![]() |
أيها النخبويون إنكم لمسروقون..!
د. حسن بن فهد الهويمل كلما جمعت اللقاءات والمهرجانات المفكرين، والأدباء، والأكاديميين، في أبهاء الفنادق، أو في «ردهات» المؤسسات، بعد جد العمل، وضوابط المجاملات، وحدود المسؤوليات، اندلقت فيما بينهم أقتاب المشاكل، وشكا بعضهم إلى بعض ما يتعرضون له من نهب متعمد لجهودهم الفكرية، ونزف مسرف لمعارفهم، وما من أحد منهم إلا يشكو تعديات المؤسسات العلمية والإعلامية على حقوقه وأثمان جهده، فكل شيء عند غيرهم، ومن غيرهم بثمن ناجز، لا يتبعه منٌّ ولا أذى، أما أشياؤهم فهي مبذولة كما الأوقاف المعرّفة: ب«تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة». ولو أن أحدهم سأل أبخس الأثمان لجهده، لقيل عنه: وصولي مرتزق. وإذا كانت أقدام الرياضيين توزن بالذهب، فلا أقل من أن توزن أدمغة المفكرين بالفضة، وذلك أضعف الإيمان. ولما لم أكن متعرضاً لكل هذا النزيف المجاني، الذي تشكو منه الأغلبية، ولا ممن يقتات من قلمه، وتلك من النعم التي يمن الله بها على من يشاء من عباده، وليس عيباً أن يكون القوت من شباة القلم، ولكن من النعمة ألا يكون، فإن من واجبي والحالة تلك أن أعرض على المستنزفين لطاقات الكفاءات الفكرية ما يعانيه البعض منهم من مصادرات لوقتهم وجهدهم، وأخص منهم المقتاتين لا المتكسبين، إذ يُدْعَوْن للحضور أو للمحاضرات، وكأن الداعي منعم متفضل، يدل بدعوته، فيأتون رجالاً وركباناً بُجْر الحقائب، يسعون بجهودهم التي ترمدت عيونهم في سبيل التنقيب عنها في بطون الكتب، وحفيت أقلامهم في مطاردة شوارد الأفكار ونوادر المعارف التي عقلوها، وأنهكت أدمغتهم من أجل الظفر بأحدث ما توصلت إليه الإنسانية وما شُغلت به من قضايا وظواهر في مختلف المجالات، فإذا عرضوا أنفسهم بالقول، وعرَّضوها للمساءلة، عادوا خفافاً عيابهم، ونصيبهم في الأعمال الأكاديمية من إشراف ومناقشة وتحكيم دون ما يبذلون من جهد ووقت. يُستكتبون في الأفراح والأتراح وسائر المناسبات، والويل لهم إن لم يرتجلوا آراءهم عبر الهاتف أو يبعثوا بها عبر الناسوخ. وتُستطلع آراؤهم فيما يريدون وما لا يريدون، وفيما يفقهون، وما لا يفقهون. ويستدرجون إلى حوارات غير متكافئة، تتحول إلى مناكفات مخلة بالأخلاق، وقد يُصعدها الخليون إلى معارك مسفة، تلجئهم إلى طي الكشح، والنجاة بما بقي من سمعتهم. ودعك من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الذين تتخطفهم عضويات المجالس، وتنهكهم البحوث والرسائل: إشرافاً ومناقشة وتحكيماً، وترهقهم القاعات: تدريساً وامتحاناً. وتأتي الطامة الكبرى على هؤلاء وأولئك حين يقترفون خطيئة التأليف، حتى إذا لم يجدوا ناشراً، غامروا بطباعتها على حسابهم، ثم تكون عليهم «ندامة كسعية»، وقد تضطر أحدهم الظروف إلى طرق أبواب المشترين تشجيعاً، فلا يجد من يأسوه، أو يواسيه، أو يتوجع. وحين يبحث عن مسوِّق، يخلصه من ركامها المؤذي له، والمضايق لأهله، يطلب منه المسوِّق دفع مبلغ من المال لدعم عملية التسويق، إلى جانب الكتب المسوَّقة، وساعتها لا يجد بداً من أن يُتْبع نفقة الطبع دعماً للتسويق، وقد تعاد إليه الكتب بعد أمة، ولا يعاد معها دعم التسويق، بحجة إنفاقها للنقل أو للأرضية، ويعلَّق المبيعُ إلى التصفية التي لن تتم، فيكون كمن عاد «بخفي حنين». وتزيد المرارة حين يرى المخفين من المعلومات والأفكار، وقد طارت بأعمالهم خفتها، فحصدوا المال والشهرة. والصحف التي تستنزف جهد من أدركتهم «حرفة الأدب»، لا تنظر إلى أكثرهم ليلة القبض على الأرباح، واقتسام المغانم، وقد يكون المسكين ممن حضر القسمة، ومن حضرها من أولي القربى واليتامى والمساكين فواجب المقتسمين أن يرزقوهم منها، وإن لم يفعلوا فإن قسمتهم ضيزى، وليس الاقتسام إرثاً فرضه الله، لنقبل بنسخ الارزاق بحديث «لا وصية لوارث». و «حرفة الأدب» آتية من دسِّ الأديب نفسه بين كتب ضيَّق ثمنُها قوتَ معوليه، وضيقت كثرتها عليهم سكنهم، فيما انطلق غيره، كما الطير، تغدو خماصاً وتعود بطاناً. لقد كنا عند فورة الشباب، وطوفان المثاليات، والتهالك على الأضواء، وفي زمن صحافة الأفراد المتطوعين بجهدهم ومالهم ووقتهم، نتندر، ونسخر من طلاب العوض على ما يكتبون، وحين قيل عن أحد المفكرين بأنه طلب التعويض عن مقابلة أجريت معه، ثارت الأقلام المثالية، تنال منه، ومن تهالكه على المال، مستنكرة متاجرته بفكره، حتى لقد كنا نستعيذ بالله من هذا الطمع، الذي بلغه هذا الإنسان الجشع، وكأن ثمن الفكر محرم كما «حلوان الكاهن» أو «ثمن الكلب». وفاتتنا أشياء ما كنا قد مررنا بها، كانت رؤيتنا منحصرة في أن المفكر ك«الكلأ» و «الماء» و «النار» الناس فيها شركاء، وأن على المفكر ألا يمنع شيئاً من معلوماته، محيلين التمنع إلى كتمان العلم، وللجام من النار، حتى إذا وقعنا تحت طائلة المهمات الأكاديمية والملاحقات الصحفية، وأمطرتنا وسائل الإعلام بالأسئلة المتعاقبة، والاستكتاب المتواصل، لتسد خلتها، وتسوِّد صفحاتها من جهدنا المكرور بدون فائدة، وبدون ثمن، وبدون اقتصاد، تبين لنا وجه الصواب. وفي نقدنا الموجع لهذا المفكر المسكين فاتنا ما يترتب على الملاحقة من إضاعة مضاعفة، تطال الحسي والمعنوي، من مال وسمعة. وأنهر الصحف كما «نار المجوس»، لا تعف ساعة عن جهد المحتطبين، وكيف تعف الصحف والقنوات؟ وهي تنافس على عدد الصفحات، وتنوع المعلومات وطرائق الإثارة. وتبين لنا ألا علاقة بين «التمنع» و «الكتمان». ومما يضاعف عناء الأكاديمي تدفق آلاف الطلاب على الجامعات، وتسرُّبُ مئات الأساتذة خارج أروقتها. ولقد أشرت إلى هذا الاستنزاف من قبل، وناشدت تخفيف القضاء، ولم أتطلع إلى رده، ولما تكن الأوضاع إذ ذاك كما هي الآن على المستويين الجامعي والإعلامي. إذ في الراهن تعددت منافذ الإعلام، واستفحلت المنافسة، واستشاط النزف المجاني، أما عن التعليم الجامعي فإن علينا استنطاق الأرقام للمقارنة بين الأعضاء والطلاب. وحين أعيد القول، وأبديه، فإنما أريد كفالة حق الفكر المهدر، ليكون الحق دون مستوى قدم الرياضي، ولسان الممثل، وأنامل العازف، وبخاصة بعدما تحولت الصحافة إلى شركات تجارية، وتحولت وسائل الإعلام كافة إلى مصدر كسب مادي مشروع، وأفسح المجال للجامعات الأهلية. فالصحفيون المتعاونون والمحترفون والمبتدئون، يتأبطون أجهزة التسجيل، وأوراق الكتابة، وكمرات التصوير، ولاقطات الصوت، يطاردون من يعرفون ومن لا يعرفون، ومن ينطوي على فائدة، ومن هو خالي الوفاض. ومما فاقم الأمور، وضاعف الأعباء ظهور الناسوخ «الفاكس»، ففي كل يوم يفاجأ الأديب أو المفكر بصفحة أو أكثر من الأسئلة في الأدب، أو الدين، أو السياسة، أو سائر المناسبات الاجتماعية، تقتحم عليه خلوته، وتعكر صفوه، وقد يسبق الناسوخ مكالمة هاتفية، يسمع فيها الثناء والرجاء والاستعجال. وأذكر أن الكاتب المثير الأستاذ «داود الشريان» قال: إن الأدباء والكتاب مثلهم مع الإعلام مثل «الطقاقات» لا يذكرون إلا في المآتم، يدعون إلى إحيائها: ترحاً أو فرحاً، وتصور البعض أن ذكرهن مذمَّة، وفات الممتعضين أنهن بانتظار المناسبات، ليأتينها سعياً بثمن، فيما ينتظرها الأديب والمفكر فيأتيانها مجاملة. وفوق هذا فإن اقتراب النخب من وسائل الإعلام - مع ضرورته تعب يرهق الأعصاب، ويحول دون استكمال متطلبات التحصيل، ذلك أن المفكر والأديب والمبدع كالنحلة، لا بد أن يطوفوا ويمتصوا نسغ الكتب، وإن لم يفعلوا ضوت أفكارهم، كما تضوي الأجسام الجائعة. والمفكر المسكين الذي أكلنا لحمه وشحمه، ووصفناه بأقذع الأوصاف، مر بهذا المشوار الشاق الذي نقطعه جيئة وذهاباً، ونحن ما زلنا صغاراً إلى جانبه، وهو حين وضع هذا الكابح، لم يكن همه في الدرجة الأولى كم يستلم؟ ولكنه أراد أن يدفع عن نفسه وطأة الملاحقة، فلم تسعفه الحيلة بحل مناسب، فكانت وسيلته لصرف الصحفي مظنة الاتهام. ولو أنه كان سمحاً، لتحولت حياته كلها إلى تحبير متواصل، مجيباً أو مستجيباً لما يبلغه عبر الهاتف أو «الفاكس» أو التسجيل أو الرسائل. وويل له ولنا إذا وعدنا وأخلفنا، أو سوَّفنا، أو اعتذرنا، أو حتى عدلنا في الأسئلة، أو ألغينا شيئاً منها، أو كانت إجاباتنا قليلة لا تغطي المساحة المكلف بتغطيتها ذلك المحرر، والمتروكة له ليملأها، بما يملكه من شطارة وعلاقات طيبة، مع الذين يقولون، ويكررون القول، ثم لا يقولون شيئاً. ولما كان الأديب مطالباً بمتابعة ما يحدث في المشاهد، وتقصّي التليد والطريف في الفكر والأدب والسياسة والثقافة، فإن ملاحقتها تتطلب مزيداً من الجهد والوقت والمال، وهو في ظل هذه المهمات لا يقدر على تلبية كل الدعوات، ولا الإجابة على كل الاستفتاءات، ومن الضروري أن ينتج عملاً باقياً، يرفع من قيمته، ويحافظ على مستواه، وبعض هذه الحوارات المكررة والاستكتاب المتواصل مضيعة لوقت كل الأطراف: السائل والمجيب والقارئ. والحوارات والندوات والاستطلاعات تأتي وليدة حاجة خاصة بالصفحة لا بالصحيفة، وهي قد تعد بشكل رديء، لأنها في الغالب لا تمس اهتمامات القارئ، أو لا تقع ضمن تخصص المشارك ورغبته، ومع هذا فالنخبوي ملزم أدبياً أن يجيب، وأن يبعث بإجابته، وليس من حقه الاحتفاظ بأقل الحقوق. والبارعون من الصحفيين يتحرفون لمواجهة الأديب بأسئلة «بوليسية» أو قل «إبليسية»، بحيث يجرون أقداماً بعيدة ويوقظون فتناً نائمة، حتى إذا اشتبك الأطراف بالمحابر والأقلام، رقصوا على أشلاء سمعتهم، وفي التنابذ والتنابز ملء للفراغ، وتسويق للعمل، وذلك أقصى ما يحلم به البعض. وإذا صرفنا النظر عما يستحقه من مكافأة مادية، بوصف الجمع في انتظار أثمان الجهد الشريف والمضاربة النقية. وجب أن أشير إلى حقوق أخرى غير مستوفاة، كان بودي أن تراعى من قبل كل الأطراف. فالوجوه حين تتكرر تمل، كما أنه ليس من اللائق أن يُسأل المثقف عن كل شيء، حتى في الأمور التي لا يعرفها، فتارة يسأل عن قضايا المجتمع، وأخرى يحشر في قضايا: الدين والسياسة والفكر والاقتصاد، وثالثة يتداول مع غيره أموراً ليست في العير ولا في النفير، يمدح من لا يفعل، ويزكي من لا يعرف، ويحمد على المكروه، ويحشر مع غير جنسه، المهم أن يكون رقم هاتفه موجوداً عند المحررين والمراسلين وأصحاب الخبطات الصحفية، كما يقول قاموس الصحافة، وهو حين يتحدث راغباً أو راهباً، يختلف أداؤه، وتتباين تصوراته، لأنه يقول ما قالت «حذام». هذا المسكين المستهلك إلى حد الإنهاك له حق، ليس شرطاً أن يكون مادياً، إنه مشرد بلا خطيئة، وملاحق بلا ذنب، ومستَغَل بلا ثمن، ولا أقل من مراعاة حقه الأدبي على الأقل، ومن حقه الأدبي ألا يسأل إلا في مجال اختصاصه، وفي محيط اهتمامه، وألا يكثر طرحه حتى لا يمل. وأن ينشر رأيه كاملاً، وبدون ابتسار أو استفزاز. وأن يوضع في المكان المناسب لمستواه المعرفي والوظيفي ومكانته الاجتماعية، فقد يواجه المسكين بوضع إجابته في زاوية منطفئة، وبحرف دقيق لا يُقرأ، وبدون أي إشادة، وقد يحشر مع العامة والسوقة الذين سئلوا عن انطباعهم عن شيء ما، وقد يأتي في ذيل إجابات أخرى، أعطيت من الأهمية فوق ما تستحق، وإذا لام أو عاتب، قيل له: الأمور محكومة بظروف الطبع والإخراج، وليس للتقديم أو التأخير أي اعتبار، ومع الرد الجاف، والتصرف الجارح، يفاجأ بعد ساعة أو أكثر ب«الفاكس» ينقل إليه رغبة أخرى للمشاركة، أو مهاتفة من طرف لم يشهد عذاباته. ومما هو مثير ومسيء اتصال بعض المراسلين هاتفياً، ومحادثته في أمور شتى، وطرح قضايا متعددة، وجر قدمه للحديث عن قضايا أو أشخاص لا يريد أن تكون للنشر، فيفاجأ بأن هذا المحاور يسجل حديثه الأخوي، ثم يصدم بنشره مستهلاً ب«مانشتات» مثيرة، وإذا أنكر أو استنكر، قيل له: لدينا الوثائق الدامغة التي تدينك، لقد قلت ما نشر. نعم، قال هذا بصفته حديثاً أخوياً، ولم يقله كي ينشر على الملأ، وكل إنسان له حديث مجالس، لا يرى إشاعتها، ومن أدبيات المحاورة أن يشعره المحاور بمقاصده، وأنه سوف ينشر ما دار بينهما. وكل إنسان سوي له حديث مجالس، فيها الهزل، وفيها الجد، وفيها ما لا يريد إشاعته بين الناس، فما تقوله في مجالسك الخاصة، وعند زملائك وخاصتك، لا يمكن أن ترضى به حديثاً صحفياً ينشر على الملأ. والرسول صلى الله عليه وسلم قال عن قادم إليه: «بئس رجل العشيرة هو»، ثم لقيه وأكرمه، وعلل ذلك حين سئل باتقاء الشر. وكل صحفي يلتقط مثل هذه الأحاديث، ثم ينشرها، يقع في دائرة النمامين الذين يفسدون في ساعة ما يفسده الساحر في سنة، والأسوأ من هذا أن يذهب الصحفي إلى الطرف الآخر، ويعرض عليه ما سمعه، ليأخذ رداً قاسياً، وقد يكون الطرف الآخر مسناً له حق التقدير، أو مريضاً له حق الرأفة. ومثل هذه «القفشات» الصحفية، تسيء أكثر مما تحسن، والذين يجرُّون أقدام المفكرين والأدباء عن طريق الاحتيال تتساقط سمعتهم كما ورق الخريف، ويتواصى الناس بالبعد عنهم، والأنكى حين يكونون متمرسين، أما إذا كانوا حديثي السن والتجربة، فإنهم لا يقدِّرون المواقف قدرها، وقد يرون ذلك من البراعة الصحفية، ومن ثم لا يهمهم ما يترتب على ذلك من قطيعة أو شحناء، وقد لا يأبهون بما يترتب على هذا الفعل من إساءات، ومثل هؤلاء لا ينزلون الناس من منازلهم. ومما لا يختلف فيه اثنان أن طرق أبواب الأدباء والمفكرين، وإجراء الحوارات واللقاءات معهم تقدير لهم، واهتمام بآرائهم، وأنَّ صرف النظر عنهم، وعدم الاستعانة بهم في مثل هذه الأمور تهميش لهم. ولكن يجب أن يكون هناك ضوابط، ولابد أن يكون هناك أخلاقيات، تدرأ عن الجميع المساءلة الأدبية، وتحفظ للنخب شيئاً من حقوقهم. إن على المفكر والأديب ضريبة وطنية، يجب أن يقدمها راضية بها نفسه، سواء كان أستاذاً جامعياً أو مفكراً أو أديباً، ولا يمكن إشاعة الفائدة إلا عبر وسائل الإعلام، وإذا تمنع الأدباء والمفكرون والأكاديميون عن إشاعة الفائدة، جمدت الحياة، وصوح نبتها، ثم رعي الهشيم. النخبة مطالبة بخدمة المجتمع، وتوظيف خبراتها وامكانياتها لترشيد مساره، وتهذيب أخلاقه. هذه قضية مفروغ منها، ولكن من حق النخبة على هذا المجتمع أن تراعي حقوقهم المادية والأدبية، وألا يساء إليهم باستغلال يضيع معه الجه دوالوقت والسمعة، أو بتكرار يغثي القراء، أو بابتسار لا يسمن ولا يغني من جوع، أو بافتراء وتحريف يضع المسكين تحت طائلة المساءلة، وعلى النخب أن يفكروا، ويقدروا، قبل أن يُقْدموا أو يحجموا. تلك خواطر تراكمت مع الزمن، وسمعت بعضها من السنة المتأذين، وأصابني شيء من دخنها، وهي ظاهرة قائمة ما أقام عسيب، ولكن علينا أن نحدَّ من استشرائها، وعلى الكتبة المبتدئين أن يسترشدوا بمن سبقهم، فلا يبنوا مجدهم على سمعة الآخرين، ولا يفرغوا لاستغلالهم. وسوف أوفي الموضوع حقه، حين أكتب عن «حكايتي مع الصحافة» في سلسلة الحكايات التي تشكل جزءاً من السيرة الذاتية. |
ظواهر النقد الحديث وجذورها في التراث..! 1/3
د.حسن بن فهد الهويمل قبل عشر سنوات أو تزيد «نظم نادي جدة الثقافي» لقاء أدبياً لقراءة جديدة للتراث النقدي، وصلته بالمستجدات، أو إغنائه عنها، ولما لم يكن المشاركون متناغمين، فقد جئت نشزاً في بعض السياق والأنساق، وليس شرطاً ان أكون الأحق بالفضل منهم، ولكنني أروي ما حصل. وفوق ذلك فقد كنت ممن غامر في مقاربة مثيرة، بحيث التمست ملامح الموروث في الظواهر النقدية الحديثة، ومما يسوء الحداثيين والمستغربين استدعاء التراث أو ذكره بخير. ولما كانت «البنيوية» إذ ذاك «صاحبة الجلالة وسيدة العلم والفلسفة» كما يقول «زكريا ابراهيم»، فقد وقفت عندها «وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه»، ولم أتردد يومها في ممارسة المؤاخاة بين ظواهر النقد الحديث، وقضايا النقد العربي القديم، مثلما آخيت بين البنيوية ونظرية «النظم» عند الجرجاني. وكان ممن حضر اللقاء «عز الدين اسماعيل»، و«كمال أبوديب» و«جابر عصفور» و«مصلوح» و«فضل» و«مرتاض» و«برادة» وآخرون لا يقلون عن بعض من ذكرت حماساً في التهوين من شأن التراث واندفاعاً في الرفع من شأن الظواهر الحديثة، وفيما بين هؤلاء وأولئك دهماء، يقولون ما قالت «حذام» دون أن يفقهوا شيئاً من التراث، أو يعوا شيئاً من الجديد، وفي كل حقل من حقول الثقافة والأدب لا نعدم «المتأمركين» أو «المتمركسين» أو «المستغربين» ممن يشطُّون على أنفسهم وعلى قبيلهم، ويمسُّون ثوابتهم بسوء. والذين يقرؤون بعض المداخلات في ملف اللقاء الذي طبعه «نادي جدة الثقافي»، يلفت نظرهم حدة الاعتراض وصلف السخرية. ولأني أقول قولي وأمضي مستقبلاً مايجد من مناهج وآليات وأفكار غير عابئ بما يقال، ما لم يكن حقاً، فقد طويت كشحي متلقياً ركبان الطوارئ، وإن بخعتُ نفسي على آثار من لم يتأمل مآلات ما أقول. على أني لو أعدت قراءة ما كتبت بالأمس لاتخذت السبيل إلى إبراز قيمة التراث وأهمية استعادته لا العودة إليه، دون الحاجة إلى البحث عن العلائق والإرهاصات، ولربَعْتُ على نفسي، ولأوغلت برفق، فالحضارة الإسلامية محفوظة ما حفظ كتابها، والمناوئون لها أمواج على سفح جبل، وليس من شك ان احتدام الأجواء تحفز على الاعتداء بالمثل، ولكن الصدع بالحق والإعراض عن الجاهلين أجدى وأهدى. على أن تحرفي لن يجعلني معهم في ضرب السوائد والثوابت، وطبعي أن يكون في كل قول يقال اختلافُ كثير، وما تم إلا كتابُ الله المحفوظ «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً» والتراجع والمراجعة يأتيان في غياب العجب بالرأي، وعند الوعي السياقي للتحولات السريعة في المشاهد الفكرية. و«التحول والثبات» قضية عويصة محفوفة بالمخاطر، خاضها عدد كبير من المفكرين، ووقعوا في المحاذير، فمسالكها شائكة، تجر أقلام المفكرين إلى مزلاّت الأقدام ومُضلاّت الأفهام. ذلك ان حدود «الثابت والمتحول» ومشمولاتها ومفهوماتها تختلف من فئة لأخرى، فما هو ثابت عند «أدونيس» مثلاً يختلف عما هو ثابت عند «الجابري» أو «أركون» أو «فؤاد زكريا» ممن يلتقون معه في كثير من الأمور، وممن لايُحَدُّ تسامحهم، بحيث يصل في بعض الأحيان إلى مشارف تعدد طرق الخلاص، كما يراها «روجيه جارودي»، وهؤلاء مجتمعون يختلفون عما هو ثابت أو متحول عند من يحملون هم الفكر الإسلامي المستنير. وعوار «أدونيس» في كتابه المريب «الثابت والمتحول» بأجزائه الثلاثة ليس في الاختلاف المعتبر، فهو لا يرى الثبات فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وليس لديه ضابط للثابت أو المتحول، ورؤيته عقلية مادية غربية، وإن شدت بأمراس كتان إلى باطنيته، التي جذرها بقوله: «قال لي تاريخي الغارس في (الرفض) جذوره... كلما غبت عن العالم أدركت حضوره» ومن ثم فإن فكره رهين ظلمتين: ظلمة الاستغراب، وظلمة الباطنية. وكل مشروع ثقافي له موقفه من «الثبات والتحول»، واختلافي مع هذه الفئات قد يكون في بعضه اختلافاً في المفهوم، أو في المقاصد، أو في الإجراء، وبين الاختلافات أمور كثيرة. واختلاف المفاهيم عرَّض كثيراً من المفكرين إلى تهم موجعة، ليسوا من أهلها. ولو استعرضنا تاريخ «الماسونية» و«العلمانية» و«الوجودية» و«الحداثة» لوجدناه يفيض بالضحايا، الذين وقعوا في متاهات المفاهيم وتباينها من مفكر لآخر، والمصطرخون في أتونها لايتداعون لكلمة سواء، وإنما يتراجمون بالاتهامات المصفية للسمعة. ولقد كانت لي إلمامات متفاوتة حول تراتبية التحولات، وحين استعيد هذا الموضوع فإنما لأتناول من خلاله قضية واحدة، ربما كانت جزئية في سياق البحث الذي فرغت منه، وتركته خلف ظهري، بسبب تكاثر المستجدات وتدفق المعلومات عبر كل الوسائط. ولربما كانت ندوة «قراءة النص» التي نفذت «بنادي جدة الثقافي»، ولم تطلب مني المشاركة، ولم أدع للحضور سبباً في تذكر ما مضى، ولست عاتباً، ولا مؤاخذاً على ذلك، ولا قائلاً: - «وإذا يحاس الحيس يدعى جندب» لكون الأمر طبعياً. فالمدعوون سدوا الخلال، وهم حقيقون بالدعوة، كما أنني لست مهمشاً ولا خلياً فأستشرف، ومع ذلك فلو دعيت لاستجبت حباً في الاستزادة ورغبة في لقاء الأحبة. ولما كان عنوان المنتدى عائماً، لايلوي على هدف واضح، فقد شكل ثنية أخلاها الرماة. ف«قراءة النص» لفظ عائم، لا ضابط له، وليست له غاية محددة، والعناوين سواء كانت على أغلفة الكتب، أو على صدور المقالات، أو كانت مسميات للمؤتمرات أو الندوات بمثابة سؤال محدد، وحين تعوَّم الأسئلة، يعوَّم معها الأداء، بحيث لا يملك خصوصية، ولا يحقق هدفاً، إلا إذا كان المعنى دُوْلةٌ بين المنتدين، أو كان في بطن المستفيدين من هذه التظاهرة الحميدة في بعض أحوالها. ف «القراءة» ذات مستويات وطرائق وآليات ومناهج ومقاصد، ولست أعرف أي المستويات القرائية قصدها المنتدون. ويقال عن «النص» مثل ذلك، فأي نص تتجه إليه القراءة؟ والمعروف أن من شرط العنوان أن يكون جامعاً مانعاً، شأنه شأن المصطلح، ومثل هذا الإطلاق، لا يجمع ولا يمنع، ولعل المنتدين يريدون مجرد اللقاء، فحاولوا التجديد في العناوين. و«النص» مصطلح مراوغ، ومغرٍ، في كل أحواله الإفرادية أو الإضافية أو الوصفية أو التركيبية، وله مستوياته بين الغياب والانغلاق والانفتاح، والمتهافتون عليه قد يجهلون الكثير من خلفياته ومقاصده، ولربما أعود إليه لأجلّي تصوره عند كل مذهب، منذ الرؤية الإغريقية واللاتينية حتى العربية قديماً والغربية حديثاً وعن تصوره في كل فلسفة أو نظرية معرفية. وعلى أية حال فقد خلَّفت لنا تلك الندوة ملفاً تنوء بحمله العصبة أولو القوة، وإن شكل أشتاتاً لم يؤلف المؤتمر ولا ملفه بين هموم المؤتمرين ومعارفهم وما يعتلج في صدورهم، ومايزال بانتظار قراءة على القراءة، أو مايسمى ب «نقد النقد» لاستجلاء نوع القراءة ومنطويات المقروء، وأهداف القراءة، ومستويات البحوث، التي أجزم أن بعضها لم يستحضر متطلبات الندوة، ومن ثم اكتفى البعض من المشاركين بتلخيص همومه ومواقفه من الأشياء أو قام باختصار بحوث أو كتب سلفت. والوقوف على النتائج التي توصل إليها القارئون وإنصافهم يحتاج إلى تجاوز القراءة الاستعراضية التي تعاملت من خلالها مع الملف، ولم أجد الجهد والوقت لمبارحتها إلى قراءات معمقة تبحث عما خفي، وعما سُكت عنه، والبحوث وإن ند بعضها عن القضية المرتبطة بالنص وبالقراءة، فهي قد تناولت قضايا وظواهر نقدية، ليست بأقل أهمية مما تُرك. ولما كان من ألصق الأشياء ب «القراءة» وب «النص» ظاهرة تراثية جَلَتْ عن طلولها سيول التذكر بعد اشتغال النقد الحديث ب «لغة النص» الذي حركته تعالقات اللغوي بالنقدي، ودخول مصطلحات نقدية ولغوية متميزة ومهيمنة، ك«البنيوية» و«التحويلية» و«التفكيكية» وسائر المصطلحات المترادفة أو المتباينة ك«النصوصية» و«الألسنية» و«الأسلوبية» و«التقويضية» و«التشريحية» مما يدور في فلك الأسلوبية واللسانية من مترادفات فرضتها فوضوية الترجمة، فقد كان لزاماً استدعاؤها. ومصطلح «النص» كرس وجوده بعد انحسار سائر الرؤى النقدية وانحصارها في اللغة الموضوعية واللغة الشارحة. ولأن المتعالقين مع الظواهر والقضايا النقدية الغربية لايستبدون، ولأن النقاد العرب المعاصرين يجيلون نظرهم في المفاهيم الغربية لمصطلحات تضمنها التراث وأوسعها درساً، فقد نسوا «مفهوم النص» في تراثهم، قانعين بما أفاء الغرب به من مفاهيم معقدة ومتعددة، تظهر من خلالها عمليات تبادلية في مراكز الاهتمام بين النص والذات المنتجة، وبين اللغة والدلالة، ذلك ان للنص في التراث شأناً لا يقل عن شأنه في الغرب، ولقد اكتنفه الأدباء والنقاد وعلماء الكلام والبلاغة والمناهج والآليات والمصطلحات. ولعل ألصق المصطلحات التراثية بنظرية النص وأهمها مصطلح «النظم» كما يراه عبدالقاهر الجرجاني، لما ينطوي عليه من قيم فنية ودلالية ولغوية، وهو معطى «أيديولوجي» بالدرجة الأولى، والدخول به في معمعة المستجدات يحفظ للنقد العربي خصوصيته المستباحة وحضوره غير المستأمر. وليس هذا المصطلح بأقل استيعاباً من «البنيوية» كما يراها «سوسير» الذي ألصقت به الكلمة، وهو لم يقلها بالنص. و«الجرجاني» إمام من أئمة النقد الأسلوبي، وإن تحفظ المبهورون بالمستجد على مثل هذا الإطلاق، ومواهبه تتجلى في مجال ما أحدثه من جديد في عالم اللغويات. وقد رَبَطْتُ من قبل تبعاً لعدد من النقاد نظرية «سوسير» بنظرية «النظم» عند الجرجاني، وكنت بصدد الربط بين «التفكيكية» عند «جاك دريدا» والقراءة «التذوقية» عند «ابن عربي» و«النفَّري» وسائر المتصوفة، ذلك أن «المفككين» يقَوضون النص بحثا عن المسكوت عنه، والمتصوفة يفترضون في النص ظاهراً وباطناً، ليس على شاكلة «معنى المعنى»، إلا أنني الآن أتردد كثيراً في ذلك الربط المطلق، معتبراً نظرية «عبدالقاهر» نظرية مستقلة، ومثلها «التذوقية» إذ ليست لهما علاقة قوية بما جد من نظريات لاختلاف المرجعيات والمحفزات. ومع تحفظي فإنني أومئ إلى عدد من كبار النقاد الذين عرضوا لهذا التعالق، وعدوا «نظرية النظم» نظرية رائدة لكل ما جد من النظريات في «علم الأسلوب» فهذا «محمد مندور/ت1964م» وهو رائد من رواد النقد الحديث، له وزنه وأثره في آن، يقول: «إن منهج عبدالقاهر هو المنهج المعتبر اليوم في العالم الغربي» مع أن مندور شدته الاتجاهات النقدية الواقعية، وحملته على تبنيها وعاش التجربة النقدية الغربية بوعي تام. وكذلك يذهب بعض الدارسين إلى أن اللمسات البلاغية عند «ريتشاردز» وبخاصة في قضية «معنى المعنى» تلتقي مع إنجاز الجرجاني. يقول الدكتور «فتحي عامر»: «يحق لنا أن نقرر في زهو وخيلاء استمرارية هذه النظرية التي تنسب إلى عالم جرجان في فلسفتها وشرحها والتدليل عليها وتعليلها وتطبيقها»، «وريتشاردز» يلتقي مع «عبدالقاهر» في كتابه «فلسفة البلاغة» وليس شرطاً ان يكون نقل منه بالنص، ولا أن يكون قد قرأ له، فالحوافر يقع بعضها على بعض، و«المثاقفة» وفق رؤية «المقارن الأمريكي» أسقطت الشرط الأوروبي، كما ان مصطلح «التناص» ترك لعوامل التأثر فسحاً واسعة. وحين نعتز بمبادرات التراث، فليس معنى هذا إلغاء الآتي أو الاستغناء عنه، وليس رغبة في التقليل من شأن المستجدات، والذين يقولون عنا مثل هذا يفترون الكذب، والذي يُدِلُّون بفهم النظريات، متصورين أن إدراك معناها القاموسي كافٍ للأخذ بها أو الحديث عنها كلابسي ثياب الزور، فالمسألة أعمق وأشمل، ومن لم يُحِطْ بالمرجعية والتاريخية والإجرائية والتحوُّلية فليس له حق الاجتهاد ولا الإفتاء، ونحن بما نقول نلح على الإثبات المتواضع لأهلية التراث، وحقه في العودة والتفاعل في زمن العقوق والتنكر، وهذا بعض ما أذهب إليه حين أدافع عن حوزة التراث، ولما كنت من قبل أَعُدُّ نظرية «النظم» مصدراً من مصادر «البنيوية» فقد ترددت فيما بعد في تعميق هذه الرؤية، مع الاعتزاز بما وصل إليه علماؤنا في زمن لم يكن هناك شرق ولا غرب. لقد قُدِّرَ لي بعد ذلك بزمن التفرغ لدراسة النظرية عند «عبدالقاهر» دراسة منفصلة عن البحث في التعالق بعد أن ساورتني الرغبة في الوقوف على حقيقة تأثير «الجرجاني» في النظريات الغربية الحديثة، ومصطلح «التناص» الذي تهافت عليه الدارسون كعادتهم مع كل طارئ، يؤكد أنه لايوجد «نص» بريء، ولا حضارة بريئة، وكل شيء عبارة عن توارث وإضافة، فالحضارة الغربية ليست انبثاقية، ولا أحسبها منهية للتاريخ ولا للإنسان، كما يراها المدَّعون بدون برهان، والقول بالتأثير والتأثر قول مشروع وممكن، ونفات تأثير الحضارة الإسلامية فيما لحق من حضارات مؤشر انهزام ودونية واحتقار للذات، وقد اعترف المنصفون من مفكري الغرب بذلك، وسجلوا رؤيتهم المنصفة في كتب يتداولها الناس، فيما نالت طوائف من أبناء الحضارة الإسلامية من حضارتهم، إرضاء للرجل الأبيض الذي لم يفض عليهم إلا بالحشف وسوء الكيل. |
على هامش الحادي عشر من سبتمبر
أمريكا الأمس.. وأمريكا اليوم.. والدفع بالتي هي أحسن..! د. حسن بن فهد الهويمل مثلما ان العالم العربي دخل مرحلة جديدة بعد نكسة 67م، ولم تتغير شفرته، ولا أسلوب الدخول على مواقعه، فإن أمريكا دخلت مرحلة أجدّ، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتغيرت كل الطرق إليها. بل أكاد أجزم ان العالم بأسره ينقاد راغباً أو راهباً الى حياة خائفة مخيفة، حياة طلسمية، يحتاج معها الى تعامل مغاير، وستكون لهذه الحياة حساباتها العسيرة، وتصوراتها الأعسر، وطبعي توقع ما حصل، فكل دولة تشرعن لنفسها حق التدخل في شؤون الغير، تكون معرضة لمثل ما تعرضت له امريكا، وهذه الأحداث جعلتها في شغل غير فاكه، لرسم المسار وأخذ الحذار، وما من مشهد سياسي إلا هو في تحرف جاد، لتجاوز الظروف العصيبة، وتجهيز خطاب جديد، قد لا يكون الأفضل، ولكنه الحاصل الذي لا مناص منه، ولا ينكر حتمية التغيير الجذري إلا من ليست لديه القدرة على متابعة الاحداث الموجعة والذين يظنون امريكا كما هي بالأمس، يصدمهم تصرفها التحفظي الاحترازي التعسفي، ومن ثم فلن يتمكنوا من معايشتها بأساليبهم القديمة، ولن يكونوا على معرفة تامة بمتطلبات حاضرها المضطرب، وواجب المرتبطين معها بصداقات أو أحلاف أو مصالح قديمة أو حديثة ان يعيدوا النظر في صياغة خطابهم، ورسم أسلوب تعاملهم، وعلى الطلبة والمهاجرين والمستثمرين في امريكا تقبل شكلها وارتيابها واحتمال مضايقتها ومجازفتها، فلم تعد امريكا اليوم تثق بذاتها، فضلاً عن ان تثق بأصدقائها، فأمريكا اليوم غيرها بالأمس، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر قلبت الموازين، وغيرت المفاهيم، وأعادت ترتيب الأصدقاء والأعداء، وتحديد مواصفات كل منها، والخطورة في الأمر ان تصرفها جاء اعتباطياً ومرتجلاً وفورياً، كما لو كانت دولة نامية، لقد نبذت وراء ظهرها مسلمات ومواضعات، وتحولت الى دولة أفراد، وإدارة «بيروقراطية» معقدة، بعد أن كانت دولة مؤسسات، مشرعة الأبواب، مرنة الإجراءات، انسيابية الحركة، مغرية وجذابة، يألفها القريب، ويحن إليها البعيد. وإذا كان العالم العربي لم يستفد من نكسة 67م لوجود معوقات ذاتية وغيرية فإن أمريكا لم تستفد من أحداث سبتمبر على الرغم من غياب المعوقات. بل أكاد أجزم انها باهتياجها وتخبطها أضافت نتائج عكسية، وخدمت خصومها الذين لم تعرفهم بعد، وهم أقرب اليها من حبل الوريد، لقد حققت لهم بهذا التخبط أكثر مما يتطلعون اليه، كان تطلعهم لعزلها، وضرب اقتصادها، والتشكيك بمصداقيتها، إعادة رسم خريطتها التوسعية، وقمع هيمنتها، والحد من غطرستها، والتطلع الى تفكيكها كما «الدب الروسي»، وها هم الأصدقاء يتسللون من عباءتها، وها هي الأموال تتسرب من بنوكها، وها هي «اللاءات» والتساؤلات يطلقها أقرب الناس اليها، عبر الشكوى والتذمر من اعتراضها ورفضها وانسحابها من كثير من الأحلاف والاتفاقات، من مثل «اتفاق كيوتو» و«اتفاق ريو» و«حظر الصواريخ» و«حظر الألغام» و«المحكمة الجنائية» و«اختلاف المواقف والمكاييل» وها هي تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تقول، تنال من الإسلام ثم تمجده، تصهل ثم تموء، وتُقدم ثم تحجم، وتمدح وتهجو في آن، وتعد وتتوعد، وها هي ظاهرة الصقور والحمائم، ولا شك ان الكارثة المذهلة التي تعرضت لها فوق التصور والاحتمال، وهي بهذه الفداحة تتطلب بصراً وبصيرة، وحكمة وأناة، وطول نفس، وتحرّياً وتخطيطاً، وتهدئة للشارع العام، ذلك انها لم تفاجأ بحرب معلنة، ولم تواجه جيوشاً جرارة زاحفة على أراضيها، بحيث تهب لايقاف الزحف، إنها تواجه عملا خفيا يدب في اوصالها، كما حمى «المتنبي»، وعليها ألا تخادع نفسها، فعمليات التفجير التي تعرضت لها، لا يقوم بها فرد، ولا يخطط لها مقاتلون يمتطون الجياد، ويسكنون الكهوف والمغارات، ويرتدون أسمال الثياب، إنه عمل محكم، وضربة معلم، لا يجوّد صنعه إلا المهرة المتمكنون من الآلة والمعرفة، إلا اذا كان حلقة في سلسلة اللعب، كما يشأ الراجمون بالغيب، والناس في قراءاتهم المتنافرة لهذا الحدث «أسطروا» الفعل والفاعلين والأبراج، فمن يا ترى جعل الأبراج جذاذاً، أهو كبير القوم أم مشرد يقال له «ابن لادن»؟ لقد فوت المتنبؤون على المتابعين فرصة التقصي ولملمة أطراف الحدث، والإمساك بالخيط من أوله، وإذ غمّ الأمر ونكس القوم على رؤسهم فليس من مصلحة امريكا ان تبادر في تسمية المتهمين، وخلق الأبطال من لا شيء ، وليس من مصلحتها مباشرة الرد، وليس من مصلحتها ان تضيّق فسحة الاحتمالات، بحيث يكون الأمر عندها محصوراً في اللونين: «الأبيض» و«الأسود» والناس عندها إما: أعداء أو أصدقاء، ليس إلا. ودولة القطب الواحد يجب ان تمارس مهمات «كبير الأسرة»، بحيث لا تسبق يدها الى المغانم، دون المغارم، والزعامة لها مواصفاتها ومتطلباتها، «وكبير القوم» لا يحمل الحقد ولا الضغينة ولا الأثرة، والظلم مرتعه وخيم. لقد رجتها الأحداث رجا، وبست آراءهاً بسّاً وارتكبت حماقات بحجم التفجيرات التي تعرضت لها، وفوتت على نفسها سياسة الاحتواء بالحروب الوقائية والاستباقية وغسل العار ومواجهة محور الشر، وكان بإمكانها ان تمتص الانفعال، وان ترتد الى الداخل ، لتسأل نفسها: لماذا غزيت في عقر دارها، وهي حامية الحمى؟ ولماذا يكرهها الناس بهذا القدر، ويكيدون لها بهذا الحجم، ولماذا ينتحر المستاؤون منها بطوعهم واختيارهم في سبيل تعريض مصالحها للدمار وسمعتها للعار؟ وعليها قبل هذا وبعده ان تسأل نفسها عمن اسهمت في صناعتهم، وعلمتهم الكر والفر والرماية، وقضت منهم وبهم أوطاراً متعددة، أليس هذا كله بمباركتها ودعمها؟ لقد تنكرت، وأنكرت، وأحالت الخطيئة على المتأذين من الإرهاب، وعلى المطالبين بتخليها عن الارهابيين يوم كانت تأوي الى جبل يعصمها من الماء، وحين ادركها الغرق آمنت بخطرهم، ولو أنها قرأت الرسائل في زمن الرخاء، وفكت الشفرات واستبانت الرشد قبل ضحى الغد، لتوقت الضربة القاضية والعار الأبدي، ان الذين حاربوا الاتحاد السوفييتي من الأفغان او من العرب هم من الضالعين معها، واللاعبين البارعين في تنفيذ لعبها، او المتفقين معها في الأهداف والمصالح، المختلفين في المقاصد والنوايا، وكم من مجاهد قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، حقق لها من المصالح ما لم يحقق أيسره لمهمته، والسؤال التوبيخي الاستنكاري: لماذا جهلت هؤلاء وأولئك؟ ولماذا انكرتهم، وتنكرت للتعبئة الروحية والمادية التي زادت عن حاجتها، فارتدت عليها؟ ولماذا غيّرت أسماءهم؟ لقد كانوا بالأمس مجاهدين شرفاء، وهم اليوم ارهابيون سفاحون، ولماذا أحالت المواجهة الى مناهج الدراسة في الدول الإسلامية وحصرته في الجنس العربي؟ وهي تعلم علم اليقين ان «يديها او كتافوها نفخ» ولماذا فوتت على نفسها فرصة التفكيك السلمي للبنية الجهادية التي احكمت تركيبها، ولم تحسن تقويضها؟ تاركة المقاتلين في العراء، يأكل القوي منهم الضعيف، حتى إذا لم يجدوا ما يأكلونه امتدت أيديهم اليها، كما النار تأكل بعضها ان لم تجد ما تأكله، لقد كان بإمكانها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي سد الفراغ بالدعم والمشورة، وزرع الثقة، وتحويل الأفغان من مجتمع حرب وعصابات وقبلية الى مجتمع سلمي منتج، وتجفيف مستنقعات الفتن، وردم بؤر التوتر. سؤال مشروع وحضاري وممكن، إذا أردنا قطع دابر الفتنة وإعادة الأمور الى طبيعتها. إن حدثاً كهذا يتطلب استنفار علماء السياسة والنفس والاجتماع والدين والقانون لدراسة الواقع الذي خلفته «اللعب الكونية»، ووضع الحلول. غير انها استبدت بالأمر والنهي والإقدام والإحجام، وهمشت الشركاء، وتنكرت للأصدقاء، ومن ثم فوتت على نفسها مكاسب كثيرة، خسرت معه تعاطف العالم، ونسيت أو تناست ان سياسة «اللعب الكونية» لا يمكن أن تقف حيث يريد الصانع، لقد كانت وراء حركات ثورية، ومع تنظيمات اسلامية، وفي أتون حروب دامية: حدودية وطائفية وعرقية، تؤيد وتدعم، ولا تحسم، فكل حرب تُرمُّها على فساد. صنعت أشياء كثيرة، وغيّرت خرائط متعددة، وأعادت تركيبات سكانية، ضربت الطوائف ببعضها، وأشعلت حروباً مجانية، وأمدت مقاومات متعددة، واعطت الضوء الأخضر لأصدقائها وحلفائها للدعم والتشكيل الذهني، تعضد وتخذل، وحين تحقق ما تريد، تحمل الغنائم، وتدع المغارم، تاركة مخلفات اللعب وشراسة اللاعبين وراء ظهرها، ظناً منها أن جميع اللاعبين واعين للأهداف، أو أنهم غير قادرين على اللحاق بها. لقد قاتل المقاتلون لوجه الحق، ولم يعرفوا من وراء ذلك، ولكن خروجها من اللعب بهذه الطريقة المكشوفة، ملأ القلوب حقداً وضغينة. وأمريكا قبل أن تصحو من ذهول الصدمة، اشتغلت بالنتائج، ونظرت الى حجم الأضرار الحسية والمعنوية، ولم تنظر الى الأسباب. وحاولت أن تخلط الأوراق، لتشغل الناس بفعلها عن فعل خصومها، لقد فضلت غسل العار أولاً، ثم حرب الاستباق والوقائية ثانياً، ثم تشكيل محاور الشر ثالثاً، ولن تزيدها هذه الخطوات إلا ارتكاساً في حمأة الفتن، ولسنا بما نالها أو بما تفعل شامتين، ولكننا محذرون ناصحون، فنحن أصدقاء وحُلفاء، ومن مصلحتنا ألا نؤتى من قبلها، كما نود لهذا العالم أن يستقبل «ألفيته الثالثة» بالوفاق والسلام، فأوضاع العالم لا تتطلب المزيد من الفتن والحروب، وأمريكا بتصديها للإرهاب، وبتخطيها لمؤسسات هيئة الأمم المتحدة، تخلق إرهابا من نوع آخر، وتشرعن لردود فعل ادهى وأمرّ، ونصرها الحسي والمعنوي قد يتحقق لو ان الحرب نظامية، والأطراف يمارسون الدفاع عن أنفسهم بذات السلاح، وبذات التخطيط، وبذات المواجهة، أما وقد كانت المواجهة بين قوة مرعبة وأشباح مخيفين مختفين، فإن الدك سيكون للجبال الشاهقة، وبطون الأودية السحيقة، ومنابت الشجر، وكلما هدأت الراجمات والقاذفات نسل الأشباح يمسحون عن عيونهم غبار الأتربة المتصاعدة من المفازات المخيفة، يطلبون الموت كما تطلب أمريكا الحياة، وسيجدون من يبارك خطواتهم، ويسهل تنقلاتهم، فكل متضرر يقول: «عليّ وعلى أعدائي». ومع أن الحدث الموجع الذي تعرضت له أمريكا ليست خسارته مادية وحسب، وإنما هو صدمة نفسية وخسارة معنوية، هزت المصداقية والثقة والقدرة معاً فإن المبادرة في المواجهة ليست من مكيدة الحرب الحاذقة، ودولة بحجم أمريكا وبإمكانياتها تتعرض لأسوء كارثة إرهابية، تطال مرفقين هامين كأهمية حدقة العين: المرفق العسكري. والمرفق الاقتصادي. ليس مستبعداً أن يجن جنونها، إنها كما يقول أحد الساسة الغربيين: أسد جريح من الخير ألا تواجهه. والأشد نكاية، والأمر مذاقاً، أن الاطراف المتهمين والمطلوبين ما يزالون خارج السيطرة الأمريكية، إنهم أشباح يتراءون لها في الكهوف والمغارات. وكأنها معهم أعداء «ابن عم محمد» الذي يقول عنه الشاعر: وعلى عدوك يا بن عم محمد رصدان ضوءُ الصبح والإظلامُ فإذا تنبه رعته وإذا غفا سلّت عليه سيوفك الأحلامُ فهي خائفة منهم في اليقظة وفي النوم، لأنهم يأتونها من حيث لا تحتسب، وعمليتا التفجير والاغتيال للرئيس الأفغاني قبل أيام رسائل مخيفة. وجر قدمها الى افغانستان ليس ببعيد عن جر قدم الاتحاد السوفييتي الذي تداعى تحت ضربات التأمر والجهاد، وإذا كان «الروس» قد وقعوا في المصيدة نتيجة مغامرة غير مسبوقة في الزمن المعاش، فإن أمريكا تسلك ذات الطريق متعثرة بأشلاء من سبقها، وكان الأجدر بها أن تتمتع بالنتائج المذهلة التي حققها المجاهدون، لا أن تنزلق كالاتحاد السوفييتي، الذي يتربص بها الدوائر، وقد يصنع جهاداً إسلامياً ومقاومة وطنية تعيد الى أمريكا الصاع صاعين. والقول بأنها وجدت المبرر لتحقيق تطلعات كانت تحلم بها، وهو الوجود العسكري في أفغانستان، ثم في العراق للخنق والعزل والسيطرة والاستغلال قول مجازف، ولا أحسب الفرضيات تحملها على مواجهة العالم بأسره، فالأفغان الذين دحورا الاتحاد السوفييتي سيجدون من يدعمهم لدحر أمريكا، والوجود العسكري الأمريكي في أي موقع لن يريح الأطراف الأخرى: عربياً وإسلامياً وعالمياً، وليس من مصلحة أمريكا التي تدعي حماية العدالة والمساواة والحرية والديموقراطية أن تركن الى الحكومات متجاهلة الشعوب والعقائد والأعراف، ولا أن تفرض وجودها بالسلاح الفتاك، فالقوة أشبه بعصا المربي من الافضل ان يكون معلقا على الجدار، بحيث يراه الآخرون ، ولا يكون كعصا الراعي الذي يهش به على غنمه، لأن ذلك يشعر الآخرين بأنهم قطيع مسلوب الإرادة، وكم هو الفرق بين «عصا المربي» و«عصا الراعي»، لقد أرادت امريكا بمباشرة التأديب ان تكون راعية قطعان، وهو ما لا يمكن قبوله، ولا احتماله، ولا تحقيقه، وسيكون الثمن باهظاً عليها، وعلى حلفائها، ومحرجاً لأصدقائها، ومخلاً بأمنها واستقرارها واقتصادها. فالحرب لا تستقيم معها الحياة السوية، وقديماً قيل: «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم». لقد واجهت الأمة العربية أحداث حزيران بألم ومرارة، وعاشت عقابيلها بحالة نفسية متردية، وكانت امريكا مهندسة الحرب، وصانعة النصر، وجانية الغنائم، لقد ارتمى العالم العربي في احضانها، وعاد اليها بحالة استسلامية، أدت الى الاعتراف والتطبيع. وكان عليها وعلى الغرب كافة ان يحسنوا التصرف، وان يبعثوا الثقة، وان يتيحوا للمغلوب فرصة لصناعة إنسانه، وإحياء مواته، واستغلال طاقاته، لإنعاش البلاد، وتوفير فرص العمل والعيش الكريم، ومن ثم توفير الخامات وتهيئة الأسواق لصناعات الغرب وشركاته متعددة الجنسيات، فحالة الفقر والاضطراب تشكل عبئاً على المتسلط، وامريكا التي تمر بضربة موجعة، تصرفت مع احداثها وكأنها دولة نامية، فلم تقدّر ولم تفكر، وإنما نظرت الى من حولها، ثم عبست، وبسرت، ثم اقبلت لتأخذ المقيم بالظاعن، والبرئ بالمتهم، ولا أشك أنها ستخسر الجولة، فالعالم لا يرضى الظلم، ولا يقبل الأثرة: ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عيرُ الحيّ والوتدُ والضعيف المعدم قد لا يجد قدرة على المواجهة، ولكنه سيعمل على تفويت الفرص، وإضاعة المكتسبات. لقد أمعن الغرب في التدخلات غير المشروعة في خصوصيات دول العالم الثالث، أخذ منها ولم يعطها، وحولها الى مسرح لعب سياسية، تجرعت مرارتها، وها هو شرقنا المشتعل يخرج من مكيدة الى أخرى، ومن حرب الى حرب، ومن مؤامرة الى مؤامرة، و«لو ترك القطا لنام» وها هي دول الغرب التي لم يتدخل احد بشؤونها تنام ملء جفونها، إن اضطرابات العالم الثالث صنعتها الأصابع الخفية التي تبحث عن بؤر التوتر، لتبقي على مصالحها. وأمريكا بفعلها عسكرياً وإعلامياً واقتصادياً تقترب كثيراً من اهتياجات العالم الثالث أمام أحداثه التي يصنعها بنفسه، ويتجرع مرارتها بسوء تصرفه، وعلينا إزاء المتغير الجذري في السياسة السلمية والحربية والاقتصادية والأمنية التي تمارسها الإدارة الامريكية ان نعيد النظر في رؤيتنا، وفي مواقفنا، وفي أسلوب تعاملنا، وان نعرف قدر أنفسنا، وان نتحرك وفق إمكاناتنا، نعايش أمريكا اليوم بكل صلفها واهتياجها وارتيابها وتشتت رؤاها بين ثالوثها الغريب: «الإعلام، والإدارة، والشعب» بطريقة مغايرة تماماً تفوت عليها الفرصة، وتهدئ من روعها وتمكنها من مراجعة الدروس القاسية. وإذا كان الإعلام الأمريكي الموجه بفعل التآمر الصهيوني قد هيج الشارع الامريكي، ومنح الإدارة الأمريكية مشروعية التصرف العسكري فإن المآلات ستكون لصالح المهدئين المبتعدين عن طريق الاهتياج المدمر، ومن الخير للأمة العربية والإسلامية الهدوء والسكينة حتى تعي أمريكا نفسها، وتعرف انها تلعب وحدها، وحتى يتأكد لها، ان هناك فرقاً واضحاً بين لعبة تصنعها، وينفذها غيرها، ولعبة تصنعها، وتمارسها بنفسها، وعلينا ان نرقب بحذر شديد صراع الصقور والحمائم، فالمواجهة باهظة التكاليف، لقد حانت لحظة الدفع بالتي هي أحسن، ليكون الذي بيننا وبينه عداوة كأنه ولي حميم، فلنكن من ذوي الحظوظ العظيمة، ولنكن من الصابرين المصابرين، والعاقبة للمتقين. |
ظواهر النقد الحديث وجذورها في التراث..! 2/3
د.حسن بن فهد الهويمل وما أن ساورتني الريبة في أمر التقارب بين ما فات من نظريات، وماهو قائم في المشاهد الأدبية والفكرية، رجعت إلى النظرية الجرجانية في كتاب «دلائل الإعجاز» قراءة وتعليق العلامة «محمود محمد شاكر» رحمه الله، وشاكر من ألدِّ خصوم المتهافتين على نظريات الغرب، وكانت له صولات وجولات مع المستشرقين والمستغربين، دون استثناء أو تحفظ، فلقد عرَّى أستاذه «طه حسين» الذي اضطره إلى قطع دراسته، بما أضافه إلى كتابه «المتنبي» الذي نال به فيما بعد جائزة «الملك فيصل»، كما أرهق «لويس عوض» في كتابه «أباطيل وأسمار» وله إلى جانب ذلك «رسالة في طريق مستقبل الثقافة»، أصْلى بها المستشرقين سقر الكلام. واتضح لي بعد استقراء ما كتب عن نظرية الجرجاني، ان هناك فرقاً واضحاً بين «البنيوية» كما هي عند الغربيين و«نظرية النظم» كما هي عند «الجرجاني»، ذلك أن «البنيوية» وإن تشابهت من بعض الوجوه مع «نظرية النظم» فإنها تنطوي على فروق جذرية، مع أن مرجعية النظريتين «أيديولوجية» وتبقى «نظرية النظم» مؤشر عبقرية عربية، وآلية نقد أسلوبي. وإذ نسلِّم بأن «نظرية النظم» وليدة همٍّ «أيديولوجي» فإن نظريات الغرب كافة تنسلُّ من رؤى فلسفية مادية خالصة، لا تحيل إلى وحي، ولا تؤمن بغيب، وقد لا تستشعر مبدأ العلة المباينة، وبخاصة عند طائفة الملحدين الغربيين، وعلينا أن نعرف الجذور الفلسفية لكل مصطلح يطرحه الغرب، وإن لم نفعل خلطنا العذب الفرات بالملح الأجاج، والمتهافتون عليها من أبناء جلدتنا تجذبهم بروقها الخُلّبْ، دونما وعي بحواضنها. وإن كان ثمة تشابه أو التقاء فإنه واضح كل الوضوح بين النظرية النحوية عند «سيبويه» ومن بعده عند «الجرجاني»، والنظرية «التوليدية» ل«أفرام نعوم تشومسكي» الذي درس علم اللغة والرياضيات والفلسفة، وعمل عضواً في عدة جمعيات علمية ولغوية، وارتفعت أسهمه عربياً نتيجة مواقفه الإنسانية على الرغم من يهوديته، ولما يزل قائماً في المشهد المعرفي والسياسي، يعالج نظريته التي لم يسلِّم لها الجميع، وإن أذعن له السرعان والخليون، وأراقوا ما في أوعيتهم احتفاءً بها، ولسنا ننكر أهميتها، وإمكان الاستفادة منها، دون إلغاء لما سواها. ولقد حاول بعض الدارسين تقصي مصادر «تشومسكي» ومرجعياته، لمعرفة تأثير «النحو العربي» ومنجزات العلماء العرب على نظريته. فالدكتور «حلمي خليل» الذي ترجم كتاب «نظرية تشومسكي» من تأليف «جون ليونز» يقول: (ولكن من الغريب حقاً أن كل الذين كتبوا عن حياة «تشومسكي» أو نظريته، يجهلون هذه الفترة من حياته العلمية، ولايتوقفون أمامها، فاللغة العبرية- كما نعلم- هي إحدى اللغات السامية، ومن المعروف أن نحاة العبرية الذين عاشوا في كنف المسلمين في الأندلس، مثل «سعديا الفيومي»، و«مروان الجناح» قد أقاموا درسهم النحوي للغة العبرية على طريقة العرب ومنهجهم في درس العربية). وهذا بعض ما أشار إليه المرحوم «حسن ظاظا» في كتابه «الساميون ولغاتهم» ولقد تساءل الدكتور «حلمي خليل» عما إذا كان «تشومسكي» قد اطلع على النحو العربي ودرسه، وأقام نظريته على ضوء ما توصل إليه من معلومات نحوية عربية. وفي رسالة تلقاها أحد المغرمين به، قال «تشومسكي»: -«وحين التحقت بجامعة بنسلفانيا في سنة 1945م بدأت مباشرة بدراسة اللغة العربية مع «جورجيوليفي ديلافيدا» الذي كان من أبرز المتخصصين في اللغة العربية ثم أومأ إلى أنه قرأ كتاب «سيبويه» وأكد في النهاية باعترافه احتمال وجود تأثيرات كبيرة. وتعرف نظرية «تشومسكي» بالنظرية «التحويلية» أو «التوليدية» وخلاصتها: افتراض جملة عميقة يتولد منها جمل كثيرة، لاحصر لها، وقد قدمها في كتابه «التراكيب النحوية» أو «البُنى النحوية» كما هي ترجمة «يوئيل يوسف عزيز» وهو قد عاصر مدارس فقه اللغة، التي عوَّلت على فرضية «الكسبية» فيما نظر هو إلى «الملكة» وعول عليها، استناداً إلى ما في العملية التوليدية من جمل ليست بمكتسبة، و«الكسبية» في نظر خصومها تحصيل وإعادة، فيما تنفرد «الملكة» بالتوليد على غير مثال محصل. والذين يتهافتون على نظرية «تشومسكي» يأنسون بفرضيات «دارون»، فهناك نوع من المعاضدة والشواهد، فتحولات المخلوق وتولده قد تشبه إلى حد كبير تحولات اللغة وتولدها. والمتضلعون من تراثهم المتمكنون من المستجدات يأنسون بالفرضيات، ولايعولون عليها، لأنها غير ثبوتية، والغرب دأبة البحث والتنقيب والتحول، وفي ذلك بعض المحمدة، وإذ يكون تحوُّلنا مضبوط الإيقاع بضوابط القيم، يكون من واجبنا التحرك وفق مقتضيات القيم، وضوابط اللغة ترتبط بالقيم الحسية، والإخلال بها إخلال بالتراث كافة، ولو تعقبنا التحولات في النظريات اللغوية على كل مستوياتها، لوجدنا كل حزب يراهن على رؤيته، وما من أحد سلم لأي نظرية، فيما نجد من بيننا من يقطع بموت نظريته، التي واكبت حضارته منذ القرون الأولى، ولما تزل قائمة على أشدها، وحين يخنع أحدنا، ويلغي نفسه في الآخر، يلتغي بسقوط فرضيته، وهذا ما نراه رأي العين في الذين اندفعوا وراء المبادئ والمذاهب. فأين «الماركسيون» و«الوجوديون» الذين أصبحوا أثراً بعد عين؟. وتحفظنا على التبني والفرادة والتخلية، وليس على الاستيعاب، ولا على الاستفادة أو التواصل أو التفاعل. والإسلام حين منع التبني شرع الأخوة الإسلامية. (وتشومسكي» كرس نظريته بالانفتاح والتلقي والاستجابة لكل تساؤل، ومن ثم فإنها لما تستقر بعد، والمعولون عليها حين يميتون «النحو العربي» تظل رؤيتهم كالمعلقة، ذلك أن «النحو العربي» معياري توصيفي لتراث قائم، فيما تأتي النظرية «التشومسكية» فرضية احتمالية بإزاء نظريات غربية قائمة، وليس بإزاء «النحو العربي» نظريات عربية مضادة، ثم إن «النحو العربي» ناتج رصد وتحليل ووصف وضبط ومعيار وإجراء، وخلاف النحاة إجرائي، وليس استبدالياً، وجزئي لا كلي، نجد ذلك عن «الجرجاني» و«ابن مضاء» ونجده بين «الكوفيين» و«البصريين» وبين «مدارس النحو» في الشام ومصر وبغداد، والتعدد والتنوع في الإجراء، والتأسيس لا يقوم على الفرضيات، إذ هي مرحلة تسبق النظرية، وإذا كانت نظريات الغرب تساعد على الإجراء أو التوصيل المعرفي، فهي منهج له وعليه، وليس من حق أي نظرية أن تنفرد بالمشهد، وليس من حق المتذيلين لها القول بموت ما سواها، وكيف يتأتى «موت النحو» وهو داخل في نسيج النظرية باعتراف صاحبها؟ ونظرية «الجرجاني» محاولة جادة لصياغة «النحو العربي» على شكل جديد، يخفف من المعيارية، ويتخطى النمطية، ويربط بين مقاصد النحو ووظائفه الوصفية والمعيارية، ولايلغي الأصول. وكان علينا نصر نظرياتنا التراثية، متى كانت قابلة للوجود الفاعل، ناهضة بمتطلبات البحث العلمي، متمكنة من مواجهة ما يجدُّ من نظريات، وداخلة في بنية الحضارة وثوابتها. والتحسس عن مفهوم النظريات التراثية ومقاصدها يكاد يؤاخي بين التليد والطريف. ولقد أحسست بعد التوغل في «التفكيكية» ان هناك اقتراباً وافتراقاً بينها وبين مقاصد «التذوقية» كما يراها متصوفة الاعتقاد في النص، ويلتمسونها بالحدس. فالحسية التفكيكية والحدسية التذوقية، تبحثان عما لم يقل، والمتصوفة لكي يحققوا المقاصد يركنون إلى نظرية معرفية خاصة وطريقة مغايرة للتلقي والتأويل. ولما كنت بصدد استكمال هذا الموضوع، فسوف أصرف النظر عنه إلى حين التفرغ لقراءة النظريتين القرائيتين. والقول في مستجدات الدرس النحوي يسقط مفهوم «الإحراق» و«الموت» المتداول عند بعض المتقدمين والمتأخرين، فلقد بدت الآراء حول مستجدات الدرس اللغوي متشابهة، أو ربما متناسخة، فكثير من الدارسين يرى أن «البنيوية» امتداد لنظرية «عبدالقاهر»، وأن التحويلية أو التوليدية تحوُّل طبعي للبنيوية مشكلة تعالقاً بيِّناً مع «النحو العربي»، وأن النقد الألسني أو الأسلوبي أو النصوصي أو ما شئت من هذه المسميات بكل تحولاتها خطوات متراتبة، أو قل سيراً وئيداً على حلقة مفرغة، يبتعد عن اللغة، ثم يعود إليها، يستدعي الدلالة في عملية إئتلاف مع الشكل، ثم يستدعيها عبر ظاهرية الدلالة أو عمقها، ثم يتعالق مع ناتج العلاقات والأسلوب والعبارة والجملة والكلمة بين التحليل والتحويل، ف «سيبويه» يعرب و«الصوفي» يحدس، ويتذوق، و«سوسير» يحلل، و«تشومسكي» يحوّل و«دريدا» يفكك، ولكل من: المعرب، والمتذوق، والمحلل، والمفكك، مقاصده الدلالية والشكلية، ثم إن «سكنر» يحيل إلى «الكسب» و«تشومسكي» يحيل إلى «الملكة» وآخرين يحيلون إليهما معاً، مسنودتين بالدربة والمقصدية، ومادة الجميع «اللغة» بوصفها نظاماً و«الكلام» بوصفه تطبيقاً، وليس من حقنا ممارسة التنافي أو الأثرة، إذ من المصلحة التفسح في المجالس، متى أمكن الجمع. ويأتي «الشكل» في هذه المعمعة منقسماً على نفسه، بحيث يعني الشكل اللغوي تارة، كما هو عند «مدرسة براغ» التي هي امتداد طبعي «للشكلانيين الروس» الذين انصبَّ اهتمامهم على الايقاع الشعري، ويعني التركيب الهيكلي للنص الناظر للإيقاع لا للبنية اللغوية أو الدلالية، مستمداً بعض مشروعيته من «عمود الشعر» بوصفه مصطلحاً استيعابياً للشرط الشعري، وليس خاصاً بالوزن كما يتصوره من قصرت هممهم، وأنا ممن قال ذلك، وأنس به، في طفرة الانفعال، وحاول جهده تقصي طائفة من النظريات القديمة والحديثة مثل «عمود الشعر» و«النظم» و«البنيوية» و«التحويلية» و«التفكيكية» و«التشكيلية» أو «الشكلانية» أو «شكل القصيدة» ولكن تبيَّن لي أن فيما نذهب إليه شيئاً من الخلط والتسرع والمبالغة، وأحسب ان الذين يفكرون برد الظواهر الحديثة إلى الأصول التراثية بشكل قطعي وشمولي، يحمِّلون النظريات ما لا تحتمل، وقد يبلغون بالمبالغة حد التقوُّل على التراث كل الأقاويل. ولو أننا تعاملنا مع الموقف بروية وأناة، واستبعدنا الشعور بالنقص، لكان لدراساتنا «المقارنة» شأن كبير، وما نفعله تحت ظل هذا الشعور فيه شيء من الخلط والتجاوز. ومشكلة الطرح النقدي عندنا أنه لايصدر عن قراءة مباشرة للنظريات من مصادرها، ولا يستكمل المعلومات عن أي مصطلح، وليس أدل على ذلك من عقد ندوة «لقراءة النص» والنص نظرية شائكة، تستدعي أشياء مسكوت عنها في بحوث المنتدى مثل: «المفهوم، والتكوين، والأبعاد، والإنتاج، والسياق، والنحو، والوظيفة، والجنس، والاستعمال، والتشكيل، والتأويل، والتعالق، والأفق، والترميز، ومستويات البنية، والصوتيات، والتداولية، والدلالة، والنمطية». وما لا نهاية له من متعلقات النص، وعلى المخفِّين الرجوع إلى نظريات النص، ومتعلقاته، ومسارد المصطلحات النصوصية، لكي يقولوا عن علم، ذلك أن بعض المتعالقين مع النظريات يكتفي بالقراءة عنها، أو التعويل على ترجمات غير أمينة، أو قد تكون لغة بعضنا الإضافية غير قادرة على تفكيك الرؤى والمقاصد، وما أكثر الذين ذهبوا إلى الغرب، ولم يستطيعوا تجويد لغته العلمية والثقافية، ولا السيطرة على ماتنطوي عليه تلك اللغة من فكر، ومن ثم لم يعولوا إلا على المترجمات التي تتنازعها الترجمة الحرفية المعجمية أو الترجمة بالمعنى ممن لم يستوعب المعارف المصطلحية، وكلتاهما غير دقيقة، وغير أمينة، ثم إن بعض القراءات يحجبها «الانبهار» بما يجدُّ من مصطلحات مترجمة أو معربة أو منقولة. والدهماء المحجوبة بعجزها عن استيعاب معطيات الثورة العلمية توجف وراء المتسطحين على الظواهر، فتخدعهم بأنفسهم، وتقترب بهم من ِسدَةِ التصنيم، وقد شغل اتهامي بالانبهار طائفة من المتعالقين مع المستجدات، ممن ليسوا على شيء من فهم المقاصد، ولا على شيء من اتقان الاجراء، وهم الذين طفح بهم الكيل، حتى أدى انفعالهم إلى خروجهم من سمتهم، وفقد صوابهم، وعندما يشتغل المحاور بالذات المحاورة تضيع القضايا، وذلك بعض مالقيته من ذوي النزعات الاستغرابية. والمذاهب والنظريات التي يتلقاها المبهورون صاغراً عن صاغر، لم تستقر عند ذويها، ولم تصل إلى مراحلها النهائية، ونحن نتلقاها على أنها قضايا مسلمة. ف«البنيوية» قبل ان تدخل عالم اللغويات، وقبل ان تستخدم في الدرس اللغوي، ثم في النقد، وفي سائر المعارف تعد نظرية قائمة بذاتها، لا علاقة لها بالأسلوب، ولا باللغة، ولا بالدرس النحوي. وعندما نظر «سوسير» في السياقات والأنساق والعلاقات، وهو نظر حصيف ولا شك، وتلقف رؤيته طلبة بررة، تحولت محاضراته المحررة بأقلامهم إلى نظرية صاخبة أطلقوا عليها «البنيوية» ولو ان من جاء بعدهم أخذ بتواضع «سوسير» ومعقوليته، لما منيت النظرية بما منيت به، وفي طفرة التعاطي بها ومعها جاء التفريق الدقيق بين اللغة المبدعة واللغة الشارحة، وجيء بالوفيات، ومثلما بولغ بالتعلق، بولغ في الرد إلى التراث، فالمميت مسرف في تعظيم الجديد، وملتمس الجذور في التراث مبالغ في الادعاء. ومثلما ردت «الوجودية» و«الماركسية» إلى الجذور العربية، ردت «البنيوية» إلى التراث وهكذا تقلبت المشاهد بين القطع بموت ما سلف والقطع بعودته متقنعاً وراء الجديد، والبنيوية التي خوت على عروشها هنا وهناك، وأصبحت أثراً بعد عين، بعد أن فرقت الكلمة، وأشاعت العداوة والبغضاء، كانت المنهج الأكثر صخباً وادعاءً في الدراسات اللغوية، وكانت من قبل ومن بعد المنهج الأكثر شيوعاً عند علماء الاجتماع والنقاد والفلاسفة، وحتى الواقعية الاشتراكية حاولت أن تستفيد من هذا المنهج، وأصبحت البنيوية ك «علم النفس» تدس أنفها في كل شيء، فجاءت «البنيوية التكوينية» وتهافت النقاد الماركسيون عليها، لاستجابتها لهم. وأعد الدكتور «حميد لحمدائي» رسالة علمية عن ذلك، قرأتها بتمعن مع ما قرأت من دراسات نقدية سردية، وكتبت عنها بوصفها منهجاً من مناهج نقد الرواية، وأثارت دراستي فضول البعض، حتى قال قائلهم: بأن ما كتبته في هذا الشأن «فضيحة» بوصفه قول من يجهل إبجديات النقد، ولما أزل أسمع من فلول المتذيلين الغمز واللمز، وما من أحد منهم واجه برأيه متوخياً الحق، ولم أجد بدّاً من ملاحقة فلولهم إلى جحورهم على غير ما اعتدت من المرور بمثلهم، وكأنني لم أسمع ولم يقل، وقصدت بذلك كشف تبعيتهم وإمعيتهم. وتهالك بعض المعاصرين على المنهج البنيوي فوّت على المشاهد النقدية فرصاً ثمينة، وحمل بعضهم على ممارسات نقدية لا تمت إلى الفن بصلة، وخير شاهد على تخشب «اللغة الثانية» الشارحة استفاضة «النقد الإحصائي» الذي أوغل فيه بعض النقاد، من مثل «سعد مصلوح» وحين وجدوا أنفسهم في متاهات لا نهاية لها، نبذوا تلك المناهج - تبعية لا استقلالية- وراء ظهورهم، ولم يتعرفوا على أنفسهم، ولا على حضارتهم، وإنما استشرفوا الآتي من المشارق والمغارب. |
ظواهر النقد الحديث وجذورها في التراث..! 3/3
د. حسن بن فهد الهويمل والذين نفضوا أيديهم من التراث، واستقبلوا فيوض المشاهد الغربية، ستكون لهم تحولات مرتبطة بتحولات من يفيض عليهم كدره وطينه، فيما يشرب المفيض الصفو في الورد والصدور، وما من أحد من أولئك المتلقين للمياه العكرة توخى حاجة الأمة، وبادر إلى ذلك، دون أن يكون رجعاً كرجع الصوت لخطاب الآخر. والمستلهمون لهذا الخطاب منهم مقلٌ ومكثر، ومسيء ومستوعب، ومتسطح ومتعمق. فتبعية (طه حسين) واستئناس (عباس محمود العقاد) وتعالق (محمد مندور) ليست على شاكلة من جاء بعدهم، ممن انسلخوا فكراً. ويقيني أن المشهد النقدي بانتظار ما سيأتي به المستغربون، مما فرغ منه الغرب، ونبذه وراء ظهره. وإذ لا أكون ضد الاقتراض والاستزادة والمثاقفة الواعية مع ما هو مستجيب لحاجاتنا، ولست ضد سنّة الحياة القائمة على التحول المستمر، فإنني أعرف كم هو الفرق بين التفاعل الواعي والتلقي العقيم. ومثلما أن النظريات تنسل تباعاً في مشاهد الغرب ، فإنها كانت من قبل تنسل من مشاهدنا، يوم كنا مستبدين مبتدرين منقبين عن حاجاتنا بأنفسنا وبإمكانياتنا وبمحض إرادتنا. وليس أدل على ذلك من (نظرية النظم) إذ المعروف أن (عبدالقاهر) طرح نظريته في مواجهة نظريات (المعتزلة) حول الإعجاز القرآني، ولم يرقب الآتي، ولم يعول على أحد، بل أعمل فكره ليواجه نظرية معرفية حادت بالنص عن جادة الصواب. لقد حاول من خلال طرحه هذا ان يلغي كثيراً من إنجازات المعتزلة في مجال الإعجاز القرآني. والمعتزلة أداروا النص في فلك العقل، وابتكروا مخارج لقطعيات الدلالة، وأحكموا صنع آلية البلاغة، ولما يكن الجرجاني ولا السلفيون كذلك. ومن ثم فإنه تعامل مع اللغة وأصاخ لها. وتراث المعتزلة له وعليه، ومفسروهم وشُرَّاحهم نقبوا في خبايا اللغة، وكشفوا عن جمالياتها، ولكنهم أخذوا بسلطان العقل المطلق، ولم يعولوا على النص إلا من حيث كونه مجالاً لبراعة العقل، وإن كانت لهم لطائف مبهرة ومثيرة. وكل قراءة واعية ترتبط بنظرية معرفية، نجد ذلك عند (السلفيين) و(الأشاعرة) و(المعتزلة) و(المتصوفة) و(الشيعة) و(الباطنية) ذلك أن النص هو النص، ولكن النظرية قد تميل بصاحبها عن جادة الصواب، وتنطق النص بما لا يريده المرسل. ونظرية (موت المؤلف) تهميش لمقاصده من الرسالة، وتفويض مطلق للقارئ. و(نظرية المعرفة) عند الطوائف الإسلامية أسهمت في انفتاح النص، ومكنت ذوي الملل والنحل من تحميله ما لا يحتمل. (والمركزية) في عملية (القراءة) تبادلها: النص والمؤلف والقارئ. وكل محتل للمركزية من الثلاثة يقوم بين مكوناته صراع على المركزية من داخله، ف (النص) على سبيل المثال حين همش المؤلف والمتلقي، اصطرعت في داخله على مركزية الأولوية: (اللغة) و(الدلالة) و(الفن)، والنقاد يتنقلون بين هذه المكونات المصطرعة، والمقلدون منهم لا يعون المحاذير، ولا يدركون المقاصد، وإنما سمعوا الناس يقولون شيئاً فقالوه. والتحرف الواعي يمكِّن العلماء والمفكرين والنقاد من إنتاج مناهج وآليات توجه النصوص وفق رؤيتهم، وقراءة معاجم المصطلحات النقدية القديمة تؤكد ثراء التراث بالمناهج والآليات وتشير إلى تعدد الاهتمامات، وما على المترددين إلا ان يقرؤوا ما أعده د(أحمد مطلوب) و/د(محمود الربداوي) و/د(الشاهد البوشيخي) وآخرون تقصوا التراث النقدي، وكتبوا عن مصطلحاته منفردة أو مجتمعة. وقد يستهلك المصطلح الواحد رسالة علمية كاملة، كما في كتاب (مفهوم الأدبية) للدكتور (محمد الزيدي)، ومن قبل أولئك (محمد مندور) الذي تعقب المنهج النقدي العربي وحرره. ولكل نحلة طريقتها في التلقي ولم تفترق الأمة إلا بسبب تعدد نظريات المعرفة. والمذاهب والنحل والملل ناتج قراءة واعية، تجاوزت التراتب والنمطية، ورسمت لنفسها نظرية في القراءة، وإشكاليات التأويل فرقت كلمة الأمة وحققت خبر الصادق (وستفترق هذه الأمة...) ومع ان عوائد تلك النظريات أضر بنقاء التصور الإسلامي للأشياء، إلا أنه أسس للفكر الإسلامي. ومثلما جنح الفلاسفة إلى (علم المنطق)، فقد تحرف الإسلاميون (لأصول الفقه) وقواعده، وركنت طائفة منهم إلى (المنطق اليوناني). و(الجرجاني) فيما يرى البعض انطلق في نظريته من النحو، ولم يبرحه، وقد يطلق على مشروعه (نظرية نحوية) وهذا يفتح أبواب الاحتمالات، ويحدو بالنقاد المقارنين إلى افتراض التقائها مع نظرية (تشومسكي) في المرجعية على الأقل، أكثر من دعوى التقائها (بالبنيوية) ذلك أن (البنيوية) استدعيت من حقل مغاير على افتراض أن اللغة بناء وتفكيك وإعادة بناء. حتى أن الدكتور (عبدالله بن حمد الخثران) في كتابه (الاتجاهات التجديدية في الدرس النحوي) جعل هذه النظرية عند (عبدالقاهر) منهجاً جديداً في الدرس النحوي، نائياً بها عن المنهج البلاغي الصرف، وماهو حقيق حين ذاد عنها حقولاً كثيرة، كالبلاغة والأسلوب والإعجاز. وكأنه أراد أن يعزلها عن البلاغة والأدب، بدافع التعصب للنحو، لكونه أحد فرسانه، ولربما حفزه إلى ذلك أنه رأى فيما يذهب إليه الدارسون ميلاً إلى جعلها في سياق تاريخ النقد الأدبي وتاريخ علوم البلاغة، ومنشوء ذلك كله الافتعال والانفعال. ول (الخثران) بعض الحق فيما ذهب إليه، لأن الهمَّ الذي يحمله الجرجاني همٌ نحوي يخالطه شيء من البلاغة، فالنحو طريق قاصد للدلالة، والبلاغة طريق قاصد للجمالية، والطريقان قد يتبادلان المهمات، أو يصطحبانها، وإن كان أعد مشروعه ليكون برهانا على الإعجاز البياني للقرآن الكريم، ورداً على (المعتزلة) وعالمهم الكبير (القاضي عبدالجبار)، وهذا ما كشفه العلامة (محمود محمد شاكر) في مقدمته . ومن العجيب أن الدكتور (عبده راجحي) في كتابه (النحو العربي والدرس الحديث) لم يعرض لهذه النظرية، ولم يشر إليها، ولم يعدَّها إرهاصاً للدرس النحوي الجديد، وهي نظرية نحوية واضحة، وإن اتسعت للبلاغة والأسلوب. أما الدكتور (أحمد مطلوب) في كتابه (عبدالقاهر الجرجاني بلاغته ونقده) فيعتبر بحق رائد الدارسين لهذه النظرية واكتشاف منحاها النحوي حيث يقول: (مرَّ النحو قبل عبدالقاهر بتطور كبير بعد أن وضع سيبويه كتابه الشهير وصنف المبرد كتاب المقتضب).... إلى أن قال: (ويختلف منهجه عن منهج النحاة في بحثها... وكان النحو عنده البيان الذي يحلل النصوص ويوازن بينها) (ص57). وكأنه بهذا يحاول الربط بين النحو والنقد من جهة، وبينه وبين البلاغة من جهة أخرى، ملغياً الفواصل الحدية. ونحن هنا لا نغمط الدكتور (أحمد أحمد بدوي) حقه في حديثه عن النظم، وربطه في المنهج النحوي، ولكن تجريد القضية وتحديد مسائلها، كانت بالفعل على يد (أحمد مطلوب) ومن بعده الدكتور (الخثران). و(بدوي) الذي أدرك فكرة النظم، لم يشأ جعلها تطورا في الدرس النحوي، بل رآها أسلوباً من أساليب البيان الذي استخدم النحو في سبيل ظهورها وتحريرها. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول بأن هناك فرقاً واضحاً بين (البنيوية) باعتبارها فلسفة مجردة من الاستخدام المعرفي لعلم النحو والاجتماع والأدب ونظريات (عبدالقاهر) و(تشومسكي). وكان بودي لو وجدت الجهد والوقت والمرجعيات الموسعة لأتعقب جذور البنيوية الفلسفية، والوقوف على طرائق المفرغين لمحتويات المصطلحات، وتجلية الغفلة والجهل عند أدعياء البنيوية، ولست أشك أن جذورها مادية جدلية، وأن إمكانية التفريغ التام عصية، وجذور البنيوية الفلسفية تعول على المادة والحركة والطاقة وناتج العلاقة، التي تزول بزوال العلاقة وتفاعلاتها، ولا تؤمن بمبدأ العلة المباينة. ولأنني لم استكمل هذا الجانب فانني أغري المقتدرين من طلائع شبابنا الجادين في الدراسات العليا في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ليتلقفوا الخيط، ويمضوا مستكملين ما بدأه (فؤاد زكريا) في كتابه (آفاق فلسفية) و(زكريا ابراهيم) في كتابه (مشكلة البنية) الذي تحدث عنها من خلال (الماهية) محيلاً إلى قانون التحولات والأنساق، وبعد أقل من خمسين صفحة قفز إلى البنية في ميدان اللسانيات، و(الانثروبولوجيا) و(الابستمولوجيا) و(السيكولوجيا) وانتهاء ب (الماركسية). وإذا كان النقاد استخدموا المنهج البنيوي كأسلوب نقدي جديد، فإنهم يتناولون هذا المنهج كما يتناوله (سوسير) و(تشومسكي) وغيرهما، وكما ذهب من قبل كل أولئك عبدالقاهر. وعلينا لكي تدق رؤيتنا في تصور الأشياء أن نقتفي أثر المصطلح في عملية رصدية استكناهية، فالفلاسفة واللغويون و(الانثربولوجيون) و(الماركسيون) والنقاد كل أولئك قالوا من خلال (البنيوية) وهي معهم في تقلب مستمر، مفاهيمها داخل الحقل المعرفي الواحد تختلف من مرحلة لأخرى، ومن مفكر لآخر، فكيف بها حين تبرح حقلها إلى حقل مغاير، ولهذا فإننا لن نستطيع ان نقول إن (النقد البنيوي) امتداد (لنظرية النظم) عند (عبدالقاهر)، وإن كان هناك بعض التشابه، لأننا حين نغوص في أعماق هذه النظريات يتضح لنا الفرق الدقيق بينها، وهذا ما لم يكلف بعض الدارسين نفسه فيه، الأمر الذي أوقعنا في شيء من الخلط العجيب. وفلول الدارسين الذين يرددون مصطلح (النص) ويتهافتون على القراءة من خلال مفاهيمه التي لم يستوعبها بعضهم، ويربطون بينه وبين المنهج والآلية مكتفين بالقراءة التلفيقية أو الاعتباطية يتجاوزون مقتضيات تلك المصطلحات، أو يقصرون دونها، (فالنص) قد يحيل إلى البناء اللغوي، وقد يكتفي باستحضار سلطانه بوصفه بديلاً لسلطان المؤلف أو الموضوع، وقد يحيل إلى أشياء غائية. وقراءته عند بعض الاتجاهات تعني تقويض اللغة بآليات تمتلك القدرة على تفكيك البنية بطريقة دقيقة لانتاج دلالة تتعدد بتعدد القراء، وهذه الفرضية أفقدت رسالة النص مهمتها التوصيلية، بحجة (التوتر) و(الانقطاع) و(الانفتاح)، وأتاحت الفرصة للتأويل المتمرد على كل قيد. حتى لقد أدان بعض المتعقلنين فقهاء الإسلام بما توصلوا إليه من استنباطات مرتبطة بقواعدهم وأصولهم، محيلاً إلى ثبات الحكم بشأن الدلالة دون النظر إلى تغير الأحوال. وحين نسمع ب (قراءة النص) كما فعل (نادي جدة الثقافي) تشرئب أعناقنا إلى مقاصد المصطلح ومفاهيمه، ويتبادر إلى الذهن (البناء اللغوي) الذي لا يمتد إلى الدلالة، وإن كان (الماركسيون) دسوا أنوفهم، وطوعوا المنهج البنيوي ليكون قادراً على استيعاب البعد الموضوعي و(البنيوية التكوينية) اشتغال بالدلالة بوصفها (بنيوية موضوعية)، وقد يأتي من يفكر بمقاصد (الأنساق الثقافية) بوصفها تخطياً من جماليات النص إلى معطياته. و(النقد الإسلامي) له وقفات مع النص، تصطحب معها البنية ومفاهيم الجماليات متخطية إلى الدلالة وانعكاسها على الممارسة، وهذا المقصد لايتحقق إلا من خلال الاشتغال بالنسق الثقافي المستذكر بعد آمة. والنقاد الذين لا يستبدون، ولا يبادرون، ولا يفكرون، يظلون مرتهنين لتفكير الآخر. وقد تؤول بهم الاتكالية إلى غبش الرؤية، وارتباك التصور، ولهذا لابد من تأسيس حركة نقدية عربية، تآخي بين التراث والمعاصرة، وتضع كل الاعتبار للقيم الحضارية، وتتفادى الذوبان، وتتمكن من هضم الجديد، ليمكث منه في الذاكرة ما ينفع الأمة، تاركة الزبد يذهب جفاء. ولا يُحْسِن المؤاخاة إلا الذين تضلعوا من التراث، وعرفوا إشاراته الذكية، واستوعبوا المستجد دون انبهار. وعلى الذين أسرفوا على أنفسهم باستدعاء النص، أن يعرفوا تداعياته، لا من حيث مداخله التاريخية وأشكاله ونظرياته المتعددة بتعدد المتحدثين، وبتعدد الأزمنة والأمكنة، ولكن من حيث ما ذكر، وما لم يذكر، مما هو مرتبط بمفهوم النص في الماضي والحاضر، وفوق كل ذلك لابد من السيطرة على مفاهيمه التي تسهم في تناسل النظريات. والذين يعولون على النص بوصفه المصطلح الأكثر حضوراً في الراهن النقدي لابد أن يلموا بأبنيته التي لا يمكن تفكيكها والغوص في أعماقها إلا من خلال تجويد (نحو النص) والحد من (نحو المعيار). والذين أسهموا في قراءة النص، عبر ملتقاه وجاءت دراساتهم ضمن الملف الذي أصدره (نادي جدة الثقافي)، لم يستوعب أكثرهم مقاصد المصطلح ، ولم يستشعروا رؤى أساطين (نظرية النص) من أمثال (ماينريش) و(مندايك) و(بتوني) ولم يعَّولوا على منجز المفكرين والأدباء، وبخاصة المغاربة منهم مثل د(محمد مفتاح) و(حمادي صمود) و(سعيد يقطين) والمصريين مثل د(جابر عصفور) و(نصر حامد أبوزيد) الذي أضلته نظريات (قراءة النص) فجاء بما لايحتمل، حتى اضطر إلى النجاة بجلده والهروب خارج وطنه، إضافة إلى إسهامات (يمني العبد) و(علي حرب) و(جوليا)، على أن مصطلح (الكتابة) بدأ يؤتي ثماره مهمشاً نظرية (النص). إننا سعداء باستدعاء النظريات والمصطلحات والمناهج، وما من سبيل إلى التلاقح الحضاري إلا من خلال الجسارة، ولكننا أخوف ما نخاف على راهننا من الاهتياج الأعزل، وتقحم المفازات سعياً وراء سراب القيعان، ومآل ذلك كله تشكيل ذهنيات مزيفة، تحرف الكلم من بعد مواضعه. وتداول المصطلحات، دون فهم دقيق، ووعي عميق، يكشف عن تسرع يربك العملية الاستيعابية، ومتى قصرت أيدينا عن أخذ المستجد بقوة فإن الأجدى تمثل تراثنا استعداداً لتلقي ما يفد. والذين استدبروا تراثهم، وأخذوا بعصم المناهج الجديدة لا يقدر أكثرهم على المؤاخاة المطلوبة، ولايقدرون على الحوار المتكافئ، ولا يحتملون متطلبات التأسيس والتأصيل. ومع كل ما ينتابنا من الخوف فإن مشاهدنا المحلية والعربية لا تخلو من كفاءات استوعبت التراث والمعاصرة، واختطت لنفسها منهجاً متوازناً، يستجيب لمتطلبات المرحلة. والخوف كل الخوف من دهماء تحسب الشحم ممن شحمه ورم. |
تكريم الرواد
بقلم د. حسن بن فهد الهويمل* الأديب العالم الداعية معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، لي اليه أكثر من مدخل، وحديثي عنه تتنازعه عدة قضايا. فلقد عرفته تربوياً يمتلك قوة الشخصية وقوة المعرفة. وعرفته إدارياً محنّكاً يمارس العمل الاداري وفق أدق الطرق وأشملها وأقدرها على الأداء السليم. وعرفته قارئاً نهماً يرشدنا الى الكتب والمجلات والدوريات؛ ويغرينا بالقراءة لكتب التراث وأمّهات الكتب. في الثالثة عشرة من عمري، تقدمت لمعهد بريدة العلمي، وكان إذ ذاك يقبل طلبة «الرابع الابتدائي» فما فوق، وكنت في الصف الخامس الابتدائي، وحين دخلت مكتبه، أحسست بهيبته وجلاله وهو رجل مهيب وحازم وهو أميل الى القوة مع الطلبة فلا ينبس أحد عنده ببنت شفه، ومن بعد ادارة المعهد تلتقطه مواقع علمية ودعوية، وكان ان سهم في تأسيس الجامعة الاسلامية في المدينة ثم عمل وما يزال في رابطة العالم الاسلامي، وكل المسؤوليات التي واكبها منذ أكثر من نصف قرن لم تقفه عن التأليف في مختلف العلوم والمعارف، وبرز كاتبا لأدب الرحلات، حيث أتاح له عمله في الرابطة أن يكون كما وصفه «المتنبي»: «ما حطَّ من سفر إلا الى سفر» أو كما وصفه «الشنفرى»: «تَهاداهُ التنائف أطحل» لقد طاف العالم ولم يدع بقعة من بقاع الأرض إلا وحطت فيها رحاله. وألّف عن كل دولة، أو بلد، أو مقاطعة كتاباً أو أكثر تحدث فيه عن حضارتهم، وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم وآدابهم وأديانهم وكل ما يهم القارىء، وخلّف وراء ظهره أكثر من مائة كتاب في «أدب الرحلة» وهي ثروة تاريخية جغرافية فكرية تهم كل مثقف ومسؤول. وفي العام الماضي كرمه «نادي القصيم الأدبي ببريدة» تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز أمير منطقة القصيم، ويومها تفضّل صاحب السمو بالأمر بتسمية أحد الشوارع ببريدة باسمه، وتسمية إحدى المدارس الثانوية باسمه وقد تم ذلك وهذا جزء مما يستحقه أمثاله فهو العالم الجليل الذي قضى شبابه وكهولته في خدمة الدين والوطن وأسهم في التأسيس لحركة علمية ودعوية. وتكريم المنتديات والمؤسسات لأمثاله بادرة طيبة ووفاء لرجالات البلاد وأملنا في أن تحذوا كل مؤسسة أو ندوة أو جامعة حذو الذين بادروا في التكريم و«ثلاثية المشوح» التي أنشأها الأخ الكريم الشيخ محمد بن عبدالله المشوح أسهمت في تكريم عدد من الكفاءات الوطنية من رجال العلم والتربية والأدب، وهو اسهام مشكور وسلوك حضاري وبلادنا والحمد لله تعي مسؤولياتها إزاء علمائها وأدبائها وكافة العاملين من أجل خير المجموعة. نسأل الله السداد والعون والتوفيق. * رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي رئيس نادي القصيم الأدبي ببريدة أستاذ غير متفرغ للأدب بجامعة الإمام |
النجومية بين: التألق، والانطفاء..!
د.حسن بن فهد الهويمل ليست كل النجومية كاذبة خاطئة، وليست كلها مليئة بالإيجابيات والطهر الملائكي، والممحصون لعوارض التألق والانطفاء يربطونها بأحوال الأناسي وشهواتهم وبالظروف وتقلباتها. والأناسي منهم الصالحون والطالحون، والسابقون في الخيرات والظالمون لأنفسهم. والواقعون فيها ليسوا جميعاً بلُّوريين يشعون النور من الذات، ولايعكسونه من الآخر. ومَن تصور النجومية مليئة أو جوفاء، دون حفرية معرفية وخبرة استكناهية، فقد ظلم نفسه وقبيله، وهي مع هذا التفاوت تعد إشكالية العصر، وبخاصة بعد ثورة الاتصالات، وتدفق المعلومات، وانتشار القنوات، وتعدد وسائل الإعلام الجذابة المغرية. والنجوم الجوف كالعملات المزيفة، لايكشف زيفها إلا التداول بين أيدي الخبراء، وإذا كان الإيمان يُحكُّ بالدرهم والدينار، ليبدو صدقه من كذبه، فإن النجومية تعريها المواقف والأزمات والمواجهات، وتكشف عن أصوليتها أو وصوليتها سنة الله المتمثلة بالامتحان {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ }. وقد فتن مؤمنون ومدَّعون، فعلم الله الصادق من الكاذب. وقد تسهم الأضواء التي صنعت النجوم في تعريتها، كما السحر ينقلب على الساحر. والمواجهة بكل صورها آلية مهمة من آليات الجس والسبر، وهي بلاشك إحدى السبل التي تكشف عن الأصالة أو الزيف. هذه الخواطر انقدحت في ذهني، وأنا أمتري أخلاف الذاكرة، لأجيب على سؤال بدهني به أحد الزائرين الذين يودون الإجابة على كل ما يعن لهم، أو هكذا يتصورون إمكانياتي، وكأني ابن بجدة المعارف والمواقف. وما درى الزائر أن نصف العلم (لاأدري)، وأن من قالها فقد أجاب. والملائكة الكرام لا علم لهم إلا ما علمهم ربهم، وموسى عليه السلام، قال لعبد من عباد الله: {هّلً أّتَّبٌعٍكّ عّلّّى" أّن تٍعّلٌَمّنٌ مٌمَّا عٍلٌَمًتّ رٍشًدْا}. فمن نكون إلى جانب الملائكة الأبرار والرسل الأخيار؟ قال ذلك السائل: -لماذا تقترف وسائل الإعلام إحراق النجومية بمحاصرة الضيف بالأسئلة التي لايحير لها جواباً؟ ولماذا يكون جوابه متسطحاً لا يلوي على كبير فائدة؟. ولماذا ينكص النجم على عقبيه، ويقول ما لا يعتقد، أو يعتقد ما لايقول؟. وبعد أسئلته تابع القول: إننا نعيش حالة من الانبهار والإكبار لمن كنا نعدهم من الأخيار، حتى إذا سمعنا أو قرأنا لبعضهم، تساقطت الانطباعات، وتعرت الحقيقة المرة. وسؤاله هذا لملم لي أطراف النجوم في كل مجال، وأنكا جراحات دفينة. قلت للسائل: -ليس من شرط النجومية الامتلاء المعرفي، ولا الطهر الملائكي، ولا الثبات المبدئي، النجومية قد تكون ناتج ضربة حظ، أو افتقار مشهد، أو غفلة مُشاهد. وفي الأساطير مقولة المتألّه: - (قيل: من أمرك؟ قال: من نهاني؟) ومن ثم فإن هناك فرقاً بين من يزحف في القارعة إليها (كما زحفت فوق الصعيد الأراقم)، ومن تأتيه منقادة تجر إليه أذيالها، كما الخلافة مع الممدوح، بحيث لا تصلح إلا له، ولا يصلح إلا لها. إذاً هناك (متناجمون) و(نجوم) وساعون إليها، وساعية إليهم. والأقل الأقل من المتابعين من يملك القدرة على الفرز بين نجم تهاوت النجومية تحت قدمه، وآخر استمات في سبيل التشبث بأذيالها، يدعي وصلها، وتدعي بُعْدَه و(المتناجمون) نفذوا إليها في غفلة من الرقباء، فكانوا كمن تسلق المحراب، وأتى البيوت من غير أبوابها، ومن فرغ لامتحان الظواهر تكشفت له عن تفاهات مخيبة للظن، وقديماً قيل: -(أزهد الناس بالعالم أهله) ذلك أنهم يرون منه ما لا يراه الأباعد. والنجومية تكون في (الدين) بكل مذاهبه وتياراته واتجاهاته، وفي (الفن) بكل أنواعه: القولية والفعلية، وفي (العلم) بمختلف فروعه، وفي (السياسة) عند إقبالها وإدبارها، وفي سائر الأوضاع الاجتماعية، ودعك من نجوم (كرة القدم) وما أفاء الإعلام به عليهم من مكرمات يتطامن أمامها كل النجوم. ولكل حقل معرفي نجومه المزيفون والحقيقيون، ولكل مؤسسة دينية أو سياسية أو أدبية أو علمية أو فكرية أو اجتماعية نجومها الراغبون في النجومية والمكرهون عليها. ومن علماء الأمة الورعين من يضيق ذرعاً بالراكضين خلف أعقابه في غدوه ورواحه، بحيث يراهم من الفتنة والافتتان، ويجتهد في صرفهم عن ملاحقته، حتى أن من الزاهدين في الأضواء من يغلق عليه بابه. والمستخف منهم من تستدرجه المظهرية، وتخدعه الشهرة، وتعميه الأبهة، فينسى رسالته في غمرة الأشياع والأتباع، وتتحول عنده المظهرية إلى خمرة مسكرة، تشله ضراوتها، ويضطره تملق الجماهير إلى استقراء رغباتهم، ولو الجأه ذلك إلى النكوص عن جادة الصواب، على سنن (هكذا يريد الجمهور). وتألق النجم قد يأتي بالصدفة، أو يأتي نتيجة الخطأ، فبعض الإجراءات المتسرعة، وغير الحصيفة، تصنع النجم. والأذكياء من يفوتون الفرصة على المتماسين مع الثوابت، فلا يعارون اهتماماً، ولا يقام لهم وزن، والخصوم أسرع من الأنصار في صناعة النجومية، ولهذا يبرع بعض الخاملين في ضرب السوائد والمسلمات، أو تعمد الإثارة، سواء كانت عن طريق التهتك الأخلاقي، أو الانحراف العقدي، أو التمرد السياسي، أو الإغراق في الإغراب. ولكل متناجم آليات لعبته التي قد تخفى على الدهماء وغير المجربين، مثلما تلتبس خفة الحركة في الألعاب البلهوانية. وكل ذلك لمجرد الإثارة ولفت الأنظار. وحين تضج المشاهد مستنكرة السفاهات والتفاهات، تنهض الرويبضات لتقول عن (حق الحرية) في القول والفعل، ومن هذا اللغط تشع النجومية الزائفة، وأقرب مثل على ذلك ظاهرة (الروائيين) الذين تهتكوا أخلاقياً، أو انحرفوا عقدياً، أو تمردوا سياسياً، أو تحللوا فنياً، فكانوا حديث المجالس، ومادة النقد، وسبيل الجذب لمواقع المعلومات. ومثلهم (النقاد) و(المفكرون) و(العلماء) فمنهم من قضت عليه لعبته الخطيرة، ومنهم من شردته خطيئته، فتكفلت المؤسسات المشبوهة بحمايته، وتعهدت بتلميعه من جديد. وقد يكون النجم مفردة من مفردات اللعب السياسية، والذين يقرؤون بعض مذكرات الزعماء الغربيين، يمرون بإشارات ذكية، تكشف عن حذق التدبير في صناعة النجم لأغراض سياسية. فالذي يعول عليه في تمرير لعبة مصيرية، لابد أن يكون لامعاً وجذاباً وشعبياً، وليس بمقدور أي صانع للألعاب واللاعبين أن يخطف أي شخص، ويجعل منه نجماً بين عشية وضحاها، بل لابد ان تكون لدى المختار استعدادات شخصية، تمكنه من الاستجابة، واتقان التمثيل، وقد يمر بمثل ما يمر به رواد الفضاء من تدريب مكثف. وهذه الطائفة من النجوم ينتهي وجودها بانتهاء اللعبة، فإما أن يُقضى عليهم فيموتوا، ويطمروا مع لعبهم كما النفايات النووية، وإما أن ينطفئوا، ويختفوا كالأموات. والأنظمة والأعراف والمسلمات الاجتماعية تسهم في خلق النجوم، كما أن الظروف قد تخدم طائفة منهم، وتخذل أخرى، والوسائل والوسائط تصل بالنجم إلى سِدَة النجومية، ولكنها لا تحميه، ولاتوفر له مقومات البقاء. فكم من متناجم عرف تركيبة النجومية، ولكنه لم يعرف متطلبات البقاء على عروشها، فكان كالقارئ في كتب الشعوذة والبهلوانية، يدخل بها دوائر الضوء، ومجود آلية النجومية الذي لايحمل مؤهلاتها، يتشظى كالجرم الخارج عن فلكه. والوصول المزيف يفضح صاحبه، ويسقطه إلى الأبد. ولعلنا نضرب الأمثال بنجوميات خادعة، كشفت عن زيف وجهل وعجز. نراهم يشعون بسرعة النجم إذا هوى، ثم يغيبون في كهوف النسيان. والمجتمع البدائي يبهره كل شيء، وتكون فرص النجومية فيه سهلة المرتقى، ومن ثم يعتمد عشاق الأضواء على المخالفة لكسب الذكر على حد المثل القائل: - (خالف تذكر). ومجالات النجومية كثيرة: فالمعارضة السياسية سبيل من سبل النجومية، وهي الأسرع في صناعة النجم، يعمد إليها البعض عن قناعة وموقف ومبدأ ومشروعية، ويتخذها آخرون سلماً سهل المرتقى، دون أن تكون لهم قضايا، وتكثر المعارضة في الدول النامية، لقيام دواعيها، ولوجود الداعمين لها، وقد تقوم في الدول الديمقراطية، فهذا (تشومسكي) في أمريكا -على سبيل المثال- معارض لسياسة ديمقراطية مؤسساتية، عارض حروباً وأحلافاً وتدخلات، وكسب النجومية، ومعارضته ليست رغبة فيها، ولكنه يؤمن بمبادئ، تختلف مع (ميكافيلية) المؤسسات الأمريكية، وليس شرطاً ان تتفق رؤيته مع العدالة والحق، وليس شرطاً أن يكون نجماً في المنظور العربي أو الإسلامي، المهم أنه تألق بمعارضته، وأصبح علماً من أعلام المعارضة، ونجماً من نجوم السياسة، وعلى شاكلته كُتَّاب ومفكرون وساسة. وفي الدول النامية آلاف المعارضين، الذين يسلكون مختلف الطرق، ويثيرون مختلف القضايا، ويتبنون مختلف الاتجاهات، ويتخذون مختلف الأساليب. منهم الصادق الناصح، ومنهم الوصولي، ومنهم المتهور المنكّبُ عن ذكر العواقب جانباً. ولو استعرضنا الثورات العربية، وخطاب كل طائفة، لتبدت لنا فداحة المصائب التي جرها الثوريون على أهلهم وعشيرتهم، وبلغت بالأمة الدرك الأسفل من الهوان، ومع ذلك تجد من يقول عنهم ما لو تحقق أيسره، لكانوا من أولي العزم من الرسل، وتاريخهم الدموي التدميري التبعي لاينكره إلا مغالط أو مدخول. ولاشك أن التَّماس مع المؤسسات السياسية طريق سريع للوصول إلى النجومية. والمعارضة قد تكون بدواع سياسية أو اقتصادية أو دينية أو اجتماعية أو عرقية أو إقليمية أو طائفية صادقة أو كاذبة، وحين تكون صادقة، تكون موفقة أو غيرَ موفقة، مقدِّرة للموقف ومؤقّتة له، أو غير مقدِّرة وغير مؤقتة. فليس كل نجم يحالفه الحظ، وهذا مصداق التساؤل: - {أحسب الناس...}. والناس دائماً بحاجة إلى من يثير كوامنهم، ويشبع فضولهم، ويستجيب لمتطلباتهم، وينوب عنهم في النبش عن المسكوت عنه. ومجال الدين واختلاف علمائه من فقهاء ومتكلمين ومفسرين وشراح كمجال السياسة والمعارضة، لهذا نجد من ينقب عن شواذ الآراء في (الفقه)، ويتخذ الفتاوى الراجحة أو المرجوحة سبيلاً للتألق، فيفجرها وسط أمة خالية الذهن موحدة الفكر، غير مكترث بما تتعرض له وحدة الأمة الدينية، ثم يلحق به السرعان، حتى إذا عذُبت في فمه، وحسنت في عينه النجومية تصدر للفتيا، واستمرأ المخالفة، وربك المشاهد، وما علم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذ بالمفضول دون الفاضل احتراماً للمشاعر، وحرصاً على اجتماع الكلمة. وإذا كان (الإجماع) من الظواهر النادرة، حتى لقد قال بعض العلماء: (من ادعى الإجماع فقد كذب) فإن التنقيب عن مسائل الخلاف، ومنازعة العلماء فيها إخلال بالمروءة العلمية، مع أن كل مسائل الخلاف معلومة متداولة بين العلماء، وفيها مؤلفات في متناول أيدي المتابعين، تختص باختلاف المذاهب فيما بينها، وأخرى تختص باختلاف علماء المذهب الواحد، وماترانا نقول إلا معاراً أو معاداً من قولنا مكروراً. ولن يستقيم أمر الأمة إلا بمرجعية دينية يذعن لها الجميع، وتطمئن إليها النفوس، ويرجع إليها الكافة عند التنازع. والعلماء الأفذاذ يحترمون الرأي متى كان على حق مفضول، وبعض العلماء أخذ برأي فقيه البلد، حين يمر بها احتراماً له ولأشياعه. ولو أن الجمهور لم يندفع وراء المتناجمين ومثيري الشغب العلمي، ولم ينخدع بالبروق الخلّب، ولو أنه تأمل في كل خطاب، وفكك كل رؤية، واهتم بالقضايا، ولم يهتم بالأشخاص، لقطع دابر النجومية المزيفة، ومكن القطا من أن ينام ملء جفونه، فالمتلقي يتحمل شطراً من المسؤولية، لأن الانبهار يُعدُّ من الحواضن المساعدة على تناسل النجوم المزيفين. والمشاهد المتعددة حين يكون نظَّارتها عاطفيين انفعاليين تحجب الرؤية السليمة فيها، وتتاح الفرصة لكل وصولي لا يؤمن بحق الحياة الكريمة للأمة، واحسب أن للتربية دوراً مهماً في هذا، ولكنه من الفرائض الغائبة، ذلك أن التعليم يقف عند الممارسة التلقينية الحشوية، ولا يأبه ذووه بالتحليل والتقويم، وتربية الأذواق وتهذيب الأخلاق وتصفية الدين مما علق به. وشباب الأمة حين تستنزف طاقاتهم بالهتاف الأجوف، تستدرجهم الانتماءات المتصارعة، وتفوت عليهم الفرص الثمينة. والذين يتهافتون على الأضواء، ويحرصون على أن يظلوا في الذاكرة الشعبية، تتولد عندهم الطرائق، وتتناسل القضايا، بحيث لايستقر لهم قرار، فكلما انطفأت قضية، وعجزت عن تكريس حضورهم، قفزوا كالقردة إلى قضية ثانية، فهم لايريدون أن يغفل الناس عنهم ساعة واحدة. والنجومية الزائفة مرض نفسي، يحمل صاحبه على المغامرات، والتنقل من ظاهرة لأخرى، والمقوون يخدعهم التورم، وشر الإقواء مايعرض لذوي الصدارة. وعشق النجومية يهبط بالعالم والمفكر والسياسي والممثل، ذلك أنه يجس نبض الشارع، ولا يقوِّم الفكرة، ولا يثمن الحاجة، ولا يجد بداً من التعديل والتبديل في صياغة خطابه، كي يناسب الجمهور، متناسياً ما يجب. والمتمادي في تملق الجمهور يجد نفسه في حالة استسلامية لايملك معها الاستقلالية، فالجمهور هو الذي يصوغ الخطاب، ومتى حاول النجم المتصنع مواجهة الرأي العام قعدت به مثمناته الذاتية ومكتسباته الآنية، مثلما يقعد بالمعيل عياله، وقد قيل: الأولاد (مجبنة) (مبخلة) (مجهلة)، وإذا صنع الجمهور النجومية، تدخل في صناعة الخطاب، فكان النجم ك(عجل) بني إسرائيل، جسداً له خوار. وسؤال الزائر المثير ينصب على أولئك الذين يلحون بالحضور عبر وسائل الإعلام، ثم لايكونون مثيرين، ولا جذابين، ولا وقافين عند مبادئهم التي تعملقوا في ظلها، ولما لم أكن متابعاً لكثير من تحولات النجوم ولمَّا لم أكن قادراً على شق الصدور ومعرفة النوايا فإنني لست أعني أشخاصاً بأعيانهم، وعلى كل من حيزت له النجومية بحذافيرها أن يحاسب نفسه، فالمفتعلون للمواقف يسارعون في السيئات، ولا يسارعون في الخيرات. علماً أن تعدد المواقف يؤدي إلى التناقض وخلط الأوراق، ويقيني أن سوء الفهم ناشئ من خطأ التصور، فالعلماء والأدباء والمفكرون والساسة الحقيقيون يقولون ما يعتقدون، دون تفكير استدراجي للمتلقي. ومثلما نقطع بزيوف النجومية، نقطع بأن المجتمع ودود ولود، يدفع إلى مشاهدنا بالنجوم الحقيقيين الذين لايشك في صدقهم وإخلاصهم واقتدارهم إلا مدخول في فكره. وعلى الجميع من النجوم والأشياع أن يتذكروا ابتلاء السرائر، وتحصيل ما في الصدور، وختم الأفواه، وإنطاق الجلود، وقول المالك ليوم الدين: - (وقفوهم إنهم مسؤولون). |
جذور التنازع المعرفي ومحفزاته..! (1/2)
د.حسن بن فهد الهويمل الاختلاف والتدافع والتداول سنة ماضية، لا تتأتى عمارة الكون إلا بها، والبراعة والتوفيق يبدوان في تحويل ذلك كله إلى اختلاف إيجابي، يتسع للتعاذر، والدفع بالتي هي أحسن، ويحول دون التنافي والأثرة والعداوة والبغضاء، متى كان الاختلاف في إطار التنوع لا التضاد، وبحيث لا يؤدي التعاذر إلى الإيمان بمبدأ تعدد طرق الخلاص، كما يراه المفكر الفرنسي المتأسلم (روجيه جارودي)، ذلك ان قيم الدين ومتطلباته من تغيير المنكر بمستويات التغيير الثلاثة، والأطر على الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة، وإبلاغ الآية، وإسماع كلام الله ليس وجوبها مجال اجتهاد أو اختلاف، وإنما الاختلاف معها يكون حول مؤهلات الناهض، وأسلوب النهوض، والقدر الكافي من التبليغ، ومستويات التكليف. وحديثنا عن التنازع وجذوره ومحفزاته حديث شمولي، يطال الفروع من الدين ولأصول من الفن والفكر والسياسة والاجتماع، وماهو داخل ضمن المعرفة الإنسانية. ومهما حاول الإنسان توقي محفزات الاختلاف، فهو واقع فيها، لارتباطها بالعقول المختلفة والمكتسبات المتفاوتة والتصورات المتعددة والأحوال المتباينة، وحين لا يكون بدّ من الاختلاف فإن تطلعنا ألا يرقى إلى الثوابت وأصول العقائد وألا يصل الاختلاف إلى الخلاف، ويبلغا معاً مشارف الفتنة، والإسلام قد عالج أساليب التعامل مع المخالفين، ورسم طريق النجاة حين يبلغ الصدام ذروته، ويتحول إلى فتنة يكثر فيها الهرج. وحين يصل الاختلاف حد الفرقة، ويوشك على التقاء المسلمين بسيفيهما، يكون الاعتزال هو الحل الأمثل، وقد عالج الفقهاء اتقاء الفتن، وجاءت النصوص قطعية الدلالة والثبوت، ترسم للمسلم طريق النجاة، حتى ولو لم يبق إلا أن يعض المتعرض للفتنة على أصل شجرة بانتظار أمر الله. وتنازع الأنام الذي يساورني همه في هذا المبحث لا يمتد إلى تنازع العقائد والحضارات، مما يعد (خلافاً)، وإنما هو عن (الاختلاف) داخل المنظومة الفكرية الواحدة. والفرق بين (الخلاف) و(الاختلاف) أن الأول اختلاف في الطريق والمقصود، والثاني اختلاف في الطريق دون المقصود. وحين يكون (الاختلاف) ناتج الاجتهاد، ويكون الاجتهاد مشروعاً في ثلاثة من مستويات النص الأربعة، (الدلالة والثبوت) بين (القطعية والاحتمالية) يكون الاختلاف حتميا، ويكون العمل على توفير (الاجماع) من إضاعة الجهد والوقت والمال. والتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية مر بمراحل مضيئة، استطاع علماؤه ومفكروه تلافي المواجهات التدميرية، بحيث ارتدوا إلى دواخل القضايا، واشتغلوا بها، الأمر الذي مكنهم من إنجاز المعارف، والأنظمة، والقوانين، والعقود، وصياغة الفكر السياسي، والأساليب الاقتصادية، وتحرير ضوابط الفن والفكر والسلوك. ولقد استوعبوا فيوض الحضارات القديمة، وأسَّسوا بمجموع إنجازهم للحضارة الإنسانية، وسطعت شمسهم على الغرب. ونشوء العلوم والمعارف والمذاهب والآليات والآراء والمصطلحات ناتج حوار فكري إيجابي، يبحث عن الحق، ولا يفكر بالانتصار. فهذه مذاهب الفقهاء، واتجاهات المفسرين، وضوابط المحدثين، ونظريات المعرفة، وأصول المذاهب، وقواعد العلوم، شاهد عدل على حصافة الرأي ودقة الملاحظة وعمق المعرفة والدأب والمثابرة والرحلة في طلب العلم مع سلامة المقاصد وحسن النوايا والمنعطف السلبي الذي أشعل النعرات، وأذكى التعصب، وقدَّس الشخصيات، وأهمل القضايا، ودفع إلى التلاسن البذئ، ناتج ضعف معرفي واجترار عقيم لمنجز الأفذاذ من العلماء، وانقباض متخوّف، وعجز عن الاكتشاف والاختراق. وقد أفرزت بعض المراحل المنطفئة في التاريخ الإسلامي خطابا تنازعياً، أذهب الريح، واستفحل معه الفشل. ووجد فيه المتماكر الاستشراقي مجالاً للنيل من الحضارة الإسلامية، وإغراء للمستضعفين، لإعادة المناكفات جذعة، والفرح الحزبي ينصب دائماً على مفردات الاختلاف، ولا يتجه صوب بوادر الإضافات. ومع أن تعدد المناهج والآليات والرؤى والتصورات سبيل إثراء، وطريق تأصيل وتحرير، إلا أن التعصب المسنود بالعرقية، والإقليمية، والأثرة، والعقم، وخلل الفهم، وانعدام الورع وضعف الإدراك، والوقوع في مأزق المفاضلة، وصرامة الحدّيّة، وحب الهيمنة والتصدير والعجب بالرأي، حوَّل الإيجابيات إلى سلبيات، وعطل القدرات التي أفاء الله بها على عباده. والتعقب الحصيف لأشلاء المثمنات، يتجاوز الأثر إلى الجذور، والناتج إلى المحفزات، فما فات من جدل عقيم مات، ونحن أبناء لحظتنا الأبدية، والمؤمل من عقلاء الأمة السعي الحثيث لتجفيف مستنقعات الخلاف، وردم بؤر التوتر فنحن في زمن لايحتمل مزيداً من المناكفات، وفي وضع رديء لايطلب مزيداً من الاخفاقات. وعلى أهل الحل والعقد تجاوز البحث عن المسيء إلى الإساءة لتلافيها، فالأخطاء ناتج تراكم من المشاكل الممتدة مع الزمن، وليس لمتصور سليم أن يُحمِّل اللحظة الزمنية الراهنة ولا إنسانها مجمل الإخفاقات والإحباطات التي نتجرع نتائجها. فنحن ضحايا ركام من المقترفات المذهبية والسياسية والعرفية وسائر المسلمات التي شارفت على التقديس والتصنيم لما هو قائم من الأشياء والأناسي. وحين لايكون بد من الاعتراف بالتقصير والعجز، فإن علينا ألا نتخفف من المعاناة بالمشاجب التي نلقي عليها بالمعاطف الملوثة، متى كان بإمكاننا غسلُها وإعادتُها إلى طهرها ونقائها وجدتها، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بمواجهة الهزيمة بروح واثقة، وعزيمة صادقة، ومعرفة مناسبة، لكي ننهض من عثرتنا قبل إلفها واستساغتها، على شاكلة المهين الذي يسهل الهوان عليه، ومتى قبلنا الذل تحولنا إلى جرح ميت لا يحس بالألم. وفقد الإحساس موت معنوي، لا قيمة للحياة معه، والنهوض التطوعي للمتداخل مع المخالف يتطلب التوفر على (فقه الاختلاف) و(آداب الحوار) و(مسوغات الاجتهاد) ومعرفة طرائق التعامل الحضاري مع المخالفين، مع تصور الأشياء تصوراً سليماً، والتعرف على أصولها وقواعدها وضوابطها، والتمكن من آليات الحوار ومقوماته المعرفية، ورباطة الجأش. وبين أيدي المتابعين عدد كبير من الكتب التعليمية والتوعوية حول (أدب الحوار) و(فقه الاختلاف) و(شرط الأطراف) و(ضوابط الأهلية) و(أسباب الاختلاف) و(آداب الجدل والمناظرة) ومن جهل الأصول والأسباب والآداب والشروط فليس له أن يخوض معترك الجدل. وإذ نفترض أن مرد التنازع وجذوره ومحفزاته إلى نواقص عامة وخاصة: معرفية وأهلية، فإن علينا أن نلمح إليها، وأن نعمل على تلافيها، وكل من خاض مع خصومه معترك الجدل وسعى جهده للوفاق عرف ماينقص المتجادلين. ولقد وجدت من المناسب أن اتخذ مما لقيت في سفري المعرفي من أتعاب شاهداً على ما تمس الحاجة إليه، ولعل أولى الفواقر وإكسيرها فقد (المصداقية)، واختلاف (المفاهيم) وتفاوت (الأفهام) و(الضعف المعرفي) وما تستتبع هذه الجذور من جهل للواقع، ولطبيعة الأشياء، ومن غياب للمشروع، وانعدم للورع، وسوء في الأدب، وواجبنا ان نقف عند متطلبات الجدل الإيجابي، وأولها (المصداقية) وضوابط (المفاهيم) وتفاوت (الأفهام) وعلينا وقد شهدنا تدنيات في أخلاقيات الحوار أن نسعى للأطر على قول الحق، وتقريب وجهات النظر، وتربية (الأفهام) وصقلها وتدريبها وتوسيع مداركها. والمتابع للعراك في كافة المشاهد الدينية والعلمية والفكرية والأدبية يقف على خلل واضح في (المصداقية) عند كافة المختلفين، إلا من رحم ربك، وقليل ماهم. فبعض الخصوم حين تعييهم الحجة يفترون على خصومهم الكذب، وهم يعلمون، وما على المردد إلا أن يستعرض مدونات المعارك، وبخاصة (المعارك الأدبية والفكرية) التي عشناها قولاً وعملاً ومتابعة، ومتى تقراها المتابع بحيادية وعدل وإنصاف تبين له افتقار المشاهد إلى (المصداقية) وقد يتعمد البعض تحريف الكلم عن مواضعه، وتقويل الطرف الآخر ما لم يقل، أو المصير إلى التأويل الكاذب، وبخاصة حين يسعف المناوئين الابتسارُ النصي أوالانفتاحُ الدلالي. ومتى استمرأ المتجادلون الكذب، طُمست الحقائق، وتحول المتحاورون إلى هجَّائين، لايرقبون في خصومهم إلاّ ولا ذمة. ولقد لقيت في مراجعاتي وحواراتي نصباً، وفوجئت من بعض من أتوسم فيهم المصداقية والبحث عن الحق بقول كذب، أرجو ألا يكون ديدنهم، وإن كشف بعضه غيري، ولزم الكذبة الصمت، وهذا الإلباس المتعمد، يمنع المقتدر من الدخول مع مثل أولئك، مما يوفر للأدعياء أجواء مناسبة تمكنهم من تفريخ آرائهم وتصوراتهم الكاذبة الخاطئة. وحين يستمرئ النخبويون الكذب، ولايجدون في ذلك غضاضة يُنشّأ ناشئ العلماء والمفكرين على ما كان عودهم سلفهم، وحين تشيع خليقة الكذب، وتكون ممن يتوقع منهم الصدق، تصاب المشاهد العلمية والفكرية والأدبية في الصميم، وتكون الأمة كمن غص بالماء الزلال، فالذين يتوقع منهم الإسهام في تربية الأخلاق بالتعليم وبالقدوة الحسنة، ينقلبون على أعقابهم، ويكونون قدوة سيئة. وكيف يتعمد النخبويون الكذب؟ وهم يعلمون أن المسلم يكون بخيلاً، ويكون جباناً، ولكنه لايكون كذّاباً. إننا أحوج ما نكون إلى (المصداقية) في مواجهاتنا، ومتى صدقنا مع أنفسنا، ومع قبيلنا في سرنا وفي علننا، في منشطنا وفي مكرهنا، أشعنا الفضيلة، وضيقنا الخناق على دواعي التفرق، وإذا كان الحقُّ ضالةَ المؤمن فإن الغاية لاتبرر الوسيلة، والإسلام حث على العدل والصدق، والمفترون المحرفون ظالمون ومزورون، وفقد المصداقية ليست وقفاً على زمان أو مكان، وليست سمة خاصة بالأدباء وحدهم، وليست واقعة من كل الخصوم، وسأضرب مثلاً على فقد (المصداقية) بموقفي من (الحداثة) أو من (الشعر العامي) ولو شئت ضربها من خلال مواقف أخرى عند الكافة من الأدباء والمفكرين لتبدت لنا بأبشع صورها، وحين أضرب المثل بما لقيت فإنما أريد كتابة ماحدث لا من أجل المباهاة أو الادعاء، وإنما القصد الإبانة عن الموقف والدفاع عن النفس. فبعض الذين يختلفون معي حول هذه القضايا، يعرفون من خلال ما أقول لهم في كل مواجهة: انني لا أختلف حول التجديد، ولا أعترض على قراءة الآخر، ولا أرفض (المثاقفة) ولا الاستفادة من أي فكر أو فن لايصادم الثوابت، وانني أقبل المنهج والآلية متى أمكن تفريغها وعوربتها، وانني أفرق بين التحديد في الشرط الفني والبناء اللغوي والشكل الابداعي وبين مقتضيات الحداثة الفكرية، وان موقفي من الحداثة لايتجاوز انحرافها الفكري، وسقوطها الأخلاقي، وانقطاعها المعرفي، وضربها لثوابت الحضارة الإسلامية التي لاتتحقق إسلامية المسلم إلا بها، وبهذا فأنا مجدد أكثر من المجددين، وعصري أكثر من المعاصرين. ومع هذا يقول قائلهم: إنني ضد التجديد، وانني أريد الارتداد بالأمة إلى الخيمة والجمل، وبعض من لاذوا بالفرار من وضر الحداثة التي تلبسوا بها فترة من الزمن، حاولوا الالتفاف الغبي، وعادوا يقولون: - بأن حداثتهم تتسع للتجديد وحسب، وكأنهم يريدون وضع الطرف الآخر ضمن دائرة التقليد. والوثائق والمواقف والهموم والخلطة والمولاة تكشف عن المغالطة، والإحالة إلى التجديد والتقليد تحرف ضعيف. ومع علمهم بما هم عليه يظلون يكررون هذه المفاهيم الزائفة، دون أن يثنيهم إرشاد، أو يخوفهم |
جذور التنازع المعرفي ومحفزاته..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل ومصائب المشاهد المصمية ليست بمن يَلْبَسون لكل موقف لبوسه، ويقولون لنا ما يرضي حتى إذا خلوا إلى من يودون قالوا: إنا معكم. مصيبتنا في المتلقي الذي تشابهت عليه بقرات الحداثة، وخدعته الأقاويل، والتبست عليه الألاعيب، وأتاحت غفلته المعتقة لمثل أولئك التصرف البهلواني: وما انتفاع أخ الدنيا بناظرة إذا استوت عنده الأنوار والظلم لقد وقفت على تصورات ورؤى، اخذتها الدهماء بوصفها قضايا مسلمة، فالأمر عندها تقليد او تجديد، وليس حداثة فكرية منحرفة وتجديدا متزنا، ثم ان المتحدث عن «الفكر الإسلامي» والمتبني «للأدب الإسلامي» في نظرهم مدعٍ للطهر الملائكي متقمصاً الفوقية والوصاية، فيما يكون غيره في نظر ذلك المفكر المظلوم ضالاً مضلاً تابعاً. وعلم الله انني ما عهدت احداً ممن يحملون هم الدعوة، ويضطلعون بقضية الأدب الإسلامي قال بذلك، وما تصور أحد منهم أن الآخر رجس من عمل الشيطان. المفكر الإسلامي والأديب الإسلامي يشعر كلٌ منهما بواجبه حيال أمته، وحيال قضيته، وحيال عقيدته، وهو يمد غيره بما يراه حقاً وصواباً، ولا يرى فيمن حوله دونية في مكان، ولا ضعفاً في علم، ولا خللاً في فكر، ولا سوءاً في أخلاق، إلا إذا كان عنده مما هم عليه من الله برهان، والتناصح لا يشترط فيه ان يكون بين مؤمن وكافر، ولا بين ضال بيّن الضلال ومؤمن قوي الإيمان، التناصح تبادل خير بين طرفين متماثلين، ومن تصور دعاةالفكر الإسلامي سلطويين فوقيين متهمين للآخر، وعمم، ولم يخصص، فقد افترى عليهم الكذب، وفقد المصداقية التي يحب توفرها كحد ادنى للاستقامة على الحق. ومثلما احيلت الحداثة الى التجديد، ووصف مناوئوها بالماضوية والتسلطية، احيل الوقوف في وجه «العامية» ومظهرها الأهم «الشعر الشعبي» بانه منع للإبداع، وتجريم للشعراء العاميين، واستهجان بالمتذوقين له من خاصة القوم وعامتهم، وعلم الله موقفي من «الإبداع الأمي» يقف عند حد الحيلولة دون تقعيده ودراسته بآليات الفصحى والتخطي به الى محافل التعليم. ومن فعل ذلك فقد أصَّل للعامية، وشرعن للازدواج اللغوي، وأحيا النعرات اللهجية، ومكن للتزاحم بالعاميات المتعددة عند أبواب المدارس والجامعات. وحري بنا وقد انفقت الدولة الأموال الطائلة لتعليم اللغة العربية ان نساعد على حضورها في كل محفل، وان نحاصر العامية وظواهرها الإبداعية في محيطها الشفوي، وفي اوساطها العامية، بعيداً عن التدوين والدرس، وان علينا ان نتمثل ما علمنا قولاً وسلوكاً، فالعلم لا يكون حتى يتمثله المتعلم، وإذا تعلمنا لغتنا، ثم لم نستعملها في القول والكتابة كنا مبذرين مقصرين، ولغتنا ليست كاللغات، انها مرتبطة بكتابنا الذي تعبدنا الله بتلاوته وفهمه وتدبره والعمل بما فيه، ولن يتأتى ذلك مع استفحال العامية. هذا ملخص موقفي من الحداثة والعامية، غير ان الخصوم الذين لا يحترمون المصداقية يتقولون على خصومهم كل الأقاويل، وينسبون اليهم ما لم يقولوه، وعلينا ان نحمد الله على ما انعم به علينا من وحدة اللغة والعقيدة والأرض، فلسنا شيعاً يضرب بعضنا رقاب بعض، ومن واجبنا ان نتحامى الوقوع في أي فرقة: فكرية أو دينية أو عرقية او اقليمية او لهجية، وفقد المصداقية قد يتجاوز كتم العلم او تحريفه الى الافتراء والاختلاف، وذلك الدرك الأسفل من سوء الخلق وخيانة الأمانة، ولقد تعرضت طائفة من العلماء والمفكرين والأدباء الى الكذب والافتراء، ونسب اليهم ما لم يقولوا، ومع نفيهم وتكذيبهم فإن المشاهد قد لا يصل إليها قولهم بمستوى الإشاعات الكاذبة عنهم، ومن ثم يأخذ السماعون بتلك الإشاعات بوصفها حقائق ثابتة. ولو أن المتجادلين توفروا على الصدق فيما يقولونه ابتداء، وفيما يروونه عن غيرهم اتباعاً، لما بلغ بهم الجدل إلى حد التنابز بالألقاب، ولعلنا نستعيد دروس (الإفك)، وما تركه من عظات وآية (التبيُّن) وما شرعته من أسلوب في التلقي. ومثلما يقال عن (المصداقية) بوصفها خليقة طبْعِيَّة أو تطبعيَّة يقال عن اختلاف (المفاهيم) إلا أن (المصداقية) تحال إلى القيم الأخلاقية، فيما تحال (المفاهيم) إلى التصورات والرؤى المعرفية، ودواء الأولى في التربية السليمة، ودواء الثانية في التعليم الجاد. و(مفهوم) المصطلحات والظواهر والقضايا حين لا يكون كما أراده المنشئ يوقع في اللبس، وإشكالية (المفهوم) من أعقد الإشكاليات، وهي مبعث الاختلاف، وجذرُ التنازع ومحفزُه. والمصطلحات المتنامية عبر الترجمة أو التعريب أو النقل هي التي توقع في اللبس، فهي تتشكل عبر تصورات المترجمين أو المعربين أو الناقلين، الذين يلتمسون ما يقابلها في العربية، من كلمة تحمل ذات الدلالة، أو صيغة صرفية تستوعب بعض المقاصد، أو نقل يرادفه تعريف، قد لايطابق مراد المنشئ. وفوضى الترجمة والتعريب يواكبها متلقٍ يعطي مفهوماً زائداً أو ناقصاً أو مناقضاً، ويشتغل على ضوئه. ومكمن الخطورة في المصطلح الحمَّال للمتناقضات. فالجذر العربي (حدث) تعني دلالتُه الوضعية مجردَ التحديد أو جدَّةَ الحدوث، ولكن الدلالة الاصطلاحية كما يراها المنشئ الغربي، تعني أشياء أخرى، ليست من الجدة، ولا من التجديد في شيء، والمتبنون للمصطلح أوزاع، منهم الواعون لمقاصد الحداثة، كما يراها الغربيون، ومنهم الغافلون الذين لايتجاوزن بالمفهوم حد الجديد. والمفكرون الإسلاميون المتصدون للحداثة قد لايتثبتون، ومن ثم يصيبون الذين لاتتجاوز المعارف تراقيهم بجهالة، وتعدد المفاهيم يطال الجميع، وإذا اختلطت المفاهيم حول (مصطلح الحداثة) وتعدد مقتضياته فإن إشكالية مصطلح (الأدب الإسلامي) عددت مستويات الخصوم بين رافضين ومتحفظين ومتسائلين، ولم يختلف أحد منهم حول مصطلح (الأدب الجاهلي) ولا (الأدب الوجودي) ولا (الأدب الماركسي) وقد يجمع بعض الإسلاميين خصومه في سلة واحدة، وفي ذلك ظلم عظيم، فالمتحفظ والمتسائل يختلف عن الرافض الذي يستمد رفضه من رفض الحاكمية الإسلامية وإظهار الدين. واضطراب الرؤى حواضن مخصبة للتنازع المورث للعداوة والبغضاء. والحداثة الفكرية المنحرفة تخادع الخليين بتعدد المفاهيم، وأساطينها كما المنافقين، إذا واجههم النقاد الناصحون قالوا: - إننا مجددون، وإذا خلوا إلى أساطين الحداثة المنحرفة قالوا:- إنا معكم حداثيون. وقد يكون المدَّعون للحداثة لايتجاوزن بها حد التجديد، ومن ثم فإنه من الظلم ان نجعل المجددين كالمنحرفين، ومن حق المحكوم ان يقول: - ما لكم كيف تحكمون؟ ودافع الحكم الجائر مرده إلى اختلاف المفهوم باتساع الجذر لعدة دلالات، على أنه من الخطأ ان يعاند المجدد، ويصر على ان الحداثة لا تعني إلا التجديد، والقرآن الكريم منع أن نقول:- (راعنا) من الرعاية، لأنها قد تحمل بالتنوين مفهوم (الرعونة)، وإذا كان المفهوم المتعدد يوقع في اللبس، ويعرض الأبرياء للغيبة، فإن الضائعين في خطيئة الحداثة الفكرية يتقون بالتعددية سهام الحق. والناقد المنصف من يتجاوز المصطلح، ومن تبناه عن مواطأة أو عن جهل، إلى الوثائق النقدية والإبداعية، وإلى المواقف من أساطين الحداثة من مبدعين ونقاد، فالوثائق والولاء والبراء لا مجال فيها للمغالطة أو الإدعاء، والالتفاف الغبي على تعدد المفاهيم لا يغني من الحق شيئا. ولو أننا تحرينا الدقة في تحرير المفاهيم، وربطنا شاهد الوثائق بغائب المفهوم، ولم نبادر بالاتهام لكنا عادلين منصفين. ومتى فُقد العدل والإنصاف مع المخالف وقعنا في التنازع الجالب للفشل وذهاب الريح. ومتى توفرت (المصداقية) وتحرر (المفهوم) تراءت لنا جذورٌ ومحفزات أشد وأعتى، نجد ذلك في تعدد (نظريات المعرفة). وإشكالية التلقي والتأويل مع النص المفتوح أو النص الحمَّال من الإشكاليات التي لا يقل أثرها السلبي عن فقد المصداقية وتعدد المفاهيم. والحضارة الإسلامية تعرضت لهذه الإشكالية، وتولدت الملل والنحل والمذاهب من تعدد (نظريات التلقي)، ولسنا نتطلع إلى حسم هذه الإشكالية، ولكننا نود التقريب بين وجهات النظر، ومتى استوعبناها، خفت حدة التوتر، واستطعنا توقع ما سيقوله المختلفون معنا، وقد تكون الاستبانة سبيلا من سبل التقارب أو التعاذر أو الاعتزال، والمتابع للعلوم والفنون يجد ان مرد الاختلاف فيها إلى اختلاف (نظرية التلقي)، ومع مشروعية التعدد فإن بعض المذاهب بلغت بها نظرياتها المعرفية إلى حد تحريف الكلم عن مواضعه، والأشد خطورة حين يجتمع مع اختلاف (نظرية المعرفة) اختلاف (المرجعية) أو اختلاف (أصول العلم) فالمذاهب الكلامية والفقهية والفلسفية لها نظرياتها المتعددة ومرجعياتها المتنوعة وأصول معارفها المتباينة. فبعض المذاهب يركن ذووها في التلقي إلى الحدس والتذوق والكشف والرمز والإشارة، والبعض الآخر يأخذ بظاهر النص، ومن الطوائف الإسلامية من يدعي الظاهر والباطن، ويصنع تصوراً مغايراً لمعنى المعنى أو الدلالة العميقة أو الدلالة المجازية، بحيث يعطل دور اللغة، ويركن إلى دعوى العلم اللَّدنِّي، ومن المذاهب من يفوض للنص معطلاً العقل، ومنهم من يفوض للعقل معطلاً النص، ومنهم من يفوض للمصدر معطلاً العقل والنص معاً ك (للاأدرية) و(المفوضة)، وكل مذهب له آليته ومنهجه ونظرية تلقيه ومرجعيته وأصول علمه، وليست كل نظرية صادقة كل الصدق، ولا كاذبة كل الكذب، وإنما مرد الأمور إلى التغليب، وهكذا كان التشريع، وعلينا أن نستفيد من كل نظرية معرفية ونتوقى مزالقها وشطحاتها، وبخاصة حين يصاحب ذلك اختلاف المرجعية. والتنازع الناتج من تعدد نظريات التلقي، واختلاف المرجعية تنازع عقدي، قد يبلغ بالأمة حد القطيعة، وقد لا تتيح تلك النظريات فرصة الحوار المعتدل، الحوار الباحث عن الحق دون الانتصار والغلبة. والحق الخالص ضالة المؤمن، وحوار الطوائف المتناقضة قد يبرر للوسيلة المنحرفة بالغاية المدَّعى سلامتها، والإسلام لا يجعل سبيلا لتبرير الوسيلة الجائرة. وإذا تجاوزنا، (المصداقية) و(المفاهيم) و(التأويل) و(المرجعية) واجهتنا إشكالية دون ذلك، وهي تفاوت (الأفهام)، وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ندب أصحابه إلى التبليغ قائلاً: (فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع) وحين شبه ما نزل عليه بالمطر، واصفاً المتلقي بالأرض وتفاوتها في تقبل الماء، فالوعي خاصية إنسانية، يهبها الله لمن شاء من خلقه مؤمناً كان أو كافراً. وقد يؤدي الفهم السقيم إلى إذكاء حدة التنازع، فالمرسل قد لا يراعي مقتضى الحال، والمتلقي قد لا يعرف قدر نفسه، ومن ثم يتقحم على المعضلات، مثلما يهتاج المرتاع، وهو أعزل، ونزع العلم الشرعي وكثرة الجهل من أشراط الساعة، والأدعياء الذين لا يستحون يصنعون ما يشاؤون، وكم نسمع كلمة:- (نحن رجال وهم رجال) يتفوه بها غلام لايهز القناة، ولا يثنيها، وارتباك المشاهد واللغط الذي لايُبين يتأتى من هذه النوعيات المتسرعة في القول وفي الحكم، ولو قام الجدل بين العلماء المجربين لكان الاختلاف مقدوراً عليه:- (ومن البلية عذل من لا يرعوي.... عن غيه وخطاب من لا يفهم)، ومما تفتقر الساحة الثقافية والأدبية والفكرية إليه تجويد آليات المعارف وضوابطها وأصولها ومناهجها وأسبابها وآداها، فالكم المعرفي وحده غير كافٍ للتوفر على الحوار الحضاري والجدل المتزن، ومثقفو السماع، وسائر الكتبة، ينقصهم التأصيل والتحرير والتأسيس. ومتى لم يكن هناك تأصيل معرفي، وتحرير للمسائل والمصطلحات، وتأسيس قوي فإن الحالة تزيد سوءاً. إننا لكي نُحاصر التنازع، ونضّيق الخناق على الاختلاف المؤثر على وحدة الأمة وسلامتها، يجب علينا أن نأتي المشاكل من قواعدها، نَصْدُق، ونَعْدِل، ونُحرر المفاهيم، ونؤلف بين نظريات التلقي، ونوحد المرجعية، ونعي أصول العلم ومناهجه وآلياته، ونبادر إلى معالجة الضعف والهوى والاستبداد والعقم والتقليد، نربي أذواقنا، ونَصَّفي نصنا، ونرسم مناهجنا، ونحدد مشروعنا، وأهدافنا، ومكمن اختلافنا، ونثري نقدنا، ونؤدب حوارنا، ونعرف قدر أنفسنا ومبلغنا من العلم، فذلك طريق السلامة وسبيل النجاة. |
الشاعر المقل الذي صمت..!
د.حسن بن فهد الهويمل 1/ لم تكن القلة أو الكثرة في الإبداع مقياس جودة، ولا مؤشر ضعف، والشعراء المكثرون في التاريخ الأدبي قد لا يحفل بهم النقد بمثل ما يحفل بغيرهم، وحين يمر بهم الدارسون قد لايجدون في شعرهم ما يثير، وليس ضعف المكثرين قاعدة طردية، ولقد عرف من المكثرين في القديم (أبو العتاهية) و(ابن الرومي)، ومن المعاصرين (محمد حسن فقي) و(بهاء الدين الأميري) وإذ تدور حول جودة المكثرين الشكوك، فإن المقلين في معزل عن ذلك. وشعراء القصيدة الواحدة أكثر حضوراً، ومع هذا فليس للمقلين أو المكثرين ارتباط لازب في الجودة أو في الرداءة، بمعنى ان النقاد لايربطون بين الجودة والكثرة أو القلة، ولكن أصحاب القصيدة الواحدة يملؤون النقاد إعجاباً، ولقد عرفت المشاهد النقدية (الشنفرى) بلاميته و(مالك بن الريب) برثاء نفسه، ولقد شغلت (اللامية) النقاد، فيما شغلت رثائية (ابن الريب) لنفسه كافة الدارسين، والشعر يكون تزيداً أو موقفياً. وهو حين يرتبط بالمواقف يظل في انتظارها، وقد لاتأتي المواقف والتجارب بالقوة الكافية لتفجير الموهبة، ولهذا يتمنع الشاعر، أو يتمنع الشعر على الشاعر، ويروى عن بعض الشعراء الفحول قوله: - لخلع ضرس أهون عليَّ من نظم بيت. يكون ذلك في حالة التمنع. والعملية الإبداعية، أو لحظة المخاض تدخل بالراصدين لها عالم الأسطورة والخرافة. وظاهرة (شياطين الشعر) يحال إليها ما لا يمكن توقعه من روائع الإبداع، فالمتلقي حين يستمع الشعر المتميز، ينتابه شعور غريب، لايستطيع السيطرة عليه، ومن ثم يحيل إلى الشياطين وتنزلاتها، وقد فعل مشركو مكة مثل ذلك، حين سمعوا القرآن، لتصورهم ان الرسول شاعر موهوب، تتنزل عليه الشياطين. والمتذوق للشعر المتمكن من لغته وشرطه الفني ينتابه ما ينتاب العربي السليقي من إعجاب، لايعرف مصدره، ومن ثم تنطلق منه كلمة الإعجاب والإكبار ولقد سمعنا بسجدة الشعر، ومقولة أحد الخبثاء: إن للشعر مثلما للقرآن سجدة، نسب هذا القول (للفرزدق) حين أعجبه الوصف في جلاء السيول للطلول. والذوقية والانطباعية حواضن النقد، والانطباعية الجارفة تحدو إلى التفضيل الملح، حتى إذا تنازع القوم حول أفضلية شاعر على شاعر، رجعوا إلى مدركاتهم، ليلتمسوا الحجة والشاهد، ومن هنا انبثق نقد المعيار والعمود، وظهرت المناهج، وعرفت المصطلحات، ووضع للشعر نظامه وضابطه وأسباب تميزه. وكل ناقد لابد أن تكون لديه حجته حين يفضل شاعراً على شاعر، والنقاد في عناء من هذا التفضيل. فالمفضول وأنصاره يكيدون لمن فضَّل عليهم، وقد وصف (عبدالواحد لؤلؤة) وضع النقاد المحرج، فهم كالنافخين في الرماد بحثاً عن جذوة أو قبس، ومن ثم فإن نصيب الناقد ما يتطاير من ذرات تغشى العيون، وتزكم الأنوف، وغيره المستفيد. وكلما أريد مني أن أتحدث عن شاعر أو أديب أو ناقد أو مفكر في ساعة تكريم أو تأبين، تذكرت الرماد والجذوة، وقبلت قدري صابراً محتسباً، فأنا بين أشياع يودون مني المجاملة، ومستعلمين يودون مني المعرفة، وخصوم يودون مني التحامل والتجريح. وليس بمقدوري أن أكسب إلا فئة واحدة، ولن تعذرني الفئتان الباقيتان، وحتى الذين يرضون مني اليوم، سوف يسخطون مني غداً، وهكذا مصير الناقد يخلق العداوات في جيئته وذهابه، وقول الحق لايترك لصاحبه صديقاً، والناقد كالقاضي بين الخصوم، ولقد قيل لأحد القضاة بعد أن ترك القضاء: -كيف أصبحت؟ قال: - توليت القضاء وليس لي عدو، وتركته وليس لي صديق. غير أن الناقد المتمكن المحترم للمصداقية حين يقول كلمة الحق، ويمتلك آليات النقد، ويعرف جيد الشعر ورديئه، وتكون لديه ذائقة سليمة ودربة مستمرة، ينام قرير العين جذلانا. لأنه يقول كلمته ويمضي، ولايعنيه أن يرضي زيداً أو عمراً، فالمسألة تسجيل للرؤية والموقف. ومن ملك ناصية القول أو آلية النقد فإن عليه أن يقول مايريد لا مايريده الآخرون، ومن أصاخ لرغبات الآخرين، كان كالطبل، يرقب من يضربه، ليحدث صوتاً. لقد كان قدري دائماً ان أُدعى للحديث عن شاعر أو مفكر أو أديب في مناسبة التكريم أو التأبين، وقد يمثل الشاعر أو المفكر أو الأديب أمامي، ثم لا يحس أحد منهم أنه انتقل من الذاتية إلى الموضوعية، وأنه حين (يتموضع) ينفصل من ذاته ومشاعره، ويكون ازدواجياً: ذاتاً يقرؤها الآخرون بوصفها موضوعاً، وأخرى تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق. ولو أن الشعراء والأدباء والمفكرين (المتموضعين) أحسوا أنهم بالتموضع لم يعودوا كالأناسي، لأراحوا واستراحوا، ووفروا على الدارسين كلمات المجاملة والثناء الزائف، وسائر القضايا لاتتحرر بالمجاملة وتبادل الأنخاب. *** 2/ (وحديثي) عن الشاعر المجدد إلى حد التمرد والانقطاع والنثرية (عبدالرحمن بن محمد المنصور) المولود في مدينة الزلفي عام 1345 والمبارح لأرضه ودياره في زمن الطفولة سعياً وراء طلب العلم في الحجاز ثم في مصر حديث يعود بلبوس آخر. فلقد درسته قبل ربع قرن في رسالة أكاديمية، تقدمت بها إلى (كلية اللغة العربية) في (جامعة الأزهر)، وكان عنوان الرسالة (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد)، وكنت يومها صارم الحدية، لا أرى إلا الأنموذج العربي الخالص العروبة، وشاباً يتوقد حماساً وإصراراً وعناداً، ومبتدءاً ينقصه الشيء الكثير، وقلت ما قلت، ثم دفعت بالرسالة إلى المطابع على ماهي عليه من قطعيات، لا تقبل الخيارات، وخرجت إلى الناس بكل ما فيها، ووجدها المكتوون من مواقفي الأدبية فرصة للنيل من إمكانياتي والسخرية بي انتصاراً لأنفسهم، ولو أنني فعلت مع نفسي مايفعلونه معي لوقفت على ثغرات كثيرة في الرسالة لم يقفوا عليها، فالطالب المبتدئ حين يقول كلمته تظل وثيقة رصدية لمرحلة من حياته، تقف حيث هي، ولكنه لايقف، ولقد أشفقت على بؤس هؤلاء لتصورهم انني لما أزل حيث كنت قبل ثلاثين سنة، وها أنذا أعود إلى الشاعر بعد ما نلت منه ومن لداته أمثال (محمد عامر الرميح) وتأتي عودتي بعد ما تغيرت البلاد ومن عليها، وتبدلت الرؤى والتصورات، وأصبحنا غيرنا بالأمس، والذين يقرؤون رأيي فيه اليوم ورأيي فيه بالأمس سيجدون التغير والتبدل. وقد لايحسنون الظن، ولكن عليهم ان يعرفوا ان الإنسان الطلعة يعيش حيوات تتبدل ساعة بعد أخرى، ولكنه يظل على مبادئه الثابتة، ومواقفه العامة التي تحفظ قيمه وخصوصيته وهاجسه. والشاعر (عبدالرحمن المنصور) كما قلت شع نجمه شاعراً ملء السمع والبصر، ثم خبت أنواره، وطوى كشحه، واستدبر الكلمة المبدعة الجميلة، ولم أسمع منه ولا عنه إلا الأقل. وكم كنا نود لو أنه واصل عطاءه، فلقد كان من النوابغ، وممن سبقوا زمنهم في رمزيتهم وواقعيتهم وتمردهم ويأسهم وقنوطهم وضجرهم ومللهم من الحياة: (دربُنا مظلمٌ وشحته الأماني بثوب الرياء. فبدى مشرقا وهو ليل دجى. وبدا داجيا وهو شمس الضحى. دربنا مظلم). خرج من نجد طلباً للعلم، وقد تركت أحوالها المتردية إذ ذاك آثاراً مؤلمة جسدها في تأوهات شاكية باكية:- (العيشُ والمحراث والفأسُ الثليم والأرض نزرعها ويحصدها الغريم. وكآبة خرساء.. تقضمنا على مر السنين). وقصد الحجاز وتخرج في معاهدها ثم قصد مصر وتخرج في جامعاتها، ولم يعد إلى نجد يوم أن عاد يحمل المؤهل الجامعي، بل جذبته منابع النفط واستهوته مسارح الكسب والعمل، ولعله لم يشهد ما حفلت به (نجد) من رخاء واستقرار، وما أفاء الله به عليها من علم ومدنية وحضارة. وتوقفه عن الإبداع حال دون تسجيل التحولات التي مرت بها بلاده. وهو كما قلت شاعر مقل، ومجدد بادر إلى حالة من الانقطاع، بحيث تجاوز المرحلة التي عاشها، فكان كما (المتنبي) غريب الوجه واليد واللسان، فلم يحفل به المشهد الأدبي، ولم تصخ له الأذن التي ألفت الإنشاد، عاش في مصر شاباً يتلهف إلى المعرفة أدرك عصر العمالقة والمدارس الأدبية، ووعى زمن التحولات الفنية والدلالية وشهد المعارك الأدبية، وأصاخ بوعي لكل المستجدات، وسايرها بثقة واقتدار، وامتلك الجرأة على كسر عمودية الشعر متجاوزاً سوائد الفن واللغة والدلالة، وقد يكون تجاوزه الجريء الذي لانمضي معه فيه إلى نهايته سبباً مهماً من أسباب عزوفه. فالمشهد الأدبي حين لايحفل بالنوابغ تنطفئ في أعماقهم شعلة الإبداع، والذين تتاح لهم فرصة استعراض النماذج الشعرية والدراسات الأدبية التي واكبت انطلاقته المبكرة سيخرجون بانطباع جديد، قد يختلفون مع بعضهم، والاختلاف حول الشاعر أو المفكر من الظواهر الصحية، وحسناً ان يكون الشاعر مثار خلاف، فالمشاهد لاتحيا إلا بالجدل والمعارك الأدبية، والمبدعون لايكرسهم إلا الاختلاف حول اهليتهم. والأمل كبير أن يحدث هذا الكتاب التوثيقي ضجة حول الشاعر وشاعريته، فنحن أحوج ما نكون إلى استعادة شعرائنا الهاربين، وأحوج مانكون إلى المراجعات المعرفية التي تبحث عن الحق، ولا تهتم بالانتصار. لن أتحدث عن شاعرية الشاعر، ولا عن قضاياه الفنية والدلالية واللغوية فمجال ذلك متن الكتاب، والدارسون والنقاد اكتنفوه من كل جانب، وتحدثوا عن شاعريته المبكرة ومذهبه الشعري، وتأثره بشعراء مصر والشام وإضافته للتحولات الفكرية والسياسية، وتعالقه الواعي بالمستجدات، ومع اكتفائي بما يقال فإنني أود الإشارة إلى ظاهرة يمتلكها الشاعر، وهي جديرة بأن تستعاد، تلكم هي تجديده الشكلي للقصيدة، وانفتاح النص عنده، فهو قد ناهز النثرية، وأوغل في الرمزية، الأمر الذي سيجعل الناس في خلاف شديد حول مشروعية المناهزة والإيغال. وشوارد الشعراء هي التي تذكي الخلاف. قيل عنه إنه واقعي والواقعية في زمن المد الاشتراكي تحال إليه، وهي من قبل تحال إلى الواقعية الاجتماعية، وتداول الواقعية في ذلك الوقت حساس ومثير، وأحسب أن واقعيته اجتماعية، وقيل عنه أنه رمزي ورمزيته كما رمزية (محمد عامر الرميح) تتعالق مع المدرسة الرمزية الألمانية التي وجدت ملاذها في بيروت عند (البيير أديب) ومجلته (الأديب)، وقيل عنه إنه يستلهم شعر (نازك الملائكة) صاحبة المشروع العروضي الذي استبدل العمودية بالتفعيلة، مع عدم التزامه بشرطها العروضي الذي أثار حفيظة (محمد النويهي) وسيقال عنه أشياء كثيرة بعد صدور هذا الكتاب، ولكنه سيبقى شاعراً لاغبار على شاعريته. والمؤسف أنه حين عاد من بعثته أخذ بلسانه يجره إلى الصمت، مثلما أخذ موسى بلحية أخيه وبرأسه يجرهما إليه. وليته أطلق للسانه العنان، ليصدع بروائع الشعر وجميل القول. إنه شاعر خسرته المشاهد المحلية والعربية، وخسر نفسه، حين جمد الكلمة على شفتيه وهي بعد لم تأخذ وضعها الطبيعي، وما كان له أن يقسو على موهبته، فيعطلها، ولا على المشهد الشعري فيحرمه من خير كثير، وما حصل حصل، والتاريخ وحده كفيل بأن يقول الحق، فهو الحكم العدل. بقي أن نشكر الذين ذكروه بعد ما نسيه الأقربون، واستعادوه بعد ان طواه النسيان. واستعادة الرواد على أي شكل تمكين للدارسين والنقاد، كي يجربوا آلياتهم، ويعيدوا قراءة من صمت المشاهد عنهم بعدما اقترفوا جريرة الصمت الاختياري. |
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..! ( 1 )
د.حسن بن فهد الهويمل * أولاً - الحواضن: 1/1 عَهدَتْ مشاهدُ الأدب والنقد في كل العصور تناولَ الحركة الأدبية على مستوى الأشخاص أو القضايا أو الأقاليم أو الأزمنة، في سبيل الرصد التاريخي أو الفني أو الموضوعي. وممارسةُ الوصف أو التفكيك الجزئي أو المرحلي لقصد المعرفة أو التقويم تُمكّنُ من شد أواصر الأجزاء، والتوجه صوب تشكيل وحدة كلية، بعد استيعابها واحدة واحدة. وإذا كان بعض الدارسين يحبذ الشمولية، ويَحْذرُ التجزيئية، ويرى أن الأدب العربي لاتفرقه الأقاليم، ولا تشرذمه السياسة فإن البعض الآخر لايرى بأساً من الاتجاه صوب المقاطع الزمانية أو المكانية أو اللفظية أو الدلالية أو الفنية، لاستكناه جانب من جوانبه، متى كان السبرُ والجسُّ لتعميق المعرفة، والتخطي المرحلي إلى الشمولية، فدراسة المقاطع الأدبية على أي شكل، يكمل بعضها بعضا، ومن لم يستكنه الأجزاء لايتصور الكليات. وحديثي عن مقطعِ زمني في سياق الأدب العربي في المملكة العربية السعودية، ومقطعِ مكاني في سياق الأدب العربي المعاصر كافة، يُقصد منه تعميق الرؤية لجانب من جوانب الأدب العربي، ولا تُراد من وراء ذلك المفاضلةُ، ولا المفاخرةُ، ولا التجزيئيةُ، ولا التصدير. ذلك أن الأدب العربي منظومة واحدة في لغته وهمِّه وأعماقه وثقافته. وهو في المملكة حلقةٌ في سلسلة الأدب العربي المعاصر، من المحيط إلى الخليج. لا نفرق بين أحدٍ من أجزائه، وهو في المملكة لا يختلف عن أدب الأقطار العربية إلا بقدر ما تختلف مسارحه في الأوضاع السياسية والاقتصادية والدينية، وهي مختلفة ولاشك، وليس الأدب في المملكة بمعزل عن بقية الأدب العربي، وإنما هو متواصل متفاعل، ينهض بمهمته المشتركة، ويقف على ثنيته بكل اقتدار، ولا تحول بعض سماته دون الاندماج والتعالق. وحوافز هذا اللقاء ترتبط بمناسبة وطنية، أحياها الأدباء والعلماء والمفكرون في المملكة، فلقد مرَّ من عهد خادم الحرمين الشريفين عشرون عاما، حفلت بعدد من المنجزات، على مختلف الصعد، ولم يجد النخبويون من الأدباء بداً من مواكبتها بقراءة نقدية لأدب تلك الحقبة: للتصور والتقويم ورسم الخطط المستقبلية وبَعْد الفراغ من القراءة ورصد المعطيات الأدبية، ايصال النتائج إلى الإنسان العربي، ليكون على معرفة كافية بأدب جزء من الوطن العربي. و(الحركة الأدبية) في المملكة جزء من معطيات هذه الفترة. وتجسيدُ الحركة: كماً ونوعاً، ومعرفةُ توجهاتها وتحولاتها، ومدى تفاعلها مع المستجدات، لطرح ذلك كله في المشاهد العربية للتواصل والتفاعل مطلبٌ ملح. فالمشاهد العربية هي المجال الطبيعي لمنجز الأدباء. والتقدم بأدب الأقاليم يحفزه الحرص على تشكيل وحدة أدبية تجمع الشتات، وتوحد الهم، وتجانس بين الأنواع. فالوحدة المرتقبة لاتتم إلا بعد تهيئة الأجواء، وتجنيس الوحدات، لأن ذلك بعض ماتود المؤسسات السياسية تحقيقه. وأدباء العالم العربي بحاجة ماسة إلى التواصل والتعارف، وتبادل المعارف، لأن همهم مشترك، وقضيتهم واحدة. والمخلصون منهم يلتمسون أدنى الأسباب لفتح القنوات وتجسير الفجوات. ولأن أيَّ مَشهد عربي يعد جماع المشاهد ومنطلقها وعمقها الثقافي، فقد رغبت في تصوري عن مقطع من الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية عبر عقدين من ذلك العهد، وهو حقيق بالقراءة الاستكناهية، لما توفر له من ظروف مواتية. فالأمن والاستقرار والإمكانيات الاقتصادية، والخطط التنموية، والتحولات المؤسساتية، والمبادرات الإيجابية، كل ذلك أسهم في تحقيق جانب من تطلعات الأمة في ظروف عالمية عصيبة، يمس عالمنا كلُّ دخنها. ويأتي الأدب بكل فنونه في الصدارة، فلقد استطاع الأدباء في المملكة تحقيق قفزة كميّة ونوعية. 1/2 وتناول الحركة الأدبية على مدى عشرين عاماً من 1402هـ - 1422هـ لا يتأتى إلا عبر تقص للظروف والبيئات التي توفرت لهذه الحركة، ومكنتها من الأداء المتعدد والمتنوع، وحواضن الأدب تشي بملامحه، وتقصي المكونات يُسّهل طريق التصورات السليمة عن أدب أية أُمّة. والفترة المدروسة امتدادٌ لعهود سلفت، ولكل عهد سياقاته وأنساقه الخاصة التي فرضتها المتغيرات المحلية والعربية والعالمية. والأدب صدى للظروف المحيطة: محلياً وعربياً وعالمياً، والشعراء والروائيون والنقاد ضمير الأمة ولسانها ورائدها الذي لايكذب. ومع أنه من اليسير استبانة الحواضن فإنه من الصعوبة بمكان تلمس الملامح الخاصة في السياق المحلي، ومن الأصعب تلمُّسها في السياق العربي المعاصر. فالأدب العربي: زماناً ومكاناً ولغة وثقافة وحضارة من التجانس والتواشج والتداخل، بحيث يعسر تفكيك تماسكه، وأحسب أننا نبالغ لو قطعنا بإمكان الوقوف على الفوارق الجذرية، ولكننا مع هذا لا نعدم بعض الخصوصيات الحسية أو المعنوية، التي يتوفر عليها إقليمٌ دون إقليم، أو فترة دون فترة، أو مبدعٌ دون مبدع. فالخصوصيات لاتلغي وحدة الأدب العربي، كما أن الوحدة الشاملة لاتحول دون تداخل الألوان والأشكال المتناغمة، فالروضة المربعة الغنَّاء، تختلف فيها الأشكال والألوان والطعوم والروائح، وذلك سر جمالها، كما أن الإنسان القارئ يتغيربتغير المقروء، وأناسيُّ المنظومة الفكرية الواحدة يختلفون باختلاف مقروئهم، والظروف الخاصة لها دور الظروف العامة، والمتابع المدقق في حياة شاعر أو أديب، يجد أنه يتشكل من مراحل فيها بعض المتغيرات، وهذه المتغيرات لا تُخِلٌ بالوحدة الكلية لأدب الأمة، وليس من شك أن لكل مرحلة خطابها، فالمتغيرات السياسة، والتحولات الاجتماعية، والتنوعات المعرفية، تغير نبرة الخطاب واهتماماته وترتيب أولوياته. وليس هناك ثبات لازب في التناظر لا يريم، ولكن هناك أُطر عامة، وخصوصيات مندرجة تحت هذه الأطر. وتغير الاهتمامات، وتعدد الكيانات السياسية، وما تمر به الأقاليم من نجاحات أو إخفاقات، ينعكس أثر كلُ ذلك على آداب الأقاليم. والظروف الخاصة تفعل فعل الظروف العامة، ولكل أديب بيئات ثلاث: - عامة، وخاصة، وأخص، ولكل واحدة دورها الفاعل وقد يكون للبيئة الأممية الأعم دورها المضارع لما دونها من بيئات، والأمة تنتظمها بيئتان: عامة وأعم، وكلما دقت النظرة تبدت الخيوط الخفية، وهمُّنا مقتصر على الكشف والتوصيف والتعريف وقد يكون من نافلة القول الإيماء إلى بعض الملامح والخصوصيات. وقدر العالم العربي أنه كيانات سياسية، لكل كيان همومه وخياراته ومشاكله وإمكانياته وتركيبته السكانية، وله تحولاته وظروفه الخاصة والعامة، والراصدون لتحولاته سيجدون مادتهم في الإبداع القولي، فهو صدى الأحداث، يعطي أدق الملامح، ويشكل جزئيات التصور. ولما لم يكن التواصل بين أدباء العالم العربي، ولا بين آداب الأقاليم العربية قائماً على المستوى المطلوب، فإننا أحوج ما نكون إلى من يجدد هذا التواصل على أي شكل، ويلتمس الأسباب الداعية له. ومناسبات التواصل ترسخ العلاقات، وتنمي المعلومات، وتصحح المفاهيم الناقصة أو الخاطئة، وتلك بعض الحوافز التي حدت بنا إلى استغلال هذه المناسبة. 1/3 والظروف السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية في المملكة هي التي رسمت مسار الأدب، وحددت مطارح الأدباء، واستقبلت فيوض الأدب العربي والعالمي، وتفاعلت معها، واستفادت منها، واصطبغت ببعض صبغتها، ولما تكن سائر الأوضاع في معزل عن رياح التغيير العالمي، وبخاصة في الفنون والآداب. والأدب العربي في المملكة مع هذا الانفتاح والاستقبال يملك القدرة الكافية للتحكم. فالضوابط العامة قادرة على الاستقبال الواعي والانتخاب المحسوب، ولا عبرة بمن جرفته تيارات التغيير، فانسلخ من حضارته، ولا بمن غَلَّ يده، وغض بصره عن استشراف الآتي، وانكفأ على نفسه، وصار ابن تاريخه لا ابن حاضره، ذلك أن لكل وضع طرفين ووسطاً، ومع هذا لم تكن الغلبة للأطراف وإنما هي للوسطية الواعية، فالضوابط الدينيةُ والسياسيةُ والاجتماعيةُ تحول دون الاندفاع غير المحسوب، ولكنها لاتعيد القاصية إلى الجماعة، ومع الضوابط فإن الإمكانيات التواصلية قادرة على تجسير الفجوات، وتوسيع القنوات، واستدعاء المستجدات على كل الصعد العربية والعالمية. فالمشهد الثقافي في المملكة يعج بمختلف التيارات، الأمر الذي عدد الخطابات، ولأن سياسة المملكة ذات عمق تاريخي، فإن نظامها السياسي يتوارثُ ضوابطه وسماته وخصائصَه منذ الدور الأول على يد (محمد بن سعود) قبل ثلاثة قرون. وأدوار الحكم السعودي، وإن واكبت متغيرات محلية وعالمية تصطحب ذات الضوابط المستمدة من الشريعة الإسلامية والقيم العربية: تحكيماً وامتثالاً وإظهاراً. والأدب العربي في المملكة في ظل هذه الظروف، نشأ نشأة عربية خالصة، إذ لم يتواصل في بدايات تشكله بالآداب العربية، ولم ينفتح على الآداب الغربية، لعدم وجود الاستعمار التقليدي، فالظروف الدينية المعززة بالمقدسات، وبضوابط الدعوة الإصلاحية، والوضع الاقتصادي الضعيف، والموانع الجغرافية المتمثلة بالتصحر والجفاف، وتقلبات الأحوال، وتموجات التركيبة السكانية القائمة على التبدَّي والقبليةَ والترحُّل، والإمارات الإقليمية والعشائرية، كل ذلك مكَّن الأدب العربي في المملكة إبَّان بداياته من التشكل العربي التقليدي الخالص. وظل عربياً خالص العروبة، وسلفياً خالص السلفية، وضعيفاً بيّن الضعف وملتفا حول نفسه، حتى جاء الدور الثالث من أدوار الحكم السعودي على يد المغفور له (الملك عبدالعزيز) الذي أخذ بأسباب الحضارة، فكان أن مكَّن للأدب من الانفتاح. وبعد توحيد البلاد، وما تبع ذلك من استقرار سياسي، وثراء اقتصادي، وتوطين إلزامي للبادية، وتحول مؤسساتي ألغى الولاءات القبلية والإقليمية، بدأ التواصل بين الأقاليم ومع الأقطار العربية، وأسهمت الكفاءات العربية في صناعة الأدب العربي في المملكة، الأمر الذي هيأ للتلاحم الأدبي والتفاعل الايجابي في وقت مبكر. ولقد عزز الاندماج الإقليمي ومشروع التوحيد الشامل الإسراع في تعميم التعليم النظامي والتوسعُ في عمليات الابتعاث إلى مصر، واستقدام المدرسين، والعلماء والكفاءات: الإعلامية والصحفية والسياسية، وسد الحاجة من المقتدرين من أبناء مصر والشام والعراق، وفي ظل هذه الظروف أعاد الأدب تشكيل نفسه مصطحباً ضوابطه العربية والإسلامية. وفي العشرينية كانت المؤسسات العلمية والأدبية والإعلامية في أوج نضجها وأدائها واستكمال آلياتها، فكانت تلك الفترة بما هيئ لها من ظروف مواتية فترة استثنائية على كل المستويات. ولعل الأحداث الجسام التي مرت بالوطن العربي أسهمت في تنوع الأداء وأصالته، فالمواقف الحساسة الضاغطة، والأحداث المصيرية، تفجر المواهب، وتهيئ المتلقي للتفاعل الإيجابي. والأدب العربي في المملكة لم يكن في معزل عن المشاهد العربية، منذ التوحيد إلى الانطلاق، ولكن تواصله عفوي غير منتظم وغير متصل. وإذا كان عمر الأدب العربي في المملكة قصيراً إلى جانب أعمار الآداب العربية المعاصرة في حواضر العالم الإسلامي: دمشق والقاهرة وبغداد فإن إمكانياته في إقليم الحجاز وظروفه المواتية فيما بعد مكنته من اللحاق بتلك الآداب، والوقوف إلى جانبها، والنهوض بما نهضت به، من إمتاع واستمالة وإقناع وإفادة ودفاع عن قضايا الأمة العربية والإسلامية، مع استكمال واع لمقومات الآداب الحية. وهذا التميز والحضور الفاعل، والتنوع، والأخذ بالمستجدات، حفز كبار الأدباء والنقاد في الوطن العربي على استدعائه والحديث عنه، في وقت مبكر، يقدم هؤلاء عميد الأدب العربي الدكتور (طه حسين)، ومن بعده (محمد حسين هيكل)، و(العقاد) و(مندور) وسائرُ الدارسين الأكاديميين، الذين موضعوا مفرداته وشخصياته، لتكون مادة ثرة للرسائل العلمية وبحوث الترقية. ولقد نفله الأدباء والنقاد من كافة أرجاء الوطن العربي بكتب وبحوث ومقالات، تقصَّيْتُ عناوينها ومسمياتها مع اثنين من زملائي في كتاب (الأدب السعودي بأقلام الدارسين العرب). |
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..!« 2»
د. حسن بن فهد الهويمل 1/2 ولأن حديثنا عن (الأدب العربي في المملكة) مقتصر على (العشرينية). فإنني سأضرب صفحاً عن تقصي البدايات، وعن مرحلتي الريادة والتأسيس، تمهيداً للدخول في صلب الموضوع، وسوف يكون تركيزي على (مرحلة الانطلاق)، التي بدأت بوادرها في العقدين الأول والثاني من القرن الخامس عشر، إذ هما مشمول (العشرينية)، على أن ذلك يستدعي بعض الاستطرادات والنظر في الظروف المحيطة. والناقد التكويني يتقصى مخرّجات الأدب ومشكّلاته وحواضنه، ليسهل تفهُّمُ بنيته الداخلية واستكناهُ خصوصيته، وتصورُ حجم وجوده. فالأدب تنسجُ لحمتُه وسداه المعطياتُ البيئيةُ والظروف الآنية: المؤثرة والمحركة والموجهة. و(العشرينية) استقبلت نتائج الخطط التنموية الأولى، وعاشت ذروة الطفرة الاقتصادية، التي اجتاحت المملكة بفيوضٍ من الإمكانات التي قلبت كل الموازين، وغيرت كل التوقعات. وكان أن تمخضت الطفرة عن مؤسسات علمية وأدبية وإعلامية، أسهمت في تنشيط الحركة الأدبية، وفي إحداث متغيرات جذرية في توجهاتها. ففي تلك الفترة عادت طائفة من المبتعثين إلى أوروبا وأمريكا، تحمل المؤهلات العالية في الأدب والنقد ومناهج اللغة، وكان لانتشار هؤلاء في الجامعات والمؤسسات أثره البالغ في إشاعة المذاهب والآليات النقدية والأدبية الجديدة، بحيث راوحت بين السلب والإيجاب، إضافة إلى ما أحدثته من ارتباك واضح، وهي إلى الإيجاب أقرب. وليس أدل على ذلك من تتابع التيارات والتيارات المضادة، ك (الحداثة) بكل اتجاهاتها وبعدياتها، والمناهج (الألسنية) بكل تحولاتها وتنوعاتها و(الأدب الإسلامي ونقده) و(المحافظة والتجديد)، وإثارة المعارك الأدبية، وقيام حوار متعدد الاهتمامات بين أنصار الجديد والقديم، وبين المجددين والحداثيين، وبين الآخذين بآليات النقد البنيوي المعُلِي لشأن اللغة، والآخذين بآليات ومناهج نقدية تعلي من شأن الجماليات أو الدلالات، والمستعيدين لجذور النظريات التراثية، والنافين لها، وفيما بين هؤلاء وأولئك نسلت شرذمة قليلة استخفت بالموروث وامتعضت منه. وهذه المعارك الأدبية والنقدية التي تبدت بكل وضوح في هذين العقدين تطلبت خلفية ثقافية ورصيداً معرفياً، لتحفظ التوازن، وتحققَ سنة التدافع والتداول، وتُمكن كل طائفة من حماية ما تنتمي إليه من مذاهب وأفكار. واحتدام المشاعر والمشاهد مؤشر إيجابي، أسهم في تحريك الركود، وحفز ذوي المذاهب على الارتداد إلى مذاهبهم لتطوير آلياتها، وتحرير مسائلها، وتكريس حضورها في المشهد الأدبي. والجدل الذي أحدثه الانفتاح، تجاوز بالأدب وفنونه قاعات الدرس وأروقة الجامعات إلى مشاهد الأدب وقنوات الإعلام ومنافذ التأليف والنشر والمؤسسات الثقافية، وأتاح فرص التواصل مع الأشباه والنظائر من الأناسي والظواهر والقضايا والمذاهب في كافة المشاهد العربية. 2/2 هذه المخاضات تطلبت مؤسسات إضافية لاستيعاب هذه المعارك، كان من بينها فكرة (الأندية الأدبية) التي بدت في وقت سابق، ولكنها كانت إذ ذاك محدودة ومتواضعة. وفي (العشرينية)، أخذت وضعها المتميز، ووعت رسالتها، وتوسعت اهتماماتها، وتقاطر تأسيسها في حواضر المدن، ودُعمت من الدولة بمساعدات سخية، مكنتها من طبع الكتب، وتنفيذ المحاضرات، وعقد الندوات، وتنويع الأمسيات، وإقامة معارض الكتاب، وحضور المهرجانات، واحتضان الناشئة، وتشجيع الموهوبين منهم. ولقد هيئت في كل ناد مكتبةٌ عامرةٌ بالكتب مكتظةٌ بالرواد، فيها صالات للمطالعة، إضافة إلى أن لكل ناد دورية أو أكثر، محكمة وغيرَ محكمة، منها ما يختص بالتراث، ومنها ما يهتم بترجمة الأعمال الإبداعية والنقدية العالمية، ومنها ما هو مُعتن بالأعمال النقدية الحديثة: تنظيراً وتطبيقاً. ويأتي (نادي جدة الثقافي) في مقدمة الأندية في إصدار الدوريات المتنوعة والاحتفاء بالمستجدات المصطلحية: كالنصوصية، والتناص، والبنيوية والتفكيكية وتحولات ذلك كله. وسلبياتُ هذا الاحتفاء -إن كان ثمة سلبيات - متمثلةٌ بالمندفعين دون تأصيل معرفي وبالمندسين دون فهمٍ للمقاصد والمقتضيات، وبالمستبدلين دون انتقاء، وبالمستخفين بالتراث دون تبرير أو تحديد. ولا تخلص أيُّ حركةٍ بهذه القوة والشمولية من سلبيات، والمشاهد العربية كافة لاتخلو من فئات رضيت بأن تكون صدى لما يدور في المشاهد العالمية. 3/2 وفي العشرينية تقاطرت مبادرات أهل الدثور من رجال الأعمال وكبار الشخصيات ممن لهم روابطهم بالفكر والأدب بافتتاح (الصوالين الأدبية) واستقطاب الأدباء والمفكرين والمحاضرين لإحياء الأمسيات والمحاضرات، وتكريم الرواد والمتميزين من الأدباء والمبدعين، وتداول الرأي حول الظواهر الأدبية والفكرية، ففي حواضر المملكة (أحاديات) و(اثنينيات) و(ثلوثيات) و(أربعائيات) و(خميسيات) تغطي أيام الأسبوع، وتُذكّر بصالونات (العقاد)، و(مي زيادة) في الحصر الحديث، ومجالس (سكينة بنتِ الحسين) ودواوين الأمراء والكبراءِ ومجالس العلماء و(مجالس الأدب العربي في الأندلس) ومن قبل هذا (أسواق العرب) وما أنجزته من علم وأدب. ففي هذه (الصالونات) يُكرَّمُ الأدباءُ، وتنفذُ الندوات والأمسيات والمحاضرات. وتقوم (اثنينية الخوجة) في (جدة) - على سبيل المثال - بطباعة الأعمال الأدبية والإبداعية، ورصد ما ينفذ في كل لقاء، وطباعته وتوزيعه، وقد صدر عن (الاثنينية) أعمالٌ شعرية وروائية ودراسية. وبعد وفاة العلامة (حمد الجاسر) تحولت مشاريعه العلمية وندوته (يوم الخميس) بدعم من الدولة إلى (مؤسسة ثقافية) لها مشاريعها العلمية، ومجلتها المتخصصة بجغرافية الجزيرة وتاريخها، وقد شُكل للمؤسسة مجلسٌ إداري من العلماء والأدباء، ودعمت مادياً ومعنوياً من الدولة ومن ذوي اليسار، ولما تزل تمارس عملها العلمي والأدبي. وفي ذلك إثراء للحركة الأدبية في البلاد. وفي تلك الفترة اتجهت الجامعات الثماني في المملكة إلى تأسيس جمعيات جغرافية وأدبية ولغوية وفقهية، وشُكلت لكل جمعية مجالس إدارة، ووضعت لها لوائح تنظيمية، ومصادرُ تمويل، وباشرت عملها تأليفاً وتحقيقاً وطباعة، مع ممارسة الأنشطة المنبرية. كما منح بعض الأدباء والعلماء امتياز إصدار مجلات محكمة تختص بجغرافية المناطق وتاريخها وآدابها، ومعتمدة فيما تنشر على التخصصية والتحكيم. ولكل مؤسسة أو وزارة إصداراتها: البحثية والدعائية. 4/2 وإلى جانب (الأندية) و(الصالونات) و(الجمعيات) و(الدوريات) قامت مكتبات علمية وأدبية، تمارس أنشطة ثقافية، وتصدر مجلات أدبية محكمة. تقْدمُ ذلك (مكتبة الملك فهد الوطنية) بما هيئ لها من إمكانات، وبما أنيط فيها من مسؤوليات، وبما أنجزته من أعمال و(مكتبة الملك عبدالعزيز) التي أنشأها ولي العهد، وتعهد بتمويلها، والتي نفذت على أحدث الطرق، وزودت بأحدث الأجهزة، ومكنت من التوسع في المهمات، فكانت بحق مؤسسة ثقافية، تعج بفنون القول. وهذه المكتبة المؤسساتية تصدر (مجلة أدبية)، وتنفذ ندوات عالمية، تستضيف لها مئات الأدباء والمفكرين من أنحاء العالم، وتطبع كتباً وملفات، وتنتج برامج (تلفازية)، وتتوفر على آخر الإصدارات من الكتب، تجهز قاعات المطالعة، وتوفر الأجهزة الحديثة، إضافة إلى ماحظيت به المؤسسات القائمة من قبل من تطوير ودعم وتحديث وسائل، ف (دارة الملك عبدالعزيز) من معالم البلاد العلمية والثقافية لها مجلتها ومطبوعاتها وإسهاماتها المتعددة. و(مؤسسة الملك فيصل الخيرية) وما يتبعها من (مركز ثقافي) و(جائزة عالمية) و(مجلة محكمة) و(مكتبة حديثة) و(مركز معلومات) وما ينفذ فيها من ندوات ومحاضرات. و(المهرجان الوطني للتراث والثقافة) وهو تظاهرة ثقافية تراثية، يقام كل عام، وتنفذ على متنه وفي هوامشه ندوات رئيسة، تكون لها محاورها، وبحوثها، وأخرى ثانوية، إضافة إلى محاضرات وأماسٍ متعددة الاهتمامات، وطبع كتب، واستضافة رجالات الفكر والأدب و(جمعية الثقافة والفنون) و(مؤسسة سلطان الخيرية) وما تقوم به من مبادرات علمية وثقافية، و(المكتبات) و(دور النشر) و(المؤسسات الخيرية) لكبار الأثرياء، كل ذلك يشكل حواضن أدبية. هذه المؤسسات حظيت بدعم مادي ومعنوي من قبل الدولة، مكنتها من تنويع اهتماماتها. وفي سبيل تنشيط الحركة الأدبية اتيحت فرص (لعقد مؤتمر الأدباء) السعوديين، بعد توقف دام ربع قرن، وجاءت نتائجه لصالح الحركة الأدبية، فعلى هامشه نفذت (ندوة أدبية) متخصصة، وطبعت أعمالها من دراسات وبُحوث في (أربعة مجلدات)، كذلك أعيدت صياغة علمية (لمؤتمر رؤساء الأندية الأدبية)،بحيث يكون على هامش كل مؤتمر (ندوة أدبية)، حول قضية أدبية، تنفذ أعمالها، وتطبع فعالياتها. والاحتفالية المتعددة الاهتمامات التي جاءت (بمناسبة مرور مئة عام) على تأسيس المملكة العربية السعودية، نفذ على هامشها ندوة كبرى قدمت فيها مئات البحوث، ودعي لها آلاف الأدباء والمفكرين من أنحاء الوطن العربي والإسلامي والعالمي، وطبعت أعمالها، وقامت كافة المؤسسات العلمية والأدبية والثقافية والإعلامية بتنفيذ الندوات والأمسيات وطباعة عشرات الكتب: ابتداء أو إعادة، وكان النصيب الأوفى للدراسات الأدبية والإبداعات، وتلتها (العشرينية) التي تأتي هذه المحاضرة من مفرداتها، وفي سبيل دعم الروابط والمؤسسات وافق المقام السامي على فتح (مكتب إقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية) وخصص له إعانة سنوية، وأمر بشراء مقر مناسب له، ومن مهمات هذا المكتب تنفيذ لقاء شهري، وإصدار مجلة شهرية، وطبع الكتب الأدبية. ولما تزل إسهامات كبار الشخصيات في المملكة تنقب عن مجالات العطاء الفكري والأدبي والثقافي. ولعل آخر مشروع عالمي (مؤسسة الفكر العربي) التي شملت العالم العربي، وسوف تنهض بمهمات فكرية وأدبية، وتقدم مشروعاً عربياً متزناً، يمتلك آلية الحوار الحضاري. وتميز عهد خادم الحرمين الشريفين بتعزيز مشروع الموسوعات العلمية والثقافية والأدبية، وقد أُنجز في عهده ثلاثة مشروعات موسوعية: أ - الموسوعة العربية العالمية. التي صدرت عن (مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز الخيرية). التي استقطب لإنجازها آلاف المفكرين، ونيفت على سبعة عشر ألف صفحة، وثلاثة وعشرين ألف عنوان، ومائة وثلاثين ألف مادة بحثية، وجاءت في (ثلاثين مجلداً). ب - موسوعة مكارم الأخلاق التي مولها الأمير مشعل بن عبدالعزيز، وأنجزها فريق أكاديمي، وجاءت في أكثر من (ثلاثة وخمسين مجلداً) شملت مكارم الأخلاق في الشعر والتراث العربي. ج - موسوعة الأدب السعودي في (ثمانية مجلدات) ممولة من سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز. تلك بعض حواضن الأدب العربي في المملكة العربية السعودية، وبعض المنجزات التجهيزية، فماذا عن ملامح الأدب العربي في المملكة؟ |
موسوعة الأدب السعودي وتداعيات الصدور..!
د. حسن بن فهد الهويمل من إشكاليات المشهد الأدبي: محلياً وغربياً عقدة الملائكية الخالصة الخيرية، أو الشيطانية الخالصة الشرية، فيما يقوم الفراغ الهوائي بين القطبين بحيث لا ينوس فيه إنس ولا جان. والحدية الصارمة تعد إشكالية المشاكل في كل المشاهد: ا لسياسية والفكرية والأدبية، وعليها وعلى الثنائية تُحْمل دواعي الصراع والصدام، والمتحسس عن الوسطية، والمتلمس للمخارج يعيش غربة الوجه واليد واللسان. والمسدِّدون والمقاربون كالغرباء الذين يُصْلِحون ما أفسد الناس، وحاجتنا إلى أخلاقيات الحوار أشد من جاجتنا إلى مراجعة المنجزات وتسديدها. والجدل المحتدم المتداعي إثر صدور الموسوعة ينذر بسوء، ولا يبشر بخير، وأحسب أن الأطراف تمارس تصعيد التنافي في حين أنه بالإمكان الخلوص من وهدة الاتهامات إلى صعيد المراجعات، والمؤلم أن ذروة الصعود إلى الهاوية تولى كبرها أستاذان جامعيان، ما كان لأحدهما أن يبلغ به الغضب مبلغه، ولا أن ينزلق في مهاوي الاتهام الشخصي. وإذا كان العمل الموسوعي مبادرة حضارية وحاجة ضرورية فإن حماية المشروع ونقده لا يكون سوقياً، إذ لابد من تكافؤ الفعل ورد الفعل. والموسوعة كالمولود امتلك حتمية الوجود بمجرد ولادته الطبيعية أو المبتسرة، ولم يعد بالإمكان دسه في التراب، لقد قضي الأمر الذي فيه يتجادل المتجادلون، وسبق السيف العذل، و أصبحت الموسوعة بين أيدي القراء في الداخل والخارج رضي من رضي وسخط من سخط. وحين لا يكون بالإمكان رد الدر إلى الضرع ولا إيلاج الجمل في سم الخياط فإن من اللجاجة الاشتغال بالمحال والعزوف عن الممكن، ولم يبق إلا قراءة المشروع قراءة علمية منهجية حيادية متزنة مدعومة بالأدلة والشواهد، دون اتهام أو تخوين، فالفريق الذي أنجز العمل حريص على ألا يقول إلا الحق، ولكن الحرص لا ينجي من الأخطاء، والمسألة في النهاية تعود إلى التغليب، فإذا غلبت الإخفاقات النجاحات فشل المشروع، وإذا فاقت النجاحات الإخفاقات ملك العمل مشروعيته، ومهما اختلفنا أو تحفظنا على المنهج أو الآلية أو المادة أو المنفذين فإن النجاحات تفوق الإخفاقات. ومن حق الفريق العلمي علينا أن نسدده ونبادله النصيحة، وعليه ألا تأخذه العزة بالإثم، وألا يتمترس خلف أي سمة. ويبقى الخلاف والحالة تلك حول هنات لا يخلو منها أي مشروع فكل قول أو فعل لغير المعصوم يؤخذ منه ويرد، ولا يمكن التسليم المطلق لأي منجز، وإذا لم يجعل الله لأحد من قبل رسوله ولا من بعده الخلد فإنه لا يكون لأحد التسامي فوق المساءلة والنقد، وليس لأحد أن يمنح نفسه أو قبيله العصمة أو العظمة، ومصائب المشاهد التسامي بالبعض إلى سدة العصمة، بحيث يكون المساس بهذا البعض مساساً بالمقدس، ولو عرف كل واحد منا قدر نفسه لما هدِّمت شوامخ ولا شمخت عوائل، وداء المشهد التشايل والتمظهر وتعالي القتام والشللية. وتأتي الموسوعة ذِبْح المشهد، يقول فيها وعنها محق ومبطل، وناقم وعالم، ومجتهد ومصيب، ومخطئ ومتقحم لا في العير ولا في النفير، ومن ألف فقد استهدف. وعلينا توطين الأنفس، وتقبل أقدارنا بالتسليم والرضى، وكنا نتوقع أن تستقبل الموسوعة بممارسة نقدية متمكنة، هادئة مطمئنة، تحسن الظن، وتلتمس الأعذار، وتشير إلى مواطن النقص، ولا تتهم، وتقف حيث تكون القضايا، ولا تمتد إلى الأشخاص، ولا إلى النوايا، وتتعاظم المصيبة حين لا يتمخض القدح والمدح عن إيجابيات، وذلك ما أخشاه وما نعانيه، فالمشهد يعيش حالة من التوتر وتبادل الاتهامات، وحاجتنا إلى حكيم حليم يورد القضية موارد النجاة لا موارد الهلكة، والذين استقبلوا المشروع نقموا من ذويه: سريتهم وقلَّتهم ونوعيتهم وأثرتهم ومنهجيتهم وعدم تقصيهم مع ترهل الموسوعة. والمعتورون تختلف نوازعهم ومقاصدهم ومستوياتهم المعرفية، ويتراوحون بين معمم ومخصص، ومُهْمَل له حق المساءلة ومبخوس له حق المطالبة، ومُبْتًسرٌ له حق المناشدة. وطبعي وقد امتدت الموسوعة إلى الشاهد والغائب والمقيم والظاعن والشاعر والناثر و الناقد والكاتب أن يكون لكل واحد رأيه فيما قيل عنه أو نقل منه، وجميل لو أن المشتغلين بالموسوعة استشاروا واستخاروا واستعانوا، ولم تكن استعانتهم على قضاء حوائجهم بالكتمان، وأجمل من هذا لو أنها استقبلت بنقد موضوعي معرفي لا يمس الأهلية ولا الكفاءة ولا الأمانة، فالذين أُهْملوا ولهم حق الحضور، من حقهم العتب حتى يرضوا، والذين بُخِسوا لهم حق المساءلة حتى يستوفوا حقهم، ومن ليس لهم ولا عليهم أمثالي ولكنهم يودون منهجية أحكم وآلية أسلم وفريق عمل أكثر دربة وتخصصاً يجب أن يُسمع قولهم، ويؤخذ بأحسنه، فما نريد إلا الإصلاح ولا عاصم إلا الله. ومن المقت الكبير أن نطالب بسماع الحق ثم لا نسمعه، أو ننفي العصمة عن الغير وندعيها لأنفسنا، فما نقوله عُرضة للأخذ والرد، وما نحن إلا من غزية، وفريق العمل الذي نهض بالمهمة أهل لها ولا شك، ولكن الأهلية لا تعصم من الخطأ، ولا تعني الأفضلية، وفوق كل ذي علم عليم. والموسوعة في طبعتها الأولى بحاجة إلى خطوات إيجابية ومبادرة واثقة: الخطوة الأولى: إصدار ملحق تُستدرك فيه الأخطاء الواضحة، ويضم فيه من فات على الفريق من مبدعين ونقاد وكتاب. الخطوة الثانية: تشكيل فريق عمل جديد ممن سبق اشتراكهم ومن غيرهم تراعى فيه المؤهلات التالية: أ. التخصصية العامة: بحيث يكون الفريق من المتخصصين في الأدب الحديث. ب. التخصصية الخاصة: بحيث يكون الفريق من المتخصصين في الأدب العربي في المملكة العربية السعودية. ج. الممارسة: بحيث يكون فريق العمل ممن يعيش حضوراً فاعلاً ومتميزاً في الدراسات والموسوعات. د. التنوع: بحيث يكون الفريق متوفراً على متخصصين في النقد ومناهجه القديمة والحديثة، والتاريخ الأدبي والدراسات. هـ. التحكيم: بحيث يكون هناك فريق محكمين لمراجعة المواد من حيث الموضوع والخطة والمنهج والآلة والشمول والتركيز. و. الإشراف: بحيث يكون هناك فريق إشراف متخصص بالمنهج، والمادة. ز. التصحيح: بحيث يكون هناك فريق عمل لتصحيح المادة لغوياً ونحوياً وصرفياً وأسلوبياً وشكلياً، وقبل ذلك لابد من وضع خطة عمل، فالمشروع نسل إلينا على حين غفلة. ذلك أن العمل الموسوعي عمل معرفي توثيقي مرجعي جماعي نيابي، وليس جهداً فردياً، والمتلقي العربي يعد الموسوعة وثيقة لا معقب لها، لأن الموسوعية كالمعجمية عمل مسؤول ومؤسساتي، ومن ثم فإن احتمال الخطأ فيه نادر، وفي أضيق نطاق. ومع كل ما سبق فإن الموسوعة مبادرة جيدة تستحق منا الاحتفاء والنقد الإيجابي وقراءة الإنجاز بمنهجية وعلمية تحمل على التسديد والمقاربة، ولا يجوز التعميم ولا التقليل من قيمتها، ومهما اختلفنا مع المنهج أو الآلية أو المادة أو أهلية أحد أفراد الفريق العلمي فإن الود باقٍ، وبإمكان المشروع في طبعته الثانية أن يستدرك الفوات، وكل الموسوعات والمعاجم مرت بمثل ما ستمر به الموسوعة، وعلينا أن نوازن بين الطبعة الأولى «لأعلام الزركلي» مثلاً وما لحق من طبعات، وأن ننظر إلى «دليل الناقد الأدبي» للأخوين «الرويلي والبازعي» في طبعته الأولى والثالثة، وأن نستدعي أي مشروع معجمي أو موسوعي في طبعته الأولى وطبعاته اللاحقة. وأحسب أن مشروع الموسوعة عمل حضاري، يجب أن نعضده، وأن يوضع له مركز معلومات، ويؤلف له فريق عمل مساند لفريقه الأصلي، يتلقى الملاحظات والإضافات، وأن تحال أجزاؤه العشرة إلى طائفة من المتخصصين في الأدب الحديث ونقده، وفي الأدب السعودي وأنواعه، لإبداء ملاحظاتهم على كافة الجوانب تمهيداً لطبعة جديدة منقحة، وإذ بادر «نادي الرياض الأدبي» مشكوراً بالاحتفاء بالموسوعة وذويها فإن عليه أن يكون مثابة لفريق العمل وللمستدركات والإضافات، وليس من مصلحة الحركة الأدبية في المملكة أن يجهض المشروع، ولا أن تنزع الثقة منه، ولا أن يظل كما هو، وفي الإمكان تلافي التقصير، وليس من المصلحة أن يظل دُوْلةً بين ذويه الساخطين أو الراضين لا يتجاوز تراقي البلاد. يجب أن يكون رسولنا إلى آفاق الوطن العربي، فكم تجرعنا مرارة العزلة وجهل الآخرين بنا. والموسوعة بطبعتها المنقحة المرضية لكل الأطراف خير من يصلنا بالمشاهد العربية، وعلى المتخصصين المبادرة إلى قراءة الموسوعة، وتدوين الملاحظات المتعلقة بالمنهج أو بالموضوع بأسلوب علمي بعيد عن التهوين أو الاتهام، وعلى الفريق أن يتقبل النقد برحابة صدر الواثق وثقة العالم، فذلك طريق النجاح. |
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..!
د. حسن بن فهد الهويمل 2/2 الملامح: 1/3 أوجزنا الحديث عن «الحواضن» بوصفها مؤشرات ايجابية، على المستويين الكمي والكيفي، وعلى التحول المستمر، اما عن «الملامح» فإن شأن الأدب العربي كشأن الآداب العالمية، لا يستقر شيء منها على حال، ولا يمتلك لون من ألوان الأدب مكان الصدارة، بحيث يبقى في مركز الأهمية، ثم لا يبادله مكانه لون آخر، وتحولات الادب العربي الحديث: محلياً وعربياً كسرت كل الضوابط، وغيرت كل المعايير، ولما تكن تحولاته في العصر العباسي على يد «بشار» و«أبي نواس» و«أبي تمام» مثل تحولاته على يد «أدونيس» و«أمل دنقل» و«أنس الحاج»، ذلك أن التحولات العباسية لا يستبينها الا الخبراء المتمرسون، وتحولات الابداع السردي والرؤى النقدية، ليست بأقل من التحولات الشعرية، حتى لقد بلغ الأدب بسائر فنونه حد الانقطاع او كاد، وهو ما يدعو له نقاد الحداثة ومبدعوها، ثم ان الابداع القولي في العصر الحديث لم يكن خالصا للشعر، وانما كان مجاله: السردية والشعرية. وسرديات العصر الحديث تختلف عن سرديات ما سلف، ولما كانت الصدارة منذ القرون الأولى حتى العصر الحديث للشعر، فقد همش سلطانه كل فنون القول، وبطأ بها، وبقي على ما كان عليه من «بناء» و«شكل» و«صور» و«أغراض» منذ «امرىء القيس» ومن لحق به الى العصر الحديث، مما استطاع معه الراصدون والمنظرون ضبط ايقاعه، فكان اكتشاف بحوره ومعياره وعموديته دليلاً على الثبات والنمطية. ولما ان جاء البشير بطلائع الاستغراب، وسع العصر الحديث كل الخطابات، واتصل العالم العربي بحضارة الغرب، ينهل ويعل من رفدها المحمول على أجنحة الاستعمار ومناديبه، والمستشرقين وعضدهم، والمبشرين والمبتعثين والمترجمين. وبلغت الهيمنة والاستغواء بين المستغربين حد التدافع والاستماتة، حتى لقد نهضوا بالنيابة عن كل أولئك في «غربنة» الآداب: القولية والسلوكية وظلت بقية من خيرة القوم، تتفاعل مع المستجدات بندية، تأخذ ما يفيد، وتنفي ما لا يستجيب للحاجة، ومالا ينسجم مع الذائقة، وما لا يوائم فطرة الأمة التي فطرها الله عليها، ووقعت طائفة من ناشئة الفتيان والفتيات في النثرية والغموض والانقطاع، باسم التجديد وحرية التعبير، وبقيت طوائف اخرى على ما كان عودهم السلف: مقلدين او محافظين، واوغل فئام من المتعلمنين في بوادر المدنية الغربية والشرقية من دون رفق، ولم يمن الأدب في مرحلة الانطلاق في معزل عن دخن ذلك. وعلى كل مستويات التلقي تغيرت دولة الشعر، وقامت دولة السرد، تقرض سلطان الشعر، ونهضت الى جانب السرديات المستجدات: الشكلية والدلالية واللغوية، تبدل لحمة الشعر، حتى لكأنه غير الشعر الذي عرفه الأقدمون، والتحولات: الفنية والدلالية واللغوية، ومجيء الابداع السردي بهذه القوة، كاد ذلك كله يفصل الادب العربي عن جذوره، وبخاصة حين علا كعب السرديات، الى الحد الذي أطلقت معه مقولة: «زمن الرواية» وتحول نقاد الشعر الى النثر، فكان الزمن: زمن الناقد الروائي، والمبدع الروائي، والقارىء السردي، وفوق ذلك كله جاء «الابداع الأمي» يسد خلالا كان يسدها الشعر الفصيح، ولو كانت المنافسة للشعر قصرا على الرواية لقاسمها المواقع، وشاطرها الاهمية، ولكنها منافسات متعددة، قلبت موازين الشكل الشعري، وأحلت السرديات والعاميات محله، ونهضت وسائل الاعلام بما كان ينهض به الشعر. هذه البدائل والمتغيرات طالت الظاعن والمقيم من أدباء العالم العربي وآدابه، واعادت رسم ملامح الأدب العربي في كل بقاعه، بما فيه الأدب العربي في المملكة، وبخاصة في «مرحلة الانطلاق» التي وسعتها «العشرينية» بوصفها ناتج التجارب السابقة، ومثلما فعلت المستجدات فعلها في سائر الآداب العربية من متغيرات في: اللغة والشكل والدلالة والانواع، هبت رياحها على شعراء المملكة وروائييها ونقادها، فكانت لهم اشكالياتهم ومشاكلهم واهتماماتهم، وتحولت معاركهم من سوح القديم والجديد الى مسارح المعاصرة والحداثة. وإذا كانت الخصوصية من قبل تُلتمس في الفن والشكل واللغة والدلالة وسائر الأنواع فإنها الآن لا تكاد ترى الا في بعض الجوانب الدلالية. ذلك ان الخلطة والمرجعية الغربية وتعدد قنوات الاتصال جعلت الأدب العربي ذا لحمة متشابهة، وما نريد الحديث عنه مجرد التعريف الكمي والكيفي والنوعي غير مفصولة عن السياقات والانساق العربية، وحين نستذكر ما اشرنا اليه في شأن الحواضن تتبدى لنا الملامح والسمات التي تتشكل في ظل الخصوصيات السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، وهي خصوصيات مخترقة بعامل الانفتاح. 2/3 والأدب العربي في المملكة مر بثلاث مراحل، لا احسبها قسمة رياضية لا تُخلِفُ التوقع، ولكنها فرضية بادية للعيان: «ريادة» و«تأسيس« و«انطلاق». وتأتي «العشرينية» ضمن «مرحلة الانطلاق»، وأهم التجليات تتمثل بانطلاقة السرديات: القصة، والرواية، والسيرة الذاتية، وأدب الرحلات وب«النقد» بمذاهبه وآلياته واهتماماته وتحولاته السريعة التي كادت تقلب موازينه وبخاصة النقد اللغوي على ضوء المناهج الحديثة. وبالتحولات الفنية للشعر متمثلة في «الثنائيات» و«الرباعيات» و«مجمع البحور» وفي «شعر التفعيلة» و«قصيدة النثر» و«الصورة الحديثة» و«النص المفتوح»، وفي «الاغراض الشعرية»: «ميتافيزيقيا» و«صوفيا» و«تأمليا» و«أسطوريا» و«خرافيا» حتى لقد زهد الشعراء والنقاد على حد سواء بشعر «المناسبات» و«المديح»، والخطابية و«المباشرة»، ولما أن جاءت الحداثة المراوحة بين الفنيات والدلاليات والشكليات واللغويات، تغير كل شيء أتت عليه، وواكبت ذلك كله حركة نقدية يتنازعها: «النقاد المذهبيون» و«النقاد الاكاديميون» و«النقاد الصحفيون»، وكان الخلاف على اشده بين الفئات الثلاث، وبين افراد كل فئة، ووسعت «العشرينية» هذه التحولات وتلك الصراعات التي لم تكن على شاكلة ما سبق، ولو نظرنا الى سائر المتغيرات، والى تبادل المواقع بين السردية والشعرية في «مرحلة الانطلاق» لكدنا نتصور حالة من المتغيرات الجذرية ولو ألحقنا «الحركة النقدية» بالحركتين الابداعيتين: الشعرية والسردية لاتضحت لنا حالة الأدب في تلك الفترة الاستثنائية وهي حالة تنبىء عن تواصل مع القديم والحديث والأحداث، فالشعراء والنقاد المحافظون على أشدهم، ونظراؤهم من المجددين والمتحدثين على قدم وساق، وكل فئة تظن كل الظن انها المسيطرة على المشهد، وانها القادمة اليه على قدر، وما من شك ان «مرحلة الانطلاق» التي وسعتها «العشرينية» من اخضب المراحل، واكثرها فعلا وتفاعلا واذ تكون المملكة في دورها الثالث على يد المؤسس قد مرت بمعركتين مهمتين: «معركة التكوين» و«معركة البناء» بحيث امتدت «معركة التكوين» قرابة الثلاثين عاماً من عام 1319هـ حتى 1351هـ ثم تلتها «معركة البناء» من لحظة الاعلان عن اسم «المملكة العربية السعودية» فإن المعركتين أرهصتا لنهضة ادبية ذات صبغة مغايرة لما سلف، فالمملكة تشكلت من اربعة اقاليم، لكل اقليم ظروفه وخصوصياته. يقدم الجميع علما وأدبا وثقافة «اقليم الحجاز»، لأنه الامكن علما وتحضراً، والأقوى تواصلاً مع أدباء مصر والشام، وبخاصة مع جيل العمالقة. وامكانية الدمج الفوري مع هذه الفوارق لا تتم بجرة قلم، بل لابد من رحلة مرحلية شاقة، توظف لها كل الامكانيات، لتكون المملكة الموحدة اقليمياً متوحدة علمياً وادبياً واجتماعياً وذلك ما أراده المؤسس، يوم ان اعلن قيام المملكة، فلقد وحد المناهج والمؤسسات: الدستورية والتشريعية والقضائية والتنفيذية واهتم بالتوطين والتحول من الرعوية الى الزراعة والصناعة والمدنية وسائر متطلبات الاندماج. وبتجاوز هذه الصعوبات ونجاح الملك عبد العزيز في اقامة وحدة شاملة اقتربت من اذابة كل الفوارق، توافر ابناؤه من بعده على اجواء ملائمة لمواصلة الانطلاقة التعليمية والادبية، وهو الذي يعنينا في هذا الحديث. واتساع الحركة الأدبية: الشعرية والسردية بشقيها: الابداعي والنقدي، زاد من الاهتمام بالنقد، وبالذات الجانب التنظيري، وكان هَمُّ التوفيقيين منصباً على تسوية النزاع بين المجددين والمحافظين، والمجددين والحداثيين، وتسوية الخلاف مع نفسه في سرعة التبادل بين مراكز الاهتمام بين: اللغويات والفنيات والدلاليات. واشتعال الصراع بين الفرقاء وسائر التحولات منحت الحركة الأدبية حيوية لم تكن لها من قبل ومع استياء المحافظين وتذمر المجددين فإن العاقبة ايجابية لأن كل طائفة عرفت المسيء من المحسن، وان التبس الامر على البعض، مع انه لا يخلو تيار من فائدة. |
الساعة الآن +4: 04:25 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.