلصلة ولا الجلبة، وإنما يميلون إلى الإيحاء الذي يدب في الأوصال كالخدر، والذين يرون الشعر إنشاداً يطلبونه عالي النبرة، وطوائف أخرى تراه مجازاً وإيجازاً وانزياحاً، وآخرون من المتلقين يرونه بسطاً وإيضاحاً. ودعك من الاختلاف حول الوظائف والمهمات والأشكال والمباني والموضوعات والمعاني. ولكل مورد وُرَّاده، فلا تسأل الناس عن ذوائقهم. وما من شاعرٍ سلَّم له النقاد، وما من شاعرٍ عظيم إلا وكان مصدر عظمته اختلاف الناس حوله.
ولقد كان من عادتي اصطحاب بعض الدواوين الشعرية كي أتخفف بقراءتها من عناء المغالبة لكتب الفكر والفلسفة، فكان أن صحبت في وقت واحد (إبراهيم ناجي) و (بدوي الجبل) وإذ لا يختلف أحد حول تألق الشاعرين، فقد وجدت (إبراهيم ناجي) شاعر مقطعات، و(بدوي الجبل) شاعر مطولات، وأحسست أن الشاعرين مأخوذان بهذه السمات، على الرغم من تألقهما. وما أحد لاقى من الإطالة والبسط بقدر ما ألاقيه من امتعاض، ومع ذلك لا أجد غضاضة من معايشة أصحاب المطولات: المتقدمين منهم ك (ابن الرومي) و(أبي العتاهية) والمتأخرين ك (الفقي) و(الأميري) و(بدوي الجبل). ودعك من هؤلاء وأولئك، وانظر إلى (المتنبي) في عصور الازدهار، وإلى (شوقي) في عصر النهضة، ينام أحدهما عن شوارد شعره، ليسهر الناس جراها ويختصموا، فيما يجزع الآخر، ويستعدي (القصر) على خصوم شعره. لقد بالغ خصومهما في النقد حتى كادوا يبلغون نفي الشاعرية عنهما، كما لقي (المتنبي) من العنف والحسد ما لم يلقه شاعر من قبل أو من بعد، وما قصر في المنافحة عن أصالة شعره، حتى لقد استنجد ب(سيف الدولة) ولما لما ينتصر له عاتبه عتاباً مؤلماً،
ولم يجد بداً من مفارقته وهو يردد:-
(إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون هم).
والذين قادوا الحملة ضده من عمالقة الشعر وأساطين النقد، والذين نافحوا عنه كذلك، ومن ثم لا نعرف الصادق من الكاذب. وحكاية (المتنبي) مع النقاد والنحاة والشراح حكاية لا تنتهي.
وهذا (أبو تمام) من قبلهم سن في الشعر ما لم يأذن به النقاد الذين عرفوا الشعر على غير ما جاء به، فناصبوه العداء، ونفوا الشاعرية عنه، ووجد النقاد الحداثويون المحدثون سبيلاً إلى توهين الخصوم، وذلك بجعل مواجهته مثلاً لكل متحفظ على التجديد، والصراع مع الحداثة ليس مرتبطاً بالتجديد، وإنما هو صراع فكري خالص، وقد نعود إلى مثل هذا الالتفاف الغبي. والنقاد الحكميون شاعت مقولاتهم، واتخذها البعض قضايا مسلمة، مثل مقولة: (المتنبي، وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري) ولو مضينا مع جاهزيات الأحكام لخرج من مشهد الشعر كل الشعراء، وبقيت سوحه خالية، ومع ذلك ظل كل واحد ممن نفي من مملكة الشعر كأنه علم في رأسه نار. وما انصرف النقاد إلا عمن لم يجدوا فيه إثارةً أو خروجاً على السوائد والمألوفات، وما أكثر الذين يعبرون الساحة لا لهم ولا عليهم.
وأود في ضجة القول المتناقض طمأنة المتخوف على مكانة شاعره الذي ملأ عليه أقطار نفسه، ان شاعره يحتل في المشهد وفي النفوس ما يليق بمثله، وانه يعيش حضوراً استنه لنفسه، ولم يكن كأصحاب التشايل والتنافخ، ممن تبدو محاولاتهم الفجة تحت الأضواء كأسوأ ما يكون الشعر، حتى لقد تمنوا أنهم ما دفعوا بأنفسهم، ولا دفع بهم غيرهم. فأين هم الآن؟ لقد ذرتهم رياح الحقائق، كما ورق الخريف. ومع تثبيطي لهمة المتسائل فإنني لو وجدت فسحة من الجهد والوقت لتعمدت الاختلاف مع الشعراء الذين ملكوا ناصية الشعر بما توفروا عليه من شرفٍ في اللفظ وشرفٍ في المعنى. ولما استدعيت محاسنهم البادية للعيان، وإنما نقبت عن مثالب شعرهم، وجميل جداً أن أختلف مع شاعر بوزن (العشماوي)، فالأصالة ليست وقفاً على الثناء الزائف، وتثبيت الأقدام لا يكون بالإعجاب وحده، ولقد قيل:-
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
فكم أود لو أن النقاد أشعلوا النار من تحت أقدام الشعراء الذين نواليهم، لينتشر عبقهم، فما ثبتت ظواهر ولا مذهب إلا بفعل الخصوم. لقد ظل (شوقي) شاعراً لا يثير، يوم أن كان (شاعر القصر)، ويوم أن حشدت له حاشية القصر الشعراء والكتاب من كافة أنحاء الوطن العربي ليجعلوه أمير الشعراء، ويوم أن عمل القصر على إنشاء (جماعة أبوللو) لتكون في وجه (مدرسة الديوان)، ويوم أن قال حافظ:-
(أمير القوافي قد أتيت مبايعاً
وهذي وفود الشعر قد بايعت معي
وهو حقيق بالإمارة، وإن غضب الشاعر والأديب معالي الدكتور(غازي القصيبي) الذي ملك عليه (المتنبي) نفسه وذوقه واحتل ذاكرته. وإذا كنا نقبل بإمارة شوقي فإننا لا نمانع من (إمبراطورية) (المتنبي). وشوقي المتألق بفنه أعشاه الثناء عن هنات شعره، فما كان يسمع إلا المكاء والتصدية. وحين تلَّه (عباس محمود العقاد) للجبين، وقسا في نقده، وتجاوز الحد في ذلك، تدارك أمره، وراجع شعره، ونفى منه أضعاف ما أخرج للناس، حتى جاء من ينقب في الصحف والمجلات ليخرج (الشوقيات المجهولة) وبعد تعهده لشعره ما كان من الناس المحبين والناقمين إلا أن وقفوا، لينظروا كيف يبني قواعد الشعر وحده، على حد قول الشاعر عن قومه:-
(وقف الناس ينظرون جميعاً
كيف أبني قواعد المجد وحدي)
ومضت دواوين العقاد الأحد عشر دون ذكر، فيما بقي شوقي شاعر العروبة والإسلام. لقد كان من الشعراء الأفذاذ، وكان (العقاد) من المفكرين والنقاد الأفذاذ، فما زاد الجور شوقياً إلا شيوعاً وتجذراً، وما زاد العنف العقاد إلا حضوراً وتألقاً، مع أن (العقاد) متحامل على (شوقي) وحجته داحضة. وقليل عندي من يعدل (شوقياً) باستثناء (المتنبي)، ولا أحسب أحداً من المفكرين يعدل العقاد.
وإذا كان المحب المعجب ب(العشماوي) يحسب أنه بحاجة إلى من يقدمه بالثناء إلى المشاهد فإنه يظلمه، ويظلم شعره. وحين لا يختلف المتلقون مع الشعراء تخمل سوح النقد، وتكسد سوقهم، وما تراهم يقولون إلا معاراً أو معاداً، بل لا تراهم إلا مفتعلين للقول، وجميل أن يبدئ النقاد ويعيدوا، وعلى المترددين أن ينظروا إلى المدارس النقدية والمذاهب الأدبية التي خلفها خصوم (أبي تمام) و(المتنبي)، لقد كان الاختلاف معهم سبباً في نشوء مذاهب نقدية، ولو سلَّم الناس لهما لما عُرفا إلا من خلال أعمالهم الشعرية وحسب. وما من شاعرٍ مرَّ به النقاد مرور الكرام أو سلموا له إلا كان أقرب إلى الانطفاء. وخمول المشاهد ناتج التسليم، وثراؤها ناتج الاختلاف المحكوم بضوابطه ودواعيه وتميز نقاده وشعرائه. وكل مضطلع بمهمة النقد يجد ما يلوم عليه، على حد:- (من نوقش الحساب عذب) والإعجاب لا يعشي العيون، وعداوة الشعراء في الراهن ليست بئس المقتنى، فما عاد الشاعر قادراً على الدفاع عن نفسه بشعره، وتقديراً للعتاب الرقيق من الأخ (فيصل العبودي)، سوف أغالب ظروفي، وأقرأ شعر العشماوي ناقداً لا متمتعاً، وأصدقكم القول فما من صعوبة تعادل صعوبة النقد لمن يملؤك حباً وإعجاباً، لأنك كلما أوغلت في الثناء، أحسست أنك تبتعد عن الموضوعية، وكلما تخلصت من عواطفك أحسست أنك تصَّعَّد في السماء. وقد صدقت الإعرابية التي سئلت عن:- أي أبنائها أفضل؟ فجالت بنظرها في خفايا خصالهم ثم قالت:- (ثكلتهم إن كنت أعرف، إنهم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها).
وهكذا أنا مع طائفة من الشعراء السعوديين، فالحب قد يعمي ويصم، ولا أريد لأحد منهم، ولا لنفسي أن نتبادل أنخاب الثناء على حساب رسالة النقد. والتقريظ المجامل يضر بالشاعر، وما عهدنا أنفسنا مدَّاحين ولا متشايلين، وهل نفع المتذيلين للحداثة زائف المدح. لقد صدرت كتب بحالها، تتناول قصيدة واحدة لشاعر حداثي، ربما كان أغنى الشعراء عن مثل ذلك، ومع ذلك ظل كما هو في عيون المنصفين، وبعض المتعملقين على أكتاف المجاملات الزائفة ظلوا نكرات، وظل شعرهم كسقط المتاع. وحين يستعد الناقد الذي يحترم نفسه وقراءه للدخول في عالم شاعر ك(العشماوي) فإن ذلك يتطلب التفرغ لقراءة أعماله كلها، ليقف على أنساقه الثقافية، وسياقاته الدلالية، وسماته اللغوية، وتشكيلاته الموسيقية. فما من شاعر إلا وله عوالمه الممتدة معه من أول بيت حتى آخر قصيدة. والمتابعون يعرفون أن إبداعاته تشكل أشواطاً دلالية، تواكب النوازل، وترصد لأحداث عربية وإسلامية، وتنافح عن قضايا أمة مستباحة، وترافع ضد الظلم والتسلط والاستبداد. إنه شاعر يطربني بإنشاده وهمه وسلاسة لغته ونقاء موسيقاه وانسيابية قافيته وثورة عواطفه واحتدام مشاعره. وقد أقول مثل ذلك من المآخذ، وأكون صادقاً في الأولى، وغير كاذب في الثانية، وكأني بصاحبنا المعنف للمشهد النقدي يستذكر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:- (إن من البيان لسحرا)، فلقد قالها في موقف كهذا، رضي المتحدث فقال أحسن ما يعرف، وسخط فقال أسوأ ما يعرف.
ومع كل ما سبق أعترف بكل مرارة أن مشاهدنا النقدية لم تفِ بما عليها إزاء المبدعين من الشعراء والسرديين، وإن وفت بما سوى ذلك، وأخاف أن نكون كمن لا يطربه زامر الحي. ولولا ما أخشاه من امتعاض البعض لسحبت البساط من تحت عشرات تعدهم المشاهد من الشعراء، ولكشفت عن سقطات لغوية ونحوية وصرفية وفنية ودلالية لا تُقْبل من السوقة. ولولا ما أخشاه من كشف عورات في الإبداعات السردية لزدت مئات القصاص والروائيين، وأعدتهم بمحاولاتهم الفجة إلى مقاعد الدراسة، وهم من هم عند أنفسهم وعند من لم يفرقوا بين القول والإبداع القولي، والنقد والنقاد مدانون حين يغمضون في الرديء أو حين يقولون كلمة زائفة تمنح الشاعرية لغير الشعراء والأدبية لغير المبدع السردي، وما أتيت المشاهد النقدية إلا من خلال المجاملات الزائفة والتنافخ الفارغ، أو من خلال كتبة يعدون أنفسهم نقاداً، وما النقد إلا موهبة وثقافة ودربة.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:42 PM

جامعة القصيم.. إياك أعني.. واسمعي يا جارة!
د. حسن بن فهد الهويمل


خطوات وئيدة, ولكنها ثابتة وقوية وقاصدة, خطاها التعليم الجامعي في القصيم.. كانت الخطوة الأولى يوم ان تم افتتاح فرع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قبل ربع قرن, وكنت إذ ذاك مدرساً في التعليم العام, وشرفت بالتعاون مع الفرع, لإعطاء محاضرات عن (الأدب العربي في المملكة) فما كان حينذاك من المتعاقدين من يعرف شيئاً عنه, بل كان البعض منهم لا يصدق بوجوده، وكانت طائفة من أدبائنا مخدوعة بالقومية التي لا ترى الاقليمية ولا المواطنة القطرية, وترتاب من التجزيئية، الأمر الذي أضاع أدبنا المحلي في ضجة الآداب المحلية, حتى إذا بادرته الدراسات العليا, كان حضوره الذي يليق بمثله.. ولما حصلت على الدكتوراه بادرت الانتقال إلى كلية العلوم العربية والاجتماعية في الفرع, ولمَّا أزل بعد التقاعد استاذاً غير متفرغ للأدب الحديث, ممتعاً نفسي بالنظر إلى غراسي الذي أينع وأعطى ثماره.. وهل من فرحة تعدل فرحة الاستاذ, وهو يرى طلاب الأمس وزملاء اليوم من حملة الدكتوراه والماجستير, يمارسون التعليم, وينهضون بمهمات العمادات, ويؤثرون أساتذتهم, وهم من هم في علمهم وأخلاقهم، وما من أحد يرضى أو يسلم بتفوق أحد عليه إلا الآباء لأبنائهم، وإلا الأساتذة لطلابهم.
وجاءت الخطوة الثانية بافتتاح فرع ل(لجامعة الملك سعود).. ولما كان فرع جامعة الإمام يلحق بالأصل في اعتماد الكليات النظرية, اتخذت جامعة الملك سعود الجانب العلمي، وسار الفرعان جنباً إلى جنب في نمو مطرد, وتنافس شريف, وتنوع مطلوب.
وجاءت الخطوة الثالثة بشراء موقع الجامعة المرتقبة, والبدء في تنفيذ البنية التحتية, وبناء بعض الكليات والمعامل والمختبرات، وتلتها الخطوة الرابعة متمثلة بانشاء جامعة في القصيم, ليكون الفرعان نواة لها, واستبشر الناس, وانطوت مشاعرهم على فرحة غامرة بهذه المبادرات، ثم توجت تلك الخطوات بالخطوة الأهم, خطوة البدء الحقيقي, وذلك بتسمية الجامعة وتعيين مديرها.
نسبت الجامعة إلى الأرض التي منها خلقنا, وفيها نعود, ليكون رفاتنا بعض أديمها, أرض الخيرات والكفاءات, أرض السنبلة والنخلة والرمال والتلال, أرض البطولات في مرحلة تكوين هذا الكيان العزيز بقيادة الملك عبدالعزيز, الأرض التي تمثل واسطة العقد الأجمل, عقد البلاد الفريد بكل مقدساته ومناطقه ومدنه وقراه ورجالاته.. ثم وقع الاختيار لإدارة الجامعة على كفاءة علمية عملية, عركته التجارب الأكاديمية, وحنكته المسئوليات المتعاقبة من تدريس وعمادة ووكالة وأمانة, وتلك التقلبات مكنته من الدربة والدراية, وستمكنه من توظيف هذه المكتسبات لمزيد من النجاحات.. وتعويلنا على من بيده ملكوت كل شيء، ثم عليه وعلى كوكبة العاملين معه من أبناء الجامعتين الأساس.
وحين نستبشر بهاتين المبادرتين: مبادرة التسمية والتعيين, فإننا نتطلع إلى تحرف جديد, وتحيز مفيد, لتكون (جامعة القصيم) الأخيرة في الولادة السابقة في التحديث والتطوير, مبتدئة من حيث انتهت رصيفاتها.. فالعصر العصي لم يعد قابلاً للتردد أو التهيب أو النمطية, إنه عصر المبادرات والمفاجآت والمتغيرات, ومن هاب اقتحام العصرنة المتوازنة عاش دهره في المؤخرة, ومن لم يسدده تقديره الدقيق وتدبيره الحصيف قعد به تسويفه أو تاهت به مجازفاته.
وإذ واجهت مخرجات التعليم الجامعي بعض الاخفاقات, بسبب ضعف التحصيل وضخامة التخصصات النظرية, فإن على الجامعة الجديدة الخلوص من تلك المعوقات, واعتماد (هيكلة جديدة), ترفع من كفاءة الخريجين, وتحول دون التضخم النظري, على أن تتفادى التعرض للانكماش الذي يحول دون استيعاب حملة الثانوية العامة.
فالقصيمي لايريد ان توصد الأبواب في وجهه, وهو يعيش الاحتفالية بولادة جامعة طال انتظاره لها, كما أن أولياء الأمور يودون ان يكون التعليم مرتبطاً بالعرض والطلب, إذ لا مزيد على ما يعانيه خريجو بعض التخصصات من ترقب ممل لفرص العمل.. وإذ تكون مثل هذه الاجراءات مرتبطة بالسياسة العليا, فإننا نود أن يصل الصوت السليم إلى هذه السياسة, لتكون قراراتها وفق المتطلبات، فالسياسة العليا تنصت للمطالب والرغبات, وترصد التطلعات, وهدفها إرضاء الجميع, وتحقيق أفضل النتائج, وقراراتها لا تنزل من السماء, ولكنها تتشكل من الواقع ومما يشير به المنفذون. وإذا تفاعلت السلطات التشريعية مع التنفيذية, نسلت القرارات الراشدة, وتجسد العمل السليم, وأمر الأمة في النهاية شورى, ولأهميته استحضره الخالق في أكبر قضية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}, وأشار إليه في أصغر قضية: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}, والنصيحة جزء من المشورة.
إن أمام المدير الجديد عدداً من المطالب الملحة, لعل من أهمها استكمال متطلبات الأجواء الجامعية. فالجامعة (مكتبة) و(معمل) و(مختبر) و(قاعات) و(ساحات) و(ملاعب) و(مساكن) و(خدمات) و(مطاعم) و(حدائق) تستوعب آلاف الطلبة, وتعتمد اليوم الدراسي, متخلصة من الساعات الفصلية التي تجعل المباني خاوية طوال الثماني عشرة ساعة. ولأن الجامعة مجرد اطلاق تسمية, ولأن طلبة الفروع من قبل يفوق عددهم الخمسة عشر ألف طالب, وهم بازدياد مطرد, ولأن حاجة السوق تتطلب تخصصات معينة فإن المؤشرات تتجه صوب النوعية لا الكمية, وذلك منعطف حساس, يحتاج إلى جهد استثنائي وتفكير عميق, يجنب العملية التعليمية غزارة الانتاج وسوء التوزيع. وعلى المسئولين في كل جامعاتنا توعية الرأي العام المتخوف من الاصلاح المتحفظ على التغيير, وذلك بالتأكيد على أن التعليم صناعة واعداد للمستطاع من القوة: الحسية والمعنوية, وأنه يكون بالنية الصالحة عبادة, وأن من حق المواطن أن تصنعه المؤسسات التعليمية وفق حاجة الأمة, وأن إغلاق قسم وفتح آخر أو التوسع في تخصص دون آخر، لا يرتبط إلا بحاجة المجتمع وبمصلحة المواطن, وعلى الجامعات أن تكون واعية لمتطلبات المرحلة, بحيث تسعى جهدها لسد حاجات الأمة, وعلى (مركز خدمة المجتمع) في كل جامعة التأكيد على أن المفاضلة بين تخصص وآخر مرتبط بإغناء الأمة عن خدمة الغير. وقدر البلاد الأصعب ان عنصر الشباب والانفجار السكاني وتعميم التعليم, تفوق الإمكانيات, وإذا لم تبادر جهات الاختصاص بجهد استثنائي أصبحنا أمام أزمات مستعصية.
والإذعان للرغبات غير الواعية يفوّت على الأمة فرص الاكتفاء الذاتي في كثير من المجالات العلمية والطبية والفنية والحاسوبية والهندسية واللغوية وغيرها, كما أن الطرق التعليمية الحشوية والالقائية انعكست آثارها السلبية على التحصيل الكمي والمهارات الإجرائية, الأمر الذي أشاع الضعف, وبطَّأ بالاكتفاء الذاتي, وأسهم في خلق بطالة غير متوقعة وغير معقولة. ودولة تستوعب أكثر من سبعة ملايين وافد, لا يمكن ان تبادرها البطالة بهذه السرعة, وبتلك الفداحة. ومؤشرات الاخفاق أن تمارس بعض الجهات غير المعنية إدارة توطين الوظائف عن طريق الضغط والإلحاح. إن هناك خللاً مرده إلى مواد التعليم, وتخصصاته, وطرائق أدائه, وشح إمكانياته، وعلينا في مرحلة التطوير أن نجعل (الحبل) و(الفأس) اللذين أعطاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم- للمتسول نبراساً لكل تغيير, لقد أبعده عن صحبته, وأقصاه عن مواطن نزول الوحي, ووجهه صوب الوهاد والنجاد, ليعفه من ذل السؤال. والرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يدفع عن الفاضل إلى المفضول إلا بمسوغ، وآية النفور ركزت على التبعيض, بحيث يكون التفقه والإنذار لطائفة من الأمة, فيما تبقى الطوائف الأخرى في مواقعها العملية.. فملازمة الرسول أفضل, وتفقه الإنسان في الدين أنفع, ولكن عارض الحاجة جعل المفضول فاضلاً، وذلك يؤكد أهمية (فقه الأولويات), والمسلم مطالب بالتعادلية, فلا مساس بين مطالب الحياتين, كما أنه في عبادة في مسجده وفي بيته وفي سوقه وفي مصنعه متى حمل همَّ الأمة, ونصح لها, وقصد إغناءها, ولهذا كان أمر المسلم كله عجباً، وإصلاح المناهج يتجه صوب التخصصات وطرائق الأداء، وإقحام (الأسلمة) أو (العلمنة) مزايدة رخيصة وانتهازية مقيتة, ف(العقيدة) و(الوطن) خطاب القيادة, وهما كثنائية (الروح) و(الجسد), ومن أراد العز بغير الإسلام خذله الله، وفي النهاية فنحن لانريد أن يعود المتخرجون إلى بيوتهم, ليكونوا عبئاً على آبائهم, كما لا نريد مدرس الضرورة, ولا نريد وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.
وإذ تكون الجامعة لملمة لفرعين قديمين منتميين لجامعتين عريقتين, لكل واحدة منهما اهتماماتها, ونظامها, وأسلوب تعاملها فإن الأمر تجاوز مرحلة التأسيس إلى معضلة التجنيس والدمج, وطرح الذات المنعتقة من التنميط.
ومع تباين الأداء بين الفرعين, يقوم تباين في المواقع, وتفاوت في القابلية, يضيق أحدهما عن الاستيعاب, فيما يتسع الآخر للاستيعاب, وتتوافر القابلية والأهلية في موقع, فيما تحول ظروف المكان والتصميم دون ذلك في الموقع الآخر, ولكيلا تضيع الجهود بين موقعين متباعدين, يحسن حسم الوضع, وتوجيه الاهتمام صوب الموقع الأصلي القابل للتوسع, ووضع خطة مرحلية لجمع الأشتات, وتفادي العمل المؤقت, وإن كان المثل الانجليزي يقول: (لا يدوم إلا المؤقت)، وليس هناك ما يمنع من تحويل الموقع المستغنى عنه للطالبات بعد تحصينه وتحسينه.
ولقد أشرت أكثر من مرة إلى أن الجامعة أحوج ما تكون إلى توفير الأجواء الجامعية, وبخاصة أنها لم تكن في عاصمة ك(الرياض) المليئة بالمكتبات والمعامل والمختبرات والقاعات المساندة.. والأجواء الجامعية ليست ميسورة بالقدر الذي يتوقعه البعض, ف(المكتبة) -على سبيل المثال- في الفرعين بإمكانياتها ومواقيتها وآلياتها لا تسد أيسر الحاجة, وطلبة الكلية فضلاً عن طلبة الدراسات العليا يجدون حرجاً من شح المراجع, فضلاً عن فقد المكتبتين لمتطلبات الخلوة والحاسوبات والتواصل مع مكتبات العالم.
والمعامل والمختبرات ومجالات التطبيق العملي كل ذلك يتطلب مزيداً من التوسع, ومزيداً من التحديث والمتابعة وتحسين النوعية والأداء.. ولن تكون الجامعة قادرة على الندية والمنافسة حتى تتغلب على أجوائها ومسانداتها, وحتى تهيئ لأعضاء هيئة التدريس كل الإمكانيات والفرص والوسائل المتوافرة لزملائهم في جامعات الحواضر, كالمساكن والخدمات ومدارس الأبناء وسائر المميزات.. ولن نتحدث عن تطلع أعضاء هيئة التدريس إلى كادرهم الموعود, فذلك شأن السياسة العليا, وهي السباقة إلى كل مكرمة، وكل ما نقول تطلعات تختلج في النفوس يمسك بعضها برقاب بعض:




(وما استعصى على قوم منال
إذا الأقدام كان لهم ركابا)


ومن حق كل مواطن أن يفكر بصوت مرتفع, ليُسمع القادرين على تحقيق الطموحات, فنحن أمة هيأ الله لها ما لم يهيئه لغيرها، والوقوف دون هام السحب إخلال بالأهلية على حد:



(إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم)


والهواجس والتطلعات على قدر العزمات و(على أقدر أهل العزم تأتي العزائم...) ومعولنا على الوضع الجديد التخلص من هاجس الفرعية, فإمكانيات الفروع ما كانت لتفي بأقل المتطلبات, كانت من قبل بيوتاً مستأجرة وإمكانيات متواضعة, ثم انتقل فرع (جامعة الإمام) إلى المقر الجديد, وتكدست كل الكليات في مبنى كلية واحدة, ثم بدأ التوسع وفق الإمكانيات, وكان فرع (جامعة الملك سعود) لا يقل في أوضاعه المؤقتة عما كان عليه رصيفه, حتى انتقل إلى المدينة الجامعية المرتقبة.
ولما تزل الأجواء دون المؤمل على الرغم من كونها من أولويات المطالب, ودعك من عمادة البحث العلمي والدراسات العليا, وما يتطلبه ذلك من الإمكانيات البشرية والحسية, ولو أن أحداً أصاخ لما يدور بين الطلبة وأعضاء هيئة التدريس وكافة أفراد المجتمع من طموحات وتطلعات لتصور أن الأمر كالغول والعنقاء والخل الوفي, غير أن المسألة دون ذلك بكثير, وتعبنا في الطموحات التي لا تحد, وما على المسئولين من سبيل إذا سددوا وقاربوا وبشروا, والتكليف وفق الوسع.
لن يفوتني وأنا أجمجم عما في نفوس الناس أن أشير إلى جهود مشكورة, واكبت مشروع التعليم الجامعي في القصيم وأنشأته من لا شيء, تبنتها كوكبة من المسئولين, يقدمهم صاحب السموّ الملكي أمير المنطقة المتابع لكل صغيرة وكبيرة في المسيرة التعليمية, كما أنني بثناء لا يحد على جهود الجامعتين الأصليتين: (جامعة الإمام) و(جامعة الملك سعود) ومن ورائهما معالي وزير التعليم العالي. والشكر موصول لكل من يحمل همَّ أمته, أو يباشر العمل بصدق وإخلاص وأهلية.. وكل عامل ناصح ينال حظه من شرف الخدمة للدين والوطن, وكل عامل متفانٍ يؤدي واجبين: واجب المسئولية وواجب المواطنة, ولا يكتم أفضال المتفضلين إلا العققة.. وكل مسلم على ثغر من ثغور الوطن, والسعيد من يسطر على صفحات تاريخه ما يشرفه, ويشرف انتماءه لهذا الوطن الذي أعطى الكثير, ولم نرد له أيسر حقوقه.
ولما لم يكن في حسابنا ان تختط الجامعة الجديدة لنفسها خطة منفردة, ولا أن تكون في معزل عن أنساقها وسياقاتها ورصيفاتها, ولا أن تقفز فوق الحواجز والإمكانيات فإننا نربط أنفسنا ونقيد طموحاتنا بمعطيات الواقع, وهو واقع مواتٍ, وقادر على تخطي العقبات.. ومن أراد ان يطاع فليطلب المستطاع, وليس من المنطق الخنوع لما يتصوره المتشائمون واقعاً غير مواتٍ.
وإشكالية البعض تكمن في وقوعه تحت طائلة (نكون كما نريد, أو لا نكون), فيما يكون الأفضل أن نشتغل في المساحة المتاحة, ونحاول استغلال أقصى طاقات المتاح, على مبدأ (خذ وطالب), والجامعة في بدايتها لن تحقق كل الطموحات, ولكنها بالتدبير والمواربة وترتيب الأولويات والمطالبة الملحة ستجتاز مشاكل البدايات, وهي مشاكل مقدور على تذليلها.. وكم نحن سعداء بهذا الحدث التاريخي الذي طال انتظاره, فجاء مولوداً سوياً, وجاءت بوادره كالمبشرات, ورهاننا رهين الكفاءات والإمكانيات والأجواء وحسن النوايا, وهي قائمة فيمن وُكِّلَ إليهم الأمر, نحسبهم كذلك, ولانزكي على الله أحداً.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:43 PM

الجهود الأدبية للعلامة العبودي
د.حسن بن فهد الهويمل


كلما جمعتني المناسبات بالعلامة معالي الشيخ (محمد بن ناصر العبودي) طُوِيت أمامي بوادر الشيخوخة، وعزمات الكهولة، وذكريات الشباب، ليندلق عبق الطفولة بكل طهره وبراءته. وليس من السهل أن يقفز الإنسان بذاكرته نصف قرن، ليستعيد واقعاً بدائياً مفعما بالبساطة والعفوية.
كانت تلك اللحظة المترائية لي من بعد في إحدى صباحات صفر من عام 1374هـ أي قبل إحدى وخمسين سنة. كنت يومها في الصف الرابع الابتدائي، وكان (المعهد العلمي) قد فتح أبوابه في ظل إدارة معاليه، والناس إذ ذاك ينظرون إلى تلك المعاقل وأناسيها على أنهم خلق آخر. ولن أنسى أول ليلة صعدت فيها منبر (نادي المعهد) الأسبوعي، لأقدم ركن الفكاهات، الذي اختارني له معاليه، موصياً بالتنقيب عن النوادر في العقد والمستطرف، وأخبار المغفلين والنوكى والأذكياء عند ابن الجوزي. وكان ذلك مؤذناً بالتعرف على كتب التراث الأدبي، وما زلت أذكر أول نكتة أملاها عليَّ من كتاب العقد الفريد:-




يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
ولو يستطع لتقتيره
تنفس من منخر واحد


وبعد دراسة متعثرة امتدت ثلاث سنوات، تفرقت بنا السبل، فما عدت أراه إلا من خلال منجزاته. وكلما نظرت إليه وإلى ما تركه من كتب، تذكرت الموسوعيين في القديم ك(الجاحظ) و(السيوطي)، وفي الحاضر ك(الطنطاوي) و(عبدالسلام هارون). وكلما قرأت في سير أعلام النبلاء، أو في علم الطبقات، تبدت لي ملامحه. فغالب علماء السلف تتعدد اهتماماتهم، وتتنوع مقروآتهم، يحقرون المناصب والأضواء في سبيل التحصيل المعرفي والإنجاز العلمي.
ورجل أنجز مئات الكتب: إنشاءً وتأليفاً واختياراً في مختلف المعارف، لا شك أنه ترك الدنيا خلف ظهره، وصحبها بلا آمال زائلة. والحديث عن الجانب الأدبي في عطاءاته، يتطلب العودة إلى أنساقه وسياقاته وظروفه التي عاشها، ولأني واكبت بداياتها عن قرب، فإنه من اليسير تبين ملامحها. كانت مكتبة (المعهد العلمي) منطلق الصبغة الأدبية، لأنها ذات منزع أدبي، فأبرز محتوياتها الموسوعات الأدبية: ك (الأغاني) و(العقد الفريد) و(البيان) و(صبح الأعشى)، والمختارات ك (المفضليات) و(الأصمعيات) و(الحماسيات) و(الجمهرة) و(دواوين الشعراء الجاهلين والأمويين والعباسيين)، وكتب العلوم العربية ك (المعاجم) و(النحو) و(الصرف) و(البلاغة)، وكتب التاريخ ك (البداية) و(المروج) و(علم الرجال) و(الطبقات) و(السير)، وهذه التركيبة التراثية المتنوعة مؤذنة بتشكل نزعة أدبية مفعمة بثقافة تراثية عميقة وشاملة. والنص الأدبي حين يحفظ التوازن بين الجماليات الحسية والقيم الدلالية يحوز شرفي اللفظ والمعنى.
وكتب العبودي تراوح بين القيم الدلالية واللفظية، وتتوخى الوسطية، ولقد عرفت المشاهدُ الأدبية كتاباً انصبت اهتماماتهم على جماليات الصياغة، وآخرين عنوا بالمعاني، فيما جمعت طائفة بين جمالية النص وثقافته، وتلك سمة الموسوعيين، ويند عن هؤلاء وأولئك العقلانيون والفلاسفة والمفكرون. والمشاهد بحاجة إلى هؤلاء وأولئك. ف(العقاد) مفكر تشغله الفكرة عن العبارة، و(المنفلوطي) عاطفي تشغله العبارة عن الفكرة، فيما يأتي (أرسلان) معرفياً بيانياً، ويمتد خيط الجمالية متواشجاً مع الدلالة عند (طه حسين) و(أحمد حسن الزيات) و(الرافعي)، فيما تغرق العقلانية ب (أحمد أمين)، ولقد شغلت (الأسلوبية)، بكل مفاهيمها وتحولاتها طائفة من النقاد، وراوحت بين التنظير والتطبيق، فكان أن أغرق اللغويون في البنائية، وأغرق الدلاليون في التكوينية، وقامت بينهم ملاحاة لم تنته بعد.
وفي ظل هذه الاندفاعات المتناقضة سيئت وجوه البيان والمعاني والبديع على حد سواء، وما كان لعالم أديب ك (العبودي) أن يشغله لغط النقاد وتلاحيهم، ذلك أنه يكتب عن هم وسليقة، وهو يرسل كلمته مستبطناً همَّه متوخياً إيصال فكرته، فأصحاب القضايا يعتمدون الإمتاع والاستمالة والإقناع.
وتقصي أدبية النص عند موسوعي ك (العبودي) تبدو من المعضلات، لتنوع اهتماماته وتداخلها. حتى لا تكاد تفصل بين الديني والأدبي والتاريخي والجغرافي، وتلك سجية المسكونين بهم الثقافة. ولو عدنا مثلاً إلى الدراسات التي أنجزت حول (الجاحظ) مثلاً، لرأيناها أخلاطاً من الفكر والأدب والنقد والعلم والتاريخ وسائر المعارف. وكل دارس يجد مراده، حتى ليظن أنه المصيب للمخر، ويبقى (الجاحظ) يرقب دارسين آخرين، يكتشفون قضايا في عالمه المعرفي.
و(العبودي) من هذه النوعية، ومن ثم حاولت حصر دراستي في خمسة كتب من مؤلفاته أحسبها جماع الجهود الأدبية في تنوعات أدائه هي:-
- أخبار أبي العيناء اليمامي.
- كتاب الثقلاء.
- نفحات من السكينة القرآنية.
- سوانح أدبية.
- صور ثقيلة.
وهذه الكتب كما يبدو من عناوينها تراوح بين الجمع والدراسة والإنشاء: المقالي أو القصصي. ولقد حاولت أن أشير إلى محورين هامين في جهوده الأدبية:
- أدبية النص.
- والموضوع الأدبي.
وبين المحورين عموم وخصوص. فأمَّا (أدبية النص): فهي خاصة بجمالية اللفظ من حيث الكلمة والجملة والعبارة والأسلوب ومراعاة الجماليات: الصوتية في الجرس والإيقاع، والصورية في التخيل والحركة. وقد تمتد الأدبية إلى فنية الأداء كالقص والرواية أو الشعر. ويجب أن أشير إلى أن سلامة النص غيرُ جمالياته، فقد يتوفر الكاتب على سلامة اللغة وقواعد النحو وضوابط الإملاء، بحيث لا يلحن في اللفظ، ولا يتوهم في المعاني، ولا يخطىء في الرسم، ولكنه لا يتوفر على الجمالية الأدبية. فالمؤرخون والعلماء والفلاسفة لا يلحنون، ولكنهم لا يبدعون. وإشكالية الفصل بين السلامة والأدبية والدلالية لما تزل قائمة في المشهد النقدي، على أن طائفة من السرديين عولت على (واقعية اللغة)، وأحالت على (مراعاة مقتضى الحال) فهبطت باللغة إلى درك العامية.
و(أدبية النص) كما يشير (توفيق الزيدي) في كتابه (مفهوم الأدبية في التراث النقدي) تقوم على (التحول) و(الإيقاع) و(التقنية) و(الخصائص) ومتى عول الكاتب على عنصرين هامين في العملية الإبداعية هما:-
- المجاز.
- والانزياح.
توفر على أدبية النص، وسلم الأدبية يتفاوت، إذ ليس كل متوفر على المجاز والانزياح بقادر على توفير أسلوب أدبي متميز، وامتلاك المفاتيح لا تتحقق معه الرغائب، فالأسباب تهيىء المجال ولا تحقق النتائج. والسؤال البدهي: هل يستحضر العلامة (العبودي) هذه الضوابط، وهو يكتب في الموضوع الأدبي على الأقل، أم أنه يتوفر عليه طبيعة وسجية؟ لقد تبدت الأدبية: الموضوعية والأسلوبية في مجمل تناولاته، ولم تحل بينه وبين التعددية المعرفية، فهو حين يكتب في الجغرافيا أو في التاريخ أو في الرحلات تبدو أعناق الأدبية من خلال كتاباته، إذ هو أديب بطبعه واهتمامه، وتحول الاهتمام من الأدبي إلى الشرعي، لم يخلص عالماً ك (ابن القيم) من أدبية النص.
أما (الموضوع الأدبي) فقد سبق لي أن جسدته في الحديث عن (أدب الرحلة) عنده ليلة تكريمه في (المهرجان الوطني للتراث والثقافة)، وجاء البحث مركزاً على متطلبات هذا اللون من الأدب. و(أدب الرحلة) تتنازعه معارف متعددة، كالأدب والتاريخ والجغرافيا والسير الذاتية. وكل هذه المعارف تعوِّل على أدبية النص بمفهومه القديم والحديث وتحيل إلى الموضوع الأدبي.
و(العبودي) من الكتّاب الذين يهتمون بتدوين المعلومات والملاحظات، ما دق منها وما جلَّ، دون تكلف أسلوبي أو معاضلة تعبيرية، وما في كتبه من صياغة أدبية فصيحة فإنما هي قدرة ذاتية كسبية، فهو عالم بالتراث، ومؤلف معرفي قبل أن يفرغ لأدب الرحلة، والمتابع لكتبه لا يقدر على تصنيفه لا جغرافياً، ولا اجتماعياً، ولا سياسياً. ومن ثم فهو أقرب إلى الموسوعيين، لتوفره على القيم العلمية والأدبية، واللغة التي يعتمد عليها، ويتوسل بها لغة فصيحة سليمة، لا يعمد فيها الى التزوير ولا إلى التنقيح، ولكنه يكتب كما يتحدث، وذلك سر الإكثار والقبول. وبعض الأساليب توصف بالسهل الممتنع، ف (طه حسين) كاتب جذاب وممتع، ولا تستطاع محاكاته، ولو كانت عند العلامة عناية لغوية أو أدبية أو معرفية دقيقة محددة، لكان أن قل عمله وانحصر مريدوه. ومع العفوية احتفظ بمستوى أدبي ولغوي ومعرفي يجعله في مصاف غيره من الأدباء الممارسين للكتابة الأدبية. لا تجده ناقداً ولا منظراً، وإن كان يستبطن التساؤل والمراجعة، كما في مداخلاته اللطيفة مع المفسرين في كتاب (نفحات من السكينة القرآنية).
على أنه لم يوجه اهتمامه لصناعة الأدب، ولم يشأ الاشتغال المنقطع لشيء من فنونه، وإن جود آلياته النحوية والصرفية واللغوية والبلاغية، فإنما ذلك بوصفها علوم العربية لا بوصفها آليات الأدب. وحفوله بالأدب حفول المتمتع، لا المحترف. كما لم تكن له إلمامات أدبية حديثة، بل كان ولما يزل مع التراث ينتقي منه ما يحلو له من الحكايات والأخبار والنوادر ولطائف التفسير، وعزماته الجادة تراها رأي العين فيما سوى الأدب من معارف إنسانية، ومتى وضع يده وحدد مهمته أعطى عطاء العلماء المتمكنين من معارفهم ومناهجهم وآلياتهم.
ومن هنا قلنا بأنه لم يكن جادا في ممارسته الأدبية، ولم يشغله الأدب بصفته الفنية مثلما شغلته اللغة وأدب الرحلة والأمثال والجغرافيا. وما كان الأدب عنده إلا من جهة أدبية النص، وسلامة اللغة، وثراء المعارف، وتنوع الاهتمامات، ومحاولات مترددة في القص جاءت في (سوانح أدبية) وفي مخطوطات لم تر النور.
وموسوعيته جعلته يأخذ من كل شيء بطرف، وتلك سجية العلماء الأوائل، وما أصابتنا أمية التخصص إلا بعد أن أصبح العلم صناعة والتعليم وظيفة، وإلا بعد أن تنازعتنا الرغبات، فكانت عين في الكتاب وعين في الوظيفة. وأما اهتمامه ب(العامية) فلأنها مصدر معرفي أو تاريخي، ولم يهتم بها كلغة رديفة، ومن ثم ألف في الأمثال، وفيما انقرض من الألفاظ. ولما لم أكن حفيا بمثل هذا الاهتمام، فقد عدلت عنها، ووقفت منها موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من (الضب)، لم يحرمه، ولكن نفسه تعافه.
ومسميات الكتب الأدبية تشي بالاهتمامات والدلالات والخطرات، وأقرب ما توحي به أن الأدب عنده للإمتاع أولا ثم للانتفاع ثانياً. فلقد صرف همه إلى ما يمكن تسميته بالضحك الهادف، بحيث تقصى أخبار الثقلاء والنوكي والمغفلين ونوادر الأخبار، نقلها بروايتها وأسانيدها تارة، وعلق على بعضها و تولى روايتها بنفسه تارة أخرى. أما في (سوانحه الأدبية) فهو منشىء أو مبدع، وكأني به يتخفف بهذه الإلمامات من جد العمل، ولقد سلف من كبار العلماء من جعل الممارسة الأدبية انتباذا غير قصي عن جد العمل. نجد ذلك عند (ابن حزم) في (طوق الحمامة)، وعند (ابن الجوزي) في (صيد الخاطر)، وعند (ابن قيم الجوزي) في (روضة المحبين)، وفي (عقلاء المجانين) ل (النيسابوري)، وفي (كتاب التطفيل) ل (البغدادي). وكتابه (أخبار أبي العيناء اليمامي) من ذلك اللون الذي أشرنا إليه، وكل جهده يتمثل في التنقيب والبحث فلا هو دراسة ولا ترجمة ولا نقد، وإنما هو جمع وتخريج للاستمتاع والتملح والتفكه. وأجمل قاعدة نقدية قالها:- أن النقد والتقويم (شأن من يرى لا من يروي).
و(أبو العيناء) شغل طائفة من الموسوعيين والأدباء، فقد انتثرت أخباره في الموسوعات، ولو عدنا إلى الإحالات في الهوامش لهالنا عددها، ولم يكن من بينها (نثر الدرر في المحاضرات) ل (الآبي) الذي استل منه الدكتور (نعمان محمد أمين طه) كتاب(نوادر أبي العيناء ومخاطباته)، وقد أسِف على فَقْد مخطوطة (أخبار أبي العيناء) للصاحب بن عباد، وسمى كتابه باسمه ومع التشتت والضياع جاء كتابه أوسع وأشمل وأدق وأوفى من مستل (نعمان طه) الذي اقتصر فيه على تحقيق ما يخص (أبي العيناء) في المخطوطة.
ومعضلة هذه النوعية من العلماء الموسوعيين صعوبة التصنيف فليسوا بالفقهاء ولا بالأدباء. ولقد امتعض (الطنطاوي) من حالة (الأعراف) التي يعيشها، فالأدباء يذودنه عن حقولهم، والفقهاء يكبرون أنفسهم عن اهتماماته، فلا هو فقيه مع الفقهاء ولا أديب مع الأدباء، وإن كان يبز هؤلاء وأولئك. ولو استدعينا (أدب الرحلة) عند العبودي لكان فيه علماً من أعلام الأدب، ولو استدعينا (المعجم الجغرافي) لكان فيه علماً من أعلام البلدانيين، ولو استدعينا (الأمثال العامية في نجد) لكان فيها علماً من أعلام المحققين. ولكن إمكانية تصنيفه ضاعت بين قبائل العلم، فكان أمة وحده، وكان من حقه أن يقول لكل داع له إلى الصدارة:- الصدر حيث أكون.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:45 PM

تسديد النقد (المؤدلج) وتفعيله..!
د. حسن بن فهد الهويمل


تقوم بين الناقدين (سعد البازعي) و(عبدالعزيز حموده) وشائج تقارب وافتراق, وكأني بهما يقتسمان الهم والمهمة والرؤية والتصور, ويتحسسان عن مواقع التيه والرشاد للنقد الحديث. واقتراب أحدهما من الآخر يوطئ له تجانس المصادر والموارد, إذ يتظامَّان في التلقي المنضبط من الآخر, ويقتربان من وعي الحد المسموح به. وما أكثر المتلقين وأقل الواعين.
فالذين ذهبوا إلى الغرب أو الشرق, وتلقوا معارفهم على أيدي أساطين الاستشراق, عادوا إلى حضارتهم واعدين أو متوعدين. فطائفة من المبتعثين استوعبت الحضارة الغربية, وعرفت مكوناتها ومحركاتها ومقتضياتها. وهذا حسن ومطلوب, ولكن عيبها أنها استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير, ظناً منها أن الحضارة الاسلامية ترفض مدنية الآخر وعلمه, وأن إظهار الدين وإقامة شعائره عقبة في طريق المعامل والمختبرات وسبر الآيات في الآفاق والأنفس, ولم تكتف بالاستبدال, وإنما تجاوزت ذلك إلى الوقيعَة والتوهين والمساس بأهلية الحضارة الأحق بالوجود الكريم, وتحميلها تقصير أهلها المشهود بالصوت والصورة. ومن زكى أحوال المسلمين فقد واطأ على التخلف. وطائفة أخرى لم تكن قادرة على الاستيعاب, فعادت متورمة متشبعة, كالعائل المستكبر, أو كلابس ثوب الزور, تدعي تضلعها, وتدعو إلى أوهامها, وهذه الطائفة هي التي تملأ الرحب, وتستأثر بوسائل التوصيل, إذ تغامر ببدنها, والغريق لا يخشى من البلل, والذي لا يلوي على شيء لا يخاف من المغامرات, والنظارة تستهويهم البهلوانيات. وطائفة ثالثة تضلعت من الطارف والتليد, واختطت لنفسها طريقاً قاصداً, متيحة فرص التفاعل بين الأشباه والنظائر. إذ ما من حضارة إلا ولها مع سائر الحضارات مناطق لقاء وافتراق. والحصيف المتضلع من يدق نظره, ويلقي سمعه, ويفقه ذاته, ويستوعب غيره, حتى إذا التطمت في فكره أمواج الحضارات, أخذ من الطارف ما ينقص حضارته من قيم علمية أو فنية أو مدنية, واستدعى من التليد ما لا تقوم الحضارة إلا به من ثوابت, هن أم الحضارة.
وكل حضارة لها حيازاتها التي تميزها, ومشاركاتها التي تفعلها. إذ ليس هناك نص محض, ولا حضارة محض. والإسلام استوعب طائفة من قيم الجاهلية, والرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على بعض أخلاق القوم وممارساتهم, وأثنى على خيارهم في الجاهلية, واستحسن إبداعات بعض الشعراء, وقال عن شعر (أمية) أسلم لسانه وكفر قلبه - أو كما قال - وأحسبه تمنى رؤية بعض الشعراء, وأكبر (سفّانه) لأن أباها يحب مكارم الأخلاق, وفضّل عمر بن الخطاب رضي الله عنه شعر (زهير), وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد زعماء القبائل بعد إسلامه: - (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة). فهل (الشيوعية) تنصف (الرأسمالية)؟ وهل إحداهما تذعن للحق, وتسلم له, مثلما سلّم له الإسلام؟ ذلك بعض ما غفل عنه المبهورون, وأنكره المأجورون. وما أشرنا إليه دليل على تداخل الحضارات, وتقارضها, وتفاعلها. ومن تصور نفسه على غير ذلك, فقد أضر بحضارته وبغيرها, وما أصاب الأمة من الانكماش أو الضياع إلا الاحتباس أو الاندفاع غير المبررين.
والذين ينقمون على حضارتهم, ويباهون بالآخر, ويبشرون به, ويقدمون بين يدي تبشيرهم التقليل من شأن موروثهم, لا يزيدون راهنهم إلا ارتكاساً في حمأة التبعية, وتعميقاً للخلاف. وهؤلاء القوم إما مخدوعون, أو مواطئون, أو جهلة بنواقض الحضارات, وأصول المبادئ, وحدود الحريات. والتاريخ الحديث تشف صفحاته عن مفكرين وأدباء وعلماء منهم الصالحون, ومنهم دون ذلك, ومنهم الذين مردوا على الوقيعة ممن يعرفهم الراصدون للحراك الفكري والسياسي والثقافي. وهل يخفى على المتتبع الحصيف ما تتجرعه الأمة من البأس الشديد بين أبنائها, وما يصنع فيها ولها من لعب؟. وإشكالية المشاهد جهل الحدود وأمداء القبول بالآخر ومفهوم الوسطية والتسامح والحقوق.
وما أحوج الأمة في ظروف التخطف إلى من يقسم بالله على الوفاء والولاء للعقيدة بمثل قسم الرسول صلى الله عليه وسلم, حين عرضت عليه الدنيا ليتخلى عن رسالته. والمتعمدون لتوهين مفردات الحضارة الإسلامية لا يجدون حرجاً من جر الأقدام بأي ثمن, وعبر أي وسيلة. وضعفاء النفوس يتهافتون على شهوات الغرائز أو على شهوات الرغائب. وكل مدع للمعرفة مباه بالابتعاث غير مبلغ عن حضارته ولو آية مأخوذ من مأمنه أو من شهواته. وما اخترقت التحصينات إلا بمن غلبت عليهم شهوات المتع أو أضواء الشهرة. وما من لعبة مضرة إلا ولها كتّابها المأجورون أو المخدوعون.
فالألسنة والأقلام ليست بأقل أثراً من القاذفات والراجمات, ومن استخف بالكلمة, وقع في الحبائل. والمواجهة بين الحضارات لا تعتمد المناجزة والحسم بالسلاح, إن هناك سياسة النفس الطويل المتمثلة بالتحيز والتحرف والتقدير والتوقيت والترغيب والترهيب والغزو والتآمر والتماكر والتشكيك. وليس بغريب أن يواجه المسلم كل هذه الخطط, سواء نهض بها المستشرقون أو ناب عنهم المستغربون, وسواء تولت أمرها المحافل الماسونية او الصهيونية أو السياسية, وليس شرطاً أن يكون كل حائد عن جادة الصواب من هؤلاء, ذلك أن المفاهيم والاستعدادات تختلف من مفكر إلى آخر, والغزو والتآمر لا يبرئان من المسؤولية وقابلية الاستعمار.
وفي ظل هذه الظروف العصيبة نحن أحوج ما نكون إلى الوسطية والتوازن والدفع بالتي هي أحسن, وتفادي سوء النوايا والأثرة, وأحوج ما نكون إلى استبدال الصدام بالحوار. فالعالم المادي يحكم قبضته على الضعفاء بآلته النافذة ومؤسساته الثابتة, ومن قلل من أهمية علمه أو من أسلوب مؤسساته الدستورية والتشريعية والتنفيذية, فقد ضلّ الطريق , وأطال أمد تخلفه. وإذا كان الغرب ينطوي على مثمنات ومناهج وآليات وأنماط حياة هي ضالة المسلم, فإن على قادة الفكر العمل على تمثل الحسن منها دون استهجان للذات, أو تعقب لعثرات الدعاة والمصلحين, ودون تفكير بحسم الاختلاف المشروع, والهم الإسلامي على أي مستوى لا يقتضي المنابذة ولا الصدام ولا تعمد الإفساد. وواجبنا أن نحاور ما أمكن الحوار, وأن نتفاعل ما أمكن التفاعل, وأن نستفيد ما أمكنت الاستفادة. وليس هناك ما يمنع من التتلمذ على الآخر بالذهاب إليه أو باستقدامه. والمسلم البصير بمقدوره ان يتعلم على أساطين الكفر ما يحتاج إليه الإسلام, دون أن يمس ذلك عقيدته أو يخل بولائه, أو يفسد أخلاقه, وما أضر بالأمة إلا القطيعة المطلقة أو الارتماء المطلق. وإشكالية المشاهد الفكرية والأدبية أنها أوزاع بين متهافتين أو متصومعين, ولما ينبري من يجمع بين الحسنيين: يلتزم الثوابت الإسلامية, ويستفيد من منجز الآخر. والإسلام دين الحضارة والمدنية, دين العلم والفكر, دين العمل والعبادة, فمن ظنه غير ذلك فقد أساء إلى نفسه وإلى أمته.
أقول قولي هذا وأنا أستعرض ما يمكن ان أسميه مشروعاً أدبياً تبنّاه الاستاذ الدكتور (عبدالعزيز حموده) من خلال ثلاثة كتب, أثارت حفائظ البعض وضيقت الخناق عليهم وأفقدتهم صوابهم, وجاء معه أو من بعده الأستاذ الدكتور (سعد البازعي) يحمل ذات الهم وذات النفس وذات الإمكانيات في كتابه (استقبال الآخر الغرب في النقد العربي الحديث) والمؤلف يستخدم دلالة (الاستقبال) في التلقي والتوجه, كما استقبال القبلة, ولعله يقصد الدلالة الأكثر مؤاخذة. وجميل من استاذ درس في الغرب أن يبتدر الأخذ بحجز المتهافتين عليه دون وعي, وجميل من نقاد متخصصين ومتمرسين يرصدون للتحولات والانتكاسات والتهافت بمصداقية واقتدار, ويقدمون أنجع الحلول للخلاص من التهلكة. والمؤلم ان مثل هؤلاء يزور عنهم المتابعون, ويمر بهم الإعلاميون مرور الكرام, فيما تبتدر وسائل الإعلام المخفين. والمثير أن المخفين أسرع وأشيع, على حد مقولة (المتنبي) عن الجيش والقتام, ولهذا تراهم الأكثر حضوراً والأكثر تأثيراً, وما ذاك إلا لأن بضاعتهم أشبه باللغط الإعلامي الذي يروق للدهماء. ولقد يخرج إلى الناس كتاب لا يقول شيئاً ذا بال, ثم تراهم يتسابقون عليه. والفاجعة ليست في خلو الكتاب من الجدوى, ولكنها في خلو أدمغة الدهماء, ووجود من يغرر بهم. وإشكالية العزوف ليست قصراً على من نمضي معهم, وإنما تمس من نختلف معهم, ممن نحترم التكثيف المعرفي والدقة المنهجية في أطروحاتهم, وسنعرض لبعض أولئك, لإثبات أننا مع الحق, وإن كان مع من نختلف معه.
والدكتور (سعد البازعي) الذي يعبر كتابه الساحة دونما صخب يعرض لإشكالية عصية, هي إشكالية التواصل مع الغرب في النقد الأدبي الحديث خاصة. وإن كانت الإشكاليات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية أشد خطورة وأعمق تأثيراً. واشتغاله في هذا الجانب المهم جعله يتتبع حركة النقد العربي من خلال تواصلها مع المناهج الغربية, وموقف النقاد العرب منها: تبنياً او رفضاً أو تأصيلاً. وقد مسح البحث فترة زمنية تبدأ بمرحلة التأسيس أو بدايات الاستقبال, وتنتهي بمرحلة التأصيل. وفي هذا المسار اكتفى ببعض المناهج الأكثر شهرة ك(الرومانسية) و(الواقعية) و(الشكلانية) و(البنيوية) و(التقويضية) مغفلاً الفلسفات التي تأسست في ظلها هذه المناهج وغيرها ك(الوجودية) و(المادية) و(التاريخانية) وما انبثق عنها من مناهج ونظريات نقدية عديدة. لقد اتيحت لي قراءة الكتاب مع طائفة من الزملاء, وكنت أكثرهم احتفاء به, واكثرهم تحفظاً على بعض رؤاه, ولقد أحسسنا معاً بتعالقه مع مشروع الدكتور (عبدالعزيز حموده) وهو تعالق لا يمت بصلة إلى التناص أو الاستلاب, بل أكاد أجزم أنه لم يرجع إلى أطروحات (حموده), ولكن الهم المشترك أوجد التجانس.
والدارس يفترض سؤالاً عن كيفية استقبال الآخر, ويتخذ موقفاً نقدياً محدداً ومبرراً من سائر النقاد, فمنهم المتخذ للمناهج الغربية على علاتها, نتيجة انبهار وتسليم كلي, ويصدق على هذه الفئة اتخاذ الغرب قبلة. ومنهم المؤصّل الذي يدعو إلى التمحيص والتصفية, بحيث يتفاعل ولا ينفعل, فيما أغفل المؤلف موقف المتلقي الثالث الرافض لكل ما يأتي من الغرب, وإن كانت له أصوله في التراث العربي, ومتضمناً في نظريات النقد الغربي الحديث. فالمناهج والنظريات لم تأت طفرة, وليس هناك أمة أحق بها من غيرها, لأن التفاعلات الحضارية وما صاحبها من صراع فكري وسياسي و(أيديولوجي) وثقافي أو مثاقفة لم تتم بمعزل عن الملابسات التاريخية.
والباحث يراوح بين اجراءات الاستقبال والمثقافة, فالاستقبال يعني خلو المتلقي من رصيد معرفي نقدي مواز لرصيد الآخر, وبالتالي يصبح تابعاً او مقلداً, في حين تعني (المثاقفة) موازنة الوافد على ضوء الموروث, وفتح حوار بين ندين متساويين فكراً وحضارة. وذلك ما يفقده المستغربون الذين يراهنون على جياد (الحداثة) و(الفرانكفونية) و(الاستغراب).
الباحث يرى أنه ليس هناك خصوصيات محضة في نشأة المناهج النقدية الغربية انطلاقاً من التفاعلات التاريخية بين الحضارات المتتالية, وما أفاده الغربيون من الحضارة العربية الاسلامية في الفلسفة والفكر العلمي، ولقد أومأ (العقاد) إلى ذلك في كتاب مقارن ألمح فيه إلى التعالق الفني ونقده.
والباحث ضرب مثلاً بمنهج الشك الديكارتي, وكيف ابتدعه (ديكارت), ثم طوره (هوسرل) في منهجه الظاهراتي, وهذا المنهج له جذور تاريخية في الدراسات العربية, يراها البعض عند (أبي حامد الغزالي) في عنصرين: عنصر اليقين في الثوابت, وعنصر الشك في المتغيرات. وقد نقله إلى أوروبا خلال القرن الثاني عشر المستشرق (أدلر أوف) بعنصر واحد هو عنصر الشك, بوصفه باحثاً غير ملتزم باليقينيات الدينية كما هو الشأن لدى المسلمين. ولما جاء (طه حسين) حاول تطبيقه في دراسته للشعر الجاهلي بعنصر واحد أيضاً, مغفلاً العنصر اليقيني في الثوابت القرآنية, ولم يراع سياقه وملابساته التاريخية, ومن هنا جاءت خطيئته القاصمة التي أدت إلى محاكمته وإدانته.
وتمتد رؤية الباحث إلى التيار الواقعي بوصفه أدباً, وهذا يحفز إلى استشعار واقعيات: فنية واشتراكية ومادية ووجودية... ولعل إغفال هذا التمييز هو ما حدا ببعض النقاد العرب مثل (محمد مندور) كي يجعل الواقعية مرادفة للأدب الملتزم أو الأدب المسؤول.
والدارس يرى أن البنيوية تفرعت من (الشكلانية) و(الواقعية), ولم يشر إلى دواعي ظهور (الشكلانية) وملابسات إعادتها إلى بيت الطاعة (الماركسية) تحت مفهوم (التكوينية). والباحث يعود محدداً عمومية الرؤية أو مناقضاً لها بالقول عن تلبسها بأحد التيارات أو طرق التفكير. و(التفرع) و(التلبس) متباينان. كنت أود لو أسس لبحثه بمقدمة عن الجذور الفلسفية للبنيوية بأبعد مما ذهب إليه (فؤاد زكريا), ثم هو يعدها منهجاً تحليلياً, وهي كذلك, ولكن التحليلية ليست من خصوصيتها, فالبنيوية صفة نص تستدعي آلية ومنهجية تفكك النص, وحتى كلمة (تفكيك) تكون إجراء, وتكون رؤية, وإشكالية المشتغلين عدم التمييز بين الرؤية والإجراء, وهذا ما أشار إليه الباحث, وهو يتحدث عن (التفكيكية), ولأهمية هذا الكتاب وحاجة المشهد إلى مثله فسوف تكون لي عودة تفصيلية لبعض وجوهه, وبخاصة عند حديثه عن (البنيوية التكوينية).

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:47 PM

إذا سَلِمْتَ..!
د. حسن بن فهد الهويمل


حمداً لله على ما أصاب.
وحمداً لله على ما أنعم.
ومثلما ألمنا للعارض، سعدنا بجلائه، وهكذا الدنيا فيوض من الأفراح والأتراح، وما كنا قادرين على احتمال أي حدث محزن، ولا سيما في ظروف تداعت فيها الأيدي الآثمة على مثمنات البلاد وأهلها، وإن كنا لا نقدر على رد القضاء، ولا نملك إلا الصبر والاحتساب وسؤال اللطف فيه. وكم تكون الشدائد خيِّرة معطاءة، لما تكشفه من معادن الرجال وقيم المجتمعات، ولما تعود به من فرج؛ إذ لا فرج إلا بعد شدة، ولن يغلب عسر يسرين، وما العارض الصحي الذي ألمَّ بالأمير العزيز (سلطان بن عبدالعزيز) إلا حلقة في سلسلة الابتلاء الذي يتعرض له الأفراد والجماعات والكيانات، وما هو إلا مجسٌّ تبدت فيه قيم نعرفها من قبل، ولكننا لم نكن نتصورها بهذا الحجم:
- تلاحم أسري.
- وتلاحم شعبي.
- وتقدير عالمي.
وبقدر ما أفزعنا الحدث، وتشعبت بنا قراءاته وتنبؤاته إلا أن فيوض المحبة أسعدتنا، كما سرتنا بوادر التظاهرة الإنسانية التي أحيط بها سموه من أشقائه وأبناء وطنه ورجالات العالم، وكل ما أفرزه العارض من اهتمام: محلي أو عربي أو إسلامي أو عالمي تحال قِيمه إلى الأمة التي أنجبت المحتفى به، وإلى الشعب الذي ينتمي إليه، وإلى السياسة المتوازنة التي تتصف بها مؤسسات البلاد، وهو رجل فاعل من خلالها، وما من أحد إلا ويتمنى أن يرى مكانته في النفوس، ويسمع شيوع ذكره الحسن على كل لسان. و(الذكر للإنسان عمر ثانِ). وما تَقاطُرُ الملوك والرؤساء وكبار الشخصيات على جناح سموه إلا تجسيدٌ عملي لمكانة البلاد ورجالاتها ووزنها الرزين في المحافل الدولية. وفي مثل هذه المظاهر تختلط مشاعر الزهو بمشاعر الخوف، حتى لا يكون بينهما برزخ فاصل.
ومثلما فزع (المتنبي) بآماله إلى الكذب من الخبر الذي طوى الجزيرة حتى بلغه فزعنا للأنباء المفاجئة عن الوضع الصحي لسموه الكريم، ولما لم يدع صدقه أملاً، عللنا أنفسنا بما صاحب ذلك من تدافع رجالات العالم للاطمئنان على صحته. وللعارض وتبعاته تداعياتهما وأثرهما في اضطراب المشاعر بين إشفاق واشتياق، غير أن ألسنتنا لم تتعثر في أفواهنا، كما تعثرت في فم المتنبي، بل أكثرنا من الحمد والشكر والدعاء أن يذهب بأس سموه، وأن ينعم عليه بالشفاء العاجل. ولا شك أن المحبين لسمو الأمير، العارفين بأفضاله، لا يحتملون ما تعرض له من وضع صحي أطال غيبته عن كافة المشاهد التي هي أحوج ما تكون إلى مثله، وليست لأحد القدرة على رد ما أراد الله، ومع كل ذلك يبتهج المحبون لسموه بهذا الاحتفاء المنقطع النظير، والتظاهرة التي قادها الأمير الإنسان (عبدالله بن عبدالعزيز) بزياراته المتكررة، بددت الخوف، وقوَّت العزمات، وخففت الآلام.
وتعرض سموه لهذه الوعكة، وما استدعته من تدخل جراحي في ظروف ضاغطة: محلياً وعربياً وعالمياً، وما تطلبته من فترة للنقاهة امتدت كأطول ما يكون الامتداد، وهي مدة أثارت الكثير من المواقف والتوقعات والهواجس، فما كان هناك متسع من الجهد، ولا فائض من الطاقة لاحتمال مزيد من المفاجآت غير السارة، وما كان من إجراء عملية جراحية ناجحة لسموه أدخل المهتمين بالشأن المحلي في دوامة من التساؤل والترقب، فما كان من السهل احتمال مثل هذا النبأ في ظل هذه الظروف العصيبة التي تجتاح العالم بأسره، وينفذ إلينا دخنها معكراً صفو أمننا واستقرارنا وسائر شؤوننا، ورجل مثل النائب الثاني لا يمكن الاستغناء عن مثله في ظل هذه الأوضاع المستحكمة.
فتعرض مسؤول بحجم سموه لحالة مرضية قد تبطئ بعودته إلى وضعه الطبيعي ومواصلة أدائه إلى جانب أشقائه ومواطنيه، والغياب الاضطراري سيترك أثراً في نفوس عارفيه ومحبيه، وسموه الذي شهد ما يكنه الناس له سيكون أرفع معنوية، وأقدر على مواجهة العارض وتحمل عقابيله، والمهتمون بوضعه الصحي تغمرهم السعادة من خلال التطمينات التي بثتها المؤسسة الصحية، وبعد أن تشرف بالسلام على خادم الحرمين وولي عهده الأمين تمهيداً لعودته إلى قواعده سالماً معافًى.
وانعكاسات الحدث وأثره على نفوس المواطنين عبرت عنه الزيارات المتكررة لسمو ولي العهد يوم أن كان طريح الفراش، ومن المبشرات أن الله لن يتر المؤمن الذي عرفه في الرخاء عمله، وأمر المؤمن كله عجب، فإذا أقعده المرض عن فعل الخير، كتب له ما كان يعمل من قبل، وإذا شِيك كتب له أجر ما يناله من ألم، وكل مسلم مرتهن بمرض أو أي عارض تمضي صدقاته الجارية في تعويض ما فات، وتمضي نيته الصالحة في كسب الخير، ولا شك أن وقع الحدث أشد أثراً على آلاف المستفيدين من فيوض إحسانه، من فقراء ومساكين وغارمين وأرامل وأيتام ومرضى، فوجئوا بهذا العارض على غير توقع، وكل مَن قيدهم إحسانه: (ومَن وجد الإحسان قيداً تقيَّدَا) يمطرونه بدعائهم الصادق، سائلين الله أن يذهب عن سموه البأس، وأن يكتب له الأجر والعافية، وأن يسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة؛ ليستأنف سعيه في دروب الخير والعطاء، ويستأنف عمله في تصريف شؤون أمته عضداً قوياً وأميناً لأخويه اللذين شملاه بالعطف والرعاية وكل الذين يحملون همَّ أمتهم ويعرفون أوضاع المعوزين يشاطرون المشمولين بأفضاله فرحتهم.
وكم نحن متفائلون وواثقون ببشارة الصادق الأمين: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء).
والصدقات والأقدار تصطرع بين السماء والأرض، والصدقة تطفئ غضب الرب، وهي برهان على صدق الإيمان، وما من ساعٍ في حاجات الناس إلا وله مَن يسعى في حاجته، وكم هو الفرق بين سعي الله وسعي المخلوق، وعلى الذين أنعم الله عليهم من أهل الدثور والوجاهة أن يقتدوا، وأن يكبحوا جماح النفس الأمَّارة، وأن يبادروا بالإنفاق من مال الله الذي آتاهم، وأن يبذلوا ما أنعم الله به عليهم من الوجاهة، لتسهيل مهمات ذوي الحاجات. والمؤمن المفعم بحب عباد الله، العامر القلب بفضائل الأخلاق، يحبه الناس، وهذا الحب العفوي يحفزهم على الدعاء له بظهر الغيب ممن يعرفه وممن لا يعرفه، وممن شمله بإحسانه وممن سمع عن كرمه وإحسانه، وأبواب الله مفتوحة، وقد وعد بالاستجابة وطمأن بالقرب، وكم من رجل لا يُؤبه له لو أقسم على الله لأبره، والله عند وعده، ومَن أوفى بعهده من الله، ولقد قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
وما من مسلم سعى الأمير في حاجته إلا ويلهج بالثناء والدعاء، وكل مسلم عامر القلب بحب الخير لعباد الله مستغنٍ بما أنعم الله به عليه عما سواه يحب مَن أحب العباد، ومن ثَمَّ يكون الدعاء من أسير الإحسان ومن حبه للآخرين، وإجماع الناس على الحب والثناء يوجب القبول، وفي الحديث قصة الميتين اللذين مرت جنازتاهما على الناس، فأثنوا على واحدة، وذموا الأخرى، فما زاد الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله: (وجبت، فالناس شهود الله في أرضه). وقوله تعليم واستنهاض.
والسعيد السعيد مَن سلم الناس من لسانه ويده، فكيف إذا طال الناس الإحسان من يده، والكلم الطيب من لسانه، وفاق برأيه وحكمته ومحتده وطلاقة وجهه. وتلك التظاهرة الاحتفائية تذكرة لمَن قعد بهم التسويف ممن أفاء الله عليهم بالمال أو بالجاه أو بالعلم أو بالمسؤولية، أو بهم جميعاً أو ببعضهم، وما أكثر ما يحول الشيطان بيننا وبين فضائل الأعمال، وكم يَعِدُنا بالفقر، ولو عرف المسوِّفون أنهم سيأتون الله فرادى تاركين ما خوَّلهم وراء ظهورهم لكان أن هانت عليهم نفوسهم ووجاهاتهم وأموالهم ثم تسلطوا عليها ينفقونها لإقالة العثرات وسد الفاقات.
لقد حرصت ألا تفوت مثل هذه الفرصة دون موعظة وتذكير، فلسنا مادحين، وليس سموه متطلعاً إلى المدح، ولكنها المناسبات السعيدة تحمل على الحمد والشكر والدعاء.
وهذه الوعكة التي ألمت بسموه ثم أنعم الله عليه بالصحة والعافية وأعاده إلى حيث كان ساعياً في حاجات الناس وحاجات وطنه، استدعت ما كنا نحفظه من عيون التراث العربي، وليس بدعاً أن تتداعى المتشابهات، وليس أقرب إلى الذاكرة من تلك الرائعة التي قالها أبو الطيب المتنبي بعدما عُوفي مثله الأعلى (سيف الدولة):




المجد عُوفي إذ عُوفيت والكرمُ
وزال عنك إلى أعدائك الألمُ
صحَّت بصحتك الغارات وابتهجت
بها المكارم وانهلَّت بها الدِّيَمُ
وما أخصُّك في برء بتهنئة
إذا سَلِمْتَ فكل الناس قد سلموا


فالمتنبي استدعى مكارم الأخلاق وخصال البطولة والإقدام وسداد الرأي، ومَن لم يكن ذا يسار وجاهٍ فقد وجَّهه المتنبي الوجهة السليمة:



(لا خيل عندك تهديها ولا مالُ
فليسعد النطق إن لم تسعد الحالُ)


لقد كنا في (جدة) يوم أن كان سموه على السرير الأبيض يتلقى فيوض المهنئين، وكان مرتَّباً لوفد (جامعة القصيم) أن يلتقي بولي العهد وسموه وسمو وزير الداخلية غير أن فترة النقاهة حالت دون ذلك، ولما يزل محبوه في (القصيم) يترقبون ما عوَّدهم عليه من زيارة سنوية أخوية، يطلع فيها على أحوالهم، ويلبي مطالبهم، ويزور أعيانهم.
اللهم أنزل لنا القبول في الأرض، واستعملنا في طاعتك، وشدَّ أزرنا لنسعى في حاجات عبادك، وجنِّب بلادنا وقادتنا وكل مخلص لدينه ووطنه غوائل الدهر وفجاءات النِّقم، فأنت وحدك مجيب المضطر إذا دعاه، وأنت وحدك كاشف السوء.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:48 PM

جدلية الخفاء والتجلي في المنهج! (1ـ 2)
د. حسن بن فهد الهويمل


لا مراء في أن مستويات القراءة وأهدافها وخلفيات القراء: المعرفية والفكرية تستدعي مصطلحات ومفاهيم كثيرة، ولست بصدد إنكار دعوى وجود المضمرات في المناهج، ولست معنياً بالتزكية ولا بالإدانة، وكل همي منصب على أخطاء التوقيت والتقدير وإمكانيات المبادرين للحديث عن (الخفاء) و(التجلي) ومشروعية التناول ووثوقية الدليل. ويقيني أن مشاهد الأمة العربية: الفكرية والسياسية والأدبية متخمة بالكلام وحسب. وكأن قضاءها وقدرها أن تظل مرتهنة خارج دائرة الفعل، لا يملك أبناؤها إلا القول المحتدم والتلاسن السالق. وشاهدنا تتابع المصطلحات في مختلف القضايا: الإنسانية واللسانية، والخروج منها إلى غيرها بأقل النتائج وأفدح الخسائر. نستعذب سك المصطلحات: الفكرية والسياسية والأدبية متى تقطعت بنا أسباب الاختلاف، ومع كل موجة منها يقوم رهان التفوق ونهاية التاريخ. فإذا بلغ السيل الزبى نبذت كما سقط المتاع، لتَلقِّي مسكوكات جديدة، وكأننا الأعرابي الذي يعبد (العجْوة)، حتى إذا جاع أكلها، وما أكثر ما تسك في الشرق أو في الغرب مصطلحات نكرات فنلتقطها لتكون لنا عدواً وحزناً.
ولو عدنا إلى بدايات النهضة الحديثة لوجدناها مُلئت بالمصطلحات ذات الوزن الثقيل ك(الخلافة) و(الدستور) و(القومية) و(القطرية) و(الأممية). ولو تقصى المتابعون الإبداعات الشعرية التي صدح بها شاعر واحد مثل (جميل صدقي الزهاوي) في أعقاب مخاضات (الدستور العثماني) لأدركوا أنهم ليسوا وحدهم ضحايا التغرير والإغراء، ومع اختلاط الخطابات فإنه غير مجدٍ في راهننا أن ننحي باللائمة على طائفة بعينها، ولا أن نستبعد التآمر والمواطأة، لنظل مرتعاً خصباً للمتماكرين.
والمتابع لمخاضات المشاهد ومبتسراتها، يقف على متلاسنين (ألج من الخنفساء)، وعلى مصطلحات يباب، استنزفت كل الجهود، وعلى أخرى جوف تجاوزها المتجادلون، بعد أن فاض معينهم بالضغائن والأحقاد. فأي مصطلح سياسي أو فكري أو أدبي نفض المعنيون أيديهم منه، بعد ما توصلوا فيه إلى قناعة جماعية؟ وهل سجل التاريخ الحديث قضية واحدة سلَّم لها الجميع، وابتدروها بالفعل بعد القول؟ وهل سجل مصطلحاً واحداً سكه الغرب، ثم رده الشرق على أعقابه، دون أن يفعل فعله في تفريق الكلمة، وتشتيت الفكر، وإهدار الجهود؟. وأي موقف مشرِّف تبدت من خلاله وحدة الصف أو الهدف، وحُمِل إلى المحافل الدولية كإرادة عربية واحدة؟ وأي تجربة سياسية أو فكرية و أدبية ترقَّت بفعلنا إلى سدة الندية؟ إن هي إلا فتنة المصطلحات الثاوية كأعجاز نخل خاوية.
لقد شغل مصطلح (الخلافة) أساطين الفكر، وأحدث تصدعات لمَّا نزل نتجرع غصصها، وتمخض الجدل الذي أحكم المغرضون صنعه عن مصطلحات أخرى أشد عنفاً وأعنف قيلا ك(الحاكمية) و(العلمانية) و(الديمقراطية) والدولة: (الدينية) و(المدنية). وتشكلت منظمات وأحزاب وجماعات وإخوان، لكل واحدة منها خطابها الجامع المانع، الذي لا يزيغ عنه إلا هالك، ونهض علماء وساسة ومفكرون، كتبوا وحاضروا وألَّفوا عن مفهوم (الخلافة الإسلامية) وتبعاتها: كالبيعة والاستخلاف والشورى والاختيار والانتخاب، ومصدر الحكم بين النص والشعب، وأهل الحل والعقد، وإمكانيات (الفكر السياسي الإسلامي) ومدى أهليته لطرح مشروع سياسي مستوعب للمستجدات: الدستورية والتشريعية والتنفيذية والرقابية، وما يلحق بذلك من مجالس متعددة المهمات والصلاحيات. وكتاب (الإسلام وأصول الحكم) ل(علي عبدالرزاق ت1386ه) وما أحدثه من تصدعات وخلافات أنموذج لإشكاليات سك المصطلحات، ودعك من (قضايا المرأة) و(قاسمها)، ومخلفات (الحرب الباردة) و(هيكلها)، و(الحداثوية) و(أدونيسها) و(البنيوية) و(سوسيرها) والتعالق المقوي مع المستجدات في مشاهد العلوم الإنسانية كافة. ومن ذا الذي لا يمسك على هون وثائق التبعية البائسة أو يدسها في التراب ليتخلص من عار الانهزام وقابلية الاستعمار، وفي القوم من يتشفى بجلد الذات وتمجيد المستعبد وشرعنة مقترفاته.
ولمَّا نكد نفرغ من الشقاق حول (العولمة) و(النظام العالمي الجديد) ومشاريع (القطب الواحد) ك(الشرق الكبير) و(الإرهاب) حتى بدهتنا مصطلحات جديدة تتعدد مفاهيمها بتعدد المتلقين لها. وها نحن بعد هذا التطواف الممل، نتلقى مصطلحاً قديم الإطلاق جديد الإنزال على الوقوعات العارضة، مؤاده أن هناك منهجاً معلناً، يتداوله العلماء والمعلمون، والأدباء والمفكرون، والساسة والدعاة، وآخر خفياً لا يعرفه إلا العالمون ببواطن الأمور. وأن هذا الخفاء ينطوي على مناقضة لرديفه الجلي. والمصلطح قائم منذ أن عُرف (التلقي) و(التأويل)، ولكنه نائم كما الفتن، مثلما كانت (الخلافة) قائمة من قبل، حتى أيقظها (علي عبدالرزاق). وإيقاظ المصطلحات في ظروف غير مواتية كإيقاظ الفتن. وأخوف ما أخاف تصعيد الخلاف وتنويع مواقعه، وقد يأذن المتجادلون بإعادة التاريخ، وما يحمله من تنظيمات سرية وحركات باطنية، وما تداولته العصور الخوالي من مصطلحات (التغنص) و(الردة) و(الزندقة) وما تمخضت عنه من طوائف وأحزاب ومذاهب في الفروع والأصول، كالخوارج والمرجئة والمعتزلة والزيدية والشيعة والسنة وسائر الطوائف ذات البعد السياسي، إذ لكل نحلة منهجها الجلي والخفي. ومتى اجترح المتجادلون افتراض المنهج الخفي وحمَّلوه أوزاراً مفترضة وأحيل إلى فئة مفترضة أيضاً، دخلت الأمة في تنازع هي في غنى عنه. وإذ عشنا مرارات المساءلة الجائرة للمناهج وللدعوة السلفية وللجمعيات الخيرية وللمراكز الصيفية فإننا سنجد من يتلقف الراية ممن لا يريد للقطا أن ينام، ليزيد قوائم الاتهام، ولو عرف المستدعون لمثل هذه المصطلحات - ممن لا نتهم إخلاصهم ولكننا لا نثق بقدراتهم - أن هناك متربصين، لما كانت لهم رغبة في أن تتكسر النصال على النصال على جسم الأمة، ولا أن يخلص إليها الاتهام وعندها كل اتهام على حد:




(أبنت الدهر عندي كل بنت
فكيف خلصت أنت من الزحام)


لقد أشفقت على الذين استدعوا هذا المصطلح دون تحرير معرفي، ودون رصد تاريخي، ودون استصحاب للمحاذير، ودون استكمال للمادة والآلة، وأشفقت على الذين باركوه، وشمروا عن سواعدهم للخوض في لججه، دون حساب للعواقب، ودون تخوف من السماعين والمتربصين، وأشفقت على قوم آخرين من قبلهم طرحوا مصطلح (التنوير) وجروا قدم أعرق الجامعات، لتكون غرضاً للمساءلة. وأشفقت على الأمة المدانة من لغط أبنائها، وأشفقت من القبول بمصطلح (التنوير) بكل ظروفه وملابساته (الأوربية) في القرون الوسطى، وكأن الأمة تعيش ظلامها وطغيان كنائسها. وكأن الأخذ بأسباب الحضارة والتجديد والتطوير يعني الخروج من سراديب الظلام وكهوف التخلف إلى نور الحضارات. إن التسابق إلى نبش جثامين المصطلحات وإنزالها على واقع مغاير ومسيرة مختلفة يعني إثارة الرأي العام، وتحفيزه للتساؤل والتحفظ والاتهام، وما كان إشفاقي على المستدعين والمستقبلين إلا لأنهم كالمريب الذي يقول خذوني. والإشفاق لا يعني الاتهام ولا سوء الظن. وكيف يكون من مثلي الاتهام، وما شققت عن صدر أحد، وما كنت لدى المشتغلين وهم يختصمون حول الخفاء والتنوير. غير أني أتوقع جانباً من المآلات متبديةً من لحن القول ومن المؤشرات، فما عاد خافياً ما يتخلق به البعض من اهتياج أعزل، وما يتعمده آخرون من فلتات ألْسِنةٍ غير محسوبة.
والخطأ في الاستدعاء أو الخطأ في التناول أو الخطأ في التوقيت لا يمس الأمانة، ولا يسيء الظن، ولكنه يقدح في الأهلية، ومن اشتغل في شؤوننا الحساسة فليرحب صدره للمساءلة. ومن ضاق ذرعاً، فليلزم بيته، وليطوي كشحه. والصدق والإخلاص والنصح غير كافية لشرعنة سك المصطلحات أو استدعائها. وواجب من يحملون هم قضاياهم ارتياد الخصب وتحري الأمان:



(ومن رعى غنماً في أرضِ مَسْبَعةٍ
ونام عنها تولى رَعْيها الأسَدُ)


وعلى المتقحم لهذه المضائق أن يعرف حال أمته المنهكة، وقدر نفسه المتواضع، وإمكانياته المعرفية المغايرة، وخبرته التجريبية الناقصة، ومن استمرأ السباحة ضد التيار فعليه أن يتأكد من لياقته وقدرته. ولأن مصطلحي (الخفاء) و(التنوير) عائمان، فإنهما بحاجة إلى تحديد المكونات والمفاهيم والمقتضيات والدواعي والمآلات. وفي مثل هذه الظروف لا تنفع الإنشائيات، ولا العاطفيات، ولا تبادل الاتهامات، ولا تهويل الوقوعات، ولا اجترار المقولات.وكل مسكون بالهم الفكري أو السياسي أو الأدبي يعيش حالة من الارتياب والشك، فبوادر الأمور لا تبشر بخير، وتتابع الإخفاقات لا تدع مجالاً للتفاؤل. وافتراء الكذب على مناهج التعليم، والحركة الإصلاحية، والجامعات، والجمعيات، والمراكز، لا يجوز تعزيزها من الداخل، وبخاصة حين تكون البلاد مشروعاً للإملاءات والتساؤلات. وكم تُجرُّ قدم المسكون بالهم من حيث لا يريد، ليقول في النوازل والقضايا والظواهر رأياً فطيراً، لا يزيد الأمور إلا تعقيداً واستحالة. وقد تتشابه الأمور على المتثبت فيقع في المحذور. وكم من مخلص تكشفت أمامه اللعب، فتمنى أنه لم يقل كلمة، ولم تخط يمينه سطراً. فأين الذين قالوا عن (الجهاد الأفغاني)؟ وأين الذين مجدوا (بطل البوابة الشرقية)؟ ألم يكن البْعض منهم صادقاً مخلصاً ناصحاً.
وأحسبني معذوراً حين أكون في ريب مما يقال وما يفعل على مختلف المستويات، ومن كل الفئات: محلياً وعربياً. وحين أكون (ديكارتياً) في شكه فليس ذلك لأن فلاناً من الناس ابتدر هذا المصطلح أو ذاك، ولكن لأن الوسط قابل للارتياب، ومن حق متابع مثلي أن يشك في نفسه، وقد فعلها (عمر) حين سأل (حذيفة): أعدّني رسول الله من المنافقين. ذلك أني خبرت المذاهب والأحزاب والتيارات والقضايا، واشمأزت نفسي من تجشؤات الفارغين وتشبع المتذيلين لنفايات الحضارة المادية، وفزعت من تدنيس المقدس والتطاول على الذات الإلاهية ونسف الثوابت، وتجرعت مرارات الخداع، واكتويت باللعب الكونية التي قلبت الأوضاع، وأضاعت المصالح، وأذلت الأمم، وقلت فيها ما أعتقد، أحسنت الظن في بعضها فعاضدت، وأسأته في البعض الآخر فخذلت، والتبست عليَّ الأمور في أخرى فتوقفت. وما ابرئ نفسي من اندفاعات غير محسوبة، أو من تردد لا مبرر له. والاعتراف بالخطأ فضيلة، والرجوع إلى الحق أفضل، ومحاسبة النفس قبل أن تحاسب من الكياسة. ولو أن المشتغلين بالشأن العام حين تبين لهم الحق أسرعوا العودة إليه، ولم يتهيبوا من الاعتراف بالخطأ، لكان أن صفَّت الأمة حساباتها أولاً بأول. غير أن الأخسرين أعمالاً يصرون على الحنث الصغير والكبير. والمتابعون لمذكرات الساسة وقاهري الشعوب من بعد ما نجوا بجلودهم من غضبها، يعرفون الجرائم المرتكبة، ولكنهم لا يعرفون المجرمين، فكل قادر على الكلام ينحي باللائمة على شركائه الهالكين أو المرتهنين وراء القضبان. والطيبون يصدّقون ما يقال، ويقبلون بتلميع الوجوه المشوهة، وإبراء النفوس الظالمة، والمنصفون من يقولون كلمة الحق، ويعترفون بمقترفاتهم وجناياتهم على أمتهم، ويطلبون منها العفو والتسامح، ليكونوا كالذين تابوا من قبل أن تقدر عليهم الشعوب. وهل أحد ينكر زمن التيه، وفي القوم من يتطوع للدفاع عن (صدام حسين)، وفيهم من يبرر المقترفات الغربية، والقتلى المدنيون الأبرياء نيفوا على ثلاثة عشر ألف عراقي، وانتهاكات حقوق الإنسان تتصدع لها صم الجنادل، و(إسرائيل) تفتك بالإنسان الفلسطيني، ثم لا تجد من ينكر المنكر باليد ولا باللسان ولا بالقلب، وذلك أضعف الإيمان. بل نسمع ونرى من يشدو متغزلاً بشمطاء قبحت مخبراً ومنظراً وعاتية أفسد الظلم نضارتها.
إن الجنايات المتنامية فوق الساحة العربية ليست مقترفات ساسة وحسب، إنها جنايات علماء ومفكرين وعسكريين وحزبيين وطائفيين وأدباء ومبدعين. وما فتئت الأمة واهنة حزينة تحت وابل الكلمات الرنانة، حتى لقد نُبزت بأنها (ظاهرة صوتية). وهل أحد ينكر مقترفات أرباب الكلمة؟ إن الأمة العربية تتجرع مرارات من كل جانب، ومن تصور الأزمة بأنها (أزمة حكام) فقد اختصر المذنبين. إنها أزمة شعوب وعلماء وأدباء ومفكرين وحزبيين وطائفيين، وأزمة تسلط القوي على الضعيف، وكف يده وتفكيره عن التصرف السليم. أزمة شائعة في كل الأوساط ومن كل الأوساط، ولابد - والحالة تلك - أن يدع حملة الأقلام نبش العفن، وأن يكفوا عن الاشتغال بالفرضيات، تمهيداً لالتقاء الأطياف على كلمة سواء، والانطلاق إلى الثغور المكشوفة لوقف الاختراقات، فما عادت الأمة بوضعها المتردي قادرة على تحمل مزيد من التنازع والشقاق وإيقاظ الخلايا النائمة، وسك المصطلحات الأكثر التياثاً ومراوغة. فحاجة الأمة عودة نصوح، تمكن أبناءها من معرفة قدرها وإمكانياتها ومتطلبات مرحلتها. ولن يتأتى ذلك إلا بالبحث عن الحق المجرد، واستبعاد البحث عن براءة الذات، وإدانة الآخر، وإدامة التنازع. وما أحوجنا إلى تغليب الإيثار على الأثرة، والتفسح في منصات القول، وتفادي المصادرة والنفي والتهميش والإلغاء وواحدية الخطاب، وبرهان ذلك كله المشاركة الإيجابية، وصرف النظر عن قيل وقال، وكثرة ترديد الشائعات، وتحويل الوقوعات الجزئية إلى نظريات و(أيديولوجيات)، فالأمة لقيت في مسيرتها النصب والتعب وذهاب الريح، ولم تعد قادرة على تحمل مزيد من النكسات الموجعة، ولن يتحقق النصر إلا بأن نفيء إلى أمر الله، ونلزم الجماعة، ونعود إلى نصاعة النص المغيب. لقد حيل بين الأمة ومرجعيتها النَّصِّية البيضاء، واشتغل المفكرون والمنظرون ب(النص الرديف) الذي أنتجه قراء متفاوتون: زماناً ومكاناً وإمكانيات ل(النص الأصل) في ظروف تختلف عن ظروفنا. إن خطاب القوة يختلف عن خطاب الضعف، وزمن الثورات العلمية يختلف عن زمن المعارف النظرية، والقرية الكونية تختلف عن الإقليمية المغلقة والقلاع والمدن المسورة.ومع كل هذه التحولات فالأمة العربية أمة مسلمة، ولن يتحقق لها النصر إلا بالإسلام، إسلام التمثل لا إسلام الهوية والادعاء، الإسلام الذي لا تمليه طائفة، ولا يستغله مذهب، ولا تحتكره إقليمية ولا قبلية. الإسلام دين عالمي إنساني علمي حضاري مدني، ومن أراده على غير ذلك فقد أساء له ولأمته. ولو أن الأشتات المتفرقين عرفوا ذلك، وأخذوه من مصادره ومن جيله الأول، لما اختلفوا، ولما تناحروا. وإذا كنا نقدر الأنساق الثقافية وآليات التأويل ومناهج التفكير والتلقي فإننا لا نريد لهذه التعددية أن تصل بنفسها إلى حد القطيعة والتنابز وتبادل الاتهامات. نعم نقبل بالتعددية وبالتعايش والتعاذر، ونقبل بالخطابات المتباينة، ولكننا لا نرضى بالانقطاع، ولا نقبل بالتحريف، نريدها حرية منضبطة ووسطية ممتثلة على حد (واستقم كما أمرت).

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:49 PM

جدلية الخفاء والتجلي في المنهج..! «2-2»
د. حسن بن فهد الهويمل


و (التلقي) و (التأويل) نظريتان أوْلاهما علم اللغة الحديث كل الأهمية، وعول عليهما في تجسيد الرؤى والتصورات وافتراض (التجلي) و (الخفاء) ، وألحق بهما (علم الدلالة) ، و (الأنساق) و (السياقات) فكان أن أصبح النص محكوماً في دلالته بما هو خارج البنية اللغوية. ولما ذر قرن (التقويضية) كادت اللغة الماثلة للعيان تفقد مهمتها، لتحل محلها لغة مفترضة وغير محكومة الاستدعاء، وأصبحت مجرد هيكل لا يلوي على كل شيء. وكل مصطلح يبعد النجعة، حتى لا يكون للكلام المقروء أو المسموع دور رئيس في تجسيد الدلالة. و(الباطنيون) في قضية (الظاهر والباطن) سلف سيئ لمن خلف. و(الظاهريون) ردة فعل للتعليل والقياس، واضمحلال الحضارات من الأفعال وردودها ومن الاسترفاد وتهيب المبادرة والصراع حول بضاعة الغير بين متهافت بائس ومتمتع كالعائل المستكبر.
ومصطلحات علم اللغة الحديث ومتعلقاته الإبداعية والقرآنية وتداول المركزية بين (النص) و (المؤلف) و (القارئ) أسهمت في تشكل (المنهج الخفي) الذي استدعي بطريقة بدائية وتصور ساذج، ليكون ك (الثور) يضرب لما عافت البقر. على أن الذين استدعوه وتظاهروا حوله لم يدر بخلدهم إلا الوقوعات. وأخطاء التطبيق لا تنتج نظرية ولا تدين مبدأ، والوقوعات الاحتمالية لا ترقى بالقول إلى سدة التنظير. ولكيلا يقع المنظرون في متاهات القراءات فإنه من الممكن أن توضع ضوابط ل (التأويل) وقواعد ل (التلقي) بحيث يكون (المنهج الخفي) عند استدعائه حقاً مشروعاً تنتجه إمكانيات استثنائية، وتجسده رؤى وتصورات واعية، وحينئذ لا يكون استدعاؤه للمساءلة للإدانة. ولن يكون الاستدعاء مأمون العواقب حتى يقتصر التداول على المتضلعين من نظريتي (التلقي) و (التأويل) من الجهابذة الذين يأتون البيوت المعرفية من أبوابها. وقد فعلها سلفنا الصالح، بحيث جعلوا لكل مذهب قواعده وأصوله وآليات استنباطه وخطة مساره، وتراتب علمائه، وسقف اختلافه. حتى لقد عرف المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد، وعرفت أسباب الاجتهاد وشرعيته ومحله وأقسامه وطرقه وشروطه: الذاتية والعلمية، ووسائله: النصية والتعليلية. وما عهدنا أحداً من العلماء المؤصلين عني بالوقوعات العارضة إلا للافتاء، وما كان أحد منهم متخذاً السقطات محفزة لسك المصطلحات، ولو أن كل جنحة أقيمت عليها رؤية، وسك لها مصطلح، لملئت المدارج بالحرس الشديد والشهب.
ومتى حددت القواعد والأصول، أمكنت مواجهة المرجعيات الدينية النصية، ولن يكون هناك -والحالة تلك- قطيعة بين فرضية المنهج الخفي والجلي. ومن خلال متابعة المتداول من القول حول المنهجين تبين لي أن المقاربة بدائية وغير حصيفة، لاعتمادها على المرافعة ضد غائب، واعتماد مصدريتها على قيل وقال. وليست إشكاليتنا الفكرية ناتج همِّ الأسلمة، وكيف نتصور ذلك وهي مقتضى السياسة التعليمية، وليست إشكاليات المنطقة العربية ناتج تعليمها، بحيث نتصور أن خطاباً محلياً خافتاً كان بمقدوره أن يربك العالم ويغزوه في عقر داره. وهل ما يمر به العالم من رعب يعد ناتج انحراف معلم أو واعظ أو مركز صيفي أو جامعة تخلت عن رسالتها التنويرية؟ إن ربط مشاكل العالم بهذه الممارسة المحلية يعني استعدادنا لمواجهة العالم بأسره، وتعزيز ادعاءاته بأن بلادنا مصدر العنف، وعلى البراغشيين أن يعللوا لنا وحشية اليهود وغطرسة الأمريكان وهمجية القتل في الجزائر والحروب الأهلية الشرسة في بقاع كثيرة من العالم.
والتحفظ على الفرضيات مرده إلى هم المفترض ومراميه، فالأوضاع الاستثنائية تنفرد بأحكامها ومحظوراتها ومباحاتها، ولهذا عرفت (حالة الطوارئ) . فما يقبل في ظل ظروف عادية ليس حتماً أن يقبل فيما سواها. وإذا اختلفنا فيجب ألا نقع في مأزق تبادل الاتهامات، وفرض وجهات النظر، وتحميل الآخر ما لا يحتمل، وتقويله ما لم يقل. التعاذر والتعايش هما السبيل الوحيد لاجتياز المنعطف الخطير.
وإذا صنع الغرب أعداءه بغطرسته، ولم يستطع تفكيك لعبه ف (يداه أوكتا وفوه نفخ) ، ولسنا ملزمين باجترار أطروحاته وتصديق تخرصاته، ولا معذرين لمقترفاته. وليس من مصلحتنا استعادة ما تراكم من مخلفات الجدل العقيم في زمن الاسترخاء والنزف المعرفي وأجواء الثقة. وليس من المناسب أن نطرح أنفسنا بوصفنا طرفاً في قضايا العصر، ورؤوس الفتنة: (بوش) و (بلير) يصطرخان تحت أسواط الرأي العام، وقد تدركهما حرفة الكذب، كما أدركت (رتشارد نكسون) خطيئة (ووتر جيت) رغم مبادراته المتميزة. وحين يرهبنا ويرعبنا ما يحصل في بلادنا فيجب ألا يكون حملة الأقلام في معالجة الأحداث ك (سعد) في إيراده لإبله، ولا كمن أراد أن يعرب فأعجم. وإذا شُرع القول أو الفعل المغاير للسائد والمألوف في ظل ظروف قائمة فإن تبدل الأحوال وقيام الحاجة إلى قول أو فعل مغاير لا يقتضي استدعاء القول السالف وفعله للمساءلة، إن لكل ظرف خطابه وفعله، والسياسة (فن الممكن) ومن حق الرأي العام ألا تلغى ذاكرته، وألا تستفز عواطفه، بحيث يتحول الفعل المشروع في زمن إلى مقترف في زمن لاحق. ولعل من الطرائف المضحكة، وشر البلية ما يضحك، أن تكون من قائمة الاتهامات الموجهة ل (صدام حسين) حربه مع إيران، وهي الحرب التي منحها العالم كله الشرعية وأيدها ودعمها، وما كان فيها (صدام حسين) إلا لاعباً غبياً. وكم يكون الإنسان مكرهاً لا بطلاً، وكم يكون خياره محصوراً بين ضررين فلا يجد بداً من ارتكاب أهونهما. ومكمن الخطورة في سك المصطلحات لتكون وثائق مزورة بيد من لا يرقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ومشاهدنا العربية بليت بمن يأتي الغرب من أهله بنبأ غير يقين. والغلاة المتطرفون والمداهنون المتحللون وجهان لعملة واحدة يقتسمان الخطايا.
وخلاصة القول: إن المجتمع بكل أطيافه يتحمل شطراً مما حصل فيما تتحمل فلول اللعب الكبرى الأشطر الباقية، وعلينا أن نرسم طريق الخلاص، لا أن نمعن في التخلص، وإن علينا أن نرصد لاتجاه الريح، لنقوض أشرعتنا، ونحتضن مجاديفنا فالريح وحدها كفيلة بدفع السفينة، وإذا تفجرت بالراجلين ألغامهم التي زرعوها بأيديهم، فليس من الحكمة أن تدفع مؤسساتنا الثمن، ولا أن نقبل بالاتهام. وإذا كنا بما وهبنا الله مواسين وآسين ومتوجعين فليس من البر احتمال خطيئات الآخرين. كل الأوضاع الشاذة في الوطن العربي بقايا لعب كونية، ومن كثرت مسابيره ومجساته تكشفت له الأوضاع على حقيقتها. لقد كانت لي متابعات وإلمامات ومشاركات في مؤتمرات وحوارات داخل البلاد وخارجها، وتبدى لي أن كل ناهض بمهمته يدعي أنه رب الوسطية وصاحب الحق والشرعية، وأن للغلو والتطرف والتنطع أرباباً يحمونها ويؤزونها، وأن قوله صدق لا يحتمل الخطأ، وقول غيره خطأ لا يحتمل الصدق، وهذا التوهم يحمله على الشطط والانفعال وتصور نفسه منقذاً يمارس الإنذار، ولا يميل إلى الحوار، ويتعمد النقد، ولا يتخذ سبيل التساؤل والاستبانة. وكل منظر لا ينبس ببنت شفة، حتى يفترض ملائكيته وشيطنة ما سواه، وذلك لعمر الله بيت الداء ومكمن الإشكالية، وما رأس الدواء إلا البصر والبصيرة وتعزيز النفس اللوّامة وتخذيل الأمّارة، وحمل المخالف على خطأ التصور أو نقص المعارف.
وإشكالية (الوسطية) التي يدعي وصلها كل متحدث تزداد تعقيداً كلما أمعنا في التعويل عليها، دون تصور دقيق لحدودها ومقتضياتها. فالذي يتخذ من الوقوعات العارضة (أيديولوجية) لا يعد وسطياً، والذي يجمع كل الخطايا في سلة الخفاء ليس وسطياً، والحدِّي المحتدّ ليس وسطياً، والمتحلل من كل ضابط المميع للدين ليس وسطياً، وتلك الرؤى الخاطئة توقعنا في إشكالية المفاهيم الخاطئة. ولهذا يظل كل متمذهب يدعي الوسطية والتسامح، وسيظل الادعاء قائماً ما لم يحتكم الأطراف إلى مرجعية معتبرة نافذة القول. والأمة تواجه خطر الاستبداد بالرأي، وعدم احترام العلماء المشهود لهم بالعلم والصدق والإخلاص والاستقامة، ومتى ذهب كل مبتدئ برأيه، ولم يسلم للمرجعية المعتبرة اتسع الخرق على الرقع.
ولو أن حملة الأقلام عمدوا إلى تحديد دقيق لمفهوم الوسطية، وأذعنوا لمرجعية: نصية أو شخصية اعتبارية، تقطع دابر الخلاف، وتنهي الجدل. ولو أن كل الأطراف التزمت أو اقتنعت على الأقل بأن تحقق الوسطية لا يكون إلا بالاستقامة على المأمور لكان أن أرحنا واسترحنا.
والذين يفترضون التجلي والخفاء يشغلون المشهد بإضافة جديدة، غير ملموسة وغير محددة، فمن هم ذوو التجلي وما صفتهم، ومن هم ذوو الخفاء وما الحق منهم وما المبطل؟ القول بالتجلي والخفاء قول مشروع، لو لم تكن هناك غايات رديفة، ولو لم تكن هناك ظروف غير ملائمة، ولو لم يكن هناك منهج خفي يستبطنه المتصدي للمنهج الخفي، حتى لكأننا بهذه السفسطة المتنامية عشوائياً نقف أمام (المرايا المتقابلة) .
والخوف من تداول المصطلحات ان يُجعل منها مجالٌ لتحميل الخطاب الديني كل جرائر الإرهاب، ومن ثم تعزز حجج اللاعبين الكبار، الذين يُحركهم يمين متدين متشدد لا يريد لغيره أن تحركه عقيدته. وإذ تلتطم في سائر المشاهد عدة خطابات، يحتمل كل واحد منها شطراً من تلك الظاهرة الخطيرة، فإن على المتقحمين لهذه المضائق أخذ الحذر وإعداد العدة، تفادياً لإصابة قوم بجهالة. ولست هنا معنياً بتبرئة أي خطاب، ولا الإحالة إلى خطاب بعينه، فكل خطاب له طرفان ووسط، وله أقوام يضلون بغير علم، كل الذي أريده تفادي سك المصطلحات، أو استدعائها لإعادة التنازع من جديد. وليس ببعيد عن هذا الهلاك من يتقحم سوح الفكر والسياسة ببضاعة مزجاة. وقوانين اللعب السياسية ليست بأقل من أصول المعارف، إذ ليس بفقيه من لا يعرف أصول الفقه وأقطاره الثلاثة: فقه الأحكام والواقع والأولويات. وليس بسياسي من لا يعرف التاريخ السياسي، ومكر الأعداء، و (اللوبيات) و (جماعات الضغط) و(الاستراتيجيات) و (التكتيك) وتعارض المصالح، واللعب الكونية، وتنازع البقاء، وسنن التدافع، وقانون التداول، وأسباب سقوط الحضارات. وحين نتخوف من تداول أي مصطلح قائم أو مفترض فإنما خوفنا من مستدعين متسطحين، ومن متلقين فارغي الأذهان، لا يعرفون إلا ظاهر القول، ومن (متأدلجين) أو (متحدثنين) أو (متعولمين) لا يقدرون جرائر هذه الصيرورة، ولا يعرفون نواقض الانتماء. وجدوها فرصة مواتية، فحسبوا أن الرياح تهب لصالحهم، فاغتنموها قبل أن تسكن، ومن فلول لعب قاتلة ذهب اللاعبون بالأجور، وتركوا المنفذين نهباً للضياع، ومن مشفقين ناصحين استدبروا الواقع، وأوغلوا في أرض موحلة مكشوفة، ليس لديهم من يحمي ساقتهم، ولا من يرود لمقدمتهم.
ومع التحذير من تداول المستجد من المصطلحات التي تُستدعى، ولا تقوم الحاجة إلى مثلها، فإننا لا ننكر أن لكل طائفة أو نحلة رؤيتها وتصورها ومفهومها للأحداث والنوازل، وأن أي متحدث عن النوازل أو الظواهر أو القضايا إنما يتحدث عن رؤيته وتصورها ومفهومها للأحداث والنوازل، وأن أي متحدث عن النوازل أو الظواهر أو القضايا إنما يتحدث عن رؤيته وموقفه، متحملاً كامل التبعات والمسؤوليات، وأن من حق كل مفكر أن يتمتع بكامل الحرية في التفكير والتعبير ما لم يؤدِ ذلك إلى إخلال في الأمن أو خروج على الشرعية أو مخالفة صريحة ومتعمدة للنص الشرعي القطعي الدلالة والثبوت، أو إضرار بالآخرين. ولو أننا تعقبنا المفكرين وحجرنا عليهم، لكان أن دخلنا كهوف الرتابة والنمطية، واستفحلت فينا عقدة (الأبوية) التي واجهت بها الأمم أنبياءها. والاجتهاد لأهله المؤهلين مشروع، والاختلاف صنوف الاجتهاد، فهو اختلاف مشروع أيضاً، لأن قضايا الدين والفكر والسياسة والأدب تختلف عن ظواهر العلم التجريبي. فقانون الماديات كالسنن الكونية، لا تتبدل، ولا تتحول، والخلاف حولها لا يخرج عن الخطأ المحض أو الصواب المحض، أما ما سواها فالاختلاف يكون خطأ، ويكون دون ذلك. فتنوع الآراء يدخل في إطار الفاضل والمفضول والأفضل. وقلّ أن يكون ثنائي الخطأ والصواب. وما اختلف العلماء من قبل، وما ظهرت المذاهب، وما تعددت القراءات إلا لأن هناك رؤية خاصة وموقفا خاصا ومفهوما خاصا. تتعدد بتعدد القراء والعصور والنوازل. ولا يجوز أن نحيل ذلك إلى المنهج الخفي أو الجلي، ولا أن نجعل الخفي مداناً بإزاء الجلي، ولا أن نحمل الخفاء جرائر الاخفاقات. ولو فعلنا ذلك لكان علينا أن نعيد النظر في اختلاف أئمة المذاهب في الآفاق الإسلامية، الذين فجرت بقايا الحضارات في أقطارهم مواهبهم، إذ في الشام بقايا حضارة الرومان، وفي العراق فلول الحضارة الفارسية، وفي مصر شواخص الحضارة الفرعونية. ففقه (الشافعي) في مصر يختلف عن فقه (ابن راهويه) في نيسابور، وفقه (الأوزاعي) في الشام يختلف عن فقه (أبي حنيفة) في الكوفة وعن فقه (ابن حنبل) في بغداد. وما أحد من الأئمة خطّأ نده، ولكن المتعصبين هم الذين أفسدوا التعدد المذهبي، وما تجاوزت المسألة عندهم الراجح والمرجوح، أو المقدم من المذهب، وما كان الاختلاف إلا ناتج تعدد المناهج والآليات والقواعد والأصول والخلفيات المعرفية واتساع فضاءات النص وتفاعله مع النوازل.
وها نحن نواجه حضارة الغرب دون أن تكون مؤسساتنا الفقهية موحدة القوى، لمواجهة المستجد، وكم نود تفعيل (المجمع الفقهي) و (هيئات كبار العلماء) في آفاق العالم الإسلامي، لتبادر النوازل ب (فتيا) جماعية، قبل أن تختلف الآراء حولها، وتفرق كلمة المسلمين. ولو كان استدعاء المنهج (الخفي) من مقتدرين يمتلكون الآليات والأصول والقواعد، وفي ظل ظروف مواتية ومناسبة لما كان منّا تمنعاً ولا تخوفاً. وكيف نحمل هم الحجر والنص أي نص يحمل دلالات قد لا تتوفر في ذات النص، إذ ان هناك معهودات وسياقات وأنساق وفضاءات ومناسبات ونوازل وأرضيات معرفية تساعد على تعدد الدلالات وتنوعها، وكل قارئ يتوفر على شيء مما هو خارج اللغة تنبثق من قراءاته دلالات ليست من ذات اللغة. وليس من الحصافة أن نقول بأن هناك منهجاً خفياً أو جلياً، ثم لا نعول إلا على وقوعات قالها طالب أو مدرس أو موجه، وليس من المناسب القول في ذلك في وضع محتدم ومتوتر، كهذه الأوضاع التي يعيشها العالم بأسره. إننا نثير انتباه المتربصين، ونتيح لهم أكثر من مرتع، ونهيئ أنفسنا للمساءلة والإدانة. وهل بعد التملق ل (الناخب الأمريكي) من أحد مرشحي الرئاسة لاتخاذ موقف متشدد من المملكة العربية السعودية لو فاز في الانتخابات مزيد من النبش في المناهج.
وأي تناول تستدعيه أحداث عارضة يخرج من مفهوم البحث (الأكاديمي) إلى الجهد (الأيديولوجي) ضمن دائرة الصراع العالمي، مما يترتب عليه رؤية وإجراء لا يصيبان الذين ظلموا خاصة. ولو أن المنهج (الخفي) بلغ أجله لما ملئت السجون بالمذنبين، ولما ملئت دور الرعاية باللقطاء، ولتحول الناس جميعاً إلى عباد للرحمن يمشون على الأرض هوناً، وكم نحن بحاجة إلى المنهج الخفي للحد من الجريمة والسقوط الأخلاقي.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:52 PM

اضطراب المفاهيم حول (الفكر السياسي الإسلامي)
د. حسن بن فهد الهويمل


بيت الداء في الراهن العربي الحديث (السلطة) المتذبذبة بين (العدل) و(التسلط)، وما من فتنة تلتطم أمواجها العاتية إلا وتحركها أعاصير التنازع حول سدة الحكم، ومن كفي أمره فقد نجا من كل غائلة، ولمّا تزل مفاهيم العلماء والمفكرين في أمر مريج، منذ شهيد المحراب (عمر بن الخطاب) حتى قعيد الحفرة (صدام حسين). وفي كل مرحلة تبدو المشكلة بثوب جديد، ويكون لها خطابها وخطباؤها وإشكاليتها، ولم يستحر الجدل العلمي (المؤدلج) إلا في العصر الحديث يوم أن سُيّس الدين والأدب، و(أُدلج) كل شيء، وسيم المسلمون الخسف. وكل حركة أو تنظيم لا يقومان إلا بحبل من الله أو بحبل من الناس، فدولة العدل والمساواة وإظهار الدين منصورة بنصر الله، ودولة الظلم والاغتصاب والتسلط مسنودة بحبل من الناس.
ولما سقطت (الخلافة) على يد (مصطفى أتاترك) بمواطأة من الغرب المسكون بالخوف من أي تحرّف أو تحيّز فكري إسلامي، اذن لكل قادر على القول أو الفعل أن يدلي بدلوه، عبر خطاب مستقل أو منتمٍ. وفي هذه المعمعة نهض (الفكر العلماني) الذي جعل قضيته الأولى الإجهاز على أي فكر سليم يرد الحكم إلى الله والرسول. وتهافت المفكرون والعلماء والساسة على الحديث عن آثار خلو المشهد السياسي العالمي لأول مرة من (الخلافة الإسلامية). وهو خلو فاجع يدمي القلوب. وفداحة الصدمة لم تتح فرصة للتأمل والتفكير، وإنما أدخلت الأمة في لجج من الفتن، وأصبح بأسها بينها شديد. والصدمة جاءت مذهلة على الرغم من أن (الخلافة) لم تكن متمشية مع المقاصد الإسلامية، ولم تكن من القوة العلمية والعسكرية والاقتصادية بحيث تمارس حقها بندّيّة، وليست منذ أن انتهت الثلاثين سنة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم متمشية وفق المقتضى الشرعي، ولكنها مع كل هذه المعوقات ظلت رمزاً ينظر إليه الكافة، كما ينظر أهل المريض إلى مريضهم، فلا يأس مع رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكان معوّلهم أن المُلك لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء.
وكانت الشرارة التي تحوّلت إلى ضرام كتاب القاضي الشرعي (علي عبدالرازق ت 1386هـ) (الإسلام وأصول الحكم) لأسباب منها:-
أولاً:- تطرّفه في تصور الفكر السياسي الإسلامي، إذ يرى أن الإسلام دين لا دولة وعبادة لا علاقة لها بالحكومة والسياسة، وأن الرسول لم يؤسس دولة، ولم يرأس حكومة، ولم يستخلف حاكماً، وما ورَّث إلا العلم.
ثانياً:- أنه جاء في لحظة حاسمة، فعندما سقطت (الأستانة) تململت (القاهرة) لتتلقى راية الخلافة، فأفسد هذا الكتاب ما كان القصر الملكي يؤمّله، وبهذه الضربة اللازبة قمع الاستعمار هذا التطلع، وشغل الأمة بالجدل العقيم حول مشروعية الخلافة من خلال هذه الصنيعة الماكرة، وقضي الأمر بعد اتفاقية (سايكس بيكو).
ثالثاً:- يعد الكتاب لعبة استعمارية للحيلولة دون التفكير بالخلافة من جديد، ومن ثم أصبح بداية حرب كلامية وتطرّف فكري مازال العالم الإسلامي يتجرع مرارته إلى ما بعد يومنا هذا.
رابعاً:- الظروف التي خرج فيها الكتاب ظروف استثنائية، فسقوط الخلافة أحدث فاجعة، أفقدت العلماء صوابهم، حتى حكموا بعودة الجاهلية الأولى، وتطرّف بعضهم بتكفير المجتمعات الإسلامية، لأنها استكانت، ولم تبايع خليفة، يحكم بما أنزل الله، ويرفع راية الجهاد لمواجهة (العلمانية) التي التبست مقتضياتها في أذهان الخاصة والعامة، وأصبح القول فيها محور أي (أيديولوجية) أو تنظيم حركي.
ولقد سبق هذا الكتاب كتاب يتناول إشكالية الخلافة للعلامة السلفي (محمد رشيد رضا، ت 1354هـ) (الخلافة أو الإمامة العظمى) ولكنه لم يثر من الجدل ما أثاره كتاب (علي عبدالرازق)، ذلك أنه جهد تطوعي، فيما جاء كتاب (عبدالرازق) جهداً تآمرياً, وإن قيل بأنه عمل صالح ضد تآمر المستعمر مع القصر بنقل الخلافة، ولو دخلنا في دوامة القول ونقيضه لبعدت علينا الشقة، ذلك أن بوادر السياسة كما آثار محترفي الإجرام تكون مطموسة المعالم، ودليل ذلك أن المؤلف لم يكن من ذوي الفكر السياسي، وما كان متوقعاً من مثله اجتراح مثل هذا العمل الجريء الخارج على كل الأعراف، حتى لقد وجّه الاتهام لمن هو أهل لمثل هذا التآمر وهو (طه حسين) إذ أشيع أنه هو المؤلف الحقيقي لهذا الكتاب الضجة. وفي تلك الفترة بدأت التحولات على مختلف المستويات، فعلى المستوى الاجتماعي كان (قاسم أمين)، وعلى المستوى الحضاري كان (طه حسين)، وعلى المستوى المرجعي كان (أبو رية) وما من قضية كبرى إلا ولها متمردها.
والمتابع لإفرازات الكتاب يقف على فرضيات متعددة، تدل على أنه عمل يكمن تحت سطوره عفن المكر الاستعماري. لقد تصدت له طائفة من العلماء والمفكرين أمثال (محمد الخضر حسين، ت 1377هـ) و(محمد بخيت المطبقي، ت 1354هـ) واقتصر جهدهما على نقض ادعائه، ولم يستدعيا ملابسات المقترف. فالإشكالية لم تكن حول اختلاف المفاهيم، وإنما هي حلقة من حلقات المؤامرة الكبرى التي لمَّا تزل تخلع قناعاً وتلبس آخر ويتعاقب عليها متمردون لوجه الرحمن أو لوجه الشيطان.
هذا التطرف في الآراء حول القضايا المحورية المصيرية أدخل الأمة في دوامة لا توقّف لها، وبهذه الآراء المتضاربة فُقدت (الوسطية) وحل محلها الغلو والتطرف والتنطع، وهذا الغلو نسل منه تطرف مضاد، ولكل رؤية وسط وطرفان، ولكل رؤية أشياع وأتباع، لا يترددون في إزهاق أنفسهم في سبيل فرض مشروعهم.
وعلى مستوى الدراسات الحيادية أو المنتمية طرحت عدة مشاريع:-
- مشروع (الفكر السياسي الإسلامي).
- مشروع (الفكر العلماني الديموقراطي).
- مشروع (الحكومة الدينية الثيوقراطية).
وكل هذه الأفكار ظلت حبيسة التنظير، إذ لم يفعّل مشروع منها وفق مقتضياته، وتداولت المشاريع الثلاثة ثلاثة انتماءات كمونية: الوطنية والقومية والدينية، وتخلل ذلك وسبقته إطلاقات جائرة، تكفر المجتمعات الإسلامية، لأنها لا تحمل بيعة إسلامية، ولا تخضع لخلافة إسلامية. ولقد كانت للمفكر الإسلامي (محمد عمارة) مجموعة من المؤلفات حول هذه المشاريع حاول فيها الوصف والتاريخ والتوفيق، وفي ظل التلبس العاطفي أمعن في عقلنة الخطاب، حتى عده البعض من معتزلة العصر. ووجدت طائفة من عشاق الشهرة والمخالفة أو عشاق العلمانية المتطرفة فرصة لإشعال فتيل الفتنة، وعلى رأس أولئك المستشار (محمد سعيد العشماوي) في مجموعة من الكتب من أهمها (الخلافة الإسلامية) و(الإسلام السياسي)، والماركسي الهالك (خليل عبدالكريم) في مجموعة من الكتب المليئة بالنقد الساخر للتاريخ السياسي الإسلامي، وبخاصة تاريخ الصدر الأول.
ودخلت طائفة من (الحداثويين) والمفكرين الماديين في هذه المعمعة مصعِّدة التوتر معمِّقة الصدام، جاء على رأسها (محمد أركون) و(نصر حامد أبو زيد) و(علي حرب) وكل (المتعلمنين) أو (المتحدثنين) يدلون بدلوهم في الشأن السياسي ونمط الحكم والخلافة، إما بطريق مباشر أو غير مباشر. وكلما ألممت بحقل السياسة في مكتبي قلت في نفسي:- لن يجتمع الأشتات، وتمنيت لو يتعاذروا ويذهب كل طرف بما قسم الله له. وآزر هذه الأشتات مصلحيون كل واحد منهم ركب الموجة التي تناسبه، حتى شاعت مقولة:- (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين)، وحتى جاء من يقول مقابل مقولة:- (إن تطبيق الشرع هو الحل) (هو اللا حل ذاته)، وهذا التراشق غير المنضبط صعّد التوتر.
كما أن الحِدة والحدِّيات صعدت الخلاف وعززت إمكانيات التطرف، ولو أن كل طائفة تحامت استفزاز الآخر، لكانت الأمور دون هذا التوتر. ولم يقف الأمر عند طرفي القضية، وإنما دخل المعمعة وسطاء توفيقيون أو تلفيقيون حاولوا التقريب بين وجهات النظر، دون معرفة تامة بالثوابت والمتغيرات، حتى لقد صار ضرر بعضهم أكبر من نفعه. هذا الصراع الفكري أتيحت له الفرصة ليتحول إلى صراع عسكري، وذلك بوصول بعض الطوائف إلى سدة الحكم، ولقد بلغت الأمة ذروة التوتر بتلاحق الثورات، وتعويلها على الدعم الخارجي الذي وجد الفرصة مواتية فثبّت وجوده بتعزيز الطائفيات والعرقيات والقوميات وجعل من كل ذلك ملفّات ساخنة يحركها متى شاء. وفي ظل التحكم الخارجي، واضطراب مشاريع الثوريين بين عدد من (الأيديولوجيات)، وفي درك الشقاء انحصرت كل الخطابات حول (السلطة) بوصفها الطريق الوحيد لطرح المشروع الفكري، وخرج الجيش من ثكناته، وأقبل من ثغوره، لينتزع السلطة منحياً المدنيين والدينيين، وتحول الشعب إلى غنيمة تعتورها سهام الأبناء والأعداء على حد سواء، وكم رددت الشعوب أمام مغتصبها من أبنائها:-




(قفوا وقفة المعذور عني بمعزل
وخلّوا نبالي للعداء ونِبالها)


وفيما بين هذا وذاك التطم المشهد الفكري والسياسي بخطابات متعددة تبنّاها مصلحون سياسيون ودينيون مستقلون أو منتمون من أمثال:- (أبو الأعلى المودودي) و(سيد قطب)، ومثل هؤلاء تناولوا القضية من خلال انتماء فكري حركي معارض لسياسات قائمة، ولقد كان لمثل هذه التنظيمات دور في تنفيذ اللُّعب السياسية مواطئين أو متقاطعين، وكل لاعب محترف ينتهي بانتهاء اللعبة، وقد تكون لديه بقية من أقنعة تمد أمد بقائه على المسرح، ولمّا تزل قضية (الحاكمية) المصدر والمورد لكل مفكر إسلامي أو علماني أو متذبذب، والمختصون حول مفاهيم (الخلافة) و(الحاكمية) تجتالهم رؤى وتصورات يؤزها الضالعون في صنع اللعب والمتحكمون في مسرح العرائس. ولم تكن القضية شأن الحركيين وحدهم بل تناول الموضوع ساسة ومفكرون من خلال رؤية علمية، وما من متناول فكري أو علمي إلا وله همه ورؤيته وتشكّله الفكري وميله الفطري، فالنظرة العلمية الخالصة الحيادية غير ممكنة، ولو نظرنا إلى نقد (العقل السياسي) عند طائفة من المفكرين أمثال (محمد عابد الجابري) في مشروعه (نقد العقل العربي) لوجدنا كتابه الثالث في السلسلة يتناول الإشكالية السياسية من خلال محورين: (المحددات) و(التجليات). فالمحددات عنده تنطلق من عاملين: عامل الدعوة، وعامل الردة، ومؤداهما إلى الدولة أو الفتنة.
والمشهد الفكري زاخر بالأطروحات المتفاوتة حول الفكر السياسي الإسلامي ومشروعيته، فمن منطلق من التاريخ السياسي الإسلامي، ومن منطلق من النصوص الإسلامية غير المفعّلة، ومن مجتر لمقولات المستشرقين، ومن معوّل على عصور الفتوحات الإسلامية غير مدرك لواقع الأمة، ومن مستخذٍ محبط ميْئِس. وكل الأطروحات تتنازعها الوسطية والإفراط والتفريط. نجد ذلك عند (برهان غليون) في كتابه (نقد السياسة: الدولة والدين)، وعند (خلدون النقيب) في (الدولة التسلطية)، وعند آخرين تتفاوت اهتماماتهم ومدركاتهم ك(عبدالعزيز البدري) و(يوسف القرضاوي) و(محمد الغزالي)، وآخرين ركزوا على الصراع بين الإسلام والعلمانية. وأجمل من تناول نظام الحكم في الإسلام ووفَّاه حقه وحرّر مسائله وقدّمه بحثاً علمياً متوازناً الدكتور (عبدالحميد متولي) في كتابه (مبادئ نظام الحكم في الإسلام) وإن كان قد توسع في الحديث عن الفقه وأصوله بوصفه آلية تحديد الخلافة ومنهجها، والمتابع للطرح الفكري والسياسي تتفرق به السبل، وإن لم يكن على بينة من دينه فإنه سيضل الطريق، وقد يقع في التطرف من حيث لا يريد. وحتى الدساتير تجد بعضها يتملق الرأي العام فيقول:- إن الإسلام مصدر من مصادر التشريع وليس هو المصدر الرئيس ولا الشامل، وهذه التعددية في المصدرية تفتح آفاقاً من العلمانية بكل ما هي عليه من اضطراب في المفاهيم.
وحاجة الأمة في راهنها أن تحيد كافة الأطروحات المتشنجة والمثالية المتطرفة والصدامية المتنمرة، وأن تصرف النظر عن كافة الممارسات، وأن تسقط من حساباتها الخطاب الإعلامي التبريري، وأن تدخل معمارها القائم لإصلاحه من الداخل، فما عاد الاستبدال حلاً، وما عاد الهدم مطلباً، الإصلاح من الداخل وفي الداخل وبإرادة وطنية هو السبيل لتجاوز الأزمة القائمة، وليست المسمّيات ولا الأساليب مهمة، المهم النتائج. فإذا وجد العدل والإحسان والحرية والمساواة وإظهار الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثمة الحكم الإسلامي، وليكن النظام: ملكياً أو جمهورياً أو سلطانياً أو إماراتياً شورياً أو (برلمانياً) اختيارياً أو انتخابياً استخلافاً أو غير ذلك. العبرة بالمصائر، وما يتوفر للشعوب من حقوق مشروعة. وأخطر ما تواجهه الأمة جماعات الضغط (المؤدلجة) المسيّسة، والجماعات المنازعة للسلطة من وراء قناع المعارضة المشروعة، والناكثين للعهد المفارقين للجماعة تحت أي مسمّى. وكأني بالخلافة الأزمة كمعدة الجسم الإنساني التي هي (بيت الداء).

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:53 PM

ابن إدريس ناقداً..! 1-2
د. حسن الهويمل


1-1 الدهماء من الناس من يظن أن المحتفى به لا يستوفي متطلبات التكريم حتى يكون الأول في كل شيء. وفي ظل تلك الرؤى حُجبت المعرفة، وأفل العلم، وحل محلهما الثناء والمجاملات.
وليس ذلك وليد الساعة، وإنما هو خليقة عرفها الباحثون عن الحق. وما على المتردد إلا أن ينقب في (كتب المناقب) و (سير أعلام النبلاء) ، و (تاريخ الرجال) ، ليرى ما لا يمكن توقعه من مبالغات قد تُخرّف القضايا وتؤسطر الرجال. ولما كنت ممن يُدعى إذا حيس الحيس وإذا تكون كريهة للحديث عن الرواد المكرمين أو المؤبنين، فقد روضت نفسي على مواجهة المواقف بأسلوب وسطي، يحفظ التوازن بين (الحق) و (الحقيقة) ف (حق) المحتفى به أن نلتمس أحسن ما عنده. و (الحقيقة) ألا نقول عنه إلا الحق. وإذ يود المحتفون بالأديب (ابن ادريس) تسليط الضوء على جوانب متعددة من منجزاته، فقد وكل إليّ تناول حظه من النقد. و (النقد) مصطلح يقتضي الجمع والمنع، ولا يؤتاه إلا من كان متوفراً على مقتضياته: المعرفية والمنهجية. والقول عن نصيبه منه، يستدعي استعراض ما أنجز من أعمال نقدية، وتمريرها على أدنى حد من المقتضيات، فإن توفر عليها، كان ناقداً فاضلاً، وإن كان على شيء منها كان ناقداً مفضولاً. ولأن المتحدث عن الشخصيات والظواهر والقضايا يُري نفسه الآخرين، مبدياً من خلال حديثه مبلغه من العلم، ونصيبه من المصداقية فإنني سآوي إلى وثائق تعصمني من التجهيل أو التكذيب، وتنجيني من مغبة المجاملة أو معرة التحامل، إذ لو تصورت النقد على غير ما هو عليه لكنت جاهلاً في نظر العالمين، ولو قلت عن المحتفى به غير الحق لكنت كاذباً في نظر العارفين، وفي الحالين لا أفيد المحتفى به شيئاً، ولا أحفظ ماء الوجه.
والاستاذ عبدالله بن عبدالعزيز بن ادريس خلَّف وراء ظهره فيوضاً من القول الأدبي المعهود في الأذهان، والمطبوع في الكتب، ولا أحد منا يملك إنكار شيء منها، ولا إضافة صفة لا يحتملها شيء منها، وليس بيد أحدنا أن يحمل تاريخ الرجال ما يريد، ولا أن ينزع منه ما لا يريد، فلقد رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وإن كان ابن ادريس حاضراً بيننا، يقول، ويفعل، ويملي فصول حياته الأخيرة التي نرجو له فيها إنْساءَ الأجل، ومزيد العمل، فإنه وبعد هذا العمر الحافل بالأداء قد استقر في الأذهان منذ بوادره الأولى: شاعراً جزل العبارة، وناقداً حاد النبرة. ولمَّا تكنْ صلتي به طوال هذه المدة مقطوعة ولا ممنوعة. فلقد عرفته وأنا طالب يبهرني كل شيء، كان يومها في نظر لداتي الشاعرَ الذي لا يطاول، والأديب الذي لا ينازع، والصحفي الذي لا يبارى، والناقد الذي لا يجارى. ونمت معارفي، واتسعت مداركي، واقتربت منه: ذاتاً ومضموناً، وشبت رؤيتي عن الطوق، وتنوعت اهتماماتي، وتعددت قراءاتي، فكان واحداً من عشرات الكتّاب والشعراء والنقاد الذين يؤخذ من قولهم ويترك، وتخطى بي الزمن لأكون الصديق والزميل، وتوثقت الصلات، وتعددت اللقاءات، وتجاوزنا معاً مرحلة المجاملات، وما عاد أحد منا ينتظر من صاحبه إلا قول الحق، وفوق كل ذي علم عليم. ولأنه شاعر وأديب من بلادي، فقد كان قدرنا معاً أن يكون مادة بحث ودراسة، فاهتمامي بالأدب السعودي فرضه علي موضوعاً. تناولته شاعراً في رسالتي للماجستير وللدكتوراه، وتناولته ناقداً فيما كتبت من مداخل لدراسة الأدب السعودي. ومَوْضعة الذات تغيب العلاقات والمجاملات، بحيث يصبحُ الإنسان شيئاً من الأشياء، يقول عنه الدارسُ ما يقوله عمن سبقه من شعراء أو كتاب، لم يرهم من قبل، وإنما نفذت إليه أقوالهم وما قيل عنهم، مما حفظه التاريخ، فشعراء الجاهلية والإسلام، والمعاصرون من مبدعين ونقاد، أصبحوا خبرا بعد عين، ومواضيع يختصم حولها من بعدهم.
وابن ادريس الذي ترك السرى خلفه، وخلا بأعز جليس، تحوّل منجزه الكلامي إلى موضوع، يملك كل قارئ حق التعبير عما يراه إزاء ما يملك من وثائق. وهنا وفي ظل هذه الحيثيات والمسوغات، عدت قارئاً جديداً لما سبق أن قرأتُ عنه وله، ولما سبق أن كتبتُه عنه في غيابه. وليس من السهل في هذا الموقف أن أبذل القول غير القول، ولا أن أملك حرية القول في لحظة احتفاء واحتفال. والرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (إن من البيان لسحرا) إنما استدعاه لهذا القول متحدث عن (الزبرقان) - فيما أعلم - رضي المتحدث عنه فذكر أحسن ما يعلم، وفي ذات الموقف سخط عليه فذكر أسوأ ما يعلم، ومع ذلك أقسم أنه صدق في الأولى، ولم يكذب في الثانية. والمتحدث ذو أحوال ثلاثة: - إما أن يكون راضياً أو ساخطاً أو طالباً للحق، لا يدفعه رضا ولا يثنيه سخط. وكل حالة توجه المسار. ومع كل هذا فإن القول عن أي ظاهرة محكوم بانتماء المتحدث فكرياً وبرؤيته فنياً وبإمكانياته معرفياً. ومن ثم فليس هناك قول فصل، ولو آمنا بالحدِّية لكنا قد فرغنا من شعرائنا وكتابنا منذ أمد طويل. والحديث عن ابن ادريس في جانب من اهتماماته الأدبية يحفزنا إلى استكناه ذلك الجانب مفصولاً منه، حتى إذا تصورناه نظرنا إلى مبلغه فيه. و (النقد) له سياقه المحلي والعربي، وله مذاهبه وتياراته وآلياته وتحولاته، وللنقد المحلي ريادته وتأسيسه وانطلاقه، وله رواده ومؤسسوه، ولكل ناقد مرجعيته واهتماماته، وابن ادريس في هذه المعمعة واحد من الدارسين والمؤرخين، وما من متعامل مع الحركة النقدية في المملكة إلا ويعرض له متفقاً أو مختلفاً معه، ويكفي أن يكون جزءاً من التاريخ الأدبي، والحديث عن النقاد يقود إلى الحديث عن النقد، وهو مصطلح قائم بذاته تتنازعه ثنائية: التطبيق والتنظير، وتتجاذبه الآليات والمناهج والمذاهب، ويختلف المؤرخون والمنظرون للنقد حول من يدخل فيه. ومن لا يدخل، فمتى يكون الكاتب ناقداً أو مفكراً أو فيلسوفاً أو مثقفاً أو مبدعاً، ومتى لا يكون؟ ومتى يستحق الجمع بين سمتين؟ وابن ادريس أبدع الشعر، وكتب النقد، ونازع في امتلاك السمتين، ولكنه لم يفرغ لواحدة منهما، وأخشى أن يكون قد سوِّد قبل أن يتفقه، ومع ذلك فقد أخرج للناس كتباً في الإبداع وأخرى في النقد، وحفز الدارسين والنقاد لقراءة شعره وتحديد مذهبه النقدي، ومهمتنا أن نعرف مبلغة مما نحن بصدد الحديث عنه وهو (النقد) .
2-1 والسؤال الملح:
يحدونا إلى التساؤل عن مكانته في سلم النقد وأنواعه، فهل عبدالله بن ادريس (ناقدٌ) أو (مؤرخ أدبي) ؟. وحين نسلم بإحدى السمتين أو بكلتيهما، فأي السمتين الصق به:
النقد الأدبي بقسميه: التنظيري والتطبيقي.
أو التاريخ الأدبي بقسميه: الرصدي والوظيفي؟
وهل المؤرخ الأدبي يعد ناقداً؟ وهل مَن كتب في موضوعات الإبداع القولي، يعد ناقداً؟ وهل الانطباعية والذوقية منهجان من مناهج النقد؟ إننا أحوج ما نكون إلى تحرير (مفهوم النقد) ، وتحديد مستوياته وأنواعه قبل وضع الشخصية المدروسة في موضعها الطبعي.
وأعيذها نظرات صائبة من المتلقي ان يحسبني أفتعل دوامة كلامية، وأثير غبار الاحتمالات، لأتسلل لواذاً كاتماً ما أرى، كمؤمن آل فرعون، ذلك أن الأمر لا يحتمل مثل هذه التحفظات، فمن جعل ابن ادريس ناقداً وجد ما يعزز به رأيه، ومن قصره على التاريخ الأدبي أو الانطباعية أو الذوقية وجد ما يدفع به غوائل المؤاخذة. ولا استبعد أن تكون مَوْضعةُ ابن ادريس إشكالية، فالنقاد الأكاديميون لا يتفسحون لغيرهم في مجالس النقد، لتعويلهم على المنهج الصارم والخطة الدقيقة، والنقاد المتضلعون من فيوض النقد الغربي الحديث وتحولاته يرون النقد علماً ومعياراً، والنقاد الشعراء ومنهم ابن ادريس يعدون أنفسهم أبناء بجدة النقد، يوم كان الزمان زمان الشعر، ولما يزل في كؤوس الجدل بقية، وقد نخرج من جدلنا هذا بإضافة إشكاليات جديدة. لقد عرفت ابن ادريس منذ خمسين سنة يوم كنت طالباً في الصفوف التمهيدية، كان ذلك عام 1374ه، وكان يومها مفتشاً ملء السمع والبصر. وقرأت له منذ أربعين سنة، حين أخرج للناس كتابه (شعراء نجد المعاصرون) وأحدث به ردود فعل واسعة، وقدم به مرجعية تهافت عليها عدد من الدارسين. وتناولته ناقداً وشاعراً منذ ثلاثين عاماً، حين باشرت في إعداد رسالتي للماجستير، وعدت اليه قبل خمسة وعشرين عاماً حين درسته في رسالتي للدكتواره، ولما يزل يتقلب بين يدي موضوعاً في قاعات التدريس، وصالات المناقشة، ومنابر المنتديات، أكتبه موضوعاً لدراسة أعدها، وأقرؤه موضوعاً لرسالة أناقشها. يرفعه قوم، ويضعه آخرون، ويتفق معه ناقد، ويختلف معه آخر. وما من أحد نفى شاعريته، ولا أنكر منجزه النقدي، وإنما الاختلاف حول قيمة هذا المنجز، وتصنيفه، وتوصيفه وموقعه في سياقه. وإذ نكاد نتفق على انه شاعر وناقد، يظل الخلاف محصوراً في مبلغه من الشعر والنقد، والمريح إنه لم يظفر أحدٌ من الناس بالإجماع على مبلغه في أمر من أمور الأدب والفكر، فالنقاد قد يتفقون على السمة، ولكنهم يختلفون على مبلغ الانسان منها، فهذا (المتنبي) ، مالئ الدنيا وشاغلُ الناس، النائم عن شوارد شعره، والمسهر للخلق، وخالق الخصومات منذ ألف عام أو تزيد، يختلف الناس حوله، وكلما تعمقت الخلافات عظمت الشخصية، وتكرس حضورها، والناس لا يختلفون إلا حول المتميزين، فهاكم (أبا العتاهية) يمر به القراء مر الكرام مسلمين بشاعريته، فيما يطيلون الوقوف حول (المتنبي) ثم لا يسلمون بشاعريته، وبين الاثنين مثلما بين الثرى والثريا. وقد قيل: أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري.
3-1 ولسنا بهذه الاستهلالات نريد النفاذ من هذا المأزق، ولا نريد خلط الأوراق، وإنما نود أن نثبت أفئدة المتلقين، حين لا نتفق مع ابن ادريس أو حين لا نسلم بما سلم به غيرنا، على أننا جميعاً لا نقول إلا معاراً أو معاداً من أحاديث مكررة. والحديث عن الناقد يقود إلى إشكاليات النقد ومفاهيمه المتعددة، والناس بعد تحولات النقد وحدوث متغيرات في الآلية والمنهج والمقاصد غيروا من مفاهيمهم، واضطروا إلى إعادة ترتيب أوراقهم، وأبعد بعضهم النجعة، حتى لكأنك مع بعضهم في ملاعب جنة، لو سار فيها سليمان لسار بترجمان.
ذلك أن النقد اليوم غيره بالأمس، ولما يعد الوقت وقت مسلمات ونمطيات، والتسليم بكل التحولات يجعل من الأكثرية كتبة في الادب ليس غير، والخلطة النقدية مع الغرب غيرت المفاهيم والاهتمامات، وقلبت الأوضاع رأساً على عقب، ومذاهب النقد الحديث وظواهره كادت تطمس معالم النقد العربي القديم. والمنظرون للنقد الحديث نفوا من مدينة النقد من كنا نعدهم من رواد النقد وعمده، والدراسة المنصفة لأي شخصية من تأخذه في سياقه وإمكانيات مرحلته، ومن الخطيئة التخطي بمعطيات المرحلة وتقويمها على ضوء الإمكانيات القائمة. وحين لا نسلم بالتخطي والابتسار نسلم بما يعتري الحركة النقدية من تحول مستمر، ولكل زمان نقده ونقاده، ومن يعش منا فسيرى اختلافاً كثيراً، والمؤصل من يستوعب التراث والمعاصرة، ويؤاخي بين القديم والجديد، ويختط لنفسه طريقاً قاصداً، لا يفصله عن تراثه، ولا يحرمه من مستجدات العصر، وتلك معادلة صعبة ومعقدة، وليس لها ضابط متفق عليه، ولكن الحق أبلج، ولا مجال للتَّغنُّص، وعلى طلاب الحق ألا يستزلهم المستغربون، وألا تثبطهم عقدة الأبوية، والرحيل إلى التاريخ، والمتمكن من لا يستسيغ إلا ما افترس من رؤى وتصورات، فانتظار النوال، والاهتياج الأعزل في وجه كل جديد مضيعة للجهد والوقت، والتولي عند مواجهة الآخر تخلية لثغور الحضارة، ومن الخير للأمة أن يرحب صدرها لكل طرح، ولكن في إطار ما يتطلبه الوجود الكريم، وما يحقق الهوية، ويحافظ على الخصوصية.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 02:54 PM

ابن إدريس ناقداً..! 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل


ولأن لحظات الاحتفاء ستنتهي، وتظل وثائقها. وما يصلح لزمن الاحتفاء قد لايصلح لما بعده، ولأن الحديث مقتصر على جانب النقد في حياة ابن إدريس، ولأن ابن إدريس لم يفرغ للنقد، ولم يشغل نفسه به، ولم يرد أن يكون ناقداً لا يبرح سوحه إلى غيره، فقد كان لزاماً علينا التحرف لنجوة من وقتية المناسبة، والالمامات غير العازمة. لقد كان الشاعرَ والكاتبَ والناقدَ والصحفيَّ والإداريَّ، فكان كما جسم المتنبي موزعاً في جسوم كثيرة، اشتغل في الصحافة محترفاً وكاتب مقال، واشتغل في كافة الأعمال الإدارية يتقلب معها، واشتغل في الشعر مبدعاً لا يلم به إلا حيث تحفزه مناسبة أو يثيره موقف. وكان اشتغاله في النقد مثل اشتغاله في الشعر ثانوياً، ولم تكن له عزمات جادة. ومع كل ذلك، فقد وثّق خطراته النقدية، ما كان منها عن جد وقصد، وما لم يكن عن جد وقصد. وما كتبه من دراسات تاريخية أو نقدية ينمّ عن وعي بما يدور في كافة المشاهد الأدبية، وإن جاءت إلماحاته النقدية مدفوعة بمناسباتها. ولكننا مع كل ذلك أمام عمل أدبي رائد، وظّف فيه كل خبراته وإمكانياته، وارتبط اسمه به، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت: إنه عرف به، ذلكم هو كتابه (شعراء نجد المعاصرون) ومع أنه من بواكير إنتاجه إلا أنه ظل الأكثر حضوراً، ولربما كان العملَ الوحيدَ الذي نفلَه جهدَه، وفرغ له، ولقد كانت لي معه وعنه أحاديثٌ خبرت بها لماذا بادر إلى التأليف، ولماذا فرض شرطه الفني والدلالي على الشعراء المترجمين، ولماذا أراد له أن يظل كما هو، لايضيف إليه، ولا يحذف منه.
ولقد أشرت من قبل إلى الخلاف القائم بين منظّري النقد في تصنيف النقاد. فقد يتردد البعض منهم في عدّ المؤرخين والمترجمين وأصحاب المختارات من النقاد. ويبالغ البعض حين يجعل النقد موهبة كالشعر، بحيث لا يكون كلّ من كتب في الدراسات النقدية ناقداً، وفي مقابل المضيِّقين لدوائر النقد، نجد آخرين يتوسعون في مفهومه، فيجعلون أصحاب المختارات والموسوعات والتراجم والدراسات والتحقيق نقاداً. والنقد الحديث الذي ركن إلى العلمية والمنهجية، لم يحفل بالذوقية ولا بالانطباعية، والشعراء النقاد يميلون كل الميل إلى التذوق والانطباع ويدَّعون القدرة النقدية، فهم أهل الشعر وخاصته، وهم الأدرى بما فيه. وأمام هذه التصنيفات نجد أنفسنا بحاجة إلى أن ننتزع الاعتراف بأن ابن إدريس ناقد. وليس شاهدنا في ذلك ما كتبه من تراجم ومختارات وخطرات نقدية غير عازمة، ولكن لما ينطوي عليه من استعداد مبكر للنقد، ولما قدّمه فيما بعد من خطرات تؤكد أهليته لذلك. ولا أحسبنا بحاجة إلى مزيد من المنافحة حول هذا الموضوع، والذين لا يعدّون المتذوقين نقاداً، لهم بعض الحق، ولكن الناقد الذي تجاوز التذوق والانطباعية أو تجاوز بهما يمتلك آلية النقد ومنهجيته، والمحدثون من المنظّرين للنقد لا يعدّون من قَصَر قراءته على التذوق الأدبي ناقداً، ولا من كتب في تاريخ الشعراء، وتلك رؤية قائمة لها أنصارها. وابن إدريس المتفاعل مع المشاهد الشعرية والنقدية يفرق بين (الذوقية) و(الانطباعية) من جهة وبين العملية النقدية بعلميتها ومنهجيتها من جهة أخرى، ويعترف باعتماده على الذوق، وهو يعي تماماً أن الذوقية مباينة لمناهج النقد الحديث، قال هذا في كتابه (كلام في أحلى الكلام)(ص9) وأحسب أن الناقد الشاعر غيرُ الناقد العالم، وقد يُدِلُّ الشعراء النقاد بمعرفتهم النقدية، وتلك ظاهرة واكبت حركة الشعر العربي القديم والحديث، وابن إدريس في باكورة انتاجه النقدي (شعراء نجد المعاصرون) ناقدٌ متذوقٌ ووصَّافٌ وحكميٌّ وانتقائيٌّ ومؤرخٌ أدبيٌّ. تفلَّت من إسار التاريخ الأدبي، وتجاوز متطلبات الترجمة، ولم يكن متذوقاً ولا انطباعياً وحسب، وهو في كتابيه (كلام في أحلى الكلام) و(عزف أقلام) متذوق وانطباعي، يسجل انطباعاته عما يقرأ، وإن كانت له مناوشات مع لداته في (عزف أقلام) والمتابع لكتاباته يدرك وعيَه المبكّر للمتداول من القضايا والظواهر، وقد نفذ كثيرٌ منها عبر شبات قلمه، ولكنه لا يريد أن يكون مع أحد من النقاد، مثلما أنه لم يكن الناقدَ المخلص للممارسة النقدية، وما أحسبه فرغ له، ولا حبس نفسه لشيء من ذلك، وإنما يلم به متى شاء أو متى أثير. ولكي أدلل على وعيه بالظواهر والمذاهب النقدية أشير إلى كتابه الأول (شعراء نجد المعاصرون) لقد ألّفه والمشهد النقدي المصري حفي بمذهبين نقديين:
الاتجاه النفسي الذي يتزعمه (عباس محمود العقاد).
والاتجاه الاجتماعي الذي يتزعمه (طه حسين).
والمشهد النقدي اللبناني حفي (بالرمزية) فيما يأتي أوزاع من النقاد العرب في مصر والشام والعراق تتنازعهم الاهتمامات. والشعراء في نجد يصيخون هذه الظواهر، ويأخذون ببعضها، والنقاد الواعون للمتغيرات يرصدون تلك التحولات، وابن إدريس بحسّه وعلميّته رصد تلك الظواهر، وتلمّسها في شعر الشعراء المدروسين، وما على المتابع إلا أن يتأمل إشاراته الخاطفة في تراجمه للشعراء الثلاثة والعشرين الذين قدّمهم واختار لهم، ليرى أنه عوّل كثيراً على معطيات الاتجاهات النفسية والاجتماعية والرمزية. فهو حين تتبدّى نزعة دلالية عند شاعر نجدي، يلوذ بالحالة النفسية أو بالوضع الاجتماعي، ويحيل إلى أحدهما، فعل ذلك مع (عبدالله الفيصل)، ومع (حمد الحجي)، ومع (صالح العثيمين)، وتلمّس رمزية (بودلير) عند (محمد عامر الرميح) و(المنصور) ولأن المشهد الأدبي في مصر يوغلُ في الحديث عن (الواقعية) بكل تنوعاتها، وهو قد شارف على النهاية من حديثه عن (الرومانسية) فإنك تراه يقبض طائفة من الشعراء ليلحقهم في حقل الواقعية، ويمارس الفعل ذاته مع (الرومانسيين) وحين تشغله الدلالة فإنها لا تلهيه عن الفنّيّات: الشكلية واللغوية، وله في الظاهرتين كلام مفتوح، أقرب إلى التنظير، وألصق بالرؤى العامة غير المحررة، وما من أحد ندب نفسه لقراءة الحركة النقدية في المملكة إلا وعوَّل على كتاب (شعراء نجد المعاصرون) فهو لم يكن للترجمة وحسب، ولم يكن اختياره للشاعر ولنماذجه المختارة عفوياً ولا عشوائياً. لقد كان واعياً للمهمة النقدية، ومدركاً لشرطه الفني والدلالي، ولهذا صرف نظره عن طائفة ممن يعدّهم الوسط النقدي شعراء، ترجم للشاعر (محمد بن عثيمين) ولكنه لم يترجم للشاعر (محمد بن بليهد)، وهو شاعر له ديوان مطبوع، وأقيمت من حوله وعليه دراسات قطعت بشاعريته، وكذلك فعل مع (سليمان بن سحمان) صاحب المطولات الذي دُرس أكاديمياً كذلك، وكان بإمكانه أن يلملم طائفة من قصائد العلامة (حمد الجاسر)، ويجعله شاعراً من شعراء نجد، غير أنه لم يفعل، وهو قد سبق في تحفظه على شعر المناسبات، وتعويله على شعر المواقف والقضايا، وضوابطه تلك أعطت كتابه قيمة فنية ودلالية، وأثارت من حوله زوبعة من النقد، وتخطت به وهاد الجمع والترجمة إلى نجاد الدراسة والتصنيف، ولفتت أنظار كبار الأدباء والنقاد إلى كتابه أمثال (العقاد) و(مندور). وكتاب ابن إدريس (شعراء نجد المعاصرون) له قيمة سياقية وتاريخية تحولان دون المساس بسائر القيم. وتحولات النقد وإمكانياته المعاصرة لا تمس الأعمال الرائدة بسوء، ولا تقلل من أثرها في مرحلتها، لقد أدت ضوابط التأليف عنده إلى إعادة التفكير بالمواقف والمثيرات والأغراض والمعاني، وهذا بحد ذاته مؤشر وعي للعملية الإبداعية والنقدية على حد سواء، وليس هناك من بأس حين نتقرى همومه وهو ينقّب عن الشعراء وشواهد الشعر عندهم أن نسوق مقولات تُجمل رؤيته، وقد تصل إلى الجملة المفتاح، كما يقول أحد الدارسين، فهو يقول عن الشاعر (صالح بن عثيمين) (شاعر يقف على الأعراف) وعند حديثه عن (عبدالله الجهيمان) يمارس المراوغة الذكية، ويصف شعر (المنصور) (بالتشخيص الأسطوري) ويقول عن رمزية الشبل: بأنها الايحاء والإبهام والغموض، وليست رمزية مذهبية. وقد عاب على (العيسى) ذاتيته، كما أشار إلى علاقة العروض بالمشاعر عند دراسته (لأبي أحيمد) وتلك قضية لم تحسم بعد، ووصف شعر (الفيصل) بالعفوية وشبوب العاطفة والتصوّف، فيما وصف شعر (عبدالله العثيمين) بالسلاسة والعمق والاتساق، وقال عن شعر (الحجي): - إنه يمتاز بالرواء والتناسق. ومع وقوعه في الإطلاق والتعميم إلا أن مقولاته تلك مؤشرات إيجابية. ولو تعقبت أحكامه على شعر الشعراء لأتيت على كل المتداول من الأوصاف، وإطلاقاته ليست اعتباطية. وعندما نهض للترجمة والاختيار اشترط (التأثير والموسيقية والتصوير والتعبير والخيال والعذوبة والتدفق الشعوري وعمق الإحساس)، وتلك السمات التي وضعها كشرط أساسي، ألحق بها (البناء العضوي للقصيدة) و(الصياغة) و(الصورة الشعرية). وقد جعل كتابه في قسمين: قسم للدراسة، تناول فيه نشأة الشعر وتطوره، ومركز نجد في الشعر، ومكانتها في النهضة العربية، ورصدَ للشعر في تلك الحقبة، وتحدث عن الشعر المعاصر وعوامل تطوره، ثم ناقش الاتجاهات الشعرية. ومن تلك الرؤى انقدحت عندي فكرة (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد) والتي تحولت إلى موضوع أكاديمي، نوقش وطُبع وأصبح كتاباً يقرؤه الناس، فيسخر به بعضهم ويعجب منه آخرون. وحين أنجز المؤلف قسم الدراسة، لم يكتف بالترجمة والاختيار، وإنما التمس لكل شاعر مذهباً أو خصوصية، فكان بذلك المترجم والمصنّف والناقد والمختار. بهذه الإلمامة العجلى تتبدى لنا ملامحه النقدية من خلال كتبه الثلاثة التي وعت ما رضي عنه من قول في الأدب يدخل به مشاهد النقد بالاتفاق أو بالتغليب، ثم يكون الاختلاف على أشده حول موقعه داخل المشهد.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 06:46 PM

تداعيات القراءات الدمشقية..! (1ـ 2)
د. حسن بن فهد الهويمل


كنت كلما هممت بالسفر، تذكرت رحلات (طه حسين) السنوية إلى (فرنسا)، مع زوجته (سوزان) التي أصرت على البقاء على دينها وعلى لغتها الفرنسية. وشدته بأمراس كتان إلى صُمِّ حضارتها، فكان بذلك إمام المتهافتين على (الفرانكفونية) يستقبل بهم شواخصها. وتذكرت انتقاءه لما يعن له من كتب أدبية أو فكرية أو إبداعية، والفراغ لسماع قارئه، وهو يترنم بالشعر على جبال (الألب)، ثم الخروج بجهد تأليفي، يكون ثمرة السياحة. وأهم معطيات تلك الخلوات المزعومة، ما تمخضت عنه تلك الرحلة التي صحب فيها ديوان (أبي الطيب المتنبي) دون أن يصطحب ما عنده من دراسات وشروح، كان قد ألمَّ بها في عامه الدراسي، لكيلا يعول فيما توصل إليه على شيء منها، ولهذا اقتصر جهده في كتابه (مع المتنبي) على الإملاء، لا يتوقف فيه إلا لضرورات الحياة. ولم يتردد في إهدائه إلى تلك الزوجة الصابرة المشفقة الراحمة - على حد تعبيره -. وسواء صدق فيما يدعي، ام لم يصدق، فقد جاء الكتاب مثيراً وممتعاً ومغالطاً في آن، لا تمل من قراءته، ولا تود مسايرته فيما يذهب إليه من قراءة ذوقية انطباعية، فيها شيء من التعنت والإصرار والتحامل. و(طه حسين) حين يقدِّم أعماله إلى الناس، لا يتورع عن اللعب بعواطفهم، وإثارة فضولهم، وشد انتباههم. ومن يقرأ الاستهلال لا يجد بداً من قراءة الكتاب، وأكبر الظن أنني قرأته مرة أو مرتين ومازلت أغالب الشوق إليه والشوق أغلب. وإذ يريد من كتابه غمط المتنبي، وتزهيد الناس فيه، فإنه أدهى وأمكر من صاحبه (القصيمي) الذي لا يتقي، ولا يداري، ولهذا طُويت كتبٌ كثيرة عن المتنبي، وبقي كتابه متداولاً، غير أن المفاجأة المثيرة ما خرج به تلميذه العنيد (محمود محمد شاكر) مدعياً أن (أستاذه) سرق كتابه عن المتنبي، كما سرق رؤية (مرجليوث) في الشعر الجاهلي ومنهج (ديكارت) في الشك.. ولأنني في أمر مريج من هذا الاتهام فإنني لم أكلف نفسي عناء الحصحصة، وإن كان فيها ما فيها من اغتلاب الارتياب؛ ذلك أن ما بين الكتابين مختلف جداً، فكتاب (طه حسين) تغلب عليه الانطباعية والإبداعية والمراوغة والتماكر والغمز واللمز، فيما تغلب على كتاب (شاكر) العلمية والتمحيصية والترجيحية بين سائر الأقوال.
وكتاب (شاكر) هو الذي نال به جائزة الملك فيصل العالمية، وما كان يومها حفياً باختيار هذا الكتاب دون ما سواه من كتب أنضج وأعمق، فكتابه عن المتنبي كان في شرخ الشباب، وكانت له كتب وتحقيقات تراثية تفوق ما كُتب عن المتنبي، ولهذا نقد لجنة الاختيار والتحكيم بإيماءة ذكية، وظن الناس يومها ان قوله هذا من باب التواضع أو المزاح، وما عرفوا أنه يعتب على لجنة التحكيم اختيار أقل كتب شأناً. والكتابان يلتقيان عند نقطة حساسة، تتعلق بنسب المتنبي، ثم يفترقان إلى أبعد حدود الافتراق، وما كنت معنياً الآن - على الأقل - بتقصي ما انطوى عليه الكتابان من آراء ممحصة أو مرتجلة، منصفة أو متحاملة، وبخاصة ما يتعلق بالنسب، والعقيدة، واضطراب المواقف، والمبالغة في كل أغراض شعره.
لقد اضطربت الأقوال حول (نسبه) و(قرمطيته) و(تنبئه) وحق لها أن تضطرب، ومازال فيها بقية لمريد. وما من متحدث عن (المتنبي) لا تثبِّت قواعده غزارة المعارف، ولا تكبح جماح عواطفه نوازع العدل والإنصاف، إلا ويكون مجال التندر والسخرية؛ فالمتنبي كالبحر اللجي، إن خضت في شاعريته أو في أخلاقه، أو في نسبه، أو في عقيدته، غرق زورقك، وتكسرت مجاديفك، ومن ثم لابد للخائض في لججه من الفلك المشحون بالمعارف. وما أكثر الذين يحسبون ورمهم شحماً وبعرهم درراً، لفظتهم أمواجه كالزبد الذي يذهب جفاء، وقليل من المتحدثين عنه قالوا ما ينفع الناس، فمكث كما تمكث البذرة في الأرض الطيبة، ترقب موسمها لتنشق عنها التربة بأطيب الثمار. وما أكثر ما ينتابني الشوق إلى الحديث عن (إشكاليات المتنبي)، وعن تعدد الرؤى حوله عند ناقديه في القديم والحديث، بحيث لا يكون التقصي رصداً إحصائياً وصفياً على شاكلة ما كتبه أستاذنا الدكتور (محمد عبدالرحمن شعيب) في دراسته الأكاديمية (المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث).
وإذ يكتفي (القعيد الأعمى) بحمل كتاب لا يبرحه حتى يأتيه من أقطاره، فإنني ملول، لا أصبر على كتاب واحد، وليس من عادتي حين أبرح أرض بلادي أن أكتفي بما أحمله من كتب، وإنما اختلس شطراً من الوقت، وأزور ما تيسر من المكتبات، لأشتري منها أحدث الإصدارات في مختلف المعارف، ثم أطويها قراءة عجلى، تأخذ كل مستويات التلقي، فإذا اكتشفت في شيء منها تسطحاً أو ادعاء، تركتها حيث أقيم، مع ما يتركه كل مبارح من نفايات، محتسباً أجر الجهد والمال والوقت على الله. ولا يدخل في القبول أو الرفض اختلاف الآراء، فما كنت لأحفل بشيء حفولي بالذين يتحدون إمكانياتي، وما استأت من شيء استيائي من جهد قرائي لا يضيف إلى معارفي معارف، أو لا يضطرني إلى التحيز أو التحرف أو إرجاع البصر مرة أو مرتين لاختراق أجواء الكاتب الفكرية. وكم تخادعني العناوين وجودة الاخراج، فأنخدع، ودور النشر تبدع في ذلك، ومن ثم يقع في حبائلها الذين لا يعدلون بالكتاب شيئاً:- (وخير جليس في الزمان كتاب). وكم من كاتب متسطح لا يؤبه به، نفذ من خلال خداع العناوين وحسن صناعة الكتاب، مستخدماً جرأة بعض الناشرين. وها نحن نسمع بين الحين والآخر عن إصدار دراسة أو مجموعة إبداعية: شعرية أو سردية خارج البلاد، ويكفي المؤلف أو المبدع أن يقول: طبع لي كتاب في (بيروت) أو في (المغرب)، وكأن دور النشر في بلادنا زامر حي لا يطرب.
وفي كل مكتبة أدخلها أسأل صاحبها عن أحدث الكتب في مختلف الفنون والمعارف، فيتبادر إلى ذهنه أنني (معارض سياسي)، وأنني أبحث عما يتناول سياسة بلادي ورجالاتها، ومن ثم يركم أمامي هذا النوع من الكتب المغثية، فلا اجد حرجاً من استعراضها، فإن وجدت فيها ما يفيد، اشتريت منها ما أريد. ورحم الله من تطوع بإهداء عيوبنا إلينا.. (ويأتيك بالأخبار من لم تزود).وإن لم أجد ما يفيد تركتها حيث هي، وفرغت لتصحيح مفهوم الكتبي عما تعدو إليه عيني. فأنا أبحث عن كتب الفكر والسياسة والمعاجم والموسوعات الحديثة ومذاهب النقد الأدبي الحديث: تنظيراً وتطبيقاً. ولست معنياً بمن معي أو ضدي في الفكر والسياسة والأدب، المهم أن أجد قدرة في التناول، وغزارة في المعرفة، ووعياً عميقاً للظواهر والمذاهب والتيارات وانضباطاً منهجياً. وآخر ما أفكر فيه أن يكون المؤلف معي، بل ربما لا يعنيني من هو معي. وقد تنشئ هذه الرغبة جدلاً بيني وبين صاحب المكتبة، بحيث يمضي مع الريح، حسبما يتوافر عنده من معلومات تعجل في تجميعها عما تهواه نفسي. وما كان لي أن أضيق ذرعاً بما يتشكل عنده من انطباعات، وما تستند عليها من أقوال، فما هي إلا ساعة، ثم لا أراه بعدها. ولربما يكون هواه قومياً أو علمانياً أو وجودياً أو إسلامياً، وقد لا يكون مسلماً. وأسوأ ما يكون عندي حين يحترف السياسة، ثم لا يكون مدده إلا ما تضخه القنوات الفضائية أو ما تتدفق به أنهر الصحف السيارة. مع حماسه وانفعاله، لا يدع المداراة التي قد تصل حد المداهنة، لكيلا يخسر صيداً ثميناً، تفوح رائحة النفط من بين إبطيه. وحكايتي مع المكتبات حكاية تطول، وتتشعب، وعندي أمل في تقصيها، ففيها بعض الفائدة، وكثير من المتع. ولقد تحدث الكتبيون عن همِّ الكتاب، فأمتعوا عشاقه.
تذكرت (المتنبي) ومن حوله يوم أن عدت إلى شرفة السكن في منتجع (بلودان) متأبطاً بما ظفرت به من كتب، هارباً بجسمي عما يفيض به ذلك المصيف الريفي الجميل من السواح الخليجيين، الذين لا يدعون لك فرصة التمتع بالمناظر ولا التسوق في المعارض؛ فالنساء والأطفال والشباب والشيوخ يسرحون ويمرحون جيئة وذهاباً، ومن ثم لا تجد بداً من الخلوة في تلك الشرفة المطلة على الأودية الخضراء والجبال الشاهقة، ومن حولك ما تود قراءته من كتب مثيرة. لقد ظفرت في أولى جولاتي بثلاثة كتب ل(القصيمي) هي:-
- العرب ظاهرة صوتية.
- هذي هي الأغلال.
- عاشق لعار التاريخ.
كان الأول قد فقد من مكتبتي، والآخران لم أحصل عليهما من قبل. قلت في نفسي: هذا هو الوقت المناسب لاعادة قراءة القصيمي، بعد انقطاع طال أمده، فلقد عرفته قبل أربعين سنة، وأنا يومئذ في (الكويت) كان ذلك في عام 1965م حين اشتريت أنا وأحد الزملاء كتاب (العالم ليس عقلاً) في طبعته الأولى، قبل أن يجزأ إلى ثلاثة كتب، على ما أذكر، وكانت تلك الطبعة قد صدرت قبل ذلك الوقت بثلاث سنوات، قرأناه بعد حل حبكه وتبادله أوراقاً مفرقة، وكلما فرغنا من قراءة ورقة، مزقناها، وألقيناها في اليم، ظنَّاً منَّا أننا بذلك نئد فكراً مناهضاً للإيمان. ومن بعد هذا نقبت في البلاد عن مؤلفاته، كلما ألقتني المناسبات أو المهمات في (بغداد) الرشيد، أو في (قاهرة) المعز، أو في (دمشق) الأمويين. ولم يند عني من كتبه إلا القليل، ولما قرأت كتابه (الكون يحاكم الإله) أحسست بأن الأمر بلغ دركه، وأنه لم يعد بالإمكان احتمال ما يقول. وإذا كان اليهود قد تجرؤوا على القول بأن:- (يد الله مغلولة)، فإن القصيمي قال ما هو أسوأ من هذا، غير أني لم أجد بداً من ترويض نفسي على قراءة المخالفين أو الاستماع إليهم، ما دامت نواصيهم بيد الله، وما داموا لا يعجزونه، وما دام انه لو شاء لهدى الناس جميعاً، وما دمت قادراً على منازلتهم، وكشف إلحادهم. وسلفي في ذلك (ابن تيمية) الذي جالد غلاة الفرق، وجدل المناطقة، وسفسطة الملاحدة، وخلَّف تراثاً لم يسلم من أغيلمة القنوات اللجوجين، وقنافذ الصحف الهداجين، ومواقع المعلومات والمنتديات المخجلة. والذين ينقمون على الغيورين على محارم الله الصادعين بما أمروا به، لا تحين منهم التفاتة واعية منصفة إلى المتجرئين على محارمه، المنتهكين لحدوده. وكأني بمثل هؤلاء يطلبون التخلي عن الثغور وإلقاء السلاح من طرف واحد. والمنصف من إذا أراد أن يفك الاشتباك، ويصلح ذات البين، أن يقف على مقولات كل الأطراف وأفعالهم، وأن يعرفهم بمقترفاتهم، وأن يحمَّل كل طرف جرائره. فالعدل والإنصاف يقتضيان سماع الدعوى والدفاع، والحَكم العدل مَنْ لا يحكم لطرف عند غياب الطرف الآخر. وما أكثر الذين يخدعهم معسول الكلام، فيظنون الاستسلام سلاماً، والضِّعة تواضعاً، والاتكال توكلاً، وما أكثر السذج ومثقفي السماع الذين يحسبون كل صيحة عليهم، حتى لقد طال الرعب ثوابتهم، فكان كل قول في الدين عندهم مؤشر تطرف وبداية إرهاب. ولو أتيح لدعاة الخنوع متابعة ما تطفح به كتب المتطرفين من علمانيين وطائفيين، لما وسعهم إلا أن يصدعوا بالحق، ويعرضوا عن الجاهلين. ومن الضعف والضعة القبول بالتعايش من طرف واحد، وذلك ما تريده دول الاستكبار وغطرسة القوة وشراذم التسلط. وإذا طلب منا الجنوح للسلام فإن شرطه أن يجنح الآخرون إليه، أما أن نترك للمتجرئين على المحارم حرية القول، ونعد ذلك من باب التسامح والوسطية، فذلك الخطأ بعينه، والتقصير نفسه.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 06:47 PM

تداعيات القراءات الدمشقية..! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


وفي ظل هذا العنت والصلف من الظلاميين والمارقين طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، وأعطيت الدنية في الدين، وكاد الواهنون المداهنون أن يخربوا عامر معارفهم بأيديهم. والمذعن للقلم وما يسطِّر، وللسلاح وما يدمِّر وفي إمكانه أن يفل الحديد، ويفند صلف العنيد لا ينفك من تجرع ذل العاجل وعذاب الآجل:
(واحتمال الأذى ورؤية جانيه.. غذاء تضوى به الأجسام)
لقد جمعتني هذه الخلوة في المصيف، بما أرفض من الأفكار، ومن أكره من المفكرين، وذكرتني ب(طه حسين) وب(القصيمي) وبآخرين جاؤوا من بعدهم، يكاد الوهن يشل حركتهم، ويكاد الاختلاس يبدو من بين سطورهم، ف(القصيمي) تحدث عن (المتنبي) حديثاً كأني أراه، وأسمعه، يخرج من أفواه أحياء يدبون على الأرض، يدَّعون أنهم أول من اكتشف عظمة المتنبي في الشاعرية وفي الاسترفاد، ولقد تمر بك جمل وعبارات، تحسب أنك قرأتها من قبل، فإذا تأملتها عرفت من أي المستنقعات هي. و(القصيمي) و(طه حسين) ينقمان على (المتنبي)، ولكل واحد منهما وجهة هو موليها، ولكنهما لم يستبقا الخيرات، وإن كان (طه حسين) أذكى من صاحبه وأقدر على استدعاء الأدلة والبراهين والخداع بالمراوغة الذكية، مستعيناً بطاقات اللغة التي مكن الله له فيها، فكان من ذوي الأساليب الفنية الأخاذة، فيما لم يكن بمقدور (القصيمي) المثري من اللغة إلا التكرار الممل.
وكم كنت حريصاً على استكمال ما ينقص مكتبتي من كتب لمؤلفين معينين أو من كتب تتعلق بقضايا وظواهر ومذاهب وأفكار لها حضورها الأكثر شغبا في كافة المشاهد، ومن ثم ظفرت بما ينقص مكتبتي من كتب الهالك (عبدالله القصيمي)، أو مما هو من باب التعويض عما خرج منها معاراً، ولم يعد، وما أكثر المستعيرين الذين لا يجدون بأساً بالمماطلة، ولا حرجاً من الإنكار، وللعلماء أقوال وأشعار تتعلق بإعارة الكتب، وهم معذورون، فاستنساخ الكتاب أو شراؤه يتطلب جهداً ومالاً لا قبل لهم باحتماله. ومع ما ظفرت به من كتب القصيمي، ظفرت بكتب أخرى في الفكر المعاصر، وهو فكر مضطرب مهدور الجهد في خدمة الغير. لقد تحسرت على مفكرين مهيئين لطرح نظريات عربية تتناغم مع حاجة أمتهم، ولا تجد حرجاً من استثمار المستجدات المنهجية والآلية ثم لا يفرغون لها، وكأن أفكار الغرب ومصطلحاته وسائر شؤونه قصيدة (عمرو بن كلثوم) التي ألهت بني تغلب عن كل مكرمة، والداء العضال الذي تعانيه طائفة من مفكرينا وأدبائنا جهلهم بتراثهم، وعدم تمكنهم من التأصيل لمعارفهم، والتعامل مع الآخر بندية، والتفاعل معه للإفادة والاستفادة. ولما كانت قراءاتي ل(القصيمي) استعادة وتذكراً، فلقد كنت أعرف مراميه وأهدافه وقدرته على التلاعب بالألفاظ، وتقصي المترادفات والجمل المتشابهة، حتى لكأنه ملم كل الإلمام ب(تحويلية) (نعوم تشومسكي) يقلب الجملة، حتى لا يدع تركيباً إلا استدعاه، ولا مرادفاً إلا ساقه. ولقد تقرأ الصفحات الطوال، ثم لا تخرج إلا بمعلومة واحدة، كل ما تحويه الإنكار أو التنكر، يشقق لها العبارات، ولا يشقق المعاني، وفرق كبير بين الإمكانيتين. ف(الجاحظ) يمتلك القدرتين: تشقيق العبارات، وتشقيق المعاني. فيما لا يستطيع (القصيمي) إلا تشقيق العبارات. فإذا تحدث عن أي قضية حام حول حماها، وكأنه مشدود الوثاق برقبته إلى شاخص يلف حوله، بحيث لا يبرح مكانه وإن ظلَّ يركض برجله، وكل ما يملكه الجرأة الوقحة على المقدس، يغرق في التشكيك، ويقطع في الإنكار، ويمعن في الهجاء والسخرية، وذلك لعمر الله أحط ما عرفت من الأخلاق، وأسْفَه ما رأيت من القول، وأسخف ما قرأت من الكتابة، ولست أعجب من شيء عجبي من عدم تمعر وجوه بعض المتابعين لكتاباته، التي لا يشفع لها عقل ولا نقل. وإذا الإيمان ضاع فلا عقل ولا عاطفة ولا إنسانية. وكيف يكون الإنسان بلا إيمان، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها. وأساطين المادية والإلحاد يؤمنون بالوجود المطلق، ولهم تصورهم عن بدء الوجود، و(الله) في نظرهم قوة مطلقة، وموته عند (نيتشه) لا يعني عدمه، وإنما يعني شيئاً آخر، فيما لا يؤمن القصيمي بشيء من ذلك البتة، ولا يحسن توجيه أقوال الفلاسفة، أو لا يريد أن يشغل نفسه بغير الرفض والتمرد والإنكار، والمتعقب لآراء الفلاسفة وعلماء الكلام حول تصور الوجود وموجده، يقف على آراء تحيل على العقل أو على النقل، وقد يمضي المعقول في ظل المنقول، وقد يفترقان، أو يتعارضان، حتى إذا عجز العقل عن التصور وازورَّ عن الإيمان، وقع في المحذور، لأن المرتهن في عالم الشهادة ليس بقادر على استيعاب عالم الغيب، ما لم يعضده الإيمان والتسليم. ولم يكن القصيمي معولاً على عقل ولا على نقل. وإذا كان في الفكر والفلسفة مهرجون، فهو رائدهم، ذلك أن المهرج يقول ويطيل القول، ثم لا يتوفر على دليل نقلي، ولا على برهان عقلي، ولا يحيل إلى نص محكم، ولا يستدعي تجربة علمية، ولا ملاحظة دقيقة على مجريات الأحداث، ومن ثم لا ينفك من اللجاجة الفارغة.
و(القصيمي) الذي يثير بآرائه الاشمئزاز والغثيان، يتولاه من لا خلاق له، ممن استحوذت لوثة المفاهيم على عقولهم. ومن تابع كتاباته التي انهمرت بعد كتابه الفاصل بين الحق والباطل (هذه هي الأغلال)، لا يجد تطوراً في فكره ولا تعقلاً في آرائه، وكيف يتأتى له التطور، وهو لا يملك إلا الرفض، ولك أن تقرأ ما قاله عن (الثوريين) في (عاشق لعار التاريخ) أو ما قاله عن (المتنبي) في (العرب ظاهرة صوتية) أو ما قاله عن خالقه في (الكون يحاكم الإله) لتجد أنه يتداول قاموساً واحداً من الشتائم، ولك أن تتحامل على نفسك وعلى أعصابك، وتقرأ أطرافاً مما قاله في كتابه (الكون يحاكم الإله) لترى أنه لا يفرق بين (الثوري) و(المتنبي) و(الإله). والذين يرصدون أطروحات العلماء والمفكرين يجدونها تحيل إلى النص أو إلى العقل أو تحيل إليهما معاً، ثم يجدونها متماسكة في الآراء والتصورات، محيلة إلى مصادر الحضارات ومرجعياتها. والقصيمي لا يحيل إلى شيء منهما، وتلك خليقة الهدامين الذين لا يوفرون علماً ولا ثقافة، ولا يزودون قارئهم بقاعدة، ولا أصل، ولا منهج. فمن أحال إلى (عالم الشهادة) وحسب، فتفكيره مادي وضعي، ولكنه يوفر معلومات تجريبية عن ظاهر الحياة الدنيا، ومن أحال إلى (عالم الغيب والشهادة) معاً، فهو مفكر إيماني (ميتافيزيقي)، ولكل من الطرفين مرجعيته التي يحيل إليها، ويتعاضد معها، وله منهجه وآليته التي يعرف بها. إذ لا طريق لعالم الغيب إلا الإيمان أولاً، ثم الوحي القطعي الدلالة والثبوت ثانياً، فليس طريق ذلك العلم التجريبي ولا الرصد والمشاهدة. وليست هناك طريق لعالم الشهادة إلا المتابعة والملاحظة والتجريب على حد:- (أنتم أدرى بأمور دنياكم). وما شق الغرب طريقه إلى السنن الكونية إلا بواسطة (المعامل) و(المختبرات) و(المراصد) و(جمع المعلومات) وتحليلها. فالكون له نظامه وسننه، ومن أدرك شيئاً منها سيطر عليه. وليس شرطاً أن يكون المفكر المؤمن بالغيب سالكاً طريق الرشاد، فالطوائف الإسلامية المنحرفة تؤمن بالغيب وبالرسالات، ولكنها تخطئ في التلقي والتأويل، وهي فيما توصلت إليه درجات أو دركات، يؤخذ من قولها ويترك، فتصوف السلوك يختلف عن تصوف الحلول ووحدة الوجود.
ول(القصيمي) إلمامات متعددة، فهو حين يتحدث عن (عالم الشهادة) يسلك طريق مفكري الرفض والتمرد، أما حين يتحدث عن (عالم الغيب) فإنما يسلك طريقاً آخر، قلَّ أن يكون له سلف فيه، وقوام طريقه التهكم والسخرية والإنكار والتساؤل الذي لا يرقب إجابة، فهو تساؤل مجازي. حتى الذين ينكرون (عالم الغيب) لا يمتد إنكارهم إلى الوجود المطلق، وإنما يقتصرون على إنكار الرسالات أو البعث أو غيرهما، معتمدين على الطاقة العقلية، ولهم حججهم العقلية التي يسوقونها دون تطاول. أما (القصيمي) فيعمد إلى الذم والمساءلة أو التطاول، واتهام كل الأطراف: المعبود والعابد والمبلغ. فلا هو شكوكي (ديكارتي) ولا حائر (معري) ولا متأول (باطني)، وإنما هو رافض هدام هجاء متمرد. ومع وضوح ضلاله فإنه عِشْق المتمردين. وهو بمجموع غثائياته يشكل معيناً تكدره دلاء الحداثويين وعشاق الإثارة والاستفزاز، يبيتون ليلهم يقرؤونه، حتى إذا تضلعوا من مائه الآسن، ودنسوا ثيابهم من مستنقعه المتعفن خرجوا إلى الناس بقول يعيش في ظلاله، ويعب من ضلاله. فكان ذلك الاختلاس سبيلاً إلى الحضور، ومغرياً لوسائل الإعلام والنشر لتخطفهم كي تقضي بهم وطر الدعاية والجذب. وما من متمرد على الدين أو متطاول على خالقه إلا وعلى (القصيمي) كفل من مقترفه، وما أكثر ما نقف على فلتات الألسن، وزلات الأقلام من كتبة لا يتوقع من مثلهم مثل ذلك. وبمحاولة التعرف على مصادرهم يتبين أن (القصيمي) وأضرابه هم القدوة السيئة، ولقد تولى الروائيون كبر ذلك، فكان أن شككوا بالثوابت، وترددوا في صدق اليقينيات، ودنسوا المقدس، وأنسنوا الإله، وأحالوا كل ذلك إلى حرية التعبير والتفكير.
وإشكالية المتسطحين الذين يعدون أنفسهم من المفكرين المؤسسين عدم التفريق بين الخطأ العارض للمفكر والانحراف الفكري في المبدأ، وبين من يقرأ القرآن ويفهم معانيه ومقاصده، ويقيم حروفه، ثم لا يقيم حدوده. ولقد سمعت من يقول عن (طه حسين)، وعن (القصيمي) إنهما يحفظان القرآن ويحفِّظانه لمن حولهما من الأولاد. والقضية ليست في المعرفة ولا في الحفظ، ولكنها في الفكر والمنهج، فالمستشرقون كتبوا عن القرآن وعلومه من قراءات وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه، وأسباب نزول وغيرها عن علم غزير ومتابعة دقيقة، وعرفوا عن لطائف التفسير، والإعجاز البياني والعلمي ما لم يتوفر عليه كثير من علماء المسلمين، ولكنهم فعلوا ذلك للتضليل والتشكيك. وإذا كان (القصيمي) هَّداماً فإن (طه حسين) غربي متفرنس، وفرق كبير بين الاثنين. ولأن (القصيمي) هدام قد طواه النسيان، فإنه لم يعد مطروحاً في المشاهد بمثل غيره من المنتمين. وأعداء الحضارة الإسلامية يستثمرون جهود (المنتمي) و(اللا منتمي) فالأول مبشر بحضارة الغرب، والثاني مخرج من حضارته، وأعداء الإسلام مستفيدون من الحالين، من اللاحق بهم، ومن الخارج على حضارته، والدوائر (الاستعمارية) و(الصهيونية) و(الماسونية) جادة في إذكاء الصراع العسكري والفكري بين أبناء الملة الواحدة، وها هي تجني ثمار مؤامراتها، فمن أشعل الحروب الأهلية والحدودية والطائفية أو باركها أو دعمها أو استغل حالات التوتر والارتياب؟ أليسوا هم الأعداء المتربصين الكامنين ؟!
وحين تقتضي المناسبات استدعاء مفكر عربي أو غربي فليس القصد الشماتة، وإنما القصد أخذ العبرة والاستفادة من الإخفاقات، فالخطأ يكون إيجابياً حين يحملك على التحرف للصواب، والعاقل من وُعِظَ بغيره، ودونه من وعظ بنفسه، وأسوأ الأحوال ألا يتعظ لا بنفسه ولا بغيره.
السؤال الأكثر إلحاحاً والأكثر تحدياً لكل المغمضين على تجاوزات القصيمي،ما الشخص الذي مجَّده القصيمي؟ وما القيم التي يتمسك بها؟ وما الحضارة التي أعجب بها؟ وما الايديولوجية التي ينتمي إليها؟ ولو صدقت (بروتوكولات صهيون) لكان القصيمي واحداً من معاولها.
إن مفكراً هذه خليقته لجدير بأن توزن الكلمات فيه وعنه، فالتعذير والتحذير مسؤوليتان، يحاسب عليهما الإنسان. وحين تصل الأمور إلى المصير لا يحسن الإغماض، ومن وجد فيه ما لم نجد، فليفض علينا مما عنده، فنحن طلاب الحق، وهو ضالتنا، وعليه ألا يحيل إلى القائلين عن القصيمي، وإنما عليه أن يحيل إلى أقوال القصيمي نفسه، ومن قرأ عن القصيمي، فهو تبع لمقروئه، أما الذين اجترحوا قراءته فأولئك الذين يخبرونه، ويعرفون منطوياته، وقليل ما هم، وكم هو الفرق بين أن تقرأ الشيء أو تقرأ عنه، تلك بعض التداعيات، وفي الذاكرة أشياء ترقب وقتها عن مفكرين ومبدعين لقيتهم عياناً أو عبر كتبهم ومن الخير للمشهد الفكري أن نعيد قراءتهم أملاً في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وما أردنا إلا التوفيق بين الأطراف وإصلاح الشأن العربي ما استطعنا .. وما التوفيق إلا بالله.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 06:48 PM

لولا اشتعال النار..!
د. حسن بن فهد الهويمل


الأمير سلطان بن سلمان يرحب صدره بقدر الفضاء الكوني الذي ذرعه في رحلته التاريخية التي ما زلنا نرقب ذكرياتها، وهو فيما أعلم ك(العود) الذي لا يعرف طيبه إلا حين تشعل النار فيه:
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
وأمام رحابة الصدر وكمون العَرْف اقترفت الإثارة والالحاح، وقلت ما بي، والسياحة في بلدي مغامرة محفوفة بالمخاطر والمغامرات، لأنها ممنعة بخطام القيم والأعراف والاستغناء.
لقد سعدت بالرد الموضوعي الهادئ الذي كتبه سموه الكريم على مقالي عن السياحة، وسعدت أكثر بدعوته الكريمة للاطلاع على منجزات الهيئة، وما كنت أشك في عملها ومشاريعها ولكنني عشت واقعاً ما كان لي أن أدعه يمر دون مساءلة وأي منشأةٍ يدعمها الكتاب لا تعد شيئاً، وأي منشأةٍ لا تأنس بتضارب الآراء واختلاط الأصوات حولها ليست ذات بالٍ و(عباس محمود العقاد) حين قدّم لكتابه (عبقرية علي) أشار إلى أن من بوادر العظمة والعبقرية أن يختلف الناس حول الشخصية وما اختلف أحد بمثل اختلاف المفكرين والسياسيين والدارسين حول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويكفي أن طائفة أحبته فعبدته وأخرى كرهته فقتلته، وهذا (المتنبي) شغل الناس منذ أن سقط قتيل شعره حتى هذه اللحظة، وويل للسياسي والفنان والمسؤول الذي لا يلتفت إليه الناس ولا تناله الأقلام، ولا تتأصل المذاهب ولا تتكرس إلا بفعل الخصوم، فليطمئن سموه على ما قيل، وما أشار إليه سموه من إنجازات ليست بحال اختلاف، ولكننا قوم نؤمن بمبدأ (خذ وطالب) ومع أنه لا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل فإنه لا مكان عندي لاجترار المنجز، وكيف لي أن اقنع بما تم واقترف جريرة التثبيط، فالذين يبادلون المسؤولين اتحاب الثناء يضعون العصي في عجلاتهم ورغم كل ما حصل فإنني أثمّن جهد الهيئة وأثق بما تنطوي عليه وأحمد للجهات العليا الحرص على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب كل ذلك أضمره، ولكنني أظل أطالب وألح في المطالبة وأوقد النار ليعرف طيب عرف العود،
والهيئة بكل ما استعرضه سموه من إنجازات في رده تظل مجالاً للأخذ والرد، والسائح هو الشاهد العدل وبخاصة من تتاح له فرصة التنقل من مكان لآخر، ولقد طفت هذا الصيف في ست دول عربية سائحاً أو في مهمات وخبرت حلو السياحة ومرها، وأحسب أن أمرّها من لا تتوفر فيه متطلبات السياحة، ولسنا بحاجة إلى استعراضها، وحين يكون في النفس حاجة فإن في سموه فطانة.
أقول قولي هذا وأنا على يقين من أن الهيئة وعلى رأسها سموه الكريم قادرة على تحقيق الشيء الكثير وهي قد حققت أشياء ولكنها دون المؤمل:
و(شبابٌ قُنّع لا خير فيهم
وبورك في الشباب الطامحينا)
تحية إكبار وتقدير لرجل قدّر النقد قدره وواجه التّساؤلات بموضوعية ورحابة صدر، وكم نحن بحاجة إلى مسؤولين يقتدون به بحيث لا يثورون ولا يغالطون ولا يناصبون النقاد العداء، وهل هناك أعز عندي من الدعوة الشخصية التي وجهها لي سموه لزيارة الهيئة والوقوف على منجزها إنها الأصالة والأخلاقيات، ومع هذا فلن تدرأ الطيبة لذعات النقد فيما نستقبل من أيام.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 06:48 PM

ذيل التداعيات الدمشقية..!
د. حسن بن فهد الهويمل


وتمتد التداعيات، تثيرها مشاهدات واعية، أو قراءات متقصية، أو أحاديث مجالس تؤزها الأحداث بكل أوجاعها. ومن حق أي متابع عبر أي مصدر من مصادر المعرفة أن يقول رأيه فيما يقرأ أو يسمع أو يشاهد، متى كان مقتدراً وذا فهم سليم. وتحفظنا على ذوي الأفهام الضحلة الذين يفسدون ولا يصلحون، ومع ذلك فلسنا عليهم بمسيطرين، وما نريد تهميشاً ولا إقصاءً، وما نقوله مسوغ في إزاء حقهم في التفكير والتعبير. ولولا تضارب الآراء لما انقدحت الحقيقة، ولقد ضاق المتنبي من ذوي الأفهام السقيمة، وأطلقها مثلاً يردده الناس:
(وكم من عائب قولاً صحيحاً .... وآفته من الفهم السقيم)
(ولكن تأخذ الآذان منه ذ ..... على قدر القريحة والعلوم)
وليست التجاوزات التي نضيق منها، ونضيق بها مرتهنة للفهم السقيم وحسب، ولكنها لون من التعنت والمجازفة وسبق الإصرار. يقترفها الخليون والمبتدئون وذوو المآرب وطلاب العاجلة، لا لشيء إلاّ للابتزاز أو للاستفزاز، وهو أسلوب المتعجلين للظهور أو النهمين للكسب، ولقد سئلت أكثر من مرة عمن يستعذبون الاستقطاب حول الذات، ويستمرئون اللجاجة والصخب، ويمارسون شد الانتباه بأيِّ أسلوب، ويتعمدون الحضور باجتراح القدح بالمتفق عليه من الأقوال والأفعال والأناسي، دونما حاجة قائمة أو استجابة ملحة، إلاّ ما هو معروف من كسب رخيص يتعجلون اجتناءه من كتب يؤلفونها أو مقالات يكتبونها لوسائل إعلامية تتقن لعبة الإثارة والاستقطاب. وليس بمستبعد أن يطرح البعض نفسه للتندُّر بثمن بخس، ولو خلت الحياة من هذه النوعيات لأُخذ الناس بجد صارم. ولقد سمى العرب مثل أولئك المضحكين بالحركات أو بالأقوال أو بالأزياء (أهل السماجات) ولسنا معهم في كل ما يذهبون إليه ولكننا نقدر رؤيتهم ونقبل بعض آرائهم والرجل السمج هو الذي يقترف شهرته عن طريق استفزاز الرأي العام، ويتعمد المخالفة لذاتها بلا برهان، ومع ذلك فإنه ليس بحصيف من يستسلم للخطأ اتقاء الرأي العام المتشكل على غير هدى، ومثله من يتعمد إثارته رغبة في الشهرة، وكم هو الفرق بين أدب السخرية وسماجة الأدب. والسخرية ظاهرة فنية، تقصّاها النقاد، وعرفت بها طائفة من الكُتّاب، وفي القرآن الكريم أسلوب ساخر، تقصاه الدارسون للإعجاز البياني.
وما كل من ثار عليه الرأي العام معدود من ذوي السماجات، وما كل من خفت روحه، ولطفت عبارته، ولذعت سخريته محسوب من أولئك المهرجين. ولو أخذنا بهذا المفهوم على إطلاقه، لكان أن عطَّلنا الاجتهاد والتجديد والإصلاح والتصحيح، وحلنا دون تعدد المذاهب والتيارات والإمتاع والمؤانسة، و(أدب السخرية) أدب يمتد مع الزمن، عرف به عمالقة الأدب في القديم والحديث، تجلّى ذلك في أدب (الجاحظ) وفي أدب (أبي حيان) في القديم، وتجلّى في أدب (المازني) و(مارون عبود) و(السعدني) وآخرين في الحاضر.
وفي المقابل نجد العلماء الجادين ذوي المواقف ك(العز بن عبدالسلام) و(ابن تيمية) ومن سمّاهم البعض متمردين لوجه الله. وتاريخ الفكر الإسلامي حافل بالعلماء والمفكرين الأفذاذ ممن نذروا أنفسهم لقضايا أمتهم، وكم تعرّض بعض العلماء والمفكرين للسجن أو المقاطعة بسبب آرائهم المخالفة للجمود والنمطية المتوارثة. وحكايات العامة في بغداد في القرن الرابع مضحكة مبكية فلقد لقي منها العلماء النصب، وقصة (الطبري) مشهورة حين أوصدوا عليه بابه وبنوه بالآجرّ. ومثل هؤلاء الأفذاذ من العلماء وإن اختلفنا مع بعضهم يختلفون عمن يتقن فن الدعاية والإعلان وتسويق الذات بمثل هذا الأسلوب غير الحضاري، بحيث يُكذَّب الصديقون. وتُنكر البراهين، وتُدنس المقدسات، وتنسف المسلمات. مع أن هذه الطائفة ليست على شيء من العلم، ولا على شيء من الهم، وليس الاجتهاد ولا الاختلاف الذي يتصف به أساطين العلم والفكر والأدب من هذا النوع، وليست السكونية ولا الأبوية ولا تهيب المغامرة المحسوبة مما يحمد. والذين تعقبوا المسلمات، وفندوا خطأها، وحملوا الكافة من الفاضل إلى الأفضل يعدون مجددين، وكم هو الفرق بين المجددين الذين بشّر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، والهدامين الذين يرفضون اليقينيات، وينهجون منهج الشك الديكارتي، والحرية المطلقة، والقلق المطلق. فما كنت لأعيب الاجتهاد من أهله وخاصته، ولا أمتعض من الاختلاف المعتبر، ولا أشفق من مواجهة المسلمات من عادات وتقاليد، ولكني ضد الخلط وفوضى الحواس. واستدعاء الثوابت واليقينيات والمسلمات والشخصيات باسم حرية التعبير والتفكير دخول في الفوضى. لقد كانت إلماماتي العجلى والمتأنية في كتابات (القصيمي) ومسترفديه مدعاة إلى استذكار عدد من المجازفين الذين لا يلوون على شيء مما يقولون، وما عندهم إلا الادعاء والتشبع والتجشؤ من فراغ. و(القصيمي) قدوة سيئة لهذه النوعية من الكتّاب. وجهابذة العلماء وكبار الشعراء وأساطين الفكر زاد لمن لا زاد له، وسلّم يرقى به القاعدون إلى سدة الأضواء، وسيظل العلماء الكبار والشعراء المفلقون مورداً لا تكدره الدلاء. واستدعاء (القصيمي) لشاعر ك (المتنبي) حلقة في هذه السلسلة الصدئة، غير أنه في هذا الاستدعاء يود ان يؤكد دعواه بأنّ (العرب ظاهرة صوتية)، وأنّ صوت المتنبي خير من يمثل هذه الظاهرة، غير أنه في غمرة الحقد نسي ما يريد تحقيقه، وذهبت به تخبيصاته إلى أمور أخرى، ليست من مقتضيات الحديث عن الظاهرة الصوتية. وتلك من أبرز سماته، فهو يخب ويضع في أمور ليست من متطلبات حديثه، وكثيراً ما يقع في التناقض، حتى لقد أدرك عليه المتقصون لفكره نقض الحجة في موضع والاحتجاج بها في موضع آخر، وذلك بعض ما أشار إليه صديقنا (أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري) في كتابه (لن تلحد) وكتيبه (ليلة في جاردن سيتي).
وإشكالية (القصيمي) أنه لا ينتمي إلى نحلة لها أشياعها وأتباعها، وهو بهذا يُعَدُّ من المتمردين لوجه الشيطان، ومن أصحاب مذهب (اللامنتمي). و(اللا انتماء) توصف بها إبداعات (نجيب محفوظ) وهو الذي مهّد له الطريق إلى (جائزة نوبل)، وهناك فرق بيِّن بين الاثنين، قد نعرض له حين نفرغ من الحقيقة (الدمشقية) و(الصنعانية) و(القاهرية)، والمتابع لفيوض (القصيمي) يجزم بأنه يخدم بهوسه واهتياجه وحقده خصوم الحضارات، فكل طائفة تتأذى منه في جانب، وتستفيد منه في جانب، فهو كجناحي الذباب، أحدهما داء والآخر دواء. وحين تقرؤه كوحدة دلالية، يتبين لك أنه يريد الخروج من كل شيء، والتصدي لكل شيء، وذلك سر نبذ الناس له، وسر حقده على الناس. ولقد مر في حياته الفكرية بثلاث مراحل في غاية التناقض، مرحلة (السلفية) ومرحلة (الليبرالية) ومرحلة (التمرد)، وهو عنيف في كل مراحله، فالذي يقرأ كتبه السلفية يدرك حدته وعنفوانه، تجد ذلك في (البروق النجدية) و(الثورة الوهابية) و(الإسلام والوثنية) وغيرها.
و(المتنبي) مضمار لزز تجري فيه الخيل الكرام وغير الكرام، وكل من أراد تجريب آلياته ومناهجه تخطى إلى مضاميره، لأن عالمه حافل بكل الاحتمالات، والاشتغال به على أيِّ شكل سبيل من سبل الحضور، غير أنّ الإطلاقات المعممة لا تغني ولا تقني. وقد يتقن البعض (البهلوة) فيجمع بين السيئتين:- الجهل والتعميم، وقد تتعمد وسائل الإعلام الإثارة للجذب والاستقطاب، ولا يهمها بعد هذا في أي واد هلكت القيم والمثمنات. على أن قضايا الفكر والدين والسياسة والأدب لا يجوز أن تكون سلماً للاشتهار. وجرجرتها عبر وسائل الإعلام ووسائط النشر إخلال بالبنية الفكرية للأمة، وتزييف لوعي الذين لا تعدو نظراتهم إلى تليد الفكر وطريفه. والمتابع لفيوض الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد ينتابه الخوف من الخائضين في آيات الله دون علم. ولست أشك في أن مئات من المتحدثين عن العمالقة لا يريدون من وراء ذلك إلاّ أن يكون لهم ولو مفحص قطاة في مشاهد الفكر والأدب، وما عرف أولئك أنهم يبدون سوآتهم ويحرقون سمعتهم ويربكون الرأي العام ويحفزونه على الاحتقان دونما أي جدوى، والذين يخبرون العمالقة يعرفون مقاصد المتعالمين من المتعاملين، و(المتنبي) عرف ما هو عليه، وعرف أنّ ما ترك وراءه من شعر سيكون مجالاً للأخذ والرد، ولهذا قال:-
(أنام ملء جفوني عن شواردها .. ويسهر الخلق جراها ويختصموا)
ومع إعجابي به وبشعره إلاّ أنه يظل مشروعاً لكل رؤية، ومجالاً لكل دارس، وهو كما الكلأ يشترك الناس فيه، وليس من حق أحد أن يحتكره، ولا أن يذود الناس عن مراتعه، غير أن تعامل (القصيمي) ومن عول عليه واستلهم ضغائنه من (الحداثويين) أو من (شعراء) أمعنوا في هجائه أو من (كتّاب) أمعنوا في ازدرائه، لا يعد من ذلك النوع المضيف، فهو حشد من الأحكام المناقضة للواقع، وحشد من الكلمات البذيئة الساقطة التي لا يتداولها إلا السوقة، فالعلم له آدابه، والعلماء لهم ضوابطهم، والمسألة واضحة المعالم. وليس من المزعج ولا المخيف أن يكون (المتنبي) مادة حديث مرتجل، ولكن الجرأة تجاوزت (المتنبي) إلى غيره من القضايا والأناسي، وهي قضايا تُعَدُّ من الثوابت، و(المتنبي) مظنة القول ونقيضه، لأنه خلف شعراً له وعليه، يجد فيه المادح ما يبرر مدحه، ويجد فيه القادح ما يبرر مآخذه، ولكن في حدود المعقول. ومآخذنا على الذين ينفونه من كل المشاهد، وهم كثيرون، ولقد كانت لي جلسات حديث ممتع في (صنعاء) مع لفيف من المعجبين والناقمين، وتبين لي أن (المتنبي) شاغل الناس إلى يوم الدين. ومن تتاح له قراءة ما قاله (القصيمي) ومن تطفل على نفاياته، لا يمكن أن يسلّم لأحد منهم، ولا أن يجد مبرراً لما يقولون، و(المتنبي) لم يثبت أقدامه في مشاهد الأدب إلا الخصوم، ولكنهم خصوم شرفاء، حاولوا التماس إخفاقاته، وهي كثيرة، ولم يفتروا الكذب، ولم يكتفوا بالهجاء المقذع والسب المقيت، والمثير للناقمين ذلك الشيوع والحضور، فكل متحدث عن أي قضية لا يحلو حديثه حتى يستدعي بيتاً للمتنبي، يُجْمل فيه رويته، ويُجَمِّل فيه حديثه. فهو مصدر (الإجمال) و(التجميل)، وخصوم المتنبي يغمرهم طوفانه، وإن أووا إلى جبل الكراهية، ليعصمهم من الحضور الملح والشيوع والسيرورة، وظاهرة الحضور ضاق بها ذرعاً معاصروه، حتى لقد نسوا ما هم فيه من حزن المصاب، واغتموا من شيوع شعره ووروده على كل لسان.
للحديث صلة

عباس محمود العقاد 24-11-2006 06:49 PM

يوم لا كالأيام..!
د. حسن بن فهد الهويمل


لست مع الصامتين، ولا مع الذين يقتصرون في مشاركتهم بالمناسبات الوطنية على التمجيد والثناء، وإن كان لوناً من ألوان الوفاء، و(اليوم الوطني) يمر بنا كل عام، وقد لا نتذكره إلا من خلال وسائل الإعلام، والناس في بلادي لم يتعودوا على لغة الشعارات وهتافات الانقلابات، وإن كان حقاً عليهم أن يلهجوا بالثناء والدعاء لمن أنجز لهم هذا الكيان السياسي وأحكم صنعه.
وإذا كانت الخطابات الثورية تحلم بوحدة شاملة وتَعِد بها ويدعيها من لا يفتأ يفرق شمل أهله فإن الملك عبدالعزيز قد أنجز وحدة ماثلة للعيان دون أن يسبق ذلك بقول، وكأني به يردد: (ماترون لا ما تسمعون) لقد أنجز وحدة إقليمية وفكرية يَتَقرَّاها القاصي والداني.
ولو أن أبناءنا الذين ولدوا في أحضانها ولم يشهدوا مخاضاتها المؤلمة عرفوا أحوال أمتهم يوم أن كان الملك عبدالعزيز شاباً يتوقد ذكاء وحماساً في ملجئه في الكويت، ويوم أن عاد خالي الوفاض إلا من مشروعية فعله وحسن سمعته لكان لهذا اليوم طعم ونكهة لا يماثلهما شيء، لقد قضى ثلاثة عقود في معركة البناء يمده الناس بالسلاح والمقاتلين ويلتفون من حوله لأنه جاء على قدر، ولما ان لملم أطراف البلاد ووحد كلمة الأمة خلع لامة الحرب ولبس بردة البناء، فكان اليوم الوطني هو اليوم الفاصل بين معركة التكوين ومعركة البناء ويوم يفرغ فيه الملك عبدالعزيز ورجاله من مهمة شاقة ويتحرفون لمهمة أشق جدير بأن يقف الناس جميعاً لينظروا كيف أنجز هذا الكيان وما مراحل إنجازه، إنه يوم حقيق بالتذكر الإيجابي، ولن تتأتى الإيجابية إلا حين نسأل أنفسنا: ماذا صنعنا لهذا الوطن؟ وهل فرغنا لرد الجميل؟ لقد ظل وظننا يعطي ويعطي ونحن نرفل بحلل الأمن والرخاء.
وها هي الذكرى السعيدة تمر بنا والوطن يتعرض لاختراقات مؤذية بالسلاح والكلام، وكأن لسان حال البعض منا يقول لرجل الأمن ولحملة الأقلام الشرفاء: اذهبوا أنتم وحدكم وقاتلوا إننا ها هنا قاعدون.
أحسب أن هذا اليوم الاستثنائي يمر بظروف استثنائية ومن ثم فهو بحاجة إلى قراءة متأنية لتاريخ البلاد في أمسها يوم أن كان لا جيش ولا عتاد بل كانت عزمات مخلصة صادقة وإلى قراءة حذرة للأوضاع المحدقة بالأمة، والخروج بموقف موحَّد نضع فيه أيدينا مع بعضها. ينطلق الأستاذ إلى قاعته والعالم إلى منبره والإعلامي إلى محطته والصحفي إلى صحيفته والمفكر إلى صومعته لنقول كلمة واحدة: (العقيدة والوطن) منهما ننطلق وإليهما نعود لا نزايد ولا نقامر فهما وجهان لعملة واحدة فمن نال من أحدهما فقد نال من الآخر، وإذا كان آباؤنا قد وفوا للقائد الباني وأنجزوا معه هذا الكيان العظيم فلا أقل من أن نفي لقادتنا لنجتاز هذا المنعطف الخطير بأقل الخسائر وأيسر التكاليف وكل عام وأمة الإسلام بخير.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 06:49 PM

المثقف بين الحقوق والواجبات..! 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل


كلما أوغلت الأمم في الماديات، وحقق علماؤها مزيداً من الاكتشافات في الآفاق وفي الأنفس، أعاد علماء (المعارف النظرية) قراءة مسلّماتهم. وثورة المعلومات والاتصالات هزت يقينيات كثيرة، وغيّرت ترتيب الأولويات، وشفَّت عن معميات بطأ بها اختلاف المفاهيم واختلاط الأصوات. وإذا كانت المرجعية مترددة في مشروعية التفاعل المنضبط مع المستجد، كان احتمال تجاوزها ممكناً. والمؤسسة الدينية بوصفها المهيمنة إن لم تتمكن من تجديد مناهجها وآلياتها ومجال تناولها، أصبح من الصعوبة بمكان احتمالها لمواجهة المستجدات المتلاحقة. ولأن القرآن الكريم من عند الله، ومبلّغه لا ينطق عن الهوى، والكون كله خلق الله، فإن محكم التنزيل وصحيح السنة قادران على استيعاب النوازل. وما يتبادر إلى الأذهان من تفاوت فإنما مرده إلى عجز المتلقي، أو إلى خطأ التأويل. فالنوازل تتطلب مبادرة وقدرة، لاستنباط حكمها من النص الذي يحتمل أكثر من تأويل، ويستجيب لأكثر من نازلة، ويتسع لأكثر من رأي، وطبعي أن تجعل الثورة المتعددة المثيرات وضع المثقف معقّداً ومهمته عصيّة. ومهما حاول ترويض نفسه، وتطويع واقعه فإن الأمر جد عصي.
وكيف لا يكون وضعه عسيراً، وهو يعيش وسط متغيرات: اجتماعية واقتصادية وسياسية، ويعايش ثورة معلوماتية، ويغالب مذاهب وتيارات فكرية ودينية ذات مناهج متعددة، ومقاصد متنوعة، وتتنازعه (ايديولوجيات) متناقضة، الأمر الذي ضاعف مسؤولياته، وعقّد أوضاعه، ومما يصعّد إشكاليته أن الوضع المعاش وضع مضطرب، تسوده القوة، وتقمعه الغطرسة، ويثنيه عن عزماته الاستبداد، ويقعد به تسلط القوي على الضعيف من الأناسي والدول. حتى لقد لجت تلك الكوابح في عتو ونفور، لتضعه على مفترق طرق، بحيث لا يعْرف معها أين المفر. فيما لا تزال بعض الرؤى المستشرفة للمستقبل متعثرة بعقدة الأبوية وألوهية الهوى وذهاب كل معجب بما يرى. وفي ظل هذه الظروف فهي أحوج ما تكون إلى مطابخ مؤسساتية بما تملكه من مجسات ومسابير واستشارة واستخارة لكي تهدئ الروع، وتبعث الثقة، وتحْسم الفرقة، وتقر في الأذهان صائب الآراء وصحيح المفاهيم. وفي ظل هذا الواقع المأزوم نسلت مذاهب وتيارات، ونجمت على إثرها صحوة عقلية واعية، حفزت المؤسسة السياسية إلى التحرف الصادق لمواءمة المستجد. ولما كان المثقف أول الفاعلين، وأسرع المتأثرين، وأشد المأزومين بهذه التحولات: العلمية والسياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية والثقافية، فإن مسؤوليته تزداد اتساعاً وتعقيداً، ورؤيته تشتد اضطراباً وتردداً، وليس من السهل القول في الحقوق والواجبات، دون سبر الأغوار ورصد الآفاق.
والحقوق والواجبات في ظل هذه المتغيرات تتبدل ويتبدل معها تراتب الأولويات. والقول فيها لا تتحقق معه الجدوى بالاستدعاء المجرد، بل لابد من إرجاع البصر والبصيرة في التليد والطريف، إذ لكل زمان خطابه. وما أضاع الفرص إلا الثبوتية والتكرار. ومع مشروعية القول في عموميات القضايا وكلياتها فإن المواءمة دأب العالمين ببواطن الأمور. ولا مراء في أن حفظ التوازن أولى خطوات التخطي. وما استعصى على قوم منال إذا أسسوا بنيانهم على القيم الحضارية اليقينية الثابتة، ووطؤوا لذلك بتحديد المطلوب، وتحرير المفهوم، والخلوص من غبش التصور واضطراب الرؤى. وما أوهى اللقاءات الحوارية إلا ذهاب كل متحدث بما يرى، دون إفساح المجال للآخرين. وأحسب أن النفي والمصادرة والتهميش وواحدية الخطاب لا يتسع لها عصر المؤسسات والمجتمع المدني.
والتعايش الواعي مع المستجدات: محلياً، وعربياً، وإسلامياً، وعالمياً، يكشف عن مسلّمات وثوابت ليست على شيء من المشروعية، ومع ذلك فإن المساس بها مدعاة لإثارة (الرأي العام) الذي تشكّل عفوياً على هذه القناعات، ولم يعد بالإمكان ممارسة التصحيح والإصلاح دون تحرّف حذر، يعتمد الحلم والأناة وطول النفس والتحول المرحلي.
ومن حق (الرأي العام) الذي تشكّل في ظل ظروف غير سوية، ألا يواجه بالحقائق عارية من المداراة والاتقاء واللين والتراخي. ولقد أشار الذكر الحكيم إلى نتائج اللين {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، فسواء غفل المثقف عن (الرأي العام) في مراحل التشكل، أو أسهم في تشكيله الخاطئ فإن على النخب المثقفة بوصفهم دعاة مصلحين كفلاً من المسؤولية. وتنصل الخطاب السياسي أو الديني أو الثقافي من المسؤولية مؤذن بتسلل خطاب متربص، ينساب كالخدر، ليعمّق المأساة، ويعقّد الحل. و(الرأي العام) حقيقة ماثلة في كل المجتمعات: المدنية والبدائية. وإذ تكون كينونته تطورية، وليست انبثاقية، فإن مسؤولية المتحكمين في شأنه ألا يتصوروه إناء يفيض بالرؤى، وأن بالإمكان إفراغه الفوري من محتواه وملأه بالمراد. إن الجهد والوقت اللذين استغرقهما (الرأي العام) في تشكّله وأخذ وضعه مساويان للجهد والوقت اللذين يتطلبهما المصلحون لتحويل مساره، وتغيير تصوره، وتحديد مواقفه من الأشياء حين يتعلق الأمر بالمتغيرات السياسية بوصفها لحظية، مصلحية، وليست موقفية. حتى لقد عرّفها البعض بأنها:-(فن الممكن) تكون مفاجآتها التحولية عقبة دون الاستيعاب والاستجابة الطوعية. وقدر المثقف المأزوم اختلاط الأصوات السياسية والفكرية والدينية والإسراف في (الأدلجة) والتسيس لكل المشاهد.
وحين نحاول استبيان (حقوق المثقف) و(دوره في التنمية) في ظل هذه الظروف، يجب أن ننظر أولاً إلى الحيز الأدائي الذي يشغله إلى جانب المؤثرات الأخرى المسهمة معه في تشكيل الوعي الجماهيري، كالمؤسسات: التربوية والإعلامية والدينية والمعلوماتية، بوصفها شخصيات اعتبارية متشكلة من منظومة بشرية متخصصة، تتوفر على قسط كبير من الثقافة، ومن لم يحسب لثورة المعلومات والاتصالات ما يليق بها أدركه الغرق في طوفانها.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، ونحن بصدد القول في (الحقوق) و(الواجبات) بوصف الدور المؤمل من المثقف في التنمية عين (الواجبات): مَن المثقف؟ ومَن الذي يملك تحديد الحقوق وتفعيلها وحمايتها؟ ما نوع التنمية التي يمكن أن يسهم المثقف في تفعيلها؟ أهي خطط التنمية المتداولة؟ أم هي تنمية معنوية، تتحقق معها ثقافة المجتمع المدني المتجه صوب التشكل المؤسساتي؟ وفي ظني أن إثارة التساؤل لتحفيز الانتباه غير كافية، بل لابد من التحديد والتحرير والتأصيل. تحديد المجال، وتحرير القضية، وتأصيل المعرفة. ولو مضينا في تقصي ذلك، لخضنا في بحر لجي من الاختلافات. ويكفي أن نشير إلى أن (الثقافة) مصطلح لم يعد جامعاً مانعاً، فما توصّل أحد بعد إلى تحديد مفهومه. وما أكثر المصطلحات السهلة الممتنعة، التي لا تبرح المعهودات الذهنية، يتصورها المهتم، ولا يقدر على تحديدها أو تفسيرها، وإن فعل فإنه كمن فسّر الماء بعد الجهد بالماء، ويأتي على شاكلة (الثقافة) (الحب) و(السعادة) و(الجمال) و(الشعر). واضطراب المفاهيم لا يشكل عقبة في طريق المستدعين لمثل هذه المصطلحات. وليس مهماً التوصل إلى مفهوم دقيق محدد مادام أن المعهود الذهني كافٍ للإجابة على الأسئلة الأولية.
ومصطلحات (الحقوق) سواء كانت مضافة إلى (الإنسان) أو إلى (المرأة) أو إلى (المثقف) أو إلى (العمال) أصبحت لوثة ألسنة ومزلق أقلام. ولقد وسعت المجتمعات المدنية منظمات ومؤسسات وروابط ونقابات، تدافع عن حقوق الإنسان والحيوان. ولم تكن (حقوق المثقف) صارخة ولا فاقعة اللون كما هي في (حقوق الإنسان) و(حقوق المرأة) على سبيل المثال. وليس هناك ما يمنع من التفكير الجاد بالحقوق مضافة إلى أي فئة، فهي من متطلبات (المجتمع المدني) وليس بالإمكان التشكل المجتمعي بمعزل عن العالم، ولاسيما أنه بسبب المكتشفات وتطور (التقنية) أصبح قرية صغيرة متفاعلة. وخيارات التجانس والتعايش والتعاذر خيارات صعبة، لا تقل صعوبتها عن خيار التدابر والتنازع والتدافع والأثرة. إذ كل فعل له رد فعل مساو. وقانون التحول المجتمعي نافذ، شئنا أم أبينا، وأولى لنا أن نستشرف المستقبل، وأن نحدد الحقوق والواجبات لقادة الفكر وزعماء الإصلاح ورواد النهضة، مثلما نحددها للنساء والعمال والحيوانات، وما لم نستطع استبانة الطرق، تفرقت بنا بنياتها.
ومن الخير لنا أن نعي المراحل الحساسة، مراحل التحول الحتمي، فإذا تمنعنا عن الاستجابة أو ترددنا معتمدين على عقدة الأبوية فاتنا الركب. وإذا ترددنا معتمدين على اضطراب المفاهيم حول الثوابت والمتغيرات وحجم اليقينيات والقطعيات وقعنا في إشكالية التنازع. وإذا سهل انقيادنا للآخر الأقوى في مادياته وراهنه، ولم ننظر إلى مواقع إقدامنا دخلنا مرحلة المسخ والاضمحلال. إذاً فالمعادلة صعبة، والإقدام والإحجام يقتسمان الخطورة والأهمية. والرأي السديد لا يعتمد الثنائية الصارمة في مجالات الفكر، بحيث لا تكون هناك مناطق وسط. وعلى ضوء ذلك فليس هناك إقدام محمود على إطلاقه، ولا إحجام مذموم على إطلاقه، وإذ تكون هناك قطعية: ثبوتية ودلالية، تكون هناك ثوابت ويقينيات. والقواصم في تضارب المفاهيم حول الثوابت والمتغيرات، وقدرنا الحميد أن لنا حضارتنا بكل سموقها ونديتها وتأثيرها على سائر الحضارات وإرثها لكل ما سبق منها، وتجاربها الناجحة على كل المستويات. وفي ظل هذا القدر المقدور، فإن استقبال الآخر دون شعور بأحقية الكينونة المتميزة يعني الذوبان، وليس من لوازم ذلك إقصاء الآخر، أو الاستغناء عنه. ولو فعلنا ذلك لوقعنا بما وقع فيه (اليهود) من دعوى نقاء (العنصر) و(المعتقد)، وفي ذلك إخلال بمتطلبات (عالمية الإسلام) ومرونته وتفاعله.
ولأن المثقف يمثل شريحة متميزة وقليلة في المجتمع - أي مجتمع - كان لابد من مقاربة مفهوم (الثقافة) و(المثقف) وتبيّن دوره في الحياة كافة، وفي التنمية على وجه الخصوص، ولاسيما في زمن الخلطة الفكرية والتواصل الجبري عبر القنوات ومراكز المعلومات. والحقوق أي حقوق تكون عامة للإنسان بسبب آدميته، وللمسلم بسبب إسلاميته، وللمواطن بسبب مواطنته، وللمثقف بسبب ثقافته. و(حقوق المثقف) مجال الحديث هي تلك الحقوق التي لا يشاركه فيها غيره. فحق الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والأمن حقوق مشتركة لكل مواطن، وليست للمثقف وحده. وتكريم الإنسان، وتمكينه من تحقيق الخلافة في الأرض حق مشترك للمثقف ولغيره من الأناسي.
إذاً فالحقوق التي ينفرد بها (المثقف) دون غيره من شرائح المجتمع سواء استحقوها بالإنسانية أو بالإسلامية أو بالمواطنة أو بالفئوية أو بالنوعية تحتاج إلى تحديد وتوصيف. وكم نسمع ب(حقوق المرأة) وهذه حقوق نوعية، ونسمع ب(حقوق العمال) وهذه حقوق فئوية، ونسمع ب(حق المسلم) على المسلم وحق الجار وذوي الرحم، وتلك حقوق إضافية. وهناك حقوق وضعية عارضة ك(حقوق المسافر) و(المعوَّق)، وحقوق أخلاقية ك(حق الطريق). ولن نمضي في استقصاء أنواع الحقوق إلا بقدر ما يساعدنا على تحرر مصطلحاتنا ذات العلاقة.
ولعل أولى هذه الحقوق (الحرية) وهي وإن كانت حقاً عاماً إلا أنها ذات خصوصية في جانب المثقف. فالمثقف يحتاج إلى لون خاص من ألوان الحرية، لأنه يعالج الأفكار والآراء والتصورات، ويبدي رأيه في الثوابت والمتغيرات على كل الصعد، يفعل ذلك لأنه يرى أن مسؤوليته في أن يرسم للأمة طريق الخلاص، وهو بسبب ممارسته القولية واقع تحت طائلة سلطات متعددة: سلطة الدين، وسلطة المجتمع، وسلطة الدولة، ولكل سلطة حقها في مساءلة المثقف حين يواجه القضايا العامة أو الخاصة، وليس هناك أصعب من تحديد الحرية تحت طائلة السلطات الثلاث. وكثير من المثقفين يطلقون لأقلامهم وألسنتهم العنان، ويصرون على أن من حقهم أن يقولوا ما يشاؤون، متى شاؤوا، وفي أي قضية تعن لهم. وقليل منهم من يفهم الحرية على وجهها، ويتصور المجال بكل أبعاده وحدوده. وللمفكرين آراء متضاربة حول (مفهوم الحرية) ومقتضياته ومجالاته. ومن الخير للمثقف المسلم أن ينطلق من المفهوم الإسلامي للحرية، ذلك أن بعض الرؤى الغربية ترى أن سلوك الفرد حيال الآخر محكوم بالقانون الوضعي المتفق عليه، فيما يكون سلوكه حيال ذاته مطلقاً لا يحكمه قانون، ولا تحده قيم، ولا تضبطه أعراف، والرؤية الإسلامية لا ترى ما يراه الغرب. ولكل حضارة رؤيتها، ولا مشاحة مع الاصطلاح، وإذا كانت الطرق كلها تؤدي إلى المراد، فليس هناك ما يمنع من تعددها واحترام هذا التعدد.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 06:50 PM

المثقف بين الحقوق والواجبات..!! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


ولما كان المثقف يشترك مع غيره من الأناسي بحق (الحرية) العامة، كان له مجال ينفرد به، وهو (حرية التعبير)، وإشكالية هذا الحق تضارب الآراء حول إمدائها ومجالاتها وحدودها. فالمثقف حين يتناول القضايا والظواهر والمذاهب بالكتابة أو بالخطابة، أو حين يبدي صفحته، ويشيع فحشه، أو حين يمس المقدس، ويهز اليقين ينازع المالكين لحق الأطر حقوقهم باسم الحرية دون استذكار ما للكافة من حسيات ومعنويات من حواضن ومرجعيات وأنساق وسياقات. بمعنى أنّ الحرية مخاض حضارة لا تدعها غير منضبطة، ولا غير مصطبغة. وكل مثقف فهم الحرية على غير مراد حضارة الانتماء يخل بمقتضيات (العقد الديني) المقابل ل(العقد الاجتماعي) كما هو عند (جان جاك رسُّو). إذ كل مجتمع له قوانينه، وهي في بداياتها مواضعات عفوية وأعراف توارثية، سلَّمت لها العقلية الجمعية، ثم أصبحت شرطا للكينونة، ومؤشراً لوجود الحرية. ومهمة المثقف تشخيص المواضعات والأعراف والتمهيد للتغيير بالتوعية لا بالتسلط. والحياة السوية تقوم على نظامين: حسي ومعنوي. ف(الحسي) ثبوتي، عبّر عنه الوحي بالسنن الكونية التي لا تتبدل ولا تتحول، وهو نظام الكون الذي استمد منه العلم قوانينه ومكتشفاته، ومحاولات اختراقها بأيِّ تصرف إخلال خطير بنظام الكون، لا يغير السنن، ولكنه يسيء التعامل معها، ولهذا جيء ب(أخلاقيات الطب) وضوابط (التلوث البيئي) فالنار والماء والطاقة نعم تتحول إلى نقم، إما بالتدبير الإلهي أو بالخطأ التعاملي. أما (المعنوي) فهو إما ثبوتي أو تحولي، واكب بدايات التجمع الإنساني.ومصدريته إما: تشريع وضعي أو تكليف رباني. ولن نمضي مع التفاصيل الدقيقة لحراك التشكل ومراحل التحول، وحق الإنسان في التدخل. ومن إشكاليات الحرية على مختلف مستوياتها ومرجعياتها، اختلاف الناس حول (المفهوم) و(المقتضى) و(المجال) و(الثابت) و(المتغير) و(حق الإنسان فيها): تشكلاً وتمثلاً.
والإغراق في التفاصيل الدقيقة للحرية وحق التدخل في الأنظمة وحدودها يفضي بنا إلى متاهات الجدل السوفسطائي. والحرية في ظل كل المفاهيم حق مشروع لكل الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً، ولا بد من كفالتها وحمايتها. و(الحرية) و(التسلط) و(الاستبداد) و(السلطة) المشروعة قيم سلوكية، تستوي بما تحتاجه من جهود وإجراءات ودعم. وفي الحديث: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) فهناك (غدو) يرمز إلى الجهد، ومصيره إلى النجاة أو الهلاك، وهناك (عتق) وهو الحرية. ومثلما يُستعبد الإنسان من إنسان مثله، يُستعبد كذلك من قيم فكرية أو سلوكية. وليس هناك أخطر من تأليه الهوى، وفي القرآن الكريم {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} فلا حرية مع الأهواء، ولا توازن مع العواطف، ولا سلامة مع العنف. والمجتمع السوي من يحمي الحرية وييسرها للتمتع. والمهم أن تكون الأمة واعية تحسن استعمال الأشياء وفق مقتضياتها. وإذا قلنا بحق (الحرية التعبيرية) للمثقف وكفالتها، فإننا لا ننفك من النسق والسياق. فما النسق الثقافي والديني والاجتماعي والسياسي للمتمتع بحرية التعبير والتفكير؟. إن المتعقب للرؤى والتصورات يُرِيانه أن مفهوم الحرية أصبح إشكالية، تَضَخَّم معها التنظير، وضاق حيز الممارسة. والناس قد يتمتعون بقسط لا بأس به من الحرية، ولكنهم لا يشعرون بذلك، لأن عيونهم تعدو إلى حريات أوسع تقترب من هاوية الفوضوية، وهذا التفاوت يعد إشكالية أخرى، لم يحسمها المغرمون بالتنظير. وأسوأ شيء في المفاهيم الخلط بين حرية السلوك وحرية الفكر وحرية التعبير.
وأحسب أن كفالة الحرية لكل من هب ودب وقوع في العبودية، فكل شيء تجاوز حده ينقلب إلى ضده، وإظهار الدين يقوم على مبدأ الأطر على الحق والإذعان للسلطة الشرعية، ومن مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية، والمسلم مطالب بالمصير إلى جماعة المسلمين.
وليست الحرية أن يمكن المثقف من التعبير عن وجهة نظرة وحسب، وإنما هي في تحديد المجال ودرء الضرر اللاحق به من (الرأي العام) حين يعبر عن وجهة نظره، وتوفير الأجواء الملائمة للتفكير والتعبير، والعمل على تثمين جهده الفكري، وتعويضه عنه متى شحت موارده. فإذا كان للجهد العضلي ثمن، فإن الجهد الفكري أولى به، وإذا كنا نتيح للمثقف أن يقول، ثم لا ندرأ عنه ما يناله من الآخر، لا نكون وفيناه حقه، وحق الحرية الشمولي يفضي بنا إلى حق آخر لا تكتمل الحرية إلا به، ذلكم هو ضمان العيش الكريم للمثقف، وإذا كانت حرفة الأدب طريقا للعوز فإن من حق المثقف أن يتوفر على مستوى معيشي مناسب، لا يكون به طاعما كاسياً، يمنُّ عليه غيره. فرب عيش أخف منه الحمام. ولن يتوفر العيش الكريم حتى تحفظ حقوقه الفكرية، وتكون بمنزلة غيرها من الجهود، ف(الرياضي) أو (المغني) و(الممثل) تتخطفهم وسائل الإعلام، ويتلقون أثمانا باهظة لجهودهم، بينما يظل المثقف يعطي ولا يأخذ، وهو فيما يقول عرضة للاتهام والمساءلة. ولكي يحصل المثقف على حقه، لا بد أن تتشبع ذهنيات المجتمع بالقيم الحضارية، لترى قيمة للكلمة: فكراً وإبداعاً، مثلما عُرفت القيمة (لقدم الرياضي)، و(أنامل الموسيقي)، و(حنجرة المغني)، و(جسم الممثل). إذاً هناك:
- ضمان الحرية.
- وتوفير الأجواء.
- ودرء الضرر.
- والتعويض.
وإذا ضاع جهد المثقف، ونيل من سمعته فقد ضاع معه المفهوم المحدد لحريته والمتعقب للمفكرين والفلاسفة والعلماء الشرعيين، ممن عنوا بأمر الحرية على كل مستوياتها وانتماءاتها، يجد أكثرهم مرتبطين بقواعد معارفهم ومقتضيات انتماءاتهم، على حد: (وما أنا إلا من غزية) وهذه الكينونة الفئوية لا يمكن معها تحرير مفهوم الحرية، لتكون مفهوما وإجراء متجانسين. وحين نقول بحق الحرية فإننا نستصحب الحدود والقيود التي لا تتحقق إلا بامتثالهما. ومثلما اختلف الفقهاء حول مقتضيات (سد الذرائع) و(درء المفاسد) وقاعدة (دفع المضرة مقدم على جلب المصلحة) فقد اختلفوا حول حقيقة الحرية، وعلى كل التوقعات، وفي ظل كل المحاذير فإن طلاب الحق قادرون على تحرير مسائلهم، ومن أهمها مسألة (الحرية).
ولما كانت الحرية لا تتعارض مع قيم الحضارة، فإنّ على المثقف ألا يكتفي باحترامها، وإنما عليه أن يدعو إليها، وأن ينافح عنها، ومهما اختلف الناس حول أهمية القيم وتراتبها في منظومة الأولويات، فإن الاختلاف لا يعني مشروعية المواجهة ما دام أن هناك حواراً يسبق الصراع والصدام، والأخذ بالأيسر مطلب شرعي. ومتى تبين للمثقف وجه الصواب، وجب عليه أن يتحقق من إمكانية المتلقي وقدرته على النهوض بالمبادىء التي يطرقها، ومن أهم واجباته: أن يعرف ذاته ومدى قدرته على تلقي النوازل وطرح الحلول المناسبة، بحيث لا يقع في خطأ التقدير أو التوقيت، والمساس بما لا يجوز المساس به، كالعزوف عما يجب التعاطي معه، وتقحم القضايا دون استعداد معرفي تجريبي يعرض المجتمع إلى الارتباك وينزع الثقة بالمثقف.
ومتى سقطت أهليته وهيبته أصبحت القابلية للصدام قائمة، ومن ثم يتحول الأداء إلى داء. فالواقعية والمثالية والوُسْع ممارسات وتكاليف متفاوتة في القدر والمشروعية والحظر. ومتى استطاع المثقف فقه الواقع وفهم القضايا وأدرك الأهمية تمكن من معالجة الأشياء بإجراءات مناسبة. ولن تتحقق التنمية المعرفية والفكرية وسائر متطلبات الحياة في ظل التعنت والشطط. ومتى تبدّى للمثقف اختلاف في وجهات النظر ومشروعية هذا الاختلاف، وجب عليه تحامي الاندفاع العاطفي، وترويض نفسه وتمكينها من الدخول على القضايا بروح عملية وعقل متزن. ذلك أن القضايا الخلافية لا تستدعي الحماس ولا التشنج العاطفي، وما أكثر الذين يفقدون أدوارهم بالاندفاعات غير المحسوبة أو بالمثاليات غير الممكنة. ونحن بهذا نضيف إلى الضمان والأجواء والدرء والتعويض (التوازن في الممارسة)، والتوازن لون من ألوان الرفق، وما دخل الرفق في شيء إلى زانه.
إن أثمن شيء تحققه السلطات المتعددة: سلطة الدين، وسلطة المجتمع، وسلطة الحكومة هو (حرية الفكر والعمل والتعبير) ولن تكون الحرية سليمة ما لم تنسجم مع تلك السلطات الثلاث، وما لم تعرف حقها في ضبط التصرف والتعبير.
ومتى اختلت العلاقة بين الحرية والسلطات الثلاث، استفحلت الفوضوية، وتقلصت الفضائل، وقام الاستبداد مقام العدل، والعاطفة مقام العقل، وتلك سمة سادسة تتمثل ب(الانسجام مع سلطات المجتمع)، وهنا نكون أمام:
- ضمان للحرية.
- وتوفير للأجواء.
- ودرء للضرر.
- وتعويض للجهود.
- وتوازن في الممارسة.
- وانسجام مع السلطات.
وليس شرطاً أن يكون الخلل من جانب السلطة، إذ ربما نفهم الحرية على غير مراد المشرِّع، فيكون المجتمع نفسه هو الذي يصنع العبودية، مثلما يصنع الفقراء الفقر. حتى لقد أدرك بعض المفكرين ما يسمى ب(قابلية الاستعمار). وقد تسلب الحرية بقوى خارجية، تفرض رؤيتها ومناهجها ومفهومها للحياة والسلوك والكون، والمثقف ليس بأقل أهمية من المحارب المدجج بالسلاح لمواجهة الغطرسة، ذلك أن حرب الكلمة أهم من حرب السلاح، وفي البدء كانت الكلمة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.
وإشكالية المثقف العربي فيما أشرب في قلبه من حب للثورة والتمرد، والخلط بين مفهوم السلطة والتسلط، ومن ثم لا يجد المتعة إلا بمقاومة السلطات الثلاث، متصورا أن وجودها مؤذن بغياب الحرية. فالخطاب المعاصر تتنازعه (ثورية) عنيفة تجر إلى الصدام أو (راديكالية) صاخبة تجر إلى الصراع أو (ليبرالية) منفلتة تجر إلى الفوضى والاستخفاف بالعهود والمواثيق. وجهل مقتضيات العهود والمواثيق ك(البيعة) مثلا تحمل الأطراف على تعطيل الحرية. وإذا تضخمت في الأذهان سلطة دون أخرى، غفل المعنيون عن سلطة المجتمع أو سلطة الدين أو سلطة السياسة. فالعادات والتقاليد والمسلمات والثوابت واليقينيات والمقدسات التي ما أنزل الله بها من سلطان تلح المجتمعات في تكريسها وتقديسها، وإذا انبرى مفكر أو مثقف لتصحيح المفاهيم، قمعته واحدة من تلك السلطات، وأخطرها سلطة المجتمع متى حدَّت من حرية التعبير، ومع خطورة هذه السلطة إلا أن لها أدواراً إيجابية، فما كل خارج على سلطة المجتمع مسدد الرأي صائب القول، ولو أن المجتمع والمثقف أذعنا عند الاختلاف لحكومة الدين والعقل والمنطق والعهود والمواثيق والأنظمة، واطَّرحوا جميعا الوهم وعقدة الأبوية لكان أن وجد المثقف طريقاً قاصداً لتصحيح الأفكار والمفاهيم.
ولما كانت الدولة في إطار الإصلاح الشامل سباقة في بلورة (المجتمع المدني)، ولما كان تحققه لا يتأتى إلا من خلال التشكل المؤسساتي فإن جماعة المثقفين أولى بهذا التجمع، والفئات الثقافية في العالم المتحضر تعتمد (النقابات) و(الروابط) و(الاتحادات)، ولها تجاربها في التنظيم والهيكلة والتشكيل والوسائل الانتخابية.
ومن حق المثقف أن يجد ملاذا فئوياً، يوفر له أجواء ملائمة للطمأنينة على مستقبله، ويهيىء له العطاء المناسب لمجتمعه. ولن تتوفر الأجواء بالتفرق، واعتماد كل مثقف على جهده الشخصي، وإذا كانت يد الله مع الجماعة، فإن العيش الكريم والأمن بكل شعبه لن يتوفر شيء منه إلا بتشكيل كيانات قوية ترود، وتحمي، وتدعم، وتهيىء الأجواء، وتوفر الحياة الكريمة للمثقف ولأسرته. وإذا كانت هناك تطلعات إلى بدائل محدودة ك(صندوق الأديب) أو (مشروع التأمين) أو (الضمان الاجتماعي) فإن مثل هذه البدائل لا توفر الأجواء الملائمة للعطاء، وإن تحقق من خلالها جانب لم تتحقق الجوانب الأخرى التي ربما تكون اكثر أهمية. وهذا الحق يدخل في الحماية والتعويض كسمتين أوليين للحرية السوية.
ولأن المثقف قد لا يستطيع إيصال صوته إلى شرائح المجتمع المتعددة، فإن من حقه أن تيسر له قنوات التوصيل، ليسهل تداول آرائه وأفكاره، وأحسب أن تلك مسؤولية المجتمع والسلطة. فإذا كان من واجبه المبادرة في قول الحق، فإن من حقه تسهيل الطرق، ليقول هذا الحق، وليصل هذا الصوت إلى أكبر عدد ممكن من شرائح المجتمع، وقنوات التوصيل، وبخاصة الاعلامية منها بعض سبل النفاذ إلى الآخر، ولكن الأهم من ذلك، إيجاد (دور النشر) القوية ودعمها، فصناعة الكتاب دخلت فضاء الدعاية والإعلان وحسن التسويق، ولم يعد إنجاز المادة وحده كافياً، بل لا بد من الإخراج والدعاية والتوصيل، ومعضلة المعضلات في الوسط الفكري والأدبي عملية التسويق. والأدباء والمفكرون لا يجدون من يطبع إنتاجهم، وإذا طبعوه على نفقتهم، كسد في أيديهم، وإذا تولت دور النشر الضعيفة طباعة الكتاب، فإنها لن تحسن الطباعة، ولن تتقن الاخراج، ولن توفر الدعاية، ولن تقدر على التسويق. وتلك عقبات تحول دون إيصال الآراء والأفكار. وفوق كل ذلك فإن مجرد الإصدار والتسويق وحدهما غير كافيين، بل لا بد من الاستحضار وإثارة الانتباه، ولا يتم ذلك إلا بالحركة النقدية التطبيقية التي تكشف عن الآراء وتصحح الأخطاء، وتثري الفكر بالتلاقح، والمشاهد تكاد تكون خاوية على عروشها، فالأدباء والمفكرون يفضون بما لديهم، ولكنهم لا يحسون بمستقبل متفاعل، وهذا الحق داخل بحق التعويض والتمكين والأجواء، وتحقيق الفاعلية عصي المنال ما لم يكن هناك إقدام ومبادرة مشتركة. والمجتمعات المتحضرة توفر لمثقفيها الأجواء الملائمة لتواصل العطاء. ومدار كل شيء على العلم قبل القول والعمل. لقد أطلت الحديث عن (الحرية): مفهوماً وممارسة، لأنها جماع الحقوق والواجبات. ومتى فهمت على حقيقتها، ومورست وفق مقتضياتها، بلغت السفينة شاطىء السلامة، وتحقق ما سواها من حقوق، ومتى دعونا إلى التحول المؤسساتي لتجميع الجهود وحفظ الحقوق وتفاعل الآراء كان علينا أن نضع كل الأهمية للتجمعات التي لا تكون سوية، وقد بدت بوادرها السيئة في تشكيل ذهنيات متشددة أو منحرفة، تنذر بخلل الوحدة الفكرية للأمة، وآخر دعوانا ألا نستخف بالمخاضات، وألا نستهين ببوادر الخطابات، والمثقف خير من نندبه لمواجهة النوازل والملمات.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:53 PM

لم تنته اللعبة يا دوري..!
د.حسن بن فهد الهويمل


الأستاذ الدكتور (محمد الدوري) المندوب الدائم لحكومة (صدام حسين) لدى الأمم المتحدة (دشن) كتابه (اللعبة انتهت) متعجلاً إصداره في ست وثمانين ومئتي صفحة. محاولاً فيه عقلنة الحديث وتقنينه، تمشياً مع تخصصه وأستاذيته للقانون الدولي في (جامعة بغداد)، قبل أن يلتقطه حزب القبيلة، ليكون لسان حالها ومقالها في أروقة الأمم معذراً ومبرراً خطيئاتها. وأحاديثه المتلفزة بين الحين والآخر، وبخاصة ما قدمته إحدى القنوات على مدى عدة حلقات، تستمرئ أخلاف الواقعية الحذرة، وتتقي لعنة التاريخ، وتفيض تحسراً ومرارة بعد فوات الأوان. ولا أحسبه الأول الذي حاول النفاذ بجلده من سبة الدهر، ولن يكون الأخير، ذلك أن فصائل الانقلابات يتقاذفون كرة الخطيئة، كي لا تستقر في شباك أحدهم، لأنها متى استقرت تشرذم الفريق بين قتيل وسجين ومشرد.
ولقد كنت مغرماً بمتابعة اللقاءات الموسعة مع عراقي الشتات وفلول الانقلابات، ممن أفلتوا من قبضة النظام، أو اختطاف المحتل، وكانوا من قبل من آلية النظام التي طحنت كل شيء أتت عليه: يقتلون، ويسجنون، وينفذون أقسى العمليات بمبادرة منهم، أو بأمر من الحاكم المتسلط. وما من أحد منهم اعترف بجنايته على أمته وجيرانه، وطلب من المعذبين في الأرض الصفح والمغفرة، والتنصل سجية محترفي السياسة، يقتلون البريء، ثم يمشون في جنازته، ويحضرون مأتمه، ويتقبلون أحرَّ التعازي بفقده.
وإذا لم يكن الهدف من قولنا الشماتة، ولا حز الرقاب، فإننا نود أن تقال الحقائق، وأن يتوقف نزيف الكذب والإسقاط وتبادل الاتهامات، وأن يتحمل المقترفون ما اقترفوا، وأن يطلبوا من شعوبهم الصفح، وأن يعظوا الممسكين بأزمة الأمور، فما عادت الأكاذيب قادرة على طمس الحقائق، وما عادت الشعوب قادرة على احتمال مزيد من العذابات. والذين لطخوا أيديهم، ودنسوا سمعتهم، ثم نجوا بجلودهم، وما زالوا يبتغون الفتنة من بعد، ويقلبون للمتابعين الأمور، لا يليق بمثلهم مواصلة الأكاذيب والمغالطات، ولا يحق لهم أن يبرروا مقترفات الأنظمة الظالمة، ولا أن يبرئوهم من الجرائم الوحشية، ولا أن يشرعنوا لغطرسة المحتل. لا مراء في أن إسقاط النظام المنيخ بكلكله على صدور المواطنين فرج بعد شدة، ولا مراء في أن حضور المحتل بخيله ورجله أذية غير محتملة وسبة دهر لا يزيلها إلا رحيله غير مأسوف عليه، ذلك أن الاحتلال - أي احتلال - لا مسوغ لتبرير وجوده. وما يعانيه الشعب العراقي اليوم إن هو إلا حصائد ما زرعته أيدي النظام البائد. وهل عاقل يرضى بما يلاقيه الإنسان العراقي من قتل همجي وإذلال مهين؟ وهل أحد يتوقع لعراق الحضارة والأمجاد عوداً حميداً في عاجل الأيام؟ لقد اقترف أزلام النظام البائد أبشع الجرائم: تقتيلاً وتنكيلاً، ولما يزل الشعب المغلوب على أمره، يتخبط في حمامات الدم، وتلك مرحلة ليست بأحسن حالاً مما كان عليها من قبل. ومع هذا يطلع علينا المرجفون القنواتيون بين الفينة والأخرى بمقترفين، يبرئون أنفسهم، ويزكون أعمالهم، ويعذرون للمعتدين، ولا يضعون أصابعهم على مكمن الداء. فسقوط أي نظام مهما كان سيئاً مؤذن بفساد كبير، يؤدي إلى فراغ دستوري، ويستدعي تدخلاً عسكرياً، يحول دون استشراء حروب أهلية. وصدق القائل:( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). و (الدوري) الذي أفضى ببعض ما لديه، تطوع الصحفي اللبناني (جورج فرشخ) بتجميع الكتاب من اللقاءات المتلفزة من قبل ومن بعد، مع شيء من الإضافات والتشذيبات الملائمة للتحولات المفاجئة.
وليس المؤلم إنكار المقترف خطيئته، ولكن المؤلم أن يساير المقولة من دون قائلها في الفقه السياسي، ممن يتقحمون أتون المشاهد السياسية دون أهلية، ثم يقطعون مع القائلين: بأن اللعبة الكونية قد انتهت. ولو أن الفضوليين المجازفين لا يضلون إلا أنفسهم لهان الأمر، ومع ذلك فلسنا نتهم القائلين ولا المتلقين بالخيانة العظمى، فلربما يكون مبلغهم من العلم ما توصلوا إليه من مثل هذه النتائج.
وكل ما نريده الكف عن تضليل (الرأي العام). وإذا كان البعض يرى أن اللعبة قد انتهت، ثم لم يتبع قوله توقعات لما سيكون، فإن آخرين سايروه بنهاية اللعبة، ولكنهم جعلوا النهاية بداية للمأساة.
واحتلال العراق من قبل قوات شقت عصى الطاعة، وفسقت عن أمر المؤسسات الدولية، التي أريد لها صد الظلم وإقامة العدل، وكف أيدي الناس الأقوياء عن الاعتداء السافر، وحفظ حقوق المستضعفين في الأرض، يعد ذلك أو بعضه بداية لعبة جديدة تسكر العقلاء وتذهل المرضعات، فهي مع آثارها السيئة ستكون مغرية للمتمردين لممارسة احتلال عسكري، يسلب الحق، ويشيع لغة القوة والغطرسة. وهذا التعدي يفوق ما تركته اللعب القاصمة في (حروب الخليج) كلها. وقضاء الأمة العربية أنها تخرج من لعبة مصمية، لتدخل في لعبة أدهى وأمر. وما الحروب والانقلابات والنزاعات والتصفيات إلا لعب يأخذ بعضها برقاب بعض، والشعوب المهمشة تدفع (فاتورة) الحساب من قوتها وأمنها وحليب أطفالها، بحيث لا تجد من يطعمها من جوع، ولا من يؤمنها من خوف. ومن ثم تصبح وقود الصدامات: العسكرية والفكرية. وليست اللعبة وقفاً على إسالة الدماء، وإنما هي في إسالة الأحبار أيضاً، وما الأحبار إلا قطرات تحيي موات الفتن، وتنبت أفتك الأسلحة، مع أن مراد النفوس أهون من التعادي والتفاني - كما يقول المتنبي -. وكم من لاعب بلاغي أودى قلمه بحياة الآلاف من الأبرياء. والأصنام لا يحكم صنعها إلا الإعلام المتواطئ، والأقلام المرتزقة، وأنكر الأصوات. وهل أحد يجهل مقترفات الكتاب الذين كذبوا على أمتهم، وأضلوها سواء السبيل؟ وهل يستطيع مغتصب أن يبني أوهامه إلا عن طريق الأقلام التي تستمرئ الكذب؟. والضالعون في التبرير والتعذير والترويض فئام من جهلة، أو متسرعين، أو مواطئين، والله وحده العالم ببواطن الأمور.
وإذا كان (الدوري) الرجل الضالع في اللعبة قد روى ل(جورج فرشخ) عن نهايتها فإن (هشام عليوان) ألف كتاباً مماثلاً، وكم هو الفرق بين لاعب في المسرح السياسي ولاعب في المسرح الإعلامي، وإن كان لكل حقه من الخير أو الشر. وبين الكتابين تباين واضح، فالأول يحاول تخفيف حدة الغضب على النظام البائد بالتأكيد على خيانة السقوط، وإن كان يدينه في كثير من المواقف، فيما يأتي الكتاب الثاني راصداً للتحولات والمصائر، موغلاً في الإدانة وتضخيم الأحداث تبعاً لما وقف عليه من فيوض الإعلام. الكتاب الأول تحت عنوان (انتهت اللعبة)، والثاني تحت عنوان (نهاية اللعبة) ولم يكن الحديث عن اللعب السياسية جديداً، فلقد سبق أولئك شرقيون وغربيون، كتبوا عن لعب كونية وأخرى إقليمية، فجاء بعضهم مدلساً، فيما جاء البعض الآخر سافر الكذب، وقليل منهم من أسر النجوى في قول الحق.
وكان قدري أنني فتحت عيني، وعقلت أمري على أحداث دامية وأقلام راعفة، تصف الانقلابات بالثورة، وليس ما يحدث في الوطن العربي، حقيقاً بأن يوصف بالثورية، وإنما هو انقلاب عسكري، يتراوح بين الدموية وحمامات الدماء، وقل أن يكون انقلاباً أبيض، لا يشوبه عنف، ولا يدنسه ظلم. والفرق بين (الثورة) و (الانقلاب) أن (الثورة) إحداث نظام، و (الانقلاب) اختلاف حكام. بمعنى أن الثورة رؤية و (أيديولوجية) وشرعة ومنهاج، فيما يكون الانقلاب تنازعاً على التسلط لا على السلطة، يكون فيها الشعب ومثمنات الوطن غنيمة. والمتحدثون عن اللعب السياسية من أربابها الذين فرغوا من أداء دورهم الغبي، قد يصدقون، لأنهم يفيضون بما لديهم، وفي حسابهم من يرصد لهم من مؤسسات وأناسي، ولقد بدأ وعيي السياسي مع كتاب (لعبة الأمم) ل (بوكلاند) فكان أن رسخ في نفسي أن كل شيء قابل لممارسة اللعب، وأن لكل لعبة قانونها المعرفي والإجرائي، ومن لم يتقن قانون اللعبة لا يحسن التمييز بين ما هو عمل ظاهره كباطنه، وما هو غير ذلك، وليس أضر على (الرأي العام) من الخلط بين الأحداث المختلفة الأسباب والدوافع، أو الخلط بين الظواهر والوقوعات.
استهل ( الدوري) كتابه بمقدمة في اثنتي عشرة صفحة، تبدت فيها أنات المذنبين وحرقة المفلسين وتبرير المخطئين، وما كنت لأفسد الحديث بسوء الظن، ولن أستبق الحكم قبل قراءة الفصول التي جاءت على شكل إجابات على أسئلة (الدوري) بحيث جاء الفصل الأول إجابة على التساؤل عن كيفية استعداد اللاعبين. و ( الدوري) أطلق كلمة (انتهت اللعبة) أو (اللعبة انتهت) في التاسع من أبريل عام 2003م، وهو قد تعمد تخفيف حدة الدعوى، بحيث وصف النهاية بأنها تعني (انتهاء المسرحية التي استمر عرضها سنوات طويلة على مسرح الأمم المتحدة). ولست هنا معنياً بالربط بين مسرحي: الواقع الذي يقوده (صدام) والمرافعات في هيئة الأمم المتحدة التي يقودها (الدوري) ، وكون أحدهما يجهز للآخر، ويدفع إليه. فاللسان والسيف كلاهما صارمان، وقد لا يبلغ السيف مبلغ اللسان، وكل الذي أوده التأكيد على أن اللعبة شبكة من الحركات والفصول، تختلط فيها الحروب الباردة والساخنة. وعند إطلاق كلمة (اللعبة) يكون هناك نسيج قوي التماسك دقيق التداخل متعدد الفصول متنوع الشخصيات. فاللعبة رواية مطلقة، وليست أقصوصة مقيدة ببطلبها وزمانها ومكانها. إن هناك عدداً من اللاعبين الأذكياء والأغبياء والظاهرين و (اللوبيين)، وإذا تكتم (الدوري) على بعضهم أو على بعض الأدوار فإن قراء السياسة يعرفونهم بسيماهم. وقدر الشعب العراقي والأمة العربية والإسلامية من ورائه أن اللعب كالظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض، فها نحن نسمع ب (الصدر) ونراه، ونسمع ب(الزرقاوي) ولا نراه، وما الحرب إلا ناتج لعبة أو بداية لعبة.
لقد جاءت أحاديث (الدوري) في الوقت الضائع محاولاً ارتهانها في الوسطية، متحامياً القطعيات والحديات، متيحاً فرصة الاحتمالات ورياضة الفكر، والقارئ بهذه التعمية المتعمدة يلتاث عليه الأمر، فلا يحسم امراً في الشأن العراقي. والمذكرات والذكريات واليوميات والسير الذاتية السياسية، يمارس أصحابها لعبة التطهير والتدنيس في آن: تطهير الذات، وتدنيس الآخر. فيما يأتي حديث (الدوري) محاولاً المخادعة بالحيادية. والحيادية التي حاول التمويه بها لم تخلصه من شوائب الانفعال والافتعال، ولهذا حول كل الأفعال إلى مفردات في متن اللعبة الكونية. ولأن السياسة هي (النص) الحقيقي الذي يشتمل على ظاهر وباطن، وقد يتسم الظاهر بالرحمة والباطن بالعذاب، فإنه لا يحق الحق في مثل هذا اللبس إلا أن نفقه قواعد اللعبة، فهي التي توفر القدرة على قراءة الحدث السياسي وفق توجيه القواعد، متى استمدت كينونتها من المنطقية والعلمية.
والذين يعوِّلون على وسائل الإعلام في تفكيك الحدث السياسي، لا يتجاوزون ظاهر الرحمة، وبذلك يهيئون أنفسهم لباطن العذاب.
وليس أضر على الأمة من نمطية القراءة والتسليم لمقولة اللاعب الذي ربط القول بالفعل. وكل لعبة يؤرخها قوم، ويصفها آخرون، وتحللها فئة، وتقومها فئة أخرى. وإذا لم يتوفر المتعاطون معها على فقه الأحداث وقواعد الفعل وآليات التفكيك ومناهج التحرك فإن احتمالات التضليل أقوى من احتمالات التنوير، ولقد أشرت إلى المعولين على وسائل الإعلام ومثقفي السماع. والإشكالية أنهم الأكثر حضوراً والأندى صوتاً، وفيهم ومنهم تتشكل الرؤى والتصورات، وناتج ذلك أن الأمة لما تزل في مرحلة التيه، ولن ينجيها من عذابات اللعب وتتابعها ونمطيتها إلا أن تقوي إيمانها بأن الأحداث لا تقرأ وفق رغبة الصانع للحدث أو منفذه، وما أحوج القراء إلى (موت المؤلف) ليخلوا للمتلقي وجه الحدث.
والكتابان (انتهت اللعبة) و (نهاية اللعبة) يقعان تحت طائلة تلاحق الأحداث التي قد تصنع نفسها، إذ لم تكن كلها ناتج إعداد مسبق، ومن ثم فقد يكون للأحداث المفاجئة دورها في نهاية دور الكتابين. (هشام عليوان) مؤلف كتاب (انتهت اللعبة) متابع للأحداث من الخارج، وراصد لها بالحرف والصوت والصورة، وهو قارئ للحدث من الخارج، فيما يكون مؤلف (نهاية اللعبة) (محمد الدوري) من منفذي الحدث غير أنه يتحامى قول الحقيقة عارية من لغة السياسة المراوغة. وإذ يجزم (عليوان) بأن لعبة جديدة قد بدأت، يقطع (الدوري) بأن اللعبة الكبرى قد انتهت، وأن ما يليها حصادها.
فالمتغيرات في نظر البعض نتائج، وليست لعباً جديدة، والإشكالية أن بعض قراء الكف السياسي يرون الفصل بين لعبة وأخرى، وأن كل لعبة لها ذيولها ونتائجها التي تستأثر بالمشهد السياسي، فيما يذهب آخرون إلى أنه لا مجال للفراغ، فاللعب كحلقات السلسلة، والنتائج لا تحول بين اللعبة وتاليتها. ويبدو لي أن (الدوري) يقول بنهاية اللاعبين، وليس معنياً بما يليهم، إذ ليس شرطاً أن يتلقف فريق اللعبة المنتهية راية اللعبة اللاحقة، ومن ثم فإن اللعبة بالنسبة له منتهية لأنه يربطها باللاعبين. وعلى كل الأحوال فإن (الدوري) لا يكشف المخبأ، ولا يستحضر الغائب، ولكنه يكشف عن نفسه، ويستحضر دوره، وهو كشف واستدعاء يلتحفان رداء التطهير الذاتي.
كل الذي نوده، ونحن نرثي لأحوال اللاعبين المنبوذين ك (الدوري) أن يكفوا عن ترميم السمعة المدنسة، وأن يدعوا للتاريخ فرصة ملاحقة (الأحداث، ليدونها بصدق وأمانة، وإذ لا يقدر العالم العربي ونخبه المتشرذمة على درء الضرر، فلا أقل من أن يتعظ الجميع بما يجري، بحيث لا تكون الأمة ونخبها كمن عُمِّيت عليهم الأمور، فصاروا وليمة مرتقبة لأكلة نهمين. فهل نتعظ بالآخر. أم نتعظ بأنفسنا، أم لا نتعظ بشيء، ونكون كالسائمة ترقب فراغ الجزار؟.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:54 PM

لماذا المساس بالعلماء والتشكيك بالثوابت؟(1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


ما من عصر أو مصر إلا ويخلو فيهما من يربك المسيرة، ويصدِّع التلاحم، ويضع الأمة على مفترق الطرق، حتى لا تدري أين المفر.
وما تفرقت الأمة إلا من بعد ما جاءتها قوافل المستغربين، تحمل رايات التزهيد بتراث الأمة، والتشكيك بقطعيات الدلالة والثبوت، وحتى التاث أمرها بأنصاف المتعلمين، ممن احتلوا وسائل الإعلام للقول في سائر الشؤون، فكان أن ضيق عليها المتنطعون، حتى التقت أضلاعها، ووسع لها المتعلمنون، حتى فقدت ضوابطها، وأضلها الجاهلون حتى حارت بعد الكور. وضاع الوسطيون في ضجة الإفراط والتفريط، ولقد ظاهرت دعاة الاستغراب موجات الغزو والتآمر المتدفقة من كل حدب وصوب، مؤدية دورها المرسوم وتدبيرها المحكم. ومما صعد الإشكاليات فهم الأشياء على غير وجهها وذهاب كل مفكر بما يرى، دون بصر أو بصيرة. واشتغال غير أولي التخصص والتأصيل المعرفي بما سلف من علم شرعي أو بما خلا من علماء أجلاء، أقيمت على جهودهم حضارة أمة، قبست منها كل الحضارات. والحائمون حول الحمى: إما جهلة يفتقرون إلى معلمين، أو ضالون يتطلبون مرشدين، أو مواطئون يحتاجون إلى محذرين أو إلى متعقبين، يتجاوزون لحن القول إلى ما تخفي الصدور.
ومما يعكر صفو الحيوات الفكرية والحضارية، ويذكي أوار الارتياب والشك ما يتعمده ذوو القامات القصيرة والمحصول السمعي المضطرب من استدعاء غير مبرر لأساطين الفكر وجهابذة العلم، ممن جددوا لهذه الأمة أمر دينها، وتعاملوا مع النوازل بعلم غزير، وفقه دقيق وإلمام بمتطلبات المرحلة التي عاشوها بكل ظروفها وملابساتها، وخلوا بما كسبوا واكتسبوا.
واستدعاء العلماء الأفذاذ، لا يكون بابتسار مفردة من مفرداتهم التي خالفوا بها الإجماع، وأجمع خلفهم على انفرادهم بها، وكانت في النهاية من خطأ الاجتهاد، الذي لا ينفك منه عالم نذر نفسه لمواجهة النوازل وعالم أتقن العلوم وأصولها ونازل أساطين الملل والنحل، وفند أقوالهم، لا تسقطه مخالفة في الفروع، فلكل مجتهد مطلق أو مقيد، ولكل مذهب يحيل إلى الأصول والقواعد الخاصة به مفردات لا يعضدها إجماع، ولكنها تظل شاهداً على الحراك السليم للاجتهاد المشروع. وكيف نتأفف من خطأ الاجتهاد، والصحابة رد بعضهم على بعض، وخالف بعضهم بعضاً.
وكم كنت أتمنى من أولئك المغرمين بإيقاظ النوم، وإزعاج الآمنين، أن يدعوا من ودعهم من سلف الأمة، ممن لم تكن لهم مواقف أو آراء تناقض ما علم من الدين بالضرورة، وإن كان ثمة فضلة من جهد أو وقت، فإن عليهم إنفاقها في البحث عن منقذ للأمة، مما هي فيه من تخل عما يحييها، وتقاصر متعمد عما في أيدي الناس من مهارات، وما في أدمغتهم من معلومات عن ظاهر الحياة الدنيا. وعلماء السلف الذين يستمرئ الجهلة المغامرون النيل منهم، لا يمنعون من علم، ولا يحولون دون اجتهاد، ولا يضيقون واسعاً، ولا يدعون إلى رهبانية، ولا يحبذون انكفاء على الذات، ولا يصدون عن إعداد أي قوة: حسية كانت أو معنوية. وإذا كان قدرهم قد ألقاهم في آتون الفتن، وجاء بهم في زمن التداعي على الأمة، مما شغلهم بالتصدي والتحدي والصمود، فإن ذلك لا يعني عنفهم ولا صلفهم، وإنما يعني الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة الأمة، وأين الناقمون من حملات الصليبيين، وعنف التتار وجور المقتسمين لتركة الرجل المريض التي تمخضت عنها اتفاقية (سايكس بيكو)؟.. وأين هم من غطرسة القوة ووحشية المحتل؟ فأي فترة من فترات الإسلام فعل فيها الحكام والعلماء ما يفعل بالمسلمين القابعين في ديارهم؟.. والناقمون على علماء الأمة تمتد نقمتهم إلى تراثها، وكان عليهم إذا اتجهوا صوب الموروث العلمي أو الفكري أو الأدبي أو إلى أحد من رجالات هذه المعارف أن يكون ذلك لاستيعابه أولاً، وفهم أنساقه وسياقاته وظروف تشكله، ثم استصحاب ما تقوم الحاجة إليه، وما لا يتحقق الوجود الكريم إلا به. فما من حضارة إلا ولها كتابها المنزل، وشرعها المستنبط، ومنهجها المحكم، وحملة تلك الأمانة. وليس منتمياً من لا يتمثل الثوابت، ويظهر الدين: سلوكاً وشعائر ومنهج حياة. وبخاصة أن الدين الإسلامي: شرعة ومنهاج وشمول. ولن تأخذ الحضارة الإسلامية حقها المشروع حتى تكون بادية للعيان: بشعائرها ومشاعرها وأوامرها ونواهيها وأنظمتها ورؤيتها للكون والإنسان والحياة.
وليس بمسلم من يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض وإذا استحر الهجوم على الإسلام ومؤسساته وعلمائه من الإعلام الغربي، فالواجب أن نكون ردءاً له، ندفع بالتي هي أحسن، ومتى استقاموا لنا استقمنا لهم، وابتدرنا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا نشايع معتدياً، ولا نسكت على باطل، ولا نقع تحت طائلة الانفعال والافتعال، نصدق القول الجائر، ونقبل الدنية في الدين. وإذا فهم المتنطعون والمتطرفون قضايا الدين على غير وجهها فإن ذلك لا يحمل الوسطيين والميسِّرين على إسقاطها أو الامتعاض منها، ف(التكفير) و(الولاء) و(البراء) و(الردة) و(الجهاد) قضايا إسلامية، يعد المساس بها كالفهم الخاطئ لها.
وإذا كان قدرنا - وهو قدر حميد - أن ولدنا على الفطرة، وأن آباءنا أسلمونا، مثلما هود غيرنا أبناءه أو نصروهم، فواجبنا أن نكون كما أراد الله لنا متمثلين للإسلام، كما أراده الله، محتملين تبعاته في المنشط والمكره، مقتفين أثر السلف الصالح في تقدير الأشياء قدرها، كافين عن الخوض بما لا نعلم، عافين عن أعراض العلماء، فالعلم قبل القول والعمل. ووسط ضجة المتعالمين والمتعالقين مع الآخر لابد من احترام التخصص، والتضلع من العلم، والتزود بالخبرة، والتعامل مع المستجد وفق المقاصد والمقتضيات الإسلامية، وعلى ضوء المناهج والأصول والقواعد إذ ما كان بمقدور سلفنا إنجاز تلك المعارف والفنون، لولا ما توفروا عليه من علم غزير، وفهم دقيق، وخبرة واسعة، ومنهج واضح، وآلية مرنة، ومعرفة كل شيء عن مجال الاجتهاد وآليته ومنهجه. والمؤذي أن طائفة من الأحداث استدبروا النوازل، وأنشبوا أظفارهم بما كفوا مؤونته من كليات ناضجة، وبما خلا من علماء أفذاذ.
وهذا التحرش بالثوابت وبالعلماء أخلى الثغور لمن مالوا على الأمة بأفتك الأسلحة، وأحد الألسنة، فأهلكوا الحرث والنسل، وأيقظوا الفتن، وفرقوا الشمل. وكلما نهض الغيورون لفك الاشتباك، وإيقاف التدهور، وصفوا بضيق العطن، واتهموا بالحد من الحرية. وما علموا أنه من حق كل مقتدر مساءلة أي مشتغل بحيازات الأمة، فكان منه الإفراط أو التفريط وليس هناك ما يمنع من تلقي التراث، وقراءته بعيون العصر وإرادته، ولكن دون تنقص أو إسقاط. ولن تكون القراءة لحضارة الذات سليمة، ما لم يتزود القارئ بالمعرفة والخبرة والصدق والتقوى، ولن تستوي الحضارة ما لم تتزود بما ينقصها من حضارات الغير، مما لا يتعارض مع المقاصد والمقتضيات.
والصفقات الخاسرة في اشتغال الخلي بالتشكيك في بناة الحضارة، من علماء متمكنين، ومفكرين مقتدرين، ومصلحين ورعين. وهو بعد لم يسد المكان الذي سده أولئك، ممن أصبحوا مجالاً للاتهام والتجريح والسخرية والاستهزاء.
ولو أن علماء السلف الذين شيدوا صرح هذه الحضارة، كان ما تركوه من تراث عقبة في طريق التحضر والتمدن، لباركنا لهؤلاء مساسهم بهم.
ولو كانت المراجعة لموطن خلاف معتبر، ما كان منا امتعاض، ولا تذمر، ولا ارتياب. ولو أن أخذ العالم بالمسألة على رأي يترتب عليه اضطراب في المفاهيم، لكان لزاماً على من خلف تدارك ما سلف. ولو أن مقاصد المراجعة لرأب الصدع وإعادة الوفاق بين أطياف المذاهب، لكان مثل ذلك داخلاً في إصلاح ذات البين، وتنقية الدين مما علق به من دواعي الفرقة والتنازع.
ولو أن المراجعة تمت دون المساس بأهلية العالم أو التشكيك بقدرته أو الطعن في أمانته، لكان ذلك داخلاً في الاختلاف المشروع.
ولو كانت المراجعة لتخليص الأمة من حرج، أوقعها فيه العالم، لكان في ذلك تفريج لكربة الأمة، وتيسير عليها. وما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.
ولو كانت المراجعة من عالم متخصص، يشتغل في مجاله، ويستكمل رؤيته، وفق النوازل والمعاصرة، لما كان في ذلك محذور، فباب الاجتهاد مفتوح. لكن الأمر غير ذلك كله، وكل الذين يتجرؤون على علماء الأمة ما هم منهم، لا في علمهم، ولا في ورعهم، ولا في حملهم لهم الدين والدنيا، ولا في صدعهم بالحق. وما تلك الزوبعة إلا من اللغط الإعلامي الذي يسد فيه الكاتب أو المتحدث فراغاً، أو يكسب فيه شهرة، أو يحصل به على ثمن بخس من لعاعات الدنيا.
وقراءة التراث قراءة مريبة، تقاطر عليها مستشرقون ومستغربون، كانوا خليطاً من متمكنين ومتسطحين، وباحثين عن الحق، ومضلين عنه. وتعشق الحديث عن المسكوت عنه عفة أو تفويضاً مؤذن بفساد كبير، وقد يكون المسكوت عنه من المتشابه، والراسخون في العلم لا يزيدون على الإيمان أو التفويض. والمريب أننا لا ننفك من طلعات موجعة، تشكك في اليقينيات والثوابت، وتستدعي المتشابه والمسكوت عنه، وتقدح بثقات أجمعت الأمة على عدالتهم وأهليتهم. وكيف تسلم الأمة عبر حقبها التاريخية لمتكلم، أو محدث، أو فقيه، أو مصلح. ثم يأتي نكرة لجوج يخرج على الإجماع، فيطعن في الأمانة، أو يقلل من المعرفة، أو يصف بالسفاهة.
والمتابع لفيوض الإعلام، ينتابه الخوف مما يعتري قضايا الأمة ورجالاتها من سهام أبنائها. ومصميات الأمة أن كل انتهاك لقطعيات أو تجريح لعلماء يسوغه المنتهكون بدعوى الحرية وحق الاجتهاد، وتلك شنشنة لا ننفك نسمعها من كل أفاك أثيم.
وإذا كان تراثنا مليئاً بالقول والقول المناقض فإن بإمكاننا أن نتخول الزمن المواتي والأسلوب المحكم، فالوضع المعاش مثقل بكل العوائق. وإذا استطاعت الأمة احتمال المواجهة فإن علينا أن نستعرض مفردات الحضارة على مهل، ثم نأخذ بأحسن النتائج فليس كل ما خلفه علماؤنا مما تقوم الحاجة إليه، وليست العصمة لأحد غير الرسل، فكل عالم راد ومردود عليه، ولكن المواجهة مركب صعب، لا يؤتاها إلا الأفذاذ، وليس من الاقتداء السليم أن نأخذ كل ما توصلوا إليه بحذافيره، ولا أن نتمثله كما لو كنا معهم في زمانهم. وكيف يتأتى ذلك و(عمر بن الخطاب) قد استحضر تغير الزمان، وأكد على أن أبناء معاصريه خلقوا لزمان غير زمانهم، و(الشافعي) قد استحضر تغير المكان، فكان له مذهبه القديم والجديد، وما تحفظنا إلا على ما نراه من نسف للتراث، وإدانة للعلماء، أما أن نعيد قراءة التراث بعيون العصر وإمكانيات الحاضر، فذلك عين الصواب، غير أن ما نسمعه، وما نراه، يختلف عن ذلك كل الاختلاف. وكيف يحتمل (الرأي العام) من يتكئ على أريكته باسترخاء، ثم يصدر أحكامه بكل برودة أعصاب وسوء قصد، فيحكم بكفر عالم أجمعت الأمة على جلال قدره، وحفل التاريخ ببطولاته، وماذا يضيف منكر القول إلى أمة مثخنة الجراح مهيضة الجناح.
ومتى كثر لغط المبتدئين، وتعالى صخب المتعصبين، فإن من حق الشركاء في السفينة الأخذ على يد السفهاء والمجازفين، الذين يهزون الثوابت والمسلمات، ويشككون لداتهم في يقينيات الأمة. والأدهى والأمر أن ذلك كله يتم دونما حاجة قائمة، وفي ظل ظروف غير ملائمة. فالأمة متوترة، والأعداء متحفزون، والقول في حق العلماء لا يحل إشكالاً، ولا يزيل عقبة، ولا يؤلف قلوباً، ولا يقيل عثرة، وما أتيت الأمة إلا من جهلة يتعالمون بقول معار أو معاد، وكل ما يقال لا يعدو كونه اجتراراً لما فرغ منه المستشرقون والمستغربون والمتعصبون لمذاهبهم وما تلقفه المستشرقون، وبنوا من ذراته قباباً، لا ينخدع به إلا الفارغون من المعرفة أو الغافلون عن مكائد الأعداء. والمتعقب للطرح المستفز، لا يجد فيه إلا طبيخاً مغباً أعيد تسخينه. فما ترك المستشرقون والظلاميون قولاً لقائل، لقد قالوا عن الله وفي الله ما يتعالى الله عنه علواً كبيراً، وقالوا عن رسوله، وعن مصدري التشريع، وعن سلف الأمة ما لا تحتمله الجبال الراسيات. وما أضر بالمسيرة الفكرية للأمة إلا الذين تصوروا أن كل قول يقال يمتلك الشرعية، وتحميه حرية القول، وإلا الذين لا يقرؤون أطروحات العصر وتقلباته الفكرية، وإلا الذين لا يفقهون المتغيرات، ولا يحسبون للواقع حسابه. إذ ما يقال في زمن القوة والتماسك لا تحتمله الأمة في زمن الضعف والتهالك. وأحوال الأمم كأحوال الأجسام، تتعرض للأمراض، ثم لا تقدر على الحركة ولا على الاحتمال، ومن عرض الجسم المريض لما لا يقدر على احتماله، فقد حمله ما لا طاقة له به. والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها. وهل من عاقل رفيق يرى أن أمته بوضعها الحالي قادرة على الإمعان في بلبلة فكرها وإثارة شكوكها بآراء وتصورات ومواقف ليست من متطلبات المرحلة؟ وإذ نؤمن بأن بعض العلماء قد يتعرضون لإشكالية الخلط بين الثوابت والمتغيرات، وقد لا تدق رؤيتهم، بحيث لا يفرقون بين الشرائع والأعراف والسوائد والمسلمات فإن معالجة تلك الإشكاليات لا تكون بالنيل منهم والسخرية بهم، وإسقاط عدالتهم، والتشكيك بأمانتهم، وإنما هي بإرشاد ضالهم، وتعليم جاهلهم، والتماس العذر لمخطئهم، ذلك أنهم اجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد، وحين لم يحالف بعضهم الصواب فإن من واجبنا أن نستدرك إخفاقاتهم، مع الترحم عليهم، والاستغفار لهم، وحسن الظن بهم، وعدم الجزم بصواب ما نرى وخطأ ما يرون. فقضايا الاجتهاد مجال للأخذ والرد، ومن خلط بين اليقين والاحتمال، وقع في تأليه الهوى. وليس من الحصافة أن نتبع سنن الأعداء، ولا أن نسلم لكل دعاويهم. لقد نالوا من مرجعيات الأمة: الكتاب والسنة، وطعنوا في حملة الرسالة وورثة الأنبياء، وكرسوا الطائفية والمذهبية، وعززوا جانب التعصب، وباركوا تنازع العلماء، ونقبوا في تراث الأمة بحثاً عن المتشابه، وكل من في قلبه زيغ يتبع ما تشابه منه. ولقد تلقت طائفة من أبناء هذه الأمة راية الطعن والتشكيك، واستمرؤوا الخوض في آيات الله بغير علم، واستحلوا تجريح علماء الأمة، وأحلوا قومهم دار البوار، فكان أن هددت حصون الأمة من الداخل.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:54 PM

لماذا المساس بالعلماء والتشكيك في الثوابت؟ 2/2
د.حسن بن فهد الهويمل


ومعاذ الله أن نكون من المرجفين، فنتقول على غيرنا كل الأقاويل، أو أن نكون وجلين لا نحتمل النقد ولا المساءلة، أو أن نكون مسكونين بالأثرة، مقترفين لجريرة الإقصاء، لنستأثر بالمواقف كلها، بدافع التعصب المُعمي والمصمي، حتى لا نقدر على رؤية حق، ولا نتمكن من سماع رأي، وما احتدمت مشاعرنا، وما توترت أعصابنا إلا من بعد ما رأينا خلال الرماد وميض نار. فالمتابع للإعلام المقروء والمسموع والمرئي، والداخل على مراكز المعلومات، تخيفه الجرأة الوقحة على علماء الأمة ورواد الإصلاح وقادة الفكر، من مختلف المذاهب، ممن شهد لهم القائمون بالقسط من علماء معاصرين لهم أو تابعين لهم بإحسان. وإحالة التعديات السافرة على حرية التفكير، وحق التعبير، وحتمية التنوير خطأ في فهم الحرية ومقتضى التنوير، فالحرية لا تكون إلا بضوابطها، والتنوير لا يكون إلا في تجديد الدين. أما الأخذ بالمكتشفات والمخترعات وإعداد القوة الحسية والمعنوية والاستفادة من تجارب الأمم وطرائقها فإنما هو استجابة متأخرة لأمر الله وأمر رسوله، وفريضة غائبة بسبب سوء الفهم لمقاصد الإسلام، كما أن الحرية المنضبطة لا تعني إطلاق اليد واللسان فيما يعن، ولو أخذ المتحدثون بهذا المفهوم، لفسدت أمور الناس. ومن حق كل راصد لحراك المشاهد الفكرية والسياسية حريص على مصالح الأمة رؤوف رحيم بها أن يتعقب المتجرئين على يقينيات الحضارة وعلى ورثة الأنبياء، وأن يتعرف على المخبّلين والمسرعين خلال الأمة لزرع بذور الفتنة، لإماطة الأذى وإيقاف التدهور، والكشف عما يعتمل في نفوسهم من ضغائن. فما من ظاهرة فكرية أو موقف متكرر من قضية أو مذهب أو عالم إلا وتكون وراءها مقاصد مشبوهة وجهات خفية تؤز الخلاف، وتذكي الشكوك، وهي مكائد قد لا يعلمها المثيرون أنفسهم. وكم من أحداث سذج جرّت أقدامهم، وأغريت ألسنتهم، وزين لهم سوء أعمالهم، حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن، ومضوا فيه، وفي اعتقادهم أنهم سباقون لإنقاذ أمتهم من موارد الهلكة، وحقيقة الأمر أن ما يفعلونه عين الهلاك وحقيقة الضلال، وكم من مبتدئ تصور أن لا مكان له في المشاهد إلا بإثارة الزوابع، وتحشيد المشاعر، وما علم ذلك المسكين أن تعشقه للأضواء كتهافت الفراش على اللهب، والمتدافعون على بؤر التوتر، حين لا يؤخذ بحجزهم، ويؤطرون على الحق أطرا، يثيرون (الرأي العام)، أو يضلونه، وقد يفقدونه صوابه، ويجرون قدمه لفتنة عمياء، وليست الوحدة الفكرية بأقل أهمية من الوحدة الإقليمية، واستفزاز (الرأي العام) مسايرة للأعداء، واستجابة لضغائنهم، وهو في النهاية مؤذن بتصدع الوحدة الفكرية.
والباحث عن المعرفة وتحرير المسائل، وإحقاق الحق، وتنقية المسار من شوائب الفرقة، يجب عليه الا يخلط بين مقاصد المذهب وممارسة الاتباع. ذلك أن المذهب أي مذهب، لا يتحمل أي مقترف باسمه، لمجرد الادعاء. وكم من مفتين أو متصدين لأي ظاهرة يخفقون، أو يخطئون في فهم مقاصد مذهبهم ومواقفه من القضايا، ثم لا يتورعون من إحالة مواقفهم على قواعد مذهبهم وأصوله ومناهجه. وكم من متعصب متماكر يتصيد أخطاء الأتباع، لينال من قواعد المذهب وأصوله، والتربص مؤشر على فقد المصداقية، وضعف الأمانة والإيمان. والمنقب في كتب المذاهب والمناقب، يقف على مرافعات، يمدها التعصب، ويؤزها حسد العلماء وأثرتهم، ولكن ذلك كله جاء في أضيق نطاق، وفي زمن القوة والتآلف والازدهار، فاحتمله جسم الأمة، كما يحتمل البحر اللجي ما يلقى فيه، فيحوله إلى زبد يذهب جفاء. وفوق ذلك فالمتنازعون إذ ذاك يعملون لحساب الإسلام، وإن بدرت من بعضهم مخالفات، كشفها العلماء في وقتها، وأزالوا لبسها. أما جدل اليوم فمختلف جداً، إنه عمل غير صالح، والمشاهد الفكرية تموج بمثل أولئك الذين يفسدون باسم الإصلاح، ويدفعون بالناصحين المتألفين للقلوب إلى الوقوع في التنازع والتنابز والتدابر. وذوو الألباب ينظرون إلى الظروف والأوضاع، ولا يوغلون في التأزيم، وبخاصة حين تكون الغلبة لأعدائهم.
وإن تعجب فعجب ما يتداوله أبناء السلفية من قول، استمدوا وقوده من وقوعات تاريخية، أرادوا من استدعائها إدانة السلف الصالح، وفي الوقت ذاته عموا وصموا عما تفعله الحضارة المتعلمنة المتعولمة في ديار المسلمين من تقتيل وتشريد وهدم، وطمس للتاريخ وإلغاء للذاكرة، وعما يكتبه الساسة والمفكرون الغربيون من افتراءات، يتلقاها عرابات الحداثوية والعلمانية باليمين، ثم لا نجد أحداً من مروجي قالة السوء عن الإسلام وحملته من امتعض أو ثار أو تمعر وجهه من أجل الحق. ومن المثير للتساؤل مقابل هذا الصمت المريب، ما يتخذه أولئك الأبناء من أقوال علمائهم في قضايا (الفقه الأكبر) والذي عليه مدار الحياة تزلفاً وتملقاً وإرضاءً للأعداء. وكم يبَّيتون ما لا يرضي الله من القول. وقد يكون (شيخ الإسلام) الأكثر تداولاً على مختلف الصعد الإعلامية، فلقد تعمدوا تصيد أقواله المبتسرة من سياقها والمفصولة من أنساقها، لتكون وثائق إدانة، ولم يترددوا في دعم ملصقي الإرهاب بالإسلام بما توصل إليه علماؤنا من قبله ومن بعده في قضايا (الولاء) و (البراء) و (الجهاد) و (إظهار الدين) و (الحكم بما أنزل الله) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مما هو واجب الذين مكن الله لهم في الأرض، ولأن المصلحين والعلماء يحيلون إلى اختيارات (شيخ الإسلام)، ويسترفدون (مفرداته)، فقد وجد المغرضون أن إدانة هؤلاء، لا تتم إلا بنسف أصولهم، وقطع صلتهم بمرجعيتهم، وإذا كنا نمقت الغلو، وندين التطرف، ونبرأ من مفارقة الجماعة، ونرى عصمة الأنفس المسلمة والمعاهدة والذمية، ونحفل بالوسطية والرفق والتيسير، والتعايش، والاتقاء، والوفاء بالعهود والمواثيق، فإن طريق ذلك لا يكون بإدانة العلماء، ولا باتهام المذاهب، وإنما يكون بالمراجعة والتصحيح، ورد كل حدث إلى مُحدثه، وتقصي الظروف والملابسات.
وأعجب من هذا التحرك المنظم، والتشايل المشبوه بين بعض طوائف الأمة الإسلامية لاستعادة ما وسعته صفحات التاريخ، وطواه التقادم من خلافات في علم الأصول أو الفروع، وهي خلافات لها سياقاتها وأنساقها وظروفها، والأطراف المتجاذبة لها في الحكم يرد أمرهم إلى الله وإلى الرسول، وبخاصة ما كان (ابن تيمية) طرفاً فيه، سعياً من أولئك البرمين من قول الحق، ورغبة في مظاهرة المتقولين عليه، وافتراء القول بأنه بتصديه للملل والنحل المخالفة لمذهب السلف، يؤسس لإرهاب منظم، نام كما أهل الكهف في صفحات التاريخ، حتى أعثر الله عليه المحتقنين منه الناقمين عليه. ولم يكن هؤلاء بالمنصفين، فاستدعاء عالم أو مذهب للمساءلة، يلزم معه معرفة خطاب المذهب الآخر وأسلوب مواجهته لخصومه. ولو أن المستدعين (لابن تيمية) تساءلوا فيما بينهم: لماذا سجن وعذب، ولم يسجن خصومه؟ أليس ذلك مؤشر عنف أشد، وتسلط أعنف ومصادرة للحرية من جانب واحد. ولست أشك أن هذه الحملات الكلامية مكيدة حاذق، سربت خيوطها، ليأخذ بها المواطئون والجهلة، ويتحقق من وراء ذلك هدفان:
الأول: - تحميل (الفكر السياسي الإسلامي) مسؤولية ما يعانيه العالم من اضطراب في الأوضاع كافة.
الثاني: - تشكيك الأمة الإسلامية في علمائها الذين تركوا من ورائهم أصولاً وأحكاماً وآراء، لو ابتدرها من بعدهم، لكان أن تخطوا بأمتهم كل العوائق.
وحين يعزز المتهم بالإرهاب مقولة المدعي بالاعتراف، تتحقق مكائد الأعداء، لأن ذلك يشرعن لوحشيته الفاعلة ولتحريشه القاتل، ثم يكون بأس الأمة بينها شديد. ومتى ألهيت الأمة بالشقاق، أصبحت مهمة الأعداء مقتصرة على تغذية الخلاف، وجني الثمار.
وذلك ما نراه بادياً للعيان، فبأس الأمة بينها شديد، وما من متابع للصحف والمجلات وسائر الإذاعات والقنوات ومختلف المؤسسات إلا ويجدها تؤز الفتنة، وتحرش بين أبناء الملة الواحدة، وتهيئ الأجواء لعشاق الأضواء، ليتبادلوا الاتهامات فيما بينهم، والتنقيب في صفحات التاريخ. وما من حضارة إلا وينطوي تاريخها على فترات مُضيئة وأخرى منطفئة، وما عهدنا تلك الفئات سباقة إلى نقد الذات، ومساءلة المنجزات، والكف عما بدر بين علماء الأمة من خلافات طواها التاريخ، فتلك أمم قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وإذا لم يكن في الاستعادة جدوى، ولم يكن من إهمالها مضرة، فإن القول فيها مؤشر مكائد، أحكم صنعها الأعداء، وتطوع لتنفيذها المغفلون، واستخف بخطرها الجهلاء.
ولما كانت الأمة في حالة من الضعف الحسي والمعنوي، فإنها أحوج ما تكون إلى فترة نقاهة واستجمام، يتجه فيها الأبناء إلى المتفق عليه، ويدعون المختلف فيه. وماذا يفيدها حين يلتقي أبناؤها المنتمون إلى طوائفهم على مسمع ومرأى من أعدائهم في العقيدة، فيلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً، تاركين المساحات المشتركة لمن يكيد لهم، ومن ذا الذي يسره أن يرى وسائل الإعلام سباقة إلى بؤر التوتر، تذكي أوارها، وتعيد مراحلها التاريخية المليئة بالشقاق والاختلاف، وإذا كانت فتراتها المنطوية مرت بها في زمن القوة والصدارة، فإن إعادتها في زمن الضعف والتخلف، مؤذن بفساد كبير. والذين ينقمون على (ابن تيمية) أو على تلميذه (ابن القيم) أو على (ابن عبدالوهاب) أو على أي عالم من علماء الأمة، من مفكرين ومصلحين ودعاة متقدمين أو متأخرين، ممن قالوا ما يعتقدون، وفندوا أقوال خصومهم، لا تراهم يستحضرون ما قيل بحقهم وحق العلماء الذين يأخذون عنهم، فإذا كفروا قولاً أو طائفة فإن غيرهم أعادوا الكرة عليهم، وحكموا عليهم بمثل قولهم، بل كفروا المذاهب التي ينتمون اليها، والعدل والإنصاف يقتضيان استحضار القول والقول المضاد، ليؤخذ كل مذهب بما اقترفت أيدي أصحابه، والعقل والحكمة يقتضيان الخلوص من نبش الماضي، والصواب تحامي الخلاف ما أمكن ذلك، إذ ما من أحد من العلماء إلا وله خلافاته مع لداته ومعاصريه من العلماء. والمنصفون لا يستدعون الخلاف لإذكاء المذهبية، وتصعيد التعصب، ومصلحة الأمة الآني في إرجاء تلك الخلافات، أو تركها للعلماء المشتغلين بها بعيداً عن وسائل الإعلام.
فالعلماء يحتملون الاشتغال في مثل ذلك، ويرونه طبعياً، أما إقحام الرأي العام، وتحشيد مشاعره فأمر مريب، ومن رغب الوقوف على التاريخ العلمي أو الفكري أو الحضاري للأمة فليطلبه في طيات الكتب وفي أروقة الجامعات، ثم ليدعه حيث هو، إذ الخروج به عن مضاميره تفريق وتصعيد لعداوات الأمة. وحين يكون الاختلاف في فترات الازدهار مؤشر ثراء معرفي يكون استحضاره اليوم للإدانة والإسقاط، ولم يكن (ابن تيمية) بدعاً من الأمر، فما قاله من آراء، وما اعتقده من أقوال سبقه إليها غيره، ولحق به من بعده، ولخصومه أقوال وعقائد لها وعليها فلماذا يتعالق أبناء السلفية السمحة مع غيرهم، ولا ينظرون إلى ما قيل في حق علمائهم وأصول مذاهبهم؟ وكان حقاً عليهم أن يقولوا لمن حولهم من المتعصبين لمذاهبهم والرامين لغيرهم بدائهم: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، نستعرض ما قاله كل عالم في خصومه، ثم نطويه، بوصفه وثائق تاريخية للحراك الفكري والعلمي، ونستأنف حواراً جديداً ينشد الوفاق، فإن لم يحصُل فلا أقل من التعاذر والتعايش، فما عاد الزمن قابلاً لإذكاء الخلاف، وإيغار الصدور. ولو أن الناقمين على الإسلام غفلوا عن (ابن تيمية) لما استدعته الألسنة والأقلام التي تمارس هدم كياناتها بأيديها، تاركة فرصة للشماتة والتشفي، وما من عاقل رشيد، يستسيغ ما يقال بحق علماء الأمة بشكل تعميمي وبأحكام مجازفة، كما لا يستساغ تحميل المذاهب الإسلامية جرائر الإرهاب الوحشي الذي لا تقره ديانة، ولا تحتمله إنسانية.
و (ابن تيمية) له رؤية: عقدية وفقهية، مارس حقه فيها، كأي عالم يخالفه في الرؤية، فلماذا يخص بالتجريح والتجريم، ولما تكن له أقوال مجتثة، وليست له مبادرات منفصلة عن أصول اعتقاد السلف الصالح، فما ذهب إليه منتج استقراء للنصوص، وفق أصول المذاهب السلفية وقواعدها التي ينتمي إليها، ووفق متطلبات المرحلة العصيبة التي عاشها، وما يقال عنه يمس السابقين واللاحقين والمتعقب لاختياراته في الفروع يجده محصلة لعالمين جليلين هما (ابن عبدالبر) و (ابن حزم) ومع اختلافه الواضح مع الظاهرية في الفروع والأصول، فإنه يترحم على ابن حزم، ولا يذكره إلا بكنيته، أما في الأصول فهو امتداد للمحدث والفقيه (أحمد بن حنبل)، والذين يختلفون معه من فلاسفة أو متكلمين أو طائفيين، يجب عليهم مساءلة المذهب الذي ينتمي إليه، والسعي لنقض قواعده وأصوله، ومتى استطاعوا نقض القواعد والأصول بحجة شرعية وقول محكم، سقط (ابن تيمية) ومن سبقه ومن لحق به، دون التنصيص عليه أو النيل منه، وإذا كانت الأحكام والآراء التي توصل إليها مناقضة لقواعد مذهبه وأصوله فإن علماء المذهب اللاحقين به، سيكونون الأسبق إلى الرد عليه ومساءلته، وهذا المحدث السلفي (ناصر الدين الألباني)- رحمه الله-، تعقب بعض كتب (ابن تيمية)، وتقصى أحاديثها، وفرق بين الصحيح والضعيف فيها، وما نقم عليه أحد، وما اتهمه أحد، ذلك أن الحق ضالة المؤمن، كما أنه تعقب بعض علماء الدعوة، واستدرك عليهم في الحديث والفقه وغيرهما، وما ثار أحد في وجهه، وما أحد من المعتدلين ادعى عصمة لعالم، ولا قطع بصحة قوله. ولقد أثر عن الشافعي أو عن غيره قوله:( إذا صح الحديث فهو مذهبي) وقوله أو قول غيره:( قولنا صدق يحتمل الكذب وقول غيرنا كذب يحتمل الصدق)، ومثل هذا القول وإن كان عليه ما عليه من التحفظ، يفتح الباب أمام المراجعة والمساءلة والنقد، ويستبعد العصمة التي يدعيها الجهلة والمقلدون وأنصاف المتعلمين.
ومما فات كل المتجادلين حول مسلمات (ابن تيمية) ، أنساقه وسياقاته، فالنسق المعرفي له، لا يمكن تصوره من تلك الابتسارات، ومواجهة (ابن تيمية) لا تكون بانتزاع الأقوال من سياقاتها وأنساقها، ذلك أنه يحيل إلى ضوابط وقواعد، وينطلق من ظروف خاصة، مسه فيها الضر، ومس أمته الهوان من (التتار)، والمبتسر يناقض الضوابط والقواعد وأدبيات الحوار، وليس من المعقول أن يناقض عالم مثل (ابن تيمية) مذهبه الذي يجالد ويجاهد من أجل إشاعته، فالذين يقولون إنه مجسم حشوي مكيف، وأنه ناصبي أو مبتدع، ثم يلتقطون جملة أو عبارة توهم بذلك، يرد ابتسارهم وقولهم إلى أصول مذهبه، الذي لا يرى التجسيم، ولا الحشوية، ولا التكييف، ولا التشبيه، ولا التعطيل، ولا يبتدع ولا يناصب آل البيت. والذين يجعلون أحكامه وفتاواه موطئة للإرهاب، لا ينظرون إلى ما لقيه شيخه أحمد بن حنبل من عنت وتسلط، ولم يكن منه إلا التسامح والدعاء لولي الأمر، وما لقيه (ابن تيمية) نفسه من نقد وظلم. ومن نسب إليه من أقوال يخالف فيها مذهب السلف فقد افترى عليه الكذب، والذين يقترفون العنف، ويوغلون في الدين بغير رفق، ويغلون في دينهم، ثم يبررون ما يذهبون إليه بقول (لابن تيمية)، يتحملون تصرفهم الخاطئ وإحالتهم الكاذبة. و (ابن تيمية) براء منهم ومن غلوهم، ولا يتحمل نتائج الفهم السقيم، ولم يكن وحده مجال الشجب والاتهام، ولكنه واحد ممن أسيء إليهم، واستدعاء القضايا والأناسي مما خلا، واستدبار النوازل مؤذن بتخلف فوق تخلف، ولقد نهينا عن الجدل العقيم، وعلى الذين اتخذوا الإثارة سبيلاً لتثبيت الأقدام، وتسويق الذوات في نخاسة الإعلام أن يلطفوا بأمتهم، وأن يرحموا ضعفها وهوانها على الناس، وأن يلتمسوا مصادر شهرتهم وكسبهم من مجالات أخرى، لا تعرض مثمنات الأمة للضياع، ولا تعرض الأمة للصَّغار.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:55 PM

مأسسة الثقافة وثقافة المؤسسات..! 1-2
د. حسن الهويمل


لكي تتضح رؤيتي، ويتحدد مفهومي، أشير إلى أن همي منصب على تيسير التفاعل بين الأمة وسائر مؤسساتها.. وتوقعي أنه لن يتم التفاعل الإيجابي حتى تُهيأ الأذهان.. وتقوم الثقة والألفة، وتتم المعرفة، وتجسر الفجوات، وتُنقى الأجواء، وتتحقق الغاية من الشفافية.. ويقيني أنه لم يتحقق أيسر المطلوب.. ولقد سميت التهيئة والتجسير والثقة والمعرفة والشفافية ب( ثقافة المؤسسات)، وما أردت إلا التوفيق بين طرفي المعادلة: الإنسان والمؤسسة.. وما كنت في شأن من شؤون الحياة مثلما كنت في تطلعي لإشاعة (ثقافة المؤسسات)، ليكون الناس على بيّنة من أمرهم، ولتكون الأجواء ملائمة، تتمكن في ظلها أيُّ مؤسسة في أي حقل: معرفي أو إجرائي من استغلال أقصى طاقاتها، وتحقيق رسالتها المنوطة بها، وتعويد الناس على انسيابية التعامل معها.
فنحن - مثلاً - أحوج ما نكون إلى إشاعة (ثقافة الانتخاب)، و(ثقافة الشورى)، و(ثقافة الحوار)، و(ثقافة حقوق الإنسان) بوصفها ذات مهمات طارئة، لم يألفها الناس.. وكل مؤسسة تمس الشأنَ المحليَّ ومصائرَه، وتنشق عنها طموحات العصرنة، تحتاج إلى مقدمات: معرفية وتأهيلية، تُمكِّن الإنسان من التصوُّر السليم لها، والتفاعل الإيجابي معها، وتثبت أفئدة المترددين في قبولها، وتربط على قلوب الوجلين.. وتزداد أهمية ذلك، حين تمارس الدولة مأسسة كلَِّ شيء أتت عليه، بما في ذلك ما يفضِّل المجربون تركه طليقاً كالمهرة في الفلاة، وبخاصة ثقافة: الفكر والإبداع.. والمدنية والحضارة لا يستوي وضعُهما، حتى تُضم الأشباه والنظائر إلى بعضهما، وحتى توحَّدَ المرجعيات، التشريعيةُ والتنفيذيةُ، وحتى لا يكون أمر الناس عليهم غمةً.
وحركة الإصلاح والتطوير والتغيير التي تخوضها الدولة على تخوف وتردد، لن تحقق أهدافها المضمرة أو المعلنة، حتى تمس أدمغة الناس وأفكارهم، قبل أن تمس أحوالهم.. فلكي تتخلص الأمة من الانفعال إلى الفعل، لا بد أن تعي الآذان الواعية ما يقال، وتتقبل النفوس المطمئنة ما يُفعل، وحتى يَثْقَف الناس المهمة والهدف وأسلوب التعامل لكل ما يجد.. والتحرف للإصلاح الإداري، تمخض عن دمج وإلغاء وإحداث.. وتلك خطوة وئيدة، تتجه صوب الإصلاح والتفعيل المنظم.. وإيقاع الدولة المتسارع في المأسسة، وتحديث الأنظمة وإحداثها، وانشغال مجلس الشورى بالأحداث والتعديل، يتطلب: مهاداً واستقبالاً واستيعاباً واستجابة.. وتحقيق ذلك مُرتهن بإشاعة (ثقافة المؤسسات) لتنشئة الثقة والمعرفة، ولتمكين المؤسسة من تلمس أيسر الطرق وآمنها إلى شرائحها المقصودين بخدمتها، وتوفير الإفادة والاستفادة، والتعريف بمجال الأداء، وحجم الانتفاع.. ومتى شئنا تضافر الجهود المتجانسة واستقطابها، وتأدية مهماتها بشكل جماعي منتظم، فلا بد من تيسير النظام للمستَهْدَف، وتسهيل المجال للفاعل، والتعريف بمحاذير الاعتزال.. وسبيل ذلك كله أو بعضه مادة (التربية الوطنية) التي لم يجوَّد إعدادها، ولم يفعَّل أداؤها، وسائر المنابر: الدينية والثقافية والإعلامية، التي ما فتئت تجتر قضايا ثانوية، وتسخن ظواهر باردة، وفي الأحشاء ما فيها من لهيب المشاكل المصيرية.
والمؤسسات غير الواعية أو غير المستوعاة، تتآكل مع الزمن، لأنها لا تزرع الثقة، ولا توطئ أكناف التواصل، ولا تحقق المراد بأيسر الجهد وأقل الوقت. وتلك خليقة الشعوب النامية، المصابة بداء الشكلية العقيمة، و(البيروقراطية) المعيقة.. ومصلحة المستشرفين للمستقبل، تكمن في رفض الاستسلام لتلك الخليقة.. وليس هناك ما يمنع الخلوص من تلك الأدواء المستوطنة، والتي أصبحت سمة بارزة في أداء العالم الثالث، والرقي بالوعي إلى مستوى المؤسسات، وتفعيل الواقع المعاش من خلالها، يتطلب الإلمام بأبجديات النظام والمنهج والآلية والمقاصد والمفاهيم، وهضم طبيعة المؤسسة ومهماتها.. وكم من مؤسسة كما البئر المعطلة، وكم من نظام مجهول أو معقد، وكم من تعليمات غامضة، عوّقت الأداء، وأطفأت وهج التفاعل.. وواجب المشرعين والمنفذين العمل على التفعيل والتعريف والتسهيل والتوضيح، ولا سيما أن ذلك كله هم وهدف كامنان في أعماق المشرعين.
إن قيام مؤسسات: دينية وشورية وأدبية واجتماعية وإعلامية وتربوية وادعائية وحقوقية وسياحية ومجالس عليا: للتعليم والاقتصاد والبترول والشؤون الإسلامية وأخرى لم تأت بعد.. وإنشاءَ روابط وهيئات وجمعيات ونقابات ومنظمات، يعني الاتجاه السليم صوب استكمال متطلبات المدنية والتحضر، وظهور المجتمع المدني، والاستعداد لمواجهة طوفان العولمة، ونوايا القطب الواحد، ومضمرات المشايعين له.. ولن يحقق الحراك المنظم هدفه المنشود، حتى يتوفر المُستهدف بهذه الخدمات على وعي سليم، وتمثل حضاري سديد، يستبعد الاعتزال والتعالي والتمارض واللامبالاة، ويوقف استفحال الأثرة، وينمي روح العمل الجماعي، أو ما يُسمى ب (روح الفريق الواحد)، وحتى يعرف القومُ ما هم عليه، ويفقهوا واقعهم على حقيقته، ويتصوروا إمكانياتهم الذهنية، وحجم مهاراتهم، ومدى توافق ذلك كله، وتكافئه مع حركة المؤسسات.. وكم نتابع الألعاب الرياضية الجماعية، وننظر كيف يتحقق النصر بالتفاهم والتعاون والانسجام، وتبادل المهمات والمواقع بانسيابية وفورية وتنسيق للجهود، ثم لا نعتبر.
إن فئات المجتمع في مضامير المؤسسات أشبه شيء بعمال المصنع أو بأفراد الفريق، لا تنتظم مهماتهم إلا بالتعارف والتعاون والتفاهم والتكتل.. ولن يظفر أي فرد أو جماعة بشيء من النجاحات المأمولة، حتى تقوم الألفة والمودة والثقة والإيثار بين الأفراد من جهة، وبينهم وبين المؤسسة التي ينتمي إليها كل فرد: عالِماً كان أو أديباً أو مفكراً أو معلماً أو عاملاً في أي حقل: معرفي أو مهني.. وأهمية الثقافة تزداد حين تستبق الدولة الزمن في سبيل التحول المؤسساتي.. والأطياف المتجانسة حين تثبطها اللامبالاة، أو يقعد بها الجهل، أو يعوقها الاسترخاء والتسويف، تقع في إشكاليات تعوِّق المسيرة، وتشل الحركة.. ولن يتأتى الوجود المثالي لأي مؤسسة إلا بالتحامها مع من أُنشئت من أجله، وتمكينه من إدراك رسالتها، وحدود مسؤوليتها، واستيعاب الأسلوب الأمثل للتعامل معها، والوقوف على إمكانياتها، وفهم نظامها، واحترامه، ومعرفة ما تقدر على تقديمه لذويها.. والمتابع لكثير من مؤسسات الحكومة المدنية، يحس أنها لا تستغل أدنى حد من طاقتها: إما لسلبية ذوي الشأن، أو لعملهم بمعزل عنها، واستغنائهم عن خدماتها.. وأضر الأسباب وأخطرها توهمهم أنها تشكِّل عقبة في طريق انطلاقهم، وتخوفهم من أن ارتباطهم بها مثبط لحركتهم، قامع لتصرفهم، مطامن لوجودهم.. وللتغلب على هذه الأحاسيس، تقع المؤسسة في مأزق التنازلات المخلة، أو الادعاء العريض، وقد لا تجد قبولاً ولا إقبالاً ولا تصديقاً.. وتناولي لهذه الإشكاليات، لن يكون رهين الإقليمية، فلقد تعوّدت التخلص من الاحتباس في الشأن المحلي.
وإذا كان الأقربون أولى بالمعروف، فإن للسياق العربي أثره، وليس بمقدور أحد أن يأوي إلى جبل يعصمه من أخطاء المتماسين معه إلى حد الخلطة.. فالعالم العربي بجملته يفتقر إلى هذا اللون من الثقافة، فيما تفتقر مؤسساته إلى الواقعية، ومرونة التعليمات، والشفافية.. والإنسان العربي: إما مُرْهِق للمؤسسة بتحميلها ما لا تحتمل، أو مجبول على مواجهة السلطة، والوقوف منها موقف المنابذ المتمرد، وليس موقف المناصح المعارض.. وأحسب أن هذه الخليقة بقية من رواسب الخطابات الثورية، التي زرعت في الأعماق العداء للسلطة، وأعني به العداء غير المبرر وغير المشروع.. مع أن الحضارة والمدنية لا يقر لهما قرار إلا في ظل سلطة قوية عادلة، وأمة واعية فاعلة. ومن ظواهر التعويق ما جبل عليه مؤسسو المؤسسات وواضعو أنظمتها، من مثاليات لا تطال، أو من تعليمات لا تُفهم، مما يؤكد على أن الإشكاليات عقبات مشتركة، وليست ناتج جهل وحسب، ومثل ذلك يتطلَّب المكاشفة ومواجهة التقصير بثقة وتحامي الإسقاط.
ومن المسلّمات أن كل نظام في الحياة له ثقافة: معرفية وإجرائية، تنظِّم أسلوب التفاعل المتبادل بين إنسانه ومؤسساته.. وما لم يتقن المجتمع ثقافة نظامه القائم، فإنه يدخل تحت طائلة الانفصام الشخصي.. ولا فرق بين الأنظمة في قيام الحاجة إلى الثقافة.. فالنظام من حيث هو، لا يتأسس إلى على تواطؤ، وتوافق، ورضا، يعقبها فهم واستجابة.. فلا قيمة للفهم بدون استجابة، ولا قيمة للاستجابة بدون فهم.
فالأنظمة السلطوية المستبدة.
والأنظمة العادلة القوية.
والأنظمة المدنية المتحضّرة.
والأنظمة البدائية المتوحشة.
والأنظمة المادية المتعلمنة.
والأنظمة الشورية المتأسلمة.
كلها لا تنهض من فراغ، ولا تعمل في فراغ.. إنها بحاجة إلى: مرجعية تقبل بها المجموعة، وتسلم لها على ضوء مستواها المعرفي وانتمائها الحضاري، وإلى أنظمة مفهومة يستجيب لها المستفيد، وإلى أمة عازمة حازمة تستمد من المفيد.. وحين ترضى الأمة بنظامها على أي شكل كان، يجب أن تمنحه المشروعية، وتتبناه في المنشط والمكره، وتتكفل له بالحماية والإشاعة.. وحين ننطلق برؤيتنا من مفهوم النظام، لا نتصوره طوباوياً مغرياً، ولا واقعياً محبطاً، وإنما نتصوره وجوداً فاعلاً على أي نمط، ونتلمس شكل العلاقات المتبادلة بين مؤسساته وأناسيه.
ولكل أمة ( عقدها الاجتماعي) الذي يحكم حراكها على كل مستوياتها: الدستورية والتشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية.. وكل كيان في بنائه الرأسِيِّ أو الأفقي، يصدق عليه المفهوم المؤسساتي، وإن تفاوتت ممارسته بين الفردية والجماعية، والكثرة والقلة.. وكل أداء منظم إن هو إلا علاقة متوازنة بين (الإناسة) و(المأسسة)، ومتى انفض سامر الناس من حول مؤسساتهم، لأي سبب مبرر أو غير مبرر، وسعوا وراء مصالحهم الذاتية بإرادة فردية، ولم يرضوا بما عقدوا الإيمان عليه، دبّ فيهم الضعف والوهن، وفشا فيهم الجدل العقيم، واستوت عندهم الأنوار والظلم:




(وما انتفاع أخ الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم)

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:56 PM

مأسسة الثقافة وثقافة المؤسسات ..! 2-2
د. حسن الهويمل


ولقد يكون من الأهم أن نشير إلى ما تتداوله المشاهد من نقص في أهلية المؤسسات، وهو نقص يحال إما: إلى أنظمتها، أو إلى تنفيذها، وقلّ أن يحال إلى سوء التعامل معها أو سوء فهمها. ولربما يكون لذلك بعض الصدق أو كله، وقد يكون من باب تقاذف الكرة، والتخلي عن المسؤولية، فما عهدنا أحداً يحتمل الاعتراف بالخطأ. ولو جنحنا إلى التفصيل، وجدل التنصل من المسؤولية، ورد كل قول إلى مصدره لبعدت علينا الشقة، وفوتنا على أنفسنا ما نحن بصدد الحديث عنه. وما أردنا في حديثنا هذا استنزاف طاقاتنا في المماحكات عن ظواهر لسنا معنيين بها فيما نقول. ومع هذا العدول الوقتي فإن المتابع الناصح الواعي لا يكون خِبَّاً ولا يخدعه الخبُّ. إن هناك تقصيراً لا يماري فيه إلا فضولي، وهناك شيئاً من الارتباك لا يستبينه إلا المتماس، وهناك نقصاً في الكفاءات لا يكتوي به إلا ذوو الحاجات، ولكن هذا كله لا يبرر النقص الكبير في (ثقافة المؤسسات)، وهذا النقص فيما أرى رأس كل خطيئة. ولو استطعنا تلافيه، لأمكنت السيطرة على البواقي، إذ ستكون المواجهة بين المؤسسة وإنسانها مواجهة حضارية، تقوِّم الاعوجاج، ولا تصدع العلاقة.
ومع هذا أو ذاك فإن تمثُّل ثقافة أي نظام تمثُّلاً منتجاً يعني فهمه فهماً حقيقياً وممارسة التفاعل معه، تفاعلاً يمده بالقوة والثبات والعطاء. ومعالجتنا ل(ثقافة المؤسسات) لا تفرض علينا النقد والتقويم، فهدفنا هنا منصب على نقص ثقافة المستفيد لا على تقصير المفيد، ومرادنا التوفيق بين المؤسسة والمقصود بخدمتها.
وفَقْد الثقافة قد لا يرتبط بالنقص ولا بالتقصير، ولا ينشئه الرفض ولا الاستياء، إذ ربما لا يكون بين الطرفين أيُّ خلاف في المبادئ، أو اختلاف في وجهات النظر، ومع ذلك لا يكون بينهما انسجامٌ ولا تفاعل. وحين نفتش عن السبب، نجده نتاتج فَقْد ل(ثقافة المؤسسة). وحاجتنا الملحة لا تستدعي التزكية ولا الإدانة. إذ همُّنا الآلي، يحركه حرصنا على توفير آلية التفاعل المثمر مع كل مؤسسة، أريد لها أن تخدم طائفة من المجتمع. وعندما يكون الاعتزال ناتج ضعف في أداء المؤسسة، أو ناتج خللٍ في نظامها، فإن لذلك شأناً آخر. ومجال حديثنا حول القطيعة الناتجة عن قصور في الفهم أو خطأ في المفهوم.
ولن تتحقق جدوى أيُّ مؤسسة إلا بالتنسيق بين المنتج والمتلقي، واستيعاب كل طرف للآخر: استيعاب أداء، واستيعاب فهم. وحين نعدل عن تحديد سمة المؤسسة ومجالها، فليس ذلك استغناءً ولا استخفافاً، ولكنه انشغال بالمفضول، بوصفه مجهزاً للفاضل. كما أننا نركز على الخلل الواقع، نتيجة ضعف التبادل المعرفي والأدائي بين طرفي المهمة. وليس بالضرورة أن يكون العزوف ناتج الطعن في أهلية المؤسسة، أو التناقض معها مبدئياً، أو تقصير المؤسسة في توصيل المعلومة المرتبطة بشكل العلاقة وأسلوب أدائها. إننا نحمل المواطن قسطاً من المسؤولية، فهو قد لا يبالي في تلقي المعلومة المنظمة للتواصل والتفاعل، وإذا تلقاها قد لا يتمثلها. وسأضرب مثلاً بعلاقة المواطن ب(البنوك) بوصفها مؤسسات لها ثقافتها وأسلوب التعامل معها. لم لا يكون هناك ارتباك ولا تهميش من أحد الطرفين للآخر؟ مع ان (البنوك) لا تملك سلطة المؤسسات الغائبة أو المهمشة، علماً أن الذين يقفون بمعزل عن تلك المؤسسات، قد لا يشكُّون في سلامة مقاصدها، ولا في نزاهة منازعها، ولكنهم يفتقرون إلى مغريات التعامل، وتقنية التواصل، ومعرفة الأهمية. وهذا ما يفعله قطاع (البنوك)، وقد لا تفعله بعض المؤسسات.
وإذ يكون من المهم استباق الحديث عن (التأسيس الثقافي) فإن الأهم النظر في تفعيل الممارسة من خلال المؤسسات المنوط بها استقطاب القادرين على الأداء، والمستحقين لناتج الأداء. فالمؤسسة فاعلة من خلال أطيافها، ومنتجة لحاجة هذه الأطياف.
وإذا لم يكن هناك توازن في تداول (الحقوق) و(الواجبات)، فإن المؤسسة تفقد من أهلية وجودها وفاعلية أدائها بقدر اختلال التوازن. والحديث عن تكافؤ الفرص بين (الحق) و(الواجب) والتوازن بين (الأخذ) و(العطاء) يفضي بنا الى ما يمكن تسميته ب(ثقافة الثقافة)، وهو المنظور الاجتماعي للثقافة ف(علماء الاجتماع) حين تقحموا معمعة الإشكالية المأزومة لمفهوم الثقافة، التقطوها من جانب (التمثل والممارسة). ذلك أن الثقافة: معرفة وحذق وممارسة. ولسنا معنيين بنوع المعرفة، ولا بالقدر المدْرَك يكون المدْرِكُ مثقفاً، وإنما يعنينا سلوك المثقف على ضوء مكتسبه المعرفي، تمشياً مع رؤية (ابن مسعود) رضي الله عنه المتمثلة: بالحفظ والفهم والعمل.
و(العلاقات العامة) طرفٌ أهم في السلوك. ولهذا عول (علماء الاجتماع) على التفعيل السلوكي للثقافة. وهل تنتفع الأمة من علمائها ومفكريها ومثقفيها، إذا لم تُفعَّل إمكانياتهم، وتترجم إلى عمل، وما لم يبدُ أثرها في سلوك الفرد؟ وكأن لسان حال المؤسسات يقول:
(وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا.. ودون الذي أمَّلت منك حجاب)
وكل هذه الإشارات المتناثرة، تصب فيما نقصده ب(ثقافة المؤسسات). وجماع أمر هذه الثقافة: أن يَفْعل المعنيُّ من خلال المؤسسة، بعد استكناه المسطور من نظامها، وأن يفعل من أجلها ، بوصفها منطلق الأداء المنظم، وأن لا يسبقها بالفعل ولا بالقول، إلا حين يُجمع أهل الشأن على عجزها عن مسايرته، أو حين تخالف إيقاعها المطلوب، وحينذٍ لا بد من وضع آلية لأسلوب المخالفة، إذ لا يجوز ترك الأمر لسائر الأمزجة والرغبات. ذلك أن الحياة لا تكون سوية إلا بالنظام وتحديد السلطات. ولا بد والحالة تلك من دخول المعمار، وإصلاحه من الداخل، وكل عمل خارجه أحسبه ك(مسجد الضرار)، لا يزيد الأمور إلاّ تعقيداً على أن لكل حدث حديث، ولا مجال للإطلاقات والتعميمات والنمطيات الرتيبة.
ولقد كانت المبادرات الفردية، وذهابُ كل راءٍ بما يرى سبباً في وهن الأداء وتسيبه، وتشتت جهود المؤسسة. ولو ضربنا مثلاً ب(المؤسسات الدينية)، ك(الإفتاء) و(الحسبة) أو ب(المؤسسات الأدبية) ك(الأندية الأدبية) و(الجمعيات)، أو ب(المؤسسات الوطنية) ك(مركز الحوار) و(حقوق الإنسان) لوجدنا أن مدار استدبار البعض لها: إما على الجهل أو الاستغناء أو الشك في المصداقية أو الاضطراب المفهومي. ولا أشك أن حسم مثل هذه العوائق رهين الإلمام بالثقافة الغائبة، وتحمل مرارة الاعتراف بالواقع، فادعاء الصحة مع استشراء المرض مؤذن بالهلاك الناجز. وممارسة مهمات المؤسسات خارج إطارها من قبل أفراد مجتهدين، أو مستبدين، سيؤدي في النهاية الى التخذيل والوقوع في الفوضى. وقد يؤدي الاستبداد الى الازدواجية أو الصدام. ودعك من المجازفين والخارجين على السلطة، فلأولئك شأن آخر، ليس هذا مجاله. ومكمن إشكالية المؤسسات ان كل فرد يجانس فعله فعلها، يرى أنه أمة وحده، وأن أطره ضمن العمل الجماعي المشترك، يعني إفشال توهمه الأممي. وحتى لو ترك يخوض في أوهامه، ما كان منه ان يعمل بمعزل عن أداء المؤسسة، بحيث لا يؤثر على مجال أدائها، وإنما سيكون منه سلقٌ وإزلاقٌ، ونزعٌ للثقة، وطعنٌ في الأهلية. الأمر الذي يعيق حركة المنشأة، ويغري من بداخلها على ان ينفضوا من حولها، وقد تتحول تلك المخالفة المقدور على تلافيها بالإجراء العملي الى ظاهرة عصية. فكل إنسان يود أن يكون أمة واحدة، يستبد بآرائه وإرادته . وليس من مقتضيات الثقافة أن يكون المقصود بخدمة المنشأة إمَّعة، لا يفرق بين السلب والإيجاب، ولا بين النجاح والإخفاق، ولا أن يكون كشاعر غزيه في غوايتها ورشدها، فالثقافة لا تكتمل حتى تتوفر الندية، وحرية القول المسؤول، والشفافية، واحتمال المساءلة. وحتى تُحفظ الحقوق، وتُؤدى الواجبات. ولكل فعل أو قولٍ ضوابطه وأهله.
إذاً ثقافة المؤسسات ذات شعب ثلاث:
- الفهمُ أولاً.
- والعملُ ثانياً.
- والوفاءُ بالعقود ثالثاً.
وكل ذلك تحكمه ضوابط وأدبيات وآليات للتعامل مع المؤسسات، متى فُقدت، أفضى ذلك إلى فقد الهيبة والاحترام، ومؤدى ذلك إعاقة الأداء، وتعطيل الحركة. وخلل التواصل غير المقصود، يتطلب التجسير والتيسير، وإزالة العوائق. وما منيت القيم بمثل ما يعرض لها من انكفاء على الذات. وظواهر الاعتزال التي قد لا يلقي لها البعض بالاً، تؤدي في النهاية إلى فقد المؤسسات رسالاتها. وفي النهاية تتحول إلى هياكل خاوية، وتصبح شكليات غير فاعلة، والدولة مجموعة من الأناسي والمؤسسات المحكوم تفاعلها بعقد مكتوب أو معهود. و(ثقافة المؤسسات) إضافة إلى ما سبق تعني:
- الفهم الدقيق لرسالتها، والثقة التامة بها، وممارسة العمل من خلالها، والاستفادة من خدماتها، والعمل على ترشيد أدائها، وتقويم عوجها بالحكمة والجدل الأحسن، وتقديم المشورة لها, ومصداقية التعامل معها، ومن خلالها.
- التفاعل الإيجابي بين كوادرها والمقصودين بخدمتها، وتكافؤ الفرص، وتداول المسؤولية، وتفادي الأثرة والإقصاء، وحدية المفهوم والأداء.
- إتاحة الفرصة لآلية المؤسسة، لكي تعمل في مجالها، وتهيئة الأجواء الملائمة لمزيد من العطاء.
- مرونة التعليمات، وقابلية التطور، وسرعة التكيف مع المتغيرات.
- إطراح التنافس حول سدة المسؤولية، والفراغ للأداء السليم، والتنافس في الإنتاج لا في السيطرة.
- الدقة في تحديد مسؤولياتها، ومدى قدراتها، تفادياً لتحميلها ما لا تحتمل وإدانتها بمسؤولية غيرها.
إن أمامنا ثلاثة مفاهيم:
- ثقافة المؤسسات.
- والتأسيس الثقافي.
- ومأسسة الثقافة.
ولكل مفهوم مقاصده ومقتضياته. واهتمامنا منصب على (ثقافة المؤسسات) وإن كان التأسيس والمأسسة من الأهمية بمكان.
- ف(ثقافة المؤسسات) أن يعي المعني ما يراد به، وما يراد له، وما يراد منه من خلال تلك المؤسسة، وأن يستشعر أهليتها في ممارسة حقها، وأن يتحرج من الخروج عليها.. متى التزمت بنظامها، ونهضت بمسؤوليتها.
- و(التأسيس الثقافي) يعني استكمال البنية التحتية للثقافة السائدة المهيمنة، بحيث يستوعب المنتمي ثوابت الحضارة التي ينتمي إليها، ويلم بيقينياتها، ويعرف نواقضها، ثم ينطلق في آفاق المعرفة الإنسانية, كما النحلة، يلتقط من حضارات الغير بندية وتكافؤ ما لا تقوم الحياة الكريمة إلا به.
- أما (مأسسة الثقافة) فيعني تحول الحراك الثقافي الطليق إلى مرجعية إدارية تنظم تحركه، وترود له، وترسم مساره، وتضبط إيقاعه. وإذ نتفق مع المفهومين السالفين: (ثقافة المؤسسات)، و(التأسيس الثقافي). فإننا لا نجد حرجاً من قبول التحفظ على (مأسسة الثقافة)، ممن يخشون ضمورها، حينما يؤطرها نظام، ويحكمها إجراء. ولما لم نكن معنيين بقضايا المفاضلة، فإننا لن نستعرض وجهات النظر، وإن لم نجد بأساً من التفاوت في القبول بين المطلق والمشروط.
وكل الذي يشغلنا ما نعايشه من غياب معيب ل(ثقافة المؤسسات)، بين كافة المنتفعين والمعنيين، وما نراه من تعرض بعض المؤسسات للفشل الذريع، لا لعلة كامنة في نظامها، ولا لنقص في كفاءة مسؤوليها، ولكن لانقطاع المقصودين بخدمتها، واشتغالهم خارج أروقتها للأسباب التي أشرنا إليها سلفاً. وإذا كان الحكم على الشيء فرعاً عن تصوره، فإن العمل من خلال الشيء محكوم بثقافة إجراءاته وتعليماته، ويوم أن نفقه (ثقافة المؤسسات): معرفة وإجراء، تنحل أعقد المشاكل استحكاماً، وتزول أقوى العقبات رسوخاً، وتُقبل الأطياف للفعل والتفاعل تحت قبة المؤسسة. أقول ما تقرؤون، وعندي كل الثقة بأن في إمكاننا تخطي العقبات، فنحن أمة تمتلك مقومات العيش الكريم، وحاضرها مليء بالفرص، مستقبلها يفيض بالوعود الباسمة.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:56 PM

المحو والإثبات بين خطاب الكسب وكسب الخطاب 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


عاصفة الانتخابات الأمريكية تجتاح المشاهد السياسية كافة، حتى لا تدع رجلين على قلب رجل واحد، ولا تنفك وسيلة إعلامية من الامتلاء بالقول ونقيضه. ففي كل أربعة أعوام، تندلق الألسنة بالرهانات، وتجري الأقلام بالاحتمالات، فلا تسمع إلا صراخاً لا يفيق، وإلا صريراً لا يهدأ. وكأن المصائر معقودة بناصية الرئيس المنتخب، فيما لا تثير أي انتخابات أخرى أدنى اهتمام.
وقبل أيام وضع اللزز الانتخابي أوزاره، والتقط اللاهثون وراء المتسابقين انفاسهم وتحول الفائز من خطاب الاستدراج المكشوف لكسب الناخبين، إلى خطاب التملق الممجوج، لكسب الساخطين من الأصدقاء. وإسكات عويل الضعفاء من الاضطهاد. وتخفيف ضجر الصامتين من الأنداد. وذلك التلون الحرباوي يستدعي عملية مرهقة من المحو والإثبات، وخدر الأعداء والأنداد ببوارق الأمل. ولسان الحال والمقال لوافد الحزب يقول: ما فات مات، ولك اللحظة التي فيها. والذاكرة العربية المعطوبة بنت لحظتها، لأن كلام الليل يمحوه النهار. ولو أن المستهدفين بالمحو والإثبات يستحضرون ما قيل بالأمس وما يفعل بهم، لما كان بإمكان اللاعب أن يستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأمريكا التي تذم بكل لسان، ويتملق لها كل إنسان، ستظل مشروع قراءة متعددة المناهج والآليات ونظريات التلقي. لأنها نص مفتوح، يتسع لكل القراءات. ولقد كنت مهتماً بهذه الرياضة الفكرية، منذ حملة الانتخابات ل(جون كندي ت 1963م)، الذي لم يكمل مدته، حيث اغتيل، وظلت عملية الاغتيال غامضة إلى يومنا هذا، وظل الحادث مشروع دراسات وتأبينات تثير الفضول، وما الغيلة إلا نتيجة متوقعة لكل مغرد خارج السرب، فأمريكا تحكمها المؤسسات السرية والعلنية، ولا مكان فيها للاستبداد الفردي، وبإمكان المتردد استعراض قائمة الاغتيالات التي اتهمت بها المؤسسات المعنية بتصفية أي عنصر يشق عصا الطاعة.
والحملة الانتخابية في أمريكا بالذات وجبة شهية للخلي وللشجي، ولهذا كانت رغبة الكتابة عن ضجتها تساورني منذ البدايات الأولى لها، ولا سيما بعد أن طالها شك التزوير، وخضعت للمراقبة الخارجية لأول مرة. ولما أزل أمني النفس بالحديث عن أمريكا خارج ظروف الصخب الانتخابي، بوصفها الفاعل الرئيس في كافة المشاهد، والموضوع الأهم لكافة المتحدثين ولقد أحسست أن الحديث عنها مطلب لكل المكتوين بنار انحيازها المكشوف والمسحوقين بجرائر حربها الظالمة، ولما كنت أحوج ما أكون إلى قراءتها بلسان قومها، بعيداً عن تشنجات الساخطين، ولغط الاعلاميين، وهلوسة المبهورين، كان لا بد من الإصاخة للشاهد من أهلها، والوقوف على آراء الساسة والمفكرين الغربيين، ومن ضارعهم في التجربة والمعرفة من محترفي السياسة وقرائها العرب أمثال (هيكل) وبخاصة في كتابه الأخير (الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق). ولهذا كان همي متجهاً صوب ما ترجم من مؤلفات اساطين الفكر والسياسة الأمريكية وكافة الناشطين في البحث عن تجليات الحرية، و(الديمقراطية)، وحقوق الإنسان المتداولة إعلامياً على ألسنة مسؤوليها في سبيل تبرير تدخلاتها. وأمريكا لا يستوعبها الناظرون إليها من خلال مطل (البيت الأبيض)، ولا الذين يمتعون أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم بممارستها للديمقراطية وللحرية وتوفير حقوق الإنسان الأمريكي الأبيض، ولا الذين تبهرهم منجزاتها العلمية والمعرفية، ويشدهم استقبالها لكل المفكرين والعلماء، ويعجبهم احتفاؤها بالنظريات، وحفولها بالتجارب، وهيمنتها على اقتصاد العالم. إنها أطياف كما (قوس قزح) أو كما (المرآة في كف الأشل). أمريكا عوالم لا تحسم أمرها صرخات المقهورين ولا هتافات المبهورين ومع هذه الاستحالة فقد هيئت لي في صيف هذا العام إمكانية المرور بأكثر من عاصمة عربية، والمرور بما أقيم فيها من معارض دولية للكتاب، وحضور ما نفذ فيها من مؤتمرات: فكرية وسياسية وأدبية، وما احتدم من مناقشات في (اللوبيات) بلغت أقصى حد من التناقض، فمن لاعن مشيطن إلى مسبح مقدس. فكان أن اتخمت بما سمعت ورأيت، وعدت بجر الحقائب من الكتب التي تتخذ من السياسة الأمريكية مجالاً لها، وبخاصة ما كان مكتوباً بأقلام ابنائها: المختلفين مع سياستها الخارجية، أو المثقفين معها: من مأجورين أو ناقمين على ردود الفعل العالمي، ممن يميلون معها كل الميل. ومن منصفين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا يجدون حرجاً في أنفسهم من أن يقولوا كلمة الحق، ويشهدوا ولو على أنفسهم.
والمتابع للراصدين والمحللين يذكر (روجيه جارودي) في شعرات الكتب، ومن أهمها ثلاثيته (قضية إسرائيل)، وإن كان فيما بعد قد ضل الطريق، ووقع في نخاسة الفكر، و(نعوم تشومسكي) في كتبه: (قراصنة وأباطرة) و(الأمريكية) و(ضبط الرعاع) و(تواريخ الانشقاق) وهما كتاب واحد ترجم مرتين، و(الصدمة 11-9) اضافة إلى الكتب التي ربما أنها أحدثت تحولاً في الرؤى والتصورات، مثل (صدام الحضارات) و(نهاية التاريخ) و(غطرسة القوة) و(درب السلام) و(العراك الدولي لتحقيق المزيد من المكاسب) و(من يجرؤ على الكلام) و(الاستعداد للقرن الحادي والعشرين) و(لعبة الأمم) و(اللاعب واللعبة) وكتب أخرى وكتاب آخرين، قد نستدعيهم كشواهد إثبات.
وكل هذه الكتب تستمد مادتها من مطابخ (البيض الأبيض)، وقد تشكل عمليات الانتخابات جانباً من المقبلات، فالفترات الرئاسية حواضن التجليات أو الاخفاقات وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة من أي فترة رئاسية يكون مرشح الحزب قد أخذ طريقه إلى منازلة الخصم، وذلك مدعاة لانشغال وسائل الإعلام بمخاضات الانتخابات التي تشكل ما بعدها - كما يتوهم البعض - ومع حدة الجدل، لم يلتفت أحد إلى الطرف الآخر (العالم الثالث)، ليسأل عما يفعل بعد أن يجد الرئيس المنتخب طريقه إلى (البيت الأبيض). ولهذا لم أكن أرى مبرراً لهذا الاهتمام بهذا الحجم، وإن كنت لا أجد بداً من متابعته، إذ فيه على الأقل رياضة فكرية، والرئيس الفائز مرتهن لذوي الفضل والإحسان عليه ممن أدخلوه البيت الأبيض، إلا أن له دوره الترجيحي أو الإقناعي أو الترددي في بعض القضايا، كما أن له دوراً في تشكيل حكومته المستجيبة لجماعات الضغط، فإما أن يجعلهم صقوراً أو حمائم أو يزاوج بينهما وتبقى القرارات المصيرية من شأن المجالس والهيئات المخترقة بأكثر من حيلة. والتعويل المطلق على (أجندة) الرئيس الانتخابية بناء على جرف هار. وإخفاقات الرهان على الفوز مرده إلى أن المراهنين يحلون أنفسهم محل الناخب الأمريكي، ويحملون معهم همومهم الاقليمية ويتصورون أنهم القضية الأهم في (الأجندة) الرئاسية يطلبون الحل، ولا يناشدون التخلي، فأمريكا لو تركت الشرق للشرقيين، لكان أن قام الصراع بين أقطاره وتياراته، وفي النهاية فالبقاء للأصلح أو للأقوى. وأضعف الأحوال أن تكون العملية بيد صاحب الشأن على حد: (يبدي لا بيد عمرو) ولما كان العرب والمسلمون مكتوين بنار الحروب الاستباقية التي استعرت بعد الحادي عشر من سبتمبر. ولما كان (البيت الأبيض) مرتهنا لضغوط اللوبي الصهيوني، ومتشبعا بقناعات اليمين الإنجيلي الذي يرى تجمع اليهود في فلسطين قضية عقدية، ولما كانت الحربان الشرستان الظالمتان في (أفغانستان) و(العراق) لم تحققا للشعبين المسلمين أي مكتسبات، فإن التخرصات حين لا تكون مرتبطة بهذه الأحداث، تكون من الرجم بالغيب.
والرهان العربي لم يجد التخفيف من معاناته إلا بالمرشح الديمقراطي (جون كيري)، إذ لا يمتلك أحد منهم مبادرة ذاتية، يستغني فيها عمن سيدخل البيت الأبيض. والرهان على المرشح (الديمقراطي) حفز الأقليات العربية والإسلامية في امريكا على التطوع في الحملة الانتخابية لصالحه، وكان التعويل على فوزه.
وأخشى أن يعود انحيازهم بموقف متشدد من (بوش) يحول دون تمتعهم بأبسط حقوقهم. ولأنني أعيش حالة من الإحباط واليأس، فقد تساوت عندي الليلتان، على حد: (ما أشبه الليلة بالبارحة)، وكلما دارت حول الرجلين مقولات عاطفية، تذكرت (شهاب الدين) و(حسام الدين)، فالمسألة بكل المقاييس داخلة ضمن خيارين أحلاهما مر. ومصائب الأمة العربية ليست حصراً على الرئيس المنتخب، بحيث تضع الأمة كل بيضها في سلته، إنها أعمق وأعقد من ذلك كله. ومتى علقت الأمة آمالها على الرئيس القادم، أصبحت كمن يلهث وراء سراب القيعان. وأذكر انني ذات يوم كنت أتحدث مع مجموعة من المهتمين بالشأن الانتخابي، ولم أكن أكثر من مثير ومستمع، ويومها قال أحد المتابعين: إن الفوز سوف يكون للرئيس (جورج دبليو بوش) واستغرب البعض هذا التوقع، تحت تأثير الكره المتأصل في النفوس، مع ما يعيشه (بوش) من اخفاقات كثيرة على المستويين: الداخلي والخارجي، غير أن صاحبنا المتابع ساق طرفاً من المبررات اللافتة للنظر، كالقول بأن (كيري) يهودي متنصر، ومغرم بالأرامل الثريات، فليس له قبول ديني ولا عشق نسائي.
ومع أن الرئيس (بوش) قد فاز فعلاً، إلا أن تلك الحيثيات قد لا تكون السبب الرئيس في النجاح. كما أن الفوز لم يكن كاسحاً، لا في الفترة الأولى، ولا في الثانية. واضطرابات الفوز التي تعرضت لها عملية الانتخابات الأولى، كادت تعود مرة ثانية، لولا ان حسمها (الديمقراطيون) بإعلان الهزيمة في وقت مبكر. ولم أعهد رئيساً من قبل تعرض لمثل هذه الاحتمالات، مثلما تعرض لها (بوش). وبهذه البوادر المخيبة للآمال، لم يكن هو الخيار الوحيد للناخب المكره، وكل الذي أتصوره أن خيار الشعب الأمريكي محصور في سببين:
الأول: أن (بوش) بدأ حرباً غير شرعية، وهي لما تزل في ذروتها، والشعب الأمريكي مع خيبة أمله، لا يريد مزيداً من الترديات فيما لو جاء رئيس جديد، فالشعب يريد أن ينهي الرئيس مغامرته بنفسه وعلى مسؤوليته.
الثاني: أن (الديمقراطيين) لم يكونوا موفقين باختيار مرشحهم، فأصبح خوف الأمريكيين من دخول (كيري) للبيت الأبيض، وهو دون المستوى المطلوب ملجئاً إلى الرئيس (بوش)، ويمكن استذكار خطئهم عندما اختار (آل جور) نائباً يهودياً فاليهود وإن كانوا من أقوى جماعات الضغط إلا أن الشعب الأمريكي لا يقبل دخولهم البيت الأبيض كرؤساء وذكاء الحزب الجمهوري أبقى على خلافات الحكومة حتى فاز بفترة ثانية، ثم تلاحقت الاستقالات، وبالذات وزير الخارجية الذي يعد حمامة في جماعة الصقور.
وإشكالية زعماء العالم المعاصر كافة أن ثورة الإعلام والاتصالات، والتوفر على أدق التفاصيل بالصوت والصورة وبشكل فوري وميسر، كشفت المخبوء، واسقطت كل الأقنعة، وأطفأت ألق الزعماء المصطنع، ولم يعد أحد منهم وراء حجبه الخادعة، مما زهد الناس بهم جميعاً، وأذهب هيبتهم، وحولهم من التصنيم إلى الأنسنة. ولو عاد عمالقة الخمسينيات والستينيات إلى المشهد السياسي من جديد، لكانوا كما (بلير) و(بوش) و(شيراك)، ذلك أن زمن الاحتجاب ليس كزمن التجلي، وفي المثل (أزهد الناس بالعالم أهله) لمعرفتهم الوجه المحجوب عن العامة. ولعل تخلي من يحق له الانتخابات عن حقه دافعه الإحباط، فالجاذبية الشخصية لم تكن ممكنة في ظل الوهج الإعلامي.
ومع كل الإمكانيات المتاحة فإن مفاجآت الانتخابات تلجئ الحيارى إلى قراءة الكف السياسي والاستنجاد بالمشعوذين، وتحمل متاعب البحث عن أدق التفاصيل لفك الشفرات المطلسمة ومهما حاولنا التنبؤ فإن نبض الشارع الأمريكي مخادع، ومخالف لكل التوقعات، الأمر الذي جعل الرهانات عليه تبوء بالفشل الذريع، فهو لا يختار بالفعل رئيسه بمحض إرادته، بحيث يستدعيه من الظل، بعيداً عن جاهزيات الأحزاب واللوبيات والشركات المتعددة الجنسيات.
إن أقصى ما لديه أن يفاضل بين مرشحي الحزبين الرئيسيين، وقل أن يظفر مستقل بالفوز، ذلك أن مرشحي الأحزاب حملوا بمحفات نسجتها أطماع الشركات.
فالطريق إلى (البيت الأبيض) تمهده مئات الملايين من الدولارات التي لا يقدر على توفيرها مستقل لا ينتمي لحزب، ولا يمالىء شركة، ولا يسيطر على إعلام، فمئات الملايين تملكها الشركات العملاقة، والكلمة النافذة تملكها المؤسسات الإعلامية القوية، والمسألة في النهاية: (مادة وإعلام)، ومقال (تشارلي ريس) الديمقراطية في خطر) (الوطن 5-10- 1425هـ) تعبير صادق عن زيف الانتخابات وارتهان الرئيس للممولين.
ولما كان اليهود أكثر الأقليات امتلاكاً لهذين العنصرين، فقد كانوا من أقوى جماعات الضغط ومثلما قيل عن (المال) و(الإعلام) قيل عن اليمين المتطرف، وعن الأصولية، وعن المتدينين، الأمر الذي أدى إلى تهميش العنصرين : المادي والإعلامي في خطاب المحللين، وإحلال العنصرين: الديني والأخلاقي.
وهذه الرؤية وإن كانت محتملة لا تأخذ مكانها في سياق رؤى مماثلة وهؤلاء الذين يمترون أخلاف المؤشرات ما ظهر منها وما بطن، يأخذهم شيء من التفاؤل الحذر، فالاعتدال والأخلاقيات، وتمتين العلاقات مع الأصدقاء التقليديين، هي بعض (أجندة) الأصوليين الذين ثبتت الكنائس أقدامهم، وكثرت سوادهم باستغلال العاطفة الدينية المسيطرة على أكثر من أربعين بالمائة من الشعب الأمريكي ولو صدقت هذه الرؤية - مع أننا لا نقلل من شأنها - لكان الفوز كاسحاً ولما لم يكن كذلك فإن الأسباب الرئيسة والحاسمة غير ما أشار إليه المحللون والراصدون، والمسألة في النهاية ستكون مثل (كرة الثلج) تزداد بالدحرجة.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:57 PM

من شرم الشيخ إلى شرم الأنوف..!
د. حسن بن فهد الهويمل


هاجسي أبداً مع اللقاءات، مهما تواضعت عوائدها، فالملتقون على الموائد المستديرة، قد ينقلون لغة التخاطب من دويّ المدافع إلى همس الحوار، أو على الأقل يخففون من الاحتقانات المحتملة للانفجار. وكل متابع لا تعدو عيناه إلى ما يملكه أصحاب القرارات النافذة، يظل قانعاً بما آتاه الله، فلا يكلّف المؤتمرين فوق طباعهم، فيكون كملتمس في الماء جذوة نار. والمؤتمرون أخلاط من الأقوياء ك(الثماني الصناعية)، والأقوى ك(أمريكا)، والضعفاء ك(منظمة المؤتمر الإسلامي)، والأضعف ك(جامعة الدول العربية)، و(دول الجوار).
والمقبلون على الاجتماعات أناسيّ، تحكمهم ظروف دولهم وواقع أمتهم، وهم مرتهنون لواقع يمتد ضعفه وتخلّفه منذ (المُلْكِ العضوض) الذي أخبر به من لا ينطق عن الهوى. والمؤتمرون في ذواتهم ليسوا ملائكة ولا شياطين، وكل وافد منهم بائع نفسه فمعتقها أو موبقها. ومن الصعب ان تقوّمهم كلمة واحدة جامعة مانعة، أو ان يشملهم حكم مطلق، فلا يندّ أحد بسابقة، ولا ينجو منتد بشعور. وإنما يحاسبون على نيّاتهم، ويقوَّمون على أساس مقاصدهم، وما بدر منهم، أو من دولهم من قول أو فعل. فمنهم المخذِّل، ومنهم المداهن، ومنهم الحريص على تأزيم المشاكل، ومنهم الساعي لإفشال اللقاء، ومنهم الملمِّع لنفسه على حساب الأشلاء والمستضعفين، ومنهم الغبي والمتغابي ومغسول المخ والخادع أو المخدوع باللعب السياسية. وقليل منهم من يحمل هماً إنسانياً، ويعرف كل من يلقى بسيماه، ويفرز الناس من لحن القول. ومع تداعيات الإحباط لا يني في السعي لحقن الدماء، ودفع الضر عن المتضررين. وشعوره بما هو عليه من شح في الإمكانيات، وهوان على الناس، ويكون كمن لا يحملون أنفسهم، ولا يجدون من يحملهم، فيتولون من المؤتمر، وأعينهم تفيض من الدمع حزناً. وكل مقبل تحكمه إمكانيات دولته، ومدى قدرته على إسماع صوته. ولهذا لا نزكّي الجميع ولا نجرّمهم، ولا نريد من حديثنا ان نحبط، ولا أن نخذل، ولا أن نشمت، وفي الوقت نفسه لا نريد من المتابعين ان يتصوروا ان مؤتمر (شرم الشيخ) سيندّ عما سلف من المؤتمرات، أو أنه يمتلك القدرة الخارقة على تصفية الخلافات، وفك الاشتباكات، وإعادة السيادة لكل من سُلبت منه ظلماً وعدواناً، وإرغام الناس على استتباب الأمن، مع صلف المحتل وعنته، ولا أن يظنوا الائتمار عملاً بطولياً، داخله مفقود وخارجه مولود، ولا أن يعدُّوه نزهة ساحلية في بلد توفرت فيه كل متطلبات الرفاهية. لقد تداعت الأمم له، ولكل مهاجر إليه مقاصده، وما أكثر مهاجري (أم قيس).
إنه في النهاية لقاء، كأي لقاء سلف، يتعثر بتعارض المصالح وجور الرغبات، وأقل ما يصفه به المتفائلون، انه محاولة متواضعة للخروج بتوصيات متوازنة، تراعي مشاعر كل الأطراف، وتحاول التقريب بين وجهات النظر. وقد يكون لمجرد تخدير الأعصاب، وتفويت أي فرصة لمزيد من الانفجارات المؤلمة.
وإشكاليته المستعصية ان المؤتمرين جاؤوا لاستعادة الأمن في العراق، وتهيئة الأجواء للانتخابات، ودعم الحكومة، وتأييد المحتل، متزامناً مجيئهم مع اجتياح (الفلوجة) وتضارب المواقف حول مشروعية اقتحامها، وهدم البيوت على الساكنين، وتقويض المساجد على المصلين، والإفراط في استخدام القوة والقصف العشوائي، إضافة إلى واقع عربي غير سويٍّ، فيه ضعف وتفكك، وكل قطر يفيض بالمشاكل، وتخنقه الأزمات، وتخيفه المصائر. وكل وافد له تغريده الذي لا يناغم غيره، إذ ليس هناك سرب واحد، بحيث يحتمل تغريد البعض خارجه.
وفوق ذلك كله ف(أمريكا) التي تحتل العراق، ثم لا تقدر على إقامة أدنى حد من الاستقرار، ولا تستطيع ان تحدد موعداً لحسم المشاكل، ولا زمناً للخروج منه، وتسليمه لحكومة شرعية قوية، تملأ الفراغ السياسي الذي أحدثته باحتلالها، وتعيد له بعض عافيته التي سلبتها غطرسة القوة. هذه الدولة القوية العاجزة، جاءت لتقرأ التوصيات قبل إعلانها، ولتفرض إرادتها على المؤتمرين. وكل مشارك إما راغب في كسبها المشوب بالحذر، أو خائف من غضبتها المضريّة الضرر. لقد عصفت رياحها، ولكنها لم تقتلع أحداً، لأن الجميع انحنت رؤوسهم، ولسان حالهم يردد: (اللهم لا أسألك إلا نفسي) الأمر الذي مكّنها من حمل المؤتمرين على دعم الحكومة العراقية، وتأييد الفعل الأمريكي، وتعليق الخروج من العراق. حتى لقد جاءت الصياغة حمالة لأكثر من قراءة. وجاء (كولن باول) في اللحظات الأخيرة من عهده، ليلقي في روع المؤتمرين ما يريده فريق الصقور الزاحف صوب (البيت الأبيض). لا نقول هذا تطاولاً على حدث عالمي، ولكنه (البدُّ الذي ليس منه بد). وما أكثر الكتّاب والمحللين الذين سيسخرون من البيان، ويشمتون بالمؤتمرين. ولو ان أحدهم تصدّر الجلسات، لسوّغ لنفسه التوقيع على بياض، وذلك مصدر الارتباك الذي يتخبط به المتابع العربي، فراكب الموج العاتي لا يقاس بمن رسا قاربه على شط الأمان، ومن رجله في الماء، ليس كمن رجله في النار، إنه زمن العض على جذوع الشجر. ومع هذا فلا بد من التفكير في مخرج، ولو كان كسَمِّ الخِياط، ولن يتحقق شيء من الانفراج إلا بالصبر والمصابرة والمرابطة والثبات على المبادئ، وما جاء نصر الله حتى استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا.
وفي ظل كل هذه الظروف غير السويّة فإن البيان لم يكن عنترياً ولا عاطفياً، ولم يكتب بإرادة عالمية حرة، إنه وسطي حمّال، كل قارئ يتصور نفسه فيه، وكل توصية فيها أكثر من قول. والتوصية التي ليس لها طعم ولا لون ولا رائحة التوصية العاشرة التي تنص على (أن ولاية القوة المتعددة الجنسيات ليست مفتوحة إلى ما لا نهاية، وأنها ستنتهي وفقاً لما هو منصوص عليه في الفقرتين (4 ،12) من القرار 1546 أو مع انتهاء العملية السياسية). إنها توصية تطمينية للمغلوب، وإغرائية للغالب. ثم إن البقاء الأبدي الذي تنفيه التوصية، ينفيه التاريخ والواقع والفاعل، فليس هناك إضافة جديدة، وربط القوة بالتعدد الجنسي مجاملة زائدة لأمريكا، لأنها الكل في الكل، والتعويل على قرارات هيئة الأمم كالضغث على الإبالة، وفي النهاية فإن مثل هذه التوصية لا تسمن ولا تغني من جوع. ومن الأجدى الاستغناء عن مثلها.
والتعويل على قرار مجلس (تيمي) تقضى الأمور بغيابه، ولا يعتبر حضوره تعويل سرابي. فالمجلس لم يعد قادراً على حماية قراراته، وأحباره لمّا تزل رهينة الورق، ولا يتلقاها بالقبول المكره إلا الذين ترقبهم العقوبات والمقاطعات والضربات التأديبية، أما الشرذمة المدلّلة فمن حقها ان تقبل وان ترفض، ولديها من (الفيتو) نسخٌ موقّعة، تستلّ منها ما شاءت متى شاءت. وإذا كانت (الحرب العالمية الثانية) حملت على حل (عصبة الأمم) وإحلال (هيئة الأمم) مكانها لتتابع الاخفاقات فإن هذه الحروب الظالمة مدعاة لحل (هيئة الأمم) وإنشاء منظمات عالمية جديدة، تستأنف أعمالها، مستدبرة المؤسسات السابقة بكل ما تنطوي عليه من اخفاقات ومقترفات، فما عاد بالإمكان ترميم السمعة وإعادة العافية.
وما جدوى النازفين دماً، والمزهقين أرواحاً، والمسلوبين حرية من توصيات أُقرت قبيل الاجتماع، وتسرّبت قبل اكتمال الحضور، وفي ظل الوضع العالمي المتردي. وذلك بعض ما حفز (هيكل) على الانحاء باللائمة على الأمة العربية، ومؤاخذة مصر على تراجع دورها في آخر تأوهاته. وكل وضع حرج يحتاج إلى قرارات قوية صارمة، وتصرف حكيم حازم، يردع الظالم، ويوقف فوضى التصرف المخلّ بسلامة الأمة العربية وأمنها. لقد مجّت الشعوب العربية كل شيء، ولم يعد بوسعها أن تحتمل مزيداً من التردّيات. واللاعبون الذين أسرفوا على أنفسهم في استغلال الغباء المعتق، لم يدعوا بقية من أقنعة، حتى لقد سقطت ورقة التوت، كما يقول (التوراتيون) وبدت سوأة اللاعب، وليس من حوله ورق أشجار يخصف منها.
لقد أوجف العالم كله بالخيل والرجل والأقلام والألسنة لمواجهة الإرهاب، حتى لقد أصبح كل شيء في نظر الغرب إرهاباً، واقبل بشراسة يهدم كل شيء أتت عليه يده أو لسانه، هدماً معنوياً وحسياً، وتطوع الأغبياء النافعون - كما يصفهم (نيكسون) - بالاستجابة الطوعية لأخذ المقيم بالظاعن. إن هناك إرهاباً متعدد المصادر والاتجاهات والمستويات، وكل دولة لها مصالحها و(استراتيجياتها) ومواقفها من هذه التصورات والإجراءات. وقد لا يكون بإمكانها تمرير خطابها إلا عبر التنظيمات السرية والعمليات الإرهابية. ومكافحو الإرهاب بهذه الهمجية هم صانعوه. والمتَّهمون به قد لا يكونون الفاعلين له بمحض الإرادة. إن عالماً يواجه مثل هذه الأوضاع لجدير بالوصاية، ولن تنهض بها إلا مؤسسات عالمية مدعومة، توقف التدهور المضاعف. ومؤتمرات ضعيفة مهزوزة لا يمكن ان تشفي النفوس، ولا أن تعيد الثقة المثبتة للأفئدة.
لقد عجز المؤتمرون عن احتمال أفراد من المعارضة العراقية، ممن جاؤوا ليبلغوا صوتهم للمؤتمرين بصفتهم مراقبين أو متظلمين، وليس بصفتهم مشاركين. ولأن المؤتمر يبحث عن (مستقبل العراق) فإن أبسط أدبياته أن يسمع كل الأصوات، وليس شرطاً ان يذعن لها، ولا أن يأخذ بتطلعاتها. لقد خرجت المعارضة من مصر، وهي تشكك بالمصداقية والأمانة، والشعب العراقي ليس على قلب رجل واحد، ومن ثم فإن خطاب المعارضة سيقلل من أهمية المؤتمر والتوصيات التي تمخّض عنها. والدعوى بأن الدول المشتركة قد تسامت فوق الخلافات، والتقت على الود والمحبة دعوى لا شاهد لها، فالذين دخلوا المؤتمر دخلوا متوتّرين، يحبسون أنفاسهم، وخرجوا ممتلئين، لا يلوون على شيء مما قالوا، فهم قد أذعنوا، بل انحنوا للرياح الأمريكية. والإذعان أو الانحناء لا يعنيان الرضى والقبول، وإنما يعنيان التسليم لواقع لم يتزحزح قيد أنملة صوب الانفراج. والأمين العام لجامعة الدول العربية قال بأن هذه التوصيات تمثل الحد الأدنى للتوافق. وأحسب أن هذه المقولة مبالغ فيها، وفوق الطاقة، فالمسألة ليس فيها حد أدنى ولا حد أعلى، لكنها تسليم لا إرادي. لقد كانت له رغبات وسطية، فيها شيء من الواقعية، دفع بها إلى المؤتمرين على استحياء وتردد، ولوّح بها إلى صاحبة القرار النافذ طوعاً أو كرهاً، ولكن التعنت ضرب بها عُرض الحائط.
إن هناك مسلّمات تكرر في كل مؤتمر، وهي أشبه ما تكون بفواتح الشهية، فالاستقرار، والإعمار، والوحدة الوطنية، والسيادة، ودور الأمم، وإدانة الإرهاب بكل أشكاله، وحسن الجوار، وخفض الديون، والمساعدات الإنسانية، كلها أحلام وتطلّعات طوباوية. فالاتجاه الغربي والرغبة الصهيونية عكس ما يحلم به كل مؤتمر يبحث عن إنقاذ الأمة العربية من أزماتها الخانقة. وتلك فواتح شهية ومقبّلات لم تعد مثيرة ولا مطمئنة. وما هي إلا استهلالات تفاؤلية، كالقول للمريض الذي نفض الأطباء أيديهم منه (شِدّة وتعدّي).
نحن أمام واقع مظلم، تتضاعف فيه المشاكل، وتدلهم فيه الأجواء، وتطمس فيه الهوية، ويدمّر فيه الحرث والنسل، ويستفحل فيه الفساد، وليس هناك بوادر انفراج، فكل شيء يتجه صوب الهاوية، وكل الطرق تؤدي إلى مزيد من الدمار. ومع كل تلك الظلمات، فلسنا مع المتشائمين المردّدين لمقولة: (ليس بالإمكان أفضل مما كان). نعم لا نريد للشعب العراقي ان يتآكل عبر عمليات مقاومة عشوائية، ولا أن تُجرى الانتخابات في غياب طائفة مهمة كما أشار وزير الخارجية (سعود الفيصل)، ولا نريد لأمريكا أن تستسيغ العدوان مرة ثانية على بلد آخر ك(إيران) و(سوريا)، ولا نراهن على أن الحل الوحيد مرتبط بخروج القوات المحتلة قبل إعادة الأوضاع إلى حالتها الطبيعية.
لقد أسقطت أمريكا الحكومة الدكتاتورية، ولكنها أحدثت فراغاً سياسياً مليئاً بالطائفية المتوترة، والقومية المتشنجة، والإسلاموية المتعنتة، و(الراديكالية) المتطرفة. وكل هذه الأطياف وضعت العراق في حالة من الفوضى، لا يمكن معها نفض اليد والخروج منه قبل إعادة ما فقده من أمن واستقرار، وإعادة كل خشاش إلى جحوره. لقد خلق الغزو أوضاعاً مستعصية، ولا بد للساحر ان يحل سحره. لقد كانت حكومة صدام ظالمة جائرة مدمّرة، ولكنها مسيطرة، والناس لا يصلح أمرهم بالفوضى، و(نظام جائر أفضل من لا نظام)، ولا يمكن ان نقول: إن الحل يكمن بالمقاومة على إطلاقها، ولا نقول: بأن الحل لا يكون إلا بعد خروج القوات الأمريكية، وليس من حق المتكئين على أرائكهم ان يصدروا الأحكام والتوجيهات، ولا أن يحرّضوا على القتل العشوائي، ومن الخير لكل مستاء من الأوضاع ان يتوفر على مثلث الوعي: فقه الأحكام والواقع والأولويات، وان يحترم مثلث السلطات: الدولة والدين والمجتمع، وان يعرف مقاصد الفاعلين ونوازعهم وخفايا اللعب وتماكرها. إن علينا ان نتجاوز المقاومة والوجود الأمريكي، لنقدم للعراق حلولاً جذرية، تمكّنه من استعادة ما فقده بهذا التدخل الظالم. وعلى الأمة العربية قبل هذا وبعده ان تفكر بأدوائها، ففاقد الشيء لا يعطيه، وكل نظام لا تحميه الشرعية، ولا يحكمه النظام، ولا يسيّجه العدل معرض للسقوط عند أول عارض وبأي سبب مهما كان صغيراً. وأزمة الشعوب العربية أزمة أنظمة أغرت الطامعين، وهيأت أجواء التدخلات تحت غطاءات زائفة كتوفير الحرية و(الديمقراطية)، وعلى كل مستيئس استذكار {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:57 PM

المحو والإثبات
بين خطاب الكسب .. وكسب الخطاب 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل


ومهما اقتربنا أو افترقنا في وجهات النظر فإن نتائج الانتخابات تدل على أن الشعب الأمريكي يعيش حالة من الإحباط والتردد واليأس واللامبالاة، إذ لو حسم أمره، لكان كل من يحق له الانتخاب متمتعاً بحقه في التصويت، ولكان أحد المرشحين مكتسحاً للآخر، ولست مع الذين يحتجون بأن (بوش) فاز بالأصوات الشعبية، بحيث فاق خصمه بأكثر من ثلاثة ملايين صوت، وهي التي لم يحصل عليها مع (آل جور) ، وهو قد فاز بالولايات أيضاً، ففوزه في نظر المحتجين مضاعف، ولست مع الذين يأنسون بارتفاع نسبة الناخبين عن ذي قبل.
تلك الرؤى وإن كان لها ما يبررها، إلا أنها رؤى تواجه برؤى أخرى تفلُّها، وقد تضعف من قيمتها، ولقد قيل إن السباق إلى (البيت الأبيض) تجاوز التنافس الشخصي إلى التنافس الحزبي، فالشعب الأمريكي فاضل بين الحزبين، ولم يفاضل بين المرشحين، والقائلون بهذا ينظرون إلى ظفر الحزب الجمهوري بأكثر المقاعد التشريعية، والمعروف من خلال تعاقب الحزبين أن اهتمامات (الجمهوريين) خارجية، وذات نفس إمبراطوري، فيما تجيء اهتمامات (الديمقراطيين) داخلية، وذات نفس تحرري، يتعلق بالأحوال الشخصية، وليست السمة على إطلاقها، ولكنها قائمة ومتداولة، ولو أخذت فترات (ريجان) و(البوشين) : الأب والابن بإزاء فترتي (بيل كلنتون) لكان أن تجلت الفوارق الجذرية التي قد لا يرصدها إلا من دقت ملاحظاتهم وبعدت نظراتهم.
و (بوش) الذي يستقبل فترة رئاسية ثانية، بفضل (الحزب) أو (الدين) أو (الحرب) الملوحة بشبح (الفتنمة) تواجهه إشكاليات، لم تحصل لمن سبقه، أخطرها: تخفيف حدة التصدع المخيف في الوحدة الموقفية الأمريكية من فلسفة الانتخابات واتجاهاتها، والخلوص من مآزق التدخلات العسكرية المأساوية التي ضاعفت الخسائر البشرية والمادية وأضعفت السمعة، وتخليص النظام العالمي الجديد من عقدة الولاء المطلق لأمريكا، والتخلص من نعرة القوة ونشوة القطبية، وتحديد مفهوم الأمن القومي، بحيث لا يشمل (إسرائيل) والأطماع ومواطن النفوذ، وفك الاختناقات الاقتصادية، والعودة الطوعية لسلطة المؤسسات العالمية، وحماية قراراتها واحترامها، وفوق كل ذلك تحقيق أفكار الدستور الأمريكي ومُثُله، وتمثله عقيدة ومنهج حياة، كما هي مفصلة في كتاب (مورتمرج أدلر) (الدستور الأمريكي أفكاره ومثله) ، وكل واحدة من هذه الإشكاليات تحتاج إلى فريق عمل يختلف عما سواه، ولا أحسب فريق الصقور المندفع بقادر على أن يحسم هذه الأولويات الملحة، ولا أحسبه مستعداً لنقل القضايا من ميادين الحرب إلى قاعات المناقشة.
إن انتصار (بوش) المتواضع في الفترتين مؤشر اضطراب وتردد في الفكر الأمريكي، وخوف من عقابيل الحروب التي كاد ينفرد بها (الحزب الجمهوري) وفريق الصقور الذي ظهر استئثاره بالحقائب المهمة بعد موجة الاستقالات، واستبداده في التصرف إلى حد جعل الكتّاب والمحللين الأمريكيين يوغلون في الذم، والسخرية والتخوف، وتلك سابقة غير معهودة من قبل، وحين نستدعي الفترتين الرئاسيتين ل (كلنتون) نلفيهما قد شهدنا ضربات خاطفة، مع ما تحقق من فائض فاق الأربعمائة مليار دولار، فيما تجاوز العجز في فترة (بوش) الستمائة مليار، إضافة إلى حرب خاسرة: على الصعيدين الحسي والمعنوي.
وقد يتفاقم تصدع الذهنية الأمريكية بعد فشل الحكومة في محاربة الإرهاب، وذهاب السمعة، واستفحال الكره العالمي، ليكون بداية حرب ثقافية على الأقل، وكل حرب أهلية أو اضطراب داخلي، لا يمكن أن يأتي من فراغ، وفوق هذا فإن أصحاب القرار في المؤسسة الأمريكية يتعرضون بممارساتهم التوسعية والعسكرية لأسباب سقوط الإمبراطوريات، فكل الإمبراطوريات أنهتها الحروب التوسعية وتصعيد العداوات، ومن تعقَّب أسباب سقوط الدول وجدها ربيبة الظلم وغطرسة القوة، والشعب الأمريكي المختلف حول أهلية المرشحين بهذا القدر لن يدع الأمور تمضي كما يريد الحاكم بأمره، إن هذا الوضع غير السوي ينطوي على حرب شرسة: ثقافية وسياسية. ولن يطفئ لظاها إلا شخصية تنتزع الثقة, وتكتسح الخصم من أول يوم.
أما أسلوب الضربات الترجيحية فإنها تشكل عذابات للضمير الأمريكي المرتبك، وحين لا يكون الانتصار كاسحاً، يعيش الطرفان حالة من الإحباط، وبراعة الأحزاب في دراسة النفسيات، وإتقان الفن الدعائي يأتي بالعجائب، ولكن تكافؤ الفرص والإمكانيات تكون كما سباق الجريمة، كلما خرج المكافح بأسلوب حاذق جاء المجرم بحيلة أحذق، وهكذا. والحزب الجمهوري لا شك أنه ببراعته وتجربته استثمر أخلاقيات اليمين المتطرف، لكسب العاطفة الدينية، وبخاصة أنه سيقف ضد مشروعين قذرين:
(مشروع الشذوذ) و (مشروع الإجهاض) .
إلا أن أولويات الشعب الأمريكي فيما رأى، تتجه صوب شيئين آخرين هما:
(الاقتصاد القوي) و (الأمن القومي) .
وهو ما لم يكن من أوليات الرئيس (بوش) وحزبه، وبخاصة أنه يعيش حالة الحرب الخاسرة على كل الصعد، وهي حرب تصب في صالح الصهيونية وتفقد أمريكا زعامتها النزيهة للعالم، وإن صمت الكبار، وشايع الصغار، فيما تتضاعف ديون الدولة بمئات المليارات، ولمَّا يستفد (بوش) وإدارته من المعالجات الحكيمة التي مارستها الحكومات الأمريكية السابقة، وحققت لها ولحلفائها مكاسب لا تخطر على البال، دون إراقة الدماء، أو تعميق للكره، فهذا (هنري كيسنجر) مهندس أعنف الحروب الباردة ينجح في فرض إرادة حكومته في قبول طريق السلام، وتنفيذ أخطر اللعب السياسية، ولقد جسد بعض ذلك في كتابه (درب السلام الصعب) ومن قبله (روبرت مكنمارا) في كتابه (ما بعد الحرب الباردة) والذي ذهب فيه إلى أن الأمن الحقيقي هو المؤسس على (قواعد القانون) الذي يحكم علاقات الأمم، ولا يحتاج إلى ضربات وقائية أو استباقية، وهو ما لم يأخذ به (بوش) ، وكذلك كتاب الرئيس (ريتشارد نيكسون) (السلام الحقيقي) ، وكم أتمنى لو تمكن (بوش) من استظهار هذا الكتاب الذي يعد عصارة تجربة رئاسية عظيمة، لم يكتب لها الاستمرار، بسبب ممارسة بسيطة، أعطيت أكبر من حجمها، فأسقطت أحكم وأنجح رئيس معاصر، إن فائدة هذا الكتاب قائمة على الرغم من ذهاب (الاتحاد السوفييتي) الذي يضرب به الرئيس الأمثال.
والذين يتحسسون عن أسباب نجاح (بوش) بالانتخابات في ظل أوراقه الخاسرة، تضطرب مفاهيمهم وتختل مقاييسهم، فهل كان (بوش) بطلاً قومياً انتصر لأمته يوم أن ضُربت قوتها: الاقتصادية والعسكرية؟ أم كان مغامراً ينكبّ عن ذكر العواقب جانباً؟ إن مواجهة (بوش) للإرهاب لم تكن متأنية ولا محدودة، ولا مدروسة، ومن ثم أصابت أقواماً ليسوا مع الإرهاب، فضلاً عن أن يكونوا فاعلين له، إن خسارة (بوش) بهذه المغامرة الخطرة، وبما مهد لها من تصريحات استفزازية ومواقف حدية، وخطابات اشمأز منها العالم الإسلامي، وتوقع منها كارثة عالمية، حتى لقد استساغ الكتّاب الأمريكيون أن يقولوا عن (بوش) وفريقه: إنهما الوجه الآخر للإرهاب، أو أنه و (ابن لادن) وجهان لعملة واحدة، ومثل هذا القول ينطوي على خطورة ذهنية، لأنه لا ينطلق من فراغ.
وتداعيات هذه الأقوال تحيل إلى خروج (بوش) على الأعراف السياسية، وقفزه على المؤسسات العالمية، لقد غامر في خوض حرب شرسة، أدت إلى فراغات دستورية في دولتين منهكتين من قبل، فهو في أفغانستان يطارد أشباحاً ويصب جام غضبه على الكهوف والمغارات والأودية ومنابت الشجر، وتلك الحرب مدانة عالمياً، وإن سايرها البعض رهبة لا رغبة، ولا أحسب الشعب الأمريكي من الغباء بحيث ينظر إلى (بوش) على أنه بطل قومي، وأن هذه البطولة مكنته من الفوز.
ولقد عمد البعض إلى تلمس الروح العدوانية السلطوية الإبادية عند الشعب الأمريكي، واتخذ طريق الفلسفة التحليلية الاسترجاعية، جاء ذلك في مستهل كتاب (هيكل) الأخير عن أمريكا، وفي ذلك تمحل طريف، لقد خاض (بوش) حربين مجانيتين، فقَدَ فيهما المال والرجال والسمعة، ولم يكن العائد متكافئاً مع ما أنفقه من مال، وما أزهقه من أنفس، وما قضى عليه من بنية تحتية، ستظل أطلالها شاهد بشاعة ووحشية، ولا أحسب تلك المغامرة غير الإنسانية إلا معجلة بالوجود (الصيني) و (التكتل الأوروبي) ليكونا بديلين عن (الاتحاد السوفييتي) المنهار، وسوف يعجل الخصم الإسلامي بظهورهما، كما عجل من قبل بسقوط (الاتحاد السوفييتي) ، وكل مستخف بالقوة الإسلامية المعنوية والبشرية لا يمكن أن يظفر بقيادة العالم، وبظهور الأنداد تفقد أمريكا لذة القطب الواحد، ثم لا يكون لعمليتي (المحو والإثبات) أي قيمة، وبالفعل فإن القول بجلب الديمقراطية والحرية وتخليص الشعوب من تسلط الحكام، تكشفت عن خدعة ممجوجة، لا تثبت أمام الحقائق الدامغة، وإن انطلت على البسطاء من الناس والمتسطحين من الكتبة، وما أضر بقضايا الأمة إلا المختصمون حول الضحية، والعدول عن المعتدي، وتلك الخليقة من مؤشرات قابلية الاستعمار، ومن المؤلم للناخب الأمريكي أن تتحرك أقوى آلة عسكرية في العالم لمواجهة أمتين إسلاميتين منهكتين، تحت أغطية زائفة، كمكافحة الإرهاب، أو منع سباق التسلح، أو تعزيز الأمن القومي، أو تغيير الأنظمة أو إصلاحها، والحق أن تحريك تلك الأساطيل المرعبة ما كان إلا لحفظ التوازن بين دول المنطقة و(إسرائيل) ، واحتواء المغردين خارج السرب بالقوة، وهل أحد يقبل أن يكون دون إسرائيل في القوة، وهي لا تشكل نصف سكان عاصمة عربية واحدة ك(القاهرة) .
وحين نسلم بأن (بوش) ليس بطلاً، وإنما هو مغامر بقوته وسمعته ومجازف بعلاقاته مع الأصدقاء والحلفاء، فإن طائفة أخرى ترى أن فوزه بوصفه الرئيس المتدين الأخلاقي الذي لن يعرض أخلاقيات الشعب الأمريكي لدعوات الشاذين جنسياً والمتوحشات الداعيات إلى الإجهاض، وهذا التعويل الساذج يواجه بفوز (كلنتون) لفترتين رئاسيتين، وهو رجل لا أخلاقي، لا في سلوكه، ولا في اهتماماته لدى الناخب الأمريكي.
وحين نسقط السببين السابقين، أو حين يسقطان أمام ضربات الحقائق، تبقى حيثيات واهية، لا تستحق الاستعراض، لعل من أهمها اللعبة الإعلامية التي زرعت الرعب في قلب الأمريكي من ضربات الإرهاب في عمق الأراضي الأمريكية، و (بوش) الذي كذب على الأمة الأمريكية بمبررات التدخل العسكري في (العراق) لم يحاسبه الرأي العام الأمريكي على كذبته، وهو قد أرهق (كلنتون) في كذبة إنسانية، لأنه أراد المحافظة على صفاء العلاقة الزوجية، وأرغم (نيكسون) على الاستقالة في أعقاب عملية (التصنت) ، والسبب بسيط، ذلك أن وراء الأكاذيب (لوبيات) تضخم ما تشاء، وتهون ما تشاء، للإبقاء على ما تريد، ونفي ما لا تريد، والشعب الأمريكي عاطفي، يلهث وراء الإعلام، وأحسب أن كلاً من (ماكس سكيدمور) و (مارشال كارتر دانك) بحاجة إلى إعادة النظر في كتابهما (كيف تُحكم أمريكا) ، ذلك أن الحاكم المستبد هو (اللوبيات) و (جماعات الضغط) و (اليمين المتطرف) الذي يمثله جماعة الصقور، ولم يكن شيئاً غير ذلك، وإن كانا قد تحدثا عن (مجموعة أصحاب المصالح) وتأثير جماعات الضغط في السياسة.
إن الفترة الثانية ل (بوش) ستكون رهينة المجازفات العسكرية في الفترة الأولى، وهي فترة ستسبب له ولحكومته وللعشب الأمريكي الكثير من المتاعب والكثير من الخسائر: المعنوية والحسية.
لقد أومأ (روبرت مكنمارا) إلى جرائر خمس وعشرين حرباً دائرة في العالم خلال عام 1988م وكانت ممولة من القطبين.
إن من يقرأ كتابه يتصور أنه يتحدث عن فترة (بوش) الأولى، وأياً ما كان (المحو والإثبات) و (خطابات الكسب) و (كسب الخطاب) فإن الشعب العربي بحاجة إلى أن يرتد إلى الداخل في عملية مكاشفة شجاعة مع النفس، وتقويم منطقي للواقع والمستقبل، ومراجعة جريئة للمناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعلامية، وبحاجة ماسة إلى تنازلات في الآراء والتصورات والمواقف ليكون في مستوى الأحداث الرهيبة القائمة والمرتقبة، وهي أحداث لا يستخف بها إلا خلي يتصور الثبات في الأحوال، وبخاصة أن أمريكا ومن ورائها الصهيونية العالمية ترى أن الأمن القومي ذو ثلاث شعب:
(أمن قومي) و (أمن صهيوني) و (أمن مصلحي) .
وأن الضربات الاستباقية والوقائية ستطول كل من تسول له نفسه التأثير على الأمن القومي بمفهومه الجديد، ولابد -والحالة تلك- من اتخاذ موقف متقارب، ينطلق من الواقع، ويحسب للإمكانيات حسابها، لعل ذلك يحد من تدهور العلاقات العربية العربية، وعلاقاتهم مجتمعين مع الآخر، ويفكر بالتخلص من بدائية المؤسسة السياسية واستبدادها، ثم يصوغ خطاب المواجهة، لتجميع الأشلاء، وتنقية الأجواء، واحتماء الاعتداء في زمن الصمت العالمي المداري إلى حد الخوف، ولا بد أن يكون من أولويات الصياغة الدفاع عن الإسلام ومؤسساته الدعوية والخيرية بوصفه القوة المعنوية التي لا تقهر، والمشروع الحضاري الذي لا يتسع للعنف، وليس في يد الأمة ورقة رابحة إلا الخطاب الإسلامي الوسطي التسامحي الجانح للسلام، الخطاب الذي يستبعد العنف، ويتخلص من مأزق المفاضلة والتصدير، وليس الطائفي الحزبي الثوري التصادمي المتشنج، ولن يتحقق الاعتراض الشجاع من الدول الكبرى، حتى يسمعوا أصواتاً عربية متداعية، تمثل حضارة تشاطر العالم في بناء الأمن والاستقرار العالمي، فالإسلام لا يريد للإنسانية أن تعيش الخوف والتسلط والعبودية والاستبداد، الإسلام ينطلق من تكريم بني آدم أولاً، ثم دعوتهم إلى ما يحييهم ثانياً، وإبلاغ كل سامع لكلام الله مأمنه، إنه خطاب إنساني حضاري ينبع من فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأي خطاب قطري أو طائفي أو قومي سيكون في النهاية لقمة سائغة للآخرين.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:58 PM

عضو هيئة التدريس من التكريم إلى التكريس..!
د. حسن بن فهد الهويمل


لفت نظري الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن العثمان، وكيل وزارة التعليم العالي، إلى مبادرة كريمة كنت أعرف أطرافاً منها، وكغيري كنت كمن لا يطربه زامر الحي، ولكن هذا التذكير أثار كوامن النفس وهوامد الشعور، وكيف لا تحرك الإنجازات الحضارية مشاعر المسكون بهم أمته؟ في زمن تداعت عليها الأمم، ومسها الضر من دخن الفتن، وقضايا الأمة المصيرية لا يمكن أن تمر كسحابة صيف، ولا سيما في مخاضات التحولات، ومبادرة التكريس للمحطات المضيئة في حياة أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المحلية، لقاء ما اخترعوا من أعمال استثنائية، وما قدموا لوطنهم من إنجازات علمية، ولقد كنت من قبل أعيش مرارة ما يشاع حول خلو قائمة الجامعات العالمية المتميزة من أي جامعة عربية، على الرغم من أن القائمة نيفت على الخمسمائة جامعة متفوقة، فيما جاءت بعض مؤسساتنا المالية في صدر القائمة (البنكية) الأكثر تداولاً للمال، وجاء رجال الأعمال ينتهبون الخطى صوب الصدارة، وتلك مفارقة أرجو ألا تمر دون إيقاف ومساءلة وتأمل، ومبادرة التكريم التي تفضل بالتوجيه إليها ورعايتها ولي العهد - وفقه الله - تشفي نفوساً مكلومة، لأنها ذات أبعاد: تثمين لجهود المتميزين من الأناسي والأعمال، وتذكير للغافلين والمتغافلين بأن في بني عمهم مَنْ ينافس على المقاعد الأمامية في صفوف العلماء العالميين، وأننا لم نكن دولة نفط، مرت ركائبنا على آباره، فشربناه شرب الهيم، وتكريس للمتميز، من أبناء البلاد للذكر والشكر والاقتداء.
والمكرمون سبعة عشر من ثلاث جامعات، جاءت اختراعاتهم ذات أنواع مختلفة في حقول العلم، ك(العلوم الطبية)، و(الهندسية):- (المدنية) و(الكيميائية) و(الفيزيائية) و(الميكانيكية) و(البترولية). و(هندسة) (الحاسبات) و(كيمياء البترول) و(الطيران). وقد حصل كل واحد على (براءة اختراع) من أرقى الهيئات العلمية في العالم، حيث تميزوا بالتخصصات الدقيقة، وأسهموا في تطوير الحركة العلمية والصناعية والبحث العلمي، وتوجوا جهودهم بالحصول على تلك البراءات، فمكنوا جامعاتنا من اختراق أجواء المحافل العلمية الدولية، وهو اختراق له ما بعده، وليس من السهل أن يتمكن عدد من أساتذة الجامعات في المملكة من الحضور العلمي المشرف في أرقى دول العالم، مع بقائهم في جامعاتهم، يواصلون بحوثهم وتجاربهم وتعليمهم، ويستنهضون مَنْ حولهم مِنْ الزملاء، ليصنعوا مثل صنيعهم، وهذا التميز لن يكون مرتهناً لحساب جامعاتنا، ولكنه فخر لكل عربي، وبخاصة حين تذعن لهم المحافل العلمية العالمية، وتتقبل مخترعاتهم بقبول حسن، وتمنحهم راضية مطمئنة (براءة الاختراع) والبراءة لا تمنح إلا لمن تمخض تفكيره عن منتج جديد، أو طريقة جديدة: لصناعة آلية جديدة، أو تحسين منتج سابق في ذاته، أو في طريقة صنعه، ولا يتحقق شيء من ذلك بالصدفة، ولا يتأتى لكل إنسان، إنه نتيجة عمل دؤوب، وتجارب متعددة، وصبر وإصرار وثبات، ودقة ملاحظة، وصفاء ذهن، وإرجاع بصر، وعدم استسلام للرتابة والنمطية، إنه فعل استثنائي من رجال استثنائيين، ومثل هذا الإنجاز يعد إضافة متميزة في عالم التقنية والطب والهندسة ومجالاتها، وإسهاماً متميزاً في بناء الحضارة العالمية.
والنبوغ ليس وقفاً على جنس دون آخر، إنه موهبة وأجواء، تسهم في تفعيل القدرات، وتكريس المهارات، والجنس العربي كأي جنس إنساني له نصيبه من المواهب التي ترقب الحواضن، لتندلق كما العبق: زكاءً ونماءً، والعبقرية العربية كامنة في أدمغة الموهوبين، وتخلف الأمة العربية عارض، وليس خليقة وما يمارسه بعض الكتبة الغربيين من التيئيس والإحباط والتعالي والقول بنهاية التاريخ، والتشبث ب(نظرية الأجناس) إن هو إلا حيلة غبية، لمنع الأمة من تكريس وجودها وحملها على التسليم وقبول التخلف، وكل ما تحتاجه كوامن الإمكانيات في الذهن العربي محفزات وحواضن، والتكريم من لدن (ولي الأمر) مؤشر إيجابي، وإذ لا نستغرب التكريم، لا نستغرب معه النبوغ، فالطرفان يستلهمان عقيدة متوازنة، تأمر بإعداد القوة، وتنهى عن نسيان أنصبة الدنيا، وتحث على السعي في مناكب الأرض، وتبيح الانتشار لطلب الرزق، والتاريخ الحضاري للإسلام شاهد إثبات، تجلَّى ذلك في (سير أعلام النبلاء) و(طبقات الأطباء) و(نوابغ العرب)، فلقد كانت للحضارة الإسلامية تجاربها العلمية، التي سطعت على الغرب والشرق وأضاءت سبحاتها آفاق المعمورة، لأنها كوكب دري يوقد من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، وكثيراً ما يتداول الكتاب والمحللون عجز الأجواء العربية عن تفجير المواهب، وشد أزرها، وتهيئة الظروف المواتية لاستغلال طاقاتها، واستثمار قدراتها، وكثيراً ما يتداول الممتعضون ظاهرة (هجرة الأدمغة) إما عن طريق الإغراءات المالية، أو عن طريق توفير الأجواء الملائمة للنوابغ، وتحت تأثير عوامل الطرد والجذب. والكتب التي ألفها المفكرون عن ظاهرة الهجرة تنضح حسرةً وألماً، فالكفاءات العلمية تسهم في بناء حضارة الضد، فيما تعيش دولهم عالة على لعاعات يعقبها المنُّ والأذى، ولو أن رعاة التعليم العالي في الوطن العربي فكروا وقدروا، لكان أن طوروا المناهج والوسائل والمقرات والمقررات، وامتصوا نسغ الحضارات، وبنوا كما كانت أوائلهم تبني، وصنعوا فوق ما يصنعون، وليس هناك ما يمنع من استئناف التفكير والتقدير، فما زال في الزمن بقايا لتدارك الأمر.
ومبادرة (ولي العهد) وتكريمه للموهوبين تخفف من حدة النقد الموجه للأجواء العلمية في العالم العربي، وتحفز القادرين المترددين، وهي في النهاية إذكاء للحماس، وشد للأزر، وحفظ للساقة، وريادة للمقدمة، وعيبنا أننا ننطوي على كثير من الإمكانيات، ولكنها حبيسة الأروقة الجامعية المحلية، لا يعرفها إلا القلة القليلة، والرأي العام في معزل عنها، والذين يملكون الحديث عن التعليم، يوسعونه ذماً، ويستحثون الجهات المعنية على قلبه رأساً على عقب، وما أحد منهم أشاد ببعض التجليات، ومع الإيمان بحتمية التطوير والتجديد والحذف والإضافة والتقديم والتأخير، إلا أن ذلك يجب أن يكون طبعياً، وغير مسبوق بالذم والتجريح والإدانة، وتحميل التعليم مالا يحتمل من الاتهامات، إننا نتطلع إلى إرادة قوية، ذات عزمات، لا يقعد بها القمع، ولا تهن بالتردد، ولا تحزن بفوات الركب.
والدول المتحضرة لا تحتبس العمل الجامعي في الأروقة، ولا تعتمد الحشوية والتلقين، إن الجامعة مدينة فاضلة، فيها المعمل والمصنع والمختبر والمكتبة والساحات والصالات وكل متطلبات الأجواء العلمية، أو هكذا يجب أن تكون، إنها منارة تضيء عتمات الطريق، ومصنع تمد المجتمع بما هو في حاجة إليه من علماء وأدباء ومفكرين وأطباء ومهندسين وغيرهم، ومتى انفصل التعليم عن خطط التنمية، وقعت الأمة في غزارة الإنتاج وسوء التوزيع، وارتباط رجالات الدولة بالجامعات، ودعمها، والتحسس عن حاجاتها، والأخذ بيد الكفاءات المتميزة من رجالاتها مؤذن بنجاحات متعددة، وذلك ما نراه ونعايشه بين الحين والآخر، فمثل هذا التكريم ليس مجرد مناسبة احتفالية، تنطفئ مع انطفاء أنوارها واقتلاع سرادقاتها، وإنما هو مؤشر وعي بأهمية المحفزات لمزيد من العطاء، وتلك الأحداث الحضارية في الزمن المسكون بالانكسار، يجب ألا تمر كأي حدث استهلاكي، بل لابد من التنويه والإشادة والاستثمار، فالتعامل معها لا يقف عند حد الثناء، وإنما يتجاوز ذلك إلى التساؤل، ومعرفة المتألقين من أبناء البلاد، وتكريسهم في الذاكرة، فنحن من قبل لا نعرفهم، ولا ندري ما العلم الذي أسهموا في تطويره، وهم قابعون وراء أجهزتهم ومعاملهم ومختبراتهم، يجودون بكل ما يملكون من جهد ووقت ومال، لتكريس حضورنا في المشاهد العلمية العالمية، إن الإشادة والتكريم لكفاءات الوطن فرض عين على كل مقتدر، ونهوض (ولي الأمر) به، يسقط شطراً منه، ويبقى حق الإشادة باللسان والمحبة بالقلب لكل من منح أرضه وأمته ما يقدر عليه من عطاء، وإذا لم يكن عندنا خيل نهديها ولا مال نجود به، فلا أقل من أن نضج بالإشادة، وذلك أضعف الإيمان، وكل مواطن على ثغر من الثغور، متى حفظه، كان مجاهداً جديراً بشرف المواطنة، غير أن (فقه الأولويات) يجعل هؤلاء في رأس القائمة، ومن أحسن فعلاً ممن تخطى بأمته إلى عتبات التاريخ العلمي الحديث، وأشاع ذكرها في المحافل العلمية العالمية.
والتكريم الذي ناله المتميزون في عملهم الأكاديمي محفز قوي للتنافس الشريف بين الجامعات من جهة، وبين أعضاء هيئة التدريس داخل أروقة الجامعة الواحدة من جهة أخرى، وإذ اقتسمت المجد ثلاث جامعات هي:- جامعة الملك عبد العزيز- و جامعة الملك سعود- و جامعة الملك فهد، فإننا نرقب المزيد، ونتطلع إلى التنافس الشريف، وليس هذا العدد من المخترعين محصوراً في إطار مخترع واحد، وإنما لكل واحد من السبعة عشر اختراع علمي مسجل في الولايات المتحدة أو في أوروبا، وكم كنت أتمنى أن يكون ل(مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية) دور أكبر تفعيلاً للدعم والدعاية والتبني والتشجيع وإشاعة بوادر التفوق والمتابعة، وبسط ذلك في دوريات تصل إلى المختصين والمسكونين بهم وطنهم، ولن أبيح لنفسي أن أكون شاهداً لم ير شيئاً، ولن أسمح لقلمي بالقول بأن الجهل بالشيء علم بالعدم، فكم في مؤسساتنا من إيجابيات لا نعلمها، ولما كان النوابغ في العالم بحاجة إلى أجواء ملائمة، لاستغلال نبوغهم، وبحاجة إلى دعم مادي ومعنوي، يشد من أزرهم، ويذكي حماسهم، ويحفظ حقوقهم المادية والمعنوية كان على كل مؤسساتنا شطر من المسؤولة قل أو كثر، فالأمة العربية مشروع حضاري، يرقب من يتلقف رايته باليمين، ليخوض به معترك التسابق العلمي المحموم.
والتكريم ظاهرة حضارية، ومفردة من مفردات الدعم المتعدد، والدولة حين تعيش حضوراً فاعلاً في مثل هذه الأجواء، تبعث الثقة والدفء في نفوس الصفوة من الكفاءات الوطنية، وتشعرهم بأن هناك مَنْ يرعى، ويبارك، ويدعم، وما نتطلع إليه أكبر وأكثر، وفعل الدولة المباشر أو من خلال مؤسساتها المعنية جزء من مسؤوليتها، فما نريد من الشكر والثناء أن نثبط العزائم، ولا أن نلهي بالمدح، ولكننا نشيد بالفعل المتميز من كل الأطراف، ونستحث المسيرة، ونرقب مزيداً من المبادرات، وبسط الأيدي بالعطاء، وكم نود أن يتوفر الوعي الحضاري والإحساس الديني والوطني لدى (رجال الأعمال) و(المؤسسات الاقتصادية)، بحيث يكون هناك تبنٍ ورعاية ودعم لنوابغ آخرين ومجالات أخرى، وإذا كان الأثرياء سباقين إلى مجالات العطاءات التقليدية: كالصدقات العينية، وبناء المساجد، ورعاية الأسر، ودعم الجمعيات الخيرية فإن هناك واجبات أخرى، لا تقل أهمية عما سبق، فالإسلام يحث على إعداد القوة: الحسية والمعنوية، والأمر كما هو عند الأصوليين يقتضي الوجوب وهل هناك في مجال القوة ما هو أهم من الاكتشاف العلمي؟ الذي يغني المسلمين عما سواهم، ويمكنهم في الوقت نفسه من خدمة الإنسانية، والإسهام في صناعة الحضارة، ولهذا فليس بكافٍ دعم الدولة لمثل هذه المناحي العلمية، إذ إن هناك فريضة غائبة، مع إمكان حضورها، تتمثل بدعم (رجال الأعمال) للبحث العلمي، ورعاية الموهوبين، وكيف يترددون؟ والدعم يعد من الإنفاق في سبيل الله، حتى لقد نظر كثير من الفقهاء إلى هذا الصنف الأوسع، بحيث شمل أعمال البر التي تنفق في سبيل الله، فبناء الملاجئ، وعمارة المساجد، وطباعة الكتب، ودعم الجمعيات والمنظمات والمراكز الدعوية، ورعاية الموهوبين، والإنفاق على بحوثهم، ورعاية المخترعين، وتفريغهم، وتوفير المعامل والمختبرات، كل ذلك مع النية الصالحة والمقصد الحسن يعد من الإنفاق في سبيل الله، لأنه من القوة والعلم، إن على أهل الدثور أن يشدوا عضد المقتدرين علماً وفكراً ومهارةً، وأن يؤازروا دولتهم في الدعم الحسي والمعنوي، وعليهم أن يعرفوا أن الأقربين أولى بالمعروف، إذ لا نريد لنهضتنا أن تكون قلاعاً من الخرسانات، ولا طرقاً من الأسفلت، ولا نفطاً يترفنا حتى نؤخذ بالعذاب، بل نريدها إنساناً منتجاً، يشاطر العالم في صناعة الحضارة، وبإعداده تستطيع الدولة أن توازن بين مصادر الثروة القومية.
وليس من اللائق ولا المقبول أن نذكر أثرياءنا بأثرياء الغرب الذين ينفقون أموالهم بسخاء على مثل هذه المجالات، ويوصون بالإنفاق على التجارب العلمية ورعاية العلماء، إذ يجب أن يكون أهل الدثور من المسلمين كمن سلف يذهبون بالأجور، وأن يكونوا قدوة للآخرين، وأن تتسابق المؤسسات والشركات والأعيان في تمويل المعامل والمختبرات والتجارب، وليس من الصعب اضطلاع (البنوك) و(الشركات) و(رجال الأعمال) بمثل هذه الأمور، وما دام بين أظهرنا نوابغ وموهوبون وباحثون ومكتشفون، فإن واجب الجميع احتضانهم، وتسهيل مهماتهم، وحفظ ساقتهم، وبذل المال لهم، وتهيئة الأجواء المناسبة لمزيد من عطاءاتهم، وقد بادرت الدولة بإنشاء مؤسسة لرعاية الموهوبين، وشرفتها بنسبتها لباني هذا الكيان ولرجاله، وبدت بوادر ثمارها، وتلك المؤسسة أحوج ما تكون إلى الدعم والمؤازرة، لقد شرع الإسلام (الأوقاف) وهي ممتلكات يحبس أصلها، وتسبل منافعها، وليس أجدى ولا أهدى للأمة من عبقري ينطلق في الآفاق أو في الأنفس، ليرى آيات الله، ويحقق من خلال ذلك ما فيه عز للإسلام والمسلمين.
وإذا كان الغرب قد سبقنا بالاكتشافات، وهيأ الأجواء الملائمة للبحث العلمي، رعايةً وتشجيعاً وإنفاقاً وتكريماً واستكمالاً لمتطلبات النابغين فإن بقاءنا خارج المتن، وانتظارنا لإنجازات العالم العلمية يعد من الإبطاء، ومن بطأ به عمله لم يسرع به ادعاؤه، وكم هو الفرق بين العصامية والعظامية، ونحن في النهاية أبناء حاضرنا، ولسنا أبناء تاريخنا، لا نقول: كان آباؤنا، بل يجب أن نقول: ها نحن، وواجبنا جعل هذا التكريم مدداً لتحرف سليم، يُعزُّ فيه أهل النبوغ والعبقرية وتُحفَّز به الهمم الخائرة، والعيب ليس في أن تأتي متأخراً، وإنما هو في ألا تأتي، وواجبنا ألا يستمر الإذعان لهذا السبق غير المبرر. وإذ نبدئ ونعيد الشكر والتقدير لكل من وضع لبنة في صرحنا المعرفي، وكرس حضورنا في المحافل العلمية العالمية، نصل ذلك لكل نابغة يدوك ليله، ويحفد نهاره، لرفع رأس أمته، ناسياً ذاته في سبيل مصلحة الأمة الإسلامية، ولما أن كانت (وزارة التعليم العالي) ورجالاتها ممن فعل الخير أو دل عليه، ورعى الاحتفالية فإنها الأحق بالشكر، لقد مرت هذه المناسبة دون استثمار، ولأنها من الباقيات الصالحات فقد كان لزاماً على الأدباء والمفكرين والإعلاميين ركوب موجتها، واستنهاض الهمم واستدرار العواطف الدينية والوطنية للمبادرات الصالحة، والتخطي بأعضاء هيئة التدريس من التكريم إلى التكريس.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:59 PM

أخطر ظاهرة استعمارية..! ( 1 - 2)
د.حسن بن فهد الهويمل


تمر الشرعية الدولية بأزمة لم تعهدها من قبل، ولا أحسب أن لها سابقة مماثلة في التاريخ الحديث، صعّد هذا التأزيم، أو ساق إليه استهلال الولايات المتحدة الأمريكية أعراس قطبيتها وأحلام إمبراطوريتها بالاحتلال العسكري لدولتين إسلاميتين، وإسقاط السلطة فيهما، وتعريضهما لفراغ دستوري خطير، هيأ الأجواء لاختلاط الإرهاب بالمقاومة، وكان الاحتلال مداوة بالتي كانت هي الداء. ولقد سوغت اجتياحها البغيض بحجة المكافحة المشروعة للإرهاب، أو الحيلولة دون إنتاج أسلحة الدمار الشامل. وإذ تكون مثل هذه الأنظمة المسقطة أنظمة مستفزة، ومغرية بالتدخل، ومفتقرة إلى أدنى حد من مقومات البقاء؛ فإن معالجة أوضاعها بهذا الأسلوب كمن يصب الزيت في النار. وهذا الإسقاط التعسفي الذي تعدى السلطة إلى مؤسساتها، أدى إلى فراغات دستورية، هيأت الأجواء لهدم وحرق وقتل عشوائي. وأغرت الأقليات: الطائفية والعرقية والإقليمية بتصفية حساباتها، وحملتها على التفكير الجاد في الانفصال، مما سيؤدي إلى تمزيق الكيان الواحد، والعودة به إلى الكفر الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ضرب بعض الأمة رقاب بعض. والخطورة ليست في نفاذ الإرادة القوية، وليست في الضربات الخاطفة التأديبية، وليست في استمرار الصراع العالمي، فكل ذلك من سنن التدافع والتداول والابتلاء، ولكنها في أشياء كثيرة، يتجرع مرارتها مبتغو الفتنة والساقطون فيها، ومن يفضلون الجنوح إلى السلام العادل، وإنما هي في اختلاف المغلوبين على أمرهم فيما بينهم حول الموقف من الغالب وأسلوب التعامل معه تعاملاً حضارياً، يكرهه على مراجعة حساباته، والتخلي عن خلط الأوراق. وأمريكا التي فتحت شهيتها بالقنبلتين النوويتين، حين أرادت تخطي عزلتها، والتحول من دولة محايدة إلى دولة متحكمة، وأتبعت ذلك بأكثر من مائة وعشرين ممارسة عسكرية خاطفة أو طويلة الأجل، طالت كل أرجاء العالم، أغرت نفسها بغزو سافر خلّف الدمار الحسي والمعنوي. وأخطر من كل هذا وذاك: شرعنة هذا التدخل وتبريره من ضحاياه أو من المكتوين بناره، وإيهام المؤسسات الدولية بأنه حق مشروع. واضطراب المواقف السياسية والفكرية حول حدث لا يحتمل إلا رؤية واحدة مؤذن باستخفاف المعتدي وركونه إلى المعذرين. والمتابعون لملفوظ القانون الدولي وملحوظه، يشهدون تركيزه على (مبدأ عدم التدخل) وتأكيده على منع استخدام القوة فيما يمكن حله بالطرق السلمية. وميثاق الأمم المتحدة الذي أنشأه وسانده المخالفون له في وضح النهار، تنص مواده على احترام سيادة الدول. واللافت للنظر أن الخطاب الممهد للاعتداء عكَس المادة، وقلبها رأساً على عقب. إذ طرح المحتلون مبدأ (حق التدخل) .
وخطورة الفعل أنه لم يكن دبلوماسياً، ولا حرباً باردة، ولا تسليحاً للفصائل المتناحرة، وليس تأديبياً خاطفاً، مقتصراً على ضربة جوية أو صاروخية، وإنما هو غزو عسكري، ومصادرة للحرية، واحتلال للأرض، وانتزاع للسلطة، وإلغاء للسيادة، واستخدام لأفتك الأسلحة من دولة قوية مهيمنة، ينظر إليها العالم على أنها راعية للحرية والعدل والمساواة. وما كان اعتداؤها لإنقاذ مظلوم، ولا لإزالة خطر عالمي، وإنما هو لفرض إرادتها، وإشاعة حضارتها، وتأمين مصالحها، واستغلال خيرات البلاد، وضمان تفوق ركيزتها في المنطقة. وهذه السابقة الخطيرة التي يستخف بها البعض، ويراها حدثاً طبيعياً، يؤدي الاختلاف حولها إلى شرعنة ممارسات مماثلة، مع أنها عمل غير صالح، لمناقضته لأبسط القوانين العالمية. وكيف يحق لدولة تتقدم العالم في إمكانياتها ومبادئها، أن تستخدم القوة في مواجهة شعوب ترفض التدخل في شؤونها، شعوب لم تطلب المساعدة ولا المساندة بهذا الشكل.
وإذا كانت السلطة العراقية البائدة قد نفذت أقذر اللعب وأخطرها، ومسّ شعبها الضر الذي لا يُحتمل، وشكل وجودها خطراً على أمن المنطقة واستقرارها؛ فإن التعامل مع إرادة شعبها وحريته لا يكون بهذا الأسلوب. لقد أشار (جاك شيراك) قبل زيارته (لبريطانيا) إلى أن إسقاط (صدام) عمل إيجابي، ولكن تصعيد المواجهة مؤذن باستفحال الإرهاب الذي تتذرع أمريكا بمواجهته، الأمر الذي حمل أمريكا على الرد الساخر، والتأكيد بأن الإرهاب قائم قبل التدخل، وهذا صحيح، ولكن (شيراك) لم يقل بعدمه، وإنما قال باستفحاله.
والمجازفة العسكرية جاءت بمبادرة فردية من دولة قوية، يفترض أن تكون صمام أمان، وقوة ردع لكل من ينتهك الشرعية الدولية، أو يعتدي على سيادة الدول الصغيرة. لقد كان مقبولاً منها قيادة الحملة العسكرية العالمية لتحرير (الكويت) وقبول ذلك، لا لمجرد الفعل، ولكن للتوقف عند انتهاء المهمة، كما رسمتها قرارات هيئة الأمم المتحدة، وللانسحاب الفوري بعد تحرير (الكويت) .
وبمثل هذه الأحوال يكون هناك مسوغ لتدخل محدود، وفي أضيق نطاق، ومثل هذا التدخل تضمّنه ميثاق الأمم المتحدة. وقد حاولت أمريكا التقنع به، حين أعادت الكرّة، ولكن شتان بين إجماع دولي واستبداد فردي.
فميثاق الأمم المتحدة يجيز التدخل متى هُدد السلام العالمي، أو كان هناك اعتداء مُجْمَع على عدوانيته من دولة على أخرى. ولا يتم التدخل المباشر إلا بعد أن تستنزف المؤسسات العالمية كل الوسائل السلمية. ولو ضربنا مثلا بقضية (العراق) لوجدنا الولايات المتحدة قد مارست التدخل العسكري أكثر من مرة، تمثل بالضربات التأديبية والاستباقية. وتحرير (الكويت) خاضته أمريكا مع خمس وثلاثين دولة، ولقي فعلها ارتياحاً عالمياً، ولم يتحفظ عليه إلا طائفة قليلة، رأت أن معالجة الوضع يجب أن يكون عربياً، فيما ذهب المتعرضون للخطر إلى أن الأمة العربية غير قادرة على حسم الموقف، لضعفها أمام القوة العراقية، ولاختلافها حول الغزو، كما أن العرب من خلال جامعتهم لم يفلحوا في حل أي قضية، ولم يحققوا فض أي نزاع، ولا فك أي اشتباك. ومع هذا فإن الغزو والإخراج ألحقا أفدح الضرر بالأمة العربية، على حد (وقع السهام ونزعهن أليم) ، وليس ببعيد أن يكون الفعل ورد الفعل لعبة موجعة للأمة، ولكن لا بد مما ليس منه بد.
وبعيداً عن الشرعية يأتي التدخل العسكري الأمريكي البريطاني في العراق وإسقاط النظام، فمثل هذا الفعل يهدد أمن العالم، كما أنه تعويل ساذج على مواد (الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة) .
ولقد أضافت أمريكا إلى هذا المسوغ (ضعف الأمم المتحدة) . وأياً ما كان الأمر فإن تلك بادرة خطيرة، سيتجرع العالم العربي مرارتها لعقود طويلة، ولا يمكن قبولها، وإن ضلت فيها أفهام، وزلّت فيها أقلام، واحتدمت حولها الرؤى والتصورات. ولو كانت لهذه الممارسة الخطرة أقل نسبة من المبررات، لقيل بأن أمريكا تسرعت في استرداد كرامتها بعد أحداث (الحادي عشر من سبتمبر) ، وكان عليها التحري، وتحديد المعتدي الذي مارس الإرهاب ضدها وضد غيرها. لقد اهتاجت كما الأسد الجريح، واتخذت من شرعية محاربة الإرهاب سبيلاً لفرض إرادتها، ومن ثم انفردت بالرأي وبالتصرف، ولا عبرة بالمشاركات الرمزية من بعض الدول المغلوبة على أمرها. ومؤشرات الأحداث تشي بأن أمريكا ستقف أمام نفسها، وتقر بخطئها في إسقاط مؤسسات النظام وإعلان الاحتلال واجتياح المدن، ولكن بعد فوات الأوان وخراب العراق ومن حوله. إن حرباً ضارية بهذا المستوى لا تكون إلا إذا هدد أمنها واستقرارها، والعالم العربي أضعف من أن يهدد أمن (إسرائيل) فضلاً عن أمريكا. والحق أن المسألة كلها لتحقيق التفوق الصهيوني، الذي لا يريد للدول المحيطة به قوة ولا أمناً ولا استقراراً ولا وحدة. وفي هذا السياق جاءت الحرب (العراقية الإيرانية) مضعفة الدولتين المتحاربتين، ومعمقة الأضغان، ومستنزفة أموال الدول الخليجية التي ما فتئت تمد القضايا العربية المشروعة بالمال، وتدعم الأقليات الإسلامية في العالم، وتبادر في إقامة الجمعيات والمراكز الدعوية. وقد سبق هذه الحرب المدمرة حروب: أهلية وحدودية وطائفية، من أخطرها (أيلول الأسود) و (اجتياح لبنان) و (صبرا وشاتيلا) ودعك من (نكسة حزيران) وما لا حصر له من اللعب المصمية التي أتت على مقدرات الأمة العربية. وكل هذه اللعب المدمرة التي مارسها البعض بالتغرير أو بالاستدراج أو بالمواطأة، تصب في صالح إسرائيل. والأغبياء الإعلاميون ناضلوا بأقلامهم لتصنيم المغامرين والمقامرين، والأكثر غباء منهم من جاؤوا يعذرون للمحتل، ويبررون غزوه، ويرقبون معسول الوعود. وما فتئ الواقع العربي والإسلامي قابلين لمزيد من اللُّعَب التي مهدت لها ثورات دامية، وحروب أهلية وحدودية عنيفة، وصراعات فكرية وطائفية وعرقية، واختلاف مستحرّ حول الأسلمة والعلمنة والعولمة والمركسة والغربنة والحدثنة، ولقد استغلت لذلك عواطف متعددة من أهمها العاطفة الدينية، إبان الحرب في (أفغانستان) ، وفيما انسلخ من قوميات من الاتحاد السوفييتي. وكانت المخابرات الشرقية والغربية وراء ذلك التحريض والتجييش. والدول الصغيرة أو الضعيفة المتناحرة مع جيرانها، أو التي تتعرض لحروب أهلية، مهيأة لهيمنة الدول الكبرى، فالنزعة الاستعمارية كالجراثيم، لا تستفحل إلا في الأجسام الضعيفة. وفي ظل هذه الظروف الشاذة يعود الاستعمار البغيض الذي أخرجته الشعوب بالدماء والتضحيات. وقيام الحكومات المتسلطة على شعوبها، واستفحال الأزمات، وتتابع الإحباطات، وغياب المنظمات، وخفوت الأصوات المنصفة، مُؤْذِن بانهيارات أمنية، تصيب الفاعل والمعتزل، وتعمق المآسي، وتشيع الفقر والجوع والخوف. والمنظمات العالمية من واجبها أن ترمي بثقلها في مثل هذه الظروف العصيبة لإيقاف التدهور، ورد المعتدي، واستنهاض همم الصامتين عن قول الحق. وكيف لا تنهض بواجبها، وهي تشهد القتل الهمجي والتدمير الوحشي. وإذ لا يكون باستطاعتها أن تثني المعتدي، فإن عليها - على الأقل - أن تضعه أمام نفسه، وأن تحمله المسؤولية التاريخية، وأن تستثير إنسانية الصامتين المعتزلين للفتنة، ليمارسوا واجبهم للتخفيف من حدة الانتهاكات.
وإذا كان المتداول في أروقة الأمم المتحدة عدم التدخل، وعدم اللجوء إلى القوة، وعدم التعرض لسيادة الدول وسيادة القانون الدولي، فإن ذلك كلام لا تحميه قوة، ولا تترجمه إرادة عالمية. ولم يفسد الهيئات والمؤسسات العالمية إلا ما يمارسه الصهاينة والمتصهينون من ضغوط في أروقة الأمم، ومؤسسات التشريع الأمريكي، وما تقترفه (إسرائيل) على الأراضي الفلسطينية ذات السيادة من قتل وهدم وتشريد، وما تمارسه الدول الكبرى من صمت مُدان أو تبرير كاذب، وما تنهض به وسائل الإعلام من تناول متمارض، واختلاف بيزنطي. كل ذلك جعل القطعيات احتماليات، رققت المصائب، وجعلت بينها وبين المنكوبين إلفاً، حتى لا تجد من يتمعّر وجهه غضباً للحق. وما يقترفه الكتَّاب من تردد واختلاف حول قضايا قطعية الدلالة والثبوت، إنْ هو إلا ناتج الهوان:
(ومن يهن يسهل الهوان عليه...
ما لجرح بميت إيلام) .
وإذا فقدت المؤسسات العالمية المصداقية، قلّت هيبتها، وضعف احترامها، وسقطت من حساب المتسلط والمستضعف، الأمر الذي يلجئ المقهورين إلى المقاومة الممكنة والإيمان بمبدأ ( عليَّ وعلى أعدائي)، وقد يستغل الغضب، لتنفيذ لعب كونية، أو لتصفية حسابات قديمة، وذلك ما نشهده الآن في بقاع كثيرة من العالم. ولما كانت الحياة فلسفة، وليست مجرد وجود، تحول المقهورون إلى عبوات ناسفة من السهل استغلالهم، وتوظيفهم لتنفيذ أقذر العمليات. إن اليأس والإحباط مُؤْذنان بانفجارات مدمرة. والمواجهة غير المتكافئة مؤذنة بكسر العظام وإحراق الأرض. والخضوع والاستسلام مدعاة لمزيد من الإهانة. وحفظ التوازن بين اليأس والمواجهة والخنوع محك الاقتدار. وعلى الذين يملكون فك الاختناقات، أن يحذروا مواصلة الضغط على المستضعفين، إن ما نشاهده في العراق من تمرد وحقد وانتحار وقتل بشع للمخطوفين دليل على أن الفوضى لا تحكمها القوة، وأن انفلات الأمن فوق قدرة البشر بكل ما أوتوا من قوة. ولو أن القوة تحسم المشاكل، لَمَا كانت العراق مستنقعاً يتسع ويتعمق، ولَمَا كانت (فيتنام) من قبل مصيدة أذلت أمريكا. لقد جُرت قدم أمريكا ل (فيتنام) فزلّت، وجرت قدم الاتحاد السوفييتي (لأفغانستان) فسقط، واندفعت أمريكا بعنف في (العراق) فتورطت.
إن عمليات الاغتيال والخطف والتفجير ترجمة للإحباط والفوضى، وقد تكون خليطاً من الإرهاب والمقاومة وتصفية الحسابات بين دول لا تملك القدرة على المواجهة العسكرية. إنها لعب قاتلة أو بقايا لعب كونية، رضي العالم العربي أن يكون مسرحاً لها. والمتابعون لا يفرقون بين (الإرهاب) و (المقاومة) و (المواجهة) الخلفية بين الخصوم الألداء. وليس أدل على ذلك من القول بأن (شارون) رجل سلام، وأن الصراع مع الصهيونية صراع حضاري، وأن منظمات التحرير الفلسطيني منظمات إرهابية، وأن مقاومة العالم الثالث رفض للحضارة والمدنية والحرية، ومباركة منح جائزة نوبل مناصفة بين المقاومة والاحتلال. والمؤلم أن يستمرئ بعض الكتبة جَلْد الذات والتعذير للغزاة، وانتظار ما لا يأتي من وعود طوباوية، هذا الاضطراب في المفاهيم والمواقف سوغ أعمالاً لا تحتمل إلا تأويلاً واحداً. وبهذه الظواهر يكون العالم كله مداناً، ومعرضاً لغضبة ربانية، لا تقل عما أصاب قوم (نوح) أو قوم (صالح) أو آل (فرعون) أو أصحاب (الفيل) ، فالله حرَّم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرماً، ولو تكلم الصامتون، وكف اللاعبون، لعرف الناس طريقهم إلى السلام العادل، وعرفوا الإرهاب، وأسبابه، ومصادره، وطرائق مواجهته.

عباس محمود العقاد 24-11-2006 07:59 PM

أخطر ظاهرة استعمارية..! (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


وأخطر من الإرهاب تضارب الآراء في فهمه، وافتراء الكذب في البحث عنه في الكهوف والمغارات، وحصره في نحلة أو ملة أو عرق، والحق أنه أقرب إلى الفهم من حبل الوريد، لو أريد استئصال شأفته دون استغلاله لمكاسب ثانوية، واتخاذه قناعاً لمآرب أخرى. والتقنع أودى بحيوات كثيرة، فكان كما الأكلة التي منعت أكلات كثيرة. إنه في مواقع كثيرة مولود طبعي للتدخلات في أخص الخصوصيات العالمية، وردة فعل لاستخدام القوة دون مبرر، ورفض معلن للعنف الصهيوني وللوحشية في مواجهة المخالف. وذلك بسط لما قاله (شيراك) قبل زيارته ل(بريطانيا). ومن أراد للإرهاب أن ينزوي في أضيق نطاق، فعليه أن يكف عن الظلم وعن التدخلات، وعليه أن يمارس العدل والإنصاف والحياد الإيجابي. وإذا أكدنا على ما سبق فإن للغلو الديني، والتعصب الطائفي، والتأويل الباطل لنصوص التشريع، وفوضى الإفتاء، والخروج على الشرعية أثرها في تنامي الإرهاب واستفحاله. غير أن التطرف الفكري لا يواجه بذات العنف، لأنه ناتج تربية خاطئة أو مؤامرة دنيئة، حشدت المشاعر، وعبأت الرأي العام، حتى إذا آذن بالانفجار لاذ المخادعون بالفرار، يحملون الغنائم، وتركوا الحابل يختلط بالنابل. وللخلوص من ويلات الإرهاب لابد من معالجة الاحتقانات، والتعبئة الذهنية بذات الطريقة التي كونته وحفزّته. لقد تهربت الدول الكبرى من مسؤولية الإرهاب بإضافته إلى الإسلام وإلى مناهج الدراسة عند بعض الدول الإسلامية، وإلى بعض الطوائف الإسلامية، وإلى طائفة من المصلحين الذين كان لهم كل الفضل في نفي ما علق بالدين من تأويل المبطلين وانتحال الغالين وغلط الجاهلين، وشايعها في هذا التهرب الجهلة والمغفلون والمجندون. وتحت تأثير المغالطات أوقفت الجهود الإسلامية المعتدلة، وأغلقت المراكز الدعوية، وقلصت الجمعيات الخيرية المدعومة من دولة عرفت بالوسطية والدفع بالتي هي أحسن، والدعوى إلى سبيل ربها بالحكمة والموعظة الحسنة. والدول التي واجهت الإرهاب بالأساطيل، شككت العالم بالمسلمين على كافة الطوائف، وحملته على التحفظ على كل عمل إسلامي أياً كان. وما الإرهاب في حقيقة الأمر إلا مولود مبتسر لغطرسة القوة، والتنكر للشرعية الدولية. والذين يمارسون العدوان السافر، ويجتهدون في منح عدوانهم شرعية دولية يغذّون الإرهاب والعنف، ويساعدون على استفحالهما.
والمزعج أن الدول التي تمارس القوة في فرض إرادتها، لا تفتأ تحرض على احترام الشرعية، وتدعي حمايتها لقوانين هيئة الأمم، والمكتوون بنار اللعب الكونية والقمع المتعسف يصرخون في أودية سحيقة، لا تؤوّب معهم إلا الجبال، مؤكدين على أن الكبار هم أول من اخترق الشرعية، وعطل القانون، وحرض على الكرة والعنف. وكيف تسوّغ أمريكا لنفسها التدخل العسكري في (العراق) وهي حين اسقطت حكومته الظالمة، أعلنت أنها (محتلة) والاحتلال مفهوم له مقتضاه البغيض. وحين انتشر جنودها في أرجاء (العراق) هبت المقاومة، واندس بينهم أصحاب الثارات، وانتفضت كل التنظيمات السرية العنيفة، تنسل من كل حدب. فأمريكا وإن كانت تملك بصيصاً من الدافع الإنساني لتخليص الشعب العراقي من حكومته الظالمة، إلا أنها لم تحسن الدخول، ولم تضبط الممارسة، ولم تدع مجالاً للتفاؤل والثقة. وتصريح قادتها والتهديد والوعيد لدول الجوار يبعث على الخوف من العواقب الوخيمة. لقد فرضت على الشعب العراقي فتنة تتفاقم ساعة بعد أخرى، فتنة عمياء، وقودها الأنفس والأموال والحرث، وهل أحد يرضيه ما يحصل للشعب العراقي؟ وهل يود عاقل أن تؤول بلاده إلى ما آلت إليه الأوضاع في العراق؟ ومغامرة أمريكا أضرت بها، وأضرت بالمنطقة، وأسقطت الشرعية الدولية. ولو أنها حين أسقطت الحكومة الظالمة، سلمت البلاد لهيئة الأمم ولجامعة الدول العربية، لترتيب الأوضاع وفق مصلحة الشعب، وظلت ترقب الأوضاع من بعيد، لكان في ذلك حسم للفتنة، واستساغة وقتية محدودة للتدخل. ولكن حيثيات التدخل الواهية، وما نشأ عنه من تدمير بشع أسقطت معقوليته، وعمقت الشعور بالرفض وعلى افتراض وجود أسلحة دمار شامل، أو ضلوع في دعم الإرهاب، فإن رد الفعل أخطر من الفعل. وفوق ذلك كله فإن تدخل أمريكا لا يعد من باب الدفاع عن النفس، وكيف يكون ذلك، وهي الأقوى والأبعد، و(إسرائيل) ليست مهددة في ظل القوة الأمريكية والضعف العربي، والخوف كل الخوف من مؤامرة تصيب الدول كافة، وتزيد في اشتعال الفتنة واتساعها، حتى إذا استحكمت، وظنت أمريكا أنها غير قادرة على الحسم، ولت هاربة، تاركة الأشقاء يقتتلون، كما فعلت في (الصومال) وفي (لبنان) ومن قبل ذلك في (فيتنام)، وكل حرب ظالمة تترك آثاراً سيئة يصعب حسمها.
لقد تعرض أبناء الشعب العراقي على يد أبنائه من عصابة القبيلة وفلول الحزب للقتل والسجن والتعذيب والتشريد، ولقيت أطيافه تهميشاً ومضايقة ومطاردة، وفقد الشعب العراقي زهرة شبابه بين قتيل وسجين ومعوق ومهاجر، وحرم إنسان العراق بكل ما ينطوي عليه من شجاعة وحضارة من أبسط حقوقه على يد الطغمة الحاكمة، وتعرض جيران العراق للإيذاء، وتمنوا سقوط النظام الذي جر المنطقة كلها إلى حافة الهاوية، وفي ظل هذه الأزمات وجدت أمريكا مبرراً لتدخلها، من حيث هو إماطة للأذى، وإزاحة للكلكل المنيخ على صدور الشعب العراقي، غير أنها لم تضع ذلك في اعتبارها، ولو وضعته، لكان أن تدخلت قبل هذا الوقت، ولكان أن تدخلت في شأن دول أخرى، تعرضت شعوبها لويلات مماثلة. وما تعرضت له (العراق) أثناء الغزو، وما يتعرض له الآن أسوأ مما ناله من قبل، وما يرقبه من مصائر مظلمة تنذر بالخطر، وما ترقبه دول الجوار من انفلات في الأمن واستشراء في الإرهاب أنكى وأمر. فالعراق معرض لحروب أهلية طاحنة، ولتقسيم طائفي وعرقي خطير. وهو قد تحول إلى ساحة لكل متوحش يفسد في الأرض، ويسفك الدماء. وفي ظل هذه الفوضى فإن لكل دولة مصلحة وثارات، وأجواء (العراق) مناسبة لتصفية الثارات، وتحقيق المصالح. فكل من في ذمة أمريكا له مظلمة، يجد الوقت مناسباً لرد الصاع صاعين. وهذا هو حال العراق اليوم، قتل عشوائي، وتفجير عنيف، وذبح متوحش، وتسلل أجنبي، وتسريب للأسلحة، وتداخل بين الإرهاب والمقاومة. وإذا كان الشعب العراقي يهرول نحو الهاوية، فإن المنطقة بأسرها مشروع فوضى مستحكمة. وأمريكا هي الخاسر الأول، لأنها تحرج الأصدقاء المعتدلين وتخيفهم، وتفقد الأفضلية من الدول الغنية بثرواتها الطبيعية التي تعطيها الأولوية في الاتفاقات والصفقات، وتمنحها كثيراً من التسهيلات والامتيازات. وقد يؤدي عنفها واندفاعها وحساباتها الخاطئة إلى توريط المنطقة، وتدمير مصادر الثروة وشغلها عن التنمية والإنتاج، مما يعود أثره السلبي على الجميع، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
وكل عمل لا يملك مشروعية، يتسع لعشرات الأعمال المماثلة. فأمريكا دخلت دون أن يكون لدخولها أي مبرر، وكان بإمكانها أن تصيخ لتحذير الناصحين، وأن تتخذ مساراً يُضيق الخناق على الأنظمة المتهمة، ولا يعرض الشعوب للفتنة، وهذا التدخل السافر قد يغري كل متردد على ممارسة الكسب غير المشروع، لقد أصبح هذا التدخل بادرة سيئة، ستعقبها بوادر أخرى، ليست بأقل خطراً منها، لقد جاءت (حرب الخليج) الأولى مغامرة طائشة أنتجت احتلال الكويت، ثم تتابعت الفتن، وتزامن مع ذلك قلب الحقائق وافتراء الكذب.
وقلب الحقائق والإذعان لما يسوّق إعلامياً من كلام مخالف للحقيقة يعني استمرار الظلم والقبول بالمغالطات. وإذا لم يتدارك عقلاء العالم الأمر فإن المنطقة ستكون مسرحاً لأحداث دامية، يمتد أثرها زماناً ومكاناً. وليس أمام أمريكا إلا أن تنقل القضية إلى هيئة الأمم، وأن تصدق في استفتاء الرأي العالمي، وأن تحتمل ما يقرره من خلال منظماته، لا أن تفتح ملفات ضد الأمين العام لطرده من المنظمة لمجرد أنه قال بعض الحق. فالواقع المؤلم للعراق وللمنطقة بأسرها لا يمكن أن تضطلع أمريكا وحدها بحله، وليس باستطاعتها ترتيب الأوراق دون مشاركة عالمية، تعيد للعراق وضعه الطبيعي، وتخلّص نفسها من هذا المستنقع، وبخاصة أن سمعتها لم تكن على ما يرام، والذين يسايرونها في مغامراتها، إما ماكرون أو مكروهون، وإذا كانت الأمة العربية عاجزة عن رد الظلم، وهي عاجزة ولا شك، فإن على نخبها وإعلامييها ألا يزيدوا الارتكاس بالاختلاف غير المحتمل، والنهوض بمهمة التبرير، وترويج المغالطات، والانحاء باللائمة على الشعب المقهور. إن على النخب المنهكة أن تقول خيراً أو لتصمت. وليست معذورة حين يكون هناك تباين بين الفعل والقول الأمريكي. لقد ادعت أمريكا الرغبة في التوازن، وباستطاعتها تحقيق ذلك دون تدخل يقلب الموازين. ثم إن استعمال القوة للقضاء على سلاح الدمار الشامل يجب أن يبدأ من (إسرائيل) التي تمتلك أفتك الأسلحة، واستعمال القوة لأهداف إنسانية يجب أن يبدأ من (إسرائيل) التي تمارس أبشع صور الاعتداء والقتل غيلة والهدم غطرسة، والخطف والسجن والتشريد والتسميم مهنة.
إن ممارسة أمريكا عرّضت سلامة الأراضي العربية للخطر، وعّرضت الاستقلال السياسي للإلغاء، ولم تحقق أمناً ولا وحدة، ولم تملأ الفراغ الدستوري الذي أحدثته. وإذا لم يكن التدخل العسكري لحماية رعايا الدولة المتدخّلة أو لحماية الأقليات العرقية أو الدينية حين تسلب حقوقها - مع أن ذلك لا يسوغ إلا بتخويل من هيئة الأمم ومؤسساتها، وتحت إشرافها وقيادتها -، فإنه يعد اعتداء سافراً لابد من التصدي له، ولو بالضغط السياسي، والاستنجاد بالدول المحايدة ك(فرنسا) مثلاً لممارسة الضغوط، وإنقاذ الأمة العربية من انهيارات سياسية واقتصادية وأمنية، فالغزو العسكري مرفوض على كل لسان وبكل نحلة، ومواجهته مشروعة بمختلف الإمكانيات الممكنة، وإن لم تكن استطاعة فلا أقل من قول الحق أو الصمت وذلك أضعف الإيمان. وإذ يكون في (العراق) ملل ونحل وأعراق تمثل أقليات مضطهدة ك(الأقلية الكردية) فإن إشكاليتها ليست قصراً على (العراق)، ف(الأكراد) موزعون بين خمس دول، وقضيتهم أصبحت مجالاً لللاعبين الكبار، والأكراد أصبحوا يتخبطون في قضيتهم. أما (الشيعة) فليسوا أقلية، وإن مسهم الضر، ولما تكن لهم قضية في أروقة الأمم، وحتى لو كانت لهم قضية فإن معالجتها سلمياً أفضل، وأوضاع العراق داخلية، وليس من حق أحد أن يرمي بثقله. فالشأن العراقي، يجب أن يتداوله أبناؤه، وما على المتعاطفين إلا النصحية، والحيلولة دون الحروب الأهلية.
لقد مر العالم بتدخلات خاطفة، لإضعاف الخصم، وخضد شوكته، وانتهت بالانسحاب الفوري، ونقل القضايا المستعصية على الحل إلى أروقة الأمم، ولكن ما نعايشه في قضية (أفغانستان) و(العراق) يعد احتلالاً طويل الأمد، فلا هو من باب التأديب، ولا هو من باب الاحتواء، ولا هو من باب حماية المصالح، ولا هو من بال مواجهة الإرهاب، إنه عمل خطير ومخيف. وإذا كانت أمريكا تتذرع بشيء من ذلك فإن العالم بأسره مع التصدي والصمود في وجه الإرهاب، فالأمة المنصفة الحضارية ترفض القتل، وترفض التدخل، وترفض اختلال الأمن، وتحترم سيادة القانون. ولكن من ذا الذي يملك تحديد الإرهاب ومواطنه، وأسلوب مواجهته. إن هناك إرهاب دولة، وإرهاب منظمات، وإرهاب طوائف، وإرهاب أفراد. وهناك مقاومة وحتى هذه اللحظة لم يشأ العالم أن يصل إلى تحديد مفهوم جامع مانع لما يمكن أن يسمى بالإرهاب فالمسائل نسبية، ولكن الحق أبلج، وما من أمة إلا وتعرف المحق من المبطل، ولو صدق الناس، وأنصف الأقوياء، لاستراح العالم، واستقرت الأوضاع. وهل أحد لا يعرف الإرهاب؟ الإرهاب الحقيقي هو ممارسة القتل والتفجير على أرض دولة شرعية متصالحة مع شعبها، ومسالمة مع جيرانها، محترمة للعهود والمواثيق، وليست لها أطماع، وليست لديها تدخلات في شؤون الغير. ولنضرب مثلاً على ذلك ب(المملكة العربية السعودية) التي واجهت إرهاباً عنيفاً متعدد المواقع والأساليب والأهداف. فالمملكة ليست معتدية، وليست دولة تسلطية، ولا تمارس تصدير الإرهاب، ومع ذلك تعرضت لأبشع العمليات الإرهابية، واتهمت بصناعته، وحيل بينها وبين الدعوة والدعم السلمي، وحتى حين كانت تستعدي دول العالم على الإرهاب، كان البعض يسميه معارضة مشروعة، وحين كشر عن نابه خف الجميع للمواجهة.
لقد مارست إسرائيل أبشع صور الإرهاب، بحجة الدفاع عن النفس، وتأمين الحدود، ومنذ عام 1967م وهي تحتل أراضي الغير على الرغم من قرارات الأمم المتحدة. وهي قد ضربت المفاعل النووي (العراقي) على الرغم من أنها تمتلك سلاحاً نووياً، وهي الآن تتحين الفرصة لضرب المنشآت النووية السلمية في (إيران)، وتمارس ضغوطها على الهيئات والمؤسسات لمنع إيران من أبسط حقوقها، ولم تجد أي رادع أو مسائل، إن هذا الاعتداء السافر والتأييد الظالم مؤذن باستفحال الإرهاب، والأمم الآمنة المطمئنة لا تريد العنف، ولا الرد الأعنف، وما يمارس على الأراضي العربية هو عين العنف والرد الأعنف.
واجتياح العراق، وإن لم يكن الأول بالنسبة لأمريكا، إلا أنه الأعنف، يعد من الأسباب الرئيسة لتنامي الإرهاب وتنوعه واستفحاله، وهو ما لا يريده العقلاء في كل أنحاء العالم. إن هناك إرهاباً وهناك أجواء ملائمة للإرهاب، فالاحتلال، والانحياز للمعتدي، وسكوت القادرين على الكلام من الأسباب القوية لوجود الإرهاب. لقد كان لأمريكا تدخلات عسكرية خاطفة، لم تكن بحجم التدخل في العراق، ولهذا لم تصعد العنف في الأوساط العالمية، ولعلنا نذكر ضرب (ليبيا) و(نيكارغوا) والتدخل في (الصومال) و(لبنان) ومناطق أخرى، ولأنها لم تكن احتلالاً عسكرياً، فقد مرت دون أن تكرس الاستياء أو أن تستدعي المواجهة، وقد يكون الضرب الخاطف من باب الاختلاف الحاد حول وجهات النظر والمصالح. وقد يكون ذلك بدافع قمع بعض الدول عن ممارسة الإرهاب الدولي أو دعمه.
المهم أن هناك اعتداءات تنفرد فيها أمريكا، متخذة لذلك أي مبرر، لكن ضرباتها الخاطفة، لم تكن بحجم اجتياح (العراق) و(أفغانستان) ولا بحجم اجتياحات إسرائيل للأراضي الفلسطينية. و(ليبيا) موّلت عمليات إرهابية، واغتالت شخصيات سياسية ودينية، واعترفت ببعض مقترفاتها، وتحملت تعويضات مادية باهظة، وقد اتهمت بعمليات كثيرة من أهمها (لوكربي) و(ملهى برلين)، وهي أخيراً بعد تعهداتها تورطت بالتخطيط لاغتيالات خطيرة، لعل من أسوئها التخطيط لاغتيال زعيم عربي، أنقذ ليبيا حين ادلهمت عليها الأمور، وهي من قبل قد اتهمت (حركة الإصلاح الديني) في نجد بالإرهاب، وكأني بها تنتقل من (اتهام المصلح) إلى (اغتيال الأصلح)، وكنا نود منها ومن (العراق) في عهده البائد ومن أي دولة ثورية تلعب بالنار تحامي الاستفزاز، والتخلي عن العنتريات، وخطابات التهديد والوعيد، وتصدير الثورات والنظريات، فبعض الزعامات المتهورة تثير الغضب، وتستفز الدول الكبرى، وتوجد أمامها مبرراً لممارسة الضغط والحصار والمقاطعة وكسر العظم وإحراق الأرض وقتل الأنفس. وقد تحمل على المواجهة العسكرية، أو تدبير لعب موجعة، تجر المنطقة إلى مستنقع الفتن. ومثل هذه الممارسات محرض للضربات التأديبية. إن المنطقة العربية مقبلة على أوضاع عصيبة، وليس أمام زعمائها إلا الالتقاء على كلمة سواء.

حرف جر 25-11-2006 12:13 AM

والله فرق بين هذا الأسلوب العملاق وبين تمتمة الحمقاء وصراخ المتعاملين والمتعالمين وثرثرة الصغار ..
معقوله المهوس حاط راسه الفاضي برأس هذا الكبير ..
لكل داء دواء يستطب به .............الخ
مشكور ياعباس

عباس محمود العقاد 25-11-2006 06:10 PM

حرف جر
شكرا لمرورك الجميل أيها الحبيب المحب

لفتة :

أخي الحبيب / يمكنك مشاهدة 100 رد في صفحة واحدة وذلك بالرجوع إلى لوحة التحكم الخاصة بك أو برابط ( مكتبي ) ثم ( الخيارات ) ثم ( التصفح ) ثم اختر ( 100رد في الصفحة الواحدة) حتى يسهل عليك التصفح

سنبدأ الآن بمقالات الدكتور المنشورة في عام 2003م
ثم سأنقل إن شاء الله تقريرا آخر عن تكريم الدكتور حسن

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:26 PM

رهان (الحداثة) بين التجلِّي والتولِّي!
د. حسن بن فهد الهويمل


بعض الدارسين والنقاد والمحاضرين والمؤلفين المناوئين للحداثة يقطعون بأنها اضمحلت تحت وابل الضربات المسددة، وكل الشامتين يقوم رهانهم على ان توليها مرتبط بغياب من كانوا تحت رايتها ملء سمع المشاهد وبصره، فيما يقولون، وفيما يراهنون عليه من غلبة واستفاضة لقيمها: الفنية واللغوية والدلالية.
وبعض المتفائلين الظانين بها ظن السوء أخلوا ثنياتهم، وهبوا لجمع «مخيال» الغنائم التي خلفها لهم الوهم، مصوراً لهم ان الحداثيين تركوا فلولها في ساحة الوغى، مثلما فعل الرماة في «أحد»، وهم يحسبون ان الذين اغثونا بادعائها في مشاهدنا المحلية هم خاصتها وعيبتها وسوادها الأعظم، وان انطفاءهم مؤذن بانطفائها في كل بقاع الأرض الواسعة، والتأسيس النقدي على ان الحداثة والحداثيين أصبحوا خبراً بعد عين تأسيس على جرف هار، ذلك ان الذين لم يتقوا الشبهات بادعائها ممن اعطوا الدنية في ثوابتهم لأساطينها الضالعين فيها شرذمة قليلة، لا يقدمون، وقد لا يؤخرون، ولا يدق تمييزهم بين المحظور والمباح في سائر العوالم: الدينية والأدبية والاجتماعية، وكل ما يوصفون به انهم سماعون لسدنة الحداثة، ممن ينظرون إليهم نظر المزدري، لعلمهم بأن هذه النوعية غوغاء، لا يضيفون شيئاً، لأنهم لا يملكون خيلاً يهدونها ولا مالاً يعطونه، ولا منطقاً حسنا يعوضون به إقواءهم المعرفي، حين لا تسعدهم المعارف ولا تسندهم الآليات، وكل الذي يؤدونه ان يذكروا عند أربابها بما لم يفعلوا، وغياب مثل هؤلاء أو بياتهم الشتوي، لا يحفز على تداول القول في تخلف الحداثة عما سواها من الظواهر، فضلاً عن القطع بذهابها.
و«الحداثة» التي نقف في وجهها، ونتقرب إلى الله بالتصدي لمعتنقيها باقية، متنامية، متعددة المواقع والقضايا والظواهر والمفاهيم، وتجذرها في المشاهد الغربية وأثرها في الرؤى والتصورات والمواقف من المسلمات التي لا مجال للتشكيك فيها، وكيف يبشر الناقمون بزوالها، وهي قائمة في الإبداعات السردية والشعرية وفي النقد، حاضرة في الصحف والمجلات والكتب والمنتديات، مؤثرة على «اللغة» و«الشرط الفني» و«القيم الدلالية» شائعة كالوباء في الفن والفكر والأخلاق، لها حماتها من النقاد والدارسين، ولها أشياعها من القراء والكتاب، ولها مجالاتها في الصحف والمجلات والكتب والروابط والنقابات والمؤسسات والقنوات، والمتابع الواعي لا يغتر بخلط الأوراق، فالحداثة مصطلح مصنوع، والتجديد مصير محتوم، ومع اننا نتصدى لفيوضها لا يجرمنا شنآن أقوامها على ألا نقول الحق، فيما أحدثوه، وفيما أضافوه من مناهج وآليات في مجال النقد، ومن عمق دلالي وتألق فني في مجال الإبداع، فأصحاب المواهب والمثقفون من الحدثيين استطاعوا ان يتركوا أثراً عميقاً، لا ينكره إلا مغالط، ثم ان الموهبة والاقتدار والثقافة إمكانيات ذاتية، لا ترتبط بمذهب، ولا تختص بنحلة. والرسول صلى الله عليه وسلم عرف لخصومه حقهم واقتدارهم، ولهذا دعا ربه ان يعز الإسلام بأحب «العمرين» إليه: «عمرو بن هشام» و«عمر بن الخطاب» وهما إذ ذاك، كافران يكيدان له وللإسلام وللمسلمين، فهدى الله ابن الخطاب رحمة، وأضل أبا جهل عدلاً، فأساطين الحداثة على جانب من المواهب والإمكانيات المعرفية، وليس كذلك الغثائيون والزبد الذين ينقُّون كما الضفادع، ثم لا يُسمنون ولا يغنون من جوع، وكل أقلية منبوذة تكرس جهدها، وتشرعن له بإعداد القوة والسيطرة على مجالاتها من علم وإعلام ومال، والذين يودون معرفة أحوال الحداثة الفكرية ومحاكمة ذويها بعدل وانصاف ومعرفة، عليهم ان يضعوا في اعتبارهم عدة اشكاليات، لعل من أهمها:
الأول: المفهوم.
الثاني: المجال.
الثالث: الاقليمية.
الرابع: الادعاء.
وما يتناسل منها من اشكاليات مربكة، ولست على يقين من حسم هذه الأمور في الوقت المنظور، وما انا ممن يربطون بين الكُموُن والذهاب، ولا مع الذين يحسبونها ماثلة في الذوات دون الواقع، ولا مع الذين يقصرون أحكامهم على مدها وجزرها الاقليمي، ذلك ان اجواء بعض الاقاليم ليست ملائمة لحداثة الفكر، وان تهافت عليها من لا يلوون على معرفة، ولا يخافون على سمعة، ولا يفرقون بين الجمرة والتمرة، وبعض المتهافتين على الطوارئ لا تسبقهم المسابير ولا المجسات، ولا يقيسون قبل ان يغوصوا في أعماق المستجدات، فهم أشبه بالفراش، يتهافتون على اللهب ليحترقوا، ولهذا لا يجدون معرة في التحول السريع.
والتعالق مع أي قضية يكتنفها الغموض، وتناسل مفاهيمها يحول دون كف الغيبة عن النفس، وحين تتقطع بمثل أولئك الأسباب، يحصرون مفهوم الحداثة عند حد التجديد والتغيير والطفرة، والمتحدث في أي قضية فكرية أو أدبية مشتركة بين حضارة وأخرى لم تتحرر عنده: تاريخاً وموطناً ومفهوماً ومرجعية وتحولاً، يأتي بالعجائب، ويكشف عن قدرة إنشائية، لا تلوي على ثقافة، ولا على معرفة، ولا تقول شيئاً، وبعض السرعان من هؤلاء الأشياع والأتباع يصلون بخفتهم وتقلبهم في المذاهب حافة البهلوانية، فيكثر نظّارهم، ويرتفع من حولهم المكاء والتصدية، ويختلط الأمر على المتابعين لهم، فكل ما يقولونه يدل على ان المعرفة لما تدخل في قلوبهم، إذ لم يكونوا بالمؤصلين، ولا بالصابرين على لأواء المغالبة، وتقصي القضايا، وتحقيق الإيمان الذي يطمئن معه القلب، وتسكن عنده الجوارح. وبين «المتحدثنين» و«المتعالقين» تأتي طوائف أخرى، تتوهم انها على فهم دقيق بمجريات الأحداث الفكرية والأدبية، حتى إذا فُزِّع عن قولهم، تجلى الزيد المجفو، وظهر الرجم بالغيب، فالمبادئ والمذاهب والمناهج والآليات لا يكفي تلقفها من وسائل الإعلام، ولا من ثقافة السماع، بل لابد من تقصيها من تخومها، والوصول إليها في مطارح أهلها، ورصد الأجواء الفكرية لمنشئها، والتعرف على جذورها الفكرية وتحولاتها المقصدية، ومراحل تقاطعها مع التيارات، وتنقلها بين المبادئ والمذاهب، وما يلقى مثل ذلك إلا الصابرون، أما الراكضون في ركابها: تبعية وإمعية، وان اشتعلت رؤوسهم شيباً، ووسدت بعض الأمور إليهم، فقد تعوزهم المعرفة، وتنقصهم الأهلية، والمشاهد العربية تنوس بها نكرات ومعارف: مقتدرون وادعياء، وتطفو في مشاهدها مذاهب وآليات ومناهج، و«الحداثة» تتسع لهؤلاء وأولئك، فآليات النقد اللغوي الحديث ك«البنائية» و«التحويلية» و«التفكيكية» نسلت من أحداب كثيرة، ولك ان تقتفي أثر «البنائية» وتقلبها في العلوم، وهي: آلية، وتصور، وفرضية، لها جذورها الفلسفية، وبوادرها الضاربة في عمق التاريخ الفكري واللغوي والأدبي والاجتماعي والنفسي والاقتصادي وسائر المذاهب، وسوف تقف من هذا الاقتفاء على العجب العجاب، والذين التقوا بها، أو تقاطعوا معها على أي صعيد من هذه الصعد يتصورونها من خلال ذلك المجال، وليست لدى بعضهم القدرة ولا الإمكانيات التي تساعدهم على ملاحقتها في كل حقل معرفي، ومثلهم في ذلك مثل «العميان» الذين جمعوا حول «فيل» ليتمكنوا من تصوره، فكل واحد منهم تقرّاه بلمس، كما صورة انطاكية التي راعت المتلمس، وحين اجتمعوا لتحديد تصورهم له، أتوا بالمضحكات، وانفض سامرهم دون اتفاق، ولو انهم أبصروه لما اختلفوا، وهكذا «البنيوية» نظر إليها اشباه «أم الحليس» مثلما تلمس «العميان» جوانب «الفيل»، ويقال عن «الحداثة» و«العولمة» و«العلمانية» ما قيل عن «البنيوية» فهي قائمة في كل شيء، ف«الشكلانيون» و«التشكيليون» ومصممو «الأزياء» و«المساكن» يصفون اضافاتهم وتجديدهم بأنه عين «الحداثة»، وفي تصورهم انها تتحقق بمجرد المغايرة، والموجفون عليهم بخيلهم ورجلهم، والذائدون عنها بسلاحهم، حين تتجلى لهم بصورتها الحقيقية، يعرفون انهم يضربون في فجاج الوهم، وذلك بعض ما نشاهده من الخصوم والأنصار، والجذر اللغوي «ح. د. ث» يعطي ذات المفاهيم، ويوقع في اللبس، ولكن الدلالة الوضعية تضمحل في ظل الدلالة المصطلحية، ومن ثم فإن «للحداثة» حكايات لا تجليها المغالطة، ولا يحررها الجهل، ف«الحداثة» غير التجديد، وغير المعاصرة، وغير التحديث، وغير المجيء من البدو إلى الحاضرة، ومن القرية إلى المدينة، والتحول من الجمل إلى السيارة، إنها «ايديولوجيا» صنعت على عين الغرب المادي، وبوحي من الفلسفة الوضعية، وكل قائل عنها يعري نفسه على حد: «تحدث حتى أراك» ومعتقدنا وتصورنا: انها: مذهب «فكري» و«سلوكي» يقتضي: «العدمية» و«التدمير» و«الانقطاع» و«التهتك»، و«الغموض» و«الهروب» و«العصاب» و«الازدراء» و«النفي» و«الالغاء» و«التساؤل» و«الاحتجاج» و«التوتر» و«الغثيان»، وكل ذلك بعض ما يقوله ذووها بأفواههم، لا ما نقوله نحن، ومثلما يدعيها غير الأدباء، يدعيها المبدعون والدارسون والنقاد والمهندسون والتربويون وعلماء الاجتماع واللغة والنفس، وهي في تقلبات مع المفكرين والسلوكيين والساسة وسائر علماء المعارف الإنسانية، فأي حداثة يريد القائل بذهابها، والمتملقون لها في المشاهد المحلية لا يملكون الحسم في أمرها، وكيف يتأنى لعائل مستكبر ان يقول كلمة الفصل، وهو الطاعم الكاسي؟.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:27 PM

رهان الحداثة بين التجلي والتولي..!
د. حسن بن فهد الهويمل


والنقاد الذين يرصدون لها من خلال الحركة الداخلية، ليسوا على شيء مما يدور في سائر المشاهد العربية. وتجلي الحداثة في القول او في الفعل يتطلب الدقة في تحديد المراد، والمتعاملون معها بوعي سليم، وتصور دقيق، تعن لهم مجالات وأنواع وقضايا وظواهر. واستدعاء اللغط الدائر حول إقبالها وإدبارها يقتضي الإيماء إلى إشكاليات ثنائية، ففي شأن «الحداثة الأدبية» نجد:-
- حداثة الفن:- السردي والشعري
و- حداثة الدلالة- الفكرية والسلوكية.
و- حداثة النقد: التنظيري والتطبيقي.
وما لم يكن المتحدث على معرفة تامة بهذه الثنائيات فإن حديثه أضغاث احلام. فعلى أي الثنائيات يقوم رهان التولي والانكماش الذي يدعيه البعض؟ وإذا كانت الرؤية الحداثية واضحة لأساطينها في الوطن العربي، متجلية للمتصدين لها هنالك، فإنها لدينا ملتبسة، ذلك أن المتعالقين معها: إما جهلة بمرجعياتها الفكرية والسلوكية، او جهلة بمفاهيمها الفنية المتعددة بتعدد المتصدين لها. وتبذبذها بين: الفن والفكر، وبين الإبداع والنقد، وبين الأداء والتلقي، وبين التشيع والتمنع كل ذلك ومثله معه يزيد في صعوبة الاستيعاب. والقائلون بنكوصها على اعقابها وذهاب ريحها إنما يمنون أنفسهم ويعدونها. وكيف يتصور البعض أن خفوت صوتها علي صفحات الصحف المحلية، وتفرق مدعيها بين المذاهب والتيارات مؤذن بنهايتها؟ وهل الحداثة منتج محلي، بحيث نتحكم بمصائرها؟. وهل لهؤلاء أثر في شيوعها، وتجذرها، وتقلبها في البلاد؟ بحيث ينعكس انطفاؤهم عليها، لقد أحسوا انها سبة الدهر، فخلصوا نجيا، ولم يرحلوا بها معهم إلى ملاذاتهم ومدخلاتهم، بل ظلت كما هي، مع من يملكون قلب المعادلات، والذين فرقتهم أيدي سبأ خرجوا بأقنعة جديدة، وسيظلون يستبدلون قناعاً بآخر، حتى تنفد الأقنعة.
والحداثة بمفهومها الفكري وتصورها الشمولي وانقطاعها المضاعف مع التراث والمتلقي ليست محلية، بل ليست عربية، وريحها العقيم التي هبت على مشاهدنا لم يكن مصدرها من اجوائنا، ولهذا ضوت وخوت، وتوقع البعض انحسارها، بل هبوا لاقتسام الأنفال والغنائم، وإذ تفرق اشياعها في الراهن المحلي فإن ذلك تفرق لا يقلل من أمرها شيئاً. وحين نتقصى إشكاليات الحداثة المشار اليها في مستهل الحديث، نجد أن «المفهومية» إشكالية تطال كل المصطلحات الوافدة، وهي أم المشاكل، ومصدر الإزعاج، ومجال الخلاف والاختلاف، ولو اتفق الجميع على مفهوم المصطلح لحسم الأمر، وقام مقامه الوفاق علي كلمة سواء، ولهذا نجد الوالغين في مستنقعاتها والمدانين بقولهم يدَّعونها، وهم أحق بها وأهلها، كما ان المجددين دونما خطيئة دلالية تقتضيها حداثة الفكر يدَّعونها، وهم ليسوا من اهلها، والذين خبُّوا ووضعوا في مضاميرها، تشبثوا بتعدد المفاهيم، ولاذ بعضهم بمفهوم التجديد، والمتصدون لها، يأخذون «الوالغ» و«المجدد» على حد سواء لانضوائهم تحت مصطلح له مفهومه المنحرف عند المتصدين لها.
والمصطلح حين يتنقل عبر الوهاد والنجاد الفكرية والحضارية تتغير مفاهيمه من محطة الى اخرى، والداخلون فيه، والخارجون منه، او عليه، لا يعطون الوصف الدقيق، فهو في تحول مفهومي مستمر. وقضية «الثبات» و«التحول» مثلما تكون في ممارسة الأداء،تكون في تحديد المؤدى، ولهذا فإننا بحاجة ماسة يفرضها العدل إلى ان نسأل «المتحدثن»» عن حداثته، ما مفهومها عنده؟ وما مقاصدها؟
وعلينا ان نقرأ معطياته الإبداعية، او النقدية، لندينه من فمه، او نصدق دعوى التجديد عنده، ذلك أن الأداء والقول في سلم التقويم الفكري والسلوكي دركات او درجات، ومثلما أن النفاق قسمان:- نفاق عقيدة، ونفاق عمل، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، فإن الحداثة هي الأخرى «حداثة فكر» و «حداثة فن» و«حداثة تجديد» وبين الحداثات مسافات واسعة، لا يعلمها الا قليل، والمراء فيها يؤدي إلى تعميق الخلاف. ومثلما أن «الإسلام» دون «الإيمان»، وقد نُبِهَ الأعرابُ بأن الإيمان لمَّا يدخل في قلوبهم فإنه لا يجوز التغافل عن الدركات حين القول في شأن الحداثة والحداثيين. ولعل القائلين بغياب الحداثة المحلية ينظرون الى انطفاء المصطلح في التداول، دون المفاهيم المتعددة.
ومثلما تختلف «المفاهيم» حول الحداثة تختلف «المجالات». فما مجال الحداثة، أهو اللغة؟ أم الفن؟ أم الفكر؟ أم السلوك؟ أم الحرية الفوضوية؟. إن تحديد المجال الذي تتجسد فيه يحاصر التشتت في المفاهيم، نجد الإبداع عند «أدونيس» له طابعه الحداثي، وهذا يحال إلى الفكر، ونجده عند الروائي «محمد شكري» له طابعه الاخلاقي، وهذا يحال الى السلوك، ونجده عند الشاعر «أنس الحاج» له طابعه اللغوي الانقطاعي وهذا يحال الى الغموض، وإن كانت لبعض هؤلاء شطحات فكرية وسقوط أخلاقي، وهكذا يجلي كل حداثي في أكثر من مجال، ثم تكون له منازعه ونكهته الخاصة، وتجلي التحديث اللغوي والفني عند بعض أولئك لا يشرعن الدلالة والمقاصد.
وتبذبذب المواقف بين الفني والدلالي، وحداثي الأصل والتبعي، يؤدي كل ذلك الى سوء الظن بطائفة من النقاد، حيث اتهموا بالحداثة، وتلبستهم الريبة، لادعائهم إياها في جانبها الفني دون تحفظ او براءة مما يصنع غيرهم، وتلبست الريبة طائفة اخرى اشادت بأساطين الحداثة الفكرية المنحرفة، والتصقت بهم، وخالطتهم، والتفت بعباءاتهم، ولم تعتزلهم حين يخوضون في النيل من ثوابت الأمة.
وإشكالية «المجال» التعدد والتنوع والتباين، فمجال الحداثة «اللغة» بوصفها وعاء الفكر و«الإبداع» بوصفه مجال التجديد والمغايرة و«الأخلاقيات» بوصفها مجال الممارسة و«الفكر» بوصفه مجال الاعتقاد والتصور، و«النقد» بوصفه المنظر والمعذر والمجادل. ثم إن تجليها في «الفن» دون «الدلالة» لا يحمل على التجريم، ولا على التفسيق. فالتجديد في الشكل واللغة والشرط الفني من القضايا التي لا تمس قضايا الفكر والاخلاق. ومن ثم فإنها في بعض المجالات غير مثيرة، لوقوعها في مجال الاختلاف المعتبر. والإشكالية أن طائفة من المتصدين لها لا يفرقون بين المجالات، وفي ذلك ظلم لا يليق. وعند تخطي «المجال» الى «الإقليمية» نجد أن الحداثة تبدت في مشاهدنا الثقافية وتلقفها «عرابات» كثيرون، وتلقفها من هم دون ذلك. فأساطينها من المنظرين والنقاد والمبدعين في الوطن العربي من امثال «أدونيس» و«جابر عصفور» و«الماغوط» و«الصائغ» و«الخال» و«درويش» يدركون أبعادها الفكرية والفنية، ويتصورونا كما لو كانت من عند انفسهم. أما من هم دون ذلك من المتعالقين معها دون وعي، ودون ثقاقة، ودون فهم دقيق، فهم غوغاء لا تؤخذ منهم عينة، ولا ترصد حركتها من خلال سكونهم أو تحركهم. ولهذا تجد طائفة منهم تدعيها في تباه وتطاول، ولا تقول من خلالها، وطائفة أخرى مرت بها، ولم تتلبث بها الا قليلاً، وأوزاع حاولت أن تقلد في الإبداع السردي او الشعري، فلم تفلح، ولأن الجميع في ركابها زوائد وزبد، وليسوا أصولاً ومنافع، فقد تساقطوا كورق الخريف، ثم انسحقوا، وذرتهم الرياح. وأمام هذا الاضمحلال تصور الراصدون المحليون أن الحداثة ذهبت بذهابهم، وما علموا انها قائمة بذهابهم، وستظل قائمة، وإن خبت جذوتها المقتبسة في المشهد المحلي. اما عن «الادعاء» فحدث ولا حرج. وكما أن الحديث عن بني اسرائيل مباح على اطلاقه فإن الحديث عن غثائيات المدعين كذلك، ومدعو الحداثة يحفزهم عشق الأضواء والحضور والإثارة، ولما يدركوا خطورة الانتماء لمذهب فكري منحرف باعتراف أساطينه. ومثلما يغثينا أدعياء الحداثة يغثينا المتصدون لها بدون فهم، ومشهدنا مليء من هذه النوعيات التي لا تتقن إلا شهادة الزور، وتزكية من لا تعرف، والركض في فجاج التيه، والقضية في النهاية كما «الجيش» و«القتام» يعلو الاخف وينحط الاثقل. وما على المراهنين على زوالها إلا أن تعدو عيونهم الى مطارحها في الآفاق، ليروها جذعة قوية، وكيف نقطع بزوالها وشيطانها الذي يؤز قومها من المنظرين إلى يوم الدين.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:29 PM

حقوق الإنسان وتهافت الفارغين!
د. حسن بن فهد الهويمل


كل يوم تطلع فيه الشمس يطلع معها مشروع فكري أو ديني أو سياسي أو اجتماعي، ويطلع معه خليون يتعهدونه بالاشاعة والتأييد والتنطع. والطاعم الكاسي يقعي بفؤاد هواء، يرقب ما يأتي، مما هو بحاجة إليه، ومما ليس بحاجة إليه، فالمستهلك الخاوي عروش الفكر والمعرفة يبحث عن ملء الفراغ، ولو بالفراغ، مثله كمثل الهرة الطوافة بحثاً عن خشاش الأرض. والاشكالية ان المقعين والمقوين يعدون أنفسهم من النخب: الفكرية والدينية والسياسية والأدبية، ممن هم صفوة الصفوة، ومعتصر المختصر. ومع أنني حفي بالمستجدات، حريص على توفر كامل الحريات والحقوق، ومع قطعي بأن المشاهد العربية بكل تنوعاتها بحاجة أمس إلى المؤسسات بكل أنواعها: - الدستورية والشورية والتشريعية والتنفيذية وغيرها فإنني أراهن على أن المجتمع العربي يجتر القيم والمبادئ الغربية كما «اللبان» ولا يبلع إلا ريقه، فحكم الفرد، وتسلط الطائفية والفئوية والحزبية واحتكار السلطة من أدواء المجتمعات النامية، وهي أحوج ما تكون إلى الأدوية الناجعة التي تتحول بها من الفردية إلى المؤسساتية، ومن الأثرة والاستئثار إلى الشورى والمداولات والإيثار، ولما لم أكن سكونياً ولا ماضوياً، ولا مأخوذاً بعقدة الأبوية ولا خائفاً من التجديد، فإنني أمقت الذواقين الفارغين الذين لا يستقرون على قرار، ولا يؤسسون لفكر، ولا ينهضون لتحرير قضاياهم والتأصيل لها، ولا يصبرون على ثوابتهم، ولا يعرفون ضوابط الحرية ولا مستوياتها، وكل فعلهم أن يتلقوا ركبان المستجدات، ليأخذوها بالأحضان، ثم لا يترددون في إراقة مياههم كلما تراءت لهم سرابيات القيعان، وإذا أبديت امتعاضك واستياءك وطلبت التريث والتثبت والأخذ بأحسن ما عند الآخر، قالوا لك:- إنك جمودي مقلد متخوف، لا تريد لهذه الحياة أن تسبح في آفاقها المتاحة. ولو أن أحدنا نظر إلى ما حوله من المذاهب والظواهر والتيارات الحاضر منها والباد، لهالته كثرتها، وراعه تناسخها، وأزعجته الجهود والأموال والأوقات المهدرة في سبيل استقبالها واستدبارها، دونما رشد أو تثبت في الحالين. ولكل أمة وجهة وهاد إليها، ولا تكون الأمة أمة، ولا تستكمل مقومات وجودها إلا إذا كان هداتها على بينة من الأمر، يعرفون الثابت والمتحول، ويردون الاختلاف إلى ما أمروا بالرد إليه، ومتى وجدوا الدليل القطعي الدلالة والثبوت استجابوا لله وللرسول دون أن تكون لهم الخيرة، ومع التسليم والرضى فليس هناك ما يمنع من استقبال فيوض الحضارات والأخذ بأحسنها ولكن بعد وعي عميق للذات وللآخر، وبمعرفة تامة بحاجات الأمة وطاقاتها، وبما يصلح لها من تلك الفيوض. ومرحلة الغثائية، لا تتحقق، ولا يتمكن الأكلة من التداعي عليها إلا إذا فقدت الأمة مقوماتها الحضارية، وسادها جهالها، واتبعت سنن من كان قبلها. والرسول صلى الله عليه وسلم الحريص على أمته حذرها من زمن «الغثائية» و«تداعي الأمم» على قصعة الحضارة و«اتباع سنن الآخرين» و«كثرة الهرج» و«التقاء المسلمين بسيفيهما»، ومن نظر بعين البصر والبصيرة في الفتن واشراط الساعة وعلاماتها التي أجملها الرسول صلى الله عليه وسلم أيقن أنها حاضرة، يديرها القوم فيما بينهم. ومما نعايشه الآن من مستجدات الغرب الضاحك علينا بمئل شدقيه «العولمة» و«الارهاب و«حقوق الانسان» ولما تزل مشاهدنا كمطارح الفتن، تتناثر في أرجائها أشلاء المذاهب والعقائد والأفكار، فيما تنحسر المعارف الانسانية والعلوم التجريبية والحقائق العلمية، لقد نشبت فيما بين الأخ وأخيه والجار وجاره حروب: باردة وساخنة، حول «الماركسية» و«القومية». وما أن أذعن لها المغلوبون على أمرهم: طوعاً أو كرهاً انشقوا على أنفسهم، وأعادوا التنازع جذعة حول المفاهيم والأولويات، حتى لقد وصف المنشقون سلفهم بالردة والتنكر لمبادئ الحزب، وقامت عشرات الثورات البيضاء والحمراء من أجل تلك المفاهيم التي لم تبلغ التراقي. وإذا كنا جميعاً لا ننكر ذلك، ولا يجهل أحد ما خسرته الأمة من رجال وأموال ومثمنات في سبيل هذا التطاحن لزم إعادة النظر فيما هو آت، وهل أحد منا يجهل التبذير المسرف للأموال والجهود والدماء والمقدرات من أجل تكريس مذهب طارئ أو عقيدة زائفة، وما على المتردد إلا أن يقرأ التاريخ الحديث للأمة العربية من ثورة «حسني الزعيم» إلى اليوم، ليعرف كم من كفاءات بشرية ومثمنات: حسية ومعنوية أريقت تحت أقدام المستجدات، فاضت المنافي وامتلأت السجون واكتظت المقابر، وما استقر أحد من هذا العالم النائم المتخلف على نحلة أو مذهب. والأمة التي زين لها سوء عملها لا تعيد قراءة التاريخ، ولا تقّوم الأحداث، ولا تتأمل أحداثها وحوادثها الجسام قبل الاستقبال أو الاستدبار، وحين لا يكون للأمة ذاكرة، ولا مركز معلومات، ولا حكيم يتولى أمر الصدور والورود تظل في حالة من النزيف الدموي الذي يدخل بها مرحلة الغيبوبة ثم الموت الزؤوم.
وإذا كنا فيما مضى لا ندخل في نحلة حتى نفرغ من سالفها، فإننا اليوم نشتغل في أكثر من نحلة، نضع أيماننا في عقيدة، وشمائلنا في أخرى، فيما نستشرف بعيوننا مذهباً مادياً قادماً من بعيد، ونلقي السمع لما عند غيرنا، مما يصلح، ومما لا يصلح، نجمع الأشتات، ونحفل بالنقائض، ونقبل تحقيل أنفسنا للتجارب. ومصدرو المذاهب والعقائد يجرون فينا تجاربهم، مثلما يجري العلماء تجاربهم في مختبراتهم على حيواناتهم الأليفة والمتوحشة. ومصائب الأمة تتضاعف، ومشاكلها تدلهم ومصاعبها تتفاقم، حين تقع الغفلة المعتقة بين نخبها وقادة الفكر فيها. ولو ضربنا المثال بدعوى «حقوق الانسان» وتهافت الأدباء والمفكرين والعلماء والإعلاميين والساسة عليها، لتبدت لنا السذاجة والبلاهة، وتهافتنا يوحي بأن الحديث جديد، وأن «حقوق الانسان» من لدن المشرق أو المغرب، وما كان نور الله الذي يهدي إليه من يشاء من شجرة شرقية ولا غربية، ولم يكن الغرب حفياً بنا، وبما نلاقيه من ظلم ذوي القربى، وكأننا لم نعرف هذا الحق إلا حين أشاعه الغرب في أوساطنا، وكأن إسلامنا خلو من ذلك. ولو كنا نعقل ونفكر ونتدبر لأوقفنا هذه الدعوى خارج مشاهدنا، واستفتينا إسلامنا عما عنده من قيم ومبادئ، تحفظ حقوق الخاصة والعامة: - سياسياً، واجتماعياً وفكرياً، وتحول دون الظلم،وتدعو إلى العدل والاحسان والمساواة، فإذا توفرت المبادئ واكتملت الاجراءات طرحنا مشروعنا وأخذنا بمقتضاياته، وكيف لا نجد في إسلامنا ما يشفي ويكفي، وهو قد حفظ للحيوان حقه، فمنع حبسه، وأدخل النار امرأة حبست هرة، وأدخل الجنة مومساً سقت كلباً، وجعل في كل كبد رطبة أجر، وأمر بإبلاغ المشرك المستجير مأمنه، وجعل إيذاء الذمي كإيذاء أكرم الخلق.
والغرب الذي يدوف لنا سراب الوعود بمعسول الكلام يلهينا بمصطلحات جذابة ك»الحرية» و «الديمقراطية» و«حقوق الانسان» ولو أن قائداً عربياً أخذ بشيء منها أخذ صدق وامتثال، كما هي شائعة عندهم، لحالوا بينه وبين ما يشتهي، ذلك أن ما يقولونه، ويتداولونه لمجرد الدعاية والاستهلاك، وكيف يودون لنا العلم والحرية والاكتفاء، وهم ينظرون إلينا بوصفنا غنيمة باردة، يشترون خيرات البلاد العربية والإسلامية بثمن بخس دراهم، ويعيدونها إليهم بعد تحويلها إلى مستعملات مستهلكة بأغلى الأثمان، يجربون في مشاهدنا وعلى حدودنا وبين فئاتنا سلاحهم وخططهم العسكرية ولعبهم الماكرة، ويخوفون بعضنا من بعض، يحيون فينا أسباب الفرقة، ويعمقون بؤر التوتر، ويجذرون الكراهية، ويساعدون بعضنا على بعض، حتى إذا غرسوا في نفوسنا الشك والخوف والارتياب والعداوة والبغضاء، تنحوا قريباً، وجلسوا جلسة الشامت، ينظرون إلى أثار تآمرهم فينا.
وحين نحفل بمبادئهم المفرغة من محتوياتها، ونقبل بها، فهل تكون احتفاليتنا مرتبطة بما في حضارتنا من قيم وآليات لتنفيذها؟ لهم دينهم ولنا ديننا، ولن يرضوا عنا إلا باتباع ملتهم.
الإسلام له رؤيته الثاقبة في كل شؤون الحياة:{مَّا فّرَّطًنّا فٌي الكٌتّابٌ مٌن شّيًءُ} وقد جاء كتاب الله {تٌبًيّانْا لٌَكٍلٌَ شّيًءُ}.
والحضارة الغربية لها رؤية تناسب حياة ذويها، وتسد حاجاتهم، وتستجيب لمطالبهم، حتى لقد تربوا عليها كحيوانات «السيرك» وما عندهم من حق وعدل ومساواة وعمل جاد وإعداد للقوة المعنوية والحسية يعد ضالتنا، فالأمة الإسلامية مطالبة بالأخذ بأسباب الحضارة المادية. وما لا تقوم الحياة السَّوية إلا به شأن المؤسسات الإسلامية من أنظمة وشروط، وهذا الافتراض مشروع، متى لم يلغ الخصوصية، ولا يحول دون الدخول في الدين كافة.
و«حقوق الإنسان» في الإسلام مكفولة مع «الجلد» و«الرجم» و «القطع» و «القتل» و«الصلب» و«النفي من الأرض» و«قضايا المرأة» و«الانجاب» و«الإسكان» وسائر الظواهر الاجتماعية، أما حقوقه في الحضارة الغربية فإنها تمنع قتل القاتل وقطع يد السارق وجزاء الحرابة ورجم المحصن الزاني وجلد ما سواه والطلاق والإرث. وإذا أخذنا بمفاهيم الغرب تمشياً مع رؤيته لحقوق الانسان خرجنا من ديننا، وإذا أخذنا بمفاهيم الإسلام عطلنا «حقوق الانسان» كما يفهمها الغرب. فكيف نحافظ على ثوابت الدين، ونحق الحق. والغرب الذي يتغنى بالحرية والعدل ماذا فعل بالإنسان العربي، وماذا فعل بالمسلم المستضعف في كل بقاع الأرض وعبر التاريخ الحديث، فأين هو من الإنسان الفلسطيني، والانسان العربي خاصة والانسان المسلم عامة وانسان العالم الثالث، وأين هو من «حقوق الانسان» كما هي عنده؟
أحسب أننا أحوج ما نكون إلى المواجهة الحضارية، مواجهة الحوار وتبادل المصالح، وإلى مساءلة الغرب المتغطرس ليحقق مقتضيات «حقوق الانسان» مع غيره، وعلينا أن نصوغ رؤيتنا لحقوق الانسان من خلال حضارتنا العربية والإسلامية، وأن نقدم مشروعنا، وأن نثبت للغرب أنه أول المتنكرين لحقوق الانسان.
هامش:
* قد نصل الحديث عن حقوق الانسان في الإسلام.
بعد إدكار المراجع.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:30 PM

ثقافة المتن وثقافة الهامش..!!
د. حسن بن فهد الهويمل


وجدت في احدى (الأجندة) المهترئة في جيبي كلمة، نقلتها على عجل ل (ألبرت مكسيكو) تقول: (جئت لهذا الوجود لأختلف معه). ولست أعرف عن هذا المشاغب شيئاً، ولما أزل أبحث عنه في غيابة التاريخ. فمن يعرف عنه شيئاً، فليبلغ أقرب صديق لنا. وكنت أحفظ كلمة قالها الدكاترة (زكي مبارك) عفا الله عنه للدكتور طه حسين الذي دمَّر حياته، وقَدَرَ عليه رزقه عامله الله بما يستحق تقول: (الويل لنا إن لم نختلف). ولست أدري أين قرأتها، فمن يعرف موقعها من كتب (المبارك)، فليشر إليها، فكتبه، وما كُتِبَ عنه في زاوية مغبرة من مكتبتي، التي شغلني عنها وعما يماثلها من جيد القول وعميق المعرفة وسداد الرأي جيلُ الشغب والإثارة، ملأ الله أفواههم علماً وحكمةً، وأفعم قلوبهم هداية وثباتاً على الحق.
ومقولتا (مكسيكو) و(مبارك) سُقتهما فاتحةً للجدل الذي قد يصل إلى حد المراء الباطن لا الظاهر، ومقدمة كما الصدقة بين يدي النجوى، لإطفاء غضب المتحفزين للمناكفات. والذي جر قلمي إلى هذه التهويمات والتحْويمات والمقدمات الإطفائية ما يقال عن (الثقافة) المحلية، أو العربية، أو الإسلامية المتداولة في المشهد العربي والعالمي، واقتراف تقسيمها إلى: ثقافة (متن)، وثقافة (هامش)، وافتراء الكذب بجعل ثقافة الأمة المسلمة ثقافة وَهْمٍ وهامش، دون استثناء أو تحفظ.
والإطلاقات العامة رماية طائشة، تؤذي، وتخيف، وتكشف عن جهل وتسرع وتحامل لا يليق من مجتمع (الرياضة) و(الفن) فضلاً عن مجتمع الفكر والحضارة، والقول دون استثناء إيغال في العموميات وإذكاء للاختلاف، واقتراب من (الخلاف) المورِّث للتنازع والفشل وذهاب الريح. فالكاتب المتمرد على الثوابت والسوائد حين يتولى كِبر التقسيم، لاشك أنه يستأثر بالمتن، جاعلاً ما سواه في الهامش، وهو بعد حدث في رحاب العالم، وإن وهن عظمه، واشتعل رأسه شيباً، وقسمة كتلك تعد قسمة ضيزى. وطبعي أن يأتي مهمَّش آخر لينتزع المتن من مدعيه، قائلاً له: (ليس هذا العش عشك فادرج) ويظل الجميع كعشاق (ليلى):




وكل يدعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا


وهذا على أصح روايات البيت وخبرتي القرائية والعراكية التي ناهزت نصف قرن ولا فخر أثبتت لي أن أقل الناس خبرة، وأقلهم معرفة، واحدثهم سناً اجرؤهم على التطاول والمباهاة، وأحفلهم بالتصنيف والقطعيات والأثرة وبالتألي بالحكم الناجز والحرمان القاطع. وتلك مصائب المشاهد والمواقع والمنابر. والأحداث المتزببون يتعجلون العملقة بصلف القول وفجاجة الرأي. والتصدي لهم أو التعفف والمرور الكريم مركبان أحلاهما مرٌّ، فحين تمر بمثل أولئك وكأنك لم تسمع، ولم يقل، تساعد على إخلاء الثنيات، ليتحكم الجهلة في رقاب الحقائق، والتصدي لهم يرفع رصيد البذاءات، ويجعل الحصيف الآخذ بحجز المتهافتين عرضة للسَّفاهات والتفاهات.
وما لا مراء فيه، ولا اجتهاد معه وجود (المتن) و(الهامش) في أي ثقافة: إسلامية أو غير إسلامية، متى كانت منجزاً بشرياً، يحكمه التفاوت العقلي والمعرفي والتجريبي، ولكن المراء وكل الاجتهاد في تحديد المتن والهامش، فتلك قاصمة الظهر، ومراتع الفتنة. فبعض المنشَّئين في الحلية، وهم ألد الخصام، يرون أن الثقافة الإسلامية بكل ما وسعت من قيم: عقدية وتشريعية وأخلاقية هي الهامش، فيما تأتي ثقافة التمرد والانقطاع والتبعية ثقافة متن، وتلك لعمر الله بلية البلاوي. وإشكالية (الحدية) و(القطعية) عند المتعالمين والمرجفين ومثقفي السماع تكشف عن التسطح والتسرع وقول ما قاله النَّائين بجنوبهم. فحين يتحدث أحدهم عن (التجربة الغربية) أو (التجربة الشرقية) ثم يربط نجاحها بشكل قطعي حصري بالتخلص من (الدين) بواسطة (النقد) الصريح والمواجهة العنيفة.
وحين يأتي آخر، وهو بصدد الدفاع عن (الأدب العامي) ليقول: إن أوربا لم تنهض إلا بعض اهتمامها بلهجاتها، ثم يعقبه ثالث ليقول إن (اللادينية) هي منطلق الحضارة والمدنية، ويتهافت متربيون على القول عن (المرأة) أو (الثقافة) أو (الحرية) أو (الديمقراطية) وكل هؤلاء بمجازفاتهم لا يزيدون أمتهم إلا خبالا، ومع الترديد لمقولات سلفت، ملتها المشاهد، ومجتها الأسماع، يكون لكل هؤلاء القائلين عما ليس لهم به علم ولا لآبائهم أشياع وأتباع، يطيرون بما يسمعونه منهم فرحاً، وكأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من الذكر الحكيم، ومع أن هؤلاء وأولئك كما المتردية والنطيحة إلا أنهم يغثون ويؤذون ويعوِّقون.
وليس لأحد منهم سابقة إلا سابقة المخالفة، وضرب السوائد، والاستفزاز، واجترار المقولات التي مجتها أسماعنا منذ (رفاعة الطهطاوي) و(عصر النهضة) و(قاسم أمين) و(مصطفى عبدالرازق) و(طه حسين) وحتى (أدونيس) و(أبي زيد) و(خليل عبدالكريم)، وهي مقولات جاهزة تشيع الذكر، والمتخلل إليها بلسانه كما البقرة يكون حاضر المشاهد.
والمشاهد الضاوية الأجسام الخاوية المظاهر يحركُ ساكنها من يوردون الأمور ولا يصدرون، وآلاف المفكرين والفلاسفة والكتاب قالوا مثل قولهم، وعشرات القادة غامروا، فقال قائلهم: (لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين) فيما ترى وتسمع من اللاحقين بهم من لا يقولون إلا معاراً أو معاداً من القول المكرور، ومن ثم فإن الجديد عندهم في السياق والربط، ووصف ثقافة الواقع المحلي بالهامش أو الوهم. فما (المتن) وما (الهامش) وما (الوهم) وما (الحقيقة)؟ سؤال حقيق بالطرح، ملزم بالجواب الأدق للتحديد، فمثل هذه الإطلاقات والمفرقعات لا تقال عن مثل هذه القضايا المصيرية.
وحين يربط الكاتب المسلم بالهوية أو العقيدة أو بهما معاً عن جهل أو عن علم وإصرار نجاح أوربا (إزاحة الدين)، وب (حرية النقد)، يكون قوله تحريضاً وإغراءً للجهلة ومرضى القلوب على ممارسة التجربة الغربية مع ثوابت الأمة، من كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن سنة صحيحة، لم ينطقها صاحبها عن الهوى، وهو قول سمعه من كان قبلنا، وليس ببعيد أن يسمعه من سيأتي بعدنا، فالمقوون كالأثرياء المفلسين، يفتشون في أوراقهم القديمة، وما يقال عن فكاك أوربا من هيمنة الكنيسة وانطلاقها نقل تاريخي متداول، ورواية صحيحة لا غبار عليها، فالنهضة الأوربية لم تنجح حتى لملمت ذيول السلطة الكنسية (وطقَّستها) وجعلتها للفارغين والمعوَّقين، والشيوخ والعجزة والعجائز، ولكن الكارثة حين يلح المستدعي للتجربة الأوربية على نقلها، محرضاً أمة الإسلام على (تطقيس) دينهم، ورفع مصحفهم الذي جاء تبياناً لكل شيء.
والواقعة الباقعة أن (المتعلمنين) حين يتفجعون على واقع أمتهم، وهو بالشك واقع مفجع، يمعنون في ارتكاسها، وما منا من أحد إلا وهو متفجع على هذا الواقع، متألم منه، ملتمس الخلاص من وهدته، ولكن الخلاص لن يتحقق بالفرار من الدين، وإنما بالفرار إلى الله جميعاً، وحتى ندخل في الدين كافة، ونتمثله اعتقاداً في الجنان، وقولاً في اللسان، وعملاً بالأركان، محققين مقتضياته في التفكير والتدبير والتوقيت وإعداد القوة، لا أن نفر من ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وعلى هذا فالاختلاف في الحل، وليس في توصيف الواقع الأليم، ذلك أن واقع الأمة الإسلامية لا يطاق، وأم المشاكل في تحديد طريق النجاة، وسؤال المستبدلين سؤال مشروع، فالكاتب حين يخط بقلمه ما يرى، ثم يفضي به إلى الناس، يكون من حقهم التساؤل، فالقول كالغذاء، فالمعدات تلتهم الطعام، والأدمغة تلتهم الأفكار، وكلا الغذاءين مؤثر على المتلقي: آكلاً أو قارئاً، والكارثة أن مثل هذا الغذاء الفكري تضوى به الأفكار.
وما أضاع الأمة إلا اقتلاع التجربة الغربية والأخذ بعصمها، دون وعي لخصوصية كل حضارة وإمكانيات كل أمة. والنفور من المساءلة والمراجعة دليل على ممارسة الوصاية وحسم القضايا المصيرية مع غياب ذوي الشأن، ومن مصائب راهننا أننا حين ننفر لحماية الثغور وإحقاق الحق، يحال نفورنا إلى الجهل والتخلف، ولو تنادينا إلى كلمة سواء، وحررنا قضايانا ومسائلنا، لاستطعنا تخطي العقبات والمعوقات.
للحديث صلة.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:30 PM

ثقافة المتن وثقافة الهامش...!
د/ حسن بن فهد الهويمل


ومشروعية التساؤل عن المرجعية والأحقية للمتداول من القيم والأفكار الطريف منها والتليد قد يضايق البعض، ويرفع نبضه، ويربك حركته، ولربما يقلبها رأساً على عقب، ذلك أن طائفة من المشتغلين بالثوابت، أو المتحدثين عن المسكوت عنه، أو المتسائلين عن هوية السوائد، يتصورون أنهم يقولون كلمة الحق، وأنهم لا يسألون عما يفعلون، وأن المناوىء لهم مغرم بالتجريم والتحريم والإدانة ليس غير، وكأن هذا البعض قد ورث المشهد من أبيه وأمه. وما درى هذا المسكين أن الله لم يمض مع رسوله المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، والذي لا يتقول على الله بعض الأقاويل، في كثير مما تعجل به، أو فعله بوصفه بشراً، حتى لقد راجعه في الدعاء على من لقي الأذية منهم، فقال له:- «ليس لك من الأمر شيء». وهو قد خالفه في أمر الفداء وفي تحريم ما أحل الله له لمرضاة أزواجه، واستدرك عليه مواقفه من الأعمى وممن يدعون ربهم بالغداة والعشي.وهؤلاء الذين يتلقون ركبان الاستغراب، ويسارعون في طمس الهوية والسمة والخصوصية مندمجين مع الآخر الحفي بخصوصيته وسمته وهويته إلى حد:«ولن ترضى عنك..»، هؤلاء لا يحسون بما تركوه من أثر سلبي وإرباك متعمد للمشهد الفكري والثقافي. وبخاصة عندما تكون الآراء فجة، والمتحدثون نقلة لما لا يفهمون، وكثير مما نقرؤه مضى زمنه، وكلحت نضارته وشمطت ملامحه.
وبعض الكتبة يقول الكلمة المخلة بالقيم والخارجة على الضوابط، لا يلقي لها بالاً، تهوي به سبعين خريفاً من عيون العارفين بالمقتضيات والمقاصد، ومع ذلك تعرج به إلى سماوات البهرجة والشهرة الزائفة عند من لا دراية ولا رواية عندهم، وما أصدق الحكيم المجرب حين قال لأحد جلسائه:«تحدث حتى أراك». وأبو حنيفة المتأذي من آلام ركبته، لم يمكنه من مد رجله إلا كلام المظهري الفارغ. وبعض الكتبة تحتدم مشاعرهم، وتتوتر أعصابهم، ويدخلون الحلبة بورقة واحدة، ولو دخلوها بأكثر من ورقة لكانوا أربط جأشاً، وأرحب صدراً. وكلما أوغل الإنسان في المسؤوليات، واستشرف المعارف، وحنكته التجارب، وخبر حلو الحياة ومرها، كان أكثر هدوءاً، وأرحب صدراً، وأقرب إلى التعذير.
وما أضر بالأمة إلا المبتدئون الذين يخطفون كلمة من هنا وكلمة من هناك، ثم يشعلون بهما نار الفتنة، ويربكون المشاهد، وإذا دعوا إلى كلمة سواء لووا رؤوسهم، ولقد يكونون موغلين في الدين بدون رفق، فيحرمون ما أحل الله من زينة أو طيبات، ويحيلون حدتهم وشدتهم إلى سد الذرائع والغيرة على الدين، ومن هؤلاء من نحقر عبادتنا عند عبادتهم، وصلاتنا عند صلاتهم، ولكنهم أحداث يمرقون بتنطعهم في الدين كما يمرق السهم من الرمية، وضياع الدين بين جاهل متنطع ومنافق جلد، فهما بين الإفراط والتفريط، وكيف بنا إذا عشنا حتى نرى متنطعاً يغلو في دينه، ثم ينقلب على عقبيه حاملاً معه جلابيب الدين، بعد أن حولها كما المستغيث، فكان على نقيض تنطعه ورهبانيته، وهو في كلا الحالين نقمة ووبال. وكيف بنا إذا خبّ السفيه ووضع في مراتع الفتن وتنقل بين«الراديكالية» و«الإيغال» في الدين بلا رفق! ثم لم يجد من يأخذ على يده، ويأطره على الحق أطراً.
والمحيل على التجربة الأوروبية، وضاربها مثلاً، ونسيان ما هو أهم مثله كمثل الذي ضرب مثلاً ونسي خلقه وصنيعه لعبة مكشوفة وعملة قديمة متحفية، ومؤشر انهزام داخلي، والمجتر لها كهفي يغدو بورقه إلى ذوي الشأن، ليكشف عن ماضوية تجاوزتها أبجديات العصر. والتجربة المعشوقة ما زالت ليلى المغفلين والساذجين والماكرين والمأجورين.
وأين هم من تجارب أخرى شرقية وجنوبية وشمالية من ذوي الديانات الوضعية المضحكة؟ ومع ذلك لم تحل دياناتهم الوضعية الخرافية بينهم وبين اختراق الآفاق، والاتيان بمثل ما أتت به أوروبا وأمريكا المتعلمنة. لقد طرحت مشاريع كثيرة متناقضة لإقالة عثرة الأمة العربية، ولم يكن من بينها العودة إلى ما كان عليه محمد وأصحابه، وكل تجربة مضرة تبدىء وتعيد مقولة« عزل الدين عن الدولة» أو «عزل الحياة المتحفيين تذكر «غاندي» و«نهرو» و«أنديرا» فكيف بمن هم على المحجة البيضاء، واليهود المتعصبون ليهوديتهم وللغتهم استطاعوا تحقيق متطلبات الحياة الدنيا، وبحبل من الذين كفروا أقاموا دولة دينية تعتمد المؤسسات والديمقراطية، وما أحد منهم شكك في أثر الدين اليهودي المحرف على المعاصرة. وعلى ضوء ذلك فإنه لا يمكن ربط التخلف بالعقيدة، والقرآن الكريم قد أشار إلى ذلك«يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا»، وحين يتفوق الأوروبيون مدنياً فإنهم مخفقون حضارياً، وليس لهم في الآخرة من خلاق، وحين يتفوق الإسلاميون مدنياً يتفوقون حضارياً، ويرجون من الله مالا يرجوه غيرهم.
إن «ثقافة المتن» و«ثقافة الهامش» و«ثقافة الوهم» تكون عند العلماني وعند الإسلامي، متى لم يحسن أحدهما التعامل مع المستجدات، ومتى لم يحسن الإسلامي تمثل المقتضيات والمقاصد الإسلامية، ومتى غاب الإسلام ممارسة، وحضر ادعاء، والأمة الإسلامية تمر بوضع حرج وتحديات لاقبل لها باحتمالها، وجبهتها الفكرية حين يكون أفرادها كما بني إسرائيل وبقرتهم يدب في أوصالها الداء، ويصيبها الوهن والحزن، ولا تحقق العلو الذي أراده الله لها، وإذا كانت مثخنة الجراح من سهام العلمانيين والحداثيين والذوّاقين وأنصاف المتعلمين فإنها ضاوية الجسم خائرة العزيمة من طوائف الإسلاميين الذين يظنون أن المواجهة القولية والفعلية هي الحل، دون تربية وتصفية وفهم وعمل، وعزاؤها وعد الله بالنصر لمن نصره، والبقاء للطائفة المنصورة، والمبعوث المجدد على رأس كل قرن.
إن ما نريده من السائمين في مزابل الغرب المجترين لمقولات تكشف عوارها أن يجربوا الاستبداد ولو لمرة واحدة، وأن يحاولوا طرح مشروع إسلامي حضاري، يحترم العلم والمدنية وإنسانية الإنسان، ويقدس النظام والحرية والوفاء بالعهود، مما يجعل العدو كأنه ولي رحيم، فهل نظفر بهذا النوع من المفكرين؟ أحسب أن الوقت مواتٍ، والظروف مناسبة، ولم يبق إلا صياغة الخطاب الحضاري.؟

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:31 PM

على هامش المجتمع والتربويين..
قلت: اطبخوا لي جبةً وقميصاً..!
د.حسن بن فهد الهويمل


لو دعيت إلى التظاهرة التربوية الكبرى، لتحديد المراد المتبادل بين ثنائية: (المجتمع) و(التربويين) لكان في فمي ماء، وكيف ينطق من في فيه ماء!. أما وقد كفيت عناء المجادلة والمجاهدة، أو المجاملة والمداهنة، فقد وجدتها مناسبة (لأرسلها العراك) على حدِّ قول (لبيد) ورأي (سيبويه). ونحن في غمرة التلاحي أحوج إلى التوفيق منه إلى التحريش. وما من أحد منا تختلط عنده الرؤى والمفاهيم، إلا ويكون قوله (ضغثاً على إبَّاله). فالوزارة الأخطبوطية المنتشرة كالضباب مجلّلةً الوهاد والنجاد، لا تطلب المزيد من العناء، ولا رد اللفحات، وإنما تعطو إلى نسمات اللطف. ومن الحقائق الغائبة في ضجة الجدل أن (التعليم) يكون صناعة، ويكون فريضة وعبادة. والدهماء من الناس لاتفرق بين المهمتين، مشكّلةً بلحمها وعظمها عقبة في طريق التحرف السليم، وما لا مراء فيه ان لكل مطلب مرجعيته ومشروعيته، فصناعة الإنسان للإنتاج تتطلب العصرنة، وصناعته للعبادة تتطلب الترثنة. وفوق ذلك فالتعليم شطر التربية، كما (الحياء شطر الإيمان)، ومن جعله الكل في الكل، ونسي البيت والسوق والمسجد وضخ القنوات وتدفق مراكز المعلومات، وما تحمله وسائل الاتصال، وما يختصره ويزويه عصر القرية الكونية، وما تفاجئ به التحولات الحضارية والمدنية فقد حمّل التعليم ورجالاته مالا يحتملون، وغفل عن تلك المؤثرات التي تطال التفكير والتدبير والقيم والمفاهيم والمواقف. ومع هذا وذاك فإن التعليم شبكة معقدة من المشاكل والإشكاليات، لا تحسم بذهاب مسؤول ومجيء آخر، ولا تقلّص بنزع غلاف من مقرر ووضع آخر، ولا تحل بتغيير مسمى المفتش بالموجه ولا المراقب المرشد، ولا تنقض مشاكله عروة عروة بابتداء لقاء وانتهاء آخر، ولكنها تكون بتلك وبأشياء غائبة. ومن توقع أن أحداً من المشرعين أو المنفذين يمكن أن يأتي متوكئاً على عصا موسى، أو أن أمره بين (الكاف) و(النون) فقد وقع في أضغاث لأحلام، وفوت على قومه فرصاً لا تعوض.
وعلى المشرِّعين والمخططين ومن دونهم من المنفذين ومن حولهم من المتابعين: الراضين أو الساخطين معرفة ذلك تمام المعرفة، لمواجهة مجمل التساؤلات والإشكاليات مواجهة حضارية. وحين تُخْلط الأوراق، ثم لايفرق المتعقبون للعملية التعليمية بين (التعليم الدنيوي) القائم على التدريب المهني والتأهيل المعرفي والتعليم التجريبي، لإعداد القوة المادية من أطباء ومهندسين وعلماء تجريبيين وإداريين وفنيين وحرفيين ومحاربين، و(التعليم الشرعي) للتفقه في الدين، وإعداد القوة المعنوية من فقهاء ومحدثين ومفسرين ومتكلمين وناهضين بمسؤوليات القضاء والدعوة والحسبة يستفحل فيما بينهم التنازع والتنابز والهمز واللمز، الذي قد يبلغ أحطَّ دركاته. والسرعان من الناس من يخلطون بين: الديني والدنيوي، ولايفرقون بين طلب العلم الفريضة وطلبه الاختياري، ومثل هذا التشابه يهيئ الأجواء لتناسل الارتياب والاتهام، وقتل السمعة. ولو أن المتجادلين فرقوا بين الثابت والمتحول، وعالجوا الأمور وفق أهدافها وغاياتها، وفي إطار مجالاتها، وعلى ضوء الإمكانات المتاحة، لهدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد.
والدولة حين ترتبط بالشريعة: وجوداً وعدماً، وتصدر منها، فيما تأتي وتذر، وتخضع لها حاكمية، يكون إقدامها وإحجامها حساسين، وتحرفها مثيراً للمساءلة والتحفظ، ويكون الإشفاق من أي محاولة للتغيير، مهما كانت المبررات والحيثيات. فالزمن الرديء لايبشر بخير، والأوضاع المتردية عن يمين وشمال تخيف المخيفين، وما من أحد إلا وفي أعماقه عقدة التآمر والمكر، لكثرة تعرضه لها وقوعه في حبائلها، فالأعداء المتربصون وممن حولنا من المداهنين، يأتون السوائد والثوابت ينقصونها من أطرافها، ويمهدون لذلك بما يشيعونه عن البلاد وأهلها وتعليمها من قالة السوء. ولقد تناولت أطرافاً من هذه الشائعات بمقالين عن: - (صناعة الإرهاب بين المناهج الدراسية واللعب السياسية) (الجزيرة 21423/2/4 و1/3/1423هـ). وفي ظل هذه الأجواء المتوترة لا يكون تفكير في التغيير إلا ويكون إلى جانبه تفكير في الاعتراض. وجميل أن يكون تفكير وتساؤل واعتراض حصيف، ولكن الأقبح أن يحال التغيير إلى سوء النوايا، أو أن يربط بالحملات الإعلامية الغربية، فينشأ تردد معيق وارتياب مخيف. وعندما نبيح لأنفسنا التشكيك بالعمل والعامل نعطل المسيرة ونظن بأنفسنا ظن السوء، ونتيح للمشاكل أن تتراكم، كما الظلمات التي بعضها فوق بعض. والمعترض على أي إجراء: إما أن يكون ناصحا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإما أن يكون نقيض ذلك أو دونه، على غرار: - (فمن كانت هجرته). وعلى شاكلة المقاتل الذي يكون قتاله لإعلاء كلمة الله، أو يكون حمية أو شجاعة. ولما كان أمر الدنيا على الظواهر، وأمر الآخرة على البواطن، كان من واجبنا ألا نتعمد شق الصدور.
والأمر لاينتهي عند حسن النية أو عند سوئها، ولا عند التبين والعلم، وإنما يتجاوز ذلك إلى أمور أخرى، تتعلق بأسلوب الممارسة وظروفها، وحجم التطلع وإمكاناته. ثم إن المعترض يكون ناصحا وصادقا، ومع ذلك يكون عرضة للجهل أو للتسرع أو لخطأ التقدير أو التوقيت، وقد لايتوفر في مواجهته على ما يحب الله من الحلم والأناة، وقد يكون متأثراً بالشائعات، غير منصاع للتثبت، رابطاً بين ما يثار من اتهام، وما يشاع من ريبة، وعند هذا لايكون نصحه وصدقه منجيين، والنصح الصادق لابد له من الدراية الواعية والتثبت الدقيق، وشيء من فقه الواقع، ومعرفة الأحوال والمتغيرات والأجواء والإمكانات، وحسن النية وإحسان الظن، والتماس العذر لمن لم يحالفه الحظ. فنحن أحوج ما نكون إلى الأجواء الملائمة للمحو والإثبات. وليس من شك أن العلم الدقيق بالملابسات أولى بشائر التسديد والتوفيق، والعلم شرط القول والعمل، فالسبيل الدعوي الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلانه، ربطه الله ب (البصيرة) وهي العلم.
والبصيرة ليست فقط في إتقان ما يقال، ذلك أن الإنسان يكون حافظاً لكتاب الله، مقيماً لحروفه وحدوده، مستوعباً للحكمة: قولاً وعملاً وإقراراً، ولكنه غير فقيه، سواء أكان الفقه: فقه أحكام أو فقه أحوال و(رب مُبلّغ أوْعى من سامع). إذاً نحن أمام شرط أساسي في مواجهة المتغيرات المصيرية، وهذا الشرط تجمله (البصيرة). ولكل حقل معرفي بصيرته، فالسياسي له بصيرته السياسية، ولكل من الاقتصادي والتربوي والأديب والمفكر والفيلسوف ورجل الأعمال بصائرهم. و(البصيرة) لا تكون على المحجة البيضاء حتى يخالطها الصدق والإخلاص والاستبراء للدين والعرض. فكم من عالم نحرير أضله فساد الفكر أو انحراف المعتقد أو سوء الظن بالمسلمين، أو الهوى المتأله. وبصيرة العصر تختلف عن بصائر ما سلف، ذلك أن النوازل تعقد الأمور. كما أن تعدد الاحتمالات، والتماكر، والمخادعة، وبراعة اللاعبين، ولطائف اللعب أمور يشيب من هولها الوليد. وإذ يكون المتابعون للعمليات المصيرية رواداً فإن السمة اللازمة للرائد ألاَّ يكذب أهله، ولعلي فيما أقول حفي بأوضاع القائلين بشأن التعليم لا بالتعليم ومتطلباته، فالشنشنات تكاد تعرِّف بنفسها، ووميض النار من خلل الرماد يكاد يكون ضراما، ومتى سدد الله على طريق الحق أطراف العملية، أخذ التعليم طريقه القاصد، وذلك ما كنا نتطلع إليه. ولما كانت الأمم العظيمة محفوفة بتربية عظيمة، لزم أن تكون الأمم الضعيفة متعثرة بتربية ضعيفة، وعلينا وعي أنفسنا، ومعرفة من نكون، وماذا يجب أن نكون.
والدولة حين يأتمن الله مسؤوليها على مصالح المسلمين وأموالهم وأعراضهم ودمائهم وأفكارهم وأخلاقهم، يكون عليها واجب، ولها حق. فواجبها التفاني والنصح، وحقها السمع والطاعة والمناصحة. وليس أضر على الأمة من الخيفة المتبادلة. فالدولة حين تخشى الرأي العام وتداريه، والكافة حين تخاف الدولة وتلوذ بالصمت، تقوم الريبة، ويستفحل الخوف. ومتى قامت الريبة بين المتعاقدين صُرفت كل الجهود تلقاء حماية الذات، ووجهت كل الأفكار للتحايل، وتمرير المراد بوسائط غير مشروعة. وجهل العلاقة الشرعية بين طرفي العقد، يؤدي إلى قيام أنماط من العلاقات غير السوية. وما علينا من بأس حين نواجه أقدارنا بشجاعة، ونعرف كيف نتصرف في ظلها، فالتكتم كالداء الدفين، يستشري في الأبدان، وتضوى به الأجسام، ك (احتمال الأذى ورؤية جانية). ولسنا بدعاً في مجمل السياقات التاريخية والسياسية والدينية والإقليمية، فكل فترة لها مشاكلها، والحازم من يقدر على تكييف نفسه مع ظروفه، ويجتهد في التغلب عليها، ومن قال: -بأن الأمور سمن على عسل، وأنها على خير ما يرام، فقد أضلّ بالتصديق ولم يهد بالصدق. وإذ نتفق على أن هناك خللاً في التربية، يكون لزاماً علينا تداركه، سواء مايتعلق منه بالمهارات أو بالتعاملات أو بالأخلاقيات، وإذا كان لكل زمان دولة ورجال، فإن لكل زمان تربية وتعليماً.
والدولة المعاصرة مهيمنة، وممسكة بكل المصائر، كما رب الأسرة، وإن كانت (العولمة) وراء تحجيم دورها وخصخصة مجالاتها، وعزلها عن كثير من مهماتها. وهيمنتها تتطلب منها ملاحقة المستجدات والشفافية والمصارحة، إذ لا مكان للخائف المترقب ولا للمداري المتردد. وحين يكون الطرفان: -الحاكم والمحكوم في سفينة واحدة - وهم كذلك- فإن عليهما توخي السلامة، لأن أي خلل يعترض السفينة يمس الكبير والصغير. وقد ضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناصح لأمته المثل بالقوم المستهمين على المواقع داخل السفينة، مبدياً أهمية الأخذ على الأيدي المضرة بتصرفها لنجاة الجميع، وكان حقاً على المقتدرين استصحاب هذا المثل الحي، ومعرفة حدود (الحق) و(الحرية): حق طرفي العقد وحرية التصرف واحترام النظام. وطريق الحفاظ على سلامة السفينة لا يكون بالضرورة طريقاً لتبادل الاتهامات والإسقاطات. والاختلاف في وجهات النظر لاينزع الأهلية، ولايدعو إلى الإخلال بمقتضيات العقد الاجتماعي، وكم نرى ونسمع من بعض المؤتمرين أو المنتدين أو القنواتيين أو الكاتبين إطلاقات في النقد وتعميمات في الاتهام. وكيف يمكن القبول بهذه التعميمات وكافة المسؤولين قد مروا بمراحل التعليم، وتسنموا بموجبها مختلف المناصب، وقبلتهم أرقى الجامعات العلمية في كل أنحاء العالم، حتى لقد روى لي أحد العاملين في إحدى ملحقياتنا في الغرب اطمئنان الجامعات (الكندية) إلى حملة الشهادات الطبية من جامعاتنا. وما على المرتابين إلا أن يجيلوا أنظارهم في جامعاتنا ومستشفياتنا وسائر المواقع العلمية والعملية: التشريعية والتنفيذية ليروا أبناءنا من حملة الشهادات الجامعية. فهل تكفلت جامعات العالم ومدارسه بتعليمنا؟
نقول هذا، ونحن على يقين من قيام الحاجة الماسة والملحة إلى النظر الشامل إلى مناهجنا، وتلافي ماينقصها، وعلينا قبل البدء في النقد تحديد مواطن الضعف ومصادر الخلل، وإرشاد المسؤول إليها، وحمله على مباشرة التصحيح، دون أن نشيع الخطأ، أو أن نضخمة، أو أن نمعن في السخرية والتيئيس، أو أن نركن إلى الإطلاقات والتعميمات، ودون أن تأخذ المسؤول العزة بالإثم، إذ لانريد أن نكون ك (غزية) وشاعرها الذي أبان لها النصح، فلم تستبنه إلا في ضحى الغد

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:32 PM

على هامش المجتمع والتربويين..
قلت: اطبخوا لي جبةً وقميصاً..! «2 - 2 »
د. حسن بن فهد الهويمل


ومما لا نماري فيه ظاهراً ولا باطناً حاجتنا إلى مواكبة التحولات السريعة في ميادين العلم التجريبي، وسائر المعطيات الإنسانية. ولن يتأتى التوفر على المعرفة بظاهر الحياة الدنيا إلا إذا عرفنا ما نحن بحاجة إليه، وعرفنا كيف نحافظ على الخصوصية الحضارية مع تحقيق المتطلبات المدنية. ولا مراء في أن المعادلة الصعبة تتمثل في حفظ التوازن بين مقتضيات النقل وسبحات العقل. ولقد نجمت الإشكالية بينهما في وقت مبكر، واستطاع «ابن تيمية» حسمها في درء التعارض بين المنقول والمعقول. ولما كانا يلتقيان على وجوب إعداد القوة بكل أشكالها، لزم أن يكون من أوجب واجبات التربية صناعة الإنسان، فهو القوة والثروة.
وإن كان ثمة إشكاليات قائمة بين أهم المصادر المعرفية: العقل والنقل، فإن مردها خلل المنهج وضعف الآلة، وإلا فخالق العقل هو موحي النص، ولن يكون بينهما تعارض ذاتي، وحينئذ يكون علينا توخي الطريق القاصد للجمع بينهما، بوصفهما مصدرين هامين لبناء المعرفة، وتشكيل النسق الثقافي، وصناعة الإنسان المعاصر. والعملية التعليمية من أخطر العمليات وأهمها. وحين سبق الشرقيون إلى غزو الفضاء، لم يكن بد من مساءلة الغربيين لتعليمهم، وإناطة المسؤولية به. والأمة الإسلامية فيما هي عليه من ضعف وتخلف وتفكك بحاجة ماسة إلى مساءلة ملحة لتعليمها قوامها نشدان الحق الذي هو ضالتها، ومن يتهيب الرأي العام، ثم لا يواجهه بالحقائق، تقعد به حساباته الاحترازية.
وإذا كنا على يقين بأن الدولة تنفق ربع ميزانيتها على التعليم، فإننا على يقين مماثل بأن التعليم لا يواكب التنمية، ولا يستجيب للحاجة بالقدر المطلوب، ولا يصنع الإنسان، ولا يوازن بين حق «المدنية» و «الحضارة» ولا يوفي كلاً منهما حقه، وهل أحد ينكر أهمية التعليم في توفير الثروة الحقيقية للأمة؟ وهل عاقل يقدِّم على صناعة الإنسان أي صناعة؟ فالثروة الحقيقية ليست في كنوز الأرض، وإنما هي في مكتنزات الأدمغة، وبراعة الأنامل، وقوة السواعد، ولا يتحقق شيء من ذلك إلا بتوفر المعارف والعلوم والتقنيات التي سبيلها التعليم التجريبي.
وفي المقابل فإن من الإسراف في النقد أن نحيل إلى التعليم كل مظاهر التخلف، ونجعله السبب الرئيس في تكريسها، وقد لا يقتصر الناقمون على ما يخصه، مما هو مرتبط به ارتباطاً مباشراً، وإنما تمتد رؤيتهم إلى جوانب المعاملات والتصورات والمواقف والمهارات والأخلاقيات. ومثل هذا التوسع في التحميل الجائر، يتيح الفرصة لمعوقات بادية للعيان، كي تلعب دوراً بارزاً في تكريس التردد والارتباك. وحين لا نتردد في تحميل العملية التعليمية جانباً من المسؤولية فإننا أحوج ما نكون إلى العدل بين المعوقات، وعلينا أن نستصحب السياقات والأنساق، والضعف وقلة الحيلة وهوان الأمة، والتدافع وتداول الأيام بين الناس. والذين يمعنون في مؤاخذة التعليم وحده، ثم لا ينظرون إلى المناخات القائمة، يعطلون دور متابعتهم، فالتعليم كالنوابت التي تسقى بماء واحد، ولكنها تختلف جودة وغزارة لاختلاف المناخات والمتابعات، وليس أضر على التعليم من الأجواء السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية غير الملائمة.
وحين يتقن أطراف العقد سواء كان: سياسياً أو تعليمياً أو غيرهما بنود عقدهم، ويجتهد كل طرف في مجاله، تعمر القلوب بالمحبة، ويسود الوئام، وتقوم الثقة مقام الشك و الارتياب. وليس شرطاً اقتصار الأطراف المتنازعة على المؤسسة السياسية وما يليها، إذ كل شخصية: اعتبارية أو ذاتية تبادل شخصية أخرى الفعل باتفاق مسبق، يقوم بينهما عقد يتفاوت في الأهمية والخطورة. فوزارة المعارف أو الصحة أو العدل أو المواصلات لكل واحدة موقعها في سلم الأهمية، وإنسانها يكتسب ذات الأهمية، ولك أن تنظر لما دون ذلك حتى الحارس الأمي ولما فوق ذلك حتى الخليفة الصادق، على حد «كلكم راعٍ و كلكم مسؤول عن رعيته».
وحين نخطئ السبيل القاصد، وتأخذنا بنيات الطريق، نحيل ما يكون من الإخفاقات المتوقعة وغير المتوقعة إلى النوايا والأثرة، حتى تفيض أوعيتنا بالحزازات والعداوات. ومع الزمن تتضاءل القضايا وتتضخم الشخصيات، ثم لا يكون في الساحة إلا غاضب ومغضوب عليه.
والإشكالية عند الاختلاف تتمثل في الخلط بين خطأ الاجتهاد وخطيئة الإصرار، وبالتالي تستشري مفاهيم: التآمر والعمالة، وتتضخم عقدة الشك والارتياب. ولو قامت بين المختلفين ضوابط الاختلاف المعتبر، وأحسن كل طرف ظنه بالآخر، وعد ما هو حاصل من تقصير من باب خطأ الاجتهاد، وما سيحصل من تحرف لتدارك التقصير من باب النُّصح، لعمرت البلاد واطمأن العباد. والكتبة عبر وسائل الإعلام، والمتحدثون في المنتديات أو في المجالس، والناقمون عبر المواقع لا يحررون مسائلهم، ولا يحددون مجال نقدهم، ولا يعِفُّون عن النيل من الكفاءات، ولا يبادرون بالحلول الممكنة: الناجزة أو المرحلية، ولا يقتصرون فيما يكتبون وفيما يقولون على القضايا المعينة المحددة بأوصافها وأسبابها، وإنما يعمدون إلى الاطلاقات والتعميمات واستدعاء الشخصيات، وذلك بعض ما يعانيه العاملون في مختلف الحقول، ولا شك أن العواطف والانفعالات تجتال الأكثرين من المتعقبين لخطأ التقصير أو لخطأ الاجتهاد، بحيث يفقد تداولهم جانباً من أهميته وأهليته، فكل من سُئل عن «مناهج التعليم» على سبيل المثال لا الحصر أو تحدث عنها، أوسعها ذمّاً، ونال منها دون اقتصاد، ودون تحديد، وسلبها أبسط منجزاتها، وإذا فكر المسؤول بالاستجابة ثارت ثائرة الشكوك والاتهامات، حتى لقد كدنا نقع تحت طائلة «احفظ ولا تصلح». وحين لا نجد غضاضة من القول فيما ينقص المناهج، نجد كل الغضاضة في الإطلاقات غير المسؤولة. فالدولة التي تنفق عشرات المليارات، وتستقبل الملايين من الطلبة والطالبات في مختلف المستويات من الحضانة والروضة إلى الماجستير والدكتوراه لا يمكن أن تصر على الحنث العظيم، بحيث لا تفكر في التطوير والإصلاح، وملاحقة المستجدات، وحين تفكر في التغيير لا يمكن أن تصادم الثوابت.
ووزارة بلغت أشدها، وبلغت خمسين عاماً، تقع في التقصير، ولكنها لا تقع في الخطيئة والجهل. وحين يبدو الضعف في مخرجات التعليم، وتسوء الأخلاق في أوساط الناشئة، أو يفوق العرض الطلب، أو يكون هناك غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع، أو حين تضيق المقاعد الدراسية بأهلها، يكون هناك: خلل مخل، ولكن ذلك لا يستدعي الإدانة وحدها، ولا الإطلاقات الطائشة، وإنما يستدعي تقصي المعوقات، والتحرف الصادق للمواجهة الشجاعة. والوزارة إذ تفعل ما في وسعها لمواجهة الترديات، تكون بحاجة ماسة إلى من يتعقبها بالحكمة والموعظة الحسنة، والنقد الهادئ المشفوع بحسن النية والتفاؤل. والويل لأمة يستبد مسؤولوها، ويغفل نخبها، وكل الويل لأمة يستحر الشجار بين مسؤوليها ونخبها، ثم لا يكون إلا تبادل الاتهامات وتزكية الأنفس.
وكم كان حسناً لو أن الناقمين على «المناهج» وبخاصة في زمن تتواكب فيه الاتهامات من الخارج المعادي ومن الداخل المرتبك، أخذوها بمتابعة دقيقة وتقويم موضوعي، ووضعوا أيديهم على مكامن الضعف ومفاصل المشكلة، وطافوا حقول التربية والتعليم العالمي ليقطفوا من كل حقل زهرة، مشكلين «فسيفساء» أخاذة و«سمفونية» ممتعة، ولما لم يكن أحد منا ببعيد عن الممارسة التعليمية. فالمناهج والمقررات بين أيدي الطلبة والطالبات، وكل كاتب له أبناء وبنات يدرسون، كان على الناقمين التخلص من العموميات والرشق العشوائي، والتحديد بالصفحة والسطر أهم المآخذ، وشفعها بالبدائل، وبخاصة في المواد «الدينية» و«العربية» و«الاجتماعية». غير أنا لم نبرح جلد الذات، ولم نتجاوز التهكم والسخرية والنيل المباشر من رجال هم من أبناء جلدتنا، أحسبهم يحترقون من أجل النجاح، ولا أزكي على الله أحداً.
ولما كانت العملية التربوية تركيبة عجيبة يتنازعها: البيت والسوق والمسجد والمدرسة والاتصالات والقنوات و مراكز المعلومات، ولما كانت المدرسة: مقراً ومكتبة ومختبراً وصالة وساحة ومقصفاً وأستاذاً وكتاباً ومنهجاً ومادة ووسائل وأسلوب أداء، كان على المتعاطين مع القضية التعليمية والتربوية تحديد واطن الخلل. وما لا مراء فيه أن التعليم في بلادي بحاجة ماسة إلى النظر في كل مفرداته، وبحاجة ماسة إلى التعديل والتبديل في كل مرحلة من مراحله، وفي كل لحظة من لحظاته، في متطلباته المدنية المحملة على التعليم، وفي مقتضياته الحضارية المحملة على التربية، وأطرافه بحاجة إلى تبادل الثقة، وإشاعة الطمأنينة، والشجاعة في مواجهة الأقدار. والأسئلة الملحة: كيف نحدد الحاجة؟وكيف نحدد المنهج؟ وكيف نقدر وننوع، ونستجيب لمتطلبات العصر؟ وكيف نرسم الطريقة المثلى؟ وكيف نعد المدرس؟ وكيف نهيىء الأجواء الملائمة: زماناً ومكاناً؟ وما النوع المعرفي المطلوب؟ وما القدر المعرفي الكافي؟ وما المهارات؟ وما التخصصات؟ وما حاجة المجتمع؟ وفوق كل ذلك: ما الامكانيات التي يجب أن نتحرك على ضوئها؟ وهل نمارس «التكتيك» أو «الاستراتيجية»؟.
إن علينا أن ندع أطراف القضية يتبادلون الخيارات، والمسألة في النهاية: عرض وطلب، ولكل واحد منا نصيبه من تلك الثنائية المعقدة، حتى لكأن أحدنا ذلك المسكين المتذمر من أسماله المنفجر أمام عروض ليس بحاجة إليها:




قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه
قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً


المسألة في النهاية فيما أحتاج، لا فيما أنت قادر على إنجازه، نريد تعليماً يغنينا عن «سبعة ملايين وافد»، يستنزفون أكثر «من خمسين ملياراً» من ثروة الأمة، تعليماً لا يترك مواطنا عاطلاً، ولا مكاناً شاغراً، لا يغرق سوق العمل بما لا يحتاج، تعليماً يربي الناشئة على تمثل القيم وإظهار الدين. فهل نملك القدرة والشجاعة على مواجهة الحقائق؟ وحين تحاصرنا التطلعات، وتكبِّلنا الإمكانيات، يجب أن نتصرف بحكمة ورويّة، بحيث لا نفوّت الفرص بعنجهية: نكون أو لا نكون. إننا أمام خمسين في المئة من المقرات المستأجرة، وتحت طائلة ستمائة مليار من الديون، وعشرات الآلاف من التخصصات النظرية غير التربوية، وأمام حمل بعير من المقررات التي يغني عنها حمل طفل، وأمام احتقانات عاطفية يكاد المرء معها يشك في نفسه.
والنقد حين لا تحدد موارده، وحين يتخذ سمة الاستخفاف والإحباط والتيئيس والإطلاقات العامة والتطلعات الباذخة، لا يقيم له المسؤول وزناً، ومع تكرره على الألسن، وقرعه للأسماع، تألفه الآذان، وتثبت معه الأفئدة، ثم لا يكون مثيراً، فمثله كمثل الأدوية التي تُتَناول بدون وصف أو تحديد.
إن علينا في خِضَمِّ اللَّغط حول العملية التعليمية أن نعي الفرق بين: تعليم الفريضة على كل مسلم، وتعليم التأهيل الكفائي. وكيف لا نعي مثل ذلك، والذكر الحكيم ندب إليه بقوله تعالى:{فّلّوًلا نّفّرّ مٌن كٍلٌَ فٌرًقّةُ مٌَنًهٍمً طّائٌفّةِ لٌَيّتّفّقَّهٍوا فٌي الدٌَينٌ} ولم يقل: فلولا نفرت كل الأمة، وعلينا قبل هذا وبعد هذا أن نتخذ من التعليم ما يظهر الدين، ويفعّل قيمه على حد: «الدين المعاملة».
فالسمة العامة شيء، والتخصص الدقيق شيء آخر، وأَسْلَمَةُ المناهج وهي مُؤَسْلَمَةٌ بلا شك تحقق السمة، والحاجة تحقق التخصص. والأذكياء من يتقنون التركيبة الأدق والأعقد، ويرتدون إلى الداخل، ويمارسون صمت المتأمل، وقضاء الحوائج بالكتمان، نريد كوكبة من الخبراء والمجربين الذين لا يُرى إلا أثرهم بادياً في الأنفس وفي الآفاق. وبعد تفاقم الأزمات، وتعدد الاتجاهات، واعتزام المسؤولين على خوض معركة التغيير الجذري، لا بد من التحرف الحصيف لتحقيق مادة مناسبة وأسلوب سليم، وأجواء ملائمة. وعلينا أن نحاصر الشائعات، وأن نبني الثقة المتبادلة، وألا نستغل الظروف المشحونة بالتوتر لبناء الشخصيات الزائفة، إن الزمن رهيب والمستقبل عصيب. والعالم من حولنا يركض في دروب المدنية، ونحن بين: مرتاب خائف، ومتهم غاضب، وقضية كاد يضيع دمها بين الفريقين.إن مهمة التربية والتعليم صناعة الإنسان لمواجهة الحياة، فما الحياة القائمة؟ وما الذي نحن بحاجة إليه لمواجهتها؟ تلك هي الحلقة المفقودة في جدل «المجتمع» و«التربية» لقد أخطأنا في الصناعة والزراعة والتجارة، والمعنيون ماضون في تلافي الخطأ، ولا شك أننا نمارس الكثير من الأخطاء في صناعة الإنسان، وليس لدينا ما يمنع من تلافي الخطأ، فلنكن في مستوى عصرنا ومسؤوليتنا، وإذا عزمنا فلنتوكل على الله، صارفين النظر عما يشاع من أقاويل لن يزيدنا السماع إليها إلا خبالاً. ومراد المجتمع لن يتحقق إلا بتحرف جذري، يأخذ العملية التعليمية من جذورها بثقة وشجاعة واطمئنان، إن علينا ألا تضيع الفرصة بين ناقد لا يفهم ومسؤول لا يستبد، وإمكانيات لا تفي بالمتطلبات.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:32 PM

ويلي عليك وويلي منك يا عرب!!
د. حسن بن فهد الهويمل


كنت - ولما أزل - مشغولاً بتقصي الخطابات والتصريحات المتلاحقة اللاهثة وراء بعضها، ومتابعة الرحلات المكوكية واستباق الزمن بما يذرعه أو يُفيض به إلى آفاق المعمورة أخطر ناطق بالوعد والوعيد وما يتبعه من مؤسسات ومن رجالات، لم يقيدوا نعمة القطبية، ولم يحسنوا استغلال ظروفها ومعطياتها. بحيث تجلت مثبطات الغطرسة من ضجة العالم، وتصدع الوئام بين رموز القادة الغربيين في سابقة لا مثيل لها. وكان المعنيون بخطابات التهديد والوعيد والمجاورون لهم، يتفحصون المنطوق، وينقبون عن المضمر بحذر وخوف وتفاؤل، ويستمطرون قرَّاء الكف، ومفككي الشفرات، وحذاق التأويل، لمعرفة المستبطن وما تحت السطور، ويستشرفون ما سيتركه الحلان العسكري أو الدبلوماسي، وهما الخياران اللذان يستبقان الصدارة، ويَقِدُّ كل واحد منهما قميص الآخر من قبل أو من دبر. وخطابات الزعيم المتعالي وتصريحاته إن لم تترجم إلى فعل ناجز، أوضع خلال الفرقاء يبغيهم الفتنة، وممن حولنا من المتربصين سماعون لهم، وما أن يتفوه بوعده أو وعيده، حتى يتلقفهما المترجمون بالصوت الفوري، ثم يتعقبهم آخرون بالتفكيك والتشريح والتقويض بحثاً عن المضمرات، وتطوعاً لايصال ذلك كله إلى المعنيين بالترغيب أو الترهيب، عبر رؤى وتصورات وتأويلات تدع العاقل في حيرة من أمره، ولاسيما ما يعقب ذلك من تعليقات ودراسات تضرب في فجاج التخرصات، لقد سمعت لغطاً تؤزه أوكار الحقد ومدافن الضغينة، ويتهافت عليه الخليون والماكرون والطيبون، ممن لا يحسنون فك الشفرات، ولا قراءة ما تحت السطور، ولأن هذا اللغط يحز إلى العظم، فقد عدت إلى خبراتي وقراءاتي ومتابعاتي، عبر كل المطبوعات والقنوات والمواقع، استعين بها لفلك الطلاسم، ومعرفة أي الخيارات أجدى وأهدى لأمة لا تقدر على دفع الأذى عن نفسها، والفتن التي تعصف في أرجاء الوطن العربي لا تهدد بلداً عربياً، ولا تكسر عظماً (أيديولوجياً) واحداً دون غيره، إنها فتن عمياء، تهب كالريح العقيم، فتقتلع الأشجار المثمرة، وتهدم البيوت المأهولة، وتذرو الأسواق العامرة، تقتل الشيخ المنقطع، والعجوز المتبتلة، والطفل الرضيع، والعذراء المخدَّرة حياء وعفة. والواقع العربي بهذه الفتن الهوجاء لا تقف فيه على وفاق سياسي، ولا ثقافي ولا إعلامي، فقادته وجلون، ومفكروه مرتابون، وعامته متخبطون،والكل في غمة كاسفة، ليس لها من دون الله كاشفة، حتى يقول الناجي من أهل الحل والعقد: اللهم إني لا أسألك إلا نفسي، ولربما عاد التاريخ ليذر قرنه من جديد، فقلد قال الرجل الصنم: «تركيا للأتراك» واليوم، وتحت الضغوط والفتن عاد آخرون يؤكدون القطرية، فيما تلاشت سائر الانتماءات، وقد يكون لبعض أولئك شيء من الحق، فعندما تدلهم المشاكل، يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فلكل زعيم وقطر شأن يغنيه، فعاجز عن توفير الرغيف ومتخاذل عن حماية الثغور، ومشغول بقهر المصفدين والتحسس عن الخلايا النائمة، وما أكثر العجزة في زمن بلغت فيه الأمة الدرك الأسفل من الذلة والهوان. وبعد لأي ومشقة ويأس محبط عدلت عن قراءة الخطابات ومثيراتها، وعدت أفكر في واقع عربي مؤلم، يصنع عذاباته بيده، ويعمق فرقته بلسانه، تؤزه نار الكلمات الحاقدة، وتوقظ فتنه النائمة زعانف لا تلوي على مثمنات معنوية ولا مادية، وأخوف ما يخاف العقلاء من صعاليك يتسكعون في سوق النخاسة البلاغية، يقول قائلهم:
«أنا الغريق فما خوفي من البلل؟».
والعالم العربي بما كسبت أيدي عملائه ومغفليه وثواره ومقامريه، وبما اقترفته بعض ألسنة إعلامية، وبما حبّرته أقلام كتابه، يمر بمرحلة حرجة، ومنعطف خطير، فكل اقليم لديه ما يذهله عن غيره، وصدق الله: {يّوًمّ تّرّوًنّهّا تّذًهّلٍ كٍلٍَ مٍرًضٌعّةُ عّمَّا أّرًضّعّتً} فالفتن المشتعلة في بقاع العالم عامة، وفي أرجاء العالم العربي خاصة، وعلى أرض الخليج وما جاورها بالأخص، بلغت حداً لا يطاق، وما من دولة عربية بقادرة على اتخاذ قرار مستقل، لا يتقي ولا يداهن، وبوادر الاستعمار الذي لملم نثاره، ورحل بثمن باهظ من الدماء الطاهرة، عاد من جديد، يذكيه الحقد الصهيوني، وتشعله بؤر التوتر في عالمنا الموبوء، من طائفية و«إثنية» ومشاكل حدودية ونزاعات قبلية، هذا الوجه الجديد الذي جاء بمسميات جديدة من «نظام عالمي» و«عولمة» وبمبررات مكافحة «الإرهاب» ونزع «السلاح» صنعناه بأيدينا، ليتحكم بالمصائر، ويؤدب بكسر العظام، وإحراق الأرض، وإشعال الفتن، ومن ورائه مرتزقة يجازفون بالتخوين والتجريم، وهم ربائب الغرب وأذنابه، هذا الوضع المتردي لا مثيل له إلا ما عرف من (حكم الطوائف) في الفردوس المفقود.
ومع أن مصالح العالم العربي على شفا جرف هار، فإن من يعَّول عليهم من علماء ومفكرين وساسة وإعلاميين، تستدرج الأندى صوتاً منهم الغوغاء، ويحدوهم لهيب العواطف، وتستخفهم المظهرية، وتغريهم الأضواء، فلا يقفون لتأمل، ولا يفرغون لمراجعة، وكيف تتأتى لهم فرص الاستخارة والاستشارة ومن حولهم من محترفي الإعلام والمتاجرين بالأقلام، يؤزمون المواقف، ويوغرون الصدور، وينبشون ماضياً دفيناً، وما أحد منهم حاول تقريب وجهات النظر، وسعى في نسيان المآسي، وسبق إلى تضميد الجراح، واثَّاقل عن نكئها، وفرَّ إلى الله، فهو القادر على كشف الضر، ومن أعوزه الدليل فليصخ إلى القنوات، أو ليقرأ الصحف، أو ليدخل إلى الشبكة «الإنترنت»، أو ليلق السمع إلى هدير المنابر، ليسمع التناقض العجيب، والتناحر الغريب، من همز ولمز وكل خطيب تحسبه واقفاً على ترسانة نووية، يلوم الآخرين ولا يحاسب النفس، ويدين الأبعدين، ويبرئ الذات، لا يدعو إلى تفكير، وإنما يحرض على تدمير، ولا يؤلف بين القلوب، وإنما يوغر الصدور، ومثمنات الأمة يفري حشاها الأبعدون، وما من حكيم يأطر على الحق، ويثبت القلوب الواجفة من الفتن الراجفة،فكل وجه إعلامي وهبه الله القدرة على الإثارة والجذب عمد راغباً أو راهباً إلى توظيف طاقاته لإشعال العداوات وإحياء الأحقاد، وكل كاتب قدير سخر قلمه للوقيعة، وتلفيق التهم، وإشاعة الكذب، والتحريض على الشر، وإحياء الضغائن والأحقاد بين الأخ وأخيه والجار وجاره، وكل عالم متمكن أجهد نفسه سعياً وراء فتوى مرجوحة لتفريق الكلمة، وتكريس الطائفية والمذهبية، ونبش عفن التاريخ، وكل سياسي أجهده الركض وراء سراب القيعان، بحثاً عن الحماية من الأخ وابن العم، وما درى أولئك أنهم بهذا الركون المبادر أو المضطر مأكولون، وقصة الثيران الثلاثة تعيد نفسها، كما التاريخ، ومقولة :«أكلت يوم أكل الثور البيض»، ليست ببعيدة، إن علينا قراءة تاريخ الفردوس المفقود إذ ما أشبه الليلة بالبارحة، وبديهي أنه عندما تبلغ الروح الحلقوم تضيق الخيارات، وتنعدم فرصة المراجعات، ولا يبقى إلا طريق قاصد: إما الفرار إلى الله: وإما التردي في الهاوية، وبعد انكشاف الضر، لا بد من المراجعة والمساءلة، لكيلا تعود حليمة إلى عادتها القديمة، وكم أبدأنا القول وأعدناه، وناشدنا الفرقاء تضميد الجراح، وتناسي ما فات، وتجاوز المرحلة العصيبة، ونصحنا بالسكينة ولزوم الجماعة، والبحث فيما يرأب الصدع، ويستل الضغائن، فما بأيدينا صرنا إلى ما صرنا إليه، إن هناك تحولات ومصائر تطاولت مع الزمن، وقضيت بليل، وقلنا وما زلنا نقول: - إن اللعب بالنار حول الهشيم ينذر بحريق هائل، يأكل الرطب واليابس، وها هي طبول الحرب الخليجية الثالثة التي ستكون أرض الخليج وإنسانها مسرحاً ووقوداً لها، تقترب من درجة الصفر، وبطل المغامرات يتعنتر تارة، ويستخذي تارة أخرى، يجني على قومه، ويلجئ من لا ناقة لهم ولا جمل إلى مواقف الضعف، حتى لا يجدوا بداً من الدفع بالتي هي أسوأ، ومتى انقشعت الغيوم، عاد كالهرة التي تأكل أولادها، أنهك المنطقة، وشل حركتها، وقتل شبابها، وأحيا نساءها للترمل والضياع، وعوق أصحاءها، وشرد أهلها وأذل شرفاءها، ولما يزل يجد من يموء من ورائه، الأمر الذي جعل الحليم حيران، فبقاء مثله مظلمة كبرى، وضرب أمة منهكة من أجل تصفيته جريمة لا تغتفر، وليس أضر على الأمة من نقيضين لابد من ارتكاب أحدهما، ومع انبلاج الحق يظل الناس في حيرة وتردد وتناقض، فلا تخلو الاجتماعات المصيرية من رافض أو متحفظ أو مقاطع، ولا تخلو البيانات من أسلوب دبلوماسي مراوغ، يحفظ ماء الوجه، ويعدد المخارج، والقطب الواحد لا يضع عصاه عن كتفه، يشج رأس هذا، ويكسر عظم ذاك، يستقدمه خائف، ويشرعن لفعله موتور، ويشيطنه متصعلك، ويتحداه غريق لا يخشى من البلل، ومن الظواهر الحدية التي لا تحتمل المراء تلقف ذلك القطب لراية الاستعمار البغيض التي كانت في يوم من الأيام بيد امبراطورية لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها، وبعض الشر أهون من بعض، فميزة الاستعمار القديم أنه يعتمد التفتيت والتفريق، والتماكر والمخادعة والإيمان بمبدأ «آخر الطب الكي» وتسمين المحلوب والمأكول فيما يذهب الاستعمار الجديد إلى أن الأجدى والأهدى أن يكون «الكي» و«الانهاك» أولاً. وليس من المعقول أن يعيد المستعمر نفسه في زمن الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، فلكل زمام أنماطه وأساليبه، وليس من المعقول أن يقبل أحد بالوجود الأجنبي، مهما كان الثمن، على أن مواجهة المتغيرات المصيرية باهظة التكاليف، والدول المستهدفة هي التي ستدفع الثمن، وأمريكا التي تزحف بترسانتها، وتزج بشبابها، لن تعطي المتفرجين شيئاً من الكعكة، ومن ثم فسوف يحل الخلاف مكان الوفاق، قد تنتصر في المنظور القريب، وسيظل الناس جميعاً يخافونها، ويحسبون لها ألف حساب، ولكن دولة الظلم لا تدوم، والمقتدرون مادياً أو استراتيجياً سيرتكبون أهون الضررين، وسيمنحونها تسهيلات أو دعماً غير مشروط، ولكنهم سيكونون معها كراكب الأسد، يخيف الناس، وهو منه أخوف، وعندما تقوم الأوضاع على الظلم والإكراه، تظل يد الظالم على الزناد، ويظل في حالة حرب، لا يفرغ لنفسه، ولا يدع الآخرين يفرغون لأنفسهم، ومن ثم يتعسكر العالم، ويدخل مرحلة إرهاب عنيف، يفضل فيها الجائع الرصاصة على الرغيف، في زمن لا يحتمل المزيد من الترديات والانهيارات الاقتصادية، التي بدأت نذرها بإفلاس شركات عملاقة.
وأمريكا اليوم تدخل مرحلة المقامرة والمغامرة، ومن ورائها أتباع مغررون، يجرون قدمها إلى الوحل، لتنشط تجارة السلاح، وتتسع رقعة الإرهاب، وسيظل العرب مسرحاً لكل الأحداث، والتوغل في هذا المسار سيعود عليها وعلى حلفائها وأصدقائها بالضرر، والشيء المؤكد أن مكافحة الإرهاب بعد الاتفاق على مفهومه عربياً وإسلامياً وعالمياً، وتغيير النظام في العراق ضرورة إنسانية، وواجب وطني، أما نزع السلاح فقضية فيها نظر، وفي الوقت ذاته فإن اضطلاع أمريكا بالمهمة منفردة، واستخدام القوة ليس ضرورياً ولا واجباً ولا حتمياً. ومع أن إشكاليات الحكم في العالم الثالث بحاجة إلى إعادة النظر إلا أن التدخل الخارجي غير مشروع، وغير نزيه، وغير عادل، فكم من أنظمة ظالمة متلاعبة، وجدت من يدعمها ويحميها، وكم من أنظمة وطنية عادلة، وجدت من يشكك في أهليتها، والمسألة لم تعد في صالح الشعوب المغيبة عن المغانم والمستحضرة في المكاره، لقد أسهم العالم الثالث في شرعنة التدخلات العسكرية، ورضي أن يكون مسرحاً للعب الكونية والتجريب الحي، ولما غفل اللاعب الأكبر عن الجيوب والخلايا الناسلة في ظل الانشغال بالعمليات المصيرية تحولت إلى ظواهر ليست بأقل خطراً من القضايا الرئيسية، وما التدخل في الصومال والسودان ولبنان ومن بعد في أفغانستان والعراق إلا لملمة لهذه الذيول، والطامة الكبرى تكمن في الجبهات الداخلية التي تنسل من حدب الظروف الصعبة وفي ساعة العسرة لتربك أهل احل والعقد، وتهيىء الأجواء لملائمة اللارتماء في أحضان العدو، وتمكينه من استعمال عصاه الغليظة، والأمة العربية التي تعيش أسوأ حالاتها، لم ترعو، ولم تعرف أسلوب التعامل مع الأحداث المصيرية، ونخبها وإعلاميوها ومفكروها يؤزون فتنها، ويعمقون فرقتها، ويمارسون التيئيس والاحباط، ويستبقون الأضواء بالحديث عن المسكوت عنه، ولم يفكر أحد منهم بجمع الكلمة، ورأب الصدع، والتقريب بين وجهات النظر، والحمل على التعاذر، وتناسي الضغائن والأحقاد، والعمل على تماسك الجبهات الداخلية، فويل ثم ويل لأمة يهدم صفوتها جبهتها الداخلية، وكأنهم بفعلهم يستعجلون العذاب، وما علموا أنه قد يأتيهم بغتة، وهم لا يشعرون.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:33 PM

حصاد اليوم وجبة غير شهية..!!
د/حسن بن فهد الهويمل


1/ قد لا يَسبق استعراضي للصحافة صباح كل يوم أيُّ فعل قرائي، بحيث آوي إلى فراشي بعد قراءة جادة، قد تمتد إلى الهزيع الأخير من الليل، ثم لا أعود إليها قبل الاستفتاح بصحف الصباح. وفي كل يوم أجد على مكتبي أكثر من عشرين مطبوعة، ما بين صحف محلية ومهاجرة وعربية، ومجلات أسبوعية وشهرية ودورية، ومطبوعات وزارية، قد تكون بعدد الوكالات والإدارات العامة في الوزارة الواحدة. وأمام هذا الكم أباشر القراءة الاستعراضية العجلى للعناوين البارزة أو الجانبية، ثم أعود لما علق بالذهن من مقالات أو دراسات أو تحليلات أو أخبار مزعجة أو مبهجة في الفكر والسياسة والأدب، لأقرأه على مكث، فأستل ما أريد، لاستدعائه متى دعت الحاجة إليه.وفي كل يوم أصاب بالذهول، وينتابني شيء من الخوف جراء ما أقف عليه من حوادث وجرائم وكوارث تجتاح العوالم: العالمية والإسلامية والعربية والمحلية. وأقول في نفسي عما تقع بين ظهرانينا: كيف يحصل هذا في بلد يطبق الشريعة، ويتوفر على قطاع أمني قوي، وتقوم مناهجه على التربية الإسلامية، وتقام فيه الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، الأمر الذي يحفزني على التساول عن مكامن الخلل، فلما نزل نسمع عن قتل الأبوين أو التخلي عنهما في ساعة العسرة، أو انتهاك المحارم، وعن السطو والسرقة والرشوة، وحوادث المرور، التي يغيب فيها الموت أسرة بكاملها، وعن ترويج المخدرات، وارتكاب المحرمات. كل ذلك يمر بنا، وكأنه مخيال برع في صياغته مبدع موهوب.
ومما لا خلاف فيه أن هناك نسبة من الكوارث والحوادث والجرائم متوقعة، لوقوع مثلها والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهر المسلمين، من حرابة وسرقة ورشوة وزنا وخمر وإفك. وحصولها في حدود المعقول لا يثير الانتباه، لأنه ما من مجتمع صاخب، يشكل اقتصاده وتنميته أرضية جذب مغرية إلا وكان له نصيب من المنغصات، وكيف لا تتفاقم المشاكل، وفوق أرضه سبعة ملايين وافد، وحدوده مسرح للتسلل الفردي والجماعي المنظم، والمتخلفون من الحج والعمرة بمئات الآلاف، والمواطئون والمتسترون من ضعفاء النفوس يفوتون فرص الانضباط. ولست ممن يتطلع إلى مجتمع ملائكي، ولكن الأمور حين تتجاوز النسبة المعقولة، أو حين تقع الجرائم أو تنفذ بشكل بشع، أو تتكرر بشكل مثير، يكون هناك مشروع تساؤل ومتابعة وتفكير في كل الأوضاع، ليس فقط فيمن اقترف الذنب، ولكن فيمن حفز الأسباب، وفيمن وضع الحلول ونفَّذها.
ولكي أكون «رقمياً» في لغتي، فقد استعرضت الصحف الصادرة يوم الخميس 19/12/1423هـ وتتبعت الحوادث والكوارث والجرائم بوصفها حصاد يوم أليم، ليس بأقل إيلاماً من أي يوم سلف أو خلف. ومثلما أن للمجتمعات الفقيرة مشاكلها، فإن للمجتمعات النفطية مشاكلها، وحتى نوع الأمراض وأساليب الحياة: «وكل من لاقيت يشكو دهره» وما سأعرض له عينات تتكرر، ولكن بصيغ مختلفة.
2/ فكان أولى الحصاد التغطية الصحفية في جريدتي «الجزيرة» و«الرياض» وغيرهما لتشييع جنازة وكيل الإمارة ب«الجوف» المغدور، كخطوة ثانية بعد اغتيال قاضي المستعجلة في مكان واحد، وتحت ظروف غامضة متشابهة، وتلك سابقة لا مثيل لها، فلم يكن أهل هذه البلاد عدوانيين، ولم يكن القتل سهلاً، فالمسلم يعرف أنه حين يقتل مؤمناً متعمداً فإن جزاءه نار جهنم خالداً فيها. والتساؤل الملح: ما الدوافع؟ وهل مثل هذه الجرائم ناتج خلل في التربية، أو خلل في الأمن، أو خلل في الأداء. نحن لا نشك أن استشراء القتل أو السطو ناتج خلل، ومن واجبنا أن نواجه أنفسنا به، أياً كان مصدره: تربوياً أو سلطوياً أو أمنياً، وإن لم نفعل رمت الجروح على فساد، وبان منها إهمال المسؤول، ولست أشك أن رجال الأمن جادون في متابعة الحدث، والبحث عن خيوط الجريمة، وليس من الحصافة ممارسة المهمات تحت عدسات التصوير لإشباع الفضول، غير أنا مع كل ما نحن فيه من ثقة واطمئنان، يأخذنا ما أخذ إبراهيم عليه السلام، حين قال لربه: ) رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة:260)
، ولربما كانت «الشفافية» بوصفها منهجاً حضارياً سبباً من أسباب اطمئنان القلب، بيد أنها كشفت عن أشياء، ما كنا نعرفها من قبل، ومن ثم وجدت الصحافة نفسها أمام مثيرات تستقطب بها القراء، بحيث تركت الحرية لكامراتها ومتابعات محرريها، كي ينقبوا في البلاد عن أي كارثة أو جريمة لتقديمها إلى القراء وجبة غير شهية، ومثل ذلك يدفع بالمواطن إلى الاحتقان والتوتر. و«الشفافية» في نظري، ليست وقفاً عند حد معرفة «دراماتيكية» الحدث، «الشفافية» تعني: أن يعرف المواطن كيف حصل الحدث ولماذا؟ وكيف تمت مواجهته؟ ومن الطرف الضالع فيه؟ وهل قطع دابره؟ فالجزاء وحده غير كاف، متى تُركت مخرجاته، تستعد لإنجاز جريمة أخرى، والشاعر الحكيم يقول:




لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها
إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا


وأهم معرفة يتطلع إليها المواطن: كيفية المواجهة والعلاج، وهل تلقفت وزارات «التعليم العالي» و«المعارف» و«العمل» و«الشؤون الإسلامية» و«الإعلام» ملفات القضايا، والتفت حول بعضها للتحليل والدراسة والتقويم ووضع الحلول؟ فالمشاكل لا يعالجها رجل الأمن بإزالة آثارها، وإنما بالعمل على قطع دابر أسبابها، ومواجهة كل الأطراف الضالعة فيها، ذلك أن الحياة تقوم على عقد بين طرفين، فأي إخلال في العقد تنشأ عنه جنايات وكوارث وجرائم. وعلينا إزاء هذه الأحداث ألا ندع أي جهة أو شخص فوق المساءلة والنقد، ولا يمكن تلافي الأخطاء بالتعذير، والدفع بالحدث إلى مجهول، أو القول: بأن العملية تمت بنجاح.
3/ وفي حصاد اليوم متابعة لحادث قتل الجندي «علي يحيى دعسيس» رحمه الله، وكنا من قبل قد قرأنا عن حوادث مواجهات مسلحة لرجال الأمن، تمكن فيها المجرمون من فتح ثغرات، أو اهتبال ثغرات مفتوحة من قبل والهروب، وإن تم القبض عليهم فيما بعد. وتعريض حيوات رجال الأمن للقتل وسمعتهم لحديث المجالس، يحتاج إلى مراجعة، فالمداهمات أو التحريات حين لا تكون بمستوى الجريمة، يتولد منها جرائم أخرى، أشد نكاية منها. والمداهمات يجب أن يخطط لها، وأن يتوفر الأفراد على وسائل أمن ووقاية، تمنع تعريضهم للإصابات القاتلة، وتمنع انفلات المجرم من محاصرتهم، ولعلنا سمعنا ما حصل عند مداهمة «الشقق المفروشة» في الرياض، وتمكن المطلوبين من النفاد بأنفسهم، بعد قتل وإصابات، ولو أن هناك خططاً دقيقة محكمة مدروسة لما حصل ما حصل، وحتى لو حصل تبادل لإطلاق النار، لما تمكن المجرمون من اختراق الأطواق المحكمة، فمن الذي جازف، ومن الذي اتخذ القرار بالمداهمة، دون احترازات وأطواق أمنية، تحول دون نفاد المجرم بجلده؟ ومن الذي عرَّض رجال الأمن للإخفاق؟ سؤال مشروع، وممكن الحل في المستقبل، والغلطة إذا أفادت تعد درساً توعوياً.
4/ وفي حصاد اليوم اصطدام سيارة ب«جمل» يذرع الطرق، ووفاة شخص «الرياض ص12» وفي كل يوم تقع حوادث مماثلة، و«الجمال» السائمة تسرح وتمرح قريباً من الخطوط، وتُرى رأي العين من العابرين ورجال المرور وأمن الطرق، وما من أحد اتخذ موقفاً رادعاً، فلماذا لا يتخذ قرار بمصادرة المواشي السائمة حين تقترب من الطرق بمسافة لا تزيد عن خمسمائة متر، وذبحها، وتقديم لحومها للجمعيات الخيرية، ومن راجع فيها، يحمَّل تكاليف المصادرة والذبح والتوزيع، ولو اتخذ مثل هذا القرار، لكان كل مالك للمواشي السائمة رجل أمن وجندي مرور. و«من أمن العقاب أساء الأدب»، ويكفي تجهيز سيارة شحن برافعة تابعة للمحافظات أو لمراكز أمن الطرق، تقوم بمسح الطريق بين الحين والآخر، وتقتنص كل ماشية تقترب منه، مع توعية خطية للعابرين، تذكر بمهاتفة أمن الطرق، متى شوهدت المواشي مقتربة من الطرق.
5/ ومن حصاد اليوم «الرياض الصفحة الأخيرة» «الإمارات تصدر جوازات سفر خاصة للصقور» ويعد هذا الإجراء الأول من نوعه في العالم، ولما يكن هذا الخبر هو الوحيد الذي يبادر به الخليجيون، فلقد سمعنا عن «خيول» و«جمال» و«تيوس» و«حمام» تباع بالملايين. وتابعنا مهرجانات تستنفر فيها كل الجهود لمثل هذا النوع، ومن حق كل عاقل رشيد أن يتساءل عن هذا التبذير والإسراف في مدخرات الأمة وكنوز الأجيال، ومتى يعرفون أن المبذرين كانوا إخوان الشياطين؟ وإن لم يعرفوا فلا أقل من أن يستتروا، ولا يعرضوا أنفسهم للغيبة؟ و«رحم الله امرأً كف الغيبة عن نفسه». والذين أفاء الله عليهم بالأموال من واجبهم أن يرعوا نعمة الله، وأن لا يعطوا صورة سيئة عمن لم ينالوا خيراً. وإذا أوسع الله على أحد منهم، فعليه أن يتبنى مشروعاً: علمياً أو إنسانياً، يدرأ به عن نفسه وعن بلاده مكر الله، وفي الحديث: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»، وها نحن نرى طائفة من المحسنين، تبدي الصدقات أو تخفيها.
6/ وفي الصفحة الأخيرة من الرياض أيضاً «إطلاق نار على حافلة تقل فريقاً طبياً في حائل» والحدث صدر من أحداث أربعة، يستقلون سيارة. والسؤال: من أتاح الفرصة للأحداث كي يحملوا السلاح، ويعرضوا أنفسهم للقصاص، لو أن هذه الرصاصة الطائشة استقرت في موقع قاتل من جسم إنسان بريء. أليس هذا التسيب مسؤولية الأباء والمعلمين ورجال الأمن، إن حمل السلاح أولى خطوات الجرائم، وإذا كان لا بد من حمله، وعلى أضيق نطاق، فليكن للرجال العقلاء، وفي المواقع المخيفة، بحيث لا يسمح بحمله في المدن والأسواق والمدارس والجامعات والمساجد وسائر المواقع العامة، ومن و جد معه سلاح صودر وسجن وغرم. والله شرع الحدود، وأباح التأديب، ومن رغب عن سنة الرسول فليس منا، وليس من مقتضيات الحرية الشخصية، ولا من متطلبات حقوق الإنسان ترك الحبل على الغارب، لا بد من الأطر والأخذ على يد السفيه.
7/ وفي الصفحة الأخيرة من جريدة المدينة «القبض على ثلاث طالبات مدمنات في الخميس» وبالتحليل تبين تعاطيهن المخدر منذ فترة طويلة، وتلك كارثة الكوارث، وطامة الطوام، فكيف وقعن في المخدر؟ وكيف حصلن عليه؟ وهل الوصول إليه بهذه السهولة؟ بحيث تتمكن طالبات ثانوي من استعماله وخلال مدة طويلة. وكيف تتفشى الظاهرة، ولقد تذكرت اعتراض المجالس التشريعية لمطالبة «كلينتون» رفع ميزانية مكافحة المخدرات، بحيث تتجاوز الأربعة مليارات دولار، لعدم تحقيق أي تقدم من المكافحة، على الرغم من الميزانيات الباهظة والإمكانيات الضخمة.
ونحن في بلادنا نقتل المهرب والمروج، ونعالج المتعاطي، وتلك طرائق سليمة، ولكن المخدرات وآثارها لما تزل بازدياد. فما نقطة الضعف بعد تنفيذ أشد العقوبات؟ أهي في الإجراءات أم في الجزاءات؟ إننا بحاجة إلى أن نسأل، وأن نبحث عن الحلول الجذرية التي تحسم الإشكالية، أو تضعها في الحجم المقبول. ولا أحسب الذين يُقتلون لمجرد أنهم هربوا الهيروين المركز في أحشائهم كاف لحسم المشكلة، المشكلة أكبر من الأحشاء والأدبار. إن علينا أن نضع مركز معلومات لهذه الظاهرة القاتلة، وأن نضطلع بإجراءات حاسمة، تحول دون تفشي المشكلة بشكل مخيف، ومن الأفضل أن نمسك الخيط من بدايته، حتى نصل إلى الضالعين بالتهريب. ولما كانت المخدرات وكر الجرائم وأم الخبائث، كان علينا أن نراهن على حسمها، وألا تأخذنا الرأفة ولا الرحمة. فالمخدرات تدمير للأمن والاقتصاد والصحة، وإذا قطع دابرها، رجعت مؤشرات الجرائم إلى الوضع الطبيعي. ولن أمضي مع بقية الكوارث والجرائم، فالأمة العربية تعيش تحت أزمات قاتلة، وما الحرب التي تتدفق معداتها وعددها ورجالها من كل صوب إلا أم الكوارث، وفي «الاقتصادية» توقع خسارة ستين مليار دولار للبنوك العربية وحدها، لو قامت الحرب، فأين منا الرجال والنساء والأطفال والثروات الظاهر منها والباطن؟ ومع هذا لا نجد أية بادرة عربية لمواجهة الاحتمالات السيئة، وتلك مصائب جسام، ليس لها من دون الله كاشفة.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:33 PM

مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط!
د. حسن بن فهد الهويمل


علينا قبل القول المباشر في اشكاليات الابداع السردي الناجمة عن الفهم الخاطئ ل«الحق» و«الحرية»، أن نحدد مفهومنا الشخصي لمفردات العنوان، وهو مفهوم تكاملي، «يتناص» مع مفاهيم متعددة، مشكلاً معها دوائر متداخلة - لا مستقلة ولا مطابقة -، وليس ببعيد أن يثير اختلافاً كثيراً، وتأويلات تحيد به عن مقاصده، وبخاصة ممن لا يحترمون المصداقية، وليس هناك أدنى احتمال للتوافق بين وجهات النظر، ما لم يكن هناك معرفة ومصداقية. بل أكاد أقول: - بأنه ليس هناك رغبة في التوافق، متى كان الاختلاف في سبيل البحث عن الحق، فنحن أحوج ما نكون إلى المزيد من الاجتهاد، والمزيد من الاضافات، ومع مشروعية الاجتهاد والاختلاف، فإنه لابد من أهلية وضابط، للتوفر على قواسم مشتركة، تمكن من تقارب وجهات النظر، أو التعاذر، وهو ما نود مناهزته في بحثنا هذا، وفيما نستقبل من بحوث. ولما أن كانت المفاهيم متعارضة أو متفاوتة، كان علينا أن نحاول استعراض مجملها، وأن نكشف عن السلبيات والايجابيات جراء اصرار المختلفين الذين تجتالهم العموميات، وتستزلهم محدثات غيرهم، مما لا يعد من مشتركات الحضارات الانسانية، دون علم بالمعاصرة، ودون استيعاب للأصالة، والمتقحمون للمشاهد برؤى مهزوزة، وتصورات سقيمة، وبضائع مزجاة، يسيئون للمتضلعين والمتثبتين، لأنهم لا يتوفرون على القدر المطلوب من أدب الحوار ومؤهلاته المعرفية، فتقليد الطارف ليس بأحسن حال من تقليد التليد، والمجدد الحق من يتقن لعبة «التناص» بحيث يغيب الآخر، ولا يغيب فيه، وأكثر المتحدثين لا يتقنون هذه اللعبة، ومن ثم فهم واقعون فيما ينهون عنه، وما ظواهر الخلل المضاعف إلا بعض مقترفات من تلتبس عليهم الأمور. ولما كان الاجتهاد مشروعاً، كانت نتائجه مشروعة. ومشروعية الاجتهاد لا تكون إلا لمن يملك حقه من علم أصيل، وتجريب معاصر، وفقه للواقع ومتطلباته، ومنهج دقيق، وآلة معرفية، وتحرف سليم، وعقل وتفكير متزنين. والحديث من السرديات يطال مرتكزات حضارية.
حديث عن «اللغة» بوصفها الشفرة التواصيلة، ولاسيما في ظل المستجدات اللغوية من «بينوية» و«تفكيكية» و«تحويلية». وحديث عن «المضمون» بوصفه مضغة الجسد السردي، ولا سيما في ظل تعدد «الأيديولوجيات» وصراع الحضارات. وحديث عن «الفنيات» بوصفها الحد الفاصل بين أنواع الفن القولي، ولاسيما في ظل التحولات والتخليات. وإذ يكون للشعر ضوابطه، تكون للسرديات ضوابطها، ومن استخف بها، كان استخفافه بقية من رؤى سلفت، لا تقيم وزناً للقص، لأنه لا يرقى إلى سدة الفن الشعري الرفيع، حسب زعمهم الذي أردى الفن السردي إلى حين، والتفلت على الضوابط دون قيد الغاء ضمني للتنوع الابداعي، وهو ما يقترفه المترسمون خطى الغرب باسم التجديد تارة، وباسم الحداثة تارة أخرى، وباسم الحق والحرية تارة ثالثة. وما من شيء من ذلك ابتدروه، أو استبدوا به. وإذ يكون هناك متاهات في حدود الحق الفني، تكون هناك متاهات أشد وأنكى في حدود الحق الديني والأخلاقي والحضاري، وحديثنا عن حدود «الحق» و«الحرية» في : «اللغة» و«المضمون» و«الشرط الفني»، يتطلب منا معرفة المفاهيم، واعتماد الوسطية. و«السرد» أو «السردية» مصطلح مراوغ، وهو في نظري يقابل «النظم» بمفهومه الشعري، وإن كان بين مصطلح «السرد» و«النظم» عموم وخصوص، فهو عند «الخليل» غيره عند «الجرجاني» الذي يراه: تركيباً للكلام بطريقة ابداعية معجزة، وعبر لغة انزياحية، و«السرد» الابداعي مثله، ومن ثم يختلف عن «السرد» العادي. وحين يكون ابداعاً، تكون له ضوابطه: البنائية، والشكلية، والدلالية، وهو مصطلح يطلق على صيغة مخصوصة من صيغ الخطاب، تتعلق بحبك الأحداث ومتعلقاتها: الشخصية والظرفية، لا وصفها أو رصدها كما اتفق، وله أنواعه ك«السابق» و«اللاحق» و«المزامن» و«المتداخل» و«المضاد». و«السردية» علم السرد المميز له عن «المسرحية» و«القصيدة» و«القول» العفوي. واختلاف طبيعة النص، فوتت على المعنيين تحقق علمية السرد، في ظل «علمية النقد». وقد أحال الدارسون إلى رؤية «جينيت» و«قريماس» و«باختين»، ولا يتحقق التصور السليم إلا إذا عرفنا ما تتحقق به الأشياء، وما تتميز به. وقديماً قيل: - «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، والذين يكتبون بلغة شائعة، وتراكيب مألوفة، ونصوص فارغة، وحوار ممل، لا يكون أحد منهم من ذوي المواهب ولا المعارف يميتون الفن، ومن لم يتوفر على معرفة تامة بنظام اللغة: من نحو وصرف، وأساليب الكلام، وجماليات الفن، وضرورة الكلم الطيب والقول السديد، ومقتضيات القيم الحضارية التي ينتمي إليها المبدع، والناقد، ثم لا يكون المبدع موهوباً، يمارس بموهبته، وبمحفزات موقفه، وتجربته، وثقافته، ووعيه للأنموذج، ومنازعته قصب السبق، يكون كل ما يأتي به غثاء كغثاء السيل، وزيد يذهب جفاء، يلفه النقاد الحقيقيون، كما يلف الثوب الخلق، ثم يرمون به وجه صاحبه. ولا تخلو المشاهد من الطائفتين: الضعفاء والجهلة، ولا عبرة بالمجاملات، والمسايرات والمقايضات التي يستبقها البعض. ولو أنصف النقاد، وصدعوا بالحق، ولم يخشوا به لومة لائم، تلاشت فلول الأدعياء، وصينت كرامة الفن واللغة والقيم. والمجاملات، وبناء الأمجاد الوهمية بالتملق تصيب المشاهد بالتصوح، ثم يكون ركام الروايات، التي لا تكاد تجد فيها راحلة، تبلغ بك الغاية من اثراء جمالي ولغوي وقيم ثقافية وفنية وأخلاقية.
ولأن المبدعين والمتلقين كما المستهمين في سفينة الحياة والفن فإن مفاهيمهم ل«اللغة» و«المضمون» و«السرد» و«الشكل» و«الحبكة» و«الحرية» حين لا يَضْبِطُ إيقاعها شرط، ولا تحكمها قيم، تُخرق السفينةُ، ويَغرق أهلها، سواء كانوا أهل فن أو لغة أو قيم. وما لم يكن كل شيء بمقدار، وخاضعاً لنظام، ومدعوماً بمعرفة، يعود الانسان إلى بدائيته الأمية، وكيف نرضاها، وما من أمة إلا خلا فيها حراس فضيلة، وأهل علم، يأطرون، ويعلمون. وليس من مصلحة الفن ألا ينبري لهذه الفوضى المستحكمة والعبثية المستشرية حكيم، يقول الحق، ويهدي سواء السبيل، ولا شك أن المجاملات والمداهنات، تدفع بالبعض إلى استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير: دلالة ولغة وفناً. بحيث يدعي التألق الفني من لا يحمل الموهبة. والفن القولي وغيره لا يؤتاه إلا موهوب، ولا تتفجر الموهبة إلا في اللحظة الضاغطة. وحين لا يبدع الشعر إلا شاعر، ولا يبدع السرد إلا سارد، فإن هناك طوائف من المقتدرين: لغة وثقافة، ينظمون الكلام، ويكتبون القول، ثم يجدون من يؤكد لهم أوهامهم. والشباب المبتدئون حين لا يروض جماحهم حكيم مجرب وعالم حصيف، يستخفهم الثناء الكاذب، ثم يرون أنفسهم فوق النقد، وفوق التوجه والمراجعة. وقد يبلغ بالناشئين منهم سوء الخلق إلى منازلة الناصحين، والرتوع في أعراضهم، من أجل الاحتفاظ بما أهدي لهم. ولما كان واجب العارفين بالظواهر الفنية والبواطن اللغوية الأخذ على أيدي الجريئين المجازفين لطمس المعالم والغاء الشروط، أصبح من الطبيعي أن تدار القضايا والظواهر السردية سعياً وراء الوصول إلى أرضية مشتركة، تحسم الخلاف، أو تخفف من حدته. وإذ لا نرى بداً من الاختلاف في وجهات النظر، فإننا لا نريد لهذه اللازمة أن تصل بالمختلفين إلى حد التنازع المخل بالمروءة، ولا نريد لغير أهل الاجتهاد أن يجتهدوا، فيوقعوا الآخرين في اللبس. وإذ يكون التجديد والتغيير والتبديل من السنن الكونية، يكون من لوازم ذلك أن يكون المجدد متجاوزاً بتجديده الأنموذج الابداعي الذي شد الانتباه، وقدم السمة، وحدد النوع الفني، وبلغ الرقم القياسي، الذي لم يحطم، الأنموذج الذي أمد النقاد بما انطوى عليه من سمات ابداعية. وحين تكون للأنموذج سمته، يكون من واجب المجدد أن يجتهد في تقديم نص أفضل منه، وإذا لم يكن قادراً على التحدي والتجاوز، فمن الخير له وللمشهد أن يحافظ على المنجز، لا أن يهدمه، ثم لا يقيم بديلاً أفضل. ولا يعني حق التجديد مطلق المغايرة، وإنما يعني: الاستجابة للحاجة، والتواؤم مع الذائقة، وتحقيق الأفضل. وتقليد التجريب الغربي لا يكون تجديداً، وأصحاب كل علم أو فن يفرقون بين التجديد والمحاكاة، ويعرفون القدر المشروع من «الحرية» و«الحق العام»، ويعرفون حق المتضلعين بشروط الفن وضوابط القيم في الأخذ على يد كل من يقترف الخطايا أو ينتهك الفنون باسم الفهم الخاطئ للحرية والحق، وما من عاقل يقول بمطلق الحق، ومطلق الحرية، ويرضي اختلاط الفنون، وفقدها لأبسط سماتها، بحيث يكتب الكاتب ما شاء، عما شاء، بالشكل الذي يريد، وعبر اللهجة العامية التي تؤسس للازدواج اللغوي، وتفصل الأمة عن تراثها، ثم يكون في نظر المسايرين: رغبة أو رهبة الشاعر المفلق، والروائي المتألق. وعلينا استرجاع ما قيل عن أعمال روائية، لم يكتب أصحابها من قبل شيئاً، وما أن تلقفتها الأيدي، أو سمعت بها الآذان، حتى أصبحت الفتح المبين في عالم السرديات، وتقاطر السرعان من الكتاب والنقاد يمطرونها، ويمطرون أصحابها بالثناء الباذخ. ولنضرب المثل بروايتي «الحزم» و«سقف الكفاية» حتى لقد سخر الأخير - رغم حداثة سنة - بالمندفعين سخرية مرة. ولو نظر فيهما النقد العلمي المتزن، وتفحصهما بآليات المعارف وموازين القيم، لأخذت كل رواية موقعها الطبعي. وماذا أبقى المغرّرون للسنوات القادمة والأعمال المرتقبة، ولقد شهدنا امتعاض البعض منهم واستغرابهم من تزويد المؤسسات بالنصائح للمبدع، وما علم أولئك أن: - «الدين النصيحة» وأن المبدع وغيره يظل طالب علم، ومن استغنى عن التعلم والنصائح، فهو مصاب بجنون العظمة، ومما خدعنا به اهتام القارئ «الأوروبي» واحتفاء النقاد الغربيين بالمنجز السردي الشرقي، مع أنه لا يعد شهادة تفوق ولا تألق، فالغربيون يحتفون بإبداعاتنا التي تكرس مفهوم البدائية والهمجية والتوحشية والشبقية. ولك أن تنظر إلى ما كتبوه عن «ألف ليلة وليلة» وما هي إلا حديث خرافة بلغة عامية، تهبط بالمدينة والحضارة المشرقية إلى درك البدائية، حتى لقد تعقبها بعض الدارسين، وبرهن عن مصادرها اليهودية. ولما نزل نراها سفيرنا إلى عوالم الابداع السردي، ونساير الغربيين في اختصارنا ابداعياً فيها. ومتى رأيت احتفاء غربياً بفن أو فكر عربي، فالتمس حوله عهر أو كفر، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم. ولو أعطى الناس هذا القدر من الحرية في القول ورد القول، لهدمت فنون، وعقائد، وقيم، تضبط إيقاع الحياة، وتحفظ توازنها. والمتحدثون دون علم بضوابط الفن، ودون موهبة، ودون ثقافة، يشيعون فيما بينهم هذا القدر من الحق المطلق، وهذا النمط من الحرية الفوضوية، ليشرعنوا كل خطأ أو خطل. ولو قبل منهم هذا الاطلاق، لضاعت الحقوق، وانعدمت الحريات، وما من مُخِفّ من المعرفة، خال من الموهبة، مقو من اللغة مفتقر إلى الحياء والحشمة إلا يعوض تلك النواقص بالتزود من الفحش في القول، والامعان في المناقضة، والانتهاك للغة والفن، والايغال في المسكوت عنه، ليلهي الناس عن ملكة معطوبة، وجهل مستحكم، وخلق دنيء. وهذه النوعية تعول على الحرية والحق ورفض الوصاية والنصح. وكم نود من المبدعين السرديين والنقاد المواكبين لهم أن يعرفوا حدود الحرية في القول وفي الفن، ومفهوم: الحكاية والخرافة والأسطورة، ومقتضيات الحبكة، ومتطلبات السرد، والزمن، والمكان، والشخصيات، لكي يحال بين الفن الرفيع وساقط القول. ولقد مرت بنا مقولات البرمين من ضوابط الفن، وبخاصة الشعر، حتى لقد بلغ المترخصون حد النثرية، وشاع مصطلح «قصيدة النثر» ووجد المجازفون من يبارك تجاوزاتهم التي ألغت فن الشعر، وخلطت بينه وبين النثر. ومعلوم أنه لا يضيق بالضوابط إلا من لا يتوفر على موهبة، ولا يضيق بالاحتشام والالتزام الأخلاقي إلا من لا يتمثل القيم الحضارية. وفي اطار استصحاب الحدود والقيود، نجد من يُحكم القبضة ويقدس الأنموذج، ويستمرئ مقولة: - «ما ترك الأول للآخر شيئاً» حتى لا يتمكن أحد من الحصول على الحد الأدنى من حقه المشروع في التفكير والتعبير، فيما نجد آخرين يلغون الحدود والقيود، حتى لا يعرف أحد حدود ماله وما عليه. وفيما بين الافراط والتفريط، تقوم الوسطية الراشدة، وذلك ما نسعى إليه، ونراه ضرورة في ظل الفوضويات التي أباحت المحظور. وإذ يوجه القرآن الكريم إلى ألا تجعل اليد مغلولة إلى العنق، ولا مبسوطة كل البسط، ويوجه بعدم الغلو في الدين، فإن عوالم الفن كعوالم المال والعبادة، لا بد لها من حفظ التوازن والوسطية. والمطالبون بتبسيط اللغة، لا يقبلون بالعامية، والمطالبون بتيسير الدين لايقبلون بالتحلل والمجون، والمجددون الحقيقيون لا يلغون ضوابط الفن، وخصوصيات الأنواع. وقبل التعالق مع الغرب، كان للأمة العربية سردياتها، التي غلب عليها سلطان الشعر، فأبقى عليها، كما كانت عند القصاص والمذكرين الشفهيين، وامتداد الشفاهية أضاع ثروة لا تعوض، إذ لم يتسع التدوين إلا للعلوم والمعارف والشعر. وجاء القرآن الكريم موظفاً القصص لأهداف تربوية، وبعد أمة جاءت «المقامات» و«الرسائل» التي تعتمد الخيال والحوار والشخوص والأحداث والأمكنة والأزمنة مؤسسة للفن السردي، وظلت حالة القصص مقموعة بسلطان الشعر، حتى نفذت سرديات الغرب ونظرياته الروائية والقصيية، وتمثلها المبدعون، واستقرت أشكالها، وتوارثتها الأجيال، وأصبحت بشكلها وشرطها، كما لو أنها جزء من التراث، ومثلما واكبنا الغربيين في التماثل، واكبناهم في التعبير، غير أن وعينا للتماهي أدق من تصورنا للتغيير.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:34 PM

مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط..! «2»
د. حسن بن فهد الهويمل


ولما كانت «السرديات» الإبداعية وهي مجال بحثنا متعددةً متنوعة، كان لا بد أن نميز كل نوع بسمته، ثم نجعل هذه السمة كالاسم، لا تكون إلا له، ومن أحدث في السمة ما ليس منها فهو رد، لأنه يطمس معالمها. ولزوم السمة لا يمنع من التجديد، ولا من مواكبة الحياة. وعندما ندخل مرحلة الطمس، يكون لزاماً على ذوي الأبصار والبصائر والذخائر المعرفية بذل العلم، وإسماع الجاهل.
والذكر الحكيم ندب إلى سؤال أهل الذكر، والرسول الكريم أبان بأن دواء العي السؤال. وإذا استبد الجاهل بمثمنات الحضارة، تحت أي مظلة، نقضت حضارة الأمة عروة عروة، وانمسخت شخصيتها، والمتعالون على التعليم والإرشاد، وهم أحداث مبتدئون ترتفع بهم خفة عقولهم، كما الدخان أو القتام، وكيف يرفض التزود من العلم عاقل، ومن ذا الذي شب عن الطلب، واستغنى عن المؤسسات الثقافية، وما نحن عليه من ضعف واستكبار مؤشر استبداد جاهلي، وغلبة حداثية، خرجت بالأمة من شرطها النهضوي، ولم تسلك بها طريق الرشاد، فكان أن تقطعت بها الأسباب.
ولو ضربنا الأمثال فيما نحن بصدده، لتبدت لنا عثرات ألْسنة، وسقطات أقلام. ومن البدهيات أننا حين ندعو الأشياء بأسمائها ونقول: هذه «رواية» وتلك «قصة» وتيك «سيرة ذاتية» وهذا «أدب رحلة» فإنما نقول ذلك بموجب معهود ذهني، يضمر الشرط والضابط المتكرسين مع التداول. واحترام المعيارية والقيم لا يعني السكونية والتحجر، وحمايتها لا تعني الوصاية، فالفن واللغة كوائن حية تنمو، مثلما تنمو الأجسام والأشجار، فالجسم ينمو، ولكنه يحتفظ بالمكونات الأصلية والملامح المميزة، ويظل جسماً لا يختلف أحد حول جسميته، قد تتغير ملامحه، ويزداد في الخلق بسطة، ولكنه لا يبرح سمته، ولا معهوده في ذهن المتصور له، والنمو والتطور لا يجعل القرد إنساناً، إلا فيما ذهب إليه «الداروينيون». ومثلما يكون النمو والتطور مع الإنسان، يكون مع الفن، ولكنه لا يحيل النثر إلى شعر، ولا الشعر إلى نثر، ولا يجعل الخاطرة قصة، ولا المقالة رواية. وحين يكون من حق «المبدع» السارد و«الناقد» المنظر الدخول في معمار أي سمة فنية للتعديل أو التبديل بالقدر الذي يحفظ لهذه السمة مرتكزاتها، يكون من حق «الناقد» الحكمي التطبيقي، بوصفه رديفاً للمبدع، أن يتصدى لكل من أراد تحريف المصطلحات عن مواضعها، وأن يمسك بالمتسلقين محاريب الفن من المبتدئين الذين لا يحملون موهبة، ولا يتقنون لغة، ولا يتوفرون على ثقافة، ولا يستحون من ممارسة الرذيلة وتحويلها إلى نص سردي، يفسد الذوائق والأخلاق. وحين لا يذود الناقد المتمكن عن حياض الفن الرفيع، تهدم أركانه، ويستباح حماه. وفنون القول لا يعددها إلا تعدد سماتها، واحتفاظ كل نوع بسمته. ومن خطل الحداثيين القول بمصطلح «الكتابة» ليكون فن القول مجموعاً بهذا المصطلح. ويكون من حق المتسلق أن يخلط بين الفنون، كما يخلط المبتدئ بين البحور الشعرية، ثم لا يرضيه إلا أن يكون الشاعر والقاص والروائي والمسرحي، موجباً على النقاد أن يجعلوه المجلي في كل فنون القول، وإن لم يفعلوا أحال اعتراضهم لكبت الحرية، وغمط الحق، وممارسة الوصاية وسلطة المؤسسة، والقصاص والروائيون ليسوا بذي شوكة بحيث نتألف قلوبهم، وواجبهم سماع الرأي، وواجبنا مواجهتهم حتى يفيئوا لأمر الفن واللغة والقيم.
والمتعقب للإبداعات السردية يقف على انتهاكات فنية، وإخفاقات لغوية، وضحالة دلالية، وسقوط أخلاقي، وانحراف فكري، ومدارة ومداهنة، وكأن العابثين قِدِّيسون معصومون، وكأنه محرم علينا إرشادهم. حتى لقد ادعى بعض المتطاولين على الفن الموهبة الروائية والقصصية والشعرية، و لم يقدم لإثبات هذه الدعاوى العريقة إلا كلاماً سوقياً، لا يحمل أي سمة من سمات الإبداع الروائي أو القصصي أو الشعري. ولقد وقفت على مؤلفات تشبه الموسوعات، تتداخل مع كتب التاريخ، وتأخذ من كل فن بطرف، بحيث لا يدلك على نوعها إلا ما كتب على أغلفتها. ولو أن ذكياً نزع الغلاف، وطمس اسم الكتاب، وقدمها إلى قارئ عادي، لما عرف لهذا الجمع أصلاً معرفياً، ولما أعاره أدنى اهتمام، ولكن الأسماء الملمَّعة، والمذهبية المعْمِية، والشللية المصمة، غمرت المشاهد، وحالت دون أعمال متميزة: فنياً ودلالياً ولغوياً. ولو رضينا بما يتبادله أولئك من أنخاب الثناء، وأعطينا المدعين بدعواهم، لما كان شعر ولا رواية ولا قصة. وذلك بعض ما تعاني منه مشاهد الأدب، وما على المرتاب إلا أن تمتد يده إلى فيوض الإصدارات، ليقف على مقترفات لا تغتفر، ولسنا بدعاً من الأمم، فالروائيون والقصاص ومن ورائهم النقاد المواطئون على الخطايا، يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، وهذا أشهر الروائيين المعاصرين أوجوستوفورنتيرو/ ت2003» كتب سطراً أو بعض سطر، مدعياً أنه أقصر قصة. وهذا نصها: «.. وعندما استيقظ كان الديناصور ما يزال هناك» ولقد تقبلها النقاد بقبول حسن. ومن مبتدئينا من كتب السطور الثلاثة، وسماها قصة، ووجد من يداهنه. وإذ نعرف عمق الاختلاف المشروع حول «شكل الرواية» وحول مفهوم «السرد» فإننا لا نأخذ بالصرامة والحدية والقطعية، ولكننا نفسح المجال لكل التصورات المنضبطة. ولقد تقصى الاختلاف حول «الشكل» و«مفهوم السرد» دارسان في كتابين التزما فيهما المنهجية والموضوعية، هما كتاب: «بنية الشكل الروائي» تأليف حسن بحراوي، وكتاب «السرد في الرواية المعاصرة» تأليف د. عبدالرحيم الكردي، بحيث استوفيا كل الاحتمالات. واستفحال التناقض بين المفاهيم والتصورات، يحدو بالباحث عن المعلومة، توخي الحق، وعدم البحث عن الرخص أو العزائم وحدها. وما لا نريده، انفلات العقد في صرعة التجريب، وتبرم المبتدئين ورفضهم السلطة باسم التسلط. وإذ تكون المختبرات العلمية تُسِرُّ فعلها التجريبي، ولا تبدي به، حتى يُعتمد من ذوي الخبرة والاختصاص، فإن على التجريبيين في الفن ألا يتخذوا تجريبهم قضية مسلمة، وعملاً لا معقب له، ما لم تتفحصه المؤسسات، ويختبره النقاد، وتقبله المشاهد.
ولما كانت الإشكالية المتولدة عن تعدد المفاهيم، قد دفعت بأطراف القضية إلى الإيغال في الانقطاع المضاعف: انقطاع بين المبدع والمتلقي، وانقطاع بين المبدع والفن بشروطه وجذوره، وانقطاع بين المبدع والناقد من جهة، وسائر القيم الحضارية من جهة أخرى، فإننا والحالة تلك سنتقصى الطرائق التي تكفل أدنى حدٍ من التواصل، ولا تقع في الخطابية والمباشرة والتسطح. وليس أضر على أمة الفن من التلاحي في غياب الاستيعاب للطارف والتليد، وذهاب كل مخاصم بمفهومه للحدود والآفاق. وأين منا من يرى «التجلي» وصمة إخفاق و«الخفاء» سمة تألق، ثم لا يكون تحديد للقدر المطلوب منهما؟ وأين منا من ينتمي لحضارته، ولا يرى المزايدة حول ثوابتها ومحققاتها في الأنفس والآفاق، ثم يخالف ما هو معلوم منها بالضرورة؟ وإذا قيل له: اتق الله. أحال إلى التسلط والوصاية والمزايدة. وتلاحق التخليات، أدت إلى تباعد الشقة بين أمهر المتلقين وأبرع المبدعين.. وبالخفاء المتعمد والمتكلف تعطلت لغة الكلام، وقامت مقامها معميات ومبهمات باسم الغموض والانزياح والرمز والأسطورة والإشارة والقناع ، وما شيء منها جاء على أصوله وضوابطه، وإن كانت حدة الانقطاع ماثلة في الشعر الحداثي، كما هي عند «أنسي الحاج» وأضرابه، فقد تستشري في السرديات، إن لم يتدارك النقاد الأمر، ويثبتوا أفئدة الناشئة التي عصف بها الاستدراج. وإذ نكون مع الرمز والأسطورة والعدول والقناع فإن الكينونة مشروطة بمعقولية ذلك كله ومشروعيته. وإذ تكون السرديات الإبداعية غير «الشعرية» في قصدية الجمال والانفعال، يكون النص السردي أقرب إلى «الأدبية»، فيما يكون النص الشعري أقرب إلى «الشعرية»، ولقد حاول البعض الإيغال في الأدبية السردية، لتناهز الشعرية، وتلمسها النقاد في بعض الإبداعات المتميزة، نجد ذلك عند «بشير القمري» في كتابه «شعرية النص الروائي» وعند «سامي سويدان» في كتابه «في دلالة النص وشعرية السرد».
وتلك الرؤى والتصورات تجعلنا أمام مستويات قولية:
القول العادي المهتم بمجرد التوصيل القطعي الدلالة، دونما جمال أو إمتاع أو ضابط فني، ويشمل: كلام العامة فيما بينهم، والقول العلمي الحامل لرسالة معرفية، مثل كلام الفقهاء والمؤرخين، ومن في مستواهم.
والقول الأدبي الذي يحمل هم الإمتاع والاستمالة والإقناع، ويتطلب توفر «أدبية» السرد و«شعرية» النظم، وهما سبيل المحفزات الفنية.
وعلى ضوء ما سبق فإن هناك «الشعرية» و«الأدبية» و«القولية» والإبداعات السردية تحتل الوسطية، فليست «شعرية»، وليست «قولية»، وإنما هي «أدبية»، والتخلي عن الأدبية بحجة الواقعية اللغوية رجوع إلى الوراء، وخروج من دائرة الفن.
وهنا نتساءل عن امكانية جعل النص نصاً أدبياً، ومتى يكون المرسل قادراً بالعفوية لا بالتعمل على إنتاج نص أدبي، يتميز عن سائر النصوص المعرفية؟ ولتجلية الامكانية الإبداعية، نحتاج إلى تقصي «مفهوم الأدبية» في التراث والمعاصرة، لنعرف أي الحزبين بلغ في التمييز بين سائر الأنواع القولية: المنضبطون أم المتفلتون الذين لم يصبروا على لأواء الفن ومتطلبات الإبداع. وفوق كل هذا: هل من واجبنا الإذعان لكل قول، والقبول بما يضفيه عليه المواطئون من صفات، دون الاحتكام إلى ضوابط الفن، ونظام اللغة، وموازين القيم؟.
وهل ممارسة هذا الحق المشروع يعد وصاية تقمع الحريات، وتسلب الحقوق؟ لقد ظهرت نغمة الوصاية والمزايدة والتحكمية، كاتهام لمن يحاول التصدي للترديات اللغوية والفنية والدلالية. وهي إطلاقات تخلصية تملصية، فالنقد حق مشروع للمتلقي: انطباعياً كان أو ذوقياً أو معرفياً، فنياً أو لغوياً أو دلالياً. والقائلون ب«الشعرية» و«الأدبية» يعرفون شرطهما المستخرج من النماذج المتطاولة مع الزمن، والمتداولة بين النقاد، والمصار إليها بالعفوية، دون تكلف أو تعمل.
ومثلما عرف «العصفور» كيف يبني عشاً في الشجر، عرف الشاعر كيف يبني قصيدته، وعرف السارد كيف يبني روايته أو قصته أو أقصوصته. وإذ لا نجد القول الفصل في نشأة اللغة، لا نجده عن نشأة الشعر على هذه الشاكلة، وبتلك الصفة. والحالة تمتد إلى الإبداع السردي. لقد فرق المتلقي بين القاص، والعالم، والمؤرخ، والفقيه، والواعظ، وعرف المذكرين والقصاص. فمن الذي علمهم ذلك؟إنها: الفطر، والمواهب، والأعراف. ولا عبرة بتعدد التقنيات السردية، ولا بالأنماط المختلفة، حتى بين أعمال الكاتب الواحد. وتمسكنا بضوابط التحول والثبات، لا يحيل رؤيتنا إلى لزوم نمط واحد، وتقنية واحدة، فالمسألة ليست عملة ورقية، لا تختلف إلا بالرقم، إننا نتصور الشعر والرواية والقصة على الرغم من التحول المستمر. ولا أتصور اجتماع طائفة من الناس للتواضع على مفهوم «الشعرية» أو «السردية»، وإذ تكون اللغة في نظري تعليماً وإلهاماً، تكون «الشاعرية» و«السردية» وسائرمفردات الفن إلهاماً وموهبة، ينميها الصقل، وتثريها الثقافة، وتفجرها المواقف. وإذ لا يقدر أحد على الإحالة إلى المواضعة، تكون المسألة الإبداعية إنتاج موهبةٍ كالغريزة. والقائلون ب«الأدبية» يعرفون شرطها، والعابثون الذين يتحللون من الشرط، يلغون «الشعرية» و«الأدبية» ولا يأتون ببديل يتوفر على قدر كاف لتحقيقهما على أي شكل، وإذا أسقطت دعوى الإصلاح عندهم لاذوا بمقتضيات الحرية، وحق التعبير، ووصفوا المتصدي لهم بالوصي والمرشد والمزايد والأصولي. ولقد يبلغ بهم التخلي عن الحضارة حداً يكونون فيه غربيين أكثر من الغرب، و«فرانكفونيين» مأجورين. وهذا الاستخذا للآخر، والتنمر على الأهل والعشيرة، يفوت على المشاهد كل فرص العلاج لهذه الترديات. و«الشعرية» و«الأدبية» من الثوابت التي لا يمكن القبول بالتخلي عنهما، تحت أي مبرر.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:35 PM

مفهوم «الحق والحرية» في السرديات بين: الإفراط والتفريط! «الحلقة الأخيرة»
د. حسن بن فهد الهويمل


والذين يحيلون الخلاف فيما بيننا وبينهم إلى جدلية التجديد والتقليد، أو المعاصرة والمحافظة يفتقدون المصداقية، فنحن دعاة التجديد، وكيف يتأتى التجديد من مثلهم، وهم ينسفون الثوابت، ويقلدون الآخرين؟ والسمة ضابط ثبوتي لمسمى لها ما يحقق انضباطيتها، ولن تتحقق الهوية دون حد أدنى من السمات والشروط التي يحيل إليها المختصمون، وحين لا تكون سمة ولا شرطاً، فإلى أي شيء يكون الرد؟ وحين يصر المتحدثنون وأعني بهم المتذيلين لا المبدئيين المبادرين على دعواهم الكاذبة بقيامهما في القوليات، تختلط الأمور، ثم لا يكون درجات ولا دركات. وإذ يقولون بمطلق «الحق» و«الحرية» فمقتضى ذلك ألا يستقيما مع شرط سابق يخل بالمطلقية. وهذا الدرك الذي بلغوه في النثرية وللاأخلاقية ناتج طبعي لهذه الدعاوي، واقرؤوا إن شئتم «الخبز الحافي» لشكري و«الوليمة» لحيدر، وما أحدثته الأخيرة من تصدع مخيف في المشهد الفكري والأخلاقي، ومن الناس من يرى ان التصدي لمثلهما يفقد الحرية والحق. ومثلما تردى الشعريون في النثرية والسرديون في العبثية المضاعفة، وقعوا في الانقطاع بكل أنواعه: انقطاع المرجعية، وانقطاع التواصلية، ونشأ من جراء الانقطاعين خلل في اللغة، وخلل في القيم المعرفية والأخلاقية، فجاء التغامض المتكلف لا الغموض الطبيعي، وتسربت العامية الاقليمية، واستشرى الانحراف الفكري، وشاع الفحش القولي، واحتج كل قبيل بحق التعبير وحرية التفكير، وعولوا على ظواهر سلوكية، ركن إليها الغربيون، حيث اتخذوا «أدب الاعتراف» حجة ومحجة، وما عرفوا ان كل مقترف معافى إلا المجاهرون، وان المبتلى بالقاذورات من واجبه الاستتار. وإذا قيل لهم عن «الاستتار» و«العفو» قالوا: إنما نحن رواة أحداث، وحكاؤون لوقائع، وما فعلنا ذلك إلا لقصد الحبك الفني. وقد يكون لأكثرهم بعض المسوغ، متى عرفوا حدود الحق، ومقداره، ومجال الحرية ومداها، ومتى جاء بالجنح دون تفحش، ليصرعها الحق، وينقيها الطهر، وتنتصر عليها الفضيلة، وما قصة يوسف وامرأة العزيز إلا من هذا النوع المعول عليه، دون فهم للمقاصد وحدود التناول. ولقد ارتكس من ارتكس عن جهل أو عن بينة، وحل ما يسمى بالحرية الجنسية، وتهافتت على هذه المثيرات المغريات طائفة من المبدعين، نجد ذلك عند «غادة السمان» التي تربت في بيت علم وأدب وتصوف، ثم تمردت عليه، لقد قالت عن ردة فعلها على ما أسمته بالكبت وسلب الحرية: «فهذه التربية القاسية منعتني من لقاء شباب مراهق مثلي دفع بي ببساطة إلى استدعائه للبيت ليلاً بعد ان ينام الجميع دون ان يرف لي جفن ولكن المسكين كان يرتعد خوفاً وفقد كل حرارته فعفوت عنه وسمحت له بالهرب» هذا الاعتراف معدود من الحرية، والحق انه من العهر والتهتك، اللذين أفسدا الفن، وهدما الأخلاق، ومعهما لا يسع ناقداً ينتمي لحضارة تمثل الشرعة والمنهاج ان يغمض فيه، ولا ان ينخدع لمفهوم الحق والحرية على الطريقة الحداثية أو الوجودية.
ولما كانت الأعمال السردية داخلة في الاتصال اللغوي، فإن على المبدع والناقد ان ينظرا في ترسيمات الاتصال، كما هي عند مشاهير اللغويين المعاصرين.. ولنا ان نعوِّل على «ياكبسون» بوصفه الحكم العدل عند الحداثيين. فلقد حصر عناصر الاتصال في «المرسل، والمتلقي، والرسالة، والسياق، والشفرة، والصلة» وهذه العناصر الستة في المجال السردي تجعل «الرواية» و«القصة» أو «السيرة الذاتية» أو «أدب الرحلة» رسالة من سارد، يرسلها إلى مسرود له، يقرأ السرد أو يسمعه، و«شفرتها» اللغة التي لا تطاوع الطرفين، حتى يتقنا نظامها النحوي والصرفي، وحين يحسن المبدع استعمالها استعمالاً أدبياً يعتمد الانزياح والجرس والايقاع والايجاز والمجاز والايحاء والتمنع والاحتمال الدلالي، ولا يكتفي بالتوصيل المباشر دون أي محفزات، و«صلة» الرسالة الكلامية هي الرسم الإملائي، و«سياقها» الثقافة والأوضاع والأعراف المشتركة بين طرفي: الارسال والتلقي، ولأن لكل عنصر مكوناته، ولكل مكون سماته، فإن «الحق» و«الحرية» إزاء التصرف بالعنصر ومكوناته مقيدان بما يحقق ما هية العنصر، وليس لأحد ان يتصور العنصر دون ضابط، ولن تتأتى الحرية المطلقة مع الضابط، والسياق بوصفه الأهم ، يكون: عاماً أو خاصاً، خارجياً أو داخلياً، فالخارجي يرتبط بالمكونات، والداخلي يرتبط بالتكوين، وبمعنى أدق: الظروف التي ترسم النص، والنص الذي يرسم الأحوال، فالنص له راسم ومرسوم كما الدال والمدلول. وراسم النص ليس هو المبدع مفصولاً عن المكونات والمؤثرات.. ومصطلح «التناص» يؤكد انه ليس هناك نص بريء، وليس كل تأثير خفي من السرقة أو الاسترفاد المخل بالعملية الإبداعية، فالمبدع في النهاية وصي، جسَّد الأثر، وتجسُّدُ الأثر يضاعف السياق، بحيث يكون للنص مرجعيتان سياقيتان: سياق خارجي، يعني النسق الثقافي، وسياق داخلي، يعني النسق اللغوي، والمبدع والناقد حين يجهلان الانساق والسياقات، ولا يقيمان لهما وزنا، تضطرب عمليات الأداء والاتصال، وذلك ما نعايشه في مشاهدنا باسم «حرية القول» و«حق التعبير»، والمتمردون على الضوابط والأنظمة والقيم يصفون من يأطرون عليها بالأوصياء وبالسلطويين، ويفتعلون الأنفة ليحموا أنفسهم من مباضع النقد، الساعي لاحقاق الفن، بكل ما له من جلال وجمال.
ومثلما نازع الثوريون السلطة، نازع الحداثيون الضوابط والأنظمة والقيم والحضارات، ومن هذا التمرد غير الراشد وقعت الشعوب في حمامات الدم، ووقع الفن في وحل التسيب، فالذين اتخذوا العامية لغة للنص أخَلَّوا بعنصرين: عنصر اللغة، وعنصر السياق في جزئه الداخلي. والذين استمرءوا الفجور والتهتك والفحش دونما حياء أخلُّوا بعنصر السياق في جزئه الخارجي، ومثلهم الذين اتخذوا «الايديولوجيات» و«الأنساق الثقافية» المغايرة لأفكار حضارتهم وأنساقها، والذين رضوا بأن يطلقوا على ما يقولون سمة فنية ك«الرواية» أو «القصة» ولم يترددوا في مناقضة المقتضيات، كل أولئك خارجون عن مفاهيم «الحق» و«الحرية»، ولا يعد ما يأتون من باب التجديد، ولا يكون الاعتراض عليهم والأخذ على أيديهم وثنيهم عن غوايتهم من باب الوصاية والمزايدة.
وكيف يكون شيء من ذلك والناس كافة تمارس أداءها وفق عقد اجتماعي ملزم سواء كتب أو عرف؟ ومن لا يختار الالتزام بمحققات حضارته التي يدين بها ويدين له، وجب الزامه، فمن رضي بها لزمه تمثلها، والتخلي عن مقتضيات العقد فوضى، ترجع بالأمة إلى الخلف، ولأن النص الإبداعي لغة فإن المبدع لا يكون متألقاً ما لم يمتلك ناصية اللغة، وما لم تكن اللغة معه طائعة انسيابية، يشكلها كما يشكل الرسام صوره بالألوان، وكما يشكل النحات أشكاله بالأدوات، وكما يصوغ الموسيقي ألحانه بالأنامل والآلات فإنه يعيق الحركة الإبداعية، ويشكل عبئاً ثقيلاً وعقبة معوقة، والسرد كالشعر صعب وطويل سلمه، ومن استخف به فإنما يستخف بنفسه، ولسنا فيما نتطلع إليه معارضين ولا معترضين على التجديد، ولا على التفاعل والتبادل مع الآخر، ولكن البون شاسع بين ما نقول وما يفعله المتهافتون على منجز الآخر.
ومع ان أماني المفكرين في حضارة عالمية تتفادى الصدام أماني رومانسية، وليست واقعية، وما يفعله البعض لا يعد من التقارب وإنما هو انسلاخ وانمساخ وتمييع لكل ضابط وَحَدٌّ، والذين يعطون التنازلات يلغون حضارتهم، ويؤصلون لحضارة الغير، وقد تكون المدنية الغربية قد فعلت فعلها بالترويض للهيمنة الحضارية، وإذ تكون اللغة وعاء الحضارة ومنطلقها، فقد قرضت من كل جانب، وإذا لم يستطع المتأمركون والمتفرنسون إحلال لغة حضارة أخرى مكانها فلا أقل من ان تنازعها العامية لتدخل الأمة مرحلة الازدواجية، وما العامية إلا أولى خطوات الانقطاع الفكري مع التراث، وأهم مرتكزات «الرسالة» اللغة، فهي الوسيلة الأهم، والرسالة بوصفها عملاً سردياً تحيل إلى وسيلة الأداء، وكل وسيلة لها توصيفها ونظامها، والرسالة قبل ان تتلبس بوسيلة الأداء تمتلك توصيفها ونظامها، وهنا فنحن أمام مواصفات: «الرسالة» و«الوسيلة» وليس لكائن من كان ان يعول على «الحق المطلق» أو «الحرية المطلقة» ليحمل الرسالة أو الوسيلة على مناقشة السمة المميزة لها، وهل أحد يقبل الحاق عالم الحيوان بعالم الإنسان، أو ان يخلط العذب الفرات بالملح الأجاج؟ وهل أحد يستطيع ان يحلّ حرفاً مكان حرف في المعنى الوضعي أو في الدلالة الصوتية؟ والمجازيون أقاموا علاقة عند مصائرهم الاستعارية أو التشبيهية أو المجازية المرسلة، ولا يمكن ان تكون الاستعارة أو التشبيه اعتباطيين، ولو أن أحداً من المبدعين لم يضع أي قيمة للعلاقة أو لوجه الشبه كان قولاً هذراً لا قيمة له، مع انه مارس في هذه الاعتباطية حرية القول وحق التعبير المطلقين، وفي ظل هذه التحفظات التي قد تحيل إلى الوضوح والمباشرة، أو قد يفهمها البعض فهماً آخر، فإننا نعرف «الرمز» و«الاسطورة» وحدود «التجلي» و«الخفاء» المشروعين، وليس هناك مبدع حقيقي، ولا إبداع حقيقي بتلك الصفة إلا وهو على شيء من الانزياح اللغوي الذي ينقل اللغة من الاستعمال العادي إلى الاستعمال المتميز، بكل ما يتطلبه النص من جمال وجلال، وفي الذكر الحكيم جاء الاستهلال بالحروف المقطعة، ثم أشار بعدها إلى «الكتاب» فكأن في ذلك على رأي بعض المفسرين إشارة تحدٍّ وتنبيه إلى ان مادة القرآن من تلك الحروف، التي يستعملها الناس في أحاديثهم العادية، ولكن النظم شيء آخر يختلف عن استعمال البشر، فاللغة هي اللغة، ولكن النظم يختلف، وهكذا يجب ان يكون الإبداع البشري، استعمال اللغة، ولكن بطرائق لا يبلغها إلا المبدعون، ولما كانت السرديات بوصفها رسالة صامتة تحمل شكلها وشفراتها إلى من تفترض فيه القدرة على فهم المعنى المقصود بفك الشفرة، كان على المبدع مراعاة أمرين:
الأول: ألا تناقض الشفرة دلالتها المصطلح عليها.
الثاني: ألا تناقش الرسالة شكلها المعتبر والمميز لها، والتشفير حين يناقض المعهود بين طرفي الرسالة: المرسل والمتلقي، تفقد الرسالة مهمتها الرئيسية، ولا تكون شيئاً ذا قيمة، بمعنى انها تفقد القيمتين: الشكلية والدلالية، وكل ما نسوق من تحفظات واحتراسات تحفظات لا تمنع التجديد ولا التعصرن، ولكنها تحفظات واحتراسات تمكن من اكتشاف الفرق: بين التجديد والتخريب، والحرية والفوضوية، والحق والتسلط، وتكشف عن ذوي المواهب والتجارب والثقافات، ومن يندس معهم من الأدعياء والمتقولين على الفن والمواطئين لهم، والاحالة إلى حرية القول وحق التعبير بلغ بالإبداع حد الانفلات والطلسمة، بحيث لا يعرف الغادي الذي هو رائح، والذين اهتاجوا مما نقول، يحسبون كل صيحة عليهم، والمتعقب للغطهم، يدرك ما يعانونه من ريبة في صدورهم.
ومثلما أوغل البعض في الانقطاع السياقي مما انطمست معه معالم الفن، أوغلت طائفة من الحداثيين في الانقطاع اللغوي، واتخذوا الانغلاق والإحالة سمة مميزة، وساقوا تراكيب وعبارات ليست مفهومة، وليست مقبولة، وتلاحقُ هذه التراكيب والعبارات واغراقها في المغايرة ينسف جسور التواصل، ولقد خلفت «السريالية» و«الوجودية» عبثية وغثائية أوغل فيها الحداثيون، فكانوا إلى العبثية أقرب منهم إلى الانضباطية، والعبث بالقيم الفنية لا يكون تجديداً، والعبث بالقيم الأخلاقية لا يكون من الحضارة ولا من التمدن، و«الحق» لا يغمطه الأطر على الجادة، بل لا يتحقق إلا بالأطر، ومن تصور الأشياء على غير مفاهيمها، واحتج بحرية التعبير وحرية التفكير وقع في الشبُهات، والنقاد كالقضاة في فض المنازعات وكالرواد في البحث عن الطريق القاصد والمرتع والمخصب الآمن، فإذا جار القاضي، وكذب الرائد، حلت الفوضى، واستفحلت الغثائيات، وذلك ما نشاهده ونعايشه، ومجمل القول ان السرديات كلام من الكلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح، ولأنه صنو الشعر وشقه فإن مبدعها كمبدع الشعر، يحتاج ما يحتاجه الشعر من موهبة تولد مع الشاعر، ومن دربة تواكب حياته، ومن ثقافة تنمو بنمو مداركه وحاجاته، ومن موقف مثير، وناقد خبير متيقظ، يسدد ذويه، ويحمي ساقه الفن ومقدمته من ان يلحق به من ليس من أهله، والمتضاوون من قولنا، يخشون كشف عوارهم.
ثم إن السرديات رسالة مقروءة، وحين تكون كذلك، فإنه يجب ان تستكمل شروط المكونات والوسائل، ولما كان القارئ يريد من قراءته إثراء معارفه، وتوسيع ثقافته، وتهذيب اخلاقه ولسانه، وامتاع نفسه، كان على السارد ان يتوفر على ذلك، ففاقد الشيء لا يعطيه، وعلى القارئ ألا يفرط بجهده وماله ووقته في قراءة لا تزيده إلا جهلاً، وعلى الناقد الحكيم ان يكون أميناً صادقاً في نهوضه بدور الوسيط والمقوم والشارح والمتذوق والمنقب عن المضمرات، ولن تبلغ السرديات تمامها حتى يكون الثلاثة: المبدع، والمتلقي، والوسيط، على وعي تام بما يجب ان يكون، ومن قعدت به موهبته أو ثقافته أو موقفه ان يعرف قدر نفسه، وألا يقتحم مدارج الفن ليعيق الباحثين عن القيم الفنية والمعرفية والأخلاقية واللغوية، والذين يبطئ بهم تفريطهم باللغة الفصيحة والفن الرفيع والخلق الحسن لا يسرع بهم افراطهم بالتمسك الحرفي بكل ما سبق، ولن تؤتى مملكة الفن الرفيع إلا بالمفاهيم الخاطئة والتعويل على الفوضوية باسم الحرية والتقليد للغرب باسم التجديد والمجاهرة بالرذائل باسم أدب الاعتراف والوقوع في العامية باسم الواقعية اللغوية، ولتحقيق الإبداع الرفيع المثري للمعارف، المهذب للأخلاق، والمقيم للسان، لابد من تمرير المسائل، وتحديد المفاهيم، وحفظ التوازن، والصدع بالحق، والاعراض عن المجاملات والمداهنات، والمرور الكريم باللغو، وذلك ما نود ان نأخذ به أنفسنا ما استطعنا إليه سبيلاً.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:36 PM

تفكيك الوهم ووهم التفكيك:الخطاب الثوري أنموذجاً..! «1/2»
د. حسن بن فهد الهويمل


بين مفهوم «الدول النامية» و« الدول النائمة» فاصل وهمي، محكوم بلغة دبلوماسية مخاتلة. وذلك سر التعثر، وناموس الفشل، وداء الاحباط واليأس. ومع ما يعتري هذا العالم الثالثي، - وبخاصة العالم العربي، بوصفه ذروة سنامه - من تفرق في الكلمة، واختلاف في الانتماء، واستفحال في الريبة والخوف، واستشراء للوهن والحزن، فإنه يمشي في أرض السياسة مرحاً، دون أن يخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولا. ورغم ضعفه، وضعته، وقلة حيلته، وهوانه على الناس، تراه يعيش حالة من النرجسية، وجنون العظمة، والمغالطة، وممارسة التحدي والتصدي، دون استعداد للمواجهة، أو إعداد للقوة. وكل ضربة تلقيه على الأرض، تمحو ما علق بذاكرته عن مشاكله ومكائد أعدائه، الأمر الذي يحمله على نسيان المآسي، والخلط بين الأعداء والأصدقاء، وتصديق الأوهام، والتخبط في الظلام. وما قصة «أشعب» منه ببعيدة، فلقد كذب على من حوله بدعوى الوليمة، ولما انطلقوا الى الوجهة التي أشار اليها، خاف أن تكون الكذبة حقيقة، فلحق بهم. والعالم المتنرجس بكل عيلته المستكبرة، لا ينفك من حالة الوهم والتوهيم، بحيث لا يفرق بين المبادرة والاسترفاد، ولا بين الأخذ بيد صاغرة والافتراس، ولهذا تراه عندما يدّعى أحدٌ من ثورييه أو متعالميه مشروعاً، أو يعلن عن حزبٍ، أو يحدث نظاماً، أو يختلس ظاهرة، أو يقلد نظرية، أو يظاهر قضية، يستلحق نسبها، ويزعم ابتكارها، ويتحفز للمقايضة عن حق الامتياز، ويتهم الآخر بسرقة النظرية، ويفتش عما يمكن أن يرافع من خلاله عن حقوق الملكية الفكرية، ويخفي موتها، كما فعلت «شجرة الدر»، ويميت ما سواها، كما يفعل المبهورون بنظريات الآخر. وإذا أعوزت أحد هؤلاء العصامية، لاذ بالعظامية، وإذا أعياه قول: ها أنذا، قال: - كان أبي، ثم لا يتردد في مزاحمة الأقوياء بالمخلب الغض والجناح القصير والتصدي لمن إذا قال فعل، يعرض المهتاج الأعزل لضربات موجعة، ويضعه تحت طائلة المراقبة والتقزيم، وهو لا يلوي على شيء مما يتعنتر به. وليس من شك أن مثل هذه الأوهام والأحلام تحال الى جنون العظمة، واستفحال الهلوسة، وعشق الذات. وهي خصال بادية للعيان. فالخطاب الاعلامي يجعل من الصحراء المترمدة جنة تجري من تحتها الأنهار، ويجعل الفظَّ الغليظَ ليِّن الجانب مخفوض الجناح من الذل. وكل فارغ من القيم المعنوية والمعرفية والموقفية، يجنح الى الحرية الفوضوية والثورية الدموية، ثم لا يجد حرجاً من منازعة السلطة، وشق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، برؤية فجة، وقول ضعيف، ورأي مرجوح، وحجة واهية، ممعناً في سك المشاريع والاغراق في الادعاء العريض. يكون ذلك على مستوى المنظومة، وعلى مستوى أفرادها. فالأمة مجموعة أفراد يشكلون رؤيتها، والوادي المتدفق قطرات من المطر تتجمع ثم تتدافع، وهوس المشاريع عند الأفراد المتعالمين، تتناغم مع هوسها عند المؤسسات المتحكمة بمصائر الشعوب. ومثمنات العالم العربي وطاقاته استنزفها التجريب وأذهبت ريحها جرائر الايمان بالمبدأ أول النهار، والكفر به آخره. وكل نظرية يبادر بها الغرب، ثم ينبذها وراء ظهره، يتلقفها المنشَّؤون في الحلية باليمين، مدّعين أنها من بنات الأفكار، متحفزين للغيرة عليها، كما الغيرة على البنات الأبكار، فيما تبقى ثوابت الأمة كالأيتام على موائد اللئام. ومع ذلك لا يعدم أحدهم الغوغاء والفارغين، الذين ينفخونه حتى التورم والتوهم، منفضّين من حول المؤصلين المتحسسين عن الحق، ليكونوا غرباء، - وطوبى للغرباء -. ولمَ لا تكون الغربة؟ والرسول يأتي ومعه الرجل، ويأتي ومعه الرجلان، ويأتي وليس معه أحد. فيما يأتي عَبَدة الشيطان والفروج والبقر، ومن ورائهم سواد عظيم، وكم نتذكر البلابل، وهي تذاد عن دوحها، لتكون حلالاً للطير من كل جنس. وتزيين سيئ الأعمال لمقتحمي الصدارة الفكرية أو السياسية، تحجب الرؤية، وتعمق المحنة والابتلاء، وما أُتيت الأمة إلا من هذه النخب التي تمارس تفكيك الأوهام على أنها حقائق، وحين تنهض النخبة بمهمة التوسط بين السلطة والأمة أو بين المرسل والمتلقي تعيش حالة من الوهم، مشكلة ظواهر صوتية فارغة من أي معنى.
والظواهر الصوتية على مستوى الساسة والأدباء والمفكرين والمبدعين إفراز طَبَعي لهذه الأجواء الموبوءة بالدجل والادعاء، وحكم الفرد المتغلب المستبد، وتحكم المستعمر بمؤسساته ومساعداته ولعبه وعملائه. ولا يندُّ عن ذلك إلا من يبعثه الله على رأس كل مئة سنة، ليجدد للأمة أمر دينها، ولم تفقد الأمة مثل ذلك، تحقيقاً لوعد الرسول بالطائفة المنصورة. وأدواء الدول الصوتية كثيرة متناسلة، وكأنها زعيمة بحفظ النوع المكتوب عليه التخلف. ولو استمع المسكون بهم أمته، المتألم من تردياتها الى لحن الخطابات المتوارثة، لاستبان النمطية، والتناظر، وعدم التفكير بما تراكم من مشاكل واحباطات، وكل ما تجود به خطاباتها التلميع والتمييع والتحريف والتزييف. وكأنه محرم على هذه الأمة من المحيط الى الخليج مساءلة الذات عَمّا بدر منها. ولن يستقيم أمرها ما لم تراجع نفسها، وتحاكم فعلها، وتقوِّم منجزها، وتمتلك الجرأة والشجاعة على مواجهة الذات بكل ما هي عليه من مقترفات بحق الأهل، أو بحق الغير، ثم لا تجد غضاضة من المراجعة والنقد. ومن تأبى على الشرعة والمنهاج وفق ما تمليه عقيدة الأمة وتستهلُّ به دساتيرها، متجاوزاً حدود ما أبيح له، كره الناس انبعاثه، وانفضُّوا من حوله، ووكله الله الى حبال الناس المتهافتين على إمداده، بمقدار، وبثمن باهظ من كرامته وحريته. ومتى آلت الأحوال الى هذا المستوى، تفرقت به السبل، وضل الطريق القاصد، وتخطفه شرار الخلق، ليكون اللاعب الغبي، مزلقاً أمته في مهاوي المكائد. ولو نظر المتابع الى ما مرت به الأمة من أحلاف وأحزاب وطوائف ومبادىء، وما اعتراها من ضعف، وما اقترفه أبناؤها من تعديات على بيضتها، لعرف أن الضياع هو الرهان الوحيد. والأمة العربية مرت بفترات متفاوتة في أنماطها السياسية، وتقلباتها: الحزبية والطائفية والقومية والقطرية والدستورية، وفي تجريبها المتسطح، ولما تزل تجتر مآسيها، ثم لا تجد من يقيل عثرتها، وإذ يكون العاقل من وعظ بغيره، فانها لم توعظ بنفسها، على الرغم من النكسات الموجعة على كل الصعد، وعبر كل الفترات، ومن ثم تلاحقت نكباتها، وتضاعفت مصائبها، واضطربت في مشاريعها: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وتعارضت مصالحها، وتنوعت ألوان كتبها من «أخضر» الى «أبيض» الى «أحمر» الى «رمادي»، وكل زعيم يذهب في ادعاءاته العريضة، متألهاً بأوهامه، ومن ورائه بطائن سوء، تقلب له الأمور، وتزين له سوء الأعمال، وتحول بينه وبين المحب الناصح. وهذا الاستبطان، ينسيه ما يكتبه التاريخ، ويشغله عن التفكير بلحظة العودة الى بارئه، كما خلقه أول مرة، تاركاً ما خوّله وراء ظهره. وما من خطاب عاطفي أهوج، ارتفعت نبرته في تجريم سلفه، وتخوينه، إلا وهو وثيق الصلة بذات الخطاب المجبول على التخوين، والتخوين المضاد. والناس مرتهنون بين قادم على مطايا السلاح الذي اقتطع ثمنه من خبز الفقراء، ليكون عدواً وحزناً، يخيف به الآمنين، وهالك تكشف وعده عن غرور. ومع حدة الخطاب وصلفه، تظل الأمة بانحدار، مرتكسة في وحل الضعف، والتمزق، والافتقار الى أدنى حد من الامكانيات اللائقة بانسانية الانسان. وما تتعرض له الأمة اليوم من تدخل سافر، وقتل متوحش، وهدم متعمد لكل الامكانيات وخضد للشوكة، وإذلال للكبرياء، وحرق للأرض، وكسر للعظم، إنما هو ناتج طبعي لهذه الترديات. ولو أخذ المتألمون قضايا أمتهم من خلال سياقاتها، لما استنكروا تلك المآلات الموجعة. فالوضع العربي لا يمكن ان يتمخض إلا عما هو قائم من قهر واضطهاد. والقوي المتغطرس المتمرد على الشرعية الدولية يبحث عن الغنائم الباردة، وعن الشعوب المتخلية عن ثغورها، العاجزة عن افراز أنظمة ملائمة لمتطلبات عصرها.
وبامكان الأمة لو صدقت مع نفسها أن تقلب المعادلة، بحيث ترتد الى الداخل لتصنع الانسان، وتستغل الخيرات، وتصون المقدرات، وتفعل المؤسسات، وتحترم عمقها التاريخي والفكري، وكيف لها أن تفعل هذا والثورات المتلاحقة تتعمد طمس التاريخ الحديث، واستئناف تاريخ جديد يبدأ بعيد الثورة، ويعتمد على الخطابات الاقليمية القائمة على التخوين للسلف، في سبيل تزكية الخلف. والناس في ترقب خائف من احتقان يهدد بالانفجار عن ثوري، يمسح الذاكرة، ويمحو التاريخ، ليثبت ذاته بوصفه الأول والآخر، معيداًنغمة الادعاء، والاشكالية ان الناس ينطلقون في مواقفهم ثباتاً لا مجتمعين، يختلفون حول الحقائق التي لا تحتاج الى دليل، ويحتربون حول أتفه الأسباب، وكلما تطابقت المصالح تبودلت أنخاب الثناء وعبارات التزكية، ومتى اختلفت تفجرت النقائض، دون مقدمات أو مبررات، والذاكرة العربية «سبورة» مدرسية، لا تنفك من المحي والاثبات، ولا أحد يخجل مما قاله بالأمس، وذلك مؤشر امتهان للانسان العربي من ذويه، والشارع العربي خير مثال على غياب الوعي، تراه يهتاج ضد الشيء ونقيضه، عبر حركة غوغائية غير محكومة، مما يتيح للعابثين بمقدرات الأمة فرصة ذهبية، تمكنهم من ضرب بعضهم ببعض. ولو صدق المؤتمرون في القمم، وفيما دونها، مع أنفسهم، ومع من يلون أمرهم، ولم تأخذهم بالحق لومة لائم، وقالوا للمسيء أسأت، وللمحسن أحسنت، لعرف كل متصرف انه سينظر الى نفسه في مرايا الآخرين، ومتى عرف ذلك، أخذ حذره، واستعمل نفسه في سبيل الحق. وذهاب ريح الأمة يكمن في المداراة، والمجاملات، والتردد في المواجهات، والاشتغال في الأوهام. فكل زعيم فرضت زعامته شرعيةُ حكمه ومشروعية فعله، ومتزعمٍ انتزع الزعامة بالحديد والنار، يلتقيان على قدم المساواة، في اللقاءات، والمؤتمرات، وعلى ضوء «البروتوكولات» وقد يكون المتسلط أقوى صوتاً وأكثر هيبة واحتراما. وسنظل في خبال متى جاملنا أعداء الأمة من أبنائها، وحملنا العقلاء جرائر السفهاء، وأتحنا لمقترفي الجرائر مخادعتنا، يخطئون فنبرر، ويجرحون فنضمد، ويهدمون فنبني، ويكذبون فنصدق. ولن أطوف في مزبلة التاريخ الحديث، لآتي بالبراهين، فالواقع كالشمس في ضحاها، لا يحتاج الى دليل، وعلى المرتاب أن ينظر الى الحروب الاقليمية المجانية، التي أتت على الحرث والنسل، وامتدت لسنوات طوال، مخلفة ملايين القتلى وملايين المعوقين، ومدمرة البنية التحتية،ومعطلة مشاريع التنمية، ولو أن الآثار السلبية وقفت حيث المقترف لهان الأمر، ولكن الأمة العربية كالمستهمين على السفينة الواحدة، متى خرقها السفهاء، ثم لم يؤخذ على أيديهم غرقوا جميعاً. والشارع العربي مسكون بالوهم والغفلة، ولهذا تراه يتدفق كالطوفان ضد القرارات الجماعية، مجسداً الشيء ونقيضه، واقعاً في أتون الفتن، ولينظر المترددون الى قادة يسومون شعوبهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم، ويشردون كفاءاتهم، في سبيل لعب كونية خاضوها بكل مقدرات أمتهم، خلفت الذل والهوان، ولينظروا الى الاقتصاد وانهياراته، والى العملات وسقوطها، والى السكان ومصائرهم، بين المقابر والمشافي والسجون والمنافي، والى الأدمغة وهجرتها، والى الأموال وتهجيرها، ثم لينظروا الى التناحر الطائفي والقبلي، والى الخيفة التي يستنبطها كل من عنده أدنى احساس، واهتياج الشارع العربي يشرعن للتخلف والوهم. وكارثة الكوارث تكمن في نخب ثقافية وفكرية واعلامية تسبق العامة في الشرعنة للتخلف، وتمضي مع الأوهام، وتتاجر بمقدراتها في سوق النخاسة، تتخلل بألسنتها كما البقر، تزكي الخونة، وتساند الظلمة، وتزيف الوعي، وتشق عصا الطاعة، وتفرق وحدة الكلمة، وتفكك الجبهات الداخلية، وتستبق الأضواء، وتنتهز الفرص. والمتابع الحصيف يستبين ذلك، دونما عناء.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:37 PM

تفكيك الوهم ووهم التفكيك: الخطاب الثوري أنموذجاً..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل


ومما نتفق عليه ما ينتاب الأمة من الضعف، والوهن، والهوان، والإغراق في الوهم والتوهيم، وتفرق الكلمة، وتنوع الانتماء، وتعارض المصالح، وتعدد الأحلاف، واستفحال التخاذل. وحالة موجعة كتلك، تتطلب منا ألا نيأس، وألا نقنط من رحمة الله، وألا نمارس الإحباط، وجلد الذات، ولن يتحقق الإيمان الصحيح الصريح إلا بالخوف والرجاء، والأخذ بالأسباب، وعدم الركون إليها، فالتوكل المشروع يتطلب استكمال متطلبات المواجهة. ومصدر الوهن والهوان التباس (التوكل) ب(الاتكال)، فالاتكاليون يميتون إسلامهم، بانتظار الملائكة المردفين، والمتوكلون حقاً يُعِدون ما استطاعوا من قوة، ثم يستمدون النصر والتثبيت من الله (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى).
وما أكثر الناس ولو حرصت بقادرين على التخلص من النقائض والتكتم عليها. والشفافية وتشخيص الأدواء حين يروضان على الاستكانة، واستمراء الضعف، والاكتفاء بالإسقاط والتلاوم، ثم لا يحملان على إعادة النظر في المناهج والآليات المستخدمة في قراءة الواقع وتفكيكه، والوصول إلى أدق تفاصيله، يكون التكتم خيراً منهما، فالأصل فيهما تحفيز المعنيين على جس النبض، وسبر الأغوار، والوقوف على مكامن الداء، دونما محاباة أو مجاراة. فالداء العضال لا يحسمه كتمانه:-
(واحتمال الأذى ورؤية جانيه... غذاء تضوى به الأجسام).
وسوف أضرب صفحاً عن تقصي الشواهد، لأنها مطروحة في الطريق، يتعثر بها الناس، ويتجرعون مرارتها، دونما استساغة:-
(ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى.. عدواً له ما من صداقته بد).
وليس هناك ما يمنع من استدعاء بعض الظواهر المفشلة ك:(لعبة المفاضلة) بين مشروع ومشروع و(مأزق التصدير) لتلك المشاريع، والرهان على الأشخاص على حساب القضايا، مما هو ديدن الإعلام المضلل، و(المفاضلة) و(التصدير) و(التصنيم) من لوازم العالم الثالث، المصاب بداء الشرعنة لكل فعل، قصرت أخادعه من العملقة الحضارية. وقد أومأ أحد المسكونين بوباء الانهزام عن (شرعنة الفوات الحضاري). وكل مشروع سياسي أو ثقافي أو فكري يقدمه الإعلام المزيف للوعي، ثم لا يكون الرأي العام حفياً به، يرد بالمثمنات موارد الهلكة، وبئس الورد المورود، وقد يتعثر المشروع بظروفه المحيطة، بحيث لا يكون سيئاً بذاته، إذ ربما يكون مثالياً، ولكنه فوق الطاقة، بحيث يفقد صواب التوقيت والتقدير. وقد يطلقه الماكرون، ويتلقفه المغفلون. وكم تمر بنا مشاريع سلفية ناصعة، أو قومية جادة، أو وطنية صادقة، ويكون من ورائها صهاينة بالأصالة، أو متصهينون بالمواطأة، لا يريدون من الدعم والتمويل إلا الإيضاع في الفتنة، واجتثاث ما تجذر من المشاريع، واستمرأها الناس، ولقد فعلها المنافقون من قبل، حين بنوا مسجد الضرار، ليزاحموا به أول مسجد أسس على التقوى. والذين يتقحمون المشاهد برؤية فاضلة أو مفضولة، ثم لا يتحقق شيء مما يريدون إلا بتفرق الكلمة، والتخلي عما عليه الجماعة، في زمن الغثائية وتداعي الأكلة، إنما هو جزء من الفتن، وكيف لا، والرسول قد استعدى الأمة على من يأتيها وأمرها جميع، وهو قد أخذ بالمفضول في إعادة قواعد البيت، احتراماً للرأي العام. والمتابع للغط المتعالمين وفيوض الإعلام يفزعه الطرح المحتدم والمثير والمبتسر في آن، مما ينذر بشر مستطير، وكم من مبادئ لا يتسرب إليها الشك، تتعثر بعامل المفارقة بين المثالية والواقع. ومثلما تسبق المبادئ زمنها، يسبق النوادر من الرجال زمنهم، بحيث يولدون في غير وقتهم، والمعذبون في الأرض أمام هذه المتناقضات هم العقلاء الذين يشقون في النعيم. والإشكالية التي أدت إلى ارتكاس عالمنا في الفتنة، ولم يفكر أولو الأمر في التخلص منها تعدد المشاريع، ومراكز القوى، ونزع الثقة من المرجعية الدينية، وفهم الحرية والحقوق على غير وجهها، والجدل العقيم حول مشروعية كل رأي وأهليته، والإيغال في تمجيد ذويها أو تجريمهم، حتى لكأنهم ملائكة أطهار أو مردة أشرار. والتحبس في ثنائية: الشيطنة أو الملائكية، والضلوع المدان في عملية التصدير للمبادئ والأحزاب عبر ترسانة البلاغة، أو ترسانة السلاح، فوت على الأمة فرصاً كثيرة، واستنزف كل طاقاتها. ولما نزل في مُنْخَنق الانفعال والافتعال، حبيسة اللحظة المعاشة، بحيث لا تستعيد الماضي، ولا تستشرف المستقبل. وما الحرب الحدودية والأهلية: ساخنة أو باردة إلا ترجمة فعلية لهلوسة المفاضلة والتصنيم والتصدير. وكم تكرر في القاموس السياسي الحديث مصطلح (تصدير الثورة)، الأمر الذي زج بالدول العربية في حروب طاحنة، وزرع الريبة في الصدور، وأغرى الأعداء باختراق الأجواء، والدخول بين الأخ وأخيه. ولكي تكون الأجواء ملائمة لخطيئة التصدير، كان لابد من التورط في جدلية المفاضلة. وهكذا تدخل النخب: مخدوعة أو مأجورة في هذه اللعبة الأكثر عقماً والأقل عمقاً. وتتخطى ذلك العقم والتسطح إلى التصنيم للقائد الملهم، لتقترب به من الطهر الملائكي، والعصمة النبوية، ليفعل ما يشاء، وكأنه من (البدريين)، مع توهيمه بإمكانية تصدير النظرية، عبر آلية الترغيب أو الترهيب، مما يحمله من تبذير مقدرات الأمة، وإشعال الفتن، وإلجاء الضعفاء المكتوين بنار التعدي إلى ارتكاب المحاذير، وذلك بجر الأساطيل التي تمخر العباب، وتجوب السحاب، وتثير النقع، معيدة الوجه الكالح للاستعمار البغيض، وإذ يقترف البعض خطيئة التعدي المدان بكل المقاييس، يبادر البعض الآخر منفرداً باتخاذ قرار قومي مصيري، يفاجئ به الأمة، ويثير به الرأي العام، ويصدع الوفاق العربي والإسلامي والاقليمي، ثم يجد من يسانده: عربياً وإسلامياً وعالمياً، فيما يحمل البقية على الإذعان المكره، أو الرفض الأعزل، متيحاً الفرصة للأعداء المتربصين، ليجتالوه، ويقاضوا خصومهم من خلاله. وما أكثر اللاعبين الأغبياء لحساب غيرهم. وأياً ما كان الأمر، فإن القاموس السياسي يفيض بهذه المفاجآت التي تربك الصف العربي. واتخاذ قرار الحرب، أو التسوية مع العدو، أو استقدام القوى الأجنبية أو الخروج على الشرعية، إن هي إلا قرارات مصيرية، لا يجوز اتخاذها دون إجماع عربي، ولا سيما إذا تم الاستقدام من دولة صغيرة، ليست لها قضية، وليست بحاجة إلى مال أو حليف، وليس لها حدود ساخنة. ذلك أن أثر الوجود الأجنبي سيطال المقيم والظاعن. ولأن الأمة واقعة تحت طائلة المغامرات فإنها أحوج ما تكون إلى الناصحين، الذين يجنبونها الفتن، ويواجهونها بالحقائق، ويصدقونها القول. والأمة العربية منذ ثورة حسني الزعيم عام 1949م، وهي في نكث للعهود، وطعن في الدين، وتثاقل في الأرض، إلا من رحم ربك، وفي هذا العراك لا تسمع إلا دوي الكلمات الجوفاء، وهمس المجاملات، وسك المشاريع التي يقوم بعضها على أنقاض بعض: حرية، اشتراكية، قومية، علمانية، حداثة، ديموقراطية، وحْدوِيَّة، شَعْبَويَّة. ومن ورائها (ثورة) و(زعيم)، يحفهما إعلام يكيل التهم لحفنة توارت بالحجاب، من الخارجين الخونة، الذين باعوا وطنهم، وكانوا من قبل ملء السمع والبصر، ويبشر بطلائع قادمة من المنقذين، الذين استردوا وطنهم ممن باعوه بثمن بخس، فكأنهم {فٌتًيّةِ آمّنٍوا بٌرّبٌَهٌمً}، وما هم في الحقيقة إلا لصوص سرقوا شعباً بكامله، فقفَّصوه، وسرحوا في فضاءات أرضه. ولما تزل الأمة منغمسة في أتون الفتن إلى الأذقان، مغلوبة على أمرها، مغيبة في المغانم، شاهدة في المغارم. وإذا لم تُدِنْ الأمة نفسها، وتواجه أخطاءها، وتقبل مرارة الحقيقة، ستظل كما هي لا عزٌّ ولا ظفر، والوضع القائم لا يقبل المزيد من النكبات، ولا يمكن احتماله، الأمر الذي يحتم مواجهة الحقيقة العلقمية بشجاعة وثقة، للخروج من وهدة الاحتقار، والخلوص من استخفاف الأقوياء، وتفكيرهم بالوصاية علينا، حتى لا يجدوا حرجاً في أنفسهم من التدخل العسكري، بدعوى تَخليص الأمة من ظلم أبنائها، وانتزاع المسؤولية من أيد لا تحسن النهوض بها، واقتسام الغنائم، وأصحاب الشأن صامتون أو مواطئون. وإذا كان الشرقيون والغربيون يتفانون في تصدير نظرياتهم، وحضاراتهم، وقومياتهم، وتعميم ثقافاتهم، ولغاتهم، ومدنياتهم، والعمل على هيمنتها، فإنهم جميعاً يدعمون مشاريعهم الديموقراطية، والعدل، والإحسان، والمساواة، وتكافؤ الفرص، وتداول السلطة، واحترام الدساتير، والقوانين، والأنظمة، وتفعيل المجالس التشريعية، وتمكين شعوبهم من ممارسة حقهم، والتوفر على ما يكفل لهم الحياة الكريمة: صناعياً، وزراعياً، وسياسياً، وفكرياً، وعسكرياً. ثم إن مشاريعهم تأتي انبثاقية صنعوها بأيديهم، واتخذوها بطوعهم واختيارهم، وفصَّلوها على قدر أجسامهم، ووفق حاجتهم، وفي إطار إمكانياتهم. ولم يكن شيء منها مصادم لما استقر في أذهانهم. ومشاريع العالم النامي المتورط في لعبة المفاضلة والتصدير والتصنيم طارئة مجلوبة، لا تمت إلى واقع الأمة بصلة، ولا تستجيب لحاجاتها، ولا تلائم ما جبلوا عليه من عقائد وعادات وتقاليد. للعامة دينهم، وللقادة دينهم، وكل القضايا المصيرية تقضي بليل، وما يقال عبر قنوات الإعلام حبر على ورق، وكم هو الفرق بين مبدأ تمهد له النخبة، وتؤمن به الكافة، وينهض بأعبائه المسؤول، ومبدأ تكفر به العامة، وتتملق به النخبة، وتفرضه السلطة بالقوة. والذاكرة المعطوبة تنسي الأمة ما سلف من ويلات، وتحملها على ملاحقة الكذبة الجديدة، والخنوع للمفترين الذين يخدرونها بالشعارات الزائفة، والدعاوى الكاذبة. ومتى انكشف أمرهم، ألهبوا الحدود، وافتعلوا الخلاف مع الجار، ليتمكنوا من إخراس الألسنة، وإطلاق صوت المدافع وأزيز الرصاص، سعياً وراء شغل الرأي العام، وإخضاع البلاد لحالة الطوارئ، بحيث لا يتكلم إلا رجل السلطة. وإذا أراد الله بقوم سوءاً، أمَّر عليهم أراذلهم، ووضع مصائرهم بأيد آثمة، خائفة مخيفة، ليس لها عمق تاريخي، ولا رصيد وطني، وتلك مؤشرات فتن عمياء، تجعل كل شيء أتت عليه كالرميم، وتشرعن للأقوياء المتغطرسين التدخل في الشؤون الخاصة، وتقديم الحل العسكري على المواجهة (الدبلوماسية) مما لا يطال الضالعين في الخطيئة وحدهم، وإنما يمتد إلى من عرفوا قدر أنفسهم، وقدروا الأمور، وتحاموا الفتن. وعلينا أن ننظر إلى الحمم التي تمطر أرض الرافدين، إنها تهدم البيوت، وتمزق الأشلاء، وتسلب الحرية، وتحقق التخلف، وعصابة الحزب الحاكم في أعماق الأرض مختبئون، لا تراهم إلا حيث تكون شتيمة أو غنيمة، وهم قد خرجوا بجلودهم من حربين عنيفتين مجانيتين، أهلكتا الأمة، ولم تحققا أي مكتسب، لا على المستوى الاقليمي ولا العربي ولا الإسلامي، ولم يكن لها أي مبرر، ولما تزل عصابات الشر من أبناء الجلدة في انتظار ما يأتي من ويلات، والشارع العربي تتدفق هتافاته لحساب اللحظة الضاغطة، مستدبراً قضايا مهمة في الوطن العربي، ومغمضاً عمن قتل الكرامة، وأشعل الفتن، وجلب الويلات، وفرق الكلمة، وجر الأساطيل إلى المنطقة، وشرعن التدخل العسكري. والمؤلم ان المستقبل امتداد للحاضر، وليست هناك بوارق أمل، للخروج من ضوائق المرحلة الحرجة، فالأمة تعيش حالة من الانفعال والوهم والاحتقان. وإذ يعيش الخليج أزمات الحروب الثلاثة التي أتت على كل المقدرات، ومهدت الطريق لوجود عسكري خارجي بغيض، لم تشهد له مثيل من قبل، شرعنت له نزوات مجنونة، والجأ إليه الخوف من مغامرة عسكرية غير محسوبة، فإننا لم نسمع كلمة صادقة حاسمة، تحدد المسؤولية، وتحاسب الضالعين في الخطيئات، وترسم طريق الخلاص، وتمكن الأمة من مواجهة الأحداث، وتحمل المسؤولية، وامتلاك شرعية التدخل في اللحظات الحرجة، وتفعيل المؤسسات العربية لممارسة حقها، والحيلولة دون وصاية الأجنبي. ومع وضوح الحقائق فإن الناس منشقون على أنفسهم. إننا لكي نخرج من دوامة اليأس والإحباط والوهم، يجب علينا استحضار السياقات، وربط الأسباب بالمسببات، وتقصي ما سلف من الخطيئات، ومعرفة من تآمر على الأمة، ومن زرع الأحقاد، وإن لم نفعل، أنجينا الذين ظلموا، وأخذنا الأبرياء بعذاب بئيس. والمؤلم أننا كلما صنعنا عذاباتنا بأيدينا، رفعناها إلى السماء ملطخة بوحل الخطايا لنقول:- يا رب يا رب، نسب الذين كفروا، ليمعنوا في النكاية، وسب الله عدواً بغير علم. وكيف يستجاب لنا، ونحن متلبسون بالمخالفات في مشاربنا ومطاعمنا وسائر تصرفاتنا. لقد بلغ السيل الزبى، وتداعت الأمة على مثمنات الأمة، وسيق الأبرياء والضعفاء إلى بؤر الفتن، وما من رجل رشيد يبين للأمة وجه الصواب، ويأخذ بيدها، ويقيل عثرتها، ولن تقال عثرة الأمة بالتنافي، ولا بتعدد (الأيديولوجيات) الأمة أمة (عربية مسلمة)، وإذا لم تلتف حولها عروبتها وإسلامها، تفرقت شيعاً وأحزاباً، كما تفرقت قطعاً متجاورة متناحرة، وليس أضر على الأمة من التقاء المسلميْن بسيفيهما، ولن يلتقيا حتى يستفحل التقاؤهما بلسانيهما. وإذا لم تتوفر الأمة على (العروبة والإسلام)، فلا أقل من أن تتعاذر، ويرتد كل إقليم إلى الداخل، لإصلاح نفسه، وتفعيل مؤسساته، والخضوع لقوانينه ودساتيره وأنظمته التي تلقاها من السماء، أو خطها بيمينه. لقد أجهش المسلمون بالبكاء متضرعين إلى ربهم، مستعدينه على الأعداء الظاهرين، ولكن أحداً منهم لم يتجه إلى الأمة، ليحملها على تغيير ما في نفسها، ويضعها أمام مقترفاتها، ويدعوها إلى العودة إلى بارئها، وتحكيم شرعه، وتنفيذ أمره بالعدل والإحسان وإعداد القوة، ويواجهها بمفاهيمها التي صيرتها لقمة سائغة لأعدائها المتربصين بها الدوائر، ويحملها على أن (تعقل وتتكل)، لقد مرت بنا مقترفات نراها رأي العين، ونعرف المقترفين بأسمائهم، والتغاضي عنها مهد لما هو حاصل. ومع ذلك نظل أبناء لحظتنا، لا نفكر بالطابور الخامس الذي صيرنا إلى ما نحن فيه، من جهل وضعف وخوف. فأين نحن من مكائد الاستعمار، وبطش الجبارين، ومواطأة الأقربين. وفي ظل الظروف العصيبة لابد من تفكيك التاريخ الحديث، لنصل إلى مفاصل المشاكل، ونحسمها أولاً بأول، نصفي الحسابات، ونميت القضايا، بعد إدراك أدق تفاصيلها، لنعرف أن محاور الشر الحقيقي ليست وحدها دول لتحالف .

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:39 PM

لقد يُسِّرت المصائب للاتعاظ: فهل من متعظ؟ «1/2»
د/ حسن بن فهد الهويمل


جئت إلى القاعة متأخراً، ولم أجد الوقت الكافي لانتظار المصاعد، فمشيتها خطوات عجلى، قفزت بها الدرج مسرعاً، وما أخذت مكاني على المنصة، حتى أحسست بتفصد العرق، وانتابني لهاث متلاحق، فطفقت أخصف ورق المناشف، لأجفف الأصداغ والحواجب، وتلمضت بلساني لأرطب الشفاه التي جمدت على الكمد، وكنت يومها حديث عهد بقراءة أعمال المؤتمر الدولي الأول للحضارات المعاصرة «العولمة وحوار الحضارات: صياغة عالم جديد» المنعقد في القاهرة، الذي كانت لي فرصة المشاركة في فعالياته، وطبع بحثي ضمن أعماله. ومثل هذه المؤتمرات تفتح بصيص الأمل لحوار هادئ، يجنب العالم ويلات الحروب الشرسة.
والطلبة الاستشرافيون يعودون من مراكز المعلومات، وفيوض القنوات، متخمين بالقول ونقيضه، في مختلف المعارف والقضايا، ثم لا يجدون بداً من ان ينكوا الجراح، ويحزوا اللحم إلى العظم، لأنهم في زمن التشكك الذهني، وقدرهم انهم جاؤوا في الوقت الذي تتناسل فيه الفتن كقطع الليل المظلم، ولهذا تراهم كلما ادلهمت الأمور، واستحكمت الشدائد، أمطروا أستاذهم بوابل من التساؤلات، وكأن الخوض فيها يسكن الأوجاع، ويخفف الصداع، وفي ظل ما أعانيه من انهاك نفسي وجسمي كنت أطمع في أسئلة في المنهج، أو أسئلة عما قرأت وسمعت في ذلك المؤتمر الذي جاء على قدر، ليجمع الأشتات عبر القواسم المشتركة، ولكن أصداءه العذاب تلاشت تحت أزيز الطائرات ودوي المدافع، لقد اجهضت تطلعاته مغامرات دامية، صدمت المتفائلين بحوار حضاري، وعولمة متزنة متوازنة، ليس فيها تعسف ولا إكراه، ولم يكن في حسابي ان تكون الأسئلة حول المصائب الجسام التي تصب جام غضبها على عالمنا العربي المرتكس في الفتنة إلى الأذقان، يتقلب في أمواجها منذ فجر التاريخ الحديث، دون ان تلتقمه الحيتان ليريح ويستريح، أو تنبذه في العراء سقيماً أو صحيحاً، لينظر العقلاء في أمره. لقد أوجست خيفة من قصف الأسئلة التي تعتورني عبر عشرات القصاصات، لتصل تباعاً متنقلة من طالب لآخر، وكلها تستجلي الوضع المتردي، متناسية «نظرية الضرورة» واحتمال الأذى عند العجز عن رده، ولما ان تكدست بين يدي، لم أجد بداً من فرزها إلى مجاميع، ولما ان استعرضتها على عجل ووجل، وجدتها تدور حول ثلاثة محاور:
1 ما المبرر لحروب خليجية ثلاث؟
2 هل من موقف عربي موحد إزاء القضايا المصيرية؟
3 وهل يضع الغرب وزناً للموقف العربي، عندما يقضي أمراً يعنيهم؟
لقد حوصرت بمرارة الحقيقة، وخطورة المصداقية، وتمنيت لو أوتيت حنجرة «أحمد سعيد» وتمثيل «سعيد الصحاف» وقلة حياء الساسة، لأهرف بما أعرف، وأمام هذا الحصار لم يكن بد من خيارات ثلاثة: فإما ان أتعمد اللغة «الدبلوماسية» المراوغة، وأحفظ ماء الوجه، إن كان ثمة بقية من حياء عند من يتعاطى السياسة، وإما ان أصدقهم القول، وأكشف عن الواقع المرير، وإما ان اعتذر عن الإجابة، ونصف العلم «لا أدري» ومن قالها فقد أفتى. والإجابة الصحيحة الدقيقة آتية لا ريب فيها، على حد: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود». ولم يطل ترددي، ومن ثم أطلقتها كحشرجة المحتضر: «لا مبرر» و«لا موقف» و«لا وزن». وهي «لا ءات» ثلاث، أطلقها من قبل المؤتمرون في السودان، بعد النكسة الموجعة، ولكنها صارت هباء، وصارت سدى، بمغامرة «الكامب ديفيد» التي جرَّت أقداماً كثيرة، وأعطت تنازلات أكثر، وتمخضت عن أوضاع ومصطلحات سياسية، ما كان اليهود يحلمون بأيسرها، وما أكثر المغامرات والمغامرين والمقامرين بمقدرات الشعوب.
وما أن لملمت أشلائي المبعثرة، وروضت مشاعري الدامية، وحاولت إبداء تجلدي للشامتين، لأريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع، حتى بدهني شقي آخر، انبعث صوته من مؤخرة القاعة: وهل من تحرف صادق لإيقاف التدهور، ومعالجة الانكسارات؟ وبخاصة بعد السقوط «الدرامي» الذي جاء متأخراً، لكي يتمكن التحالف من تدمير ما لم تدمره عصابة الشر، وجاء الجواب كسوابقه، وعاج الشقي يسألني: إلى متى؟ ولماذا؟ وكيف؟.. إننا بحاجة أن نعرف: هل من الممكن ان يبدأ العرب الخطوة الأولى في طريق العودة إلى جادة الصواب، كي يعيدوا ثقتهم بأنفسهم، وتفعيل جامعتهم، وتوحيد كلمتهم.
وساعتها لم يكن بد من الدخول في التفاصيل، فليس من مصلحة الناشئة العربية ان يتركوا في جهلهم يعمهون، والسؤال الملح عن الحروب الخليجية المتواصلة من أشعلها؟ ولمصلحة من أشعلت؟ وما خسائر الأمة: المادية والبشرية والمعنوية؟ ومن الخاسر فيها؟ ومن الرابح؟ أسئلة مشروعة، وواجبة الإجابة. ولو اننا وقفنا عند كل حدث، وساءلنا كل قضية، وحاسبنا كل مقترف، واعترفنا أمام الناشئة بالحقائق العلقمية، لما آلت مصائر الأمة إلى الدرك الأسفل من الضعة، ولما حفزناهم على البحث عن مجيب، يشكل وعيهم على عينه، ليجعل منهم عدوا وحزنا. إنهم يعيشون حالة من اليأس والإحباط والفراغ والاحتقان، وقابلية الانفجار، وهذا التوتر يغري شياطين الإنس باجتياهم واحتناكهم، ولن يتوقع أحد سلامة الذهنيات في زمن العجائب والغرائب والمفاجآت.
حروب الخليج التي دمرت كل شيء أتت عليه، وألهت المخلصين عن كل فعل إيجابي. إما: أن تكون بالإنابة، بحيث يكون المحارب لاعباً غبياً لتأديب خصم لدود، وضع يده على ترسانة عسكرية، تهدد المنطقة. وإما: أن تكون نزوة مجنونة من نزوات الثوريين الدمويين، وفق حسابات وتقديرات خاطئة، شرعنت للأقوياء المهتبلين لأي فرصة سانحة، لينهضوا بمهمة التأديب بثمن باهظ وإما ان تكون تطلعاً إلى صياغة جديدة للعالم من خلال إعادة تشكيله، واحتوائه، والسيطرة على مؤسساته ومقدراته، بحيث يكون التابع الذي ينتج قدر الطاقة، ويأخذ دون الحاجة. وهذه الحروب الذكية بقدر ذكاء القذائف خططت لها مؤسسات لا تخاف الله، ولا ترحم عباده، وليس لها من هدف إلا الانتهاك والإذلال، وكلها مصائب تصب حممها على الأبرياء. ولا شك ان ما تتعرض له بلاد المسلمين: يكون ابتلاءً، أو يكون عقوبة.
فالابتلاء يتطلب الصبر والمرابطة والتقوى. وأما العقوبة، فلا تكون إلا بسبب المخالفة لأمر الله، وهي تتطلب مراجعة النفس، والفرار إلى الله، وإعادة النظر فيما اقترفته الأمة من مظالم، فلقد يُسرت المصائب، بحيث يراها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولم يبق إلا أن نكون مدكرين، ولكن هل من مدكر؟ والعقوبة والابتلاء متوقعان، فالمصائب مما كسبت أيدي الناس، والابتلاء تحقيقاً لقوله تعالى: {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ} و{وّحّسٌبٍوا أّلاَّ تّكٍونّ فٌتًنّةِ}. والعقلاء المتمرسون لا يزكون أنفسهم، وإنما يعترفون بتقصيرهم، ويدينون أنفسهم قبل أن يدانوا، وحين منيت الجيوش الإسلامية بنكسات غير موجعة، عرف قادتهم ان ما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم، ولهذا بادروا إلى التوبة النصوح. وما الحروب الخليجية المتعاقبة إلا ابتلاء أو عقوبة، وكان متوقعاً أن تكون آيات ونذر مغنية لمن يعقل. وثالثة الأثافي كسلفها من حروب، أديت بالأصالة أو بالإنابة، وإن تعددت الأسباب وتنوعت الدوافع، وأمريكا التي تولت كبرها، وكانت وراء كل اللعب الكونية، لم تجد بداً هذه المرة من ممارسة التصفية بنفسها، وبسلاحها الفتاك، وعلى مسمع ومرأى من العالم، ضاربة بالشرعية عرض الحائط، متحدية أصدقاءها وشركاءها. ولما كانت شرذمة الحكم العراقي ضالعة في اللعب المميتة، متقنة لكل الأدوار القذرة، كان الدعم والتأييد ينهال عليها من كل جانب، وحين أنهت أدوارها، كان لابد من خلع أنيابها، وقمع انتفاخها، وحين تأبت، لم تتردد أمريكا في شطبها من الوجود، لتنهي دور اللاعبين الذين استهلكوا كل أقنعتهم. ولقد صدق مندوب النظام، وهو كذوب، حين قال «انتهت اللعبة». ولن تتخلص الأمة العربية من المكائد إلا بقراءة الأحداث كما هي، ووضع كل مقترف أمام مسؤوليته، ومعرفة العدو من الصديق، والتعامل مع الآخر وفق الإمكانيات، وعلى ضوء خيارات متعددة، ليس من أولوياتها الصدام، ولن يتأتى ذلك إلا حين تحترم الدول المصداقية، وتتحامى تعريض نفسها للذل والضياع، وبخاصة في زمن الاستكبار والغطرسة، وضرب الشرعية العالمية، والتدخل السافر من دولة يتوقع منها حماية العدل والحرية يشي بأن العالم مقبل على انهيارات تطال الشرعية والأخلاقية والمصداقية. واستياء الناس من أمريكا، ليس لأنها فعلت فعلتها النكراء لقتل شعب آمن، ولكن لأنها الحامي الذي تحول إلى مغامر يلعب بالنار، ويستن سنة سيئة لم يسبق إليها.
ومع الاستياء العالمي لتخطيات أمريكا، نجد من يتحدث عن الوجه المشرق لها، ونقرأ لمن يتفاءل بدخولها الحرب التطوعية أو التأديبية مردداً: «رب ضارة نافعة» مستدعياً {وّعّسّى" أّن تّكًرّهٍوا..}، ومع ان من حق كل إنسان ان يعبر عن وجهة نظره، إلا ان هناك قطعيات ثبوتية ودلالية، تشكل خطوطاً حمراء، لا يستساغ تجاوزها. فالبعض يأخذه التفاؤل، كما تأخذ المسترخي المتعب سنةُ النوم، ثم يغرق في الأحلام. والمتفائلون يحيلون إلى الآثار الإيجابية التي أعقبت دخول أمريكا حروباً طاحنة ضد بعض الدول مثل «اليابان» و«كوريا» و«ألمانيا» وطرحها بعد الانتصار مشاريع اقتصادية وصناعية وتجارية، واعطائها قروضا مخفضة، وفات هؤلاء وأولئك انه لا تجود المقارنة مع الفارق، فأمريكا لها تجاوزات لا يمكن احتمالها.
الأولى: الوجود الصهيوني المتوحش المدعوم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً من أمريكا.
والثانية: الموقف المعلن من الحضارة الإسلامية، بوصفها المعادل الأقوى لحضارة الغرب.
والثالثة: إلصاق الإرهاب بالإسلام، ومواجهته وفق مفهومه الغربي بكل قسوة وعنف.
ويأتي على أعقاب المتفائلين والملتمسين لإشراقات الوجه الأمريكي من أخذتهم الخيفة من دعوى «حقوق الإنسان»، الأمر الذي حفزهم على التفكير الجاد للمسايرة بتعديل الأنظمة، أو التخفيف من القوة في الحق، وحسبوا أن يساءلوا عن سجين لم يبادروا في محاكمته، أو عند معتد أثيم لم تتح له فرصة المغالطة والبحث عن قوة الحجاج، لينجوا من العدالة متحرفاً لاعتداء آخر. ومع التباكي فوجئ العالم بأن هذه الدعوى لا تبلغ تراقي الدعاة. وكيف يصدقون، وهم يلقون حممهم على المنكوبين من حكامهم، فيما يختبئ الحكام في سراديبهم، ويتهيئون للفرار للعيش المترف بالأموال التي سرقوها، تاركين أمتهم رهن الضياع والخوف والفقر. وكيف ينهض الظلمة بالمطالبة بالحقوق، وهم قد انتزعوها بالقوة من أفواه الجياع وجيوب المعسرين، والفجوة السحيقة بين الدعوى والممارسة،

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:40 PM

إن إلى ربك الرجعى..!
د. حسن بن فهد الهويمل


لست أدري لماذا أصبح الموت في نظري سفراً قاصداً.
يقال لي: مات فلان.
ويقال: سافر فلان.
فكأن وقع القولين واحد لا يثير.
الموت آت كالساعة لا ريب فيها، ومن فرَّ منه، لاقاه، ولم يلحق به، وكل نفس ذائقة الموت، والذوق أمكن من الرؤية أو اللمس، والطامة أن تزهق الأرواح، وهي غارقة في الخطيئات.
والسعيد السعيد من مات موحداً لله، مطيعاً لرسوله، ساعياً في حاجات عياله، مخالقاً الناس بخلق حسن. وعندما نسمع بالسفر الأبدي، نتألم ساعة من نهار، ثم يأتي «الأمل» و«النسيان»، ليعيدا المفجوعين الى الحياة الطبيعية. ينسيان الأم وحيدها، والابن البار والديه، والحبيب حبيبه. ولهذا قيل: أحبب وأبغض هوناً ما، فإنك مفارق. وعند فراق الأحبة، يحزن القلب، وتدمع العين، ولا يقول المؤمن الصابر المحتسب إلا ما يرضي الله. وتلك نعمة يمن الله بها على الصالحين من عباده، ومثلما نستقبل الولادات بالتهاني، نودع الوفيات بالتعازي. وهكذا الدنيا نزول وارتحال. وحين قضى الأمير «ماجد بن عبدالعزيز» نحبه، ولم ينتظر، مس الجميع ألم الفراق، وتجلت محبتهم له عبر مظاهر العزاء والتأبين والتفجع، ومن خلال شهادة الخاصة والعامة بما علموه عنه ومنه، ومن دماثة خلق، وسماحة نفس، ورحابة صدر، وسعي في حاجات الناس، وتبسط معهم، وتودد اليهم.
وما تناقله الكتبة والمتحدثون، وأفاضوا به، يجعل المتابع أمام شخصية استثنائية واجماع الناس على حبه مؤشر زكاء وذكاء. وقدري أنني لم أكن قريباً منه، مقتدياً أو منتفعاً، ولا مخالطاً له، بل كانت صلتي به عرضية، يكون راعياً لحفل، ثم يكون لي شرف الحضور، ويتدافع المحتفون به للسلام عليه، فأكون واحداً منهم.
ويتحدث الى المحتفلين أو المؤتمرين، فأستمع اليه، وهو يتحدث، وأستمع الى الذين يتحدثون عنه، ممن لهم أكثر من مدخل عليه، فيكون حديثه حديث البشوش المتودد، الساعي في حاجة الأرملة والمسكين، ويكون حديث الناس عنه حديث المحب المعجب المرتهن لاحسانه، ومن وجد الاحسان قيداً تقيدا. وعرفت فيما بعد نجله الأمير عبدالعزيز بن ماجد حين شرفت القصيم به نائباً لأميرها المتألق. وحين خبرت الرجل، تبين لي أنه سليل بيت كريم، لما يتمتع به من خصال حميدة، كسبته القصيم، ليكون عضداً لأميرها الممتلىء بالمسؤوليات الجسام. وكلما لقيته تذكرت مقولة لشاعر:
«ومن يشابه أبه فما ظلم»
ومنذ أن عرفت الابن، عرفت الأب، ولم يخب توقعي، فلقد جاءت كلمات التأبين التي فاضت بها الصحف مليئة بالثناء والدعاء، ولم يقتصر الثناء ولا الدعاء على الذين احتكوا بالفقيد بوصفه وزيراً أو بوصفه أميراً لأقدس بقعة في الأرض، بل تجاوز ذلك الى كل الذين كانت لهم حاجات في مواقع مسؤوليته، وكل الذين خالطوا خلطاءه، كانت النفوس مفعمة بالحب والتقدير، وما إن ترجل من المسؤوليات، وفرغ للاستجمام والعبادة، ثم بارح الفانية بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، نضحت الأواني بما فيها. ولقد صدق من قال:«موعدكم يوم الجنائز» و«الناس شهود الله في أرضه» لقد أوجب الله ثناء خلقه، وقبل دعاءهم، فلقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عند الثناء والذم: وجبت.
والذين تدافعوا للثناء والدعاء لا يرجون العاجلة، وليس لأحد سلطان عليهم، لقد قالوا ما قالوا بمحض إرادتهم، والله أكرم من خلقه، فإذا هب الناس بالثناء والدعاء، وذلك كرم منهم، فإن الله أكرم منهم في المغفرة.
لقد لقيت شقيقه الأمير سطام وولديه مشعلاً وعبدالعزيز في ساعة العسرة، والأمير المحبوب يغالب سكرات الموت، فكانوا مثال الصبر والاحتساب، يسترجعون، ويحتسبون، ولا يقولون إلا ما يرضي الله.ثم لقيتهم، ومعهم الأمير فيصل بن بندر الوفي دائما معزياً ومواسياً، فكانوا أمتن صبراً وأكثر احتساباً. والله الذي وعد الصابرين بالصلوات والرحمات والهداية أوفى بوعده، ومن أوفى بعهده من الله، وعليهم أن يستبشروا بصبرهم واحتسابهم الذي بايعوا به الله.
تعازينا الحارة للانسان السعودي: ملكاً وأميراً وشقيقاً ونجلاً، ودعاؤنا الصادق للراحل الكريم الى الرب الكريم بالمغفرة والرضوان إنه ولي ذلك والقادر عليه.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:42 PM

لقد يُسِّرت المصائب للاتعاظ فهل من متعظ..؟ 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل


ولو أن أحدنا استعاد الرضخة «الحزيرانية»، وما تمخضت عنه من ذلة وهوان وخوف، لعرف أن ما تعايشه الأمة اليوم، لا يختلف عما سلف، ولكن لكل حدث أسلوبه وطرائق أدائه. والهزائم الموجعة محسوبة على الأنظمة الثورية المجازفة، وليست على إمكانيات الأمة، ومثلما منيت الخطة العسكرية الأمريكية ببوادر الفشل، دون أن تهزم القوة، فقد منيت الأنظمة العربية بسلسلة من الهزائم، ولما تتح للأمة ممارسة امكانياتها. ولو أن المنظومة العربية: قادة وشعوباً وعت الدروس، وفكرت في أمرها، وقدرت واقعها، لما آلت أمورها إلى ما هي عليه الآن. وبدهيَّا أنه ليس من صالح القوى المستبدة، ولا الأنظمة المتسلطة أن تعي الأمة ما هي عليه، لأنها لو وعت، لوضعت المصالح والأنظمة أمام مسؤولياتها. والواقع العربي بلغ الدرك الأسفل من الضعة، ومن ذا الذي يجيل نظره في القنوات، ثم لا يتميز من الغيظ على من فعل مثل هذه الفعلة النكراء بالإنسان والحضارة والمدنية. وهل أحد يستطيع الصبر واحتمال الأذى الذي يستبطن إخواننا في «العراق» منذ ثلاثين عاماً أو تزيد، وفي «فلسطين» منذ سبعين عاماً أو تزيد، وفي «الجزائر» و«السودان» و«الصومال» مما تتناقله وسائل الإعلام، ولما تزل سوح القتال تلتهب بالسلاح الغربي المتطور في كل الحروب التي مرت بها المنطقة.
ففي «نكسة حزيران» ظاهرت أمريكا إسرائيل، وأمدتها بالعتاد والعدد والخطط والتأييد في المحافل الدولية، وجلست غير بعيد ترقب الأحداث. وكانت «مصر» قد خرجت منهكة من «اليمن»، فيما كان العالم العربي مقطع الأوصال، تسكنه الريبة، وينتابه الخوف من الأقربين، وكان على دول المواجهة أن تختار الوقت المناسب للحرب، فلا تفرض عليهم، ولا يقادون إليها، وهم لم يعدوا للحرب عدتها، ولما لم يكن العالم العربي مهيئاً لأي مواجهة فضلاً عن المواجهة العسكرية، فقد لعب الأذكياء الماكرون الدور التحريضي، واستدرجوا الثوريين العُزَّل إلى حافة الهاوية، وساند ذلك إعلام فضائحي مخادع، شحن النفوس، وهيج العواطف، وألهب الأحاسيس، وأعمى الناس عن الواقع المرير. وفي ظل هذا التوتر، وقعت الواقعة، وجاءت الطامة، وتلقى العرب من المحيط إلى الخليج ضربة قاضية، عاش في عذاباتها الواعون حالة من اليأس والإحباط والذهول.
وكان يجب أن تكون «النكسة» بداية جديدة لحياة حافلة بالتلاحم أو التعاذر، وإعداد القوة بكل متطلباتها، والبعد عن المجازفات والخطابات الغوغائية، وتجنب الدخول في الحرب الباردة غير أنهم لم يدركوا، بحيث عاد الثوريون إلى ما كانوا عليه من قبل، حرب كلامية تقوم على الوعيد والتهديد والتخوين والاتهام بالعمالة، والتحريض على هدم العروش، وتصدير المبادئ والأحزاب، مع تسخين للحدود، وتكريس للطائفيات والقوميات والعرقيات المتعددة، وتمكين لمحاور الشر لاختراق الثغور، وكسب الدثور، مما حوَّل مقدرات الأمة إلى وقود لصراع القوى العالمية، ولما تكن كنور الله الذي يوقد من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، بل كانت أشتاتاً تمارس الحرب الباردة بالإنابة عن الشرق أو الغرب، وكل زعيم يدعي أنه الناهض بما ينفع الناس. ومرت الأيام، ونسي العالم العربي نكسة لا يمكن تصورها، ولا يمكن احتمالها، وعادت الأمور إلى مجاريها، وبدأت مخاضات حروب أدهى وأمر. كانت حرب الخليج الأولى مدعومة بخطاب قومي، ثم جاء احتلال «الكويت» ضربة للخطاب القومي، انهارت معه القومية العربية. وحين دحر المعتدي، ظل مع المتواطئين معه في المشهد السياسي دون أقنعة، وظل الشارع العربي يتخبط في دياجي التناقضات، ولما نزل حتى الآن في فوضى مستحكمة من الرؤى والتصورات، ويكفي تدافع المجاهدين، وعودة الناجين منهم يتلاومون.
ومثلما أخفق العرب في «حزيران» حين دخولها دون استعداد، ودون تخطيط، دخلوا تالياتها مرة ثانية وثالثة ورابعة، وفي كل حرب يخرجون مثخني الجراح، مثقلي الكواهل بالديون والعداوات والشكوك والالتزامات التي تضع مصادر ثروتهم بأيدي غيرهم. والحرب لا تبقي ولا تذر، والكاسب فيها خاسر، ومن استخف بها أذاقته سوء العذاب. وأمريكا التي تملك مقاليد الدنيا، انجلقت في أتونها أكثر من مرة، وخرجت منها خاسرة، تضمد جراحها، وتعالج ذيولها. وها هي قد انجرفت في ضوائقها، دون رصيد معنوي، ولا دعم شرعي على كل الصعد، ودون أن يكون لها موقف مشرف من القضية الأم «قضية فلسطين». وحين تحركت أساطيلها، لم يسبقها استرضاء ولا تهدئة للأوضاع، ولا طمأنة للمتضررين، بل راح كبار المسؤولين فيها، ممن يطلق عليهم «الصقور»، يهددون، ويتوعدون، ويبعثون برسائل ملغومة، مما يشي بأن العراق يعد الخطوة الأولى في رحلة التأديب والاحتواء. وجاءت التصريحات المتلاحقة محيلة إلى أصولية دينية، جندت أمريكا نفسها للقضاء عليها، وذلك من المقت الكبير، فهي تحارب الأصوليات، ثم تنطلق منها.
وأمريكا التي أخفقت في السمعة، أخفقت في تقديرها لتداعيات الحرب، كما أخفقت من قبل في تقديرها للوضع القائم في العراق، بحيث بنت معلوماتها على توقعات المعارضة العراقية. وأحسب أن الحمم التي تلقيها على رؤوس الآمنين العزل الأبرياء، تنال من سمعتها ومكانتها أضعاف ما تناله من مقدرات العراق وأناسيه. لقد كرهها العالم، ونزع ثقته منها، ولم يعد يثق بمواقفها، وكم ستلاقي من «اللاءات» التي لم تسمعها من قبل، وليست تداعيات ما بعد الحرب بأحسن حال مما قبلها ولا مما في أثنائها، والوجود العسكري مؤذن بخلق حالة من الإرهاب الشرس، الذي لا يمكن السيطرة عليه.
وكيف تتأتى السيطرة، وهي قد جاءت بخطة عسكرية لم تراع فيها كره الشعب العربي للاستعمار، فضلاً عن الاحتلال، ثم هي قد تبنت خطاباً إعلامياً لم تراع فيه ردود الفعل العربي والإسلامي والعالمي، وهي قد ركنت إلى القوة العسكرية مجهضة القوة القانونية. والحرب التي يتابعها العالم خطوة خطوة خارجة على الشرعية، ومهمشة للشركاء الأقوياء، ومثيرة لكوامن النفوس، التي ستؤثر الموت على الحياة، ومثل هذه التداعيات تحتاج إلى مدكر يقرؤها بإمعان، وهو ما لم تفعله أمريكا، ولم يفعله العرب. وبدء العمليات كشف عن إخفاقات ذريعة، هزت هيبة أمريكا، وأفقدتها المصداقية، ولم يعد الأمر بيدها. والمضي في الحرب غير المتكافئة له ثمن باهظ، والتراجع من منتصف الطريق له ثمن باهظ، على حد قول الشاعر المحب:
وقع السهام ونزعهن أليم
ومثلما أخفقت أمريكا في بعض تقديراتها، أخفقت حكومة العراق البائدة في كل تقديرها وممارساتها، وماضيها لا ينطوي على إية إيجابية. والذين يكرهون الحكم في العراق، وينقمون على تصرفاته القمعية، ويودون زواله، يكرهون أن تكون نهايته على يد قوى خارجية، تستمرئ التدخل السافر في شؤون الآخرين.
فقد يرضى المعذبون بالبقاء تحت طائلة العذاب المستطير، لعلمهم أن إنقاذهم بهذه الطريقة، سيقودهم إلى ما هو أسوأ، وبوادر الفتنة تبشر بعذاب أليم.
وحكومة العراق التي كانت قاب قوسين أو أدنى من كسب الرأي العام العالمي، لم تحسن التصرف، فلقد ساءت مظهراً ومخبراً، ومما يزيد الطين بلة أن الخطاب العراقي في المؤتمرات المعقودة لإنقاذ الموقف المتأزم، وفي اللقاءات الحرجة خطاب بذيء متعالٍ، لا يحيل إلى أخطائه الفادحة، وإنما يمارس الإسقاط بكل وقاحة، ثم إنه لا يواجه الطرف اللصيق بالتي هي أحسن. وعلينا أن نذكر بموقفين سيئين، صدما الإنسان العربي الناصح المتحفز لمناصرة الشعب العراقي، والساعي لتخليصه من ويلات الحروب التي تعاقبت عليه، وأتت على الماديات والمعنويات على يد حكومة ظالمة، عرضته لفتن عمياء، وخاضت به ثلاث حروب مدمرة، شردت كفاءات، وقضت على مثمنات.
الموقف الأول: مهاجمة وفد الكويت في مؤتمر وزراء الخارجية، ومبادرة الإمارات الإنسانية بأسخف الكلمات، وأحط العبارات، الأمر الذي هيأ الشعب الكويتي لاستقبال الأساطيل الغربية استقبال الفاتحين، أملاً في أن يقطع دابر الفتنة، ويقطع الألسنة البذيئة.
والموقف الثاني: النيل من وزير خارجية المملكة الأمير «سعود الفيصل» ومن سفيرها الأمير «بندر بن سلطان». جاءت هذه البذاءات الصبيانية، والحرب على أشدها، والعراق أحوج ما يكون إلى جمع الكلمة، ولم الشمل، وإتاحة الفرصة للمساعي السلمية، التي يقودها وزراء الخارجية العرب.
وها قد سقطت الحكومية، وتفرق شملها، وعاشت البلاد فراغاً دستورياً، أشاع الفوضى، وهيأ فرص السلب والنهب والقتل، ولو أطيع لقصير أمر لحقنت الدماء، وسلمت المقدرات، وأسقط في يد دولة جاءت بكل قواتها، محددة مطالبها، ولو أن عصابة الشر في العراق عندما استحكمت الأمور، فوضت الأمر «للجامعة العربية»، لكان بالإمكان تلافي حرب مدمرة. وإذ يكون الصمت العربي مؤلماً، يكون القول في صالح القضية محفوفاً بالمخاطر، وتلك حالة ليست استثنائية، فالأمة العربية تعيش حالة من التوتر والمجازفات وتبادل الاتهامات.
والذهنية العربية يشكلها خطاب هائج مائج، لن يؤدي إلى صالحها ويتنازعها إعلام متناقض، إلى حد لا يمكن معه الاستقرار على رأي محدد مقبول.
والسياقات التي رصدها المتابعون هي الأخرى تزيد الأمور تعقيداً. ومع كل ذلك: هل من مدكر؟ الشيء الذي لا يمكن أن يطاق تعرض الخليج العربي لحروب ثلاث طاحنة، لم يكن شيء منها لصالحه، وهي وإن أخلت في توازن القوى، فإنها تركت هوة سحيقة من الشك والارتياد والتفرق الذي لا يمكن تلافيه من خلال الامكانيات المتاحة.
والذين يودون تقصي الأمور، والتدرج معها، عليهم أن يسبقوا أحداث الحروب الخليجية إلى الأيام الأخيرة ل«الشاه» وسقوطه، والسنوات الأولى للثورة الإيرانية، واحتدام مشاعرها، وخطابها المتعالي القائم على المفاضلة والتصدير، والدور الأمريكي في كثير من أحداث الشرق الأوسط، وشرق آسيا وإفريقيا، واقترابها جميعاً من الفشل. والمكسب الوحيد الذي حققته اللعب الكونية سقوط «الاتحاد السوفيتي»، وهو في نظري سقوط سبق وقته، وأربك أمريكا نفسها، ولم يمكنها من النهوض بواجبها بوصفها تمثل القطب الواحد.
لقد انعكس أثره السيئ على العالم العربي والإسلامي، بوصفه النائب الغبي، لتصفية حسابات عالمية، أثناء ما يسمى ب«الجهاد الأفغاني»، كما انعكس الأثر ذاته على أمريكا، فهي التي تقنعت وراء الجهاد الإسلامي، وهي التي دعمته، وهي التي كمنت في داخله، متصورة أنها الكاسب الوحيد، ولكن الرياح هبت باتجاه معاكس فكانت أحداث «الحادي عشر من سبتمبر» نتيجة طبيعية لهذه المكائد. وحين هبت أمريكا لملاحقة من تصورتهم الجناة، لقيت في مواجهتها أفدح الخسائر المادية والمعنوية، ولا أحسبها قادرة في الزمن القريب على استرجاع صحتها الاقتصادية وسمعتها وهيبتها. وذهول الصدمة: صدمة سقوط الاتحاد السوفيتي، وصدمة «الحادي عشر من سبتمبر» حولها إلى دولة نامية سيئة السمعة، تلاحق الإعلاميين، وتداهم الآمنين، وتتعدى على الحريات المكفولة بالدستور الأمريكي. وسقوط الدول يبدأ من أول طلقة طائشة غير محسوبة، ولأن العالم العربي والإسلامي غير قادرين على سد الفراغ الذي تركه المعادل فإن سقوط القوى لن يكون في صالح الأمتين العربية والإسلامية، وأمنياتنا ليست في تفكك أمريكا وسقوطها وإنما هي في وعيها للحق والعدل، وفي استفادة الأمة العربية من النكسات.
وتصور أمريكا أنها لكي تحكم قبضتها لا بد أن يكون لها وجود عسكري في كل موقع مؤذن بانهيارات عالمية، ستحول العالم إلى بؤر من الفتن، فالناس اليوم غيرهم بالأمس، والإعلام الذي يلاحق الحدث بالصوت والصورة في كل مكان، أعطى الإنسان المغيب من قبل فرصة للتأمل وتصور الموقف الإنساني، هذا التفكير العسكري أجهضة التفكير الدبلوماسي، وبدل أن تكتفي أمريكا بتبادل الكلمات الهادئفة مع حلفائها وأصدقائها أصبحت بحاجة إلى تبادل القذائف مع الشعوب التي لن تقبل بوجودها، وفشل الممارسة السياسية تدفع الفاشل إلى ممارسة الحل العسكري، وعندها يبدأ العد التنازلي. وليس أدل على ذلك من انهيار السمعة والاقتصاد، وامتلاك القدرة على مواجهة أمريكا عبر المظاهرات والمقالات، وهو ما لم يكن مألوفاً من قبل.
هذه المآلات الموجعة آيات ونذر، أحسبها كافية لجمع الكلمة العربية، والقبول بالتنازلات، والاشتغال في المساحات المشتركة، وإعادة النظر في كل الظواهر، لتوفير التجانس، وتهيئة الأجواء، لتفاعل إيجابي، يحل الثقة محل الشك، والأمن محل الخوف. ولن تجتمع كلمة الأمة إلا بالرجوع إلى مصدر العز والتمكين «الكتاب» و«السنة».

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:43 PM

الكبرياء العربية والجبروت الأمريكي في مأزق...!
د. حسن بن فهد الهويمل


1/2
هل وضعت الحرب أوزارها؟ بعد الصفقة أو الخيانة التي فاجأت العالم باختفاء الحكومة والجيش العراقيين معاً، وروضت جماح بغداد وأسقطت رهانات الإعلام المزيف للوعي، والواعد بأن العاصمة العراقية ستكون مقبرة للعلوج، أم أن هناك حرباً من نوع آخر، تكون أشد ضراوة وأفدح خسائر وأطول استنزافاً، تخوضها الكرامة العربية المجروحة، والكبرياء الأمريكية المهزوزة، حرباً لا يحسمها التفوق العسكري، وإنما تحتاج إلى سلاح الفكر وترسانة السلاح معاً متوقية لحمام المواجهات الموجعة التي ترقب الطرفين.
فالعرب بحاجة إلى موقف مصالحة بينية: بين الحكومات والشعوب، وبين الحكومات ونظائرها، وبين طوائف الشعب الواحد، يسمو بوحدة الشعب فوق العرقية والطائفية والإقليمية، جاعلاً مصلحة الأمة المفجوعة فوق كل المصالح.
وأمريكا بحاجة إلى موقف يطمئن كل الأطراف، ويزيل شبح الاحتلال ولغة الغزو. وهو ما لم يفعله الطرفان. لقد انحسرت الجيوش، واختفت المؤسسات، وغاض ماء الأمن، وطمست الحضارة والتاريخ والذاكرة، واقتيد العلماء إلى مخافر الاعتقال والتحقيق، وخضدت الشوكة، ونهبت غير ذات الشوكة، والتفت كل طائفة حول نفسها داخل إقليمها، تراقب الوضع على حذر، فيما فاضت المواجهات، واغتيلت المشاعر، وقامت المظاهرات المناوئة للمحتل، ودخل الناس جميعاً في صفوف الرافضين للوجود العسكري، واتخذ المناوئون خططاً، لا يمكن السيطرة عليها، لأنها تستمد وقودها من موقف الرفض المطلق لأي تدخل أجنبي، ولأي وجود عسكري، متخذة آلياتها من الفداء والمقاومة والمظاهرات. ولا أشك أن جيوش التحالف سيتعرض أفرادها لقنص أو تفجير أو انتحار، فيما يتعرض الشعب العربي لقتل جماعي، وحرب نفسية، واختلال في الأمن وتجويع مفتعل، ولن تلوح بوادر الانفراج في المنظور القريب، وعمليات التصدي والتحدي والصمود تؤزها كرامات مجروحة، لا يبلسمها لا العمل الاستشهادي، من فتية يرجون من الله ما لا يرجوه طالب العرض الزائل، وهو ما لا نريده، وما لا نود اللجوء إليه، وإن كان آتيا لا محالة، متى استمرت المكائد بهذا الحجم، وبهذا العنف، والمفادون والفدائيون في مواجهاتهم الموجعة والمخلة بكل الموازين، لا يقتصون للحكم البائد، وإنما يدافعون عن كبرياء مأزومة. والشعوب العربية قد تخضع لحكومات مستبدة، ولكنها لن تسلم مقاليدها إلى مستعمر أجنبي. وليس ببعيد أن تمارس دول التحالف تجييش النعرات، وأن تستزل الطائفيات، وأن تصنع الزعامات، ليعود العراق إلى حمامات الدم من جديد، إذ ما زال في اللعب بقايا، والعراق كهشيم المحتظر، سماؤه كالمهل، وجباله كالعهن، وأهله في ذهول، حتى لا يسأل حميم حميما.ومن الخير للطرفين البحث عن مخارج أخرى تجنح للرفق، وتحفظ ماء الوجه، وتبقي على شوارد الأمن والأنفس والأموال والثمرات التي أفناها كرّ التآمر. وعلى أمريكا ومن معها - والحالة تلك- أن يسارعوا بالعودة إلى بلادهم، وليأخذوا توصيات المؤتمرين في الرياض مأخذ الجد، فأهل مكة أدرى بشعابها، وتوصياتهم معقولة، بحيث لا تتجاوز التأكيد على: وحدة العراق، وأمنه، وتسليمه لأهله، وتمثيل كل طوائفه، وتبرئة سوريا مما وجه إليها من اتهام، يرمي إلى تهيئتها لمواجهة لاحقة، أو يشغل الرأي العام عما يُفعل في العراق. وليس هناك ما يمنع- وقد سقط صدام حسين- من أن ينزع سلاح الدمار الشامل، إن كان ثمة ترسانات في جوف الأرض، وعندها تنتهي مبررات الغزو وحيثياته، وجيوش التحالف حققت كل الذي جاءت من أجله، وليس لها بعد هذا إلا الرحيل. وإن كانت ثمة أطماع أخرى، فإنها لن تتحقق بالثكنات العسكرية، ولا بالحاكم العسكري اليهودي، ولا بالإرغام على الاعترف والتطبيع مع العدو الصهيوني. والحسابات بهذا المستوى دخول متعمد في دهاليز المقاومة العنيفة، وصناعة متعمدة للإرهاب الشرس، مع سبق الإصرار. لقد خرج العراق من مأزق مظلم بسقوط حكومته، حكومة الحزب الواحد والرجل الواحد، وارتكس في مأزق أشد حلكة بالوجود العسكري على أرضه. وعلى الأمة العربية والإسلامية أن تمارس واجباتها القومية والدينية في انتشال جثته من مستنقع الفتن، وعلى أمريكا أن تعرف أنها دخلت في نفق مظلم، لا تضيء عتمته الترسانة العسكرية، إن كانت بوجودها تريد أن تظل لإعادة صياغة الشرق على عينها، فإن هذه المغامرة ستحول المنطقة إلى بورة فتن، تدمر نفسها ومن حولها، وعليها أن تنظر إلى ما فعله «شارون»الذي تصور أن الترسانة العسكرية قادرة على تركيع الشعب الفلسطيني.
ومما لا مراء فيه أن سقوط النظام شر أزيح عن كواهل العراقيين والكويتيين معاً، ولكن الفراغ الدستوري والوجود الأجنبي شر مستطير، وكم من متسائل يردد:- أشر أريد بمن في العراق أم أريد بهم رشد؟ هناك اختلاف غريب وعجيب في وجهات النظر، وفي قراءة الأحداث، هذا الاختلاف المتنامي يجتال الخطابات العربية: الرسمي منها والشعبي، وهناك إلى جانب الصخب صمت الخائف وترقب المرتاب وهناك تناقض في الرؤى والتصورات لا يحتمل، فمن محيل إلى السننن الكونية، ومن معول على الخوارق، ومن مراهن على جواد القوة، ومن حالف على جواد الإرادة، ومن مؤمن تقي، لا يفقه الواقع، ومن مادي شقي لا يقدر الأقدار ولا نقمة الملك الجبار، ومن متحدث عن الوجه المشرق لأمريكا، ومن متفائل بهذا الغزو. وليست هناك وسطية يتفيأ ظلالها المتعبون من تداخل الأطياف. وبوادر هذا التناقض والاختلاف. لا يبشر بخير، ذلك أن أصحاب القرارات المؤثرة لن يستدبروا هذا اللغط المتناقض إلى حد التناحر فقد يجدون فيه ملاذاً ومغارات، وليس من شك أنهم الأقدر على تعميقه واستثماره، والإعلام سلطة مؤثرة، لعب دوراً خطيراً في الحرب الخليجية الثالثة، مما اضطر أمريكا لضرب بعض مواقعه، واحتلت «الحرب النفسية» الصدارة. والحرب الباردة معادل قوي للحرب الساخنة، ومن استخف بالكلمة، أضاع فرص المواجهة المحكمة. والذهنيات الفارغة حين تشكلها الدعاية الرسمية أو المتطوعة تصنع العجائب. والحكومات الخائفة من الداخل والخارج لن تجد الظروف المناسبة لاتخاذ القرارات المصيرية، وستظل في حيرة من أمرها على حد:- «أمي وصلاتي» والأجواء العربية المكفهرة، غير مهيأة لاتخاذ قرارات مؤثرة، فلكل دولة شأن يغنيها، والاختراقات الصهيونية والغربية أجهضت كل المساعي الخيرة، والإعلام الموجه ليس بقادر على الاستبداد، والذهنية المشتتة ليست بقادرة على الفرز، ولسنا ببعيدين عن التعبئة الذهنية أيام «الجهاد الأفغاني» الذي استجاب لرغبة أمريكا، وأسقط بالنيابة عنها «الاتحاد السوفيتي» ولم تستطع أمريكا بعد أن لعب دوره من تفكيكه، حيث اتجه إليها بوصفها دولة معادية للحضارة الإسلامية. والفراغ الذي تشكل في أعقاب السقوط المفاجئ للحكم في العراق، واحتدام الجدل بين المعارضة العراقية في الداخل والخارج، واحتقان الطائفيات والعرقيات واضطراب الرأي العام، كل ذلك ومثله معه، يشكل مآزق بعضها فوق بعض كما الظلمات وهذه الحرب التي باركها قوم، واستبشعها آخرون، اعتزلتها «الشيعة» وآزرها «الأكراد» وبقيت دول الجوار تفكر، وتقدر، وتعد وتتوعد، وكل واحد من هؤلاء وأولئك يقول في داخله:- اللهم سلم سلم.هذه الحرب غير الشرعية، ستخلق إشكاليات مستعصية، ولكل لعبة ذيولها الأكبر منها، وما «صدام حسين» إلا لعبة اختل تركيبها، فنمت نمواً عشوائياً، كما الأورام السرطانية.
إن باستطاعة أمريكا، وقد تمكنت من تفكيك ذيول اللعب أن ترضى من الغنيمة بالإياب، وتترك ولو مفحص قطاة للمؤسسات العربية والعالمية، لكي تسهم معها في صناعة الحكومة المعتدلة المتزنة الموالية، ولن تتخطى المأزق الحرج بالأثرة، ولكنها مع هذا لم تفعل، ولا أحسبها تفكر، لأنها لا تستطيع إشراك من لم يشاركها على المكاره، كما أنها لن تستطيع البقاء في العراق على مسمع ومرأى من الناس. فالعراقيون لن يقبلوا بالوجود الأمريكي، ولا بالحكومة «القرضاوية» المفروضة عليهم. ولن تجد أمريكا حاكما دموياً مسعوراً ك «صدام حسين» يسوم العراق سوء العذاب. وأحسب أن حكومة يختارها العراقيون بمحض إرادتهم لن تكون مراعية لمصالح أمريكا في الشرق بالقدر الذي تطمح إليه، ويحقق حلم الصهيونية العالمية، والحكومة التي تشكلها أمريكا لن تكون مقبولة لا من العراقيين ولا من العرب، وأمريكا في تجربتها العادلة مع دول عربية ما يبعث على الأطمئنان، لو أنها اتخذت سبيلها إلى مصالحها بالتي هي أحسن متخلية عن مغامرات اليمين المتطرف.
والشائع مظهراً ومخبراً أن العرب بمجملهم غربيون وحتى في زمن المد الشيوعي الذي ظاهره إعلام متفوق، وكثافة بشرية، لم يكن أحد من العرب متشرباً للماركسية، وإنما كانوا متصنعين وإعلاميين، والذين اتخذوها شرعة ومنهاجاً، تحولت سوحهم إلى حمامات دم، وقامت بين فصائلهم حروب أهلية عنيفة، ساقتهم جميعاً إلى مزبلة التاريخ. ومن المسلمات أن:
- الاقتصاد العربي غربي رأسمالي.
- والمدنية العربية غربية.
- والهوى العربي غربي. وواجب أمريكا ألا تفرط بهذا المكتسب، الذي وضع بذرته «نابليون» وتعهدته البعثات والترجمات والمبشرون والمستشرقون والمستغربون. وعلى أمريكا ألا تميل إلى الأثرة، وألا تصيخ للأصولية والصهيونية، فالزمن لا يحفل بالعنف والعنف المضاد، وشركاؤها الأوربيون، لن يسلموا لها بالغنائم، ويعودوا بالمغارم، والموتورون منها، والخائفون من مخططاتها، سيدعمون أي مقاومة، والجيش المتفوق يرتبك أمام فوضى المواجهات، وأمريكا من قبل التدخل العسكري مستأثرة بالكثير من المصالح، وأصدقاؤها التقليديون أوفى منها، وأي تحول من طرفها، سيعكر صفو العلاقات، ومزيد المكاسب الذي تطمح إليه ستنفقه على حماية مصالحها التي لمَّا تزل مستهدفة. لقد دخلت أمريكا في مآزقها منذ أن جُرحت كبرياؤها في الحادي عشر من سبتمبر، ولما تفق بعد من هول الصدمة، وما من أحد قدَّر وقع الصدمة عليها، ولهذا استغرب الجميع تدخلاتها العسكرية، التي لم يجارها فيها أصدقاؤها الأوربيون.
وأوربا بوحدتها الإقليمية تنازع أمريكا الزعامة، وتقاسمها المصالح، لقد اختطت لنفسها موقفاً متزنا، قد يكون في صالحها. ثم إنها تحقق نجاحات إقليمية واقتصادية مذهلة، في تقاربها وتعاونها واتحادها، مما يشكل معادلاً قوياً، وشريكاً مؤثراً في الأحداث العالمية، ودول شرق آسيا تسابق الزمن في التحدي الصناعي الاقتصادي. وما لم تتدارك أمريكا الأمر، وتعتمد على قوة العقل والعدل، وتعد تحسين صورتها، وتطهير سمعتها، وما لم تفق من هول الصدمة فإن الفرصة الذهبية متاحة لأوروبا، وبخاصة بعد الحرب غير الشرعية التي خاضتها منفردة، وبدون غطاء قانوني، ولا أحسب العرب قادرين على مزيد من الصمت، ولا على مزيد من التهميش، وبخاصة حين يتفاقم غليان الشارع العربي، وحين تتعرض مصادر الثروة عندهم للخطر، أو حين تمتد اللعب إلى إنتاجهم القومي ومصدر أمنهم الغذائي، ولا أحسب أمريكا قادرة على احتمال المتاعب التي تعرضت لها في سوح القتال، وفي المشاهد السياسية. وإذ يكون العراق مغدوراً يتشحط بدمائه، ويغالب سكرات الموت، فليس من المعقول أن يظل العرب بكل مؤسساتهم وبكل أرصدتهم القومية التي أتخمونا بها خارج الحدث، وتلك لا شك مآزق محرجة لكل الأطراف. فأمريكا تضع يدها على الزناد، وليس لديها فرصة لتداول الرأي مع الآخر، والعرب مصابون بوهن الفرقة وفشل التنازع، والوضع القائم لا يمكن احتماله. فمن الذي يملك المبادرة، لإقالة العثرات، وفك الاختناقات، وتجاوز المآزق المتنامية؟ هذا الخيار بحد ذاته يعد مأزق المآزق.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:43 PM

الكبرياء العربية والجبروت الأمريكي في مأزق..!
د.حسن بن فهد الهويمل


2/2
وأطراف الإشكالية: الغرب، والعرب، والعراق، ومن ورائهم أطراف أخرى، تتمثل بما بقي من العوالم: الإسلامية والغربية والشرقية، ودول الجوار، كل أولئك يعيشون حالة من التوتر والترقب الحذر. وليس أحد منهم بقادر على فك الشفرة، فكل شيء بعيد قريب، والمحير سقوط الحكومة، واختفاء رموزها، ثم تساقطهم الواحد تلو الآخر، وإلحاح بعضهم على الاعتقال، لحقن دمه، وعدم الرغبة الملحة في العثور على سلاح الدمار الشامل ورأس الفتنة. وإذ يغيب الطرفان المشرعنان للحرب: رأس النظام والسلاح، أو يغيبان، تظل المأزقية قائمة، ويظل معها الناس في أمر مريج، ولن يجرؤ أحد على إثبات ما لم ترد الرؤوس المدبرة إثباته، وإذا كانت أمريكا تعيش سكرة الانتصار العسكري، وذهول الصدمة «السبتمبرية» فإن الوقت ساعات حبالى يتمخضن عن مفاجآت معضلات، وستكون يوماً ما أحوج ما تكون إلى من ينتشلها من مستنقع الفتنة، ويخفف عنها أعباء المسؤولية الجسيمة. فملء الفراغ الدستوري الذي خلفه غياب السلطة في العراق بالشكل المقبول عزيز المنال، وإعادة القدر الكافي من البنية التحتية التي دمرتها ثلاث حروب شرسة، وديون العراق التي نيفت على مائة مليار دولار، لاتحتمل المزيد من الالتزامات. ولن تنفرد أمريكا بملء الفراغ، وإعادة البناء، وحل إشكالية الديون، وأصدقاؤها الذين لم تُطع لهم أمراً في الشأن العسكري، لن يكونوا معها كما تريد في شأن الإعمار وفك الأسر على الأقل. وفوق هذا وذاك فإن العالم بأسره يتجرع مرارة حربين شرستين، أدتا إلى إسقاط عقيدتين: فاحتلال العراق للكويت، أسقط رهان (القومية العربية) وحرب أمريكا الخارجة على الشريعة، أسقطت رهان الحرية والعدل و(الديمقراطية) الغربية.
- العرب فقدوا مصداقية: القومية.
- والعالم فقد مصداقية: العدل والحرية و(الديموقراطية).
وبقي ركام الكلام الذي قاله المفكرون القوميون عن حتمية العقيدة القومية، وركام الكلام الذي أطلقه المستغربون عن إنسانية الحضارة الغربية وعدالتها، دونما قيمة.
وأدرك المتهافتون على سرابيات الحضارة الغربية أنه أسقط في أيديهم، وانقلبوا خاسرين، والطرفان: الغرب والشرق ستكون أمامهما خيارات، كل واحدة منها أعقد من الآخر، ولابد لهما من لغة إعلامية مطمئنة، لا لغو فيها، ولا تأثيم، وتحرف سلطوي دستوري متوازن، يعيد المشاهد كافة إلى سواء السبيل، ويحقق أدنى حد من المعقولية والمصداقية. وكل من استعاد لغة الأمس، متصوراً أنها ستفعل فعلها السالف، سيمنى تحرفه بالفشل، ذلك أن العذاب المستطير الذي تجرعته الشعوب العربية، كشف لها زيف اللغة الإعلامية، ومحاولة تشفير الذهنيات، لتقبل الواقع المرير، لم يعد أمراً هينا، لقد سقطت كل الأقنعة، وتعرت كل الزيوف، ولم تعد الأذن العربية مهيأة لقبول كل مايقال.
وإذ تكون تلك الحرب الخارجة على الشرعية بتدبير ومكيدة ومباركة من اليهود الذين ينتابهم الذعر، ويحسبون كل صيحة عليهم، وبتنفيذ متسرع وغير مسؤول من دول كبرى، وقعت تحت تأثير الأصولية اليمينية المتحزبة على الأمة، فإنها تذكرنا ب (غزوة الأحزاب) التي تنادى إليها كفار الجزيرة العربية من الشمال والجنوب والشرق والغرب (قريش) و(بنو سليم) وقبائل (غطفان) و(بنو مرة) و(بنو أشجع) و(بنو فزارة) و(بنو أسد)، وإذا كانت الآيات هي الآيات، فإن الرجال غير الرجال، ومثل هذا التكالب المتعجرف المتغطرس قد أعاد التاريخ، فإنه سيترك ظلاله القاتمة المأزومة على الذهنية العربية المشلولة، مشكلاً عقبة في طريق الحلول المجحفة التي يتأبطها صناع القرار، ودافعاً إلى مزيد من العناد والمغامرات والانفجارات، مشكلاً مزيداً من الأزمات الطاحنة. والأمة العربية التي أخرجت الاستعمار (البريطاني) و(الفرنسي) و(الايطالي) بملايين الشهداء، لن تقبل به آتياً تحت أي مظلة، وسوف تكون مستعدة بدفع الثمن مضاعفاً، وسيطفو على السطح في ظل هذه الممانعات لاعبون تحركهم الثارات، وليس هناك مايمنع المقهور من أن يتحالف مع الشيطان، ولا أحسب المؤسسات السياسية بقادرة على التحكم بالرأي العام، ذلك ان الامتعاض الذي فاض معينة، لن يكون من السهل ترويضه، ولن يكون للاستعمار موطىء قدم مرئي، ما لم يمكن له طرفا القضية: السلطة والأمة. وكل منهما وجل من الآخر، وحتى لو خدمت الظروف العائد الجديد، فإن الثمن سيكون باهظاً على الطرفين. والأهم من كل هذا وذاك وعي النخب الذين غنوا للقومية العربية وللحضارة الغربية معاً، ثم فوجئوا بغدرهما، هل سيتحرفون لتجاوز عقابيل الإخفاقات. ومما لاشك فيه -ومن خلال المنظور القريب - أن الذين خاضوا الحروب، وخسروا الرجال والأموال والسمعة، لن يرضوا بالحلول الوسطية، التي تحق الحق، وتبطل الباطل. وكيف لعربي أن يحلم بالإنصاف، وهو غارق إلى أذنيه في وحل المكائد الصهيونية، والأطماع الغربية، التي استغلت الضعف والتخلف والتفرق، وقوت من جانب الطابور الخامس. والحكم البائد في العراق الذي شرعن بتصرفاته المناقضة لأبسط الأعراف لكل مكيدة، راح ضحية صلفة وجهلة بأبجديات السياسة. والمأزق الأصعب في إمكانية عودة البقية من كل الأطراف المحتقنة بكل قابليات الانفجار من: معارضين وطائفيين وعرقيين إلى الصف العربي، لبدء رحلة شاقة، تضمد الجراح، وترأب الصدع، وتجمع الشتات، وتمكن العراق من أخذ مكانه الطبيعي، محتفظاً بوحدته الإقليمية وتجمعه البشري. ومن تصور أن سقوط النظام العراقي يعد نهاية المشكلة فقد وهم وأوهم. الخطوة الأولى في الطريق إلى الهاوية اختفاء العصابة الظالمة، التي أذاقت الشعب مر العذاب، ثم جاءت الصاخة، على يد قوة أجنبية أمطرت الشعب العراقي بوابل من الحمم، أحرقت الأرض، وشوت الوجوه، وتعمدت طمس الذاكرة والتاريخ والحضارة. وقدر الأمة الأتعس وقوعها تحت قيادات تحرض على نفسها، وتثير اشمئزاز الآخرين، وتحملهم على قمع كبريائهم الفازعة المصطنعة، وحين يجد الجد، تتخذ تلك القيادات من الشعب الأعزل دروعاً بشرية، تختفي وراءه، هذه الظواهر غير السوية تؤزم الأزمات، وتضع الأطراف في مآزق حرجة. وفي لجة المشاكل وعتوها فإن هناك تصورات للأحداث متباينة، وقراءات متعددة لتداعيات الحروب الأهلية والحدودية والتحريرية، لو صدق أكثرها تفاؤلاً، لكانت كارثة تواجه الأمة العربية. ومهما حاولنا محاصرة التشاؤم والقلق، فإننا لا نستطيع الإغماض على أهداف مخيفة، يلوح بها المعنيون والمراقبون، وتزحف بها فلول الأحزاب البائدة. وتحت وابل الضربات المتلاحقة، وتتابع المكائد العظيمة، واللعب المكشوفة، فإن الأمة العربية لما تزل في حالة من الذهول والارتباك، ولم تتخذ أي موقف جاد، يخفف من المعاناة، ولما تلح في الأفق بوادر وفاق، يضع كل المشاكل تحت الأقدام، ليمكن الأمة من مواجهة قدرها المأزوم بروح جماعية متفائلة، وأسلوب موحد، ذلك ان ذيول الحرب الشرسة ستنسحب على كل مصالح الأمة، ولاسيما أنها تعيش على حافة الانهيارات الاقتصادية والأمنية. فالأزمات مستفحلة، والجبهات الداخلية مأزومة، والعنف على أشده، والخطابات متناحرة، حتى لاتكاد تجد رجلين على قلب رجل واحد، والغرب القادم على مطايا القوة، له أطماعه ونواياه المخيفة، التي لا تواجه بمبادرات فردية، ولا بقرارات فورية.
فالحرب التي تولت كبرها أمريكا، لايمكن ان تكون تطوعية، ولا إنسانية، وليست وقفا على تحرير العراق، وتدمير السلاح. والمليارات التي استنزفتها تلك الحرب، لن تتحملها الخزينة الأمريكية وحدها. والتحدي السافر للشرعية الدولية، وتقديم القوة العسكرية على القوة القانونية، لايمكن ان تحرض عليها أسلحة الدمار الشامل، ولا دكتاتوروية (صدام)، فكم في العالم من أسلحة مدمرة، وكم فيها من حكام ظلمة، ولاشك ان وراء الأكمة ما وراءها. وإذ نكون سعداء بسقوط النظام العراقي، لما يشكله من أعباء على المنطقة الخليجية، وعلى الأمة العربية، فإننا لا نرى ممارسة الوصاية، ولا أن تتولى دولة كبرى عملية إسقاط الحكم، وحين لا نختلف حول النوايا والمطامع، فإن الأمر يتطلب من المعنيين تصرفاً حكيماً، بعيداً عن المثاليات والعنتريات والغوغائيات، وهو ما لم تهيئ الأمة العربية نفسها له، ولا قيمة للمزايدات التي نسمعها بين الحين والآخر، على مستوى الزعماء السياسيين أو الحزبيين أو الدينيين، فلقد سمعنا الكثير الكثير، ودخلنا في رهانات خسرناها، قبل أن يجف المداد، وكم زايد على المثاليات من لاينطوون على مثمنات، ومن يمتلكون أكثر من نافقاء، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، نفذوا بجلودهم، تاركين الأبرياء يتجرعون مرارة المجازفات والمغامرات المجنونة، وذلك ما يفعله الجهلة المتهورون، والأضوائيون المفوهون، وأدعياء المواقف، ممن لايحسنون صنع القرارات، ولاتنفيذ المخططات، ولا فقه الواقع، ولا احترام المصداقية. لقد كان بإمكان العراق في الحرب الثانية أن يخرج من الكويت، مفوتاً على العالم بأسرة الضربة القاضية، ولما لم يحسن التصرف، وهو كذلك منذ أن خلقه الله، فقد دمرت ترسانته، وأحرقت أرضه، واقتيد كما السائمة إلى خيمة في (صفوان) ليوقع على بياض، ملتزماً بما لايقدر عليه من غرامات، قابلاً التجرد من كل سلاح مرهب أو رادع، وهو قد فعل أسوأ من ذلك في الحرب القاضية، وقد يفعلها غيره. والأمة العربية وسط هذه النكبات والنكسات، تعيش حالة من الغياب، أو التغييب، فالدول الكبرى تتداول وضع العراق، فيما بعد الحرب، وكل دولة أوروبية تتقدم برؤيتها أو تحفظها أو اعتراضها. وكأن العراق غنيمة أو فيء يقتسمه المجاهدون في سبيل الحضارة الإنسانية والحرية، والدول العربية ليس لها أي دور في عراق ما قبل الحرب، ولا فيما بعده، وجامعتها تصارع ذاتها، وتعيش حالة من التوتر، وخلافها مع بعض الدول الأعضاء، حفزهم على الامتناع عن دفع حصتهم، وهي مع هذا الوضع الطارئ في أحلك الظروف، لا تستطيع أن تكون شريكاً في تقرير المصير العراقي، وكيف لها أن تفكر، وهي بعد لم تقرر مصير نفسها. وغياب الأمة ومؤسساتها، واكتفاء كل دولة بتصريح استهلاكي، لايسمن، ولايغني من جوع، يشكل مأزقاً حرجاً، والمأزق يشتد ضيقا حين لا تلوح في الأفق بوادر وفاق عربي مؤقت، يدفع بكلمة واحدة، تحمل الحلفاء على التفكير بحل يقترب من الإنصاف، ولايكونه. ومع الويلات المتلاحقة، فإن الحلفاء الذين دمروا الآلة العسكرية والبنية الاقتصادية في العراق، أشعلوا فتناً عمياء، سيكون لها مابعدها، فمن سيحكم العراق؟ وبماذا سيحكم؟ - وذلك موضوع قادم-. وفي بؤرة التوتر، وعلى حافة الهاوية، يجب على أمريكا ان تفعّل دور العرب، وأن تكرههم على أن يؤدوا أيسر الأدوار، لتهدئة الشارع العربي، وليس هناك ما يمنع من أن تتقنع بهم، لتجتاز بالمنطقة ويلات (اللاسلم) و(اللاحرب)، وعلى العرب ان استؤمروا، أن يمارسوا الوسطية، وأن يجنحوا للسلم كافة، وان يعطوا أمريكا شيئاً من الثقة والاطمئنان، فالواقع المرير لايحتمل المزايدات الكلامية، ومنطقة الخليج لا تحتمل حرباً رابعة، وحين نستبعدها، فإن أمريكا لن تجد بداً من ممارسة الضغوط الاقتصادية، وتحريك العبوات الناسفة من مشاكل: طائفية وحدودية، وحزبية، وبخاصة ان الأوضاع القاتمة في المنطقة العربية قابلة للاشتعال، والإشكالية، بل أم المشاكل على سنن (أم المعارك) و(أم القنابل)، تكمن في تحديد المآزق، ووضع الحلول المرحلية المناسبة، وتنكب المزايدات، وتوعية الشارع العربي، والكف عن تملقه وتخديره أو تهييجه، والتحرك وفق السنن الكونية، لا وفق الخوارق، فالله جعل النار برداً وسلاماً على (ابراهيم)، وفلق البحر (لموسى)، وأخرج (يونس) من بطن الحوت، و(يوسف) من غيابة الجب، وسخر الريح (لسليمان) وأمد (محمداً) بالملائكة المردفين، ونصره بالرعب، وهو القادر والقاهر فوق عباده، وليس الجبروت الأمريكي بمعجز في الأرض، والله وعد بالدفاع عن الذين آمنوا، ولكن أحداً من المغلوبين لم يفرّ إلى الله، ولم يدخل في الدين كافة، ليتعرض لنفحات الله، وإذا أصاب الأمة قرح، فقد أصاب عدوهم قرح مثله، وتلك الأيام يداولها الله بين الناس، فهل نحن فيما نحن عليه مؤهلون لمدد الله؟ وهل استكملنا العدد والعدة، إن علينا التفكير بخطاب يعلم، ولايزيف، ويؤلف ولايفرق، ويطمئن ولا يهيج، ويعطف الخصوم ولاينفرهم. الأمة العربية تنطوي على إمكانيات مهدرة أو مهملة، وأمريكا تمتلك قدرات متعددة، وهي إذا قالت فعلت، ومن واجبنا أن نقدر ونوقت، وأن نكف عن خطاب المزايدات والمواقف الزائفة.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:44 PM

البابطين في ضيافة الصالح..
د. حسن بن فهد الهويمل


عهدي برجل الأعمال عبدالعزيز البابطين يوم كنا محظيين عنده نحضر تظاهراته الثقافية في دمشق والقاهرة والكويت، وبعد أمة سكنت الرياح وما عدنا نسمع الا اخبار مبادراته الايجابية التي نحمده عليها ونغبطه على ايْسرها ونود لو ان رجال الاعمال في بلادي اتخذوه قدوة وبعضهم يفعل فوق ما يفعل ولكننا نطلب المزيد.
والبابطين الذي يكرمه الاستاذ الكبير والمربي القدير الشيخ عثمان الصالح كأنه علم في رأسه نار، يعرفه المسكونون بهم الثقافة والادب لاسهاماته الايجابية في خدمة الفكر والثقافة، ومع اننا نود ان يكون اكثر انفتاحاً واوسع استيعاباً لمختلف الخطابات ونحرص ان يعدل في الظماء فاننا نثمن جهوده ونقدر عطاءاته، ونعد هذا مؤشر تحضر ووعي والذين يعنيهم الشأن الثقافي ليسوا بحاجة الى من يذكر طرفاً من انجازاته على كل المستويات الثقافية والفكرية والادبية، غير اننا ومن باب شد ازره نبدئ ونعيد اطرافاً من اسهاماته التطوعية، وكم نود لو كان فيما يعمل قدوة للمترددين من اصحاب الدثور.
لقد هاتفني الاخ الكريم الاستاذ بندر بن عثمان الصالح لتأكيد الدعوة التي بعثها متفضلاً ومناشداً ان اشارك في الحديث عن الضيف ومنجزاته المتميزة لعلمه انه يهمني الشأن الثقافي، ولما لم اكن قادراً على حضور هذه الاحتفالية فقد حرصت على الا تفوتني المناسبة ولو بكلمة من بعيد.
والاديب الاريب عبدالعزيز بن سعد البابطين له علينا حقوق كثيرة فهو الشاعر الرفيق، الذي اصدر ديوانه الاول «بوح البوادي» واسهم في خدمة الشعر العربي الحديث بموسوعته التي تشكل مرجعية للباحث العربي، ولما نزل نرقب مزيداً من الموسوعات، ومزيد من الشمولية في خدمة الادب العربي، فلقد قيل لي بأن مؤسسته تهتم بجانب منه ولما يتحقق لي ذلك، ورجل كريم مثله يجب ان يكون مشرع الابواب متعدد الاهتمامات حفياً بكل كلمة شعرية او ادبية تخدم ادب الامة.
الشيء الذي اسعدني كثيراً اهتمام المشاهد الادبية والفكرية والاكاديمية به ومنحه الشهادات والاوسمة وتنظيم الحفلات التكريمية تقديراً لجهوده، ويأتي تكريم الصالح له حلقة في سلسلة التكريم الذي يلقاه من مؤسساتنا الثقافية والتعليمية.
ما اود الاشارة اليه وقد طالت افضال الرجل مواقع كثيرة ان يهتم بأشياء من اهمها:
اولاً: الترجمة فالعالم العربي يفتقر الى مؤسسات اهلية او حكومية للترجمة وما هي الا جهود فردية مبتسرة.
ثانياً: «المصطلح» العالم العربي يعيش حالة فوضوية في تلقي المصطلحات وترجمتها وقد يكون للمصطلح اكثر من تعريب او ترجمة او نقل. ولو وضع للمصطلح مجمع او مركز معلومات وطلب من ذوي الشأن والمهتمين بشأنه الوفود اليه والانطلاق منه، ولقد كان المصطلح ولايزال اشكالية المشاهد الفكرية.
ثالثاً: التشرذم الفكري والسياسي والادبي والثقافي والدخول في مآزق الصراع والتنازع، والمشاهد المضطربة بحاجة الى جهود جماعية توسع ارضية القواسم المشتركة وتسهم في التقليل من حدة التنازع. ولقد فعلها الامير الشهم خالد الفيصل بمبادرته الانسانية «مؤسسة الفكر العربي».
والامل معقود على لداته وامثاله ليهتبلوا مبادرات مماثلة تسهم في لم الشمل وجمع الكلمة ورأب الصدع والعودة الى مرجعيات الحضارة الاسلامية والانطلاق منها فهي وحدها القادرة على معالجة المشاكل القائمة.. ولقد طاف المفكرون العرب في كل آفاق المعرفة، وجربوا كل المبادئ فكانت القوميات والعلمانيات والحزبيات ولم يبق الا ان ينسوا جراحات الماضي ويفتحوا صفحة جديدة تسهم في تضميد الجراح وجمع الكلمة ولا احسبهم جميعاًً الا صفوة الصفوة ولن تجتمع كلمتهم الا على مصادر الثقافة والحضارة الاسلامية فهي وحدها القادرة على تلافي ما فات.
تحية حب وتقدير للضيف العزيز وشكر وثناء لمن ناب عن الجميع في تكريم كفاءات الوطن العربي.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:45 PM

قل: هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة..!!(2/1)
د. حسن بن فهد الهويمل


الحالة الراهنة في الوطن العربي حالة استثنائية قلقة، لا تحتمل أنفاساً كريهة، ولا تنقيباً عن نوَّم الفتن، وإنما تقتضي تحامي مناطق التماس، وتوقي مكامن الإثارة، وتحتم استدعاء القواسم المشتركة، والعمل على تقوية الروابط من خلالها، والعفو والصفح، وتجافي المحظور والمسكوت عنه، والكف عن النيل من أقوام بأعيانهم، تغليباً للمصلحة المرحلية، ولماً للشمل. ومثل هذه الظروف الضاغطة مجال خصب للانتهازيين، الذين يبيّتون مالا يرضى من القول. وحين يجازف الفارغون من فقه الواقع، والمفتقرون إلى أدنى حد من الثقافة الشرعية في اقتحام الحمى، والخلط بين مواجهة المبادىء والإجراءات والوقوعات، ينتفض الرأي العام، المحتقن من ضغوط الواقع، وينتقض غزله، ويتفكك ترابطه، متصورا أن مثل هذه المفرقعات الفارغة قادرة على تحويل المسار، وما هي في حقيقة الأمر إلا تجشؤات من فراغ، لا تقدم، ولا تؤخر ولكن كيف يتأتى لك إقناع الرأي العام، وتبشيره بطول السلامة كما «مربع»؟ وفي ظل التداعيات المزعجة، يحس المقتدر أن التوتر وردود الفعل الانفعالية قد بلغت حداً لا يحسن معه السكوت، ومن ثم وجبت الموعظة: إما للهداية، أو للمعذرة، على حد {مّعًذٌرّةْ إلّى" رّبٌَكٍمً وّلّعّلَّهٍمً يّتَّقٍونّ} ومع هذه الزوابع الكلامية، التي تكاد تحجب الرؤية، ترددت كثيرا في مقاربتها، لأنها زوابع متربية، اختلط فيها الجد بالهزل، والحق بالباطل، واللغو بالسَّبِّ، ومما صعد الشعور بالتردد أن تجربتي مع ذات الكتبة البائسين بؤس مراميهم تجربة سيئة، لا تشجع على مزيد من المقاربات، غير أن ترك الثنيات يتسلل منها الخائضون في سمعة الأبرياء والمتحرشون بالمبادئ بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير إغراء بمزيد من التجاوزات، وكم كان بودي توفر الأجواء المناسبة للحوار المهذب، لنصل بقضايانا إلى بر الأمان.
ومما حفز على القول تنادي الأشباه والنظائر، واتخاذ بعضهم بعضا ظهرياً لمنع المدافعين عن أنفسهم، على الرغم من لغطهم بحرية الرأي، وتكافؤ الفرص، وذلك عين المقت. ومع كل المحاذير والتحفظات، يظل رد المسيئين لغيرهم من الأناسي والقضايا على أعقابهم واجباً عينياً لا كفائياً، وبخاصة حين تمتد الأذية للمبادىء. وإذا قوي المرتاب بارتيابه، فإن على صاحب اليقين ألا يضعف بيقينه. ومتى بادر المهتاج الأعزل إلى النيل من قناعات المقتنع مبتدئاً تعديه، ولم يتهيب من جرح المشاعر، وكان المتأذي قادراً على دفعه، تعين ذلك، ولكن بالتي هي أحسن، دون الإحالة إلى ما يسيء إليه، ودون النفي المتعمد له، أو مصادرة حقه في البرهنة عن وجهة نظره، إذ إن مطارحة الأفكار حق مشروع، ولا يتحصحص الحق إلا بالحوار المتوفر على برهانه وآدابه ودواعيه المشروعة. مع استشعار أن الخطأ ابتداء، لا يحمل على الإدانة. وأن الإصرار عليه بعد ما يتبين وجه الصواب، يقتضي ممارسة الحق السلطوي، فالناس لا يستقيم أمرهم مع الفوضى. ومن تصور أن حرية الرأي تبيح الخوض في كل شيء، والإيغال في أعراض الآخرين، وجب تعليمه بالطريقة التي يفهم من خلالها.




فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً
فليقس أحياناً على من يرحم


ومن مات، وليس في رقبته بيعة، مات ميتة جاهلية، وتحمل البيعة تحمل لتبعاتها، ولهذا سميت الولايات بالسلطات، والإيمان بالعقيدة وهي عقد. والواقع في الخطيئة: جهلاً وتأولاً وتعمداً وإصراراً، للمجادلة معه ثلاث حالات:
فإما أن يكون طالب حق، لم يهتد إليه، ومن واجب المجادل أن تهديه سواء السبيل.
أو يكون طالب باطل مصراً عليه، مدركا خطورته أو غير مدرك، ومسؤولية أهل الذكر والحل والعقد أن يبينوا له خطورة مطلبه، فإن امتثل وإلا وجب على السلطة رده إلى الجادة.
أو يكون عاشق أضواء، يريد ان يكون حاضر المشاهد، وحديث المجالس، متقناً انتهاز الفرص المواتية، مستغلاً الظروف العارضة، وواجب الناصحين أن يخاطبوا الدهماء الذين يخلقون بالتفافهم حوله بطلاً زائفاً لا قيمة له، لينفضوا من حوله.
وأيا ما كان الأمر، فإن طائفة من الكتبة يتقنون لعبة الإثارة والقفز إلى بؤر الأضواء، وليس يعنيهم ما يقال بحقهم، ومثل هؤلاء لا يتورعون من الرتوع في الأعراض المصونة، ولا يعفون عن العناد والتعدي والإيذاء، لفقدهم المثمنات واستسهالهم الهوان، والمتعقب لما تتداوله صحف الإثارة من اندفاعات فجة في الدين والسياسة والفكر والأدب والثقافة ينتابه الخوف. فالمشاهد حفية بكل متقول لا يهاب يوم الحساب.
ومشاهد الفكر والسياسة والدين لا تصلح فوضى لا ضابط لها، وتقحم الجهل والمبتدئين ، وأنصاف المتعلمين، ومثقفي السماع إرباك لمسيرة الحياة الفكرية، والواقعون تحت طائلة الأمية التخصصية، يهرفون بما لا يعرفون، ويعولون على نخبوية خاوية، وفهم سقيم للحرية.
والمشاهد الإعلامية لا تخلو أبدا من أناس يستعذبون إثارة الرأي العام، وشد انتباهه، وإرباكه، وذلك بالخوض في مسلماته، دون مصلحة مرجوة، كما لا تخلو من دعاة على أبواب جهنم حذر منهم رسول الهداية. والموغلون في المواقع الحساسة، يعرفون حجم الإساءة، ولكنهم ك «الساديين »الذين يلذ لهم التعذّب والتعذيب، والخطورة أنهم كالمستهمين على السفينة، إن تركوا يخرقون في نصيبهم غرق الجميع. والمهتم بالمثمنات والقيم، يسوؤه أن يخوض فيها من لا يقدرها قدرها، ومن لا يقتدي برسول الهداية واللين والرفق، المراعي للرأي العام، المتجنب لإثارته، والمبقي على المفضول إيثاراً لتهدئة الأمور، وقد فعلها بأبي هو وأمي، حين دخل مكة. والذي لا يعرف خطورة الإثارة، ولا يخشى عواقبها، يظل ناقماً ومنقوما عليه، ولما يزل تتخطفه صحافة الإثارة وقنوات الضرار، معولة على حرية التعبير، وحرية التعبير تتحقق فيما دون القطعيات والثوابت، وفيما دون المعلوم من الدين بالضرورة، وبئست حياة يكرهها شهود الله في أرضه، ويكرهون انبعاثها، وكفى بالمرء عيباً ألا يعرف حدود حضارته، التي هي في النهاية حدود الله، ولا يمكن تصور حضارة أو سلطة بدون خطوط حمراء، ومن تصور الحضارة والحرية بدون حدود فقد ضل سواء السبيل. والتعدي على الحرمات تحت مظلة الحرية، تحفز المهتمين بأمر الجماعة إلى ركوب المكاره، وليس ما أكتبه قصراً على من قال في شأن «الدعوة والدعاة» بغير علم، ولكنه تصد لظاهرة تزداد يوماً بعد يوم، باسم حرية التعبير وحقوق الإنسان، كما تراها الحضارة المادية والمفوضون إلى العقل.
وما أكثر الكتبة الذين يخوضون في قضايا الدين، ويتجرؤون على الفتيا، وينصبون من أنفسهم قادة فكر وأهل ذكر، ولما يعرفوا النص واحتمالاته: الدلالية والثبوتية، أو قطعيتها، ولا قواعد الفقهاء وآلياتهم الاستنباطية، وليس لهم من شفيع إلا أنهم حملوا الشهادات العالية، أو تذبذبوا بين الإيغال في الدين والسياسة بدون رفق، ثم نكصوا على أعقابهم، وبهذا الاضطراب أو الجهل فرضوا أسماءهم كتابا مسموعين، وهم أجهل الناس فيما عدا رسيس تخصصاتهم، وأقلهم وعياً بنواقض الإيمان، ومقتضيات الحضارة التي ينتمون إليها، وأضعفهم فقهاً للواقع. ولهذا تراهم يثورون، ويثيرون، وحين تناصحهم، وتبين لهم إن الذي قالوه محض افتراء، وفرضيات مؤذية، وتعد على الثوابت، يتحرفون لمقولات جاهزة، كالتجهيل والوصاية والمزايدة، ويتحيزون لمشايعيهم كشاعر غزية، معولين على رغبتهم في الإصلاح، وما هم بمصلحين، فالمصلح الناصح يتثبت من الأنباء، ويتبين دقائق الحقائق، ويتحامى إثارة الرأي العام.
ولقد شهد أحدهم بمحض إرادته، معترفاً بمئات الاتصالات، وعشرات الكتابات الناقمة عليه، فهل كل هؤلاء البرمين من التعدي والتجني جهلة، وهو وحده العالم النحرير، والناصح الأمين؟ ولقد سبق لي أن أشرت من قبل، وأنا بصدد الرد على ذات الكاتب إلى من لم يؤصلوا لمعارفهم، ولم يعرفوا ثوابت حضارتهم ومتغيراتها، ومن يغطون افتقارهم متظاهرين بالتشبع بالعلم الشرعي عبر سياقهم لقاعدة فقهية في غير محلها، أو حكماً شرعياً على غير وجهه، أو حادثة عارضة أو دليلاً لا يصح. والأسوأ من هذا وذاك: اختلاف المفاهيم حول حدود الحرية، ومجالات الاختلاف، وحق الاجتهاد. ومن فاته الركب تعجل في اللحاق به عن طريق الحديث عن المسكوت عنه، معللاً تسلقه محاريب العلم الشرعي بحرية التعبير وحق الاجتهاد. والعلماء الناصحون يعرفون حقهم في القول، وحق حضارتهم التي ينتمون إليها، وتأبى كرامتهم أن ينالوا منها، تحت تأثير الحضارات المهيمنة، وأخص خصائص الحضارة «الحكومة المدنية المسلمة» و«الدعوة إلى الله» {كٍنتٍمً خّيًرّ أٍمَّةُ أٍخًرٌجّتً لٌلنَّاسٌ تّأًمٍرٍونّ بٌالًمّعًرٍوفٌ وّتّنًهّوًنّ عّنٌ المٍنكّرٌ} ، ومن قال بالاستغناء عن الدعوة، تعويلاً على إسلاميته أو فطرته، فهو إما جاهل أو مكابر، وكيف يتأتى له ما يريد، والقرآن الكريم استنفر من كل فرقة طائفة، للتفقه في الدين، وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم، وجعل الذكرى تنفع المؤمنين. والمستبرئون لعرضهم ولدينهم هم الذين إذا قاربوا قضايا الدين، حرروا مسائلهم، وحددوا مواقفهم، وأحكموا آراءهم، وفصلوا مقاصدهم. والمخفون من المعارف يعتمدون على الإطلاق والتعميم، لكي تكون أقوالهم حمالة أوجه، وما هي إلا حمالة الحطب.
وإذ يكون الاجتهاد مطلبا إسلاميا، وحقاً متاحاً، يكون من أوجب الواجبات، أن يعرف المقارب له، أنه ممارسة علمية، وأن من ضوابطه: أن يملك المجتهد شرط الاجتهاد، وآلياته، ومتطلباته المعرفية. وعلماءالأصول ذكروا ذلك، وحدودا مجالاته وآلياته وشروطه، ومواصفات المجتهد، ومن أطلق مقولة: «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فاخطأ فله أجر واحد». ثم أتاح الاجتهاد لكل أعزل من معرفة، وخال من ورع، فقد ضل ضلالاً بعيدا. وفوق ذلك، إن الاحتهاد لا يكون إلا في النصوص الحمَّالة. والزمن المأزوم زمن مؤسسات ومجمعات فقهية، تنظر في النوازل، لا زمن مبادرات فردية، وذهاب كل متقول بما اختلق، فذلك مؤذن بالتنازع، وفقد للاعتصام بحبل الله.
والاجتهاد: مطلق ومقيد، من حيث الإجراء والممارسة.
ولهذا يقول الأصوليون: «لا اجتهاد مع النص». والذين يتداولون مصطلح (النص) ثم لايعرفون تعدد دلالاته بتعدد الحقول المعرفية والفترات الزمانية والمذاهب الفقهية والكلامية والفلسفية وبالذات مفهومه عند السلف، يتصورون أن السلف يمنعون الاجتهاد مع وجود أي نص، حتى لقد ظهرت مصطلحات «العقلانية» و«أهل الرأي» و«الظاهريين» و«النصوصيين» مع أن كل هذه الطوائف تستخدم العقل والفكر، ولكن بطرق متفاوتة، وفات المتقولين على السلف. أن «النص» الذي ليس معه اجتهاد، يعني القول الذي لا يحتمل إلا دلالة واحدة، مثل «لا إله إلا الله» فهذا نص لا يحتمل إلا دلالة الوحدانية المتفردة، ومن اجتهد في تحميل النص دلالة «تعدد الآلهة»، فقد خالف القاعدة «لا اجتهاد مع النص». ويقال مثل ذلك في أمر «الدعوة إلى الله» و«الحكومة الإسلامية»، والله يقول: {أّفّحٍكًمّ الجّاهٌلٌيَّةٌ يّبًغٍونّ} و{وّأّنٌ احًكٍم بّيًنّهٍم بٌمّا أّنزّلّ اللهٍ} و{وّمّنً أّحًسّنٍ مٌنّ اللّهٌ حٍكًمْا}. والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قٍلً هّذٌهٌ سّبٌيلٌي أّدًعٍو إلّى اللهٌ عّلّى" بّصٌيرّةُ أّنّا وّمّنٌ اتَّبّعّنٌي}. ويقول: {ادًعٍ إلّى" سّبٌيلٌ رّبٌَكّ} و{وّذّكٌَرً فّإنَّ الذٌَكًرّى" تّنفّعٍ المٍؤًمٌنٌينّ} و{وّادًعٍ إلّى" رّبٌَكّ} و {فّلٌذّلٌكّ فّادًعٍ وّاسًتّقٌمً} و{وّلًتّكٍن مٌَنكٍمً أٍمَّةِ يّدًعٍونّ إلّى الخّيًرٌ} و{وّمّنً أّحًسّنٍ قّوًلاْ مٌَمَّن دّعّا إلّى اللّهٌ}. }. ومع أن الدعوة سبيل المؤمنين، وأحسن القول، ولا مجال للجدل حول مشروعيتها، فإننا نسمع، ونرى مجازفين، يغثونك بتقولات غير مسؤولة، وتعميمات غير محددة، لا يحكمون، ولا يفصلون، بحيث يزيلون اللبس، ويمنعون عن أنفسهم قالة السوء، ويحولون دون البلبلة، وتصعيد العداوات. ولهذا تراهم يخلطون متعمدين أو جاهلين بين المبدأ والتطبيق. فالدعوة مبدأ، وهو أحسن القول بشهادة الله، والتطبيق ممارسة بشرية لها وعليها، ولكن لحن القول، وتوجيهه يطال المبدأ، كقول أحدهم: «وتساعد المناهج نفسها هؤلاء على أن يكونوا دعاة» إضافة إلى خروج الكاتب من التعليم إلى برامج وزارة الشؤون الإسلامية ومعارضها ومهرجاناتها، وإلى شركة الكهرباء وإسهاماتها. ولو أنه وقف حيث يكون خطأ التطبيق لحمد الناس له ذلك، وأذعنوا له، ولاسيما أننا نعاني تجاوزات مشهودة، ومعاشة في التطبيق الدعوي. والوزارة المعنية لما تزل تتعقب كل مخالف لمناصحته أو منعه. وإذ لا يخلو أي مجتمع من نوعيات تتقن لعبة الإثارة، فإنك لا ترى هذه النوعيات إلا حيث تكون الريبة، متكئة على آراء في غاية الفجاجة والاستفزاز والتسرع، منقبة عن المسلمات، موغلة في المتشابه، غير متحرجة من موضعة كل شيء، متقحمة أي محظور متناغمة مع الحرب المشبوهة على مناهج التعليم في المملكة، معطية للمتربصين بنا فرصة ذهبية، مقدمة شبهة يلتمسها أعداء الأمة. وهل بعد القول: «فقد اصطبغت الكتب الدراسية جميعها بصبغة دينية، فلا تدرس مادة اللغة الانجليزية مثلا لذاتها بل لتكون وسيلة للدعوة الى الله» من تجن مؤذ.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:45 PM

فداحة الحدث.. ومتاهة التأويل..!!
د. حسن بن فهد الهويمل


لقد وقعت الواقعة، واستطاع الخارجون على الشرعية والمشرعنون للفوضوية والوجود الأجنبي أن يفجروا ما بقي بأيديهم، وأن يستغلوا ما بقي لهم من وقت.
فكان أن هدمت بيوت، وأزهقت أرواح، وأحرقت ممتلكات، واختل أمن، وذعر الناس مما وقع، ومما هو آتٍ. وما علينا عند الصدمة الأولى إلا الصبر والاسترجاع، لنكسب الوعد الصادق بالصلوات والرحمات والهداية. وكالعادة أعقب ذلك الدوي دوي إعلامي موازن، انطلقت به الحناجر، وسالت به أنهر الصحف، تروي ما حصل، وتشهد بما سمعت، لا بما رأت، وأقبل المحللون والمعللون والمعلقون والمتنبئون يخبطون خبط العشواء، ويقرؤون الحدث قراءة متسرعة أو غير بريئة، فكل يحيل إلى أهدافه وغاياته وتصوراته، ويسترفد خلفياته المعرفية، ويوظف الحدث لتكريس رؤيته، محملاً الوطن ومؤسساته مسؤولية ذلك ووقف أهل الشأن في ذهول، عينٌ على الحاضر، وأخرى تستشرف المستقبل، ويد على الصدر، وأخرى تلزم الرأس المصاب بالدوار. فالحدث جلل، والنار من مستصغر الشرر، ومن استخف بما حدث، هيأ نفسه لما هو أدهى وأمر، وإن كانت البلاد وأهلها يحتمون بعز الله الذي لا يضام وبعينه التي لا تنام.
وحدث كهذا لا يُحسم بثورة كلامية، تلامس أطراف القضية، مكتفية بالتجريم والتخوين والتخمين، وإنما يواجه في الحفر العميق، والتفكيك الدقيق، وتقصي خلفيات اللعب وفلولها، والمؤامرات وذيولها، والتخطي إلى الحواضن الحقيقية التي نسل منها المنتحرون، من شباب غسلت أدمغتهم، وذرعوا فجاج الأرض الواسعة في عمليات قتالية باسم الجهاد: تارة في أفغانستان وأخرى في البلقان، وثالثة في الشيشان، ورابعة في العراق، فكان أن تحولوا من آدميين إلى دمويين. والحدث العصي على التصور والاحتمال لا يتخلص من ذيوله بالإحالة على مؤسسات البلاد ورجالاته، وإنما يصار إلى معرفة النشأة الأولى، ومن وراءها من دول وساسة و(لوبيات) و(ميكافيليات) حولت العالم الثالث إلى مقاتل أجير.
إننا بحاجة إلى أن نجوس خلال (أفغانستان) و(باكستان) و(البوسنة والهرسك) و(الشيشان)، وأن نتعرف على الجماعات والتنظيمات القائمة والمنحلة، هنا وهناك، وأن نخبر القيادات الدينية والحركية، التي تقاطرت من كل فجاج الأرض إلى بؤر الصراع العالمي، موظفة إمكاناتها لمن يدفع أكثر، ومن ثم هيئت لها الأجواء للتدريس والتأليف والتنظيم والقيادة، وفتحت لها الخزائن، وجمعت لها التبرعات، والتطمست أفكارها على مسمع ومرأى من كل الدول الكبرى، بوصفها اللاعب الرئيس، وبهذا الاستشراف لا يكون الحدث الرهيب وليد اللحظة، وليس صناعة محلية، إنه حلقة في سلسلة أحداث مماثلة، وقعت في بقاع كثيرة من العالم، وعلى فترات متباعدة، وليس من الحصافة أن ندين أنفسنا ومناهجنا وقادة الفكر في بلادنا، لنتعرض لتفجير داخل التفجير، ونمزق أنفسنا بقدر ما مزقت العبوات شواهق العمارات. والفضوليون الفارغون لا يتورعون من التأويل الجائر، ولا يتهيبون من إحداث تصدع الجبهة الداخلية، ومن ثم يلقون الكلام على عواهنه، ولا يظنون بذويهم خيراً.
والعمليات الانتحارية المنظمة لا تحركها تربية أمة، ولا تصنعها مناهج دولة، وإذا أحلنا عليها ما نلاقيه، أو أحاله المتنفسون من تحت الماء، فلمن نحيل تفجير (فندق ممباسا) و(منتجع بالي بإندونيسيا) و(سفارات أمريكا في كينيا وتنزانيا) و(مركزالتجارة العالمية في نيويورك) و(سفينة كول في عدن) و(عمليات الدار البيضاء) قبل ثلاثة أيام وعشرات العمليات المجهضة قبل التفجير، وفوق هذه كلها (أحداث الحادي عشر من سبتمبر) لماذا نساير الأعداء في توجيه الاتهام إلى مراكزنا ومؤسساتنا، ومن رام الإصلاح وهو حتم فليضع التصور، ولا يكتفي بالاتهام الجائر، ومن أحال إلى مناهج التعليم في البلاد، فقد غفل عن رؤوس الفتنة القابعين في الأدغال والكهوف. ولغط المتحاملين يزيد في العنف بسطة، ومن واجب المترفين ألا يظاهروا أعداء الأمة باتهام التعليم.
إن هناك حلقة مفقودة، لما نزل بحاجة ماسة إلى العثور عليها، وما لم نواجه الحدث برمته، بوصفه ظاهرة عالمية، لا مفردة زمانية ومكانية، فإننا سنظل نفتح ملفاً ونرفع آخر، ونزيد في حجم الكيانات المناوئة وتعددها. ولست ممن يتوقع حسم الشر، ولا ممن يصر على تزكية الذات، ولكنني ممن يسعى لتحديد مصادر الشر ومحاصرته، والعودة به إلى حجمه المعقول، فالجريمة في سباق مستحر مع المكافحة.
وتعرض البلاد لمثل هذه الممارسات المتباعدة زمناً، والمتشابهة حدثاً، تتطلب رد العجز على الصدر، وقراءة الأحداث منذ النشأة الأولى، واستجلاء كل الآراء، واستدعاء كل القراءات، واسخدام المجسات والمسابير في كل الأحداث المماثلة في الشرق والغرب، واستبعاد واحدية المصدر، فالذين يحيلون على الداخل، ويجعلون الحدث منتجاً محلياً له أسبابه ودواعيه المحلية، ويغفلون عن اللعب والثارات، وتعارض المصالح، ومحاولة إرباك الخصوم، والحيلولة دون نفاذ التسويات السلمية، يفوتون على أنفسهم مؤشرات مهمة، والذين يستبعدون أحداث فلسطين، وأفغانستان، ولبنان، والسودان، والصومال، وإيران والكويت، والعراق، والجزائر، وسقوط الاتحاد، وسباق التسلح، وصراع الحضارات، والتنظيمات المفككة، والحركات المطاردة، وفلول اللعب ترم جروحهم على فساد، واعدة بانفجار جديد. لقد طالت المواجهات الإرهابية
أقوى دول العالم عدة وعتاداً، وأقدرها تحرياً ورصداً، وأمضاها هيمنة وسلاحاً، فهدمت أبراجها الاقتصادية، وقوضت معاقلها العسكرية، ولما يزل الحدث الجلل أخفى من دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في ظلمة الليل. ومهما حاول الإعلام العربي والمتنخوبون بكل ما هم فيه من ريبة تحديد الفاعل ومقاصده، فإن المسألة تظل حمالة أوجه، وستظل أكثر انغلاقا على الأفهام من قتل الرئيس الأمريكي (جون كندي). لقد طاف الباحثون بالعمليات الانتحارية على كل الطوائف والتنظيمات والديانات والعرقيات، وكل قوم ينفون علاقتهم بها، ويقدمون الشواهد، وينضمون إلى فريق التصدي، وقد يقدمون بين يدي إثباتهم ضربة وقائية، ليبرهنوا عن صدق مواجهتهم للإرهاب بمفهومه الغربي. ولم تتريث أمريكا المجروحة حسا ومعنى، حتى يتحصحص الحق، بل بادرت إلى فرضيات متسرعة، وضربت ارضا محروقة وشعباً منهكاً، وصدَّق الناس مقولتها، ومضى كلُّ إلى غايته، وبقيت الضارة كما هي، تنام حتى يأمن الناس، فإذا غفوا أخذتهم بغتة، وهم لا يشعرون، والمتوقع أن يتسع انتشارها، لأنها مارد انطلق من قمقمه، وعلى المستهدفين أن يقعدوا له كل مرصد.
ولهذا وتلافياً لما هو حاصل بالفعل فإن المواجهة الانفعالية، وتبادل الاتهامات، وانتهاز الفرص، لإعادة الخطابات الفئوية، وتصفية الثارات، لا تحسم الإشكالية، بل تزيد في استفحالها. إن الحدث خطير، ومدان بكل المقاييس، ولن يلتمس له عاقل أي عذر أو مبرر، وقد قالها (الأمير عبدالله) ليلجم أفواه كل الأضوائيين والانتهازيين، فالأنفس المسلمة معصومة بإسلامها. والأنفس الأخرى معصومة بذمة ولي الأمر التي أعطاها، والمسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، فما بالك بأعلاهم، ومن قتل ذمياً لم يرح رائحة الجنة، ومن آذى ذمياً فقد آذى رسول الله، والذين يؤكدون بأفواههم من مواجهة أمريكا، هم الذين شرعنوا لها الوجود، والذين يواجهونها اليوم، هم الذين خدموها بالأمس.
وإذ يكون الحدث ماثلاً للعيان بالأشلاء والأطلال فإن الأدمغة المدبرة والأصابع المنفذة لما تزل غائبة، والأجهزة الزمنية تركض وراء الخيوط، التي قد تلتاث في منتصف الطريق. ومما لاشك فيه أن هناك أسباباً، وحواضن، وأطرافاً تحلم في أن تجني من الشوك العنب. ومن الحصافة أن يسعى المعنيون إلى تقصي الإشكالية، ووضع الحلول، لتوقي ما بقي من شرورها، والمؤلم أن العالم الإسلامي لما يزل مجالاً لتنفيذ اللعب الكونية، عليه غرمها، ولغيره غنمها.
والسؤال الأكثر إلحاحاً: من جمَّع هؤلاء؟ ومن صاغ أذهانهم، ودرب أجسامهم؟ ومن خطط لهم، وأعطاهم المال والسلاح؟ ، وعبر أي المنافذ دخلوا بما معهم؟ وأين رأس الحية المدبر؟ ولماذا لم تصل إليه اليد الأقوى مضاء، يد أمريكا المستهدفة مصالحها؟ لقد وضعت في أولويات مهماتها في (أفغانستان) و(العراق) الوصول إلى الرؤوس المدبرة أحياءً أو أمواتاً، ولكنهم جميعا لما يزالوا مجهولي المصير. ويمضي لهاث الأسئلة الحائرة: لماذا تطالنا الأذية من أيد آثمة، من بينها أيد سعودية، خرجت من ديارها، نظيفة الفكر، سليمة العقيدة، تحت مظلة الجهاد الذي باركته أمريكا، لتعود إليها بعد أن تضلعت من الشر، ممارسة أبشع الأعمال وأجرمها؟ وهل هذا العمل الإرهابي بتدبير خارجي، ومن أجل أهداف سياسية عالمية، أم هو بتدبير داخلي، ولأهداف محلية؟ وهل العمليات لمواجهة السياسة المحلية، أم أننا مجرد ساحة لمواجهة الآخر؟ بلادنا أبعد الدول عن المواجهات الأهلية والحروب الداخلية، وما يحصل من عمليات إرهابية، لا تعدو أن تكون تصفية حسابات، وعلينا ترتيب مواقفنا على ضوء ذلك، ومن أحال إلى غير ذلك فقد أسهم في تعميق سذاجتنا.
والتفجير البشع الذي رمَّل ويتم، وقتل الوحيد والحبيب، استهدف مواقع معينة، والمؤشرات تؤكد أن التدبير خارجي، وأن الأهداف سياسية عالمية. والمخططون المنفذون ليسوا ناتج مناهج، ولا سلالة حلقات ولاجماعات، إنه عنف دولي منظم، لا يقدر عليه أفراد بمفردهم، وإذ وقع الفأس على الرأس، فإن علينا مواجهة التداعيات. لا الوقوف عند الوقوعات، وعلينا استثمار الحدث وتداعياته، وتجويد مواجهته، إذ إن كل حدث له آلياته المناسبة له، وليس من المصلحة الاهتياجات والانفعالات، وتبادل الاتهامات. وفي ظل متاهات التأويل: هل نبادر من باب الوقاية إلى تحصين حدودنا، بحيث لا تتسرب الأسلحة، ولا يتسلل المنفذون، أم نحصن أبناءنا، بحيث لا تشكل ذهنياتهم على غير مراد الله؟ وهل من خيارات أولية أو ثانوية تسبق هذين الخيارين؟ وهل المواجهة وقف على (وزارة الداخلية)، أم أن هناك جهات أخرى، يجب أن تشارك في المواجهة أو في الوقاية؟. إن هناك سطواً حسياً على الأرض، وسطواً معنويا على الأفكار، ولابد من تحرف سديد لصد السطوين، ومن ثم لابد من التأسيس لحوار شمولي، تلتقي حوله كل الأطراف، ويعرف المتحاورون مشروعية الرؤى، وحدود الحريات، ومقتضيات الانتماء، ومجالات الاجتهاد وأهليته، وليس من الحصافة أن نربط الإصلاحات الشاملة والضرورية بما نلاقيه من أحداث، فالإصلاحات السديدة لا تحركها الاهتياجات العاطفية، وقد ألمح إلى شيء من ذلك خادم الحرمين الشريفين في خطابه التاريخي يوم السبت، مؤكداً على حتمية المراجعة الذاتية، مستبعداً أن تكون محاولات الإصلاح استجابة لضغوط خارجية، مؤكدا على الخطاب الوسطي المعتدل، مناشداً علماء الشريعة النهوض بمهمتهم الجسيمة.
إن ما بعد الحدث أشد وأعتى من ذات الحدث، وأشلاء المعنويات أخطر من أشلاء الحسيات (والفتنة أشد من القتل) وتعميق الاضطراب في قراءة الحدث أشد بلاء من عقابيله الحسية، فلكم لقيت من يسأل عن الأسباب والدوافع، وعمن يواجهون أمريكا لذاتها، ثم لا يجدون إلا أرضنا مجالاً لمواجهتها، أهم ضد وجودها في أرضنا؟ أم ضد نفوذها في مشرقنا العربي؟ وإذا كان وجودها في مشرقنا مؤذياً، فإن وجودها على أرضنا لم يكن طارئاً، بحيث يستفز أحداً من الناس. لقد عاشوا في أرضنا أكثر من سبعين سنة، ينقبون في الصحاري الشاسعة، لا يرافقهم إلا أدلاء من الأعراب العزل، يستنبطون كنوز الأرض، يأخذون، ويعطون على قدم المساواة، وما سيء لأحد منهم، فضلاً عن أن يُغتال، ولقد عايشناهم في أحلك الظروف، ظروف المد الثوري الاشتراكي، وظروف الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، وما شكلوا عبئاً على خطابنا السياسي، ولا على مركزنا الإسلامي.
وعلينا ألا نسلم للخطابات المجتثة من فوق الأرض، خطابات الإحالة على الإسلام بوصفه مصدر الإرهاب أو الإحالة على المواقف السياسية بدعوى استسلاميتها، أو الإحالة على المناهج تناغماً مع اللوبي الصهيوني. العنف والإرهاب حسب مفهومه الإسلامي لا جنسية له، ولا وطن، ولا عقيدة، ولا زمان، وما اغتيالُ (عمر) و(عثمان) و(علي) إلا ذروة الإرهاب.
والصهاينة في فلسطين يمارسون أبشع العمليات الإرهابية. إننا أحوج ما نكون إلى تحديد المفاهيم، وتجويد التأويل، وحفظ التوازن، والأخذ بالوسطية، وعدم الانتقال من لغة التفجير إلى لغة التفريق. والانتهازيون الذين يحددون طائفة أو عقيدة أو قبيلة أو بلداً أو منهجاً أو فئة بعينها، يزيدون في ارتكاس الأمة في الفتنة، المسألة شائكة ومعقدة، ومن اليسير تكثيف المطاردة والوصول إلى طائفة من الفعلة، وتنفيذ الحكم الشرعي بحقهم، ولكن من الصعب جداً حسم المشكلة، متى استمرأنا تعميق الاختلاف حول قراءة الحدث. إننا بحاجة الى نظرة شمولية، ودراسة مؤسساتية متقصية، ومواجهة صريحة، ومعالجة حاسمة، وتستشرف الواقع العالمي وتحولاته السريعة، وتتوقى بؤر التوتر في العالم، والمسألة في النهاية بقايا لعب، كما الألغام التي يمر بها الغافلون.
ولأن أمريكا ضالعة في أمور كثيرة، فإنها مستهدفة عالمياً، وهي تعلم ذلك علم اليقين، وهي تعلم أن الذين يتربصون بها هم بقايا صنائعها، واستهدافها لا يقتصر على أن لها وجوداً غير شرعي في المملكة، ولا لأنها تهيمن على مصادر الثروة البترولية في البلاد، فوجودها وفق معاهدات دولية، يملك الطرفان حق التصرف فيها، وقد فعلتها المملكة بإنهاء الوجود العسكري بانتهاء دواعيه، والثروة البترولية بيد أصحابها، وقد فعلتها المملكة حين اشترت أسهم الشركة الأمريكية وسعودتها، والثروة خاضعة للعرض والطلب، ونحن أحوج إلى الأسواق من الأسواق إلى خامنا. والدولة مسلمة سلفية، وأمريكا رأسمالية علمانية، وليس هناك تأثير على الثوابت، بحيث يأنف الإسلاميون الذين يحال إليهم كل فعل.
ووجود امريكا في البلاد حسياً أو معنوياً ليس له تأثير على القرار الداخلي، أما هيمنتها على العالم في قراراته الخارجية وخروجها على الشرعية فأمر لا يخص المملكة وحدها. وحين يتأفف البعض من وجودها الحسي فإنها متوغلة في كل بلاد الدنيا: مدنياً وحضارياً وصناعياً واقتصادياً. وحين لا أبرىء أحدا بعينه من الحماقات، فإنني لا أريد التخلي عن الإسلام والأسلمة، لمجرد أن طائفة من المسلمين ضلت الطريق، والخوارج في صدر الإسلام وبخاصة (الأزارقة) منهم كان لهم عنفهم وصلفهم وغلوهم ودمويتهم، ولم يفكر معاصروهم بإعادة النظر في إسلامهم، على أن الواقع المعاش مختلف جداً، إن علينا أن نفكر باللعب وبالثارات، وصدام المصالح ليس غير.
والمواجهات الإرهابية مواجهة مع أمريكا، يتخذ خصومها مواقع عدة في العالم، والمملكة قد تكون واحدة من تلك المواقع. وعندئذ لا يكون التفجير حدثاً مرتبطاً بالسياسة المحلية، وليس منتج تربية وتعليم، وليس منتجاً محلياً، إنه وافد على أرضنا. وإذا شارك بعض أبنائنا في العمليات الانتحارية في المملكة أو خارجها، فليس معنى هذا أن نكون مصدر إرهاب، فهم قد خرجوا من ديارهم سلفيين وعادوا إليها، وهم إرهابيون. ولو سايرنا الجهلة والمتسطحين لقطعنا بإرهاب أربعة ملايين مواطن، وهم مجموع طلابنا، إن علينا مواجهة الحدث بأسلوب لا يقف عند تبادل الاتهامات، متناسياً أبعاده العالمية ودوافعه المتعددة.
أمريكا ضالعة في كل اللعب، منتشرة في كل الآفاق، مؤثرة على كل المصالح، وليس بغريب أن تضرب مصالحها، وأمريكا تعرف أن مواجهتها ليست مواجهة بين (الكفر) و(الإسلام). ومثلما دعمت الجهاد لإسقاط الاتحاد، فإن هناك من يدعم جماعات التكفير والأصوليين لرد الصاع صاعين، وعليها وعلى المتساذجين المغثين بهمزهم ولمزهم أن يقرؤوا الخطاب العالمي بعيون ثاقبة، وأن يعرفوا اللعب واللاعبين. والبأس كله أن تتجاهل أمريكا هذا الواقع المؤلم، والأشد بأساً أن يقع النخبويون في مأزق التضليل ومتاهات التأويل.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:46 PM

قل : هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة «2 /2»
د. حسن بن فهد الهويمل


وإذا كان الكاتب ينقم على طائفة من المدرسين - وذلك حق، يتطلب البينة- فلماذا يربط بين (الدعوة) و(الضعف)؟ ويقحم أطرافاً أخرى، ويمتعض من امتثال أمر الله {وّلا تّقٍولّنَّ لٌشّيًءُ إنٌَي فّاعٌلِ ذّلٌكّ غّدْا، إلاَّ أّن يّشّاءّ اللهٍ}. ويتجاهل قول الله عن عيسى عليه السلام: ترديده (بإذن الله) في النفخ والإحياء والإبراء؟ وعيسى يعلم ويؤمن أن الله خالق كل شيء، وليس عنده نقص في الفقه. إن لحن القول كله، يحيل إلى مواجهة الدعوة، لا مواجهة أخطاء الدعاة، ومواجهة أسلمة المناهج، لا العمل على تفعيلها. وفي ذلك مسايرة لحملات التشويه. وعليه أن يعيد قراءة ما كتب من قبل.
وبصرف النظر عن ركاكة التعبير، وضحالة التفكير، وسوء التوقيت والتقدير في التعاطي مع أخطر القضايا، وأهم المسائل، فإن تخبيصات الكاتب، وخلطه بين أمور في غاية الأهمية، وأخرى في منتهى التفاهة دليل ارتباك وتوتر واضطراب. وكاتب يقارب أخطر قضيتين في حياة الأمة: (التعليم) و(الدعوة) ثم لا يزن الأمور، ولا يستبرئ لعرضه ودينه، يعرض نفسه للاتهام والتجهيل والمساءلة (ومن لا يتق الشتم يشتم)، ومن حق المتأذين أن يبادلوه سوءاً بسوء، فلقد وصفهم بالهلوسة ونقص الفقه، وقطع بتدهور التعليم. وما يتعرض له من ردود فعل، يراها هو، ومن شايعه مزايدة على القضايا، وتنقصاً من الحريات، وما هي كذلك، إنها استكمال للحرية التي يراها، ويتحرج منها حقيقة. وإذ لا نرى التسامي بأحد من الخلق فوق النقد والمساءلة، ولا نزكي أي مؤسسة تعليمية أو دعوية تحت أي مبرر، فإننا نفرق بين نصيحة المهتم بأمر الدعوة والتربية، وفضيحة الساخط عليهما، الناقم على ذويهما. وليس غريباً على ذات الكاتب ما نراه منه من اندفاعات، تضعه تحت طائلة المساءلة، ولا تقل ارتباكاً
(مالي أرى أقواماً يفعلون كذا)
فذلك هدي المصطفى. أما الرشق العشوائي، والمجازفة في الاتهام، فشأن المقوين من المقومات. وقادة الفكر والاصلاحيون يمنعهم الحياء من سوء الأدب مع الكافة، فضلاً عن صفوة المجتمع. وهل بعد المعلمين والدعاة من مكرم؟ وإذا لم يكن المعلم والمعلمة داعيين إلى الله على بصيرة، فمن يكون؟ وإذا لم نحصن أبناءنا وبناتنا من احتناك شياطين الإنس والجن واجتيالهم، عبر القنوات، والمواقع، وسائر الوسائل الإعلامية، فمن ذا الذي يحصنهم؟ وإذا لم تكن المملكة التي شرفها الله بخدمة مقدساته، ونشر كتابه، وتحكيم شرعه، وإقامة دينه، مهيئة الطلبة والمدرسين معاً للدعوة إلى الله، وحفظ جناب التوحيد، وحفظ التوازن بين مطالب الحياتين، فمن ينهض بمثل ذلك؟ إنه لا يضيق بالدعوة إلا مشبوه، أو مدخول في فكره، وإذا كان الكاتب مع الدعوة، كما يدعي، وكما نرجو أن يكون، وله ملاحظاته الوجيهة، فإن عليه أن يتخذ سبيل الدقة والتخصيص والتركيز. وهو قد حاول لملمة أطراف القضية، بعد أن ضيق عليه الرأي العام الخناق، ومع أن الحق قد يعتريه سوء التعبير، إلا أن المقال المثير مواجهة لا مناورة، وإدانة لا اتهام، وتقرير لا تساؤل.
ومع الاحتفاظ بثوابت الدين من وعظ وأمر ونهي فإن من صرف الوقت لغير ما هو له، فقد أخطأ الطريق، وفرط بالواجب، كائناً من كان، ولكن تذكير المخطئين لا يكون بهذا الأسلوب التعميمي القطعي. أما قضية ربط المواد بالدين، فالدولة تلح على أسلمة المناهج، وليس هناك ما يمنع من استحضار عظمة الخالق، حين التعرض لقانون علمي، يتعلق بالآفاق أو بالأنفس، وليس من مصلحة الأمة ان تمارس التربية بمعزل عن الدين. وكيف لا نؤسلم المناهج والمواد، ونربط الظواهر العلمية والفلكية بالإيمان؟ ما الذي يمنع من أن يكون استاذ الرياضيات واللغات داعيين إلى الله، مذكرين بعظمته وجلال قدره، ألم يقل بعض الصحابة لبعض: (تعالى نؤمن ساعة)، أو لم يقل الله عن الصالحين من عباده {الذٌينّ يّذًكٍرٍونّ اللّهّ قٌيّامْا وّقٍعٍودْا وّعّلّّى" جٍنٍوبٌهٌمً وّيّتّفّكَّرٍونّ فٌي خّلًقٌ السَّمّوّاتٌ وّالأّرًضٌ} ويقول: {وّاعًبٍدً رّبَّكّ حّتَّى" يّأًتٌيّكّ اليّقٌينٍ}. أحسب ان اتهام المناهج والمدرسين والمدرسات بالتفريط، وإضاعة التعليم، اتهام ليس في محله، ولا يمارسه إلا إنسان لا يحترم المصداقية، ولا يحسب للظروف حسابها، ولا يعرف حدود ما يجب، وواجب المقتدرين إرشاده، وواجبه قبول الحق، وعدم التبرم ممن يشاطره السفينة، مستحضراً قوله تعالى: - {لا يٍحٌبٍَ اللهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ پًقّوًلٌ إلاَّ مّن ظٍلٌمّ}.
والمدرسون الذين على جانب من التقى والورع، لا يمكن أن يفرطوا بحق الطلبة، ولا برسالة التعليم، وهم حين يجدون أنفسهم بحاجة إلى التوعية ينشئون الجمعيات، ويتطوعون بجهدهم ووقتهم، دون المساس بوقت المناهج. واتهام التعليم بهذا الحجم، وإحالة الضعف إلى الدعوة والدعاة، تشويه لرسالة المسلم في الحياة. وإذا وقع مدرس أو مدرسة فيما لا يصح من القول، فإن هذا لا يسوِّغ التعميم. الخطأ في القول حاصل، والتقصير في العمل حاصل، والتجاوز في الفعل حاصل، ولكن لا تزر وازرة وزر أخرى. ولو صدق بعض ما يقوله المرجفون المتواطئون على الخطيئة لكنا بحاجة إلى مواجهة أربعة ملايين طالب وطالبة ومئات الآلاف من المعلمين والمعلمات وأساتذة الجامعات، وهو ما لم يكن، ولن يكون إن شاء الله.
وكيف يتأتى الامتعاض من تفشي الدعوة والإرشاد في أمة تنص المادة (الثالثة والعشرون) من نظامها الأساسي للحكم على قيامها بواجب الدعوة إلى الله؟.
والدولة ومن ورائها أهل الحل والعقد من العلماء ورجال التربية والتعليم يعيشون حالة استثنائية، ويتأذون من اتهامات ظالمة، يؤزها اللوبي الصهيوني ضد التعليم في المملكة، ويتحرفون لكشف النوايا السيئة، التي ينطوي عليها أعداء الإسلام، والخائفون من (الصحوة الإسلامية) يحاولون إثبات أن المناهج تصنع الإرهاب، وأن الإرهاب بمفهومه الغربي منتج إسلامي، وفي هذه الظروف الحرجة ، يأتي من يقول كلمة في صالح الأعداء، لا يلقي لها بالاً، وواجب المسلم في الأزمات أن يكون على شاكلة من قال الله فيهم {الذٌينّ قّالّ لّهٍمٍ النَّاسٍ إنَّ النَّاسّ قّدً جّمّعٍوا لّكٍمً فّاخًشّوًهٍمً فّزّادّهٍمً إيمّانْا وّقّالٍوا حّسًبٍنّا اللّهٍ وّنٌعًمّ الوّكٌيلٍ}. إن هناك مرتابين، يخافون من مطاردة أعداء الله لعباده، ويصدَّقون كل صيحة، ومن ثم يعطون تنازلات في ثوابتهم، ويسايرون إشاعات العدو، ويسلمون له، وتلك بوادر انهزام داخلي، وتحقيق لما حذر منه المفكر الإسلامي (مالك بن نبي) من قابلية الاستعمار، وفقد شروط النهضة. ومما لا مراء فيه، أن هناك تطرفاً دينياً ودعاة غلاة وآخرين جهلة، تتأكد معالجة أوضاعهم، والحيلولة دون تمكينهم من تشكيل ذهنيات الناشئة، بطريقة تتأذى منها المؤسسات الأمنية والدعوية، ولكن ذلك شأن ولي الأمر وعلماء الأمة، وهم جادون في معالجة كل ظاهرة بالطريقة التي نسأل الله لهم فيها التوفيق والسداد.
ومن أراد أن يدلي بدلوه في تصحيح مسار (التعليم) أو (الدعوة)، وهما بلا شك في أمس الحاجة إلى المتابعة والتصحيح، فعليه ألا يقع في فرضية واهمة، تجعل من الدعوة والدعاة سبباً رئيساً في تدهور التعليم، مجازفاً في إطلاق التهم، دون تحديد، ودون إثبات، مستفزاً الخيرين، جاعلاً منهم خصوماً، متعمداً معاداتهم. وماذا عليه لو دخل مع رجال التربية والتعليم والدعوة في حديث ودي، شاطرهم فيه همهم الدعوي والتربوي، ونبه إلى بعض التجاوزات التي نراها رأي العين، ونثق أننا أحوج ما نكون إلى من ينبه عليها، ولكن بغير هذه الطرق الفجة. وهل لا يستقيم أمر الكاتب إلا بالإثارة والعداوة، وتحميل الأمور ما لا تحتمل؟ ومن ذا الذي يتعمد الإساءة لمن بذلوا وقتهم ومالهم وجهدهم للدعوة والإرشاد؟. والتعليم بوصفه القضية الأهم والأخطر، لا يمكن تناوله بهذه المجازفات المرتجلة. التعليم في المملكة قائم على خطط ومناهج، لها وعليها. وجامعات المملكة تستوعب كل التخصصات العلمية البحتة، وأبناء البلاد يبتعثون إلى سائر دول العالم المتقدم علمياً بالآلاف، ويعودون بأرفع الشهادات، والمملكة مليئة بالمتخصصين الذين تلقوا تعليمهم في مدارس المملكة، فهل يستطيع التعليم المنهار بإمداد ثماني جامعات بمختلف التخصصات، بل يفيض عن حاجتها.
ومع هذا فلسنا من الصفاقة ولا الحماقة، بحيث نزكي أنفسنا أو مؤسساتنا، إن هناك ضعفاً ينتاب كل مرافق الدولة، وهناك مقصرين أو مهملين أو متلاعبين، يبلغ حد الفساد الإداري، نعرف ذلك حق المعرفة، وليس من حقنا أن نزكي، ولا أن ندافع، ولا أن نمنع من الإصلاح، وبودنا لو تصدى لكل هذه الهنات من يزن الأمور، ويفرض احترامه على المخطئين والمقصرين. والمتفق عليه أن التعليم في جميع أنحاء العالم ينتابه الضعف، والتربويون يتعقبون مناهجه ومواده بالإصلاح والتعديل والإضافة والحذف، وما أحد منهم سخر، أو استهجن أو افترض عامل ضعف ثم عممه. وكان على الكاتب لو كان غيوراً ناصحاً ان يضع أصابعه على مكامن الداء، لا أن يطلق المفرقعات، مسقطاً التعليم، والمعلمين، ووزارة التربية والتعليم، والتعليم العالي، والتعليم الفني، ووزارة الشؤون الإسلامية، والدعاة، والدعوة. متهماً الجميع بإضاعة الطلبة.
إذ نجد لفيفاً من الكتاب الواقعين في الحمى باسم حرية التعبير فإن على المسؤولين عن هذه الحمى أن يخرجوا عن صمتهم ليكشفوا عوار هذا التحامل، وأن يضعوا أي كاتب متعد مستفز في حجمه الطبيعي، لكيلا يسنوا سنة سيئة، تبيح الإطلاقات غير المسؤولة، وفي الوقت نفسه يجب ألا يأخذ المسؤولين العجب، بحيث يَسْمون بأنفهسم فوق النقد والمساءلة، ويغفلون عن أي تقصير. والحرية في التفكير والتعبير حين تكون مكفولة، أو حين يجب أن تكون مكفولة، فإن علينا قبل هذا وذاك أن نعرف حدودها ومجالاتها. فليس لكل مجازف في القول ان يحيل إلى الحرية. الإنسان بطبعه اجتماعي، وهو ملزم بمقتضيات «العقد الاجتماعي» المستمدة ضوابطه من حضارة الانتماء، و(العقد) يعني الحرية المنضبطة. وإشكالية المشاهد العربية كافة أن الأكثرين من نخبها لا يحتفون بحدود الحرية، ولا يعرفون مقتضيات حضارتهم، ومن ثم يوغلون في (العهر) و(الكفر)، ويعدون مثل هذا الإيغال محصناً بحرية التفكير وحق التعبير. ومثل هذه المفاهيم المريضة تضع الفوضى موضع الانضباط، وتجعل كل شيء تحت المساءلة والنقد، وقد تطال المساءلة فعل الله، وتُحقُّ الخيرة في قضائه، والله لا يسأل عما يفعل، وليس لأحد الخيرة إذا قضا الله ورسوله أمراً. والتطرف في الآراء بنشئ تطرفاً مضاداً، مما يعرض الأمة لفوضوية مخلة بالحرية المطلوبة من الطرفين. ومن المعلوم من الدين بالضرورة ان الأمة أمة دعوة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وما لعن الكفرة من بني اسرائيل إلا لأنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، ومن اقترف خطيئة من الدعاة أو الآمرين، فيجب ان يؤخذ بخطئه، دون ان يمتد ذلك إلى المبدأ أو المهمة أو الغير.
ومثل هذه الإثارات توغر الصدور، وتثير الشكوك، وتخلق كيانات متناحرة. والمملكة: حكومة وشعباً، لن تقوم لهما قائمة إلا بتقارب وجهات النظر، والانطلاق من سياسة الدولة الدعوية التي نصت عليها أنظمتها، وأنشئت لذلك (وزارة) و(رئاسة) و(مجلس أعلى) يرأسه الرجل الثالث في الدولة. وإذ لا نمانع من نقد التعليم ورجاله، والدعاة وأساليبهم، والهيئات وتجاوزاتهم، وما ينتاب بعضهم من جهل أو غلو أو تطرف، فإننا نرفض التعميم والمواطأة لأعداء الأمة، والتذمر من إظهار الدين، ونرفض الإطلاقات التي تحتمل أسوأ التأويل، وأقبح الاتهام، ونرفض الخوض بآيات الله دون علم شرعي مخول، ونرفض الركون إلى الذين ظلموا.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:47 PM

تعارض مصالح لا صدام حضارات..!! 1/2
د. حسن فهد الهويمل


ما من أحد يصاب بصداع الرأس، وفقد الذاكرة، واضطراب النفس والفكر، إلا وله النصيب الأوفى من قراءة الخطاب السياسي والثقافي في كافة المشاهد العربية، وعليه كفل من تلقي طوفان الآراء المتناحرة، وركبان الثقافات المستكبرة المهيمنة، والمشاهد العربية تنوس بها بطائن سوء، تضرب ثوابت الأمة في الصميم، تحت مسميات جذابة، كالحرية، و«الديموقراطية»، وحقوق الإنسان، وحرية المرأة. ولا تنفك عن التناحي بالإثم والعدون حول ما يسمونه بالثالوث المحرم: «الدين» و«الجنس» و«السياسة»، ولا تأخذ حذرها مما يعانيه العالم المغلوب من أزمات طاحنة، تقوض أمنه واستقراره، وتفرق شمله، وتستدرجه من حيث لا يعلم إلى المهاوي السحيقة.
والعالم اليوم يعيش حالة من الاضطراب والتوتر، وتنتابه نوبات من اللعب الكونية، والمؤامرات الدنيئة، والفساد، والتخذيل، والعلل الباطنة. وليس ببعيد أن تتزامن الانهيارات: الحضارية، والاقتصادية، والأمنية، والدستورية، وتتغير كل الخرائط الجغرافية، والتركيبات: السكانية والإثنية والطائفية، ويبدأ العالم في التشكل من جديد، كما بدء الحياة أول مرة يعود، وكأن شيئاً لم يكن من قبل، فالأيام دول، والثواني حبالى، يلدن كل عجيب، والناس لا يستقرون على حال، وكم من حضارات سادت، ثم بادت، والبقاء على الحال محال، «ومن سره زمن ساءته أزمان» ومن لم يتوقع الزوال بعد التمام، ولم يحسب الحساب الدقيق لما هو آت، يفجؤه الطوفان، كمن ينام في بطون الأودية في الأيام المطيرة، والشاعر الحكيم يقول:
«توقع زوالاً إذا قيل تم».
وفي الحديث: «عهدٌ على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، حين سُبقت «ناقته»، وتألم الصحابة من تغلب أعرابي ب «قعوده» عليه، على حد:
«ما طار طير وارتفع.. إلا كما طار وقع».
والحضارة الغربية بلغت حداً لا مزيد عليه، لا من حيث الإمكانيات، ولا من حيث التعديات، وأقرب الحضارات إلى الزوال من تجمع بين «التمام» و«الظلم» وكيف لا و«العدل أساس الملك».
والقول في «صدام الحضارات»، و«تعارض المصالح»، مضلة أفهام، ومزلة أقدام، وكل رهان حولهما، يجد ما يطمئن أصحابه، فالمسألة من الاحتمال بحيث:
«لا يعرف الغادون فيها دربهم.. فكأنهم بمسيرهم غرباء».
وكل خائض في الحديث حول «الصدام» أو «التعارض» غريب يتقرى الأشياء بأنامله، إذ لا يتمكن عند استحكام الحلكة من قراءة الأشياء بعيونه، ولو عدنا نستقرىء واقع أمتنا بلمس، لوجدنا المسألة مرتبطة بتعارض المصالح، لا بصدام الحضارات. ولقد قرأت كتاب «صامويل هنتنجتون» «صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي» للمرة الثانية، ووجدت أنه صوت من الأصوات، وقد لا يكون أفضلها، وقد لا يدوم حضوره شاهدا على العصر، ولو ذهبنا نضرب الأمثال بما هو قائم، لإثبات أن المواجهات ليست وقفاً على الاختلاف في الدين وإن رآها «جيل كيبل» ماثلة للعيان في النصف الثاني من القرن العشرين، متجلية في الصراع بين «العلمانيين» و«المحافظين» بحيث يرى أن هذه المرحلة تمثل يقظة أو صحوة دينية كونية، أطلق عليها «ثأر الله» بحيث يميل إلى الرغبة في «أنجلة» أوربا، أي عودتها إلى «الإنجيل»، وها هو اليمين في «البيت الابيض» يستمد وقوده من أصولية مسيحية متصهينة، وقد يأتي من يقول ب «القرأنة» أي عودة العالم الإسلامي المتعلمن إلى القرآن، ولست أعني طائفة «القرآنيين».
أقول: لو التمسنا الأمثال الحية المؤكدة لصراع المصالح، لتبدت لنا الأدلة كفلق الصبح، مطروحة في الطريق. والمعوِّلون على «صراع الحضارات» وحسب، يتعمدون تهميش صراعات أخرى لا تقل عنها، ويتجاهلون العلاقات المصلحية والنزاعات الطارئة حول لعاعات الحياة الدنيا، ولقد كادت تفعل فعلها في المجتمعات الخيرة، وذلك عندما وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم «الفيء» بعد الفتح في «غزوة حنين» على المؤلفة قلوبهم، ووكل المهاجرين والأنصار إلى إيمانهم، وهي مقاصد بعيدة المنال، لم يدركها بعض الصحابة و«سورة الأنفال» نزلت لتحسم التنازع حول الفيء في «غزوة بدر»، وهل أحد مثل صفوة الصفوة. فالمصالح عنصر مهم في عمليات الوفاق والنزاع الدوليين، وتجاهل المصالح أو الخلط بينها وبين الصدام الحضاري تفويت لثغرات مهمة. وإذ تختلف معالجة «تعارض المصالح» عن معالجة «صدام الحضارات» فإنه يلزم استحضار الحالين، لأن لكل حالة لبوسها. وعلى سبيل المثال فإن المعهود ذهنياً وواقعياً أن «المملكة العربية السعودية» حليف تاريخي، وصديق عريق «للولايات المتحدة الامريكية»، ليس في ذلك مواربة، ولا مداراة، نقول ذلك بلسان الحال والمقال، وكانت علاقات البلدين تزداد قوة ومتانة، يوم أن كانت المصالح مشتركة، ووجها النظر متطابقة، ويوم أن كانت أمريكا حمالة التوفيق بين الأطراف، ملتزمة بمنع التعدي على الحقوق والحريات، ويومها كان الإنسان السعودي أثيراً عند الإنسان الأمريكي، وكانت له معاملة خاصة، يلقاها في أي مكان من الولايات الأمريكية، حتى لكأنه واحد منهم، وخلال العقود السبعة التي مرت بها العلاقات السعودية الأمريكية، منذ اللقاء التاريخي بين الملك «عبدالعزيز» رحمه الله، والرئيس الأمريكي «روزفلت»، لم تتحول المملكة عن سلفيتها، ولا عن تمسكها بثوابتها الدينية، ولا عن مناهجها الدينية، فيما لم تتحول الولايات المتحدة الأمريكية عن رسماليتها وعلمانيتها، ولم يحصل في يوم من الأيام أي تماس بين الفكر السياسي الإسلامي السلفي للمملكة والفكر السياسي الديموقراطي العلماني لأمريكا. كان ذلك يوم أن كان الصراع على أشده بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولماَّ تزل المملكة ملتزمة بما عاهدت عليه، قائمة على أشدها في الدعوة إلى الله، متبنية لفكرة «التضامن الإسلامي»، ودعم الجمعيات والمؤسسات الإسلامية في قلب أمريكا، وكانت أمريكا تعيش غفلة الواثق، حتى إذا قصم ظهرها بالتفجيرات، وتبنى ذلك الإسلاميون، أخذت حذرها من الإسلام ودعاته، وفي مقدمتها المملكة، وباشرت المواجهة العسكرية. وحين تحولت من الحياد الإيجابي التوفيقي إلى الانحياز السلبي لقطبيتها وللصهاينة، وحين تعارضت تبعا لذلك المصالح، دب الخلاف بين صديقين تقليديين، وإن كان كل منهما يحيل إلى الإعلام المغرض، ويزكي المواقف الرسمية، إلا أن في الأنفس شيئاً، لماَّ يزل الطرفان يتكتمان عليه، ويحاولان إقصاءه، تهدئة للأوضاع، ومحاولة حكيمة لاجتياز المنعطف الخطير، حتى لا يراق الزيت على اللهب، ويتحول وميض النار إلى ضرام، وتلك الظاهرة العملية المعاشة تؤكد أن الخلاف مع الغرب، لا يحال كله إلى «صراع الحضارات»، ولا إلى اختلاف الديانات، وإنما يحال جلُّه إلى الظروف الطارئة والمصالح المتعارضة. المملكة يسوؤها الكيل بمكيالين، وتمتعض من تناقض المواقف، ففي القضية الفلسطينية، لأمريكا موقف منحاز لمصلحة اسرائيل، وفي الشأن العراقي لأمريكا موقف منحاز لمصالحها الذاتية، فالظلم والاضطهاد والفوضى واقعة على الشعبين الفلسطيني والعراقي، دون النظر في الشرعيات، وسيادة القانون، واستقلال كل بلد بشأنه. والاتقاء والمداراة والدفع بالتي هي أحسن شأن العقلاء، ولكن الأمر بلغ حداً لا يطاق، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني لا يمكن احتماله، كما أن الموقف من الإسلام بعد الأحداث لا يمكن قبوله.
والمؤسسات الإعلامية حين تركز على الصراع الحضاري، وتستدير تعارض المصالح والظروف الطارئة، فإنما تبحث عن وقود للرأي العام من أجل كسبه. وكل زعيم تزداد حاجته للجبهة الداخلية، كلما تعقدت الأزمات، ومن ثم يلجأ إلى الصراع الحضاري ليذكي فيه كوامن الإيمان، فالإنسان متدين بفطرته، وإن تعلمن، وعلينا ألا ننظر إلى وحدة المشاكل من خلال منظور إقليمي آني ضيق، إن هناك رؤى وتصورات ودوافع بعيدة المدى، جاء على طرف منها صاحب كتاب «صدام الحضارات» وصاحب كتاب «نشوء وسقوط القوى العظمى» وكتاب «الإعداد للقرن الحادي والعشرين» ل «بول كيندي».
ومما لاشك فيه أن سقوط الاتحاد السوفيتي بهذه السرعة، وبهذه المفاجأة، وبهذا الشكل الدرامي، وعلى يد الجهاد الإسلامي، الذي باركته أمريكا، ولم تمانع من شحن الأنفس بواجب الجهاد، وحب الاستشهاد، له أثره في تأزيم الأزمات، ومما زاد الأمور استحكاماً تعجل أمريكا بعد غياب الاتحاد لسد الفراغ، واستيعاب المعسكر الشرقي بكل خلفياته التاريخية والثقافية، وبكل مشاكله الاقتصادية والإثنية والطائفية، وبكل رواسبه النفسية. وهذا الموقف المتسرع المرتبك، حداها لاستئناف سياسة مغايرة، لما كانت عليه من قبل، وحملها على إعادة ترتيب الأولويات والأصدقاء، والبحث عن معادل آخر، تثير به كوامن الشارع الأمريكي، هذا السقوط ربك أمريكا، وخفف من اهتمامها بمعسكرها الغربي، سعياً وراء استرضاء المعسكر الآخر، وسرعة احتوائه، ليتأقلم مع الأوضاع الجديدة. ولأن صراع المعسكرين عريق، وله أعماقه المتجذرة في آفاق المعمورة، وله ثاراته وذيوله العصية الانقياد، ولأن الجهاد الاسلامي لعب الدور الرئيس في المواجهة مع الاتحاد المتداعي على يده، فقد أصبح من الصعوبة بمكان حسم إشكالياته بالطرق الدبلوماسية.
وكان أن التف الماركسيون حول أنفسهم يراهنون على أن الإخفاق الماركسي إخفاق تطبيق لا إخفاق مبادىء، فيما أسرع الإسلاميون للمطالبة بحقهم من «الأنفال» التي لم تكن لله ولا للرسول، ولكنها كانت لأمريكا التي استأثرت بكل الغنائم، ولأنها جربت نتائج الجهاد الاسلامي، وحصدت ثماره، فقد أوجست خيفة من لفظة «الجهاد» الذي حقق لها ما لم تكن تحلم به، نعم دعمته بالمال والعتاد والعدة والتأييد، وحمت ساقته ومقدمته، ولكنها لم تكن حاضرة الساحات ولا المغارات، وإذ نجحت في بنائه، فإنها لم تنجح في تفكيكه، ومن ثم لم تجد بداً من طرح مصطلح «الإرهاب» وانتزاع الموافقة العالمية على ملاحقته، وأخذ المقيم بالظاعن، ولقد ساعدها على ذلك وجود عصابات تمارس الإرهاب، وتحيل عملها إلى الإسلام، وما هو من الإسلام.
وإذ يكون الإرهاب الدموي الهمجي المتوحش قائماً ومستفحلاً وخارجاً على كل الأعراف فإن الإشكالية في اختلاف المفاهيم والمواقف، ودخوله بوصفه آلية من آليات الصراع المصلحي لا الديني، وحين نختلف حول مرجعيته، نختلف حول مشروعية مواجهته على الإطلاق، ذلك أن هناك مقاومة مشروعة يعدها البعض إرهاباً، وفي تلك الأجواء، تنفست الفتن النائمة، واختلط الجهاد والفداء والاستشهاد والمقاومة بالعنف والإرهاب، وطورد المحقون والمبطلون، واختلط المجاهدون بالعملاء والمأجورين. ووجدت أمريكا نفسها بين أصوات متداخلة، وحسبت أن كل خطاب ينازعها القطبية، ويقاسمها المكاسب، ومن ثم فوضت أمرها إلى الترسانة العسكرية، بدل أن تعالج أمورها من خلال المؤسسات السياسية، ولمثل هذا عواقبه الوخيمة، ونتائجه الباهظة التكاليف، وها هو العالم الثالث يتحول إلى ساحات دموية، تستهدف المصالح الأمريكية، وها هي ساحات الفكر والإعلام تحيل إلى مناهج الدراسة، وإلى الدعوة الإسلامية المباركة، والى ثوابت الدين، كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، وفي مقابل إحالة المرجفين، يأتي خطاب الإرهاب نفسه محيلاً إلى الإسلام، بحيث أصبح الإسلام مناط القول ونقيضه، ومن الخطورة بمكان الاختلاف حول البواعث. وهذه العمليات المدمرة، قد لا يكون للعالم الثالث فيها ناقة ولا جمل، ولكنه ناقلٌ لرسائل باهظة التكاليف.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:47 PM

تعارض مصالح، لا صدام حضارات..! «2/2»
د.حسن بن فهد الهويمل


وبصرف النظر عن أسلوب المواجهة فإن هذا الصراع أو الصدام أو التعارض نوقش على عدة مستويات، ومن عدة حقول معرفية، وكل طرف يرى أن قوله الفصل، وأنه لا معقب لحكمه، والقضية كالمذهبية، فيها تابع متعصب، يسعى لاحتواء الناس، ومتمسك غير متعصب، لا يستبدل ما يراه الأدنى بالذي هو خير، ولكنه كمن يقول: لكم دينكم ولي دين، ووسطي منفتح على كل الخيارات، يبحث عن الحق، لا عن مؤيدات الرؤية. وهذه الفئات تصطرخ فوق حلبة الصراع، وبدل التعاذر، والقبول بتعدد الآراء، نشأت بين أبناء الحضارة الواحدة والوطن الواحد العداوات والتصفيات والمزايدات. والخلاف في حقل الأدب (المؤدلج) أشد ضراوة، فلقد تعقبه دارسون ونقاد، تحسسوا عن الصراع في القول والفعل، ورصدوه: واهمين أو متيقنين، أو مفتعلين. ومن النقاد المعاصرين من تعنت في إكراه النصوص الإبداعية، وبخاصة السردية منها، ليجعلها متسعة للصراع الحضاري. ولقد كانت لي إلمامات متأنية حول هذا الموضوع، في دراسة (تحكيمية) اطلعت من خلالها على مماحكات وافتراضات تعجب من صدورها من أناس نعدهم من خيار النقاد، ليس لها من الحق شيء، ولقد كانت من الكثرة والإلحاح، بحيث اغتلى فيها ارتيابي، وكدت أركن إليها شيئاً كثيراً، ولقد انقدحت فكرة (الصراع الحضاري) عند المبدعين حقاً، وعند المقتدرين قولاً وثقافة، فكتبوا، كلاماً مفيداً أو مضراً، وسموا ما كتبوه روايات، وصدّقهم من لا يحترمون المصداقية، والحق أنها كتابات فيها الجيد والرديء، ولكنها ليست من الفن الروائي في شيء. وأبدع الموهوبون مالا غبار على فنيته وجودته واستيفائه لمقومات الفن، ولكنه يفتقر إلى صدق الرؤى، وكل هؤلاء وأولئك نذروا أعمالهم للصراع الحضاري، واتخذوا من الجنس المتفحش متكأ، حتى لقد تصدر (العهر) سدة الصراع، وكانت رواية (الطيب صالح) (موسم الهجرة إلى الشمال) الكذبة السوداء، التي سلم لها الجميع. وإشكالية النقاد التعاقب، بحيث يكون المبتدئ أمير الركب، والتابع متوسعاً فيما سبق. والمبادرة قد تأتي، ولكنها لا تغلب الكثرة، على حد: - (قد قيل ما قيل). فمن النقاد الواثقين المقتدرين الذين لا تأخذهم بالحق لومة لائم من يكون مستبداً، ينهي وقوع الحافر على الحافر، مبتدئاً رحلة العودة إلى مظان الحق، رافضاً التقاطر، ولعل التعاقب على جعل التفحش الجنسي رمزاً أو قناعاً للصراع الحضاري أدق مثال، لافتعاله فيما لحق من روايات، ولقد هيئ لتلك الافتعالات من المسايرين من كرروا الكذب، وأوغلوا في الفحش، حتى كاد يكون صدقاً. ومثلما أوغل المبدعون والنقاد في فرضية الصراع الحضاري في الأعمال الروائية، وتصديق العامة لهذه الدعوى المبالغ فيها، وجدنا من العلماء والفقهاء والمفكرين والخطباء من يحيل كل خلاف مع الغرب على صراع الحضارات، مستعيناً بالخلفيات التاريخية، وعلى رأسها (الحروب الصليبية) والإحالة على هذا التصور على إطلاقه، يحمل كل الأطراف على امتشاق السلاح بوصفه القادر على حسم الإشكالية، وكان بالإمكان تفادي هذا التصور والجنوح إلى السلام والتحرف للمواجهة الإسماعية الإبلاغية، لأن في واحدية الحل تفويتاً لفرص إيجابية، ما كان لها ان تفوت، في زمن وضحت فيه الرؤى والتصورات، أو كادت. ومع الإيمان الجازم بأن العداوة في الدين قائمة، وأنها عصية الحل، وأن اليهود والنصارى لن يرضوا عن مسلم، ولا عن أمة مسلمة حتى يتبعوا ملتهم، إلا ان النصارى في ظل الحضارة المادية المهيمنة دخلوا في العلمانية الشاملة كافة، ولم تكن النصرانية همهم الأول، والدليل على ذلك أن (المملكة العربية السعودية) - على سبيل المثال - تمنع التبشير، وإقامة الكنائس، وممارسة الطقوس الدينية على أرضها، ولا يجد الغربيون غضاضة في ذلك، فيما تمارس (المملكة) نفسها في المقابل دعم الحركات الإسلامية في الغرب، وإقامة المنتديات، وعمارة المساجد، وإنشاء الجمعيات، وطبع الكتب، وتنفيذ المؤتمرات، وتوزيع المصاحف والمطبوعات، ودعم التجمعات الإسلامية، وبعث الدعاة والأئمة. ولولا ما منيت به أمريكا من ضربة قاصمة للظهر في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحميل الإسلاميين مسؤولية ذلك، لكان للحركات الإسلامية في الغرب شأن عظيم، ولكن المكائد والمؤامرات أيقظت أمريكا، لتمنع كل التحركات، وتضيق الخناق على المسلمين، وتطاردهم في عقر دارهم، وفي ذلك تفويت لفرص ذهبية. والعقيدة الإسلامية لم تمنع أمريكا من منح جنسيتها لمن تتوافر فيه الشروط، والحركات الإسلامية تجد من الحرية والحماية في أمريكا أضعاف ما تجده في عدد من الدول الإسلامية، ولولا ما ينتاب الحركات الإسلامية من تعصب مقيت، وما يجتالها من عداوات بغيضة فيما بينها، لكان لها تأثير في الرأي العام الغربي، وهذا التسامح الغربي للتعددية الدينية في إطار مواطنة شاملة يؤكد ان الخلاف مع الغرب لا يحال بجملته على الصراع الحضاري، وهذه المؤامرة الماكرة التي وضعت المشاريع الدعوية تحت المجهر، استبشر بها بعض الإسلاميين، وبخاصة ( الراديكاليون) منهم، وعدوها نصراً مبيناً لهم، وماهي في حقيقة الأمر إلا نسف متعمد للدعوة الإسلامية التي آتت ثمارها، في بلاد يتعطش أهلها إلى من ينقذهم من دوامة الشك والارتياب، ونسف لجسور المصالح المشتركة مع دولة قوية في مؤسساتها ومعارفها وترسانتها العسكرية ونفوذها الأقوى في الهيئات والمجالس التي تشرعن للمواقف العالمية. وما نقوله ونذهب إليه لايعني استبعاد ان يكون هناك صراع وعداوة في الدين، ولا يعني ان نغفل ذلك الجانب، ولايعني التزكية والتلميع لأمريكا، فنحن نعرف كم تجرع العالم من الويلات، وكم لقيت قضايا الأمة العربية العادلة من الاجهاضات، ولما كان الغرب ملة واحدة فقد لعبت من قبل (بريطانيا) ذات الدور في المشرق العربي، ولعبت (فرنسا) ماهو أنكى وأمر في الجزائر، ولعبت (إيطاليا) في ليبيا. والمشرق العربي كحلبة المصارعة، كلما خرج مصارع دخل آخر، وفي كل جولة نقول: هذه هي الضربة القاضية، ولكن المسألة مع كل هذه الجولات الشرسة ليست باللونين الأبيض والأسود، ومن ثم يجب ان نتيح فرصاً للتصورات والخيارات، وان نشتغل في القواسم المشتركة، وأن نمارس الدعوة، ونسمع الآخر كلام الله، ونبلغه مأمنه، فلكل زمان مشروعه الدعوي، ومن أراد المواجهة العسكرية فليعد لها عدتها، ولينفق على التسلح ما تنفقه أمريكا، وكيف تتأتى المواجهة المتكافئة مع دولة اخطبوطية، تنفق على تسلحها أكثر من ثلاثمائة وسبعين مليار دولار، وهو مبلغ فلكي، لم تنفقه ست دول كبرى مجتمعة على تسلحها، وعلى الذين لايرون إلا خيار المواجهة ان يمارسوا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. ومع دعوتنا للتعويل على تعارض المصالح، فإننا لم نغفل تأثير الأصولية في أمريكا، والإحياء الديني، وصعود اليمين المسيحي، ولم نتجاهل الدعم المتواصل لليهود، والعمل على عودتهم إلى فلسطين بدافع ديني، أكد عليه من قبل (ويليام بلاكستون) في كتابه (يسوع قادم) كما لا نجهل الحركة المسيحية التي استخدمت الشبكات (التلفزيونية) تحت مسمى (الكنائس المرئية). ومع التباس الأمور، وتعدد الاحتمالات، فإن هناك دقائق في أمر (الحضارة) و(الدين) لايجوز تجاهلها في سبيل تهييج الرأي العام، وكسب ولائه. ف (الحضارة) رؤية شمولية، فيما يأتي (الدين) نصاً تنظيمياً عقدياً تعبدياً، بلد الحضارة، ثم يكون روحها النابضة، والرؤية الشمولية للإسلام تتجاوز مظاهر العبادة والمعاملات والمرافعات والأحوال إلى أشياء أوسع وأشمل من ذلك، ومن سمات الدين الإسلامي شموليته وشرعيته وانفتاح نصه، بحيث يتسع للنوازل، ويستجيب لمطالب الحياة المتجددة، والتراجع حين يكون تحرفاً أو تحيزاً، لا يكون فراراً من الزحف، وحالة الضعف تستدعي التخفيف والسكينة، وذلك ما جاء به الذكر الحكيم وتحدث عنه فقهاء الأمة في قضية (الجهاد). ومع كل التحفظات فإن (الصراع الحضاري) قد يكون قائماً، ولكنه لايقف حيث يكون التدين والممارسات الدينية. ولنضرب على ذلك مثلاً بالعلمانيتين: الشاملة والتنظيمية المحدودة، واختلاف المفكرين حولهما، بحيث تكون الشاملة عزل الحياة عن الدين، وما دون الشاملة تعني عزل الدولة عن الدين، فالشاملة تمنع الاعتقاد وممارسة العبادة وتحكيم الشريعة، فيما لا تهتم العلمانية التنظيمية في أمر العبادة، والأحوال الشخصية، ولكنها تفضل (الحكومة المدنية) على (الحكومة الدينية)، و(الحكومة المدنية) قد تجعل دستورها إسلامياً وأحكامها إسلامية، ولكنها لا تضيق على نفسها كما (ولاية الفقيه) ومسألة المستويات الحكومية مسألة دقيقة وشائكة، لأنها مختلفة باختلاف المفاهيم. ولقد قيل لتحقيق ذلك الانفتاح (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة) وجاء من يستبعد قيام (الدولة الدينية) دون ان يوضح الطرفان مفهومها ومقتضيات هذه المفاهيم، وهل (الحكومة الدينية) معادلة للحكومة العلمانية، أو معادلة للحكومة المدنية؟ وكل هذه الإطلاقات التعميمية الحمقى، لم تضع تصوراً محكماً ومفصلاً، يتحقق معه إظهار الدين، وتحكيم الشريعة، وتحقيق مقتضيات الإسلام التي من أهمها العدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والوعظ والتناهي والتذكير، وبتحقق ذلك لايكون هناك ما يمنع من ان تكون الحكومة: ملكية أو جمهورية أو سلطانية: (فدرالية) أو (كنفودرالية) (شورية) أو (برلمانية) (اختيارية) أو (انتخابية) إذ المهم ليس في المسميات والأشكال والإجراءات، ولكنه في المصائر والمآلات والمرجعيات، ومن قال في الدولة (الدينية) أو (المدنية) أو (العلمانية) ثم لم يكن على معرفة دقيقة بالفكر السياسي الإسلامي، فقد يقع في الشبهات، وقد تكون لنا فيما نستقبل من أيام إلمامات موضوعية في السمات الثلاث للدولة، أملاً في كشف النوايا المرتابة، وتحديد الخطابات الجامحة الرعناء، التي تتفيأ ظلال المفاهيم المتعددة.
وما أذهب إليه لايدعو إلى ترك الثنيات، وعلمنة الحياة، وإنما يدعو إلى وضع الأمور في مواضعها، ومعالجة الأحداث على ضوء دوافعها وظروفها وكوامنها، وعلى المؤمن أن يكون كيساً، فطناً، عدلاً، لايجرمنّه كره الآخرين على عدم المصداقية. وحين تفيض مشاهدنا بفرضيات لا أساس لها من الصحة، نغفل عن حقائق، تجد من غفلتنا فرصاً ثمينة للتجذر والتوسع، وخطأ التقدير والتوقيت يفوت على الأمة فرصاً كثيرة، وعلينا، وقد ادلهمت الأمور، وبلغ السيل الزبى ان نتحرف لخطاب يصطحب (تعارض المصالح) بدل (صراع الحضارات)، ولايضع (الأنجلة) أو (القرأنة) الخطاب الفرد، وإذا كان بالإمكان الدفع بالتي هي أحسن، فإن المصير إلى الصدام سبق مفضول، وما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والصلح خير، ولا يتأتى الرفق إلا باستبعاد التوتر وصراع التفاضل والتصدير والهيمنة. وحصر المواقف في خيار واحد مع إمكان التوفر على خيارات متعددة تعنت لا مبرر له.

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:48 PM

شيخ حقيق بالتكريم
د. حسن بن فهد الهويمل


كلما استدعت المناسبات شيخا من شيوخ الفكر والادب عادت معه ذكريات عفا عليها الزمن، وألذ شيء في الحياة ان تنقلك المناسبات الى عهد الشباب، وما فيه من ذكريات جميلة.
وتكريم الاستاذ عبد الله بن ادريس من تلك المناسبات المبهجة، فلقد عرفت ابن ادريس منذ نصف قرن، وبالتحديد عام 1375هـ يوم كنت طالبا في المعهد العلمي في بريدة، في المرحلة الابتدائية، وكان هو في عنفوان شبابه مفتشا في الرئاسة العامة للمعاهد والكليات، وكان من عادة الموجهين أن يحضروا الدرس بزيهم العربي، يقدمهم احد موظفي المعهد يحمل كرسيا ليضعه في مقدمة الفصل، ثم يأتي الموجه او المفتش كما كان يسمى، ويجلس ويمضي المدرس في درسه، وكنا اذ ذاك ننظر الى الموجه او المفتش كما ينظر القروي الى عجائب الصناعات، ولما سئل احد العامة في المسجد عن اكبر مخلوقات الله قال: «القطار» ونحن في ذلك الوقت نتصور ان المفتش اهم المسؤولين واكبرهم، وظلت النظرة عالقة في اذهاننا، فكلما نظرنا الى مقال بقلم عبد الله بن ادريس اصبح في نظرنا من اكبر المقالات نقترب منه في هيبة وجلال، وقد نتهيب قراءته.
ولما يزل عالقا في أذهاننا ذلك الرجل حتى اذا أخرج للناس كتابه «شعراء نجد المعاصرون» اصبح في نظرنا فتحا مبينا وهو بحق، ومن خلال سياقه اضافة متميزة وما زالت قيمته الادبية والتاريخية قائمة.
ومع السنين اقتربت كثيرا من ابن ادريس الشاعر وابن ادريس الكاتب. وكلما قويت الصلة بيني وبينه اكتشفت المصداقية والاخلاص والنزاهة والاعتزاز بالرأي، وسواء اتفقنا معه او اختلفنا حول المفاهيم والمواقف فان الرجل يمتلك آليات نقدية وموهبة شعرية، وله إسهاماته المتعددة عبر مختلف المواقع الرسمية: تربويا، وادبيا، واعلاميا ولقد تناوله الكتاب والنقاد اختلفوا معه كثيرا، واتفقوا معه اكثر، والمسألة ليست في ان نتفق او نختلف المسألة في ان يعود هذا الاتفاق والاختلاف بفائدة على المشهد الادبي.
وعندما حضرت لشهادة الماجستير «اتجاهات الشعر المعاصر في نجد» كان ابن ادريس موضوعا لدراستي بوصفه شاعرا من شعراء نجد المعاصرين، وكان كتابه «شعراء نجد المعاصرون» من اهم المصادر التي رجعت اليها وعولت عليها.
وحين اصدر ديوانه «في زورق الحلم الجميل» تناولته بالدراسة النقدية ونشرت الدراسة في مجلة «التوباد» وعندما احتدم الجدل بين ابن ادريس والاستاذ عزيز ضياء رحمه الله حول «التراث ونقده» تدخلت لفك الاشتباك ونشرت مقالا من حلقتين في جريدة الرياض كان ذلك عام 1406ه واحلت الاختلاف بينهما الى الاختلاف في المفاهيم لا في المواقف.
وحين كرمه نادي الرياض الادبي كنت المتحدث الرئيس حول مبلغ بن ادريس من النقد، والقيت ورقتي التي اثارت اطرافا كثيرة وحظيت بمداخلات متعددة ذلك انها اعتمدت على اثارة التساؤلات لا تقرير الحقائق، ولما تزل الدراسة بانتظار النشر صحفيا او كتابيا ليفصل فيها القراء ويقولوا كلمة الحق.
واليوم وبعد هذا العمر الطويل الحافل بالعطاء، جاءت الاسرة لتكرم واحدا من ابرز رجالاتها، وجاء الامير سلمان لينوب عن الجميع بتقدير ذلك الرجل الذي تجلت امكاناته ومواهبه في اكثر من موقع ولما يزل يتواصل مع قرائه ومحبيه محتفظا بامكاناته العلمية والادبية.
وعلاقتي به علاقة التلميذ والصديق والزميل اختلف معه فيرحب صدره، وأتفق معه فيرحب صدري، وسيظل حاضرا بذاته، وبما تركه من اعمال ابداعية واعمال نقدية واسهامات صحفية في فترات حساسة من فترات العالم العربي.
ومثل هذه المناسبات تعيد الانسان الى ايامه السعيدة ايام الشباب وطموحاته فلكل من اسهم في تكريم الكفاءات الوطنية الحب والشكر والتقدير.


(*)رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الادب الإسلامي /رئيس نادي القصيم الادبي /أستاذ غير متفرغ في جامعة الامام

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:48 PM

الإصلاح السياسي بين (الديمقراطي).. و(الثيوقراطي).. ! 1/3
د.حسن بن فهد الهويمل


الهدف الأسمى لهذه المقولة لملمة أشتات الرؤى والتصورات التي يدرك بها البعض ليل السياسة العربية الضاغط، بغية الوصول بها إلى صيغة سياسية انتقائية أو توفيقية أو تلفيقية، تحقق المقتضى الإسلامي، بوصفه إرادة شعبية، وتمكن من امتصاص نسغ التجارب الأخرى، وتواكب المتغيرات الإيجابية، وتخلص الأمة العربية الممتحنة من خطابات مغثية، يخوض بها المتسطحون على الأحداث. ومتى تحقق المقتضى الإسلامي في الحكم، على أي شكل من أشكال السياسة، وعبر أي نظام متداول في المشهد القائم، تحقق معه: العدل، والمساواة، والحقوق، والمشاركة، والنهوض بمتطلبات العصر. فالإسلام كفل للإنسان على الأرض، وللطائر في السماء، وللسمك في الماء، ولكل أمة من الأمم التي لا يعلمها إلا الله حياة تناسب وجود أي كائن {وّمّا مٌن دّابَّةُ فٌي الأّرًضٌ وّلا طّائٌرُ يّطٌيرٍ بٌجّنّاحّيًهٌ إلاَّ أٍمّمِ أّمًثّالٍكٍم}. ومتى استدبرت أمة الإسلام مقتضياته، وركضت وراء بوارق الأنظمة القائمة في الشرق أو في الغرب، فوتت على نفسها فرصاً كثيرة. والإخفاقات التي تتعرض لها المؤسسات السياسية المنتمية للفكر السياسي الإسلامي عبر التاريخ إن هي إلا إخفاقات تطبيق، والعلاج لا يكون بنفي المبدأ، وإنما يكون بتمثله حقيقة لا ادعاء. ف«الديمقراطية» التي تشكل الأنموذج المعشوق شكل سياسي ناجح في الغرب، وهو المهيمن على كل التطلعات. ولقد هُدهِد العالم الثالث على سرابياته ولما تزل دعوى الكاذب، ومطلب المغلوب، وحجة الثائر، وكل الأطراف تعرف استحالة التمثل الكامل لها، لأن طبائع الشعوب وحضاراتها المتجذرة في الواقع وفي أعماق النفوس لا يتأتى في ظلها الإحلال البديل، ومن جهلها أو تجاهلها غرق في متاهاتها. وما من أمة إلا خلت فيها أشياؤها: الحسية والمعنوية، وتجذرت، حتى لايمكن القضاء عليها بسهولة، أو الاستغناء عنها بيسر. فالأمم والشعوب تقوم على مبادئ وأعراف وشرائع: وضعية أو سماوية، عرفية أو أبوية، {إنَّا وّجّدًنّا آبّاءّنّا عّلّى" أٍمَّةُ} هذه السوائد توارثوها جيلاً عن جيل، وأصبحت جزءاً من التاريخ ولبنة من بنائه. والصيرورة الكلية الفورية إلى أي نظام طارئ مهما كانت مشروعيته أو معقوليته من المستحيلات. فأين المبادئ والأحزاب والأنظمة المبتسرة التي أنفق الثوريون في سبيل تكريسها خبز الجائعين وألحفة المقرورين وأحذية الحافين، وروّي بدمائهم صعيدهم الطيب؟. إن هم الإصلاح الرفيق يختلف عن جناية الاستبدال المستشيط، والتجمد والنمطية والخوف من التحرف للأفضل مؤشر جهل بطبيعة الحياة المتجددة، وإعجاب بالرأي وبالذات. وواجب المنظرين والمنفذين ان يراعوا الأحوال، والإمكانيات، والسوائد، ورغبات الشعوب، بحيث لايكرهون الناس على أن يكونوا كما يريدون.. وأحد أنبياء (الديمقراطية) كما يسميه (أدوار بيرنز) (يذهب إلى أنها نظام في الحكم لا يصلح لجميع الشعوب). ذلك أن لكل أمة إرادة صائبة أو خاطئة، والبراعة في تصويب هذه الإرادة، دون إثارة. والشعوب الإسلامية كافة لا ترضى بالإسلام بديلاً، واستكانتها أمام المبدلين استكانة العاجز المتربص. ولهذا فكل انتخاب حر نزيه صحيح يفوز به الإسلاميون، حصل ذلك في (تركيا) وفي (الجزائر) وسيحصل في كل بلد إسلامي يمارس الانتخاب الحر النزيه. وإذا أخفق المشروع الإسلامي، فليست العلة في ذات المشروع ، ولكنها في الممارسة التطبيقية، وفي فعل الوصوليين الذين يخادعون الله، وهو خادعهم {وّيّمًكٍرٍونّ وّيّمًكٍرٍ اللّهٍ وّاللَّهٍ خّيًرٍ المّاكٌرٌينّ } .
وكل دولة مستبدة تدعي أن نظامها الأفضل، وأن شعبها أسعد الشعوب، والدول النامية هي الأكثر ادعاء، والأكثر نقداً وتلاحياً فيما بينها، والأقل فعلاً وتفعيلاً لمؤسساتها الشكلية. والدول (الديمقراطية) حقاً، لاتتحدث عن ممارساتها التطبيقية، ولا تتقحم مآزق المفاضلة والتصدير، ولكنها تترجم مقتضيات النظام عملاً، يكفل للمواطن الاستقرار والثقة والاطمئنان والحياة الكريمة. و(الديمقراطية) التي يلوكها كل لسان، ويدعيها كل نظام، تختلف من خطاب لآخر، والناس معها مقل ومكثر، تكون إجراء صرفاً، وتكون إجراءً و(أيديولوجية). فهناك (ديمقراطية) شرقية، وأخرى غربية، وهناك أنظمة وأنماط رديفة للمفهوم (الديمقراطي)، تفرضها (أيديولوجيات) متفاوتة، قد تحد من الحرية المطلقة للأمة. وواجب النخب المتصدرة، ان تفرق بين المدلولات، ذلك أن الخلط بين المفاهيم مظنة التعثر. والخطاب السياسي، وبخاصة الشورى، لايميز، أو لايريد أن يميز بين مفهوم (الديمقراطية) و(الحرية). والعالم بأسره مر بنظريات سياسية، صلحت لمرحلة أو لأمة، ولكنها لم تكن صالحة في زمن آخر، ولا في مكان آخر، ولا لأمة أخرى، ونظرية الإحلال الفوري مغامرة محكومة بالفشل الذريع، والناس جميعهم عيال على المطارحات (الميكافيلية)، وان تسللوا لواذاً متقنعين ب(الديمقراطية) التي بلغت أوجها في القرن العشرين، وتناولها (بيرنز) في كتابه (النظريات السياسية في العالم المعاصر) من خلال فرضية سماها (أنبياء العهد الذهبي) واستهل حديثه بتأزيم المصطلح، فهو الأكثر غموضاً وإبهاماً، بحيث يستوعب جميع أنواع المعاني لدى الناس جميعاً، والمصطلح حينما لايكون جامعاً مانعاً، لايكون مصطلحاً.
وحين تمر الدولة بحالة ضاغطة: داخلياً أو خارجياً، تعيد النظر في نظامها أو في تربيتها، وتحاول التحول من مفهوم لآخر، لتلافي مثل هذه الحالة، ولكن البعض لايعدو كلامه حد القول. والدول الثورية أكثر ادعاء، لأنها تبرر ثورتها بغياب (الديمقراطية) أو بخيانة الوطن، والقادمون أكثر تغيباً وأكثر خيانة. وحين يلوح أي نظام بالإصلاح، يدب ذوو البيات الشتوي من جحورهم، معلنين أو ملوحين، بما ينطوون عليه من رؤى وتصورات، فيكون العلماني الشمولي المتطرف، والعلماني التنظيمي المعتدل، والإسلامي الموغل بعنف أو برفق، والحزبي التنظيمي أو (الأيديولوجي) أو الأصولي المتعنت، وتلتطم الآراء، ثم يدب الخوف والخلاف، ويفضل العقلاء ما هم عليه، خوفاً على البلاد والعباد من لعبة قاصمة، أو مؤامرة قاضية. وكل من يدعي التغيير المطلق يفقد المصداقية، فالدساتير لايمكن ان تنكس رأساً على عقب، والإصلاح المرحلي المتدرج هو الحل الأمثل. والدول الحكيمة هي التي تتعامل مع شعوبها برفق، وهي التي تمشي الهوينا على طريق الإصلاح، شأنها شأن العلاج أو اللقاح الجديد، لايعمم إلا بعد تجربة جزئية محدودة، مصحوبة بمراقبة وحذر وتقويم.
والعالم الثالث لما يزل يمر بحالة من التعدد والارتباك والتجريب، فهناك حكومة الحزب، وحكومة الطائفة، وحكومة العرق، وحكومة القطر، وقد يمتد اسم الدولة ليكون سطراً، بينما الحاكم بأمره كلمة ناقصة، وكل هذه الأشكال تقوم على فتن نائمة، واستكانة الشعوب استكانة المتحين، فأي ظرف استثنائي قد يفجر الواقع، ومن ثم تدخل الأمة في حرب أهلية دموية، تهدد الاستقرار والأمن، ومن لم يؤمن، فلينظر إلى من حوله من دول تلعب بها أعاصير الفتن، وتعصف بها الحزبيات والطائفيات والعرقيات، مهيئة الأجواء للمجاعة والخوف والأوبئة والتدخل الأجنبي بدعوى تحرير البلاد وإيقاف نزيفه. والمذكرات والاعترافات واللقاءات عبر الكتب والصحف والمحطات تكشف عن سيئات الحكومات المتعاقبة، ومن أصاخ إلى فلول الحكومات في المنافي والملاجئ يصاب بالغثيان، وبحمدالله أن نجا بدينه وعرضه ومثمنات بلده، ومثل هذه الحكومات: إما أن تكون (دكتاتورية) متحزبة، أو (دموية) متعلمنة، أو أنها تجمع بين السيئتين، أو أنها إسلامية الشعارات لا الشعائر، وقلما تكون (قوية عادلة). والقوة والعدل تكون في الغالب منتج السياسة (الثيوقراطية)، ومن ثم لا تتحققان في ظل التعددية: الطائفية أو الدينية. والمتابع لايقف على ضابط يقيس به ما يواجهه من خطابات، ذلك أن مسألة العالم الثالث مفتوحة على كل الاحتمالات، والأصوليون يقولون: (الاحتمال لايقوم به الاستدلال). ولقد تمر الدولة بحالة من الاستقرار، ثم تصاب بنكسة مدمرة، ثم لا يكون للحالين معيار دقيق. وكل الأنظمة التي تعيش على الصدف، ولا تعول على المؤسسات والثوابت، تكون عرضة للفراغ الدستوري القاتل، ولهذا يؤدي غياب الحاكم لأي سبب إلى فتنة عمياء.
والإصلاح المتزن لا تأتي به طفرة هوجاء، ولا ثورة دموية عمياء، ولا يحققه الخروج على الحكومة الشرعية، ولا يجلبه التدخل الأجنبي، و(الديمقراطية) لا تصدر، ولا تفرض بقوة السلاح، إنها حضارة وفكر و(أيديولوجية) تكون في البدء بذرة، ثم تنشق عنها الأذهان، فتتفتق، ثم تصبح وارفة الظلال. وما لم تتهيأ الأمة لتقبلها، تتحول إلى فساد كبير. وما فوته الثوريون على أمتهم باسم (الديمقراطية) أو القومية أو الوحدة أو الحزبية لا يقدر بثمن. وكل دولة قائمة تستطيع أن تمارس الإصلاح المرحلي، وأن تتحول أشياؤها من النقص إلى التمام، وذلك فرض عين، وبخاصة من القادرين على استكمال ماينقص، والتحول المرحلي المؤسساتي هو الطريق القاصد، ولابد ان يسبق ذلك بالتوعية لا بالدعاية. فالتوعية مهمة، لأن الأمة الواعية لا تقع تحت طائلة التآمر والدسائس. والسمة النظامية ليست مهمة، ولا حتى الهيكلة والشكليات، وإنما المهم النتائج. وإشكالية الخطاب الثوري أنه ظل واقفاً عند السمة، فهو مثلاً ضد (النظام الملكي)، لمجرد أنه مغاير للسمة (الجمهورية)، وكلا النظامين بوصفهما سمة لا قيمة لهما، القيمة في الأداء والممارسة والنتائج. و(الديمقراطية) دعوى الخطاب الثوري الإعلامي، يتغنى بها، ولكنه لايحقق أدناها، فكأنه خطاب شعري، يقول ما لا يفعل، ولا يلحق به إلا الغوات من الغوغاء، ولما يزل الخطاب في تقلب مستمر، فيما لم تتم المكاشفة والمراجعة، فالذين يدعون (الديمقراطية) ماذا حققوا من مقتضياتها؟ والذين ينقمون على سائر الأنظمة، بماذا يدلون؟. والمد الثوري جعل شيطانه الأكبر منبع (الديمقراطية) الحقة، مع تغنيه بها. والقادمون بها على مطايا الفرقاطات والراجمات، لو مكنوا الشعوب منها، وأخضعوا الحكام لها، لكانوا أولى قرابينها. إن الأمة مغلوبة على فكرها قبل أن تكون مغلوبة على أمرها، وغلبة الفكر أن تظل في الوهم، وأن تظل النخب في انتظار القادم، لتقول مايقول، وكأنه (حذام).
وإشكالية المبادئ والمشاريع تعدد الأقنعة ووحدة الوجوه. والرصد التاريخي للخطاب (الديمقراطي)، يحيل إلى مفاهيم جديدة، تخطت ربط مصدرية السلطات بالشعب إلى أشياء أخرى، كالمساواة والحرية، علماً بأن مثل ذلك من طرائق الحياة (الديمقراطية) أو قل من نتائجها، فالرجوع إلى الشعب يعني التوفر على الحرية والمساواة.
وأياً ما كان الأمر فإن العالم العربي يعيش حالة من الارتباك والتردد والتناقض، والبوادر لاتبشر بخير، ولاسيما أنه مغلوب على أمره، محكوم بحاجته التي لم يستطع التوفر عليها أو الاستغناء عنها، ومع كل هذه التحذيرات فإنني لست متشائماً، ولست متحفظاً على أي محاولة تجديدية، ولست مشيداً بأي ممارسة، ما لم ألمس نتائجها ماثلة في الطبيعة، ولست متمسكاً بالسوائد ولا مؤمناً بمقولة: (ماترك الأول للآخر شيئاً).

عباس محمود العقاد 25-11-2006 08:51 PM

الإصلاح السياسي بين (الديمقراطي).. و(الثيوقراطي)..! 2/3
د. حسن بن فهد الهويمل


والسواد الأعظم، المتهافت على المصطلحات، دون فهم دقيق لجذورها الفلسفية، ودون تحفظ على حواضنها الفكرية، يمنون بالفشل الذريع. والغرباء الأقل عدداً، والأخفت صوتاً، يأخذون حذرهم، فيفرقون بين المفاهيم والمرجعيات والمبادئ والإجراءات، ويضبطون إيقاع التحولات والتناقضات، وإن اتحدت المسميات. ف(الديمقراطية) الغربية تختلف عن (الديمقراطية) الشرقية. و(ديمقراطية) الإجراء تختلف عن (ديمقراطية) المبدأ. والمغرمون بتداولهم لها يعرضون مبادئهم للمداهنة، والمناوئون يغرقون في المجادلة في غياب البصيرة، معرضين أنفسهم للتجهيل وفقد المصداقية. ولو أن الأطراف وعت المصطلحات حق وعيها، لاتخذت منها مواقف مدعومة بالمعرفة ومحكومة بالقسطاس المستقيم. و(المتأدلجون) مع المبادئ والمذاهب غير المتفاعلين معها دونما صيرورة عقدية، والأدعياء غير الأولياء، والقابلية غير المغالبة. والمتهافتون لا يكتفون بمشاركة الأمة في صياغة الدستور، بل يؤكدون على أن الشعب مصدر السلطات: التشريعية والتنفيذية، والموائمون منهم يقولون: - «إن صوت الشعب هو صوت الله). والمحاورون يدخلون في لجج من الرؤى والتصورات، ولما يُعدوا للجدل عدته، وتلك سجية يمنى بها المهتاجون العزل. ولأن (الديمقراطية) حمالة أوجه، فقد تتسع للشيء ونقيضه، فالاشتراكيون يرون التماس الحكومي مع كثير من أحوال الشعوب جزءاً من (الديمقراطية)، فيما لا يراه الغربيون الذين يعتمدون الاقتصاد الحر، وما ظاهرة الخصخصة للشركات والمؤسسات إلا سبيل من سبل العولمة الناسلة من عباءة (الديمقراطية)، فهي تحجيم لسلطة الدولة بمفهومها القديم، وبداية لعزلها عن التدخل المباشر والشامل. ومع هذه التجربة، نجد أن (العمالة) تطالب بعودة الحكومة إلى الساحة، لتفك الاشتباك بينها وبين رأس المال المستأثر بالفائدة. فالحكومة مع كل التحولات ضرورية، وضبط سلطتها ضروري أيضاً، والغوغاء المنتخبون يعانقون الرافضين للسلطة، ويحسبون أنها تغيب مع قيام (الديمقراطية) ولما يعرفوا أنها لون من ألوان السلطة، وأن الحرية المنضبطة لا يحققها إلا القوة والعدل.
و(الديمقراطية) بوصفها غربية الممارسة، (يونانية) الانتماء، وضعية الاعتقاد، أخذها الشيوعيون بمفهوم آخر، بحيث أطلقوا عليها (الديمقراطيات الشعبية) وقيادة الحزب الشيوعي لسياسة الدولة يعني إجهاض المدلول الغربي. وقد أخذت بعض دول العالم الثالث المنتمية للكتلة الشرقية بهذا المفهوم (الدكتاتوري) الاستبدادي التسلطي، المعتمد على العنف والدموية، ولهذا لم يكتب للشيوعية البقاء، وكل نظام يتخذ الظلم والتسلط شرعة ومنهاجاً مآله إلى الانهيار. وقد جاء في القرآن {وّمّا كّانّ رّبٍَكّ لٌيٍهًلٌكّ القٍرّى" بٌظٍلًمُ وّأّهًلٍهّا مٍصًلٌحٍونّ}، ولم يقل «صالحون»، ومعنى هذا: أن الله لا يهلك القرية المشركة، وأهلها يتعاطون الحق فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم، وهو ظلم، ظلماً آخر. والذين اتخذوا الماركسية من دول العالم الثالث أوغلوا في الدموية، ومن أراد الاطمئنان، فليستعد التاريخ الحديث، وبخاصة ما يتعلق بالصدامات الحزبية في (عدن) قبل الوحدة، وفي (العراق) إبان الوجبة الأولى من الثورات مستعرضاً إجابات (إبراهيم الداود) جريدة (الحياة من 9 إلى 12/1424هـ). لقد أضاف الشيوعيون العرب أسلوباً همجياً وروحاً تدميرية، فكان ان استحقوا عذاب الله، وأخذه العزيز المقتدر، إذ لم يكونوا صالحين ولا مصلحين. ومن نشد الإصلاح والأخذ بمعطيات الحضارة، فليس هناك ما يمنع من المواءمة، وبخاصة من جانب المستفيد، إذ من الممكن تحويل (الديمقراطية) من (الأدلجة) إلى الإجرائية، وليس شرطاً الأخذ بها على أنها (ايديولوجية) ذلك أن سيادة القانون، وقيم الحرية والعدالة معطيات متعددة المرجعيات، فالفكر السياسي الإسلامي يتسع لما تتسع له (الديمقراطية)، ومن الممكن الاستفادة من إجراءاتها وتنظيمات ذويها. وكل مذهبية أو حزبية أو طائفية أو عرقية تتعصب لواحدية الانتماء تقضي على وجودها الحسي والمعنوي، والقول بمحورية واحدة مع تعددية المتمحورين رؤية مفتوحة، تحتاج إلى ضابط، تتحدد معه المرجعية والهوية والانتماء.
وفقاعة (الديمقراطية) تعشي (زرقاء اليمامة)، ففي كتاب (من فقة الدولة في الإسلام) (للقرضاوي) إيماءة عازمة لمشروعية الاقتباس من (الديمقراطية): - (لتحقيق العدل والشورى، واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض) - على حد قوله -. وما أشار إليه من عدل وشورى واحترام لحقوق الإنسان إنما هو بعض مضامين الفكر السياسي الإسلامي، والأخذ بشيء من ذلك أخذ من مقاصد الإسلام، وليس أخذاً من (الديمقراطية)، فحد (الديمقراطية) أن يكون الشعب مصدر التشريعات والسلطات، فيما هو في الإسلام منفذ السلطات، وعليه اختيار الطرق والوسائل والنظم الملائمة للمرحلة المعاشة، وكنت أود لو أنه - وهو العالم الضليع - قال بالاستفادة من التنظيمات والتشكيلات والإجراءات الحديثة. فالعدل مطلب إسلامي، ولكن كيف يتحقق، ما الإجراءات السديدة التي يتحقق بها العدل، فالتنظيمات والإجراءات هي مكمن الاختلاف المشروع لا الخلاف المحظور. فمن الأنظمة من تحققه بطريقة بطيئة مكلفة، ومنها من تحققه بأسلوب سريع وغير مكلف، وكلما جدت طرق وأساليب، وجب الأخذ بأحسنها، وأيسرها على الأمة، لأنها ضالة المؤمن، وما لا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب، ويقال مثل ذلك فيما يتعلق (بحقوق الإنسان) القائمة على (المساواة) و(الحق) و(الحرية) ولكلَّ محورٍ مجالاته. واللغط حول الحقوق كثيرة. والإسلام ضمن الحقوق للإنسان والحيوان وخشاش الأرض، وهل من رحمة تعدل مثوبة (مومس) سقت (كلباً)، وتعذيب امرأة حبست (هرة)، والحقوق كما يراها الغرب، تختلف عنها في الإسلام، وليس من الممكن مسايرة الخطاب الغربي، ذلك أن للمسلمين حضارتهم، وللغرب حضارته، وإذا قلنا بالإسلام، وجب أن يكون خطابنا إسلامياً. لقد ساد القول بالحق منذ التصورات الذهنية (للقانون الطبيعي) قبل الميلاد، حتى (توماس الأكويني ت 1274)، على أن الفكرة لم يسلّم لها الكافة، بل هوجمت من قبل (فقهاء الألمان) وجاء من بعدها مصطلح (مبادئ العدالة). ف(العقد الاجتماعي) وانتهاء ب(حقوق الإنسان) المعلن عن 1948م، متضمناً: (المساواة) بمجالاتها الستة، و(حقوق الذات)، و(الحياة)، و(الحريات): - حرية التفكير، والضمير، والدين، والرأي، والتعبير، والسياسة. والذين قالوا بالحق الفردي، نسوا أو تناسوا حق الشعوب في تقرير المصير، وحقها في ثرواتها ومواردها، وحقها الثقافي والاجتماعي، وهي حقوق معطلة من قبل حماة الحقوق على حد: - (وقتل شعب آمن قضية فيها نظر).
والإسلام الذي حدد الحقوق والواجبات، ترك أسلوب توفيرها لأهل الحل والعقد، فقد تكون عن طريق المؤسسات الرسمية، أو عن طريق المنظمات الشعبية، المهم أن يتوفر الإنسان على حقوقه المشروعة، وهنا نعود إلى مصدرية الحق: أهو الوحي أم العقل، أم الإرث أم العرف، أم هي معاً؟. وما لا شك فيه أن (الديمقراطية) معطى عقلي، اكتسب مشروعيته من العقل المستبد، وكل الحضارات الوضعية وغيرها تتوخى الأفضل، وتستثمر ما سلف من حضارات، ويبقى الإسلام من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. ومع أنه من عند الله، فقد تقاطع مع كل الحضارات، والتقى معها في كثير من مبادئها. وإذ تكون هناك مساحات مشتركة، فإن من الحصافة أن يستغلها الخطاب الإسلامي، لتهدئة الأمور، والجنوح إلى السلام. والعقلانية المستبدة كغيرها من مصادر التشريعات الوضعية، ليست بريئة في منجزها، إذ هي محصلة تراكمات حضارية، لهذا كان بالإمكان أسلمة العقلانية، والأسلمة تعني الرد إلى الله والرسول، وربط كل المكتسب التجريبي والتنظيمي بالمقتضى الإسلامي، وليس هناك ما يمنع من الاستعانة ب(العقل) و(الإرث) و(العرف)، متى لم يخالف شيء منها (نصاً) قطعي الدلالة والثبوت. ولقد ذهب البعض إلى أنه لا معنى (للديمقراطية) ولا (للعلمانية) في ظل الإسلام، إذ هما مطلوبتان في ظل حضارات تفتقر لمثليهما. فالعلمانية تخليص من سلطة (الكنيسة) المتجمدة وتسلط (الكهنوتية) المستغلة، وليس في الإسلام سلطة كنسية ولا كهنوتية متسلطة، ذلك أن نظامه السياسي شوري اجتهادي وتطوري مرن، يحيل إلى العقل والتفكير، والبر ما اطمأنت إليه النفس، وحديث (استفت قلبك) تفويض مضبوط بالمقاصد، والكليات الإسلامية.
والذين نفوا وجود نظام سياسي إسلامي صالح، لم يكن لديهم استعداد للقراءة البريئة والتأمل العميق، كما لم يفهموا بعد مقتضيات ذلك الفكر ومقاصده، وتصوراتهم الخاطئة أردتهم. نجد ذلك عند (علي عبدالرازق) وعند سائر العلمانيين والماركسيين من بعده، وبخاصة (محمد سعيد العشماوي) الذي أوغل في الطعن في الخلافة والحكومة والحكم والتشريع الإسلامي، وتصور الحكومة الدينية كما يتصورها الغرب. وفي ذلك مسايرة غبية للغربيين المنكرين لفكرة وجود مبادئ للدولة في الإسلام، و نصوص الشريعة متضمنة لمبادئ السياسة وقواعد العلاقات التي لها أبعادها العالمية والإنسانية وضوابطها للعلاقات الدولية في حالة السلم والحرب. على أن طائفة من المستشرقين أشادوا بالقيم السياسية في الإسلام من مثل (شاخت) و(نللينو) و(ستروتمان) و(ماكدنونالد) و(جب) وغير أولئك كثير. ومن مختلف التصورات فإن الإسلام يركز على النتائج، تاركاً الأساليب للظروف، ومن ثم فإن تحكيم الشرع، وإظهار الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنهوض بأمر الدعوة، تمثل مقتضيات الفكر السياسي الإسلامي. وكيف لا تكون في الإسلام مبادئ سياسية، والله أنزل الكتاب بالحق والميزان، ليقوم الناس بالقسط، و(صحيفة المدينة) إن لم تثبت سنداً فقد ثبتت متنا، وبهذا تعد منتجاً مبكراً للوثائق والدساتير.
و(الثيوقراطية) مصطلح سياسي، يجري عليه من الاختلاف وتباين وجهات النظر ما يجري على مصطلح (الديمقراطية). وبالجملة فإن مقتضياته تتأدى على أساس عقدي ديني، وإذ تستمد (الديمقراطية) سلطتها من الرؤية والتصور الشعبي، فإن (الثيوقراطية) تستمد سلطتها من الدين، وكل متحدث عن هذا المصطلح يربطه بمصطلحات أخرى ك(الحق الإلهي) و(ولاية الفقيه) و(الحكومة الدينية) على مختلف تصوراتها، وإذ تدخل هذه المفاهيم في المصطلح أو لا تدخل، فإنه لا يُلزم بها الفكر السياسي الإسلامي، فالحكومة الدينية أو المدنية يحتويها الإسلام، ولا تحتويه، وتعرف به، ولا يعرف بها، وإخفاق التطبيق لا يتحمله المبدأ.
إذاً هناك معادلة ثنائية:
(الديمقراطية) تعتبر الشعب مصدر: التشريع والسلطة.
(الثيوقراطية) تعتبر الله مصدر التشريع، والشعب مصدر السلطة.
والإشكالية في فهم المقتضيات، وصياغة المفردات والحقوق والواجبات. والمقولات بأن (الحاكم بمثابة ظل الله على الأرض) أو مقولة ب(أنه مفوض من السماء) أو أنه (يستمد مقوماته من المشيئة الإلهية) مقولات فيها تعميم. وهي إطلاقات المعادل المناوئ. وحتى القول بمطلقية (الحق الشعبي) أو (الحق الإلهي) في الممارسات التطبيقية للمصطلحين المتناقضين قول فيه أقوال. وعلينا قبل الدخول في المعادل الإشارة إلى أن الإسلام ليس ديناً شعائرياً (ميتا فيزيقياً) فحسب، الإسلام دين ودولة، شرعة ومنهاج، علاقة بين الخالق والمخلوق، وبين المخلوق والمخلوق بكل أنواعه، حتى بين البهيمة الجماء وذات القرون. وبهذه الدقة والشمولية والرأفة والثبات يختلف الإسلام عن الديانات المحرفة. وإذا أخفقت (الكنيسة) في إفراز نظام سياسي، فإن الإسلام قادر على طرح مشروعه السياسي المستوعب لكل متطلبات إنسان العصر (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، والأصوليون يختلفون في مفهوم عدم التفريط، و(للشاطبي) رأي وسط في (موافقاته).
والمصداقية تقتضي أن نقول: إن هناك أشكالاً وأنظمة في الحكم الوضعي عادلة وناجحة، ولكن ذويها لا يرجون من الله ما يرجوه المسلمون عند إقامة العدل، وتحقيق النجاح واستعمار الأرض، والإحسان إلى الناس كافة. وبعض المسلمين بالاسم نفوا إسلامهم، وابتغوا حكم الجاهلية ادعاءً لا امتثالاً {وّمّنً أّحًسّنٍ مٌنّ اللّهٌ حٍكًمْا}. وهذا التذبذب بين الإسلامية و(الديمقراطية) التبست معه الأمور، وأخفقت فيه النتائج، فإذا وصف (الديمقراطية) حاكم مثل (ابراهام لنكولن) وقال: - (بأنها حكم الشعب بالشعب وللشعب) فإن مقولته هذه صادقة، لأن (الديمقراطية) عنده تمثل مقاصدها المكتوبة، وليس هناك رئيس يستطيع أن يحرف شيئاً من ذلك، ولا أن يتعالى فوق القانون، ولكن إذا قالها (ثوري عربي) فإن في المسألة أكثر من نظر. إذاً هناك كلمات تطلق هنا وهناك، فتكون في مكان حرية نابضة، وفي آخر شكلية فارغة.
ومما لا مراء فيه أن المشهد الفكري العربي يمر بحالة من الاضطراب المخل بأهلية التصدي للمتداول: تنظيراً أو ممارسةً، رؤيةً أو واقعاً. وكل المحاولات التوفيقية أو التلفيقية أو الإحلالية فشلت في إيقاف هذا التدهور والإبقاء على ثمالة الوفاق، إن كان ثمة رسيس يبل الصدى. والذي أسهم في تعميق الترديات صراع الانتماءات الشكلية، بل صراع الذات مع نفسها. فهناك: القومي، والبعثي، والعلماني، والشيوعي، والناصري، والإخواني، والقطري، والقبلي، والطائفي، وكل خطاب يكيد للآخر، ويتربص به الدوائر، وهذه الصراعات المستحرة تغذيها قوى خارجية، وليست في جملتها منتجاً وطنياً، بحيث يمكن التوفيق بين وجهات النظر. لقد كان الصراع في الخمسينيات والستينيات وشطر من السبعينيات ثنائياً: - يسارياً أو يمينياً. وكل خطاب يتوسل بالقومية، بوصفها القاسم المشترك، وبعد تراجع اليسار وانهيار القومية، صعد خطاب إسلامي متعدد المفاهيم والتصورات والحدِّيات، وأحسبه الخطاب الأكثر تعميقاً للصراع، لأنه الخصم التاريخي المتحفظ على كل الخطابات، والمتحفظ عليه من كل الخطابات، ولهذا لا يجوز أن يكون مشاعاً ولا مستباحاً لكل من قدر على القول، أو رغب في الانتهاز، ولكي يطرح المشروع الإسلامي نفسه كما أراده الله، فلا بد من الدخول في المؤسسات كافة، والخروج بخطاب موحد، يصالح ولا يصادم، ويبادل ولا ينابذ، ويفرق بين اختلاف الاجتهاد وخلاف المبادئ والمرجعيات.

العصفور الأنيق 26-11-2006 01:45 AM

رائع أخي عباس
إنك كبير ،،، حين أطلعتنا على قدر الكبار

التويجري 26-11-2006 08:38 AM

.
.
.

ما أطول نَفَسَكَ يا عباس ..!

ماشاء الله ..

نِعْمَ الناقل ونِعْمَ المنقول ..

.
.
.

:)


الساعة الآن +4: 08:04 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.