![]() |
مثقفون يكيلون الاتهامات لـ «رابطة الادب الاسلامي» .. ورئيسها يرد:
أهدافنا عالمية والساحة تتسع لكل التيارات سعيد الباحص (الدمام) تصدى د.حسن بن فهد الهويمل رئيس مكتب «رابطة الادب الاسلامي» بالمملكة للاتهامات والانتقادات الموجهة للرابطة قائلا انها تؤدي رسالتها النبيلة في نشر الابداعات الشعرية والنثرية وكل ما هو متصل بالثقافة والكلمة الطيبة ضمن اهداف ومبادئ اسلامية اصيلة تترفع عن كل ما هو محبط للقيم والاخلاق. ونفى ان تكون هذه الرابطة انشئت كرد فعل لموقف ثقافي معين. جاء ذلك في استطلاع اجرته «عكاظ» حول الدور الذي تقوم به رابطة الادب الاسلامي. حيث طرح الاكاديمي والناقد «محمد البودي» عدة نقاط تدور حول تقييمه لوضع الرابطة بوجه عام قائلا انها فقدت بريقها وحيويتها لسبب مركزي وهو عدم محاولتها ان تواكب المشهد الثقافي الذي نعيشه فهي كما كانت منذ افتتاحها في الالية والطرح والحضور مما انعكس على مساهمتها الضئيلة وعدم تأثيرها في الحراك الثقافي معللا بقوله «ان الجهود الاولى التي قدمتها الرابطة في الماضي اخشى ان تكون اتت لغرض ردة فعل من موقف ثقافي معين قامت بغرض التصحيح له مضيفا.. بأن الرابطة اصلا مدرسة ادبية لها اهدافها وبرامجها التي تهتم بالشعر والقصة، ولكن التزمت بمفهوم الادب الاسلامي وأقترح تغيير اسمها حتى لانقع في اشكالية الفرز بين ما هو اسلامي وغير اسلامي بيد انه أكد ان مضمون الرابطة في الاساس راق وسام ولكن تشكلها هو المختلف عليه حيث تشكو من قلة الدخل المادي قائلا ان الذي لايستطيع توفير الامكانات المادية فليقدم استقالته ويترك المجال لغيره اما ان يشكو القائمون من قلة الدخل والموارد فهذا ضعف فيهم وعدم قدرة على ايجاد آليات للنهوض بمشروع هذه الرابطة. مطالبا في الوقت نفسه ان تدعو الرابطة الى مؤتمر كبير لمراجعة انظمتها وأهدافها وعضويتها وكذلك تفعيل دور المتدربين والمكاتب في انحاء المملكة والا تركن الى حالة الغياب التي تعيشها وتكتفي بتاريخها القديم قبل خمس سنوات. ومن جانبه قال ظافر بن عبدالله الشهري رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الملك فيصل بالاحساء اننا لم نجد في الواقع تعريفا يحدد المصطلح العلمي والادبي للادب الاسلامي أهو يختلف عن الادب العربي الذي نقرأه منذ العصر الجاهلي الى يومنا هذا ملمحا الى انها اجتهادات فقط من اشخاص تبنوا فكرة الادب الاسلامي لكنهم لم يحددوا الاطار الفني والاصطلاحي لهذا المفهوم قائلا بان هذا اكبر ما يؤخذ على الرابطة مضيفا الى ان الذين تبنوا الادب الاسلامي منذ نشأته في التسعينات كانوا مجموعة من الاشخاص للاسف «يتاجرون» بهذا المفهوم ويرتزقون من وراء هذا المصطلح خاصة اننا امة عاطفية تبنتهم جامعاتنا العربية فنظروا لهذا المفهوم. وطالب باعادة النظر في هذا المفهوم لان الادب العربي منذ العصر الجاهلي الى يومنا هذا يحمل قيما رفيعة لايمكن ان تهمل بحجة انها نتاج اديب غير اسلامي في عصر ما قبل الاسلام متهما مكتب الرابطة بانه لم يفعل دوره في المملكة ولم يكن له حضوره والفاعل في المحافل الثقافية على المستوى العالمي. واصفا القائمين عليه بانهم «اقليميون» الى درجة كبيرة ليس لهم حضور وليس لهم تفعيل لهذا المسمى العظيم. ورد د. الهويمل على هذه الملاحظات قائلا: ان الرابطة عالمية وليست اقليمية بحيث يقوّم نشاطها بل اداء مكتبها بالرياض مؤكدا انه يجب على النقاد ان يلم بكل نشاطها في مختلف بقاع العالم واذا يحكم ان هناك سبع مجلات وصحف تصدر بلغات مختلفة عن الرابطة وهناك مؤتمرات عالمية تنفذ في بقاع كثيرة لاتقوم وسائل اعلامية محلية بمتابعتها وتغطيتها ومن ثم تقوم الرابطة من خلال ناشط مكتبها في الرياض الذي هو جزء من عشرة مكاتب في العالم مع ان هذا المكتب ينفذ نشاطاته في مختلف عواصم البلاد الاسلامية كالقاهرة والاردن واسطنبول نظرا لمكانة المملكة اقتصاديا يعتبر الممول والداعم لها في كافة البرامج. وعن غياب مكتب الرابطة وعدم تفعيل دوره؟ رد بقوله: اننا قدمنا الكثير وخير شاهد على ذلك اننا نعقد كل نصف شهر لقاء ابداعيا سواء قراءة سردية او شعرية بالاضافة الى المجلة الشهرية التي تصدر فليس صحيحا القول بأن المكتب لم يقدم اي شيء. وحول الجدل القائم في مصطلح «الادب الاسلامي» وهل هو يختلف عن الادب العربي قال الهويمل.. انه لايختلف بل هو جزء من الادب العربي الا انه يهتم بالكلمة الطيبة ونشرها لان الادب العربي يتسع للكلمة الطيبة وغير الطيبة فهناك الحداثي والماركسي والوجودي والسريالي والليبرالي لكن الادب الاسلامي حيز لاشاعة الكلمة الطيبة. «وحول المتاجرة بهذا المفهوم» بمن تبنوا فكرة الادب الاسلامي اكد ان المتاجرة ترجع للنوايا والمقاصد وكل هذا ماله الى الله تعالى فهو الذي سيحاسبهم على هذه النوايا ان كانت نواياهم سيئة ويجب على المتابع ان يتمسك بالظاهر والا يتهم احد في نيته لان هذا لايجوز شرعا ان تتهم احدا في نيته. واما الغرض من انشاء الرابطة ليس صحيحا من يقول ان الرابطة انشئت كردة فعل من موقف ثقافي معين او مخالف. لكن المشهد الثقافي في الوطن العربي كله اتسع لعدة تيارات منها حداثية ووجودية وليبرالية وماركسية فمن حق الاسلام والمسلمين ان يطرحوا مشروعهم كأي مشروع اخر. وردا على من يقول ان المكتب يعيش حالة غياب يقول: ان الغياب من الرداد وليس من الكتب فهم لايصلون للمكتب ولايواظبون على حضور برامجه وفعالياته ولايحصلون على مجلته ولايعرفون برامجه السنوية وندواته ولامهرجاناته في انماء العالم فالجهل بالشيء لايعني عدم الشيء ويتطلب منهم السعي للتعرف على الشيء. وأكد في نهاية حديثه ان المكتب لايعاني من ضعف مادي والدولة تدعمه بشكل واسع وهو تحت اشراف جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية. |
عقائد المفكرين في القرن العشرين..!
د. حسن بن فهد الهويمل كلما هممت في تناول موضوع يشغل الرأي العام أو الخاص، وله مساس بالفكر المعاصر، هرعت إلى مكتبتي التي نشأت معي منذ نصف قرن، واتخذت لها توزيعاً وفق رؤيتي الخاصة، وليس وفق النظام العشري المعتمد لدى المكتبات العالمية. ومنها ألتمس المراجع والمصادر التي تعضد فكرتي، وتشدّ أزر موقفي؛ سعياً وراء تحويل المقال من الإنشائية المترسلة إلى الثقافية الممتلئة؛ فأنا أكره المترسلين والمخفين والإنشائيين، وأحفل بالمقال الممتلئ معرفة، والمؤصل علماً. وكلما ارتبت من شطحة كاتب أو جهله، أو ضقت ذرعاً بتعالمه هرعت إلى أمات المصادر والمراجع؛ للتمكن من ردّ التائهين إلى جادة الصواب. وما من كاتب إلا مدرك أو مستدرك عليه، كما قال الإمام مالك: (ما منا إلا رادّ أو مردود عليه إلا صاحب هذا القبر) - يعني مَن لا ينطق عن الهوى -. والنصّ الثقافي هو النص المطعم بمختلف المعارف، المحلّى بأنواع الثقافات وأصناف الآراء. وعودتي إلى الكتب المسعفة ليست كعودة الخالي الوفاض الذي يأخذ من هذا، وينقل من ذاك، ثم لا يحسن الانتقاء، ولا يوفق في العرض، فيكون كمن يطيل الحديث، ثم لا يقول شيئاً، أو كحاطب ليل، وإنما هي عودة المتزود، وخير الزاد ما يقي الإنسان زلة اللسان وصبوة القلم. ويقيني أنني مررت عبر عشرات السنين على تلك الكتب، وعرفت ما تنطوي عليه. ومن عادتي حين أريد شراء كتاب أجهل مؤلفه، ولا أتوفر على معرفة كافية عن حقله المعرفي، أن أستعرض المقدمة والخاتمة والمراجع، وأستبين المنهج والخطة وآلية التناول، ثم أختار بعض الصفحات عشوائياً، فإذا شدني سحر اللغة وحلاوة الأسلوب، أو استهوتني طرافة المعلومة، أو استمالني عمق الباحث واقتداره، اشتريت الكتاب. وإلى جانب هذا الاستعراض السريع أميل إلى استكمال ما ألفته طائفة من العلماء والأدباء والمفكرين ممن لهم حضورهم المؤثر في سائر المشاهد. أسأل عما لهم من مؤلفات أو عمن كتب عنهم؛ لكونهم يشكلون مكانة علمية متميزة. وتمتد رغبتي إلى جانب ذلك إلى مذاهب وظواهر لا بدّ من استكمال المعلومات عنها، ف (الحداثة) أو (العولمة) و(التفكيكية) و(التحويلية) - على سبيل المثال - من الظواهر التي يفرض عليّ حضوري الاهتمام بها، واستكمال المعلومات عنها، مثلما كانت (الوجودية) و(الماركسية) من قبل محط الأنظار، والاهتمام يمتد إلى الموسوعات والمعاجم كافة في أيّ حقل معرفي. وحين أردت التعليق على مأزق التعالق والردّ على بعض المغالطين حول سائر الظواهر؛ بوصفها متعددة المفاهيم، لم أقنع باللغط المحلي، ولا باللغو الإعلامي؛ ذلك أنه زبد لا يغني ولا يقني، بل عدت إلى تاريخ الحضارات والعلوم والمذاهب والأفكار من خلال موسوعاتها أو رجالاتها، أو ما ألف عنها من كتب، أو ما كتب فيها من مقالات ورسائل علمية محكمة، وما أجري حولها من لقاءات، وكان من بين ما رجعت إليه كتاب (عقائد المفكرين في القرن العشرين) للمفكر العربي الكبير (عباس محمود العقاد - ت 1964م) - رحمه الله -، ولهذا المفكر الفذ في نفسي كل الإعجاب وكل الإكبار، وهو في حياته وبعد مماته ظالم ومظلوم؛ فكل الذين قرؤوه لم ينصفوه، وأكثرهم قرأ عنه، ولم يقرأ له، وتلك من عثرات الأقلام. لقد عرفته قبل نصف قرن، ودخلت كتبه مكتبتي في وقت مبكر، فهذا الكتاب وضع عليه تاريخ الشراء عام 1388هـ. وجناح (العقاد) في مكتبتي من أوسع الأجنحة لا ينازعه إلا جناح (طه حسين) و(عبد الرحمن بدوي) و(زكي نجيب محمود)؛ إذ يشتمل على كل كتبه التي ألفها، وطبعها في حياته، وما طبع له بعد مماته، وأكثر ما كتب عنه. وحين أقول: (أكثر ما كتب عنه) فإنني أعرف حجم ما كتب عنه، ولا سيما بعدما استعرضت السلسلة (الببليوجرافية) عن أعلام الأدب المعاصر في مصر، التي أعدها فريق عمل، تحت إشراف الأستاذ (حمدي السكوت) الذي نال جائزة الملك فيصل. وهو قد انفرد بإعداد ما يخص (عباس محمود العقاد) في مجلدين نيفا على ألف ومائة وخمسين صفحة، ليس فيها إلا عناوين الكتب والمقالات. وفيما يتعلق بالكتاب مجال الحديث (عقائد المفكرين في القرن العشرين) فإن ترتيبه يأتي بين مؤلفاته المطبوعة في حياته بعد أربعين كتاباً سبقته، ولعل هذا مؤشر على نضجه وسيطرته على معارف عصره. ولن أنقب عما كُتب عن هذا الكتاب من مدح أو قدح فيما كتب عن العقاد من رسائل علمية وكتب دراسية أو نقدية، والتي تجاوزت السبعين كتاباً في مصر وحدها؛ لأن ذلك يند بنا عما نحن بصدده. والمتتبع للعقاد يجده في اللغة كمن ينحت من الصخر، وفي المعاني كمن يغرف من البحر؛ فهو حين يعزم على تناول ظاهرة فكرية تنثال عليه المعلومات من كل جانب، وتحتشد الكتب بمختلف اللغات. ولأنه لا يعتمد النقل، ولا يهتم بالإحالة، فإن القارئ المبتدئ لا يملك مجاراته. ولقد تجرعت مرارات المغالبة؛ إذ شدني (العقاد) وأنا غض الإهاب، وأحسست وأنا أجيل النظر في كتبه أنني أمام مطلسم لا يبالي بقارئيه، حتى لا أدري كيف السبيل إلى مراميه وأهدافه، ولم يكن في مقدوري إذ ذاك السيطرة على فكره، ولا السيطرة على غرامي بكتبه، ووجدت أن الحل الأمثل في التوفر على كتبه، وتركها مرصوصة في المكتبة يعلوها الغبار، حتى تتوفر القدرة على التفكيك والتشريح والتقويض، وحتى أمتلك أكثر من نظرية معرفية؛ فقراءة العقاد تحتاج إلى آليات قرائية تقدر على تثوير معارفه المتماسكة كما الصخر. وحديثه عن (عقائد المفكرين) حصيلة قراءة مباشرة لما كتبوه بأيديهم؛ إذ لم يقع تحت رحمة المترجمين الذين لا يملكون القدرة على استيعاب الأفكار ولا القدرة على معضلات اللغات. وكل من يتلقى معارفه من المترجمين يكون مرتهناً لمبلغهم من العلم. و(العقاد) حين يعطيك تصوره للأفكار يدعم رؤيته بنقول في غاية الاختصار؛ ففي حديثه - على سبيل المثال - عن (مشكلة الشر) تجده يقدم رؤيته كمفكر لا يقل عن أساطين الفكر الغربي، حتى إذا وثق من تحرير موقفه، عطف على مَن لهم رؤية موافقة أو مخالفة، وهو في أمور كثيرة لا يحسم الإشكالية، ولكنه يتركها لمزيد من الإضافات. والذين يمتلكون ترويض جماح فكره يخرجون بنتائج إيجابية. والكتاب - كما يقال - (معتصر المختصر)، وهو من الكتب المؤلفة، وليس من المقالات المجموعة، وميزة التأليف أنها تعتمد الخطة والمنهج والآلية والمراجع والمصادر، وتحتفظ بالوحدة الموضوعية والعضوية، وتبسط الحديث عن الموضوع، وليست كذلك المقالات أو الدراسات المجموعة بعد النشر أو الإلقاء. وللعقاد عشرات الكتب من هذا وذاك؛ ذلك أنه زهد بالوظائف، ولم يمارس التجارة، وجاء من (أسوان) إلى (القاهرة) شاباً معدماً مجهولاً تتقحمه العيون ويزدريه الكبراء، فكان أن اعتمد على قلمه في رزقه، وفي فرض وجوده، ومن ثم جذبته الصحافة واستهلكته، والعباقرة كالمجانين، لا تسعهم الوظائف، ولا تصبر عليهم النساء، فما باع نفسه بالتقسيط - كما يقول -، وما شغلته زوجة ولا ولد، ولسنا معه في شيء من ذلك، ولكنها حيوات العباقرة الشاذة والمفيدة في آن. و(العقاد) الذي شدّني إليه صلفه وعنف مواجهته الأفكار والأناسيّ ليس معصوماً من الأخطاء الفادحة، والانحياز السلبيّ والدخول في اللعب السياسية أثناء المدّ الشيوعي، ولسنا بصدد الحديث عن جوانب حياته ومجمل أفكاره، ولكننا نودّ الحديث عن كتاب قرأته أكثر من مرة، وعدت إليه أكثر من مرة، وأحسست أنه من أصول الفلسفة الحديثة؛ لأنه يعرض - بالإيجاز - رموز الفكر الغربي الحديث، ويرصد التحولات الفكرية والعلمية كافة. وما من طالب علم وفكر يريد لنفسه التأصيل المعرفي إلا ويكون (العقاد) واحداً من أهم مراجعه، وغياب التأصيل للفلسفة الحديثة يعرض الدارسين للتيه، وذلك ما نراه ونسمعه. وتشكّل الثقافة من الكتبة المتسطحين يؤدي إلى ثقافة ضحلة متسطحة. وكتاب الصحف أو بعضهم على الأقل ممن تجذبهم الصحافة، وتحملهم على تنويع الموضوعات يكبرون في أعين الناس، وتصبح مقولاتهم حاسمة، وما هم في الحقيقة إلا منشئون لا يؤصلون لعلم، ولا يحررون لمسائل، فإذا تحدثوا عن القضايا والظواهر والمذاهب والمبادئ، ربكوا الأذهان، واضطربت من أقوالهم المفاهيم، وأدت كتاباتهم إلى التنازع بين القانعين بما يقولون. والذين يتوفرون على المعاجم والموسوعات والمترجمات وأمات الكتب والدراسات، ويتابعون ما يجدّ من قضايا وظواهر، ويحصلون على ما يكتب فيها وعنها تكون لهم رؤية صائبة فيما يكتب من مقالات ودراسات مرتجلة. ومكمن الإشكاليات الفكرية والسياسية والدينية في واحدية التلقي؛ بمعنى أن يقيد القارئ نفسه بعالم أو كاتب أو مصدر علمي ناقص، أو يكون مقلداً لفكر أو مذهب، يرى فيه العمق والشمول، وما هو كذلك، وإنما هو التعصب الأعمى والتزكية المتعجلة. وحديثي عن الكتاب لا ينهض بمهمة العرض ولا التلخيص، ولكنه يومئ إلى حلقة مفقودة عند سائر الكتبة الذين يتصدرون القول في الظواهر الفكرية الغربية، وهم لم يتمكنوا من استكناه الجذور، ولا الإلمام بمتطلبات القول عن المفاهيم، وفي هذا تضليل وإرباك. والراصد لفيوض الحديث عن (الغربنة) وسائر مفرداتها من عشرات الظواهر والمذاهب والمصطلحات يصاب بخيبة الأمل؛ ذلك أن أكثر المتحدثين يخلطون بين المبادئ والتطبيقات، ويعولون على إيجابيات الممارسة لتزكية الآخر، ولا يفرقون بين (الأيديولوجيا) والإجراء، وإذا حددوا مفهومهم للظاهرة تبين أنهم مثقفو مساع، وليسوا مؤصلين للمعارف؛ فهم ثملاً يتصورون أن (الحداثة) مجرد التجديد، والدليل على ذلك وصفهم الخصوم بالتقليديين، وهم يتصورون أن (الليبرالية) مجرد التوفر على الحرية وعصرنة الدساتير؛ ولهذا يصفون خصومهم بالرجعيين أو الماضويين. ولك أن تقول مثل ذلك عن (الديموقراطية) وغيرها، ومصدر المشاكل التعويل على المتداول الإعلامي، والركون إلى الشعارات الثورية. والعلماء والمفكرون يقصدون بحار العلوم، (ومن قصد البحر استقل السواقيا). ومن لم يوظف الجهد والوقت والمال لمتابعة ما يجدّ من الدراسات والمعاجم والموسوعات والمترجمات لا يقدر على استبانة الرشد، وسيظل يخبط في بنيات الطريق كما العشواء. وكتاب (العقاد) الذي تداعت معه هذه الهواجس يضع قدم الباحث على المحجة، ويمكنه من الرصد الدقيق لتحولات الفكر، ومع أنه يقع في مئة وسبع وستين صفحة فإنه يمكن الباحث من ترائي فضاءات الفكر المعاصر، ويغريه بالبحث والتقصي عمن ذكر من الأناسيّ والمبادئ. و(العقاد) لا يفصّل القول، ولا يحمل همّ الشمول؛ فالعقائد والفلسفات متاهات داخلها مفقود وخارجها مولود، على حد: (نهاية إقدام العقول عقال). و(العقاد) الذي يملك جَلَد المثابرين، ونباهة العبقريين، يلمّ بكل المنجز الفكري، ويعرف دخائله وأصوله. ومصائب المشهد الفكري المعاصر أن سواده الأعظم لا يتجاوزون سقط المعارف، وحين يتحدثون تتفرق بهم سبل المفاهيم ونظريات التأويل والتلقي. والمقتصر على ذلك النوع من النثار أشبه بالمجتث من فوق الأرض، لا يكون له قرار. وما صعّد الخلاف، وأشعل الجدل إلا المتسطحون على المعارف، وكل متابع تعدو عينه إلى جذور النظريات وأصولها ومرجعياتها وأنساقها يريح ويستريح؛ لأنه يقطع قول كل خطيب. و(العقاد) من هذه النوعية القليلة، وسواء اتفقت معه، أو لم تتفق، فإنك لا تجد بداً من احترامه. وإذ يتحدث في كتابه المركز عن (عقائد المفكرين) فإنه يحاول تحديد مفهوم (العقيدة). وبعد مجمل التساؤلات يقرر أن العقيدة في بحثه تعني: مشمول الوجدان، وطريقة الحياة، وحاجة النفس، وهي تتجلى بالتقديس والتصديق والتسليم، ويمحّصها الإدراك والشك ثم اليقين. وحرصه على التكثيف والإيجاز لم يمنعه من إطالة الحديث، واستعراض مجمل الرؤى والتصورات عند علماء النفس والفلسفة والتاريخ. وتجلية عقائد المفكرين في مقطع زماني أو مكاني تتطلب التحقق من الأنساق والسياقات، وقد سماها العقاد (سمة العصر)، وأبرز سمات العصر طغيان سلطان العقل وسلطان العلم. وهو قد صوّر التحولات على النحو التالي: - هيمنة سلطان الدين. - ثم هيمنة سلطان العقل. - وأخيراً هيمنة سلطان العلم. وقد حصر أسباب التحول العقدي في خمسة أمور: - اكتشاف مركز الأرض في منظومتها. - ظهور القوانين المادية. - مذهب النشوء والارتقاء. - مقارنة الأديان. - مشكلة الشرّ. ولقد تناولها بشيء من التركيز، ولم يكن - فيما أعلم - متحدثاً عن مجرد العقيدة، ولكنه أراد أن يرصد التحولات العقدية؛ فالغرب قبل التنوير كان (لاهوتياً) تقوده الكنيسة، وأثناء التنوير ساد العقل، وتخلف النص، ثم تخلف العقل والنص، وساد العلم، وكانت المادة وقوانينها مجال التفكير والبحث. وكنت أتوقع منه أن يؤخر الحديث عن قوانين المادة؛ ذلك أن عقائد المفكرين حطت برحالها عند تلك القوانين، وإن كانت المكتشفات قد أسقطت الكثير منها، ولما جاءت (النسبية) كادت تنهد معها كل القوانين. وأمتع بحوثه ما كتبه عن (مشكلة الشرّ)، وهو حين تناولها، من خلال الحكمة والعدل والأسس، تقصاها عند فلاسفة الغرب، ولم يعرج عليها في الفكر الإسلامي. ومنهجية البحث لا تقتضي ذلك، وهو قد نهج الطريق ذاته عندما تحدث عن (نظرية النشوء والارتقاء)، وللفكر الإسلامي رؤية مسددة في قضية (الخير والشر) قد نتقصاها في مقال لاحق. ومثلما فعل مع تحولات العقائد، فعل في كتابه (إبليس)؛ حيث أخذه الحديث عن تاريخ الشيطان كرمز للشر، ولكنه - كما هو في كتابه (الله) - لم يتحدث عن فلسفة (الخير والشر)، ولا عن (الفلسفة الأخلاقية) بالقدر الكافي. وأحسبه معنيّ بتحرير عقائد المفكرين في حقبة محدودة ومكان محدود. وإشكاليات الخير والشر تتنازعها حقول (الناسوت) و (اللاهوت)، وما لهما من فلسفات ومثاليات. ومحصلة القول: أن نتجافى في تناول القضايا عن السماع المبعثر، ومن أراد تحرير القضايا والتأصيل لها فعليه أن يتحمل عناء القراءة الشمولية المعمقة، أو ليدع ما للعلماء للعلماء، وما للعامة للعامة. |
يسير الحساب لمعرض الكتاب
د. حسن بن فهد الهويمل سيُقال فيه وعنه معلقات ينطح بعضها بعضاً، تمجد حتى التقديس، وتحز حتى العظم، وقد يكون القول ونقيضه صحيحين، فالكتّاب كالمصورين، يلتقطون صورهم من زوايا مختلفة، ومن أبعاد متباينة، يعجب الذواقين بهاؤها، فيما يشمئز منها آخرون. والقصر المشيد لا يخلو من صناديق النفايات. وليس هناك امتياز مطلق في أي عمل، فمن تملكته المحاسن شهد بما علم، ومن تعثر في الإخفاقات سلقها بلسانه، والراضي يحكي أحسن ما يعلم، والساخط يروي أسوأ ما يرى، فالحامد صادق في الأولى، والشانئ ليس كاذباً في الثانية. وهذا هو الصدق المتعدد الذي حمل الرسول صلى الله عليه وسلم على القول: (إن من البيان لسحرا). والعمل الاستثنائي كالشخصية الاستثنائية، تكون هوة الاختلاف حولها شاسعة، وتلك مؤشرات التميز والعبقرية. هذه التوطئة صدقة بين يدي نجواي، هدفها تهيئة النفوس، وتطييب الخواطر لما سنرصده من قول يتداوله الناس فيما بينهم عن (معرض الكتاب)، و(وزارة التعليم العالي) لم تقض نحبها بحيث نستجيب لذكر محاسن الأموات. إنها حية فاعلة وقادرة على مزيدٍ من المبادرات، ولكيلا نغمطها حقها نقول: إن هذا المعرض يعد استثنائياً بالنسبة لكافة ما سلف من المعارض، ففريق العمل الذي أنجز، وتابع، لم يركن إلى تسليع الكتاب وحسب، وإنما حاول جاهداً الاحتفاء به، وإيجاد هوامش تفوق المتن، فكان أن تحول المعرض إلى تظاهرة ثقافية، التطمت فيها الآراء، وتباينت التصورات. فالهدف الأساس للمعارض تجميع أكبر عددٍ ممكن من دور النشر العربية تحت سقف واحد، وتمكين المثقفين والباحثين من الحصول على مبتغاهم دون عناء، وبأسعار مغرية. ومثل هذه الاستجابة لا تبرح تسليع الكتاب، غير أن الوزارة ومن خلال جهود استثنائية سبقت ظلها - كما يقول - وأحدثت تغييرات وإضافات، أعطت المعرض قيمة حضارية، تمثلت باستضافة العلماء والمفكرين، وتنفيذ المحاضرات والندوات، وتكريم الأحياء والأموات من الرواد والمؤسسين. هذه المخاضات غير المألوفة كادت تخلط الأوراق، وتبدي أعناق الآراء المتناقضة إلى حد التناحر، وتكثر التساؤلات إلى حد الإحراج. ومن الناس من لا تعجبه الهوامش، حتى يبيح لنفسه إحالة مثل هذه المبادرات إلى شكليات لا تضيف شيئاً. وهذا البعض المتحفظ من الذين لم تصل إليهم هذه المبادرات، أو لم تصل إليها أيديهم، أو أنها لا تجمجم عما في نفوسهم. وقد يكون من وراد المعرض من لا يعنيهم مثل هذه اللمسات. فهم يودون توفير الجهد والوقت لذرع المعرض جيئةً وذهاباً، ومعرفة المستجد من المطبوعات والترجمات. وإذا كان هواي مع من يودون إطلاق أيديهم وأرجهلم في فجاجه، وتركهم ينقبون عما يشتهون، فإن الهوامش مجدية ومهمة ولا سيما أن الفعاليات ذات أنواع، تمثلت بالمحاضرات والندوات والأماسي وورش العمل وحفلات الافتتاح والتكريم، وأدت في النهاية إلى التعارف، وتجاذب أطراف الحديث التي تشغل حملة الهم الفكري والأدبي وصناعة الكتاب. والذين استقبلوا تلك المبادرة بالمباركة، وقف إلى جانبهم من تساءل عن التعددية، ومن طالب باستيعاب كل الأطياف. والمؤسف ما بدر من تنازع أفقد بعض الفعاليات ألقها. وأملي أن تمحص كل المواقف وكل الأطراف بحيادية تامة، لكيلا يتسع الخرق على الراقع، وأن يكفل حق التعبير لكل الأطياف، متى كانت في إطار المعقول والمباح الممكن، وألا يترك الحدث يمر بدون حسم، فما أسوأ أن يرمَّ الجرح على فساد، وإذا كان الاختلاف ممكناً فإن ضبط الإيقاع وحفظ التوازن أمكن. ولا شك أن هذه الهنات لم تعكر صفو النجاحات، ولا أحسب تلك التجهيزات المثيرة قد جاءت من فراغ، إنها مخاض جهد استثنائي جندت له فرق عمل، ووفرت له الإمكانات، ومهما استكثرنا ذلك فإنه أعطى الوافدين صورة مشرفة عن المؤسسات الثقافية في المملكة، ومكنت المثقف من التواصل مع أطياف الثقافة داخل الوطن وخارجه. وإذا كنا نتداول مفاهيم خاطئة عن حرفة الأدب وصناعة الكتاب، ونمعن في التزهيد والتخويف فإن (وزارة التعليم العالي) عمدت إلى تكسير هذه المسلمات، وأثبتت أن الأدباء والمفكرين ودور النشر من الممكن أن يكونوا على شيء من اليسار والرفاهية، بحيث تتمتع بزينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق. كل ذلك الإنفاق، وكل ذلك الترتيب، وكل ذلك الإخراج الرائع واللمسات الفنية المبهجة لا تحول دون استدعاء الملاحظات، والرصد الدقيق لما يتناجي به القوم في مجالسهم، فأحاديث المجالس مرايا مقعرة ينظر فيها الإنسان كل تجاعيده، ومن تهيبها وازور عنها، ظل كما هو. والتقاط المتداول من الأحاديث المادحة أو القادحة إنما لتكون حاضرة المنظمين للمعارض القادمة، وسوف لا نقتصر على الملاحظات، ولكننا سنخلط ذلك بشيءٍ من التطلعات. ومما هو مجال لغط يقترب شيئاً قليلاً من الفضولية تلك الشكليات في المواقع الدعائية، حيث استحوذت على مساحة واسعة. ولقد سمعت الدكتور عبدالله المعجل في (خميسية حمد الجاسر) يشكو من ضيق المكان. وتجلي الاستعراض الباذخ بشكلٍ لافت للنظر، قد يكون مقبولاً إذا لم يكن على حساب المهمة الأساسية، فالبعض يود أن يكون المعرض خالصاً للعرض والطلب، وأن يخلي بين المثقف والكتاب، فالمسألة في النهاية عرض وطلب، وإن كان ثمة جهد وإمكانات فإنه يجب صرفها لمزيد من الرقابة على البيع الجشع. فالغلاء الفاحش سمة ضاق بها ومنها رواد المعرض، ولقد شهدت ذلك، وسأضرب مثلاً بكتاب (الفسر) وهو شرح (ابن جني) لديوان (المتنبي) لقد اشتريته ب(250) ريالاً خارج المعرض، وهو في المعرض ب(350) ريالاً، وقس على ذلك، ولقد بدا تضارب الأسعار وتراجع المسوّقين أمام المساومات، وإني لخبير بذلك عن قرب ف (نادي القصيم الأدبي) خصص مائة ألف ريال للشراء، وهذا الجشع والتلاعب اضطرانا لإيقاف الشراء عند نصف المبلغ المخصص. والملاحظ أن المكتبات المحلية عرضت بضاعتها المتداولة خارج المعرض، ولم تسع للاستعداد للمعرض ببضاعة جديدة، والشاذ لا يكسر القاعدة. وإذا خرجنا من متن المعرض إلى هوامشه وجدنا الناس مجمعين على أهمية التكريم وإنسانيته، ولكنهم مختلفون أشد الاختلاف حول آلية اختيار المكرمين، ومن حقهم جميعاً أن يتساءلوا، وأن يلحوا في التساؤل عن المعيارية والضابط. فهل المعيار السن، أم الاستفاضة، أم الكثرة، أم الجودة؟ وهل للمناطقية والتنوع الفكري دور في ذلك؟ لقد استعرض المعنيون الأسماء، ولم يكن هناك خلاف حول أهلية المكرمين، ولكن الاختلاف حول الأولى بالتكريم، وحول الضوابط، وحول من لم يكرم، ممن هو حقيق في نظر البعض. أعرف جيداً أن المعايير والضوابط لا تكون فاعلة حتى تكون محددة وصارمة، وحين تكون كذلك، يكون لها ضحاياها، ولكن المسألة ليست حول من تقصيه اضطراراً. فإذا كان للمناطقية اعتبار فإن من في الحجاز أو في الرياض يفوق العدد المطلوب، وإذا كان لتنوع الأطياف الثقافية والفكرية اعتبار فإن عند كل طائفة ما يفوق المستطاع. نحن نعرف ذلك كله، ونقدر ذلك كله، ولكن الأمر مختلف جداً، وأرجو أن يعيد المعتمدون لقوائم التكريم ما قدم لهم، ليعرفوا أن فريق العمل المكلف للاختيار لم يكن مستحضراً الضوابط الدقيقة، ولا أشك أنه وقع في خطأ الاجتهاد المأجور. قلت - وسوف أكرر ما أقول - إن الذين كرموا أهلاً للتكريم، فهم أصدقاء وزملاء وأساتذة، وهم قبل ذلك مواطنون قضوا شطراً من حياتهم في خدمة الفكر والأدب، ولكن الأهلية غير الأفضلية، وشرعيتها لا تسقط حق الذين تقحمتهم العيون، وكل الذي أتمناه ألا يتصور البعض أنني أتطلع إلى شيء من ذلك، ومتى طبقت رؤيتي أصبح بيني وبين التكريم أمد بعيد. ويعلم الله أنني أشد حرصاً على إنصاف الآخرين والوفاء بحقوقهم، ولقد لقيت من التكريم فوق ما أستحق، فلله الشكر من قبل ومن بعد. والاستياء يكبر حين يسمع ذوو المتوفين أن ذويهم قد ظلموا دون قصد، أعرف جيداً أن من نُسي لم يتعمد أحد نسيانه، وإذا كان النسيان لا يؤاخذ به الناسي فإنه لا يشفي صدور المنسيين. ويقيني أن الذين كلفوا بالاختيار أو استؤنس برأيهم، ذكروا من يحضرهم، ولم تكن بين أيديهم معايير وضوابط تحقق العدالة المنشودة عند الجميع، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها. لقد صرف النظر عن مبدعين ومؤرخين وأساتذة جامعيين متقاعدين وعلماء أمدوا المعرض بمؤلفاتهم العلمية، وإذا كان في النية استمرار التكريم فإنه من الحتم المقضي تكوين مجموعة من المتخصصين الفاعلين في المشهد والمتابعين لتقبل قوائم الترشيح من سائر المؤسسات الثقافية كالأندية والجامعات، ومن أفراد لهم حضورهم الفاعل، ومن موسوعات راصدة، ومهمة اللجنة تقتصر على ممارسة عملية الترجيح، ولعل المسؤولين يأنسون بأسلوب مؤسستي: (المهرجان الوطني) و(الحوار الوطني) إذ تعتمدان في الترشيح والتكريم على مجموعة المشورة من مختلف الأطياف، ويعقب ذلك لجان اختيار وتحكيم. لقد توقعت أن يكرم لفيف من الأحياء والأموات، كنا ولما نزل نعدهم من الأخيار، وما كنا نتوقع أن تزيغ عنهم الأبصار. ونقطة خلاف أخرى فلقد خُص بالتكريم الأدباء من نقاد وشعراء وسرديين، و(معرض الكتاب) يتسع لشرائح أخرى، فأين العلماء؟ وأين الموسوعيون؟ وأين المؤرخون؟ وأين محققو التراث؟ وأين أساطين العلم البحت من أطباء ومهندسين؟ فما دامت الفعاليات على هامش معرض الكتاب فإن الكتاب ليس حكراً على الأدباء. ولقد ثار التساؤل نفسه قبل سنوات حين سنت الدولة سنة حسنة، تمثلت بجائزة الدولة التقديرية للأدباء، فكان تساؤل من سواهم من الفقهاء والمؤرخين، الأمر الذي أوقف تلك البادرة الإنسانية إلى حين وضع نظام وآلية. ومن همِّ التكريم إلى همِّ التسويق، ومن الإشكاليات المتداولة قضية الرقابة على الكتب، ومنع بعض الإبداعات السردية، وبعض الكتب الفكرية والسياسية والدينية، والناس في هذا الشأن أوزاع. فالذين لديهم نفس (ليبرالي) لا يرون مشروعية الرقابة من أساسها، والذين يعدون أنفسهم تنويريين، يطالبون بحصر الرقابة في أضيق نطاق، والذين يسمون أنفسهم بحراس الفضيلة يطالبون بتشديد الرقابة، ويرفضون الفوضوية، ويؤكدون على حق السلطات الثلاث: السياسية والدينية والاجتماعية. ولما كانت نقاط الاختلاف متباينة ومتعددة فإن المسؤول يظل في حيرة من أمره، ولعلنا نقتصر في الحديث على (مشروعية الرقابة) وحدودها، وحين نؤكد على مشروعيتها، ندخل في جدل القدر المشروع. وإذ تكون المشروعية صنو السلطة فإن الخلاف حولها مساس بحق السلطة، نحن نرى مشروعية السلطة، ونرفض التسلط، وحين تكون الرقابة من مقتضيات السلطة فإن ضبطها يقي من التسلط، ولتلافي الإفراط والتفريط لابد من وضع ضوابط متوازنة، وأن تفرق في الرقابة بين الاقتناء الشخصي والتسويق العام. على أننا نكاد نختلف حول مفهوم الحد المقبول، وهذا الاختلاف يصعد نبرة الجدل، ويعمق هوة الخلاف. لقد أحسست أن تداول هذه القضية جاء في غياب الفهم السليم لحق الرقابة. وإذا كان (الليبراليون) يباركون الرقابة على الأغذية والأسعار، وإذا كان الغذاء الفاسد يضر بالأجسام، وإذا كانت المغالاة في الأسعار تضر بالأموال، فإن الأفكار السليمة المستقيمة تتضرر بالعهر والتطرف والغلو، كما أنها تتضرر بالتسيب والتمييع وترك الحبل على الغارب. وحماية الأفكار أهم من حماية المعدات والجيوب، والكافة محكومون بالأوامر والنواهي، والمحظورات والمباحات، والفوضى غير الحرية، والسلطة غير التسلط، ولا يصلح الناس فوضى، والحضارة لا تتحقق إلا بالمكاره، كما الجنة ومحفوفها. ولما كان العمل مظنة الاختلاف فإن على الذين يتصورون أنهم حين يجودون بمبادرات استثنائية يكونون ملء السمع والبصر أن يعرفوا أن لكل عمل مهما كان تألقه تبعاته التي قد تثير أكثر من تساؤل، وكم من عمل خير يود صاحبه أنه لم يفعله. إنني مشفق على الطيبين الذين يراهنون على الكسب، ومشفق أكثر على الذين يظنون أنهم سيخرجون من الزفة لا لهم ولا عليهم. وكيف لا يتحقق أقل الكسب، وهم يفعلون ما يفعلون بصدق وإخلاص وتفانٍ، فما عملوه لوجه الوطن الذي بوأهم أسمى المناصب، وعليهم أن يتذكروا قوله تعالى:(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (2) سورة العنكبوت. لقد سمعت لغطاً كثيراً يذكيه متناحرون في الآراء، ومن حق الزملاء في وزارة التعليم العالي علينا ألا نكتمهم الحديث، وأن نصدقهم القول، فما حصل على هوامش المعرض يحتاج إلى تجميع وتقويم وتمحيص. ولا يجوز بحال إحالته إلى الشغب أو ضيق العطن، أو إلى النوايا السيئة، ذلك أن مجرد الإحالة تصعيد للخلاف، والمختلفون مواطنون، لهم رؤيتهم التي يجب أن تسمع بصدر رحب، وليس شرطاً أن تُقبل. وخارج إطار المسؤولية المحدودة نجد أننا أحوج ما نكون إلى (مدينة معارض) تكتمل فيها البنية التحتية، وتتوفر على كل المتطلبات، بحيث تتسع للمعروضات كافة من كتب وصناعات ثقيلة وخفيفة، ومن حولها مواقف للسيارات، وتشتمل على مطاعم ومساكن للوفود، ومستودعات، ومصارف، وقاعات محاضرات، وساحات عرض، ومسارح عروض، وإسعاف، ومطافئ، وأمن، وكمرات رصد، فالمواقع المؤقتة تؤذي المسؤول والمستفيد والمتسوق، وتحتاج في كل عام إلى جهد يضيع سدى بمجرد انتهاء المناسبة، وتلك مسؤولية رجل المهمات والمبادرات ومهندس الرياض (سلمان بن عبدالعزيز)، وأحسب أنه حان الوقت لتشكيل (هيئة للكتاب السعودي) تنهض بمهمات المعارض والترجمة وسائر متعلقات صناعة الكتاب، وليس هناك ما يمنع من تفعيل (جمعية الناشرين السعوديين)، وتشكيل هيئة مؤقتة من المؤسسات ذات الشأن الثقافي، حتى يتسنى إنشاء هيئة مستقلة لها نظامها ولوائحها، وأخشى أن ينطبق علينا المثل الغربي: - (لا يدوم إلا المؤقت). |
حمزة شحاتة.. حياته من شعره
بقلم : د. حسن بن فهد الهويمل لكل ناقد مناطه في عوالم المبدعين. ومناهج النقد وآلياته لا يقر لها قرار، فهي في تحول مستمر، إلا أن طائفة من المتلقفين لا يحسنون استثمارها، ومن ثم فإنها مع كثيرٍ منهم لا تشكل ظاهرة حميدة، وتنقل مركزية الاهتمام بين النص والمؤلف والمتلقي، شتت شمل النقاد، وإن أثرت المشهد. ولعل أقرب المحطات إلى نفسي محطة النص بوصفه لغة، ولكنه ميل لم يكن على حساب منطويات النص الأخرى، كالبعد الفني، والبعد الدلالي. وحين عزمت على خوض عوالم الشاعر (حمزة شحاتة 1328 - 1390هـ، 1910 - 1970م) تنازعتني عدة رغبات تقتسمها: عوالم النقد وعوالم الشاعر. فأي الزوايا التقط؟ وأي المناهج اعتمد؟ وإذ يشاركني الحديث عدد من النقاد فإن هاجس الفرادة يمثل الشغل الشاغل على المستويين: الموضوعي والنقدي. وحين أختار التماس حياة الشاعر من شعره، يتبادر إلى الذهن كتاب (ابن الرومي حياته من شعره) للعقاد، وهو ناقد اعتمد المنهج النفسي في كثيرٍ من دراساته للشخصيات، وقد يمتد التذكر إلى كتبٍ أخرى ومقدمات ودراسات خصت الشاعر وشعره، وأطوار حياته: الخاصة والعامة، كعبدالله عبد الجبار وأبي مدين والغذامي وعزيز ضياء وبكري الشيخ أمين وصالح سعيد الزهراني وعاصم حمدان وآخرين. ومن ثم لا يكون قولي في الشاعر وشعره إلا معاراً أو معاداً. ولقد تذكرت ما ادعاه (طه حسين) حين كتب عن (المتنبي)، من أنه فرغ لشعر المتنبي، ولم يلتفت إلى ما كُتب عنه، مع كثرته وتشعبه، ولكنه حين شاع الكتاب بين أيدي الناس، ادعى العلامة (محمود محمد شاكر) وهو من هو في مصداقيته وصراحته وسعة اطلاعه على التراث أن (طه حسين) سطا على جهده، وسرق أفكاره، وعول على النتائج التي توصل إليها. والمستفيض على ألسنة الباحثين أن مشكلة (المتنبي) تكمن في نسبه، ولقد أطال الباحثان التنقيب في هذه المعضلة المستعصية، وأبديا براعة منقطعة النظير، وتوصلا إلى نتيجة في منتهى التناقض. والمتحدثون عن (حمزة شحاتة) لن يشغلهم نسبه بقدر ما تشغلهم أطوار حياته الغربية، وهجرته المغاضبة. وحديثي (عن حمزة شحاتة) من خلال شعره لن يعول على ما سلف، فالذين تناولوه سمو به فوق هام السحب، وقصروا رؤيتهم على ما يتمتع به من مثاليات، وغضوا الطرف عن بعض ما وقع فيه من تجاوزات، طالت ذاته، وطالت من حوله. لقد أطلق عليه بعض الدارسين (الأنموذج)، ولأنه كذلك حسب تصوره، فقد كثرت إخفاقاته في فهم الحياة، ولم يوفق في مصاحبته للأحياء. وحرصاً مني على اتخاذ منهج مغاير فإنني قد أستعين ببعض آليات ما قد سلف، ولكنني لن انتهي إلى ما انتهوا إليه. والشاعر لم يحتفِ بشعره، ولم يعبأ بحفظه فضلاً عن أنه يتكلف عناء جمعه، والضائع منه ضعف ما أخرجه المتطوعون للناس، ولم يكن ك(شوقي) الذي انتقى الشوقيات ثم تعقبه من أخرج (الشوقيات المجهولة)، وهذا النزر اليسير لن يعطي الصورة الحقيقية عن حياته التي نلتمس. وإذ لم يكن من شعراء الواحدة فإنه لم يكن من المكثرين، وإن تبذل في بعض قصائده، وشعره المجموع لا ينهض بمهمة إبراز حياته، وأمام كل المثبطات فلن انثني عما عزمت عليه. والشعر فيما أرى لا يكون شعراً إلا إذا توفر على أربعة مكونات تتمثل ب: - الموهبة - والثقافة - والموقف - والأجواء فالشاعر لا يكون شاعراً إلا إذا كان موهوباً، وهو حين يكون كذلك لا يقول إلا ما هو شعر متفق عليه. والشاعر لا يثري نصه ما لم يكن مثقفاً ثقافة تأصيلية، تتسم بالعمق والشمول والتعددية، وقد ينعكس الأثر المعرفي على الشعرية، فيعيق لغة الفن، كما حصل عند (المعري). والموهبة لا تجود بما يمتع ويفيد حتى تستدرها المواقف، وسيان في ذلك موقف الفرح أو الترح، الرغبة أو الرهبة. والشاعر لا ينطلق على سجيته حتى يأمن على نفسه وعلى سمعته، ولا يأمن إلا حين تتوفر الأجواء الملائمة، وتخف من حوله حدة المراقبة. وشاعرنا ألّم بتلك العناصر كغيرة من الشعراء، وإلمام أي شاعر بتلك العناصر يؤكد المصداقية، ويجعل الشعر جزءاً من حياة الشاعر. ولقد تكون وجدانيات الشاعر أقدر على كشف حياته ومعاناته، أما شعر الغزل فهو يراوح بين الفعل والافتعال والانفعال، ومن الصعوبة بمكان القطع بالمصداقية. ومن الشعراء من يفترض وجود المعوقات فيحتبس شعره أو يتعثر، وقد يبلغ به الارتياب ذروته، فيأتي شعره إدانة لواقع غير مدانٍ، نجد ذلك عند (المعري) في القديم، وعند (الفقي) في العصر الحديث، كما نجد أطرافاً منه عند شاعرنا، وقد يكون ذلك بعض ما عول عليه بعض الدارسين له. وعلى الرغم من أن الشاعر قد توفر على تلك العناصر، فإن لم يفرغ للشعر، ولما فرغ له بعض الوقت لم يحفل به، وإنما عده لحظة تأمل أو تحسر، وهو في التأمل والتحسر يسجل موقفه من الحياة، ويرصد مرحلة من مراحلها. وإذ لم يعتزل الناس، فقد جعل إلمامه بهم حالة من السخرية. فهو الشاعر الساخر الهجاء حين يختلط بالناس، وهو المتأمل المثالي حين يعتزلهم، وشعر التصور والتأمل حفز بعض الدارسين إلى التماس فلسفة الجمال عنده، ورؤيته الجمالية جزء من حياته، فالنظرة الفلسفية تحوّل الشاعر إلى مسيّر غير مخيّر في رؤيته للحياة والأحياء. ولو تلمسنا موقع الشاعر (حمزة شحاتة) من خلال تلك المكونات الأربعة لوجدناها تلم به تارة، ويتخلف بعضها عنه تارة أخرى، وهذا التفاوت انعكس على شعره. ورديء الشعراء الكبار ك (المتنبي) مثلاً مرده إلى تخلف بعض تلك العناصر أو ضعفها. وليس بناقدٍ من يطلق كلمات الثناء دون استثناء، ومن يجعل من نفسه محامياً يذب عن الشاعر، ويترقى به صعداً إلى مدارج الكمال. وإشكالية المشاهد النقدية أنها محكومة بالرضا المطلق أو بالسخط المعمق، وكأن مصير الناقد مرتبط بمصير المدروس تألقاً أو إخفاقاً، وهذا ما أعانيه في كثيرٍ من الرسائل العلمية التي أتيحت لي مناقشتها. وتعاملي مع شعر (شحاتة) لم يضطرني إلى افتعال القول، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن رديء شعره قد يرقى إلى جيد غيره، فهو شاعر أمكن، ولكن الإمكانات لا تحول دون الوقوع في هنات ينفذ من خلالها النقاد. وحين عقدت العزم على التماس حياته من شعره، لم أشأ استكمال ظروف تلك الحياة ومراحلها، فالشاعر له حياته التي فرضتها حالته النفسية الناتجة من ظروف حياته الاجتماعية والعملية، وما تصوره من تفريط به، وكأنه الشاعر الذي قال عن قومه: (أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا). والإحباط الذي يعاني منه مرده إلى تصوره للأشياء وموقفه منها، ويكفي دليلاً على اضطراب حياته إخفاقه المتواصل في حياته الزوجية، وهجرته المغاضبة. فالمتشائمون والمتفائلون هم الذين يقرؤون الوقائع والأحوال وفق رؤيتهم. بحيث يكون الحدث الواحد والظرف الواحد له معطيات مختلفة. فالماء الجاري يصطبغ بتربة المجرى، ليكون ملحاً أجاجاً، أوعذباً فراتاً. ولهذا ليس من الإنصاف أن نتصور الحياة كما يتصورها البعض من الشعراء الحادي المزاج، ولا أن نتخذ الشعر وحده مرجعية مطلقة لتجسيد الواقع، ولكن الربط بين الشعر والوقوعات الثابته يعزز بعضها بعضاً. فالشاعر حين يمسه الفقر أو المرض، أو حين يرتطم بنتوءات السبيل، يتصور أن تلك سمة الحياة مع غيره، وليس هذا التحفظ مقصياً لدلالة النص الشعري، ولكنه ضابط للتعامل معه. وقراءة شعره تعطينا مؤشرات ذاتية، بمعنى أنه يمثل رؤية الشاعر لمحيطه، بصرف النظر عن سائر الرؤى الأخرى. ودراسة الأستاذ (عبدالله عبد الجبار) المبكرة أعطت مؤشرات إلى واقعيته، والواقعية مذهب اضطربت حوله المفاهيم، فهناك الواقعية الاجتماعية والاشتراكية والفنية, ويبدو لي أن واقعية الشاعر أميل إلى الاجتماعية، وإن عرف عنه الشموخ والتعالي والنزعة (الارستقراطية) ولأن حياة الشاعر تعتمد المزاجية فإن مستويات الحالة النفسية تتفاوت من قصيدة لأخرى، وهذا التقلب المزاجي لم يؤثر في سائر الوحدات الفنية: موضوعياً ولغوياً ونفسياً. فالحوافز النفسية قد تؤدي إلى فك المسحة المهيمنة. ولو ضربنا الأمثال ببعض الشعراء الذين طغت حالاتهم النفسية على شعرهم أمثال (أبي العتاهية) و (المتنبي) و(المعري) لوجدنا أن هناك فترات خلصوا فيها من السمة النفسية. وفي العصر الحديث نستطيع أن نضرب المثل بالشاعر السعودي المكثر (محمد حسن فقي)، ومع إغراقه في التشاؤم والإباء والثورة النفسية، إلا أنه في بعض الحالات، يند بشعره عما هو شائع من سمات دلالية ذات طابع نفسي. وعندما نجاوز الإطلاقات، ونعمد إلى الشواهد من شعره، نجد أن لكل قصيدة حوافزها النفسية، وضغوطها الاجتماعية، وأجواءها المحفزة. والذين يودون التماس حياته لا بد أن تعدو أعينهم إلى إسهاماته السردية، وبخاصة كتابه (الرجولة عماد الخلق الفاضل) و(رفات عقل) و(إلى ابنتي شيرين) و(حمار حمزة شحاتة) إذ تمثل جماع رؤيته، إضافة إلى ممارسته التطوعية في مطلع شبابه، ويقيني أن تفكيك قصيدة من مطولاته ينبئ عن رؤاه وتصوراته. ولعلنا نشير هنا إلى قصيدة (تأملات) التي جاءت على شكل أشواط دلالية، تفيض بالتساؤل والتعجب والحكمة. والقصيدة مؤشر على اضطراب نفسي، واستياء من التقلبات، فهو يتطلع إلى المصرّحين بعد الصمت، ويعجب من ذوي العدل الظنيين به عندما اقتضاه المستضام، ومن المتّقين الذين لا يدفعون بالحجة في لجة الشك، ومن تساؤل الحكيم الاستنكاري عن الغرام والحسن، ومن عبودية المال والجاه والهوى. وكأنه يستوحي حديث (تعس عبد الدرهم...) إذ يقول: (فماتت دواعي الكبر فينا... فما نحن؟) هذا الحشد من التساؤلات التقريعية توحي بالضيق والشك والرفض واحتدام المشاعر. فهل تلك السمات سائدة في شعره, أم هي عرض زائل؟ لا أشك أن الشاعر مر بحالات من الانكسارات التي أحس أنه ضالع فيها، ومن ثم نجده يلوم نفسه، ولكنه لا يصل إلى جلد الذات. والتساؤل المشروع أن نستبين ما إذا كان ذا خليقة تخفى، حتى لا تعلم إلا من خلال شعره. الحق أن شعره نفثات مصدور، أرهقه واقعه. لقد كانت له طموحات ترفس تحت وطأة الواقع غير المواتي، فكل قصيدة تنم عن معاناة نفسية, وقصيدة (تأملات) من أوضح الشواهد على اضطرابه النفسي، ولأنه يعتمد التفصيل، ولا يكتفي باللمحة، فقد اتكأ على (قافية النون)، وهي من قوافي المطولات، ومع أن القصيدة ذات أشواط عشرة، إلا أنه لم يعمد إلى تحويلها لرباعيات أو سداسيات على شاكلة الشاعر (الفقي) الذي اشتهر بذلك. والذين جمعوا شعره نظروا في ظواهر القصائد ومطالعها، وظنوا أنهم قادرون على تحديد المعاني في (الوجدانيات) و(الغزل) و(الملاحم) و(المنوعات)، وهذا التقسيم مع سذاجته يوحي بعدم استكناه الوحدة الموضوعية التي تكاد تنظم الديوان كله، وهو الهم الذاتي، أو الذاتية المسكونة بالكبرياء والألم والإحباط. وفوق ذلك فإن الشاعر عميق الثقافة، متعدد الاهتمامات القرائية، ولا شك أن الخلفية الثقافية لها انعكاساتها على التصورات، وهذا مؤشر دلالي، قد يند بالناقد، ويحول دون تحديد ملامح حياته. |
حمزة شحاتة .. حياته من شعره 2-2
د . حسن بن فهد الهويمل والشاعر المسكون بهموم ومفاهيم ومواقف يكتب سيرته ويدوّن معاناته: تصريحاً أو تلميحاً، ولا يقول الشعر لمجرَّد الكسب، إنّه نفثة مصدور. وهذا يذكِّرني بمقولة (طه حسين) عن الشاعر (عمر بن أبي ربيعة) الذي فرغ لقلبه، ولم يفرغ لكيسه، وهكذا الشاعر (شحاتة) شغلته همومه عن رغباته. وأخوَف ما أخاف أن يكون الشاعر من أولئك الذي يسقطون إخفاقاتهم على الآخرين، فالذين يتحدثون عن سيرته الشعرية، يجتهدون في المواءمة بينها وبين معاناته، وإذا كان البعض يراها بوادر إخفاقات فإنّ آخرين يرونها ممارسة تطهيرية، والحكم الفصل بين الفئتين مدى احتمال الوثائق النّصية لمثل هذه الرؤى المتباينة إذ إنّ نظريّة التأويل قادرة على احتمال القول التبريري. وإذ تشاع عنه الأنفة وحب الفوقية نجده في مقطوعته الشعرية (ليت العقول سواء) يقول:- (وفيم؟ وينبوع الخليقة واحدٌ تمايزت الأضداد والنظراء) وهذا مؤشر ارتباك، ربما كان من الأسباب الرئيسة في حمله على إهمال شعره، وكأنّه إن أمسكه أمسكه على هون، على أنّ هناك ملامح فنية، تشي بواقعية متعدِّدة وصفها البعض بالقصائد الهازلة، غير أنّها تؤكِّد نزعة السخرية عنده، وهي نزعة قد تكون مؤشر انهزام أمام تحدي الواقع، على حدِّ المثل الشعبي (المأخوذ يضحك)، فالإحباط يحمل على السخرية، والشاعر عاش هذه المعاناة بكلِّ وضوح. وسوف لا أنزلق في مقولة إنتاج النص في مقابل استهلاكه، ذلك أنّ القول الإبداعي في النهاية رسالة، وليس مجرَّد إثارة لإنتاج دلالة غائبة، ونحن مع الخفاء، ولكن الشاعر في النهاية يتوسّل بالتجلِّي لإبلاغ رسالته، ولا يجوز أن نغيبه على حساب حضورنا، بوصفنا منتجين على سنن التفكيكيين. نعم هناك لغة، وهناك خطاب، فاللغة تجريئية التصوُّر، والخطاب شمولي. والدارسون المتعقِّبون لطائفة من الشعراء هالتهم المسافات السحيقة بين شعرهم وما حوَته الموسوعات الأدبية من أخبارهم، حتى لقد وقع الكثير منهم في الوهم حين التمس الحياة من الشعر. فهل (البحتري) في أخلاقه ومظهره متناغم مع شعره الغنائي الجميل؟ وهل (أبو العتاهية) زاهد بالحياة زهد شعره بها؟ وهل (ابن أبي ربيعة) ماجن كما مجُن شعره، وهو الذي أقسم ما حلّ إزاره على حرام؟ ولك أن تدع الأسئلة تتلاحق عن كلِّ شاعر. وفي النهاية تجد أنّ الشعر قد يمثل الهروب من لذعات الواقع، ولقد مررت بدراسة عن (ظاهرة الهروب في شعر طاهر زمخشري) - رحمه الله -، ولست أدري ما إذا كان هروبه هروباً يماثل هروب (حمزة شحاتة). وحين تسقط العلاقة بين الشاعر وشعره بعامل النّقد أو بعامل العدول والتأويل اللغوي والنظرة إلى الخطاب بكلِّ شموليته، نسأل أنفسنا: كيف نفكك البنية الموضوعية للبحث عن ملامح حياة الشاعر؟ لقد جاء في الأثر عن شعر (أمية ابن أبي الصلت) إيمان لسانه وكفر قلبه، ومعنى هذا أنّ اختلاف الشاعر مع شعره قضية مسلّمة، وقد لا يكون الاختلاف بهذا الحجم، ولكن المثيرات والمواقف تشعل العواطف، وتحملها على الاحتدام والعنف، فإذا زالت المثيرات، هدأت العواطف، وعاد الشاعر إلى وضعه الطبيعي، الأمر الذي يحمل الدارس على تصوُّر التناقض في حيوات الشاعر، وما هو كذلك، ولكن الظروف قد تحمل المبدع على مفارقة سجاياه، وإبداع القصيدة في ظل ظروف عارضة، أنست الشاعر ما هو عليه من أخلاقيات. ومع كلِّ هذه الاحتمالات المثبطة لعزماتنا، تظلُّ الخليقة غير التخلُّق، والطَّبع يغلب التطبُّع، فالشاعر قد يفارق طبعه في سورة الغضب، وحين تعود المياه إلى مجاريها، لا يقدر على استرجاع ما أبداه في شعره على حد:- (قد قيل ما قيل). وكلُّ هذه التحفُّظات لن تفت في عضدنا، ولن تؤثِّر على ما عقدنا العزم عليه. وكيف نتردّد والحكيم يقول لجليسه:- (تكلم حتى أراك) وكم من متحدِّث ملغز تعرفه من لحن القول لا من منطوقه. والمتعقِّب لطائفة من الشعراء يجد أنّ هناك سمات وخصائص وأخلاقيات لا تفارقهم، فالشاعر (محمد حسن فقي) لا يستطيع أن يتخلّص من التشاؤم والرفض والضجر، وإن ألمّت به ظروف سعيدة، ولقد أشرت إلى الفجوة بين حياته السوية وشعره الضجر. والذين يدرسون حياة الشاعر من شعره لا يجدون صعوبة في التماس شيء من ملامحها، ولو عن طريق قلب المعادلة، والمغايرة قد لا تفسد للمقاربة قضية. وأحسب أنّ الشاعر (حمزة شحاتة) ليس ببعيد عن (الفقي)، فإذا كان (الفقي) متشائماً فإنّ (شحاتة) ممتلئ أنفة وكبرياء وإباء. والشاعران يلتقيان في صفات نفسية، ويفترقان في أمور كثيرة. والتماس حياة (شحاتة) لا تكون عن طريق الاستئناس بمن كتب عنه في ظل الاندهاش بالمثاليات والفنيات واللغويات المتألّقة، وأحسب أنّ القول بوعيه وتعمُّده لمآلات حياته قول ينقصه الإثبات، ويعوزه الدليل، فالشاعر مارس حياته بوعي، ولكن خصائصه النفسية لم تدع فسحة لتقبل المناقض، الأمر الذي آل به إلى انكسارات متلاحقة أدت إلى إخفافه في الحياة الزوجية وهروبه من المشهد، وليس يعيبه ذلك. وإذا كانت قصائده الغزلية ليس فيها رمز ولا قناع فإنّ للشاعر حياة مزدوجة، فشعر الغزل لا يمثِّل الوصف والحس، وإنّما هو تجسيد لحالة نفسية تغذِّيها المواقف، ولا يثيرها الجنس. والشاعر كان في مطلع شبابه على صلة وثيقة بالشاعر (محمد حسن عواد) ولما تقطّعت بينهما الأسباب، وصل العواد حباله بالتجديد المتطرّف، والحضور الفاعل، والثبات أمام الأعاصير، فيما حاول (شحاتة) حفظ التوازن بين التراث والمعاصرة، ولكنه لم يثبت أمام تحدِّي الأوضاع. ولقد تميَّز شحاتة عن العواد بالوضوح والموضوعية وصفاء الإيقاع ونصاعة اللغة، وامتاز العواد بالثراء المعرفي والحضور الفاعل. والشعر على الرغم من كلِّ الاحتمالات له مؤشرات، لا يخيب معها الظن، فالشاعر (حمزة شحاتة) ومن خلال شعره حادّ المزاج، سليط اللسان، يتقن فن الهجاء المقذع، والسخرية المرة، ولولا ما ينطوي عليه من أنفة وإباء وترفُّع لكان الشاعر الهجاء الذي يفوق المتقدِّمين والمتأخرين. وتتجلّى قدرته المفحمة في ملحمته الكبرى التي خاض فيها معركة الملاسنة الممتعة في بداياتها المسفة في نهاياتها. لقد أثارت تلك المعارك الشعرية اشمئزاز المتابعين، ولكنها خلّفت لنا شعراً قوي العارضة، لم نظفر إلاّ بالقليل منه، ولا شك أنّ مثل هذا الشعر يكشف عن سجايا الشاعر وعجزه عن كظم الغيظ، ولقد وصفها جامعو الديوان بأنّها مناظرة شعرية، ولا أحسبها كذلك، فالشاعران (شحاتة) و(العواد) يمارسان السخرية الشخصية، ويقتربان من النقائض، ولكنهما يقعان في الهجاء المقذع والسباب المسف، والمناظرات أقرب إلى تحرير مسائل النظرية المختلف حولها، ولقد جاءت قضية الشعر عرضاً. والمتقصِّي لخطوات هذه النقائض يجد أنّها بدأت في وقت مبكر، وانحسمت في عام واحد، ولسنا معنيين في صدقية ما قيل. فالشاعران على جانب كبير من الخلق والاستقامة والمكانة في نفوس المخالطين لهما، ولكننا نلتمس إمكانيات الشاعر، ودوافعه النفسية، وعنفه في مواجهة الخصوم. والشاعر من خلال رفضه وإبائه وعنف مواجهته يبدو شديد الحساسية والشك، وتلك الخلائق لها تأثيرها الأقوى في مسيرة حياته، وبخاصة في علاقته مع المرأة. والشاعر الذي عصفت به الأحداث، وقست عليه الظروف، وفارق الديار مهاجراً إلى مصر وكف بصره، وكاد يكون رهين المحبسين ترك شعره مع ما ترك، فلم يكن في متناول الكافة، وإنّما كان أوزاعاً في لفائف الأصدقاء، وشعر لا يكون حاضر المشاهد، تغفل عنه الأقلام، حتى لا يكون معروفاً. والمتأمّل فيما وجد من شعره وجمع، يكتشف شاعراً موهوباً، ثري المعاني، قوي الأسر، عميق اللغة، يرتبط شعره بحياته أشد الارتباط. ولقد تبدى جانب من أخلاقياته في احتجاجه واعتذاره عبر قصيدة (مناجاة) ص61، فالشاعر يسلك فيها سبلاً يبدي فيها خطابه، والقصيدة اعتذارية من أجمل ما قيل في الاعتذار، واستعاطفية من أروع ما قيل في الاستعطاف، وتبريرية من أقوى ما قيل في التبرير، ودعائية تسترق القلوب. يقول وهو يخاطب صاحبه الذي رمز إليه بالجواد السابق المحجل:- (لا تشك الأحداث والغضب العارض عني والشك والتأويل هنة جسَّم الخيال معانيها ضلالاً وضاعف التهويل قد تعجلتها بالهجر وما ضاقت بها بعد عذرها والدليل) وهو في هذه القصيدة يعتمد التدوير والتضمين، وذلك مؤشر صدق المشاعر، فالتماسك في القصيدة لا يتهيأ إلاّ لمن يعاني من الموقف، فالوحدة العضوية التي يتحفّظ عليها بعض الأقدمين تُعد ميزة شكلية ودلالية. والشاعر حين يقول بصدق، لا يتلعثم، ولا يتردّد، ولا يفكر فيما يقول، ولهذا أشار جامع الديوان إلى بعض الهنات العروضية التي تدل على العفوية والمباشرة. وعلى الرغم من كلِّ الانكسارات والتوسُّلات تشمخ الأنفة، ويستشري الإباء، فكلُّ ما سبق ختمه بقوله:- ( لا طوينا على الهوان نفوساً لحبيب ولو برانا النحول) وإشكالية المثاليات أنّها حين تمر بمشاهد الواقع لا تكاد تنجو من وضرها، فلو قرأنا (شحاتة) في شعره، وفي نثره، لوجدناه يرصد قمة المثالية، ولكننا حين ننظر إلى مواقفه في مواجهة الواقع نجد إنساناً آخر في عنفه وقسوته وارتباكه وإخفاقاته، وليس أدل على ذلك من خلافه مع صديق طفولته وشبابه وندِّه (محمد حسن عواد)، وزواجه لثلاث نساء وطلاقهن وهجره للحياة واعتزاله للأحياء، وكل الذين يحبون (شحاتة) - وأنا منهم - يقفزون هذه الأحداث، لأنّهم لا يستطيعون تبريرها، غير أنِّي سأقف عندها مكرهاً امتثالاً لقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ }. وإذا اضطروا إلى ذكر خلافه مع (العواد) أدانوا كلَّ أطرافه، وهي إدانة لا تمضي بهم إلى تلمُّس الأسباب والنتائج، فهل كان (حمزة شحاتة) هازلاً تجاوز حد المباح، أم أنّه ضيِّق العطن، لا يتسع صدره لأكثر من قول؟، الشيء المؤكَّد أنّ (شحاتة) على جانب من الخلق الرفيع، ولكن الضغوط النفسية والاجتماعية تخرج به عن حده، وقد تفقده صوابه، وفوق ذلك فهو يعشق القيم، ولكن الضغوط النفسية تقعد به عن اللحاق بها في ساعة الضيق والبرم. أحسب أنني مضطر إلى التنبيه دون المحاكمة والحكم، وعلى الذين لا يجدون حرجاً من النّبش في مثل ذلك أن يتلبثوا فيها كثيراً. وفي النهاية كيف نتصوّر هذه الحياة بعد أن عبرنا إليها من خلال وثائقه الشعرية، وحالته الاجتماعية والنفسية الماثلة للعيان. لقد سبقني إلى ذلك دارسون ونقاد، استحضر بعضهم هذه الرغبة، واكتفى بعضهم بالوقوف على فنيات الشعر ومبلغه من الفن. وكلُّ من أوغل في البنية الموضوعية، ألم بشيء من ملامح حياته شاء أم أبى، ولكنه إلماح عارض، ولهذا فإنّ حياة الشاعر في النهاية تكمن في شعره، وقد لا نكون قادرين على تجليتها بالقدر الكافي، وهي حياة حافلة بالمنغصات والتحدِّيات والإحباطات. |
وبالموت تحيا المآثر
د. حسن بن فهد الهويمل بين صرخة الوضع وأنَّة النزع تقع حيوات فارغة، وأخرى مليئة، وكم من مفارق لا يترك فراقه فراغاً، ولا يثير حزناً، وكم من ميِّت تتعثر بموته منجزات تنفع الناس، والتراث العربي مليء بالتفجع والتأبين والمآثر التي يتركها الكبراء في أي موقع تعد عمراً جديداً يستأنف الحضور بعد مفارقة الروح للجسد. وإذ يكون الموت يقيناً لا مفر منه فإنه في الوقت ذاته فاصلاً بين حياتين حياة الوجود الشخصي وحياة الذكر الجميل والعمل الباقي، وإذا انقطع الميت من كل شيء فإنه يظل حاضراً في ثلاثة أشياء، وما من ميت إلا يود ذووه ومحبوه أن يكون له من الثلاثة أحسنها، فهناك الصدقة الجارية، وهناك العلم الذي ينتفع به، وهناك الولد الصالح الذي يدعو له، وحين يظفر المحبون بشيء من ذلك يهون مصابهم، وتقتصر المفارقة على الجسد الترابي الفاني. والمربي القدير الشيخ عثمان الصالح الذي سبقنا إلى دار البقاء له النصيب الأوفى من هذه الثلاثة، فحين فارقنا بعد عمر مديد حافل بجلائل الأعمال أبقى فينا مآثر جليلة، فهو قد قضى عمره في التربية والتعليم، وخرَّج أجيالاً تملأ الرحب، فكم من مسؤول يتسنم أعلى المناصب يدين له بالفضل، وهو قد ترك منتداه الذي أجزم أن عقبه ومحبيه عازمون على مواصلة ما انقطع، وهو ذو إسهامات وشفاعات وسعي دؤوب في حاجات الناس يعرفها المخالطون له، وله أبناء نعدهم من الصالحين، ولا نزكي على الله أحداً، وله قبل هذا وبعده محبون يعرفون فضله ويقدرون مكانته ولا أحسبهم الا متقلين للراية من بعده لمواصلة ما انقطع بموته، ولقد سبقه إلى دار البقاء علامة الجزيرة (حمد الجاسر)- رحمه الله- فكان أن نهض بالمهمات الجسام من بعده تلامذته ومحبوه يقدمهم صاحب المبادرات الإنسانية الأمير سلمان بن عبد العزيز، وما نرجوه أن يتمخض التفجع والتأبين عن مؤسسة تجمع شتيت أعمال الفقيد، وتواصل مسيرة العطاء الذي بدأه في وقت مبكر، وليس ذلك بعزيز على همة الرجال الأوفياء في ساعات الشدة. وكم كنت على صلة وثيقة به وبمنتداه وكانت (الاثنينية) مجالاً لصولات وجولات الأدباء والمفكرين وكبار المسؤولين من أمراء ووزراء، وأحسب أنها ستظل كما تركها ملتقى للنخبة من أبناء البلاد الذين يدينون له بالفضل. فما مات من خلف وبموته سينهض أبناؤه وطلابه وأحباؤه للمحافظة على ما ترك وسد ما فرغ ومواصلة أعماله، وحيئنذ يظل حاضراً في الذاكرة، وفي الواقع وتكون المفارقة في الجسد لا في الأثر. رحم الله المربي القدير وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان. |
الدامغ في يوم تكريمه
د. حسن بن فهد الهويمل كان بودِّي أن أكون معكم لأفوز بلقاء يعزُّ عليَّ فواتُه، وما كنت لأفرِّط في احتفائية كأنها لي لولا ظروف سبقت. وكلمتي تلك ليست اعتذارية وحسب، إنها مشاطرة محب فوَّت على نفسه أكثر من فرصة، وحين حبَّب إليَّ القائمون على هذا المركز الثقافي المشاركة العملية في تكريم الشاعر القدير والصديق العزيز إبراهيم بن محمد الدامغ، والاشتراك مع أخوين عزيزين: زميل اليوم وتلميذ الأمس الدكتور إبراهيم المطوع، والصديق والشاعر الرقيق الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السماعيل؛ أقول حين حبَّبوا إليَّ المشاركة على أي شكل أحسستُ أنني مقصِّر في حق المركز والشاعر؛ إذ هما أصحاب الفضل، ولي كل الشرف أن يكون لي ولو مفحص قطاة في هذا الاحتفاء بشاعر نعزُّه ونسعد بالحديث عنه. لقد عرفتُ الشاعر الدامغ في مطلع حياتي الأدبية، وأعجبني في شعره روحه الحماسية، وصفاؤه الموسيقي، وصدق مواقفه. وكنت ولما أزل أذكر الأماسي العذاب التي كان يحييها الشاعر أو يشترك فيها، ولما أزل أذكر الاستقبال الرائع لروائعه. لقد كان الدامغ ملء السمع والبصر يوم أن كان حاضر المشاهد كلها، ولكن اختار الاعتزال، وصرفته صوارف الحياة عن الشعر والمحافل، فما كنا نلقاه في صحيفة ولا نشهده في منتدى، وإن تكرَّم وأخرج لنا بعض شعره على استحياء، وتلك سنن المثاليين الذين لا يرضون عن أنفسهم ولا عن مجتمعهم، وإن كانت مشاهد الأدب والثقافة قد شُغلت بغيره فإن ذلك من فعله بنفسه؛ إذ لم يكن هامشياً فهو شاعر متمكن ومثير ومطرب، وله إضافات في عالم الشعر، ولقد كان يوم أن اختار الحضور ملء السمع والبصر، ولكن حين انطوى على نفسه وانسلَّ من المشهد راغباً شُغل المشهد بمن هم دونه، وتلك سنة الحياة. لقد عرفتُ الشاعر قبل أن أدخل عوالمه الشعرية فكان مثار إعجابي، وعرفته أكثر حين أعددتُ رسالتي للماجستير (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد) وعرفت اتجاهاته الموضوعية، ثم زادت معرفتي به حين أعددت رسالتي للدكتوراه (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر)؛ فهو عربي فاقع اللون، وإسلامي ناصع الإسلامية، وشاعر جهوري الصوت، صاخب الموسيقى، يؤدي رسالته بكل وضوح ولما يزل حاضراً بين يديَّ مع عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تتاح لي فرصة مناقشتها، وبخاصة التي تتناول الأدب العربي في المملكة. الشاعر الدامغ أكاد أصفه بالخضرمة؛ فهو بقية الجيل الثاني وبعض الجيل الثالث الذي يبدو حراكه الشعري المؤدلج والمسيَّس. وإذا قلتُ بأنه بقية الجيل الثاني فإنما أعني جيل الستينيات الذين فتحوا عيونهم على المد الثوري والخطاب القومي والحماس العربي. والمتابع لشعره يرى فيه الرصد الدقيق للمرحلة إذ ذاك، وهو لا يختلف كثيراً عن جيله المتوقد حماساً الذين درسهم وترجم لهم الأستاذ عبد الله بن إدريس في كتابه (شعراء نجد المعاصرون). وكلمة كهذه لا يمكن أن تأخذ بأسباب التحليل والتوصيف والنقد وإن كنت حريصاً على ألا أقول إلا ما يفيد المتلقي؛ فالشاعر متمكن أمكن في سوح الشعر، وليس بحاجة إلى الثناء الباذخ، وليس يضيره أن تختلف الآراء حوله، وإذا كنا من مريديه فإن طوائف من النقاد والدارسين لا يقبلون هذا اللون من الشعر شعر الخطابة والوضوح والجماهيرية. إن النقد الحديث يحتفي باللمحة والغموض والهمس، ويكفي الشاعر أنه مجال اختلاف وتنازع. (وكم على الأرض من خضراء مورقة وليس يُرجم إلا مثمر الشجر) ومهما اختلفنا أو اتفقنا حول شاعرية الشاعر فإنه سيظل مشروع إشكالية نقدية تضيف للمشهد النقدي أسساً نقدية. ومن مؤشرات الضعف أن يظل الشاعر ساكتاً ومسكوتاً عنه، وقديماً قال المتنبي: (أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم) إن شوارد الدامغ قادرة على شغل المشهد، وهي جديرة بأن ينشغل بها المشهد، وكم أتمنى أن أكون فيها جذعاً متوفراً على الجهد والوقت لأبوح بما أرى؛ فعلاقتي الشخصية بالشاعر أمتن من علاقتي الأدبية، ولهذا فليس يمنعني من الصدق معه مانع، ولست بحاجة إلى المجاملات الزائفة. الشاعر في النهاية له وعليه، وحاجتنا إلى نقاد يفرزون شعره، فمهما اختلفت الآراء حوله فإنه سيظل شاعراً متمكناً شغل المشاهد ردحاً من الزمن، ثم تسلل من الأبواب الخلفية مغاضباً على المتشاعرين والمجاملين، فهل هذا التكريم الذي سبقت إليه (المجلة الثقافية) و(مركز بن صالح الثقافي) قادر على جرِّ قدمه وزجِّه في حلبة الأدب ليعيدها جذعة؟! أرجو أن يكون هذا التكريم استدراجاً لمثله؛ فإنه في دخوله في الميدان إضافة جديدة لشعراء القصيم الذين درسهم زميلنا المطوع واكتشف قيمة فنية ومادية تدلُّ بها على مناطق المملكة الزاخرة بالشعراء والنقاد. |
من تلوُّث الأجواء إلى لوثة الأفكار..! 1 - 2
د - حسن بن فهد الهويمل إذا كان الله قد يسَّر القرآن للذِّكر، وتساءل:- وكلُّ تساؤل منه جلَّ وعلا مجاز - : هل من مدَّكر؟. فإنّ ثورة المعلومات والاتصالات قد أشاعت المنجز الإنساني، وجعلته مطروحاً في الطريق، يمر به البرُّ والفاجر، وأصبحت أفكار الغرب ومخترعاته وأنظمته وسلوكياته كما الليل الذي هو مدرك لكلِّ حي، وإن خال أن المنتأى عنه واسع. والإشكالية في المتلقِّي العربي، الذي قد يلتقط ما سيكون له عدوّاً وحزناً، فيما يعزب عن ذاكرته ما يحييه. هذه المخترعات المبهرة، وتلك الصناعات المدهشة انتزع بها المسوِّقون لأفكارهم ونظمهم ورؤيتهم للكون والحياة والإنسان من المتسوقين الاندهاش المربك والاستجابة المطلقة. وما كانت تلك البضاعة المسوَّقة إلاّ قصراً على التفكير المادي والسلوك الشهواني، بحيث استحوذت على المتسوّقين الشهوات، وأضلّتهم (الأيديولوجيات)، فحققوا تداعي الأكلة وغثائية الكثرة. وإذا كانت المجتمعات المدنية تباشر التطعيم، كلّما داهمتها الأوبئة، حتى لا تكون مستوطنة، فإنّ واجب المجتمعات المستجيبة لله وللرسول أن تباشر التحصين الفكري، بأساليب حضارية، تقوم على التذكير النافع، والمجادلة بالحسنى. والفتَّانون من يمارسون التعميم في الأحكام، ويستمرئون الفوقية والتسلُّط، ويكرِّسون الحدية الصارمة. والبلاغ المبين لا يتحقق إلاّ بالتخول في الموعظة، والاستمالة باللين، والترويض بالإمتاع، والتطويع بالإقناع، ومراعاة مقتضى الحال، واختيار أيسر الأمرين. وما دخل الرِّفق في شيء إلاّ زانه:- {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ{(سورة آل عمران: 159). ومواجهة الاختراقات الفكرية والأخلاقية المنظَّمة، لا تتم بالجهد الفردي، ولا بالابتسار الجزئي، ولا بالاهتياج الأعزل. والفرادة والتجزيئية والاهتياج تصعد المشكلة، وتزيد الارتكاس. واللوثة والتلوُّث ناتجا خطأ في التشخيص أو قصور في المواجهة، أو تعمُّد في إهمال الثنيات والثغور، أو إيغال في القول فيما لا يعقله الناس، أو إلحاح في طلب المستحيل. ولمّا لم يكن بالإمكان حسم المواقف بالمبادرات الفردية، فإنّ على أصحاب الأجواء المخترقة أن يدرؤوا عن أجوائهم بالمؤسسات المتخصصة، بعد دعمها بالكفاءات البشرية المؤهلة. وثورة المعلومات والاتصالات حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، وفرضت أساليب غاية في الدقة لمواجهة التحدِّي. فالغرب الذي فاضت مشاهده بالمذاهب الوضعية المادية، نبذ دينه وراء ظهره، وألقى عصاه في حقلي: المادة والعقل، ثم تحوَّل مركز التحكُّم عنده إلى العلم التجريبي، فعطل (اللاهوت) و(الناسوت)، وسخر من (الميتافيزيقا) حتى لقد سمَّاها بعض مفكِّري العرب المتلوثين بالمادية ب(الخرافة) ثم عدَّل ذلك بالموقف منها، وهو موقف يجسِّد اللوثة والتلوُّث والسقوط في وحل الماديات. والدين الكنسي المحرَّف في العصور الوسطى بلغ من النفاذ والتسلُّط حدًّا لا يطاق، وعجزه عن الصمود أمام المكتشفات والمخترعات والعلم والعقل زواه في الأديرة، وحوَّله إلى ممارسة طقوسية، يباشرها الجسد عادة رتيبة مفرغة من محتوياتها الإيمانية والعملية، وتفريغ الأفئدة من الإيمان، أصابها بالخواء والتصحُّر، وحوَّلها من عالم الإنسان الوديع إلى عالم الحيوان المتوحش، و:(إذا الإيمان ضاع فلا أمان). وها هي غطرسة القوة تهلك الحرث والنسل، وها هو (الهرج) الذي أخبر من لا ينطق عن الهوى بكثرته يستفحل، حتى لا يعرف القاتل لماذا قَتل، ولا المقتول لماذا قُتِل. ومصير الغرب إلى العلمانية الشاملة فرضه عجز الدين عن مواجهة العلم واحتوائه، والنهوض بمطالب الحياة السوية. وقدر الأمّة المأزوم تتبعها لسنن الغرب، واستهلاكها لصناعاته، وقعودها كالطاعم الكاسي، ومن هنا تلوّثت الأجواء، والتاثت الأفكار. وكيف لا تتلوّث المشاهد، وهي مسرح للمذاهب والتيارات والأفكار والسلوكيات الغربية مجلوية أو طارئة. ومرد الوهن والحزن اشتغال المفكرين العرب بما لا حاجة لهم به، وتنازعهم حول قضايا فكرية لا تعنيهم بشيء، وهي قضايا لمَّا تبرح محيط النظريات الاحتمالية، وتساقطها أمام الجدل الفكري فوّت على مفكري الأمّة فرص المبادرات المستجيبة للحاجة. ومهما أوغلنا في النَّيل من مآلات الحضارة المادية وبؤسها، فإنّنا - وتحقيقاً للمصداقية - ملزمون بالإشادة بالمنجز المادي المذهل، ومطالبون بالتحرف للمجيء بمثله. والتأكيد على أنّ القبول به، والاستفادة منه ليسا ملزمين للمصير إلى مسلّماته الفكرية وممارساته السلوكية. وإذا كان الغرب على علم بظاهر الحياة الدنيا فإنّ حرية التفكير والتعبير وإلغاء المرجعية أردت فكرهم في مهاوي الرذيلة والإلحاد، وأفقدتهم حفظ التوازن بين مطالب الروح والجسد. والوقوف من الفكر المادي الإلحادي والسقوط الأخلاقي لا يمنع من الإفادة والاستفادة، وتبادل الخبرات والمصالح، والركون إلى السلام والتعايش السلمي، والبر والعدل. لقد استفحل الضعف والتخلُّف بسبب التعالق مع القيم المعنوية والوقوف عند حد الاستهلاك الحسي، وبسبب تفويت الفرص المواتية للاستفادة من مناهج الغرب وآلياته ومؤسساته الإجرائية وعلمه التجريبي، فالقبول الشامل والرفض الشامل هما مكمن الداء، إنّ هناك خلطاً عجيباً بين التبادل والتماثل، وكأنّ الإسلام لا يتسع لما اتسعت له الحضارة الغربية من علوم بحتة وأنظمة ومؤسسات ومناهج وآليات لا تعدو محيط الوسائل، ولا تخرج عن أمور الدنيا التي نحن أدرى بها، بوصفها نوازل آنية، يعرف الحاضر منها ما لا يعرفه الغائب. وحين ننشد الموقف الحضاري من الآخر، يجب أن نعرف له سبقه، وأن نعترف له بتفوُّقه، وأن نفعل فوق فعله، بعد تهيئة الأجواء الملائمة للبدء من حيث انتهى، وأن نميِّز بين اقتفاء أثره الفكري، وتفكيك شفرته العلمية. ولا شك أنّ تحقق الغثائية والتبعية ناشئ من التعالق الفكري والمفارقة المعرفية. فأين نحن من العلماء المكتشفين؟ وأين منا المعامل والمختبرات والمصانع؟ في ظل الأمر الرباني العازم بإعداد المستطاع من القوة، ومجيء المأمور به نكرة مؤشرٌ على العموم، فأي قوة حسية أو معنوية تردع الأعداء، تعد من الفروض الغائبة، ومفهوم الإرهاب بالقوة، كمفهوم قوة الرّدع في لغة القوة المعاصرة. وما سمعت مدَّعي التنوير يقولون بذلك، إنّ الانتماء إلى الإسلام يعني تفعيله بأوامره ونواهيه وأخلاقياته وتعاملاته وسائر أحكامه، وفي النهاية فإنّ (الدين المعاملة). لقد تعالقنا مع الغرب، ورضينا من حضارته بما ليس لنا به حاجة، فكانت الفنون وكان المجون، وكان العهر والكفر، ولم يكن العلم وحواضنه، ولا الأنظمة وانضباطها. والذين لا يحبون الناصحين يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه، ويقوِّلون خصومهم ما لم يقولوا، فالتحذير من غزو الغرب وتآمره لا يقتضي اعتزاله، فضلاً عن مصادمته، ولا يعني تبرئة الذات المتخلفة من مقترفاتها. والاستجابة للغرب، والانسلاخ من قيم الحضارة الإسلامية لا تقيلان العثرة، بل تزيدان في الارتكاس والانتكاس. ونفاة الغزو والتآمر لا يتوفرون على تواصل حضاري مع الغرب، يسد الخلال. ومقدرات الأمّة ضاعت بين النفي والإثبات، ولن يُقال العثار إلا بالتنادي إلى كلمة سواء، تصد الغزو والتآمر، وتفتح الأبواب والنوافذ لمزيد من التواصل الإيجابي مع مختلف المنجزات البشرية، وبعث الثقة والوفاء بالعهود والمواثيق. ومؤشرات اللوثة والالتياث متمثلة باستفحال التنابز بالألقاب بين أبناء الحضارة الواحدة وقابلية التبعية، وممارسة الفعل بشكل فوضوي فردي، لا تهيمن عليه مؤسسة، ولا ترصد لتحركاته (استراتيجية). وشواهد اللوثة أنّنا منذ (حملة نابليون) وحتى الآن وقادة الفكر وزعماء الإصلاح وروّاد النهضة في لجة أمسك فلاناً عن فل، وكلهم على اتصال متفاوت بالغرب، فمن مكفِّر يرى أنّ التكفير لا يتحقق إلاّ بالقتال، والقول بأنّ الكفر مؤذن بالقتال قول مخالف لصريح النص القرآني ولهذا استعيض عنه ب(الآخر) لتفادي المفاهيم التي يروِّجها المتطرِّفون عن الموقف من الكفر، وكان الأجدر تصحيح المفهوم لا الهروب من تبعاته، ومن مكفر لا يمنع بر الكافرين والإقساط إليهم، إلاّ في حالة القتال في الدين أو الإخراج من الديار، ومن متصالح متعايش مُسمع لكلام الله موفِّر للأمن، ومن راكن موالٍ ومداهن. وكلُّ فئة ترى أنّها تمارس الحق الذي لا يُعلى عليه، ولمَّا يستطع الخطاب العربي الاستواء على أرضية صلبة، فيما استطاع (الشعب الياباني) استثمار هذا التواصل دون مسخ أو انسلاخ، ومؤشرات الفشل مرتبطة بنوعية الاهتمام، وطرائق التواصل. ودم الأمّة ضاع بين الرأي العام المضلَّل، والنخب الفكرية المتناحرة، وتدخُّل القوى المتغطرسة في السيادة الإقليمية. فمن القاتل؟ ومن الولي الذي جعل الله له سلطاناً؟ إنّ عصر القرية الواحدة يختلف عن عصور القطيعة بين قرية وأخرى، وإذ تقترب الحضارات من التداخل، فإنّ مهمة أهل الحل والعقد عصيّة ومعقّدة، ولقد قلت، ولمّا أزل أقول: إنّ خطاب القوة يختلف عن خطاب الضعف، وأنّ التراجع للتحرُّف أو للتحيُّز يختلف عن الفرار من الزحف، وأنّ العصر عصر مؤسسات لا عصر أفراد. |
من تلوُّث الأجواء إلى لوثة الأفكار..! 2-2
د .حسن بن فهد الهويمل ومؤشّرات الفشل الذريع أنّ المشاهد الفكرية العربية انبهرت بأربعة مفكِّرين ملحدين (نيتشة) الذي أمات الإله، وجعل الإنسان مركز الكون. و(دارون) الذي أرجع الكائنات والأمم كلّها إلى خليّة واحدة، يحكمها قانون (البقاء للأصلح). و(فرويد) الذي ربط النوازع والرغبات بالجنس، موغلاً في حيونة الإنسان. و(ماركس) الذي ألّه المادة، وربط الصراع بها، وحاول فكّ الاشتباك ونزع فتيل الصراع بإلغاء الملكية، ظنّاً منه أنّها مكتسب لا غريزة. والغرب هو الذي تعمَّد إشاعة مفكِّريه ومبدعيه وفنانيه عن قصد، وضنَّ بإشاعة علمائه ومخترعيه وقوانين مكتشفاته وشفرات معلوماته، ليجمع السيطرة من أطرافها، ولهذا يجود بإشاعة الفكر والفن، ويستأثر بالعلم، وليس لشهرة هؤلاء المفكِّرين اليهود ما يماثلها. وهؤلاء الأربعة هم الذين تولّوا كبر اللوثة والتلوُّث في العصر الحديث، ومن أصولهم ومناهجهم وآلياتهم تفرّق الجنس البشري شيعاً وقبائل، وجاءت المذاهب في سائر وجوه الحياة تستمد طرائقها مما أقرّه أولئك. ومع نفوق هذه المذاهب، ودخولها مزبلة التاريخ، فإنّه لم يدلّنا على موتها إلاّ لدات المفكِّرين من بني جنسهم، وقد نجد من يردِّد: -الماركسية لم تمت، والداروينية لمّا تزل فاعلة، وكم نحن بحاجة إلى (دابة الأرض) لتدلّنا على موت الشواخص من تلك الهياكل الجوف، وإذا قيل: إنّ الكفر ملّة واحدة، فإنّ سائر المذاهب الفكرية مهما أبعدت النجعة، تمد بسبب إلى هذه المذاهب المادية الأربعة، ذلك أنّ الرابط بينها إنكار الدين، وإماتة الإله، وتأليه المادة، ونفي عالم الغيب. وما تتداوله المشاهد الأدبية والفكرية والسياسية لا يخلو من اللوثة والتلوُّث، على حد دخن (الرباء) فالذين لا يأكلونه في بطونهم، لا ينجون من دخنه. وإشكالية المتعاطين مع المستجدات أنّهم لم يؤصلوا لأفكارهم، بحيث يميّزون بين المحظور والمباح، ولم يقفوا على تأصيل الآخر لأفكاره ومذاهبه. وفقد التأصيل مظنّة التيه والتضليل. والمتابع للمتشبِّثين بالفكر الغربي، يلمس ذلك بكلِّ وضوح، فهم نقلة ملفقون، وقليل منهم من يعي بعض ما يلتقط، وهم مع حضارتهم بين مسقط للنص، أو متأوِّل يلوي عنقه، مستخدماً آليات التفكيك، التي تلغي الدلالة، وتميت المؤلف، وتمكِّن المتلقِّي من فرض دلالته التي توافق هواه - راجع (دليل الناقد) للبازعي والرويلي -. ولقد كان نصيب الإبداع السَّردي من الانحراف الفكري والسقوط الأخلاقي وافراً. وكلّ من تقحم تلك المشاهد وانغمس في أوحالها، دون تأصيل شرعي استهوته براعة العرض، وجذبه إتقان المخادعة، وأصابه ما أصاب غيره ممن يعبدون الله على حرف. ومع أنّ على المفكِّر أن يقرأ الآخر ما أمكنه ذلك، وأن يستمع إليه وهو شهيد، وأن يأخذ بأحسن ما عنده، فإنّ واجبه قبل الدخول في غيابة الفكر المعاصر أن يتضلَّع من تراثه الشرعي، وأن يحصن نفسه، وأن يعرف الفرق بين الثوابت والمتغيّرات، والأفكار والعقائد، والوسائل والغايات، والمباح الممكن وغير الممكن، والممنوع لمصلحة والمحرم لمفسدة. وما التاثت الأهواء وتلوّثت الأجواء إلاّ من متحدِّث في غير فنِّه، وينقض النص بالاجتهاد، ولا يُفرق بين القطعي والاحتمالي، وإذ ألْهت (بني تغلب) قصيدة قالها (عمرو بن كلثوم) فإنّ بني يعرب ألهى من ذات النحيين بقضايا المرأة منذ (قاسم أمين) وحتى الذين اهترأت أشداقهم عبر القنوات، والقول في المذاهب والتيارات بغير علم أضلّ الأفهام وأزلّ الأقدام. ولعلّنا نضرب مثل السوء بمن قال بعد تخبُّط في التيه: - (نهاية إقدام العقول عقال) ومن قال:- (مشيناها خطى) ومن أبدع: (منعطف الاشتراكية الكبير) ومن كتب (الاعتراف) فيما نضرب المثل الأعلى بشيخ الإسلام (ابن تيمية)، الذي قرأ المذاهب والملل والنحل كلّها، وعرفها أكثر من معرفة أصحابها بها، ولم يُصب بلوثة ولا بتلوُّث، ومردّ ذلك استيعابه للتراث الإسلامي، وفهمه حق الفهم، وإيمانه وتصديقه، واستكماله للعتاد والعدّة قبل منازلة الأفكار والمذاهب، لقد كشف عن أخطائها، وهزم أربابها، وخرج كما دخل، لم يتدنّس بفكر، ولم يتلوّث برأي، ومرق من هذه المذاهب كما يمرق السهم من الرمية، لم يعلق به من وضرها شيء، لقد عقل (الرازي) عقله، وفضح (روجيه جارودي) انحراف الماركسية، وروى (أحمد سليمان) رحلة التيه في قيعان الشيوعية، واعترف (أرتور لوندون) بحياة الرّعب في عالم الحزب الشيوعي، ولو كُشف الغطاء لظهر في كلِّ الأحزاب والطوائف والعرقيّات. وليست الإشكالية فيمن التاث أو تلوّث، لأنّ ذلك ذنب يصيب الذي ظلم خاصة، وإنّما هي فيمن تبنّى هذه المذاهب، ونافح عنها، ومجَّد، أصحابها، وانبهر بطرائق التناول ومناحي القول عندها، ولم يتورَّع من استخدامها في مواجهة تراثه، وتدنيس مقدسه، والتشكيك في يقينيات دينه الكبرى. وما نقم أحد ممن أصابه الدخن، ثم لم يكن داعية سوء. لقد كان (النووي) و(ابن حجر) - رحمهما الله - أشعريين، وقلّ أن يعرف أحد ذلك عنهما، لأنّهما لم يكونا دعاة مذهب، وإن أخذا بمقتضاه، وكان (الزمخشري) - عفا الله عنه - معتزليّاً متعصِّباً لاعتزاله، تجلَّى ذلك في (كشَّافه) الذي لا يستغني عنه عالم في التفسير، لمجيئه في غاية الجودة، ولكنه داعية لنحلة ومتعصِّب لملَّه، الأمر الذي حمل طائفة من العلماء السلفيين والأشاعرة على فضح اعتزالياته، وكشف ما يدسّه من قول مخالف لمذهب أهل السنّة والجماعة. ولم يخل عصر من العصور الإسلامية من طوائف وملل ونحل فيها الغلو والتطرُّف، خرجت على مقتضيات الشريعة، وأوغلت في البدعة، ونافحت عنها، ولكن هذا العصر تجاوز الطائفية والتأويل إلى المواجهة والإقصاء، وكان ذلك في ظل إمكانيات الاتصال والإعلام المذهلة. وإن كان ثمة إشكالية التلويث المتعمّد، فإنّ الذين يخوضون في الفكر المادِّي لا يجدون ما يحمون أنفسهم به، وذلك سر تهافتهم كما الفراش. وتعري سوأة الجهل والتعالم لم تحفزهم على مراجعة النفس، والتزوُّد من معارف حضارتهم، وما يقولونه عن حضارتهم من سخرية وتزهيد ودعوة إلى التخلِّي مؤشِّر جهل بنواقض الإيمان، وتأوّل يميل إلى الاحتمال المرجوح، أو افتراض تأويل لا يحتمّله النص، وما يروِّجونه عن حضارة الغير مؤشِّر انبهار، وما يهرفون به قول معاد، فالسابقون الأوّلون من رفاق (الطهطاوي) حتى يومنا هذا أخذوا بعصم القيم الغربية، ولم يفلحوا إذاً أبدا. والقارئ الملم بالتيارات والمذاهب، يحز في نفسه أن يكون أبناء عشيرته مجال سخرية للمفكِّرين المتمكِّنين، متى استعرضوا ما يتداولونه من كتابات ملفقة لا تفهم الأصول، ولا تتقن القواعد، ولا تعرف المنطلقات، ولا تحيل إلى المرجعيّات، حتى لكأنّهم ممن يهرفون بما لا يعرفون، إنّنا نخالف الأقوياء ولكننا نحترمهم، فأين بعض الكتبة من (محمد أركون) و(محمد الجابري) و(حسن حنفي)، و(برهان غليون) و(فهمي جدعان) وآخرين لا يعلمهم إلاّ المتابعون الرّاصدون. والفروض الغائبة تتمثّل في معرفة أصول المذاهب ومنطلقاتها، فالملتاثون لا يعرفون ضوابط الأخذ ولا موانع الترك، ولا يقدرون على تثوير الأنساق المتجذّرة، وما هم بخارجين من هيمنة الحضارة المادية حتى يعرفوا مبلغهم من أصولها ومنطلقاتها، فما يتوفرون عليه نثار لا يغني ولا يقني، ومع الضحالة والتسطُّح فإنّهم يتشبّعون، ويتجشؤون من فراغ. وإذا قيل لهم خذوا حذركم أخذتهم صفاقة الجاهل واستكبار العائل، وقالوا لمن حولهم: - من صنع حضارة العصر الغرب أم العرب؟ فإذا قيل الغرب قالوا:- هم الأحق بالاقتداء، وهذا مكمن الخسارة الفادحة، والسؤال المفحم:- هل الإسلام يمنع أن نصنع فوق ما صنعوا؟. ومعتصر المختصر: أن يعرف حملة الأقلام أنّ لكلِّ حضارة سماتها المظْهرة والمضمرة، وأنّها لا تتحقَّق إلاّ من خلالها، وأنّ الذين لا يقدرون على هضم ما يتلقّون من فيوض الآخر يدخلون مرحلة المسخ، وأنّ الذين يغلقون الأبواب والنوافذ يخنقون من بداخل الأسوار، فأيُّ الفريقين أحق بالبقاء؟ إنّها معادلة معقّدة. |
مرحلة التكتُّم والتكتُّل ..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل لكلِّ شيء قانونه أو خَلقه الذي به ينضبط، ومن خلاله يبقى وينمو، ولا يند عن ذلك إلاّ المعجزات المؤيِّدة للرُّسل. والله قد {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}طه: 50 فلا تبديل، ولا تحويل للسُّنن الكونية. والحياة بوصفها مجموعة أشياء وأحياء محكومة بالنظام الأزلي، ومن بادر شيئاً من أشيائها بدون قانونه ابتلعته، كما دوامات البحر. وسائر الحيوانات والموجودات: الحسِّيّة والمعنوية تحكمها القوانين، وتسيِّرها الأنساق والسِّياقات. ومن غرَّد خارجها، فكمن يسبح ضد التيار. والحراك الذي تشهده مسارح الحياة كافة، لا يَحكمه الخير المحض، ولا الشر المحض. وكم يكره الإنسان ما فيه الخير، أو يحب ما فيه الشر عن جهل منه، أو عن تَسرُّع، وكلٌّ ميسَّر لما خلق له. وإذا كانت اللُّعب السياسية محكومة بقوانينها، فإنّ القضايا الفكرية هي الأخرى محكومة بأصولها وقواعدها وأحكامها القطعيّة أو الاحتمالية. والفقهاء قبل أن يخوضوا غمار النصوص، ضبطوا فعلهم بالقواعد والأصول، ومثلهم المفسِّرون والمحدثون وسائر المشتغلين بالعلوم الإنسانية أو بالمهارات الصناعية أو بالمكتشفات العلمية البحتة. و(نظرية التلقِّي) لها محقّقاتها، فالمتلقِّي يتوسَّل بالمنهجية والآلية، وخطّة العمل، لتساعده على استخلاص النتائج، وتحديد المفاهيم، وسنِّ الطرائق. وبتعدًّد المفاهيم تتعدّد المواقف، وتتنوّع الملل والنِّحل والمذاهب، وتخلف نظريات المعرفة. وحتمية الاختلاف تستدعي التقريب والتسوية وتفادي الصّدام، ولا يعمِّق العصيان والتنازع إلاّ الذين هم أراذل القوم. والإنسان الذي زجّ بنفسه في أتون الجدل، لا بدّ أن يتوفّر على قوانين القضايا وضوابطها، لكي يعرف متى يصدع بالحق، أو يسر به، ومتى يمارس التورية والقناع، ويستخدم الرمز، ومتى يتقي خصومه تقاة، أو يقدم بين يديْ نجواه صدقه، ومتى ينبذ إليهم على سواء. فالضّعف مع الحكمة قوة، والقوة مع الطيش ضعف. ومن تصوَّر أنّ كلَّ مباح ممكن فقد عرَّض نفسه للانكسارات المؤلمة. والأصوليون يضعون ضوابط للمباح الممكن وغير الممكن. وإشكالية كثير من الكتبة الذين لا يتكتَّمون ولا يتكتَّلون أنّهم لا يفرِّقون بين المحرَّم لذاته والممنوع لغيره، وهو ما يسمِّيه الأصوليون ب(المحرّم لغيره)، ولهذا حين تمنع السُّلطة التشريعية شيئا، لجلب مصلحة، أو لدرء مفسدة، أو لسدِّ ذريعة، كالتحفُّظ على (قيادة المرأة للسيارة)، يجأر البعض منهم، متوسِّلاً ب(فقه الأحكام)، ويعضدهم المحيلون إلى الحرِّية المطلقة كما هي في سائر الأنظمة الغربية، محتجين بأنّ الممنوع نظاماً ليس محرّماً شرعاً، وأنّ سقف الحرية تسلُّط لا سلطة، وفي ذلك خلط عجيب بين حقِّ السُّلطة وسلطان التشريع، وتغييب متعمّد ل(فقه الواقع) و(فقه الأولويات)، وحدود الحرِّيات. ومثل هذه المرافعات غير المحكومة تؤدِّي في النهاية إلى المجاهرة بالخلاف حول أوهام يظنُّها الخليون قضايا مهمّة، تستدعي التصدِّي والتحدِّي والصُّمود. وكم أحسست أنّنا بحاجة ماسّة إلى مراجعة دقيقة لكلِّ القضايا المتداولة، وبحاجة إلى رصدٍ أدق للجدل القائم حول مجملها، وإلى محاولة التفريق بين قضايا الذات وقضايا الآخر، ومتعلّقات كلٍّ منها. وكم راعني ما ألقاه يوماً بعد يوم لدى مجموعة من الشباب الذين تنقصهم الخبرة، وتعوزهم المعرفة، وتشط بهم المثاليات، حتى لكأنّهم غرباء. ولقد أدركت أنّ المؤشرات تنذر بالخطر، فالطَّرح العنيف، والتساؤل المخيف يدلاّن على أنّ مثل هذه الذهنيات المتحفّزة لكلِّ جديد مخترقة من فئات الغلو والتطرُّف، ومن ذوي النوازع المشبوهة، وأساطين اللُّعب الدنيئة. ومن عادتي منح المتوتِّرين منهم الثقة والاطمئنان، ودفعهم إلى كشف منطوياتهم والبوح بمعاناتهم، ولو عن طريق الأسئلة المكتوبة، وكلّما أوغلوا في البوح، قطعت بأنّ الاختراق منظم وفاعل، وأنّنا نفرط بمن استرعانا الله عليهم، أو نغفل عنهم، ليكونوا لقمة سائغة للمضلِّين. (ومن رعى غنماً في أرض مسْبَعة .. ونام عنها تولى رعيها الأسد) وإذا وقعت الواقعة، أقبل بعضنا على بعض بالتلاوم، وأوسعناهم سبّاً واتهاماً، ولمَّا نفكر بالخلايا الخفيّة التي نسمِّيها تجوزاً بالنائمة، وما هي إلاّ المتربّصة والمتصيِّدة لفلول الشباب، الذين يبيتون على الطوى، ثم يفتحون عيونهم وعقولهم على القول ونقيضه من كتبة لا يراعون مقتضى الحال. والنُّخبة حين تستدبر هذه الفئات التي تشكِّل مشروع فتنة عمياء، وتشتغل عنهم بالجدل العقيم حول قضايا ثانوية وغير ملحّة، تمكِّن المتربِّصين من التفرُّغ لهذه الأراضي البور، واستنباتها بما يهلكها لا بما يحييها، وذلك بشحن عواطف الشباب، وتأزيم مشاعرهم، وتضليل أفكارهم، وإغرائهم بالتدافع إلى حلبات المصارعة الفكرية. وهذا الصراع العقيم يحقق للأعداء مكاسب متعدِّدة، فهو من جهة يفرق الكلمة، ويشتِّت الشمل، ويغرس الضغائن في النفوس، ويُحرض على التدابر. وهو من جهة أخرى يشغل المتفقِّهين عن احتواء طلائع الشباب المهيأ للتكيُّف كما عجينة الصلصال، وهو من جهة ثالثة يلهي المقتدرين عن حماية أجوائهم الفكرية من الاختراقات. وفوق ذلك كلّه فإنّ مراكز المعلومات العالمية ترصد كلََّ هذا اللّغط الفارغ، وتحسبه مشاريع فكرية تهدِّد مصالح الأقوياء، ولا تتردّد الدول المستبدّة من تغذية إعلامها بنتائج الرَّصد والتحليل، لتفتّ في عضد الأُمّة، كلّما وقفت للدفاع المشروع عن قضاياها المنتهَكة. وفي ظل هذه الظروف العصبية يتحتَّم الجنوح إلى المواقف الاستثنائية، وليس هناك أهم من التكتُّم والتكتُّل. لقد ريع (هتلر) حين وظَّف خصومُه خطابَه الإعلامي الدعائي لمعرفة عدّته وعتاده، وتصوَّر أنّه مخترق بالجاسوسية، وما درى أنّه مخترق بما يتداوله كتّاب بلاده. ونحن بممارساتنا الكتابية المتوسّلة بالحرية والشفافية نموضع ذواتنا وأشياءنا، فالقنوات، والمطبوعات، والمواقع لا تحقِّق وجودها، إلاّ بالنّفاذ إلى أشيائنا واتخاذها مجالاً للعلك الرخيص. وفي ظل العُجب والعزّة والأنفة لا استبعد التحفُّظ على مثل هذه الدعوة ووصفها بالغرائبية، وبخاصة ممن لا يرقب المشهد عن قرب، وكم من برم يردِّد:- (ويل للشجي من الخلي) و(ذو العقل يشقى في النعيم بعقله)، فالذين في آذانهم وقر، وعلى أبصارهم غشاوة، يتصوَّرون أنّ الوضع سمن على عسل، وأنّ هذا الصّخب الفاضح عبر الإعلام والمواقع إن هو إلاّ أخذ بأطراف الأحاديث التي تطرد الملل، وتقتل الوقت، على حد:- (فلما قضينا من منى كل حاجة) وما هو في بعض أحواله إلاّ كمن يلعب في أرض ملغمة. فالرّاصد الواعي لما يجري، يرى أنّ الأمر مختلف جداً، فالتلاسن يفشي الأسرار المفيدة للمناوئ، ولاسيما إذا جعلنا من الوقوعات الفردية ظواهر عامة، واعتمدنا الإطلاقات المعمِّمة، والموافق الحدِّية، ومصادرة حق المخالف في إطار الاختلاف المعتبر. إنّ كلَّ متحدِّث عن المرأة - على سبيل المثال - لا يجد حرجاً من القول: إنّها النصف المعطَّل، والشريك المهمَّش، والإنسان المضطهد، وما هي كذلك، ولكنّها الإطلاقات المسجّلة لحساب الأعداء المتربِّصين. وأمام تلك المفتريات، زاد الضغط علينا من سائر المنظمات العالمية، الأمر الذي ضعف معه الأطر، وخفَّت معه المتابعة. والمختلفون حول سائر القضايا، ينتهبون الخطى وراء سراب القيعان. ولما لم يكن هناك رغبة عند الغثائيين في التصوُّر السليم، والاشتغال في القواسم المشتركة، والتعاذر والتعايش، فإنّ واجب الناصحين محاولة التهدئة، وتلطيف الأجواء، وفك الاشتباك، والتحذير من مغبَّة التفرُّق. إنّ المتابع لما يحدث، يدرك أنّ الشّقاق على أشدِّه حول قضايا ربما تكون وهمية. والقرآن الكريم أوصى بالإصلاح بين الطوائف المؤمنة، وأمر بحسم الموقف متى بغت إحدى الطائفتين على الأخرى، وليس شرطاً أن يكون الحسم بالقتال، إنّ هناك خيارات متعدِّدة، وواجب أهل الحل والعقد الأخذ بأيسرها، فالرِّفق واللِّين والتيسير والعفو والصَّفح من المقاصد الإسلامية، ومتى حسن الظن، وسلمت النوايا، تلاشت المشاكل، وأمكن التقارب. فهل نحن قادرون على ممارسة الأسلوب الحضاري الأمثل للتوفُّر على التكتُّم والتكتُّل المنقذين في زمن تداعت على أُمّتنا العربية والإسلامية أمم الأرض القوية؟ إنّه زمن عصيب، لا يحتمل انكشاف الساحة، وإفشاء أسرارها. إنّنا مطالبون بالاعتصام، وعدم التفرُّق في سائر الأحوال، فكيف إذا كانت الأوضاع قاب قوسين أو أدنى من المهاوي السحيقة. ومهما تفاءلنا وأحسنّا الظن بأنفسنا، وحَسِب الخليون أنّنا قادرون على رأب الصدع، وجمع الكلمة متى شئنا بالرّكون إلى قوة الاحتمال، فإنّ من المتوقَّع أن تضعف المناعة، وبخاصة حين تكثر العوارض التي نحرضها بأنفسنا، مما يجعل الكيان عرضة للتأثُّر. وليس من حسن التدبير والتقدير أن نقيم رهاننا على الإمكانيات الآنية، ظنًّا منّا أنّها لا تخضع لعوارض التبدُّل والتحوُّل. ومن الحصافة والرّصانة، ونحن نشاهد القوم صرعى، أن نقوِّم المواقف، وأن نتّعظ بمن حولنا، فلسنا بدعاً من الأمم، وليس بيننا وبين الله عهد، وإنّما الجزاء من جنس العمل، والله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم، {وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ}الرعد: 11، ولن نهتدي إلى طرق الخلاص إلاّ إذا عرفنا قدر أنفسنا، وقدَّرنا الواقع قدرة. فالمجتمعات السوية تنشد الوئام، وتنبذ الخلاف، وتُؤثر ولا تستأثر، وتستمع إلى القول، وتتبع أحسنه، ولنا في التكتُّلات (الأوروبية) والإقليمية أسوة:-(تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا افترقن تكسرت أفرادا).ومع كلِّ الاستجابات الطوعية أو التطويعية، فإنّ الخلاص لن يتأتّى إلاّ بتوفيق الله ومشيئته {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ}الإنسان: 30، ومشيئة الله لا تمنع من العمل، فالتوكُّل غير الاتِّكال، وكلٌّ يعمل على شاكلته، ولما لم تكن الدولة من أصحاب النوايا السيئة والمغامرات الطائشة، ولما تقترف من الأعمال ما نتوقّع انعكاسه عليها، فإنّ الضلوع في كشف المخبوء والمصير إلى التفرُّق المعلَن على الملأ في الأداء والمواقف والتصوُّرات مدعاة إلى نفاذ الأيدي العابثة. وها نحن وعلى ضوء ما نتداول نفتح شهيّة الآخر بالمطالبة ب(حقوق المرأة) و(حقوق الإنسان) و(تعديل المناهج) والقفز في الإصلاح، وكأنّنا أمة (تيمية)، فمن الذي أعطى أولئك الوثائق المزّيفة، ومكّنهم من التلويح بها في المحافل الدولية. لقد استشْرت شهوة القيل والقال، وتعمَّقت هوّة الخلاف، وانصرف حديث المختلفين من الموضوعي إلى الشخصي، ومن البحث عن الحق إلى التأكيد على الانتصار. وهذه الممارسات تشغل عن المهام الجسام، وحين تصاب المشاهد بحالة من تشتُّت الجهد والوقت، تصاب الأُمّة بالإنهاك والعجز عن ممارسة وظائفها الرئيسة، وقد تفتح على نفسها أكثر من ثغرة، وتمكِّن أعداءها من جمع أكبر قدر من المعلومات الموهنة. |
مرحلة التكتُّم والتكتُّل ..! ( 2-2 )
د. حسن بن فهد الهويمل والدعوة إلى التكتُّم، لا تعني الخفاء الغنوصي، ولا تعطيل الأفكار، ولا تمنع من المشاطرة في المهام الجسام، وتمحيص القضايا، والتخوُّل بالنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ف(الدين النصيحة)، وما لعن الكفرة من بني إسرائيل إلاّ لعدم تناهيهم عن المنكرات. إنّ ما ندعو إليه قضاء الحوائج بالكتمان، والتعامل مع الظروف بما يناسبها، وبروح الفريق الواحد، إنّه نوع من ترك المراء فعند (أبي داود):- (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، فكيف إذا لم يكن محقاً، أو كان الحق مشتركاً، والاختلاف معتبراً. إنّه الانتصار على الهوى، والانحناء للريح. ومن المسلّمات أنّ لكلِّ دولة أسرارها وقضاياها التي لا يُسمح بتداولها، ولا تسريب المعلومات عنها. حتى الدول الغربية التي تركن إلى (الديموقراطية) لديها سقفها وخطوطها الحمراء، وإعلامها مسيَّر، وليس مخيّراً. والدين الإسلامي في القضايا المصيرية يحثُّ على التآلف والتكاتف والانضباط، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس التورية في بعض أعماله الحربية، وأمين سرِّه (حذيفة بن اليمان). وذهاب كلِّ عالم أو مفكِّر أو كاتب مبتدئ بما يرى، وإعلان الاختلاف والشّحناء حول القضايا المصيرية، والإلحاح في إشاعة المستور عبر الصُّحف والقنوات والمواقع، وتضخيم الوقوعات المتوقّعة، دليل على غمط الحق، وتغليب الانتصار عليه، والجنوح إلى الفوضوية. وقد لا يكون ذلك من باب الصّدع بالمأمور به. والمستفيض أنّ المشاهد كلّها تعجُّ بالمناكفات، وهذا من الظواهر السلبية. والذين يصدعون بآرائهم قبل نضجها، ولا يتيحون لأنفسهم فرصة للاستشارة والاستخارة والتأمُّل، وتفهُّم الآراء الأخرى، ولا يتحسّسون عمّا يترتّب على المجاهرة بالاختلاف، يكونون كما الفتن التي لا تصيبنَّ الذين ظلموا خاصة. وهل أحد يجهل ما تعانيه البلاد من أخطاء الغير في بقاع العالم العربي؟، والمسيء أنّ اختلافنا مشَرْعن بحب الوطن، وما سيء وجهه إلاّ بالتقدير الخاطئ، والتوقيت السيئ، وتهافت الفارغين على قضايا الوطن المصيرية. وسمات المشاهد العربية المرتبكة أمام طوفان الطوارئ الإصرار والعناد واللّجاجة والتعالم، والتهوين من شأن القطب الواحد المهيمن بقوّته وتعمُّد استفزازه، وتبادل الاتهامات، والضلوع في التصفيات، وتحميل الأقوال والأفعال ما لا تحتمل، وتحويل الوقوعات الفردية إلى ظواهر اجتماعية يخوِّفون بها الرأي العام، ويحرِّضون بها الأعداء، وتلك الأخلاقيات لا تفرز إلاّ الوهن، وتمكين المناوئين من اختراق الأجواء، وتحريض بعضنا على بعض، واستثمار نقاط الضعف. وذوو الألباب الناصحون المتمرِّسون في الأمور يلبسون لكلِّ زمان لبوسه، ولا يستغلِّون الإمكانيات للشُّهرة الزائفة، والكسب الرخيص. فما يُقال في وقت الرخاء، يختلف عما يُقال في وقت الشدّة. والأُمّة العربية المحكومة بسياق ضعيف متفكِّك يعتمد في قوَّته وقوتِه على غيره، لا يسوغ لنخبها أن تكشف كلّ أوراقها، ولا أن تقول ما يخيف الآخر، ويحفزه على الترصُّد والكيد. ومن مصلحة الأُمّة وإن كانت قوية أن تجنح للسِّلم، وأن تختار الوفاق على الشّقاق، وإذا كانت متمكِّنة من الحصول على حاجتها بالتي هي أحسن، فإنّ من الرعونة أن تمارس الغطرسة والتباهي واستعراض العضلات. ولعلّنا نضرب الأمثال بما يعيشه العالم اليوم من حروب غير معلنة، ومن مقاومة عنيفة، يندسُّ فيها من له حسابات معلَّقة. و(أمريكا) الأقوى والأعلم بظاهر الحياة والمدارة بمؤسسات دستورية وتشريعية وتنفيذية مستقلّة، تمرُّ بحالات من الإحباطات والنّكسات، وهي قد مرّت بما هو أدهى وأمر في (فيتنام)، وهي قد تلقّت ضربات مؤلمة في (الصومال) و(لبنان)، وكلُّ ذلك ناتج عطرسة القوة والإخفاق في سياسة القطب الواحد. ولو أنّها تركت عصاها معلّقة، حيث يراها المناهضون، لكان خيراً لها وللعالم أجمع. والكلمة والرّصاصة صنوان، فمن لا يحسن استخدامهما، يكون كمن يضع السيف في موضع النّدى. إنّ لغة التعالي والاستفزاز تتطلّب ثمناً باهظاً، مع أنّها لن تحقِّق من المكاسب ما تحقِّقه لغة اللِّين والتلطُّف والتكتُّم. والذين لا يعرفون إلاّ تبادل الاتهامات يفوِّتون على أُمّتهم فرصاً كثيرة. والفظاظة والغلظة مؤذنة بالتخلِّي والفرار، ذلك على مستوى الرُّسل المؤيّدين من الله وا لمعصومين من الناس، فكيف إذا جاءت تلك الممارسات من كاتب غير عارف ولا معروف، وبخاصة حين يحفل بالشّقاق وسوء الأخْلاق، والإصرار على الرأي، والإلحاح في نبش المسكوت عنه، وترويج رأي المعادي فينا. وتداول القضايا بأنكر الأصوات، يضع الأُمّة تحت دائرة الضوء، ويثير حولها التساؤلات. وصِدقُ الخطاب ومشروعيّته لا يكفيان لمشروعيّة المجاهرة بالهنّات واللَّمم، والغايات لا تبرِّر الوسائل. والسياسة (الميكافيلية) تحتاج إلى أجواء ملائمة، تمكِّنها من فرض إرادتها، وفي الحديث:- (كلُّ أمتي معافى إلاّ المجاهرون)، وبدوُّ صفحة الخطيئة تؤكِّد المساءلة، ولكلِّ حدث حديث، حتى الفتيا تختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة والأحوال. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتخوّل أصحابه بالموعظة، ويقول (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) والله سبحانه وتعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16 ويقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} البقرة: 286) ويقول: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}الأنفال: 66، ومشروعيّة المجاهرة في المشاهد تحتاج إلى أجواء وإجراءات ومقدِّمات ملائمة، وكيف لا نهتم بالمقدِّمات المهيِّئة والمقنعة، والله يقول لرسوله: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران: 159). والمجاهرة بالخلاف، مؤذن بتفرُّق كلمتنا، وارتباك صفوفنا، وتعدُّد أهدافنا. وارتفاع نبرة الاستعداء ونعرته في زمن التداعي والغثائية محقِّق للتخلُّف. وما دعاؤنا للتكتُّم والتكتُّل إلاّ من باب مراجعة الحساب، والتحرُّف لخطاب ملائم للمرحلة العصيبة التي تمرُّ بها أمّتنا العربية والإسلامية. وإذا لم نكن في معزل من أحداث منطقتنا العسكرية والفكرية، فإنّ من واجبنا أن نرتِّب أمورنا، بحيث لا نكون نشزاً في سياقنا العربي والعالمي. والتكتُّم والتكتُّل مرحلة (تكتيكية) وليست مقتضى (استراتيجياً) ذلك أنّ الاختلاف قضية أزلية، ولا حياة سوية بدون الاختلاف في وجهات النظر، وكيف يكون الوفاق وتصرُّف الإنسان محكوم بمفهومه ومعلومه، فهو رهين المحبسين: فهمه الأشياء، وخلفيته الثقافية. ونظراً لاختلاف المفاهيم توسّل العلماء والمفكِّرون بمنهج التأويل للخلاص من سُلطة النص القطعي. فالقارئ يدخل عوامل النص، وهو محكوم برؤيته ومفهومه وثقافته، وقد تستفحل عنده المذهبية والإعجاب بالرأي، بحيث تتحكَّم بإمكانياته، وتوجّهه صوب التبرير والتعذير. وحين لا نتوقع وئاماً نهائياً، لا تعقبه أعاصير الاختلاف، نتطلَّع إلى التفكير الجاد بالواقع، ومدى احتماله لمزيد من الصراع، ونود استصحاب حسن الظن، وعدم التشكيك في النوايا، والإبقاء على جسور التواصل، والجنوح إلى الإقناع والاستمالة، والمصير إلى التعادلية في احتمال الصواب والخطأ، إلاّ مع النص القطعي الثبوت والدلالة، وهو البرهان المخوّل للخروج على السُّلطة. إنّ المرحلة المُعاشة بحاجة ماسة إلى تهيئة الأنفس الأمَّارة القلقة للقبول بالتكتُّم والتكتُّل، ولو إلى حين، وبخاصة في زمن يكون فيه الاختلاف مطلب الأعداء، ويكون اختراق الأجواء، وانتهاك السيادة، والحيلولة دون تقرير المصير من ظواهر المرحلة المعقّدة، مرحلة القطب الواحد، والإرادة المدعومة بالقوّة، والتي لم يَعُد معها مجال للمراجعة، ولا للمساءلة. في هذه الأجواء يكون من واجب المستهدف الضعيف أن يتحوّل من (الاستراتيجية) الباذخة إلى (التكتيك) القنوع. وليس من الحصافة ولا من الرَّصانة أن يكون الخيار واحداً، والطريق واحداً يحمل الكافة عليه كما القطيع. والذين يرفعون أصواتهم فوق صوت الحكمة والتروِّي يتحوّلون إلى عدو وحزن. والتكتُّل الذي ننشده من العلماء والمفكِّرين والخطباء والكتّاب والمؤلِّفين، لا يمتد إلى إلغاء الذات، والتسليم للمخالف وتعطيل العقل ومنع الاجتهاد، وإنّما هو الخيار بين ضياع الكل، والإبقاء على القدر الممكن. والدول الأكثر تحضُّراً حين تبدو أمامها مؤشرات الانتهاك والاحتناك، تفكِّر في توحيد خطابها المؤدِّي إلى وحدة الصف والهدف، والعمل ضمن القواسم المشتركة، وتأجيل الملفّات الحساسة، ولا سيما إذا كان المصير مشتركاً، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم معلِّماً ناصحاً، حين ضرب المثل بالمستهمين على السفينة، وركّز على ضرورة الأخذ على يد المجازفين. إنّ التحسُّس عن الأوضاع وجسَّ النبض يعطيان مؤشرات مخيفة للمخيفين فضلاً عن الخائفين. والمصير إلى التكتُّم والتكتُّل هو الخيار الوحيد لمرحلة الرَّصد والترصُّد، يُقال ذلك بالنسبة للدول المتجاورة والمتجانسة، ويُقال مثله للأطياف داخل المنظومة السياسية الواحدة، إنّه خيار المرحلة، ومن لم يقوِّم المواقف، ويمارس النّقد الذاتي، غير هياب، ولا وجل، يكون كباسط كفّيه على الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه. والقول بالتكتُّم والتكتُّل لا يشرعن الركون والمداهنة، ولا يغري بالتخلِّي عن الثوابت، ولا التنكر لمحقِّقات الحضارة. والذين يصدعون برويتهم الحدية، ثم لا يستحضرون (فقه الواقع)، ولا يقيمون وزناً ل(فقه الأولويات)، ويجعلون مناطهم (فقه الأحكام) المعزول عن سياقه، يتجمّدون عند خطاب يعطي أحكاماً، ولا يرسم حلولاً، وتلك الطائفة فوّتت على نفسها تسامح الإسلام وانفتاحه، وأخذت بالحدِّية الصارمة، وفي المقابل فوّتت طائفة أخرى على نفسها ضوابط الإسلام بالتمييع لحدوده والتلميع لخصومه، وكلتا الطائفتين عمّقتا المراء حول بدهيات ونصوص حمالة، كما نص (لا يصلين أحدكم العصر إلاّ في بني قريظة) ومع أنّ حياة الأُمّة لا تستقر إلاّ على علم الفقه بكلِّ أنواعه: (الحكمي) و(الواقعي) و(الأولوي) فإنّ التفريط بشيء من ذلك مؤذن بتخلُّف مريع عن ركب الحضارة. والمراهنون على حتمية الاختلاف لا يضعون قيمة للقدر المسموح به، ولا يستحضرون الظروف غير الملائمة، ولا يتوفّرون على منهجه وآليته ولغته، ولا يحتملون المخالف، مع أنّ إبلاغ المشرك مأمنه مقتضى إسلامي. ولست أشك بأنّ الذين يعدُّون الاختلاف نوعاً من الرياضة الفكرية، والحضور الفاعل سيسخرون من مثل هذه الرؤى التوفيقية، بحجّة أنّ العصر لم يَعُد قابلاً لمزيد من التنازلات عن وجهات النظر، وأنّ القضايا لا يمكن أن تنضج إلاّ بتفرُّق وجهات النظر، وتبادل الاتهامات. ومع مشروعية بعض هذه الحيثيات فإنّ الوقت وإفرازاته لا يحتملان مزيداً من الفرقة ونشر الغسيل، ولا سيما أنّ طائفة من قضايا الاختلاف المثارة لا تشكِّل معوقاً لمسيرة الحياة السوية، وفق ظروفها المعاشة، وإمكانياتها المتاحة، وبالإمكان رفع ملفّاتها إلى حين. والدعوة إلى التهدئة في ظل قسوة الظروف أفضل من تصعيد الخلاف، وإذا كانت السُّلطة قادرة على إدارة دفّة الاختلاف، والتحكُّم فيه فإنّ تبادل الاتهام في النهاية رسائل حسّاسة، تقع في يد الخصوم، وملفّات ساخنة تفتح في ساعة العسرة، وبخاصة أنّ المستفيدين من اختلافنا لا يفتؤون يصدقون الاتهامات. ولو نظرنا إلى المشاهد المحدودة داخل المنظومة الواحدة، لوجدنا نبرة التنابز والتنافي متنامية، والصراع على أشدّه حول قضايا إن لم تكن وهميّة فإنّها هامشية، والمرجفون لا يتثبّتون، والمشيعون لا يبالون بأيِّ واد هلكت مصالح الأُمّة، والخطاب المناوئ يستفحل في ظلِّ الضعف والتفكُّك، حتى لا يدع فرصة تفوته، فهو دائب البحث في بؤر التوتُّر، ومغرم بفتح الملفّات الحسّاسة، وليس أدلّ على ذلك من استدعاء ملفّات (المناهج) و(الحقوق) و(الإصلاح) و(المجتمع المدني) بمفهومه الغربي إضافة إلى ملف مهترئ منذ مئات السنين، وهو (ملف المرأة)، والذين يصطرعون حول قضاياها هم الأكثر تمسُّكاً بما هو في نظر التحرُّريين مصادرة لحقوقها. إنّ استلال الوقوعات الخاصة من سياقاتها، والنّفخ فيها، تضخيم غير مبرر، وتمكين للأعداء من رقاب الأُمّة، ومواجهة الوقوعات والظواهر لا يستقيم أمرها إلاّ من خلال مؤسسات مسؤولة. إنّ استدعاء القرار في البيوت، وعدم التبرُّج والاختلاط، وهو قول ربَّاني، لا يعني حرمان المرأة من التعلُّم والعمل والتجارة. قد يبادر البعض إلى القول بأنّ الحراك الفكري لا تتجلّى مسائله إلاّ بالاختلاف، والحق أقول: إنّ الاختلاف غير الاتهام والاستعداء والتشكيك في المقاصد. والجدل الإيجابي لا يكون إلاّ بالتي هي أحسن، وفي ظروف مواتية لا تكون فيه الأُمّة مستهدفة في أمنها واستقرارها واقتصادها. وتماسك الجبهة الداخلية، وكونها ظهيراً للمؤسسات الفاعلة، مدعاة إلى حماية الأُمّة من الأعاصير الهوجاء التي تعصف من كلِّ جانب. فهل نقبل باستراحة المحارب، ونكتفي بالاشتغال في القواسم المشتركة، إلى حين انقشاع الغمّة، وعودة الحياة إلى وضعها الطبيعي. إنّنا بحاجة إلى حسن الظن، والتماس العذر للمخالف، حتى يتبيّن لنا عناده وإصراره على الحنث العظيم، وعندئذ نجنح لأهون الضررين. أحسب أنّ الحلَّ الأمثل يكمن في التكتُّم والتكتُّل. |
علو في الحياة وفي الممات..!
د. حسن بن فهد الهويمل شاهدت يوم الحشر يوم وفاته وعلمت منه مراتب الأقدار وكثرة المصلين والتابعين من المبشرات. فالناس شهود الله في أرضه، أوجب مدحهم، كما أوجب قدحهم. وكان الموعد يوم الجنائز، والسعيد السعيد من إذا غاب شخصه قام ذكره أكثر إشراقاً، وأنصع بياضاً. ونعم العبد أبو سليمان، إنه الحفي بجلائل الأعمال التي تموت بموته، وتحيا بحياته. لقد ودّع القصيم ابنه البار، الذي نذر نفسه وماله لوطنه ومواطنيه وقادته، وأي محمدة تسامي قول المعروف، والإحسان إلى الناس، والإصلاح بين الفرقاء، وكأني بكل تابع لنعشه يردد: (يا موت ما أبقيت لي أحداً). يقولها الأباعد السامعون بمآثره، والأقارب المنتفعون من فيوض إحسانه، وستبكيه كل الأطياف، وينتحب عليه كل ذوي الحاجات. فقراء فك غوائل الجوع عنهم، فأنساهم ويلاته. وأيتام زغب الحواصل، كفلهم فكان لهم كالآباء والأمهات، يمسح على رؤوسهم الحاسرة، ويملأ بطونهم الخاوية، ومساكين شد من أزرهم، حتى استقامت لهم الحياة، ومصابون جبر مصابهم، وبلسم جراحهم، حتى نسوا المعاناة. فكان الآسي والمواسي والمتوجع، ولا قيمة لحياة لا يكون فيها المقتدر بماله أو بجاهه المنعم المتفضل. لقد ترك برحيله فراغاً سيعيشه الموسرون قبل المعسرين، والأقوياء قبل الضعفاء، والمواطنون قبل المقيمين، ومن ذا الذي جمعت فيه خصال المؤمنين الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. وكيف لا يترك موته فراغاً، وهو السبّاق إلى مكارم الأخلاق. فجأ الموت أبا سليمان (صالح بن عبد الله السلمان) وهو يدير الأعمال، ويدبر الأموال التي سخرها لأهله وعشيرته، وأنفقها دون إسراف ولا تقتير. وموت الفجأة غنيمة للمؤمن، وحسرة على الكافر، وبموت مثله تموت سجايا حميدة. لقد كان كريماً لا تكدره الدلاء. ووفياً لا يند عن الوفاء. وصديقاً صدوقاً يتفقد الأصدقاء. ما خف قومه إلى مكرمة إلا كان في المقدمة. وما مُدّت الأيدي إلى المغانم إلا كان في المؤخرة. وما اثاقلوا عن مهمة إلا كان المستنهض للهمم. وما ترددوا في أمر إلا كان العازم المتوكل. أحبه الأمراء، والكبراء، والعامة، والدهماء، نسي نفسه في خدمتهم فذكروه في مجالسهم، وأشقى نفسه في حاجاتهم فأسعدوه بثنائهم. كان حاضراً في الجمعيات الخيرية، والجماعات العلمية، وأصدقاء المرضى، وسائر الأعمال الجماعية، يمدها بماله ووجاهته، وكان شاهداً في كل المهمات، يشد أزرها بالقول السديد والعمل الرشيد. يسعى في حاجة الأرملة واليتيم، ويطعم البائس الفقير لوجه الله، لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً. كل المحامد فيه سجية، تجري كما الريح الرخاء. كان مشرَّع الأبواب لذوي المآرب، تدار في بيته مصالح البلاد والعباد، ويمرح في مزارعه الرجال والركبان، يتزود من ألبانها القانع والمعتر. لا يمل من فعل الخير، وكأنه خلق ليكون كريماً، فهو يحسب الكرم خِلقة في الأيدي، كما الملحية التي (تحسب الدمع خِلقةً في المآقي). كان في مطلع حياته فقيراً، ذاق مرارة الفقر فلم ييأس. وكان في عنفوان كهولته غنياً، ذاق لذة النعيم، فلم يطغَ أن رآه استغنى. وكان مريضاَ تغمره الأجهزة الطبية يوم أن فاجأته النوبة الأولى فلم يجزع، وتلك خلال جمعها الله له، فكان الصابر في البأساء، والشاكر في الضراء. نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً. كان صديقاً عزيزاً، عرفته عن قرب، وصحبته في أسفاره ورحلاته، ووقفت على خصال لا يعرفها إلا رفقة السفر، وما سمي السفر سفراً إلا لأنه يسفر عن وجوه الرجال. لقد كان بما أنعم الله عليه جديراً بالتأمّر على رفقته، ولكنه كما الصحابي الذي يشترط في سفره أن يكون المؤذن والخادم، لقد كان طيبا في المعشر، نقي المخبر، دمث الخلق، صافي السريرة، يؤثر ولا يستأثر. ويوم أن فجأنا موته، كنا على موعد للرحيل إلى مشارف الرياض، لحضور احتفالية بعض أبناء بريدة بشفائه، إذ ما كنا متوقعين فراقه في زمن هو أحوج ما يكون إلى مثله في بذله السخي وأدائه الوفي. كان في السادسة من مساء يوم الأربعاء 21-3-1427هـ يهاتف أصحابه لترتيب الرحلة، وفي السادسة والنصف فاجأته النوبة القلبية الثانية، وفي السابعة والنصف كان في عداد الأموات، فهل من مدكر؟ رحم الله أبا سليمان رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجبر مصاب أهله وذويه وأصدقائه الذين كان لهم حبل الاعتصام، وليس من السهل أن تفارقنا، ولكننا بالتأبي كمن يغالب المستحيل. والنفس إن رضيت بذلك أو أبت منقادة بأزِمّة المقدار |
النقد الأدبي في المملكة: قضايا وإشكالات..!!
د. حسن بن فهد الهويمل لم أكن حفياً بالعودة إلى القواعد القديمة، وإن كنت مسكوناً ببقاياها: (وذو الشوق القديم وإن تعزَّى مشوق حين يلقى العاشقينا) وذو الشأن المتقصي لحراك المشاهد الإبداعي في الوطن العربي، يجده مستباحاً بالأدلجة العنيفة، والتسييس الأعنف، وتجريب التخريب. والنقاد المرابطون على ثغور الأدب الخالص، ألقوا أقلامهم، وانفضوا من حول الإبداع القولي، بحثاً عن مواقع مغرية، والذين لم يستجيبوا لمشاهد السياسة والفكر، قتَّلوا أبناء النقد، واستحيوا نساء الثقافة، وخصَوا ذكورية اللغة، وتلقوا ركبان المستجدات. ولأن مشاهدنا لا تقول إلا معاداً أو معاراً، فإنها تهيئ نفسها لاستقبال (النقد المعرفي) أو ما يسمى ب(اللغويات المعرفية)، وهو لون من المناهج النقدية، التي تتقصى معارف النص. وإذ لم نصبر على طعام واحد، كانت كل المذاهب حِلاًّ لبني يعرب. والمؤرخون للحركة النقدية، يكادون يتفقون على مرحلة الريادة ومنطلقها ورموزها وسماتها واهتماماتها، فلقد أجمعوا أو كادوا على انطلاق الريادة من (الحجاز) قبل ثمانية عقود أو تزيد على يد (محمد سرور الصبان) وقد أخذت وضعها الطبيعي بعد التواصل مع الحركات النقدية في مصر والشام والعراق، ولربما كان صراع المدرستين: (الديوان) و(أبوللو) في الثلاثينيات من القرن العشرين المثيرّ الأقوى لحركة التأسيس النقدي على يد المنهجيين. وفي مقدمتهم (عبدُالله عبدالجبار)، والمجددين وعلى رأسهم (محمد حسن عواد)، والمؤرخين ومنهم (الساسي) و(بن إدريس)، والدارسين المفسرين ك(الشامخ)، والانطباعيين ك(أبي مدين) و(الفلالي) وآخرين واكبوا تلك الأجيال، أو جاءوا من بعدهم، وبخاصة الأكاديميين، وأبرزهم (أبو داهش) و(ابن حسين) و(باقازي) و(الرشيد) و(الفوزان) و(الحامد) و(الحارثي)، أما في العقدين الأخيرين فقد انطلقت الحركة النقدية في كل الاتجاهات، وتعالقت مع كل المستجدات، حتى لا تجد ناقدين على قلب رجل واحد. ومثلما مرت الحركات النقدية في الوطن العربي بتحولات متلاحقة، تعرضت الحركة النقدية في المملكة لذات التحول، والفرق في (الوعي) و(التأصيل) و(الاستبانة) و(القدرة على الفهم الدقيق) و(التحكم القوي). لقد تنوعت الاهتمامات، وتعددت المعارك، واختلفت السمات، فمن نقد أكاديمي تمثل بالمحاضرات والأطروحات، إلى نقد صحفي تجسد بالتطبيق والتنظير، واتسم بالانتقائية والفئوية، إلى نقد معياري استمد لحمته من مناهج الدراسات اللغوية في الغرب، ك(البنيوية) و(التقويضية) و(التحويلية) وعُرفت من بعد (النصوصيةُ) و(الألسنيةُ) و(النقدُ اللغوي)، وهي مناهج تعلي من شأن اللغة، وتُفضلها على سائر الأشكال والفنون والمعاني. وواكب تلك التيارات اتجاهات موضوعية وأخلاقية وفنية، ولم يخل أي تيار من مؤصلين ومقلدين وأدعياء فارغين. وجاء الحداثويون يخلطون الفن بالفكر، ويأخذون هذا الأدنى، غير مهتمين بضابط أو شرط، وغيرَ عابئين بالخصوصية الفكرية أو الأخلاقية، وحجتهم الواهية حقهم في حرية التعبير. وأعجب العجب أن طائفة من مدعي الحداثة يجهلون مقتضاها، ومن ثم لا يتجاوزون التجديد، وواجب المنصف التحري قبل الحكم. ولما كان النقد رديفاً للإبداع فقد استحوذ عليه سلطان الشعر ردحاً من الزمن، حتى عاد المبتعثون للدراسات العليا إلى أروقة الجامعات ومشاهد النقد، يحملون هموما وأفكارا، ومناهج وآليات جديدة، فكان أن ظهر (النقد السردي) على يد مؤسسة (منصور الحازمي) بعد رائدية (العواد) و(ضياء)، ولما يزل هذا اللون من النقد دون المؤمل، ذلك أن السرديات تحيل إلى مفاهيم الغرب ومناهجه، وهي لما تكن حاضرة المتداولين، إذ لم يكن التواصل كافياً لتجهيز أرضية معرفية صلبة. والإشكالية الأكبر تتمثل في طغيان التأريخ والتنظير على التطبيق، وفي اشتغال المشهد بآليات ومناهج لا يتقنها المرسل ولا يفهمها المتلقي. والمشهد النقدي وسع أشتاتا متفاوتين في اتجاهاتهم وقدراتهم، فلو قرأنا مثلاً للنقاد (الحازميين) و(الغذامي) و(البازعي) و(العباس) و(القرشيين) و(الزهراني) و(البواردي) و(القحطانيين) و(الفيفي) و(زياد) و(الحامد) و(أبو داهش) و(الرميح) و(الحارثي) و(الشامخ) و(الخطراوي) و(السبيل) و(ابن تنباك) و(الرشيد) و(السريحي) و(المعيقل) و(النعمي) و(المعطاني) و(الطامي) و(الزيد) و(الفيصل) و(عريف) و(بدوي) و(بافقيه) و(باقازي) وآخرين يراوحون بين القديم والجديد، ويتوسلون بمختلف المناهج والآليات لوجدنا المشهد يعج بألوان الطيف، وذلك مؤشر تعالق ممعن في الاندفاع، أو تخلٍّ مسرف في الانقطاع، والبعض يحمل ذلك التباين الشديد على التنوع الحميد. ولما لم نكن بصدد التقصي والتقويم فإننا نكتفي بالإشارة إلى الظواهر، وندع القارئ يحدد موقفه على ضوء ما يسمع ويرى. وقولي في تصور المشهد النقدي قابل للأخذ والرد، فما كنت قاطعاً أمراً دون استشعار الرؤى والتصورات الأخرى، فالقضايا والإشكاليات تختلف من دارس لآخر، والمهم أن يكون الدارس على علم بواقع الحركة النقدية: محلياً وعربياً. وإشكالية الحركة النقدية في المملكة أنها كما الشعوب والقبائل التي لا تريد أن تتعارف، ولا أن تعاون، وكأني بالمتعقب للأصوات المختلطة يرى أن كل تعدد ثراء، وما هو على إطلاقه، إذ التوفيق غير التلفيق، والصوت غير الصدى. ولكيلا تتفلت الأمور في التوسع بالرخص، وتتبلد الحواس في الشرعنة لكل خطاب فإن على رعاة الحركة النقدية أن يغاروا على حماهم، وأن يفعلوا شرطهم، وأن يمتازوا عما سواهم، وأن يحرروا مسائلهم، وأن يؤصلوا معارفهم. وهذه الاحتراسات لا تمنع من التجريب والتهذيب، فنحن أبناء راهننا، ولسنا أسارى تاريخنا، والناس شركاء في المنجز الإنساني، ما لم يكن عندنا برهان بمنعه. وإشكالات النقد متعددة ومتنامية، فهي: إما ناتج علاقات مع قيم تتقاطع معه، ولا تكون إياه، أو هي ناتج اضطراب في المفاهيم، أو عجز في الإمكانيات. وليس من السهل تقصيها، إذ ربما تكون لكل ناقد أو عصر أو ظاهرة إشكالياتها الخاصة. ولنضرب مثلاً بعلاقة اللغة بالنص على سنن التفريق بين (اللغة) و(الكلام)، وما جد من مناهج لغوية، ونصوص إبداعية بكل مستوياتها، وتداخلاتها، وتشعباتها، واتجاهاتها ومناهجها. ولو نظرنا إلى مشاهدنا خاصة، لوجدنا مكمن الخلل في الضابط والشرط والمفهوم، إذ كل مشتغل في النقد يشرعن لنفسه الوصاية المطلقة، ولا يتحرج من النفي والتجهيل لكل من يراجع أو يتساءل. وقد يستهوي خطابه المبتدئين والمتعالمين، وبخاصة المتنفذين إعلاميا، بحيث يكونون له ردءا، يقولون بقوله، ويقلبونه ذات اليمين وذات الشمال على صفحات الصحف. ولما لم نكن ضد الضابط والشرط والمحظور والمباح فإننا ضد الأثرة والتمييع، ومتى رضي المختصمون في المشهد النقدي بمرجعية تفض الاشتباك، وتحسم الخلاف، وتجمع الشتات، فإن شِرَّة الإشكاليات ستخف شيئاً ما. ولسنا هنا ضد التعدد والاختلاف، ولكننا ضد الفوضوية باسم التعدد، وضد المراء باسم الاختلاف. ومتى بلغ الناقد بموهبته ومعرفته ودربته حد الأهلية فإن من حقه أن يبادر المهمات، وأن يبحث عن الحق، وألا يلتفت إلى المخذلين غير أولي المعرفة. وإشكالية المشهد أن المتسيدين ليسوا على شيء حتى يقيموا أوده، فهم لا ينطلقون من قاعدة معرفية ولا يحتكمون إلى ضابط، ولا يقبلون بمرجعية، وأي حضارة مؤهلة للنفاذ إلى ميادين اللزز، لا تقوى إلا بالمرجعية المطاعة، والضابط القائم، والسمة المميزة، والتناجي بالمعارف العميقة الشاملة. وما عهدنا تمثل حضارة المهيمن، أو التماهي معها بين سائر الحضارات طريقاً للوجود الكريم. كما لم نعهد التركيز على التمايز، والتأكيد على الهوية، والحرص على الانتماء حائلة دون التزود من مستجدات العصر. وكيف نتوقع الاعتزال، والحضارات يرث بعضها بعضا، ويستفيد بعضها من بعض، وليس هناك حضارةٌ خالصةٌ من المؤثرات، ولا غنيةٌ عن الاقتراض، والإشكالية في ضبط التواصل وإتقان التفاعل. ورأسُ الإشكاليات اضطراب التصورات حول مفهوم النقد وأنواعه، ووظائفه، ومقوماته، وثقافة الناقد، ومشروعية التنوع، وتعدد الاتجاهات. والحركة النقدية في المملكة ليست بدعاً في سياق الحركات النقدية كافة، إذ لكل حركة قضاياها وإشكالياتها وناسها العارفون وغوغاؤها المخذِّلون. وثمة إشكاليات إجرائية كاختلاط الموضوعي بالشخصي، وإصرار البعض على تضعيف المخالف، والتقليل من شأنه، ووصفه بالماضوية والمحافظة، وكأن استصحاب التراث وتفعيله عقبةٌ في طريق التجديد، والصراع بين القديم والحديث من الظواهر الحميدة، ولكن الحيدة به عن الموضوعية، وقيامَه على مصادرة الحق، وتصفية المخالف، حولته عن مساره الإيجابي. وتلك شنشنة المتحدثين الذين يظنون أنهم أهل النقد وخاصته، وإذ يلحُّون على اتهام الخصوم بالتقليد، فإنهم ينسون أنهم مقلدون للغرب باسم التفاعل المشروع. ودعاة التجديد النافون للحداثوية والاستغراب لا يسلمون لمن يتهمُهم بالتقليد ورفضِ التجديد، وهذا الصراع وإن جار بعض أطرافه، لا يخلو من إيجابيات، لأن فيه تحفيزاً للتزود من المعارف. وتعميق الإشكاليات يتبدى في الإطلاقات المعممة، فالحداثويون ليسوا سواء في إمكانياتهم ومقترفاتهم، كما أن المجددين والمحافظة ليسوا سواء في تجديدهم أو في محافظتهم، وإذ لا تزر وازرة وزر أخرى، فإن ترشيد النقد يقوم على التثبت والتحديد، وتحامي الأحكام المطلقة، وما أضر بالمشهد النقدي إلا تعميم الأحكام، والتصنيفُ غيرُ المنصف، وتزكيةُ النفس، وإدانةُ الخصم دون سماع حجته، تلك طائفة من الإشكاليات، والخطوة الأولى في الحل السليم معرفة الذات، وتقويمُ المنجز، واستبانةُ الخلل، وتداركُه. والحديث عن القضايا كما الحديث عن الإشكاليات، حديث متشعب، وقضايا النقد العربي تكاد تكون متجانسة، فهي إما: لغوية خالصة، أو موضوعية خالصة، أو فنية خالصة، أو هي خليط من ذلك كله. ولعل المناهج اللغوية الحديثة عمقت الخلاف، وعددت القضايا، وبخاصة مفهوم (النص) و(التناص) و(التفكيك). والمتعقب للقضايا يجد أنها تراوح بين الإلحاح والعفوية، فقد تخطر على بال الناقد، وقد يعمد إليها، كما لو كانت إشكالية قائمة، وأهم القضايا تقوم على المفاهيم والوظائف، وقضايا الشكل والمضمون، ومناهج النقد: كالمعرفي المتشعب، و(الأيديولوجي) المتعصب، والفني الخالص، واللغوي المعياري. ومجمل القول إن قضايا النقد العربي كافة لا تكاد تختلف، ولكن الاختلاف في القدرة على الاستكناه والتفصيل والتأصيل. إن هناك مؤرخين، ودارسين، ونقادا، وأكاديميين منهجيين، وعلماء معياريين، وهواة انطباعيين، وأشياعا، وأتباعا ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك، وكل فئة تدعي أنها أهل النقد وخاصته، وأن غيرها أدعياء متطفلون. والمتلقي المحايد كما الفتى العربي في (شعب بوان) غريب الوجه واليد واللسان. والحركة النقدية اعتورها مؤرخون لا يعنيهم من شأن النقد إلا الإجابة على التساؤلات التقليدية: أين؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومن؟ وهذا الصنف راصد للحدث، وليس مقوماً له، ودراستي لحركة النقد الأدبي في كتابي المخطوط (مداخل لدراسة الأدب العربي في المملكة العربية السعودية) جاءت قريبة من هذا النوع، ولقد شاطرت في هذا المنهج الدكاترة (محمد الشنطي) و(عبدالله الحامد) و(إبراهيم الفوزان) ولفيفاً من الأكاديميين الذين عنوا بهذا الاتجاه. كما كتب عن الحركة النقدية نقادُ النقد، وهم قلة، وجاءت دراستي (النقد الثقافي: البديل أو الرديف) المنشورة في جريدة (الجزيرة) على مدى خمس عشرة حلقة من هذا النوع، وهذا اللون من الدراسات لا يخلو من الانحياز السلبي، والنوازع المذهبية، وحدة النبرة؛ فالعواطف لا تدع القلم ينقب في عوالم الآخرين، دون ميل يدع بعض القضايا كالمعلقة، أما النقد التطبيقي فقد سلك طريقه عدد لا حصر له، منهم من أنشأ كتباً عن مبدعين أو عن قضايا، ومنهم من كتب دراسات نقدية ثم جمعها في كتاب. ولقد كانت دراستي (النقد البنيوي للإبداع الروائي) المنشورة في ملحق (المدينة) على مدى خمس وثلاثين حلقة من هذا النوع، ومن خلال تلك الأعمال تبدت القضايا والإشكاليات، ولن نشير إلى أحد من المؤرخين والدارسين والنقاد، فالمتابع للحركة يعرفهم بسيماهم، وإذا سمحت لنفسي مؤاخذة هذه الألوان من الدراسات فإنني مصاب بدخنها، (وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء). والحديث عن القضايا والإشكاليات يستدعي نقاداً اقتسموا مراحل الحركة النقدية، وتنازعتهم المذاهب والظواهر والتيارات، وكان لهذا التنازع أثره الإيجابي، والمؤرخون للحركة النقدية يختلفون في رصد هذه الظواهر، فمنهم من يقسمها إلى ثلاث مراحل: مرحلة الريادة، ويأتي على رأسها (الصبان)، ومرحلة التأسيس ويأتي على رأسها (عبدالله عبدالجبار)، ومرحلة الانطلاق، وهي خليط من كتاب ونقاد شتى، لا نستطيع أن نحصيهم عدداً، ولا أن نحدد اتجاهاتهم ونوازعهم ومستوياتهم، وتلك المرحلة مع ما هي عليه من تجاوزات تمثل الوجه المشرق للحركة النقدية، ومن محامدها تجسير الفجوات بين النقد في المملكة وسائر المشاهد النقدية العربية، ومهما تحفظنا على بعض التجاوزات فإن المشهد النقدي ينطوي على إيجابيات لا ينكرها إلا مغالط، وستظل القضايا والإشكاليات وأسلوب تداولها مثار جدل عنيف واختلاف لا يرجى حسمه، ومن الخير للمشهد أن يظل عامرا بالجدل المعرفي. |
من الكتبَة الجوف إلى المشهد اليباب..! (1-2)
بقلم :د.حسن بن فهد الهويمل الراصد الممتلئ بهم أمته، المسكون بقضاياها المستباحة، يبصر ويسمع كافة المشاهد: الفكرية والسياسية والأدبية، - وهي مليئة كما الفلك المشحون - بالقول الهزل والعراك الرخيص. ويكاد يعض على جذع شجرة هروباً من الخائضين في ثوابت الأمة. والمستمع الشهيد يصده عن المتابعة تكاثر المتدافعين إلى بؤر التوتر، ممن تحكمهم شهوة الكلام، ويقعد بهم داء الشهرة، ويعميهم غَمْط الحق، ويصمُّهم تأليه الهوى. ويأسى على ما يثيرون من آراء مرتجلة، تمس الثوابت، وتنقض عرى الإسلام، وتفرق ما اجتمع من صف أو توحد من هدف. ويزعجه ما يعبِّرون عنه من تصورات مضطربة. ويريبه ما يدوكون به ليلهم من نجوى آثمة، نهوا عنها، ولم ينتهوا. وسواء في ذلك الغلاة في الدين، والمفرطون في جنب الله. والمتحسس عن مبلغ الطرفين من الأشياء، يجدها غاية في الضحالة والتسطح. وما أدري في تلك الأجواء الملوثة، ماذا يراد بهذه الأمة؟ وإني لأرجو أن يريد الله بها رشداً. فقد تكون صحة الأبدان في العلل، ورب ضارة نافعة، والحب والكره لا يحققان واقع الأشياء، فكم من كاره لشيء، وفيه خير كثير، ونحن لا نعلم الغيب، ولو علمناه لاستكثرنا من الخير. وما نقوله عزمات صدق، لا تنجو من الزلل، وشفيعنا اجتهاد نبذل فيه الوسع، ونمحض فيه النصح. وما نفتأ نُكره النفسَ على التفاؤل، وحسن الظن، والتماس المبررات، والقول عن المخطئ: لعله جهل أو لعله تأول، وإن بلغ السيل الزبى، وهم بمصالح الأمة من لا يدفع عن نفسه. والمتهافتون على القول ونقيضه لم يدعوا فسحة لمعذِّر ولا حجة لمبرر ولا مجالاً لمجادل، {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} «النساء: 109». واشتغال الكتبة الجوف في المسكوت عنه، والنبش في الموبقات، لم يكن أمراً عارضاً، ولا مروراً كريماً، إنها شنشنات أخزمية. وليس صحيحاً ما يشاع عن تمسك الماضويين بتحريم الحديث عن الدين والسياسة والمرأة وملحقاتها. وكم من مفتريات تشاع للتضليل أو للتخدير، وإشاعة هذا الإفك تهيئة للأذهان، وترويضٌ للجماح، وتمكين من التعايش مع المشككين والمخذلين والمستغربين. ولست متفائلا بمآلات هذه اللجاجة التي تغذيها أقلام غضة، وأفكار ضحلة، ونظرات قصيرة، وخصام غير مبين. والمتابع المعني لا يستطيع أن يؤسس على هذه الأقاويل ونواقضها، في زمن اختلطت فيه الأوراق، وتساوت فيه الرؤوس، وتطاول فيه (مادر) على (حاتم)، و(باقل) على (قس)، وفي هذه الغمة لن نكون متشائمين، لنقول ما قال (المعري): - (فيا موُتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذَميمَةٌ) ولكننا - وقد هزل الدهر - نطلب من النفس أن تجدّ، وأن تكون لوَّامة لا أمارة بالسوء. والمشاهد الموبوءة بالمتناقضات الممتلئة بالكلم الرديء، لا بد فيها من الوعي التام، والتوقيت الدقيق، والتقدير المناسب، وأخذ الحذر، والأخذ على يد الفارغين الذين لا يراعون مقتضيات الأحوال، فمن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً، ويباشر الفعل الرشيد قبل أن تفيض المشاهد بالغثاء والغثيان والفوضى، وأن يذر قرن (برودون) رائد (الفوضوية)، ويبدو وجه (سارتر) الباسر، رائد (الوجودية) فتظن وجوه المغلوبين على أمرهم أن يفعل بها فاقرة. وذلك الواقع العربي المدان بكل المقاييس يمتد دخنه إلى كل الأجواء المجاورة، وتلك أجواؤنا مصابة بعوارضه وأعراضه، إذ لا مجال للاعتزال، وعندئذ لا بد من التحرف لمواجهة متكافئة. ومن المغالطات المربكة القول بأن هذه الإثارات المستفزة، وانفلات الأقلام من أفلاكها مخاض تحولات ومتغيرات طبيعية، إنه قول زائف، يروَّض فيه النفور، وتهدَّأ فيه الأعصاب، وبخاصة حين يعوِّلُ المتابعون على الوعود الزائفة والأماني الكاذبة، مما يتبادله أدعياء (التنوير) بين يدي نجواهم. والعلل المستبطنة أن المتلقين لفيُوض الأفكار والمصطلحات، ما تقدم منها وما تأخر، لا يعرفون جذورها ولا محققاتها، ولا يراعون مدى تقبل حضارتهم لها، واتساعها لمقتضيات تلك المصطلحات التي ألْهتنا عن كل مبادرة. وهذا القبول والترويج دليل خواء فكري، وفراغ معرفي، وتبعية معتقة، وقابلية للخنوع. وإلا كيف تعدو عيوننا عما في تراثنا من مصطلحات في الفكر السياسي الإسلامي، تغني عن استجداء الآخر؟ إن لدينا فكراً سياسياً لو تلقيناه باليمين، وأخذناه بحقه، وفعّلناه وفق مقتضاه، وخضعنا له، ولم نخضعه لأهوائنا، وعملنا من خلاله، ولم نستعمله لتبرير مقترفاتنا، لما كنا كما نحن، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ومنذ اندلاق أقتاب الغرب في مشاهدنا ونحن نحذر مما تعنيه مصطلحات (التنوير) و(الحداثة) و(الليبرالية) وسائر المصطلحات الغربية القائم منها والحصيد، ونبين عن مدى مخالفتها لمقتضيات حضارة الانتماء، ونردد القول بأن تحفظنا لن يحول دون الاستفادة منها والتفاعل معها، ولقد أكَّدنا على التفريق بين الوسائل والمبادئ، فمصطلح ك(الديموقراطية) ينطوي على الوسائل والمبادئ، فوسائله وبعض مبادئه حق، والحق ضالة المؤمن. ومكمن الخلل في الطائفتين: طائفة الرافضين للمصطلح على الإطلاق، والمتلقين له على الإطلاق. وما أضر بالأمة إلا تلك الإطلاقات المعممة. والقبول بالمصطلحات دون تحديد وقوع في المحذور، غير أن تحذيرنا صرخة في واد، لا تؤوِّب معه إلا الجبال. وتلقي المستجد لا بد أن يكون محكوماً بضوابط الإسلام، وما أحد من المتداولين لشيء من مستجدات الغرب فصَّل القول، وحدد المواقف، وطمأن الموجسين خيفة. وحرية التعبير والممارسة والتلقي في الإسلام ليست كما هي عند (الليبرالية) أو (الديموقراطية) ولهذا لا بد من الاحتراس عند التداول لهذه المصطلحات. والحرية التي يتغنى بها كل مفكر، ويدعيها كل مسيطر، تمثل إشكالية عصية الحل. لقد اعتورتها سهام المفكرين منذ العصور اليونانية حتى اليوم، ومازادوها إلا غموضاً وتعقيداً. وليست إشكاليتها واحدة، ولو كانت واحدة لأمكن اتقاؤها، ولكنها إشكاليات تتعد بتعدد الأزمنة والأمكنة والمفكرين: فهناك حرية الاعتقاد، كما يراها أهل الملل والنحل، وهناك حرية الفكر على إطلاقه، وهناك علاقة الحرية بالسلطة، وهي علاقة قول وفعل، وهناك حرية الرأي، وهناك تعددية المفاهيم بتعدد الحضارات والملل والنحل وتحولاتها في الأزمنة والأمكنة، وهناك إشكالية الحرية بين الحدِّ والمطلق، وهناك حرية الفنان والمبدع القولي بوصفها تختلف عن حدود غيرها، وهناك علاقة الحرية بالمقدس، وهناك حقوق الشعب، وحقوق الفرد وحقوق النوع كالمرأة والملونين وطبقات العمال. لقد عالجها الدكتور (زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الحرية) بوصفها جزءاً من الفلسفة، بحيث تناولها بين الإثبات والنفي، ومعنى الضرورة، وضروب الحتميات، وحرية الإرادة، وإرادة الحرية، والحرية والوجود الإنساني، والاختلاف بين الحرية والتحرر. وفي النهاية أكد على استحالة حل مشكلتها حلاً عقلياً على الأقل، وما من متوسل بالحرية حرر مسائلها، وحدد منطلقاته منها، وسنعود إلى مشكلة الحرية، عند مسح المراجع ونضوج الفكرة. وأدعياء (التنوير) الذين يخادعون بمراوغة المصطلح، ينقمون على الماضويين الأخذ بالضوابط الحائلة دون استشراف المستقبل وتقبل المستجد، ويمارسون ردود الأفعال المفعمة بالانفعال، ويتعاملون مع مفردات حضارتهم تعامل التنويريين في الغرب مع مفردات حضارتهم. ونقد المعرفة ونظرياتها بمنهج (راديكالي)، واقتراف الاختزال لشموخ الحضارة تفويت لحق الأمة في السياق التاريخي. ومن الخطورة بمكان تقمص المناهج والآليات والمواقف دون استبانة أو تثبت. وما علينا إذا أردنا وضع الفارغين أمام أنفسهم، إلا أن نسأل عن (التنوير) في مفهومه الغربي، بوصفه مجلوباً بدون فهم، وبدون تعديل. و(التنوير) بهذا المفهوم وأسلوب الأداء من خلاله ليس بنافع لأمة ليست لها الخيرة في الرد عند التنازع إلى الله والرسول، فهي أمة محكومة بالنص التشريعي، وفسحتها في احتمال الدلالة والتأويل ومآلات الاجتهاد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} «النساء: 59». وإذا قبلنا الاختلاف في مقتضى النص وتأويله وفسح السياق فإن القبول بمخالفة القطعي الدلالة والثبوت أمر مستحيل لأن ذلك وقوع في نواقض الإيمان، والمتلقي للنص أمام برهان قطعي لا اجتهاد معه، أو دليل احتمالي يتحتم معه الاجتهاد، والكتبة الجوف يخلطون بين النصين دون وعي ب(نظرية المعرفة)، فمن لي بمن يلوي لسانه بالكذب، ليرده إلى جادة الصواب، ويعلمه أن للاجتهاد مجالات وإمكانيات وشروطاً، وليس مباحاً لكل من أجرى قلمه وأطلق لسانه. والمصطلحات ليست مجتثة من فوق الأرض، فالرصد التاريخي والتفكيك المفهومي يعود بجذور كل مصطلح إلى حواضنه، ومصطلح (التنوير) - على سبيل المثال - يعود إلى مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، وهو عصر ظلمة وضياع وتخلف، يحتم التفكير بالتغيير، وتحرير العقل من هيمنة النص المزور، وأول من طرحه (الأب ميسلي) الذي يقول: - (بأن نور العقل الطبيعي هو وحده الكفيل بأن يقود الناس إلى الحكمة والكمال العقلي)، ونور العقل من خلال المنظور الإسلامي مستمد من نور الله، الذي هو نور السماوات والأرض، وليس هو بالنور الشرقي أو الغربي، كما يراه تنويريو عصر الظلمة، ولا الذي سايره الفارغون في عصر الخواء واليباب والتبعية العمياء. وبمراجعة الفصل الثاني من كتاب (الإلحاد في الغرب)يتعرى الأدعياء الجوف، فالحراك الغربي يمثل الانقطاع، وما الخطاب المستغرِب إلا صدى له، ولوضوح الرؤية نُحيل إلى كتاب (مقدمة في علم الاستغراب)، وكتاب (من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب) ففيهما يتعرى التهافت وينكشف العوار. ومن بعد (ميسلي) قال (كانت): - (إن التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو بسبب عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر) فالتنوير الذي يعوِّل عليه الكتبة الجوف، يعني الخلوص من هيمنة الوصاية الماضوية بكل أشكالها ومرجعياتها، والتعويل على العقل كما يراه (كانط) أو كما يُنظِّر له (الجابري). والعقل مناط التكليف، ولكنه مؤطر بفضاء النص. ولقد كانت مقولة بعض المتعالقين مع الغرب في محققات (التنوير) صريحة، بحيث لا يتحقق إلا بالخلوص من المرجعية الماضوية، وبخاصة الشرعية منها. وإذا قُبل هذا الإطلاق في الفكر الغربي، فإن الفكر الإسلامي يخفق بجناحي (العقل) و(النص)، والكتبة الجوف لا يدرون ما المرجعية في المفهوم الغربي، وما هي في المفهوم الإسلامي، وتلك قاصمة القواصم. والتاريخ الفكري والسياسي الحديث ينطوي على محطات متوترة، مرت كما سحائب الصيف. غير أن الواقع المعاش مختلف جداً عما سبق، فليس التسطح على القضايا، كالتثوير والتبئير، وليس العلماء الضالون عن علم كالأدعياء المتعالقين عن بلاهة. إن أصحاب الهموم، وأرباب القضايا، وأساطين المواقف، يمتلكون المناهج والآليات، ويستدعون أصول المذاهب وقواعدها، أما المغثون فكالصدى. والمتسطحون على حراك المشاهد المخادعون بالتشبع، المضلون بلوي الألسنة بالمصطلحات الغربية، المحيلون كل الخطيئات على خطاب التجديد الديني، لا يعرفون ما هي عليه، ولا يجوِّدون رؤيتهم بالضوابط والتحفظات. |
الساعة الآن +4: 01:57 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.