![]() |
بارك الله فيك على هذا المرجع العظيم .. الذي سيستفيد منه الجميع بإذن الله ونعم بالجميع الناقل والمنقول عنه |
العصفور الأنيق ،،، التويجري ،،، عمر الصمعاني
أشكركم على هذا الكرم |
أيها العرب: إن لم تتحدوا فتعاونوا وإلا فتعاذروا..!!
د. حسن بن فهد الهويمل ما من زعيم أوحد، ينتزع الحكم من سلفه على صهوة دبابة أو على متن طائرة، إلا ويقدم مشروعه الأشمل والأكمل، قائماً بالقسط، مشتملا على الوحدة والحرية والقومية و(الديموقراطية)، مع وقف التنفيذ، لتظل الوعود مشروعا يرقب ثائراً جديدا. وكلما دخل زعيم قصر الرئاسة، أنحى باللائمة على سلفه، ومع أن بعض الثوريين توفروا على فسحة من الوقت، وكثير من الإمكانيات، وطوفان من الجماهيرية، إلا أن إثمهم أكبر من نفعهم، كما الخمر والميسر، ومن شذ كرَّس القاعدة. ومدار حديثنا على النتائج، لا على الأفراد، ومن ساءه قولنا، فليستفت عمله. ومن نظر بعين الناقد الناصح، أو الشامت الفاضح، أيقن أن الأجواء العربية متخمة بالخطابات العاطفية، والمجاملات الرسمية، المستهلة بكلمة (الأشقاء) و(الشقيقة) وما زادتنا المداراة والمداهنات في كل سنواتنا العجاف إلا خسارا، ولقدسمعنا من (عراقيِّي) الشتات والأرض المحروقة من ينحي باللائمة على الصمت المريب، أو المجاملة الخائفة، لحاكم استذل العباد، أو لتحالف احتل البلاد. والواقع العربي المعاش خير شاهد على الخسران المبين، وعندما لا تكون المصائر بصائر، تتردى الأمة في مهاوي الهلكة. والمشهد السياسي العربي إذا خلا له الجو، علا هديره الفارغ، وإذا سمع هيعة تحول هديره إلى رغاء، وهكذا دنيا العروبة زئير ومواء. وصخب خطاباته الفكرية والحزبية والطائفية والإقليمية طابعها الزيف، وسمتها التمويه، ونتائجها التناحر والتدابر، لأنها تجنح إلى ما يكرس الفرقة، ويغذي الخوف، ويبعث الارتياب. و(الحقائق) حسرات في أعماق الشعوب، و(الفرائض) مقموعة بسياط التسلط. وما لم تلتق الأطراف بعد كل هذه المحن والإحن على (البساط الأحمدي) لمواجهة الذات بكل هناتها فإن قضايا الأمة ستظل معلقة، لا مضمومة ولا مطلقة. وحاجتها اليوم ليست في تفتيش الدفاتر القديمة، ولا في تجريم المراحل الذاهبة في الغابرين، حاجتها في أن تعترف بكذب وعودها، وخسارة رهاناتها، وفشل تجاربها، وفي تقبل هزائمها بروح عالية، وتفكير سليم، وتقدير دقيق، وفي بدء حياتها من درجة الصفر، نافية ملفاتها الماضية بكل وضرها إلى غير رجعة، مستحدثة ملفات جديدة. والنحيب على البلوى لا يرد قضاء، ولا يشفي غليلا، وما دامت أمام قادة الأمة فرص ممكنة، فإنه لا يليق بها أن تمشي مكبة على وجهها. وأجزم أن بإمكان الناصحين أن يبادروا إلى العمل النصوح، وأراهن على أن الخيرية في هذه الأمة قائمة إلى قيام الساعة، وأنها بانتظار من يملك تلقي الراية باليمين ليتخطى بأمته سوياً على صراط مستقيم. والبداية الصحيحة صعبة المراس، ولكنها ضرورية، وإذا لم نخط الخطوة الأولى على الطريق القاصد، بطا بنا التخويف، ولم يسرع بنا التسويف. وإذا لم نستشر، ونستخر، ثم نعزم ونتوكل تدخلَّ القويُّ: عدةً وعتاداً، لترتيب بيتنا العربي على عينه. وبعض القادة الناصحين يدركون أن (البيت العربي) مبعثر الأثاث. وانتظار الخوارق لترتيبه دروشة واتكالية، وترتيب الغير له بالوصاية سبة ومذلة. وقبول التشتت، ومزيد العبث، والقابلية للَّعب السياسية، تغري القوى المتغطرسة التي تدعي الضرر وحق التدخل بدعوى تحرير الشعوب من أبنائها بتنفيذ ما تريد، وما هي إلا صانعة اللعب المدمرة واللعب المضادة. ولقد بدت سابقة التدخل العسكري، ولم تزل في الجعبة بقايا للضربات الاستباقية أو الوقائية، لمن لا يملكون كشف الضر عن أنفسهم ولا تحويلا. والمؤكد أن استفحال التدهور لا يصيب الذين وقعوا فيه خاصة، فالعالم اليوم متداخل، كما أهل قرية خائفة مضطربة، تهوي عليها مصائبها من كل مكان. والنمو الاقتصادي الذي تتطلع إليه دول العالم، يتطلب أوضاعاً مستقرة، توفر الأجواء الملائمة للعمل والإنتاج، وعودة الأدمغة المهاجرة ورؤوس الأموال المتسربة. والانتعاش في أي بلد يمتد أثره كالرياح اللواقح، كما أن الانكماش يعصف كالريح العقيم، بحيث تطال الظاعن والمقيم. والعالم اليوم يشكل شبكة عنكبوتية معقدة، سريعة الاستجابة والتداعي. ولقد كنا منذ الخمسينيات نعيش تحت وابل الخطابات الوحدوية والقومية و(الديموقراطية) والحزبية، نخوِّن بعضنا، ونعد بتصدير المبادئ الثورية، المحبرة على الأوراق، مما دفع البعض إلى الاحتماء بالأقوياء. ولما تتقدم الأمة المأزومة خطوة واحدة من فيوض الكلام إلى شواهد العمل. وإذا كان الوضع العربي على مختلف الصعد يؤكد أننا نقول بألسنتنا ما ليس في قلوبنا، فإن بوادر الخلاص تبدأ من الشفافية، والمكاشفة، والتنادي إلى كلمة سواء. أو التعاذر، والتبصر بالذوات، والارتداد إلى الدواخل، للعمل الجاد، وصناعة الإنسان، وإصلاح ما أفسده الأقربون. فهذا أو ذاك بعض الإرهاصات المناسبة للوحدة، أو لما دونها من التعاون على البر والتقوى. ومما لا شك فيه أن هاجس الإنسان العربي يتمثل في وحدة تقوي جانبها، أو في تعاون ينمي اقتصاده، أو في تعاذر يصرفه لمصالحه. والوحدة لا تتم بين عشية وضحاها، إنها عمل إصلاحي، لابد له من تضحيات وضحايا، وتنازل وإيثار، وعمل رفيق لمعالجة الواقع، ومواجهة النوازل، واستلال المعوقات، كما تسل الشعرة من العجين، وبخاصة في بداية العمل التقاربي الصادق. وكل ذلك أو بعضه لن يتأتى عن طريق الشعارات الزائفة، والهتافات الفارغة، والمظاهرات الهوجاء، أو الخروج على الشرعية، ومنازعة السلطة، والتناجي بالإثم والعدوان في الأقبية والكهوف، أو التطرف في القول، والإرهاب في العمل، والغلو في الاعتقاد. والأمة المتخمة بالمعوقات المفتعلة بحاجة إلى مؤسسات مدعومة بالأهلية والكفاءة والإمكانيات والصلاحيات، لتعالج الأمور بهدوء وطمأنينة، وطول نفس، وبعد نظر، تدبر وتقدر، وتوقت وترتب، لا تتملق الرأي العام، ولا تغرر به، ولا تزكي نفسها، ولا تسمو فوق المساءلة والمحاسبة والنقد. وكل عمل مصيري بحاجة إلى مطابخ هادئة، ذات دربة ودراية، تنضج المشروع ببطء، وتأخذه بحلول مرحلية لا فورية، وبقرارات ذاتية لا شرقية ولا غربية، تناسب الوضع القائم، وتلائم الإمكانيات المتاحة. ولما لم تكن هناك أجواء ملائمة، كان لابد من التنقيب عن مال وتمويل، وخبرات ومواهب، وإمكانيات وقدرات، وعلم وطاقات، لتكون أرضية الانطلاق صلبة. وكل من ركن إلى الخطابات المثالية والدعاوى والوعود المستحيلة، حرم أمته من اللحاق بركب الحضارة. والمشاهد السياسية بوصفها البوابة الأولي لأي عمل مشترك تنقصها المصداقية، وتعوزها العزمات فالإنسان العربي عاش خيبات الأمل، وتجرع مرارات الفشل، في كافة تجارب التقارب، وفي كل المواجهات الحضارية، وشهد زيف المشاريع، ونكسات الحروب، وتصور حملة الكتاب الذين لم يحملوه: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ومن الصعب والحالة تلك إقناعه بقبول الوعود أو التطلعات. وحين لا يطمئن، لا يزيد أمته إلا خبالا، تاركاً أثر سلبيته على الجبهة الداخلية، وحاجته في ظل هذه الأجواء النفسية السيئة إلى الوعود المتواضعة الممكنة، ليتحول من شكوكي رافض إلى مطمئن واثق. والوحدة الشاملة أو الجزئية التي تحلم بها الأجيال، لن تتحقق في ظل الأوضاع القائمة، فالاحلاف العربية مختلفة، والمصالح متعارضة، لانتماءات ولهويات متعددة، وأنماط الحياة متفاوتة، والمستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية متباينة، والدساتير والأنظمة والقوانين متنوعة المرجعية، ومناهج التعليم ومواده متناقضة، والحدود مصنمة، والشخصيات مقدسة، والأفعال مزكاة، ولما يلح في الأفق أي تصرف صادق للوحدة، على الرغم من وجود المقومات اللغوية والعقدية والحضارية والإقليمية والتاريخية. والخطاب الإعلامي بوصفه الوسيط والشارح والمقنع استهلك أقنعته، وانتهت صلاحيته، ولم يعد المصدر الأهم للمعلومة، ولا المؤثر الرئيس في تشكيل الذهنية، وتهيئتها لقبول التغيير، ولهذا فإن استمراره يشكل مزيدا من الأعباء والفرقة، وكان بالإمكان تحويل مؤسساته القائمة إلى القطاع الخاص، ليأخذ موقعه مع سائر القنوات والمؤسسات الوطنية، متخلصا من التزامات الدولة ومداراتها. ذلك أن الإعلام المخصخص يملك مساحة من الحرية، تمكنه من تناول القضايا عبر هوامش واسعة، لا تؤثر عليها التزامات الدولة ولا عهودها ولا صداقاتها ولا مصالحها القطرية. وإذا كان للدولة رأي أو تصور فإن بإمكانها أن تبديه في ساعة من نهار البث. وتفكير الدولة بتحويل قنوات الإعلام إلى مؤسسات مستقلة خطوة موفقة، فالدول المؤسساتية الدستورية بحاجة إلى لسان الحال لا إلى لسان المقال. والدولة التي تهفو إليها أفئدة الملايين من واجبها أن تغض الطرف، كلما بدت لها سوآت الآخرين، وأن تمر باللغو مر الكرام. وبصرف النظر عن الإعلام الرسمي، وكونه عقبة في طريق الوحدة المرتقبة، فإن ثمة أنكر الأصوات صوت (القنوات الفضائية)، التي دخلت الحرب الباردة بألسنة حداد، وببائعين للقدرات البلاغية والإمكانيات الإعلامية الجذابة، وهي بجناياتها أو بجنايات بعضها تفسد في ساعة ما يفسده الإعلام الرسمي في سنة، وتلك نوابت سوء، امتدت ريحها العقيم إلى الشعوب، بحيث أصبح التلاحي بين أفراد الأمة، لا بين كياناتها السياسية. لقد اقترف الموغرون للصدور خطيئة التنقيب في الخلفيات التاريخية، بين المذاهب والمعتقدات والعرقيات، ومشاكل الحدود والأقليات، والسعي الدؤوب لإيقاظ الفتن النائمة، وممارسة صراع الديكة، بين فضوليين أضوائيين، تفلتت سرابيات الادعاء من بين أيديهم، فانطلقوا لا يتخافتون، وإنما يجاهرون بالعداوة والبغضاء، لإذكاء الضغائن، ونبش الدفائن، وذلك لا يعوق مشروع الوحدة وحسب، وإنما ينسف الجسور، ويوسع الفجوات، ويعمق الخلافات، ويحفز على المواجهات، وأرجو أن تكون الفضائيات موجات تلهث وراءها موجات، لتتلاشى دون سواحل التقارب وشطآن التعاذر، وما ذلك على الله بعزيز. ولأن الوحدة تتطلب أجواء ملائمة من الوفاق والتسامح وتناسي ما فات من ويلات وإساءات، وتقتضي تنازلات تطال السياسة والساسة والوطن والمواطن وسائر وجوه الحياة فإنه من المستحيل أن تتحقق في ظل إحياء النعرات الطائفية والقطرية والحزبية والقبلية و(الإثنية)، وتغني كل قطر بليلاه، ومن المتعذر أن يتحمل المواطن قسطا من متطلباتها، ثم لا يراها ماثلة للعيان، مؤدية إلى القوة والتلاحم، مقيلة لعثرة الأمة، صادة عنها عوادي الزمن. ومن تصورها سهلة انسيابية دون أي معارضة من الداخل أو عقبات من الخارج فقد وهم، فالوحدة لا تتحقق إلا بالقضاء على مسلمات وسوائد وقناعات يحسبها الدهماء من الثوابت. وكل إصلاح تمارسه أي سلطة، لابد أن يطال مصالح من الصعب التخلي عنها، وأن يمس مصلحيين من الصعب تنازلهم عن غلولهم. والوحدة كما الإيمان: قول وعمل واعتقاد، لها بوادرها وإرهاصاتها، التي لم تكن بعد، إذ لم نزل في لغو الأحلاف، ولما نعقِّد الأيمان عليها. وإذا كان التنازع قائما داخل القطر الواحد، وإذا كانت حصون (الوحدة الوطنية) مهددة من الداخل، فكيف نتطلع إلى وحدة عربية؟ إن على القادة أن يعملوا على التجانس والتعايش والتسامح بين فئات الشعب الواحد، فالاستقرار الداخلي أهم مقومات الوحدة العربية، والتركيبات السكانية عبوات ناسفة، ما لم تستل فتائلها بالتكافؤ والتعاذر. والكلام الإعلامي العاطفي الاستهلاكي انتهى دوره، ولم يعد مناسبا للمرحلة المثخنة، ولا للواقع المرير. الوحدة حلم، والتعاون مطلب، والتعاذر أضعف الإيمان، ولن يتحقق شيء من ذلك إلا بالتنازلات، والشروع بالفعل، وبث الطمأنينة في أجواء المتحفظين والمتربصين والمتخوفين، فالدول الكبرى ذات المصالح تعرف جيداً أنها لن تسود إلا بالتفريق، ولن تستأثر بالأنفال وحدها إذا كانت الكلمة للشعوب القوية المعتصمة بحبل الله جميعاً، ولأن دول الاستكبار والاستعمار جشعة واستغلالية، فإنها لن تقبل المشاركة، ولن ترضى باقتسام الغنائم. والوحدة والحرية لن تتحققا في ظل التسلط الأجنبي والتطبيع الصهيوني، وإن وعد المحتل بهما، وشرعن لتدخله من أجلهما، وإذا استطعنا ان نقنع المتحفظين، ونواجه المتربصين، ونطمئن الخائفين، فذلك خير، واحسن قيلا، وإلا فلا أقل من أن نعمل على تحييد من لا نقدر على مغالبته، وذلك بزرع الطمأنينة في نفسه، وعدم المساس بمصالحه، والكف عن سبه أو منازعته، ولقد نهينا عن سيء القول، وسب الذين يدعون من دون الله، فضلا عن مطاردته، وضرب مصالحه. وإذا كانت هناك عهود أو عقود، مضت بها رغبات القادة في أزمنة الوفاق، فمن الممكن العمل في المساحات المشتركة، واهتبال الفرص المتاحة، حتى تبلغ العقود محلها، وإدارة الأزمات لا تكون بالعنتريات. والأمة العربية محمية بإسلامها، موعودة بنصر الله إن نصرته، وهي بهذا تتوفر على أساسيات العزة والتمكين، ولكنها لم تأخذ بها. وإذ لا نقدر على الوحدة في ظل الظروف القائمة، فعسى ألا نفشل في التعاون أو التعاذر. والأمة العربية مع كل الإحباطات تمتلك مقومات الحياة الكريمة، والعجب أن تذل وتخنع، وتمتلك وسائل الإنتاج من: أنهار متدفقة، وتربة صالحة، وسواعد قوية، وطاقات: نفطية وشمسية وهوائية، والعجب أن تصبح رهينة لرغيف العيش وأسمال الثياب. والأمة العربية قبل هذا وبعده تمتلك الكفاءات البشرية المقيمة والمهاجرة ورؤس الأموال المجمدة أو المهجَّرة، والعجب ان ترقب فاعلاً أو مساعدا. إن الدرك الأسفل الذي بلغته عرضٌ لاسمه، وممارسة لا خليقة، ولن تقال عثرتها إلا على يد أبنائها، فليؤثروها على أنفسهم، ولو كان بهم توق إلى السلطة، وليجنحوا الى السلم العربي العربي، والعربي الغربي. فحاجة الأمة إلى هدير المصانع لا إلى دوي المدافع وإلى السنابل لا إلى القنابل، وصدق الله: {لا خّيًرّ فٌي كّثٌيرُ مٌَن نَّجًوّاهٍمً إلاَّ مّنً أّمّرّ بٌصّدّقّةُ أّوً مّعًرٍوفُ أّوً إصًلاحُ بّيًنّ النَّاسٌ} . |
نقاد زائفون ونقاد مزيِّفون..!
د. حسن بن فهد الهويمل أجمع الراصدون والمؤرخون للحضارات أنها لاتستوي على سوقها، ولا تؤتي أكلها إلا بالإيمان، والاعتزاز، والصدق، والصدع بالحق، والتفقه، والاجتهاد، وتحرير المفاهيم، وتحديد المقتضيات، والتفريق بين الثوابت والمتغيرات، والدخول فيها كافة. وعلماء الأصول الذين يستنبطون قواعد التعامل مع وثائق الحضارة النصية، يحددون القطعيات والاحتماليات، ومجال الاجتهاد، والنصوص التي لا اجتهاد معها، والمفكرون المنتمون يعرفون الفوارق والقواسم المشتركة بين حضارة وأخرى، ويتفادون مسخ الذات والتلقي عن يد صاغرة، وأي خلط بين الثوابت والمتغيرات، أو بين القطعيات والاحتماليات، أو بين الحديات واللاحديات، يسهم في مسخ الحضارة وإذابة كيانها، وذلك شأن الشكوكيين والمأزومين والمتعالمين، ممن تعيش حضارتهم ريبة في صدورهم، وليس ببعيد وجود المرتابين في هذا العصر الموبوء، وهم قد وجدوا في عصر النبوة، حتى قال الله فيهم: {لّوً خّرّجٍوا فٌيكٍم مَّا زّادٍوكٍمً إلاَّ خّبّالاْ } والخطاب الفكري المعاش: إما أن يكون حدياً صارم الحدية، فيما هو احتمالي، أو مائعا منفلتاً، فيما هو قطعي الحدية، والحضارة أيُّ حضارة مجموعة عوالم، تشكل منظومة من القول والفعل والترك، فإذا استطاع حملتها أن يعطوا كل مجموعة ما تقتضيه، استوفت جلالها وجمالها، وتمكنت من الرسوخ والتجذر والسموق والندية، وإلا تحولت إلى جذاذات مبعثرة، تذروها الرياح، وكل حضارة مجموعة من العرى المتماسكة، لاتنتقض في لحظة واحدة، ولكنها تتفلت عروة عروة، بتخاذل أبنائها وضربات أعدائها. والفكر والعلم والثقافة والدساتير والأنظمة والفن والنقد وكافة الظواهر الاجتماعية والنفسية وسائر الأوضاع الحسية والمعنوية مفردات تتشكل منها الحضارات، وكل مفردة لها أهل ذكر يحرسونها، ويرعونها حق رعايتها، ويقولون فيها أو عنها قولاً سديداً، أو يفرطون فيها، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويلي أمرها زعانف لا تبقي ولا تذر، وفي النهاية فكل طائفة تتفقه فيما تجد نفسها من علم أو فن، وتركيز حديثنا عن «النقد» و(النقاد)، بوصفهما من اولويات الحضارة ومرتكزاتها ومنطلقاتها، ولما آلت إليه قضايا الأدب في ظل التحولات «الأيديولوجية» والفنية والتعالق غير السديد وغير الرشيد مع المدنيات المهيمنة، والمتابع لهذه المفردة من مفردات «الحضارة الإسلامية»، ينتابه الخوف، لأنه يتجرع مرارة الفوضى المستحكمة، ويتعثر بأشلاء مثمنات فكرية وفنية على يد متقولين بغير علم، ولو تركت المشاهد على ما هي عليه، لضاع الفن القولي الجميل باسم مشروعية الحوار والحرية، والعبثية والغثائية والرفض لايمكن أن تُشكل رؤية سليمة لأي مشروع حضاري، لا على مستوى الفكر، ولا على أي مستوى دون ذلك، وبعض المتقحمين باسم حرية الحوار ونسبية الحقيقة وحتمية التسامح يرى أنه إذا كان الوعاظ محمَّلين بالحقائق فإنه محمل بالشك والتساؤل، او كما أُثر عنه وتلك المقولة بقية من فلول «الوجودية»، التي عكرت صفو الفن والحياة معاً، ثم عصفت بها رياح التغيير، وليست بقية الله، ومن قال بها، فهو كهفي يحتفظ بورقه، وقد تتضوع هذه المقولة بنكهة «معرِّية» تحمل السمة، ولا تنطوي على الاقتدار، وعلى ساقة «المعريين» و«الوجوديين» جاء «المستغربون» و«الفرانكفونيون» و«المتأمركون» و«المتعلمنون» و«المتعولمون» بغير هدى ولا تأصيل، يقولون بمثل ما يقول به أصحاب الحضارات المادية دون وعي بالفوارق، ظناً منهم أن ما يقولونه ابتدار ومبادرة، لم يُسبقوا إليه، وكل ما يتداولونه فيما بينهم من تمرد وشك وفوضى ورفض مررنا بسباطته متلثمين منتعلين اتقاء ما يتصاعد منه من شك وارتياب، ومن نقب عنه، وجده ثاوياً في أرض المستشرقين. ورسيس «السريالية» و«الدادية» و«المستقبلية» و«الوجودية» وما سبقها أو واكبها أو خلفها من مسميات لما يزل بقية في أيدي المستفزين وحذاق البهلوة، الذين ينقبون عن حشف هنا أو سوء كيل هناك، ليعيدوا صياغته، ويتقحموا به المشاهد، والمؤذي أنهم يفيضون به على سماعين ذوي مسغبة او متربة، يفغرون أفواههم انبهاراً واندهاشاً، معبرين عن ذلك بالمكاء والتصدية، ومن ليست له دراية بتلاحق المذاهب، ومقولات المستشرقين عن مفردات الحضارة ورجالاتها، وترديد من لحق بهم من الظلاميين، يعد ما يقوله مثل هؤلاء من التجليات، وما يأخذ به اولئك من تلك المذاهب الوضعية المادية يردي الإبداع الشعري والسردي والعمليات النقدية، لأنه أخذ على ضعف، كالضغث على الإبالة، ولو أنهم إذ جنحوا إلى الاستغراب توفروا على ملكات وإمكانيات توفر عليها من قبلهم أمثال «طه حسين»، و«أحمد أمين»، و«هيكل» و«زكي محمود»، و«مبارك»، لكان في ذلك بعض العزاء، ومما تتأذى به المشاهد صلف المكابرين المقوين من صد متعمد عن سبيل الفن الاصيل، بحيث يشرعنون للرديء من القول، وللمنحرف من الأفكار، وللساقط من السلوكيات، ومع حداثة مشهدنا المحلي، فقد مرت به على عجل فلول الحداثة والبنيوية والتفكيكية والتحويلية، ومن قبلها تداول البعض مصطلحات لا حصر لها، وكلها اقتيدت على أيدي جالبيها الى مزبلة التاريخ الأدبي، مصحوبة بما أهدر من جهد ووقت ومال، ولما يزل الذواقون يتحرفون لمذاهب مماثلة، ولما تزل الغوغاء متذيلة وراء المتذيلين. والنقد المواطئ للضعفاء والمتمردين يزيد ارتكاس الفن في درك التخلف، وهو نقد بالتجوز، ومثلما يقال عن النثر: بأنه شعر، وعن الكلام الشائع المبتذل: بأنه سرد فني، يقال عن المجاملات والانطباعات: بأنها نقد أصيل، والساحة تفيض بالأدعياء والفارغين والمغثين، وقليل من المتميزين. ولو سألت بعض المتصدرين للمشاهد النقدية، أسئلة أولية: ** ما النقد؟ ** ما وظائفه؟ ** ما ثقافة الناقد؟ ** ما آلياته؟ ولو تجاوزت ذلك قليلاً بسؤال عن محطاته التاريخية مثل: كيف بدأ النقد؟ وكيف اتخذ طريقه إلى الاكتمال؟ وكيف تقلب في أعطاف المعارف والعلوم والثقافات؟ ولو تقدمت خطوات أبعد، وسألت عن الفرق بين مذاهب النقد واتجاهاته ورموزه وجغرافياته، ولو أبعدت النجْعة، واستطلعت الرأي عن الآليات التي تُخترق بها أجواء النصوص، من نحو وصرف وبلاغة ولغة وتفكيك، وعن المنهجيات من لغويات وفنيات ودلاليات، وعن ماذا يخص النقد العربي القديم والحديث وسائر الاتجاهات والمذاهب النقدية، لو فعلت شيئاً من هذا، لما عاد لك الصوت بجواب جامع مانع، ومع هذا الخواء الفاضح ستجد متعالمين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، والمشهد النقدي عربياً أو محلياً لا يستقيم أمره إذا تسيده متذوقون يتخطفون ما يتساقط من ورق المصطلحات الغربية. ومثلما نتأذى من المتعالين في مشاهد الأدب، نعتز بكفاءات علمية وثقافية وأدبية على جانب من الخلق الكريم، والمعرفة العميقة الشاملة المتنوعة، والتوازن والاتزان، ولكنها فئة قليلة، تكاد تكون غريبة الوجه واليد واللسان، وقد تغلب بإذن الله فئات كبيرة، ومثلما نجد الإفلاس والإسفاف في مشاهد الأدب، نجدها كذلك في مواقع كثيرة من مفردات الحضارة، فنجد من يقول عن الدين والفكر والفلسفة والحرية والحقوق، وعن المرأة والثقافة، وعن السياسة والاجتماع والاقتصاد بغير علم، ونجد من يصدقهم، ويصغي اليهم، وأنفسنا تذهب حسرات على الفن الرفيع الذي تسور محاريبه من لا يحسنون تذوقه، فضلاً عن تفكيكه واستكناهه وإعادة بنائه، ممن هم مجهولو الذات والحال، والإشكالية ان يتمكنوا من تصدر المشاهد، والنفاذ عبر الوسائل، لإفساد الفن بعد إصلاحه، وما يلحق الفن من إفساد يطال بناءه اللغوي، وشكله الفني، ومنطوياته الدلالية، وما من ضياع وضلال يعتري الأمة، إلا ويكون على المبدعين والنقاد والمفكرين كفل منه، فهم إما حماة وإما جناة، وكلما ظهر الفساد في عوالم الكلمة استفحل في كل العوالم، ففي البدء كانت الكلمة، وأول اتصال بين السماء والأرض كان أمراً بالقراءة، وتنبيهاً بأهمية القلم الذي علم الله به الإنسان مالم يعلم، وما المذاهب السياسية الثورية الدكتاتورية الدموية من «نازية» و«فاشية» و«ماركسية» إلا ربيبة الفكر وناتج الفن، وما طرح «ماركس» شيوعيته إلا بعد أن قرأ الطارف والتليد في مكتبات العالم، والنقد بوصفه المعقب لحكم الإبداع: موهبة، ومعرفة، ودربة، واقتدار، وموقف، وثقافة، ووعي، وهم، ووسيط، وفاحص، ومصحح، ثم حاكم بالعدل، بعد عرضه على ضوابط الفن، ونظام اللغة، وتناسق الجمال، وقيم الحضارة، ليقول في النهاية كلمة الفصل، لاينفعل، ولا يفتعل، ولا يماري، ولا يجامل، ولا يكاثر بالتملق والكذب، والنقد بهذه المهمات الجسام رسالة، والرسالة تتطلب معرفة وموقفاً ونزاهة، والذين يمارسون النقد أو بعضهم على الأقل تتخلف عندهم بعض شروط الأهلية، أو يفقدون أمانة الأداء، وعند تخلف شيء منها، يمتد أثرهم السيئ الى المتلقي، فالفكر كالجسم، ينمو مما يتلقاه من جيد القول أو رديئه، فإذا نسجت الأفكار من آراء وتصورات منحرفة أو ساقطة أو متسطحة أو فجة، أصيبت الأمة بقيمها الحضارية، وإذا نسجت خلايا الأجسام من أغذية فاسدة، أصيبت الامة باعتلال أفرادها، وإذا كانت الأمم المتحضرة تنشئ المؤسسات لحماية البيئة، وتقيم المراقبة الصحية على المشروبات والمأكولات فإنها ملزمة بإنشاء مؤسسات لحماية الأفكار والسلوكيات من التلوث والانحراف، والدولة الإسلامية حين تنشئ وزارة للدعوة والإرشاد، أو هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو إدارة لمراقبة المطبوعات فإنما تمارس حقاً حضارياً، سبقت به دول العالم المتحضر، والمتمردون لوجه الشيطان، لا يفرقون بين السلطة المشروعة والتسلط المقيت، ولا بين الحرية المنضبطة والفوضى المؤذية، والناقد الأدبي بقدر اهتمامه بحماية جناب الأدب من أن يتقحم سوحه مبتدئ لا يعرف ضوابط الفن أو جاهل لا يجود نظام اللغة، او منحرف لا يستبرئ لعقيدته، أو ساقط لايستر ما بلي به من قاذورات، يكون أهلاً لهذه الرسالة الجسيمة، والمؤلم حقاً أن طائفة من النقاد يفقدون الأهلية المعرفية والموقف الأخلاقي معاً، ومن ثم يزيدون في الارتكاس الدلالي والانتكاس الفني، ولأن الناقد بمثابة الرائد، والرائد لا يكذب أهله فإن مسؤوليته تتضاعف في الأزمنة الرديئة، ذلك أن المتلقي المتذوق يستشرف رؤية النقاد، ويتقبلها بقبول حسن، والنقاد المعاصرون الذين ينطلقون من حرية التعبير والتفكير والحوار ويعودون إليها، ويعوّلون على مشروعيتها، لا يعرفون أولا يعترفون بحدودها وضوابطها، والذين يتغنون بها يطلقون للغرائز العنان، يؤلهون الهوى، ويفوضون للعقل، وهم بهذا التسليم المطلق يذبحون الحرية من الوريد الى الوريد، فالحرية الإنسانية لاتتحقق بفعل الممكن، وإنما تتحقق بامتثال المشروع، والكف عن المحظور، والرد الى الله والرسول، ولا أستبعد أن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال، وأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان بدافع الظلم والجهل، هي أمانة العقل ومسؤولية التكليف، وما سمي العقل عقلاً، إلا لأنه إلزام والتزام، وتلك حدود الحرية التي نومئ إليها، ونستدعيها كلما حزبنا أمر، والنقاد الزائفون والمزيِّفون يريدونها «ميكافيلية»، والنقد الأصيل المؤصل لسائر القيم ينهض على ثلاث دعائم: الذوق والمعرفة والمصداقية، وتتنازعه اتجاهات ثلاثة: القيم المعرفية، والقيم الأخلاقية، والقيم الجمالية، والمتفلتون على الضوابط هم المتسيدون، ولأن الناس لا يصلحون بالفوضى، فإنهم لا ينضبطون بسيادة الجهلة، ولا بهيمنة المراهقة الفكرية المتأخرة، وشر البلاد بلاد لا يحكمها نظام، ولا تسودها قيم، ومنع «التفكير» كمنع «التكفير» والله لم يتردد من مخاطبة المخالفين حين قال لهم: {لا تّعًتّذٌرٍوا قّدً كّفّرًتٍمً بّعًدّ إيمّانٌكٍمً} وخطأ المكفرين لا يمنع حقيقة الكفر. وإذا لم نضبط إيقاع النقد تحول الى صخب ممل، وذلك ما تعيشه بعض المشاهد، فالمسيطرون على آلياته ومعارفه: إما أن يثنيهم عن الصدع بالحق الخوف أو المجاملة، أو إيثار السلامة، أو قمع الشللية، أو التكاثر من الأشياع، أو الجهل بالطارف والتليد، وبعض المتصدرين في المشاهد يقوِّمون ذواتهم بكثرة المريدين، وفيما يقال عنهم من تقريظ مقايض، وفات هؤلاء أن الرسل يأتي بعضهم، وليس معه أحد، وإذا كان الإنسان يحب المعجبين والأصدقاء، ويكاثر بهم خصومه، فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وما نقم البارئ من اليهود ولعنهم إلا لأنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، والذين لاتتمعر وجوههم للفن الأصيل، يعطون الدنية في فنهم، ولا يتناهون عن منكر القول والفعل. وإذا أضاع الشعراء الشعر، وأضاع الروائيون الرواية، وأضاع النقاد النقد، وأفتى الجهلة وفكرَّ المتسطحون فقدت الحضارة أهم مرتكزاتها، وظهر الفساد في بر الفن وبحره بما كسبت أيدي النقاد، الذين يداهنون ويجاملون، أو يجهلون، والعلم لاينتزع من الصدور. وإذ نغض الطرف عن المجاملة والمداهنة والخوف من المغمورين والضعفاء فإننا لن نقبله من «الأكاديميين» الذين يقتدي بهم تلاميذهم، ويتوقع منهم حماية الفن الأصيل والقيم الجمالية والأخلاقية، والذب عنها، واذا تخاذل المتخصصون، وغلَّبوا جانب السلامة فإن من دونهم أولى بالمجاملة والخوف، وكم نود التفريق بين اللين والرحمة، وفظاظة القول وغلظة القلب، فالبعض يخلط بين اطراف الممارسات والمواقف، وكل شيء له وسط وطرفان، ومن الحصافة أن يعرف الإنسان كم هو الفرق بين الضعة والتواضع، واللين والغلظة، والشجاعة والتهور، والكرم والتبذير، والحدية الحتمية والأفق المفتوح، وإذ مسنا الضر من المتطرفين والجهلة فإنه لايجوز أن نتخلى عن مقتضيات الحضارة، من تفكير وتكفير وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر وحماية لجناب التوحيد والانهزامية كالاهتياج الأعزل حذو القذة بالقذة. |
مسؤولية رجل الأمن ورجل الفكر في الظروف العصيبة 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل المخاض الكبير الذي قلب أوضاع القطب الواحد، بكل مايملكه من سطوة، وما يقوم عليه من مؤسسات: دستورية وتشريعية، تحول معه إلى دولة نامية مغامرة. هذا المخاض المذهل إذهال سقوط المعادل، تبعته مخاضات عديدة، وضعت أجنتها المشوهة المخيفة في بقاع كثيرة من العالم الثالث، أدت إلى تعرضه لفراغات دستورية، وإلى انقسامات طائفية وإقليمية وعرقية، هيأته لانفجارات مدمرة للقيم الحسية والمعنوية. فكان أن استفحلت فتن قائمة، واستيقظت فتن نائة، وتعطلت خطط تنموية، أدتْ إلى البطالة والعجز والمظاهرات والصدامات، بحيث أفقدت كثيراً من السلطات شرعيتها، وشرَّعت الأبواب لكل الاحتمالات السيئة. وما من حدث أو حادث إلا ويقوَّم من خلال أنساقه وسياقاته، فإذا كان مستغربا في زمان أو في مكان، فليس من اللازم أن يكون كذلك في زمان أو في مكان آخر. والغرابة أو الاستغراب حالة نسبية، يستعظم الحدث قوم، ويستصغره آخرون. وليس هناك ما يمنع من أن نضرب الأمثال بالتفجيرات التي تعرضت لها البلاد، وأدهشت القاصي والداني، ذلك أن السمة العامة تمثُّل المواطنين لأمر ربهم، وانسجامهم مع قيادتهم، واعتقادهم بأن الإنسان في سعة من الأمر حتى يصيب دماً حراماً. وفي المقابل فإن الدولة قوية بأجهزتها الأمنية، وسطية بمؤسساتها: التعليمية والتربوية والدينية والدعوية، وذلك مكمن الغرابة. وما أصاب البلاد من تفجيرات، هدَّمت المساكن، وقتلت المعصومين، وأخافت الآمنين، وما تعرضت له من متطرفين في التصرف، وغالين في الدين، ترك آثاراً نفسية سيئة، وأثار تساؤلات عصية، ونبه المواطن والمقيم والمسؤول إلى ثنيات حدودية وذهنية غفل عنها حماتها من باب الثقة أو من باب غفلة المؤمن، فكان الانحراف في التفكير، والتشفي بالتفجير. هذه المقترفات غير المألوفة، وغير المتوقعة في بلد أذن الله أن ترفع فيه راية التوحيد، وأن يُقام في ربوعه حكم الله، اقتضت ضرورة التفكير في الخطاب: الديني والسياسي والتربوي والأمني، وكشفت للعالم عن متانة الجبهة الداخلية، وعن قدرة رجال الأمن على تصيُّد أفراد الخلايا الواحد تلو الآخر، كما أكدت نكارة الفعل وشذوذه. {فّعّسّى" أّن تّكًرّهٍوا شّيًئْا وّيّجًعّلّ الله فٌيهٌ خّيًرْا كّثٌيرْا} و(رب ضارة نافعة). ولكن بقي ان نسأل أنفسنا،: لماذا؟ وكيف؟ وعلى يد من؟ ولمصلحة من حصل كل هذا؟ وهل هذه الخلايا النائمة أو المستيقظة كانت ناتج تقصير في الرعاية، أو في الوقاية، أو نقصاً في الكفاءة أو في الكفاية؟ وهل هي جماعات ذات مرجعية واحدة أم هي أمشاج تنجم هنا وهناك؟ وماذا يريد هؤلاء الذين لايملكون إلا لغة القتل الهمجي؟. إن علينا أن نواجه أنفسنا بشجاعة، قبل أن نقف وجهاً لوجه أمام واقع لاينفع معه تساؤل ولا عتاب، بحيث يسبق السيف العذل. فما لم نواجه أنفسنا بمزيد من الأسئلة، أصبحنا مهيئين لفعل إرهابي أكثر ضراوة، وأقوى شراسة، وأوسع تدميراً وإهلاكاً وإخافة. ولقد قالها مسؤول الأمن، محملاً الآباء مهمة المتابعة لأبنائهم، من خلال تصرفاتهم وخلطاتهم ووجهة سفرهم. ورهاني الذي لا أحيد عنه، يعد ما حصل بقايا لعب كونية، وفلول مقاومات أسهم الغرب في صناعتها، ولم يحسن تفكيكها، فهو الذي دعم الجهاد والتكفير للإجهاز على الماركسية. وواجبنا في ظل هذه الظروف وفي ظل كل القراءات أو التصورات ألا يكون أحد فوق المساءلة والمحاسبة والنقد. وحاجة المؤسسات الفكرية والتربوية والأمنية أمام هذه الأوضاع إلى العارفين الصادقين لا إلى الخليين المصدِّقين، وإلى المجربين لا إلى الحفظة، وإلى فقهاء الواقع لا إلى نقلة أحكام الوقائع. والحدث حين يبديه المسؤول الآمن أو المنشغل بما دونه، يعطيه الانذار الأول، ليأخذ حذره، وينفر بكل ما أوتي من عدد وعدة، لتلافي أيِّ نقص في الآلية أو في المنهج أو في الكفاءة. ومن أحسن الظن، وأمن مكر الأعداء، واتخذ السلامة عادة، فجأته الحوادث، وهو غارق في الثانويات من المسؤوليات، أو ملق أعباءها على من لايحسن حملها، فنحن في يوم له ما بعده، وأيُّ خطأ في التوقيت أو في التقدير يكون غلطة معلم. والدور الآن لرجل الفكر والتربية والتعليم والأمن، ومن خلفهم ومن بين أيديهم المواطن، بحسه وإحساسه، ونظره الثاقب، وملاحظته الدقيقة. وفي النهاية: إذا الإيمان ضاع فلا أمان... ولا دنيا لمن لم يحي دينا {$ّمّن يّتَّقٌ پلَّهّ يّجًعّل لَّهٍ مّخًرّجْا} و(اتق الله يحفظك) والأمن عصب الحياة، وإكسير الرخاء، ومادة الاستقرار، وماء النماء. وبئست حياة وجلة خائفة مترقبة. واختلال الأمن مؤذن بنشوء مجتمع متوحش، يستمرئ الغدر والقتل والسلب والنهب، كما أنه مهيء لقيام كيانات طائفية، أو إقليمية، أو عرقية، بحجة حماية نفسها. وإذا تعددت مراكز القوى، كشف الإرهاب عن وجهه الكالح، وكشر عن أنيابه، وخرج من سراديبه إلى وضح النهار، ووجد الأعداء سبيلهم لتصفية الحسابات، واقتسام الغنائم، والسعيد من وعظ بغيره. ومن استبعد الممكن أخذته المآزق من كل جانب. وكيف يستبعد العقلاء الفتن، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والنفوس الأمارة بالسوء تجتال أصحابها، والإنسان ظلوم جهول، عجول هلوع جزوع، مناع للخير معتد أثيم، إلا من عصم الله، وقليل ماهم، والدور الأهم في مثل هذه الظروف للمواطن، لأنه الهدف الأهم للاختراق. والمملكة بما وهبها الله من إمكانيات: حسية ومعنوية، وأموال مدحوة في الأرض، أو منتشرة على سطحها، أو متداولة في الأيدي معرضة لكل الاحتمالات، على حد: (كل ذي نعمة محسود) وإذا كان من واجب أمريكا أن تسأل نفسها: لماذا يكرهها الناس؟ فإن من واجبنا أن نضاعف الأسئلة، بحيث نتساءل: لماذا نحسن إلى الناس، ويسيؤون إلينا؟ ولماذا نعطي عطاء من لايخشى الفقر، ولا نطلب من عطاءاتنا المتدفقة جزاء ولا شكوراً، ثم نفاجأ بأذية تطال أمننا واستقرارنا؟ نتجرع مرارات الاحتمال والمدارات، ونحن نرى الجناة ينوسون من حولنا، وقد نأخذهم بالأحضان. لقد كشفت المطاردة الأمنية لفلول الإرهابيين عن أسلحة ومتفجرات وإمكانيات، لا يمكن ان يكون وراءها أفراد جهلة عزل، وكشفت المتابعة الفكرية عن معتقدات لا يمكن أن تكون وراءها تربية محلية، ونفاذ هذا العتاد الرهيب لن يكون بتدبير محلي، وتكرس هذه المفاهيم المنحرفة لايمكن أن يكون ناتج علم سلفي. إن وراء هذا الكم الهائل من وسائل التدمير ما وراءه، ووراء هذه الرؤى والتصورات والقناعات ما وراءها، ومهما حاولنا التكتم، وابتلاع المصائب، من باب العفو والصفح والصبر فإن التساؤل سيظل قائماً. وها هي بعض الوسائل الإعلامية تُشير بأصابع الاتهام إلى تعاون بين (القاعدة) و(الموساد) في سبيل زعزعة الأمن في المملكة، وليس ببعيد أن يتحالف أصحاب المصالح مع الشيطان، لتحقيق أهدافهم. غير أن مجرد الإحالة إلى جهة أو جهات لايشفي صدور المتسائلين، إذ لابد من فتح ملفات كل قضية، وتقصي أسبابها ومساءلة أطرافها، لا للمحاسبة وحسب، ولكن لسد الثغرات، وحفظ الثنيات. وها هي التقارير الأمريكية تضعنا في قائمة المسؤولين عن التفجيرات. وها هي المداولات في مجلس الشيوخ الأمريكي تتحول إلى جدل حول المملكة ودعمها للإرهاب. كل ذلك ومثله معه لم يأت اعتباطاً، وعلينا أمام كل حدث أو تآمر ان نقوِّم أداءنا: الفكري والتربوي والأمني والإعلامي، وأن نأخذ احتياطاتنا، فإذا تألقنا في المواجهة الأمنية، ولم نتألق في الوقاية، كان ذلك من نقص القادرين على التمام. وإذ نواجه تحديات في عقر دارنا، قوامها السلاح الفتاك، والتنازع حول الثوابت والمسلمات: الفكرية والسياسية والدينية، فإننا نكتشف بين الحين والآخر أطرافاً ضالعة في المكر والمكيدة، تبدي أعناقها عبر الصحف والقنوات والمحافل، ثم لا تجد من يرد العوادي. وما دام لنا ثقلنا العربي والإسلامي والعالمي، ولنا وزننا الاقتصادي، وعمقنا الجغرافي والسكاني، وثقلنا السياسي، وحضورنا الفاعل في المحافل كافة، ولنا تأثيرنا على كثير من القرارات فإننا سنظل مستهدفين، ولكن ليس بهذا المستوى المخيف، إننا نقبل الحرب الباردة، وقد نضطر إلى قبول المنابذة على سواء، أما الممارسة الإرهابية بهذا الحجم وبالدوافع الدينية كما يراها المنحرفون فأمر يحتاج إلى مزيد من التقدير والتفكير، فنحن أبناء الدين وحماته ومظهوروه ومحكموه، ولسنا بحاجة إلى من يجلب التمر إلى هجر، ولا إلى من يبيع الماء في حارة السقائين، وسلفيتنا واكبت الحضارة، ومدت الجسور، وجنحت للسلم، وانتزعت ثقة العالم وإكباره، وعلماؤنا هم علماؤنا، ومنهجنا هو منهجنا، فأين إذاً مكمن الخطر، والثقة والشك يجب أن يكونا في محلهما: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا... مضر كوضع السيف في موضع الندى وعلى كافة مؤسساتنا أن تكون في مستوى قامتنا وأحداثنا. وإذ نكون الأحسن في سياقنا العربي، فإننا سنكون الأكثر استهدافاً للخطاب الإعلامي النفعي، والأكثر تعرضاً للعمل الإرهابي. إن هناك شفرات لما تزل بحاجة إلى تفكيكها، ففئة تحاربنا لأننا أشداء على الكفار رحماء بيننا، وأخرى تحاربنا لأننا أولياء للكافرين، وثالثة تتهمنا بالإضرار بقضايانا المصيرية، ورابعة تضع العراقيل في طريقنا لأننا مع القضايا المصيرية. الصهيونية ضدنا، والإرهاب ضدنا، والشارع الأمريكي ضدنا. والأدهى والأمَرّ أن طائفة من إعلاميي الاغتراب ومفكريه، يفترون الكذب باتهام البلاد وأهلها بالتواطؤ ضد مصالح الأمة العربية أو التخاذل والتخذيل في قضاياها المصيرية، وتشايلهم مع المحافل الصهيونية التي تطالب بتطبيق أقسى العقوبات على البلاد وأهلها، مثار شك وارتياب، ومما يعمق الشك أننا نجد طوائف من المتعالمين والمتغالين يروننا دون المستوى المطلوب في الامتثال الديني، وفي مقابل كل ذلك نجد أن كل الممسكين بأزمة الأمر الفلسطيني، تتلاحق اعترافاتهم بأفضال البلاد وأهلها، ونجد المؤسسات السياسية الأمريكية جادة في تبرئة المملكة من الضلوع في العمليات الإرهابية، ومع أننا لا نزكي أنفسنا، ولا نباهي بفعلنا، إلا أننا نعجب من هذا التناقض الصارخ، وما من أحد سأل نفسه عن هذا التناقض، مع أنه شاهد عدل، وليست الاشكالية فيما يقال عبر الصحف والقنوات من فلتات ألسنة تدل على ما تخفي الصدور، مما هو أكبر، فذلك مدفوع الثمن، ولو شئنا لقلبنا المعادلة، وحولنا المهاجمين إلى مدافعين، فالمسألة مطروحة في سوق النخاسة البلاغية، وإنما الإشكالية في سرعة الاستجابة، وفورية التصديق، وكأن المستزِّلين حذاق في التنويم (المغناطيسي). |
الحوار الوطني من الشتات إلى التجمع..!!
د. حسن بن فهد الهويمل التحولات المؤسساتية ترسيخ للأمن، وتفويت لاحتمالات الفراغ الدستوري، وتجميع لشتات الجهود، واستثمار للمعارف والخبرات، وتكافؤ للفرص، وامتحان لكفاءة المواطن ووعيه، وانعتاق من ضوائق «اللوبيات» إلى فسح المؤسسات. والدولة اي دولة حين تقلص دور الفردية، وتتجه صوب المؤسسة الجماعية، تتخلص من المغامرات والصدف، والرأي الفطير أو الدبير، محققة فرص التمحيص والمراجعة والتثبت، والاستجابة لعرض المؤتمرين على إنشاء مركز للحوار الوطني تحول نحو الكون الجمعي المتأبي على اعتداء الخطوب، وخلوص من التفرق العاجز عن صد العوادي. والأمة العربية تحت الضربات الموجعة بحاجة إلى من يقيل عثرتها، ويجبر كسرها، ولن تنهض من كبوتها إلا إذا عمل كل راع على إصلاح ما استرعاه الله عليه، ودخن الفتن لايصيب المقترفين خاصة، ولهذا فقد مسنا الضر من مقترفات العابثين بمقدرات الأمة، الخائنين لأماناتهم، وقل أن يكون المستقيمون على الطريقة قدوة لمن يمشي مكباً على وجهه، ولأن الوحدة الوطنية من أولويات اهتمام المؤسسة السياسية الواعية فإن البحث عن منهج سليم، وآلية دقيقة، وتجمع منظم للحوار الفكري من متطلبات المرحلة الموبوءة بتعدد الكيانات وتشتت الولاءات، وبخاصة في ظل ما تعانيه الشعوب العربية من احتقان يتصاعد، وتوتر يتزايد. والدولة المستشرفة للمستقبل، المؤمنة بحتمية التحول والتعصرن، تتحسس مكامن الخطر، ومنتجعات السلامة، وتسعى جهدها لتلافي أي خلاف يفضي بقادة الفكر والثقافة إلى الصدام المدمر، والنخب العلمية الفكرية حين تجد الأجواء الملائمة، والدعم السخي، والرعاية الناصحة، تتوفر على إمكانيات الأداء السليم، متفادية المهاترات والمخاصمات، متعففة عن النيل من رموز الأمة وعلمائها. ولوثة الغلو والتطرف والظروف المتفاقمة في الداخل والخارج اقتضت النظر في أمور كثيرة، لتأليف القلوب وتنقية الأجواء، وصد الاعتداء، لعل من أهمها ترشيد «الخطاب الفكري»، وبخاصة أن الأمة منيت بظواهر لم تكن مألوفة من قبل، ادت إلى اختلال الأوضاع الأمنية والفكرية والدينية في مواطن كثيرة، حتى أريد في البلد الحرام الظلم وإلالحاد، على الرغم من أن الله توعد المريدين لهما فيه بالعذاب الأليم. والإرهاب المشتمل بعباءة الدين، طال دولاً متعددة، وظهرت في خطابه المتوتر قضايا إسلامية قديمة، بمفاهيم منحرفة ك«الجهاد»، و«الولاء والبراء»، و«التكفير»، و«فقه الولاية» من حيث السمع والطاعة والخروج، ونجمت في مشاهد الفكر نوابت سوء، تضلعت من عفن التراث، أو من نتن الاستشراق، وعلفته أدمغة خالية فتمكن منها، وتخطى بها إطار الاعتقاد المضمر إلى المواجهة المسلحة، واستفحال الإرهاب والتطرف جعل من أولويات الدول الناصحة أن تعيد صياغة خطابها، وأن تضبط إيقاع التحول ليتم بإنسيابية، وإذا لم نحسن الحوار فيما بيننا، ولم نتمكن من وضع مفاهيم للقضايا المختلف حولها، فإننا لن نستطيع حوار الآخر في القضايا المشتركة. وتصومع العلماء والمفكرين إضاعة للعامة، واجتيالهم بغرائب الآراء ومنكر الأقوال تمزيق لوحدة الفكر التي لاتقل أهميتها عن وحدة الوطن، والمؤسسة تجميع للجهود، وتصفية للآراء، وتهذيب للحوار، وترشيد للمسارات: الفكرية والسياسية والدينية، متى التقت السلطات: الفكرية والسياسية والدينية على كلمة سواء. وسنة الله في الاختلاف حول قضايا الدين والفكر والفن ماضية إلى قيام الساعة { )كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) } {وّلا يّزّالٍونّ مٍخًتّلٌفٌينّ إلاَّ مّن رَّحٌمّ رّبٍَكّ} {إنَّكٍمً لّفٌي قّوًلُ مٍَخًتّلٌفُ} وإذا كان الاختلاف قضية ازلية فان على الأمة أن تضع منهجاً وألية وحدوداً للحوار، تمكن الأطراف من تفادي الأثرة، والتخلق بالإيثار، وتغليب الحق على الانتصار، والقبول بالرأي الآخر، متى كان في إطار الاختلاف المعتبر، والمسلم الحق وقاف عند حدود ما أنزل الله، وهو قد أمر بإبلاغ المستجير الكافر مأمنه بعد سماع كلام الله، وهو قد نهى عن سب المعبودات تلافياً لسب الله عَدْواً بغير علم، وهو قد حذر من سباب المسلم وقتاله المؤديين إلى الفسوق أو الكفر، وهو قد نهى عن تكفير المسلم، وهو قد علم نفي الخيرية عن أي تناج لايكون فيه أمر بالمعروف أو إصلاح بين الناس. والهادي الامين وصف الأمة والوطن بالجماعة المستهمين على سفينة، مما يؤكد أن قضاياها المصيرية مشتركة، بحيث لايجوز الاستبداد، ولا مطلق التصرف، فالحرية مقيدة بضوابطها، وليست مطلقة لا حدود لها، كما يتصورها الوجوديون والثوريون و«الراديكاليون» ولهذا أمر الإسلام بأن نأخذ على أيدي السفهاء، ونأطرهم على الحق أطراً، ونأمر بالمعروف، ونغير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب، حسب الإمكان والاقتدار وتفادي الإضرار، وتلك سمة الحرية في الاسلام، والأخذ على الايدي يعني أن هناك حدوداً لحرية الحوار، والذين يتصورون الحرية مطلقة، يتواطؤون مع الذين يقترفون خرق السفينة، ليغرقوا أهلها. والصفوة في ظل المبادرات الحضارية أحوج ماتكون إلى وعي دقيق لمفهوم الحرية، ومفهوم الأمةثال للقطعيات الدينية، ومفهوم المواطنة، ومفهوم السلطة، وأهمية الأمن واجتماع الكلمة، فمن أخضع كل شيء للحوار، حوّل الأمة من مسارها الحضاري إلى مسار همجي بدائي، إذ كل حضارة لاتكون إلا بثوابتها ومسلماتها، فالله لا يُسأل عما يَفعل، وليس للمؤمن خيرة في قضاء الله ورسوله، والمحجة بيضاء، ومن تصور الحوار بلا حدود، وبلا ضوابط، كمن عطل الاجتهاد وحرية التفكير والتعبير، ومن فهم «الجهاد» و«التكفير» على غير مراد السلف، كمن نفاهما على الإطلاق، وتورط الأمة في النفي والإثبات الانفعاليين مؤذن بفساد كبير، والمركز بوصفه قناة للتعبير والتفكير من واجبه حفظ التوازن وتهيئة النخب كي تتحرف لمواجهة حضارية، تضع في اعتبارها أهمية الحدث وصعوبة المرحلة، ولكي يولد المشروع سوياً فإنه يتطلب إحكام ضوابطه، وضبط إيقاعه، والتوفر على إمكانيات مادية، وكفاءات بشرية، وحياد إيجابي من الدولة، وأداء طوعي صادق ناصح من النخب، واستكمال المتطلبات يجعل الحوار داخل أروقته علمياً مؤصلاً، يزن الأمور، ويقدر الظروف، ويعطي كل شيء ما يتطلبه. ولقد قلت من قبل ما ظهر لي سداده من رأي حول «الحوار الوطني» الذي تم بسرعة وسرية على يد أطياف قليلة من المفكرين والعلماء، الذين أرادوا الخروج بتوصيات «دبلوماسية» حمّالة، وما أقوله حول قضايا الأمة كافة مبادرة شخصية، ليس عليها مسيطر، ولا أحسبها معصومة غير قابلة للمراجعة أو التراجع. ومما أحمد الله عليه أنني باحث عن الحق، غير مهتم بالانتصار، وكم من رأي بادرت به، ثم تبين لي فيما بعد أنه مفضول أو ناقص أو معوج، فكان أن تراجعت، أو أتممت، أو عدَّلت بثقة واطمئنان، والذين يتصدرون منابر القول، وتتدفق آراؤهم، عبر أنهر الصحف، وموجات الأثير، وقنوات الفضاء، ومواقع المعلومات، ويقولون في مصائر الأمة وقضاياها، من واجبهم التفقه والتثبت والتقصي والتضلع من المعرفة وإتقان الآلية والمنهج وقواعد المعارف وأصولها ومفاهيمها، والاستعداد للتراجع في أي لحظة يتضح لهم أن ما يقولونه دون المؤمل. والرجوع إلى الحق فضيلة، والخاسر من تأخذه العزة بالإثم، وفوق كل ذلك الرفق، ففي الصحيح: «استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال الرسول: يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، قالت: أولم تسمع ما قالوا، قال: قلت: وعليكم»، ومامنيت الأمم بالفشل إلا ممن يتعصبون لآرائهم الفجة، ويؤلهون أهواءهم الجامحة، ويركبون رؤوسهم الخاوية.والحوار الوطني الذي ينشده الناصحون الصادقون الحفيون بالمنجزات هو الحوار المنضبط بشروطه وآدابه وأهليته، الحوار المسؤول المحترم للثوابت، البعيد عن المصادرة والإلغاء، الحوار الذي ينشد الحق لذاته، الحوار الذي يغلبُ مصلحة الوطن، وما يتطلبه من وحدة ووفاق وتعاذر، والدولة في ظل الظروف العصيبة تريد لهذا الوطن ان ينأى عن الدوامات العاصفة، وينجو من الضر الذي مس القاصي والداني، والفتن العمياء التي أصابت المقيم والظاعن، واقتلعت الشرعية من جذورها، وحولت طوائف الأمم من الاعتصام إلى التفرق، ومن لغة الكلام إلى لغة السلاح، جاعلة مصلحة الوطن دون مصلحة الطائفة أو العرق أو الإقليم، متيحة الفرصة للمتربصين بالأمة الدوائر لإشعال الفتن، وإمداد المتناحرين بالمال والسلاح، وتأييد طائفة على أخرى، حتى إذا أثخنتهم الجراح، دخلوا وسطاء لإيقاف النزيف الدموي، واستنزاف خيرات البلاد. الحوار الوطني المراد هدفه: تجميع الشتات، وتحرير المسائل، والصدع بالحق، والحيلولة دون ما آلت اليه احوال الاحزاب المتناحرة والطوائف المتدابرة المؤدي إلى خلل مخيف في الوحدة الفكرية والوطنية، ويكفي أن نلقي الضوء على «تسعين» حزباً من الأحزاب والطوائف والأعراق في «العراق» التي تقدمت بمشاريعها السياسية للحاكم بأمره «بريمر» ليكون لها نصيب من «الكعكة» المتعفنة. ومجيء فكرة المركز في أجواء عالمية ملتاثة ملوثة، وعلى مدرجة ملغومة، وفي ظل حذر وترقب عالمي مفجوع، تتطلب الدخول بنوايا حسنة، وأهلية تامة، وإمكانيات: حسية ومعنوية، واهتمام بالذات، وعدول عن منازعة الناس أشياءهم، وعلينا أن نعرف أن الظروف التي تحيط بالأمة ظروف عصيبة، تتطلب التسامح، والوئام، وتغليب المصلحة العامة، ونجاح أي مؤسسة يقوم على الثقة والصدق ووعي الواقع وامتلاك الآلية والمنهج، ومن ثم فإن المركز يتطلب إعداد لائحة تنظيمية، ورسم خطة دقيقة، ووضع ضوابط يرجع إليها عند الاختلاف، مع قيادة حكيمة، وأجواء علمية مناسبة، ومركز معلومات وطنية، ودورية محكمة، تعالج مختلف القضايا، وتطرح مختلف الرؤى، وتوثق البحوث والحوارات والتوصيات، واستفادة من تجارب من سبق ك«منتدى الفكر العربي» و«مؤسسة الفكر العربي»، و«مؤسسة زغبي الدولية» وكافة التجمعات الفكرية، فإما أن نستفيد أو نتعظ. ومن تصور أن المركز حين تلتطم فيه كل الاطياف، وتصطرع فيه كل الآراء والتصورات والثقافات سيسير على مايرام، وان الاختلاف لن يكون، وأن موائده ستكون سمناً على عسل فقد وهم، واضاع الفرص المواتية، وعلينا في ظل كل التوقعات أن نروض أنفسنا لجدل مرتفع النبرة، لا تتطابق معه وجهات النظر، ولكنها تتعايش وتتجانس، وحين استهل الأمير كلمته ب«التعاون على البر والتقوى»، فإنما يريد الا يكون اثم ولا عدوان، واذا ادى التجمع إلى تعميق الخلاف، والتهاب المشاعر واتساع التصدع فإن من الخير للأمة ان تعود إلى ما كانت عليه، ومن بوادر الفشل دخول الأطياف بقضايا فكرية مسبقة وبأفكار مبرمجة، وبمرجعيات متعددة، وبضوابط متباينة، ومتى دخلنا بحثاً عن الحق، والتماساً للوفاق، وعلم الله منا ذلك، يسر أمورنا، وسدد حذفنا {وّمّا رّمّيًتّ إذً رّمّيًتّ وّلّكٌنَّ اللهّ رّمّى" }. واذ يكون تعدد المشارب والتوجهات قضية مسلمة فإن الاختلاف سيكون، وعندئذ لابد أن يتفق الجميع على مسلمات وثوابت، لا يطالها الاختلاف: «العقيدة»، و«وحدة الوطن»، و«ثوابت الحضارة»، و«مسلماتها»، فإذا احترم الجميع الثوابت الدينية، وآمنوا بأهمية الوحدة الوطنية، فليكن بعد ذلك مايكون، ومصير المركز بيد النخب الوطنية، وعليهم أن يبادروا بكل ما أوتوا من قدرة، وأن يتلقوا هذه الرغبة بكل ما تتطلبه من إمكانيات معرفية وأخلاقية. والإشكالية ليست في إنشاء المركز، فذلك سهل وميسور، وإنما هي في مخاضاته ونتائجه والأطياف التي ستلتقي فيه والقضايا التي ستطرح على موائده، ومدى تمثل المؤتمرين لأدبيات الحوار، واستجابة الدولة لنتائجه، والأمة أحوج ما تكون إلى التلاحم، فالأعداء يحيطون بها من كل جانب، والمكائد والتآمر والغزو على اشده، وقد نجحت بعض الاختراقات التي أثرت على أمن الوطن، والعلماء والمفكرون هم الردء المعنوي الذي يشد أزر المؤسسة السياسية، ومع كل ما نراه من ظروف غير مناسبة فإننا متفائلون بنجاح هذا المشروع الحضاري. وعلينا في نهاية المطاف أن ندخل أروقة المركز بأهداف وضوابط: ** نعرض الآراء ولا نفرضها. ** ونستمع لآراء الآخرين ولا نصادرها. ** نحترم تكافؤ الفرص، ولا نغمط الحقوق المكفولة. ** لانثير الشكوك، ولا نسيء الظنون. ** نؤسس للمعارف، ونؤصل للقضايا، ونقارب بين المفاهيم. ** نتسامح ولا نتعصب، ونسعى للتقارب أو التعاذر. ** نحكم العقل، ولا نتبع الهوى. ** نهمش الطائفية والمذهبية، ونرد إلى الله والرسول. ** لا نتحرج من سؤال أهل الذكر، ولا من التوقف عما خفي. ** نحترم العلماء، ولا نصنمهم، وندعم السلطة، ولا نكتمها الحق. وإذا عزمنا فلنتوكل على الله، { وّمّن يّتّوّكَّلً عّلّى اللّهٌ فّهٍوّ حّسًبٍهٍ } |
مسؤولية رجل الأمن ورجل الفكر في الظروف العصيبة..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل وإشكالية المواجهة أن البلاد بإزاء الشيء ونقيضه، فالذين يدَّعون عداءهم للصهيونية، يواجهون البلاد بقدر ما تواجهها به الصهيونية، وليس من المعقول أن يجتمع الشتيتان، ثم لا تكون ريبة، وليس الارتياب من افتراءات (الصهيونية العالمية)، الحريصة على إشعال الفتنة ضد العالم العربي بأسره، وضد المملكة على وجه الخصوص، وعلى تأليب الرأي العام العالمي ضد من تتوقع تأثيره على القرارات الدولية، وإنما الارتياب من التخندق معها، والكيد معاً لدولة ليست بدعاً من الأمر. والمعممون في نيلهم ليسوا كالمحددين، والموثّقون ليسوا كالمتخرصين، وما من عاقل يبرئ نفسه الأمارة بالسوء، ولكنه لا يرضى تحميله ما لا يحتمل، وأخذه وهو مقيم دون الفتنة مع الظاعنين إليها، والعتب ليس على من يلوم على التقصير، ولا على من يستحث الخطى، ولا على من يطلب الإصلاح، وإنما هو على من تتلاحق افتراءاته الآثمة، متواشجة مع الطرح الصهيوني الحاقد. وما أنكى أن تجد زيداً المسلم مع (بنيامين) اليهودي، يُريشان معاً سهاماً كثيرة، ثم لا يجد حرجاً من تصويبها لمن علمه الرماية ونظم القوافي:- (ولو كان سهماً واحداً لا تقيته ولكنه سهم وثان وثالث) فهذا (برنارد لويس) المستشرق اليهودي الأمريكي، يقول، كما نقله (جهاد الخازن):- (إن السعوديين الوهابيين ينفقون أموال النفط لتمويل الإرهاب) وهي ذات المقولة التي أطلقها (القذافي). والمؤكد أن (لويس) لا ينطلق من فراغ، بل هو مجند صهيوني لتعبئة الرأي العام الأمريكي ضد المملكة التي تتعرض للإرهاب، وتعاني منه قبل أمريكا. والصهيونية العالمية تعرف متانة العلاقات السعودية الأمريكية، وتعرف أنها لن تسيطر على الرأي العام الأمريكي ولا على المؤسسات التشريعية والتنفيذية بالقدر الذي تريده، إلا إذا نسفت هذه العلاقات، وجعلت المملكة غير مرغوب فيها، والصهيونية لم تقنع بما أُعطيت من (حق الفيتو) و(اليمين المتطرف) و(أحدث ما تملكه الترسانة الأمريكية). وهي إذ تحارب الإسلام لذاته، تخادع المغفلين بمحاربة (الوهابية). لقد اخترقت (اللوبيات) المناوئة المجالس التشريعية والتنفيذية، وكسبت مؤيدين مؤثرين في الإدارة (الأمريكية)، حتى لقد حمَّلت البلاد جانباً من أوزار التفجيرات في (أمريكا)، وما أحد من إعلاميي الشتات العربي تمعر وجهه من هذه الاتهامات، وعرف أن المؤامرة ضد الإسلام، وما أحد من المتباكين على مصالح الأمة العربية سأل نفسه عن دوافع هذه الحملات الشرسة ضد الحكومات والشعوب الفاعلة. ومما لا شك فيه - والحالة تلك - أن وراء هذا التوافق في المواقف ما وراءه، فإما أن تكون الصهيونية قد حسبت الشحم ممن شحمه ورم، فتصدت للمملكة، دونما وعي بحقيقتها، وإما أن يكون الأقربون يغمطون المملكة حسداً من عند أنفسهم، و(قديماً كان في الناس الحسد) وما أشد مرارة الظلم، تتجرعه البلاد من ذوي القربى، والمؤمل من رجال الإعلام وأرباب القلم تحشيد الإمكانات وتوحيدها، والانتقال بها من التنصل والاعتذار والاجترار المحلي إلى المحافل الدولية، وإطراح لغة التفاضل والتباهي، وممارسة الحوار الحضاري المتزن، المدعوم بالوثائق، المتودد بالحكمة والموعظة الحسنة، والسعي لكسب المناوئ أو تحييده لا إلى تصفيته. فالمملكة تملك مشروعيات كثيرة، ومن الخير لها ألا تشوبها باللجاجة والتوتر. وكتاب آخر ل(دوري غولد) يهودي صهيوني يتحدث فيه عن دعم المملكة للإرهاب، ويتطاول فيه على الدين الإسلامي. هذه الحملات المنظمة المركزة، تتم في المحافل الدولية، والمعنيون في غفلة عن هذا. والمؤلم أن من أبناء المسلمين من يساير الصهاينة في النيل من الإسلام والمسلمين، وعدم التحرج من وصف المملكة بالعمالة والتواطؤ، فيما يغفلون عمن حولهم من المعترفين والمطبعين والمهرولين والمتبادلين للمصالح في وضح النهار. وما شيء من ذلك فعلته المملكة، ولو تبدى لنا ما نراه من غيرها، لما وسعنا السكوت فضلاً عن المسايرة. والمملكة تكاد تكون الوحيدة التي تضع كل بيضها في سلة القضية الفلسطينية، اعترف غيرها، ولم تعترف، وطبع غيرها، ولم تطبع، وتملق غيرها، ولم تتملق، ووعد غيرها ولم يعط، وأعطت المرة تلو الأخرى. حتى لقد بلغ المواطن حداً من اليأس والإحباط، وفضل أن يكون سمننا في دقيقنا، فالمواطن يعاني من بوادر الضوائق والبطالة ما يجب معه التحرف السليم. والطفح الرخيص من ساقط القول، وبذيء الكلام، لم تصنعه الصدف ولا العفوية، وإذا قلنا بالغزو أو بالتآمر، أنكر ذلك علينا المستغربون، وعدُّونا اسقاطيين، نبرئ أنفسنا، ونتهم غيرنا. وما تلاحقت الثورات، وما توترت الحدود، وما استفحلت الطائفيات، وما لعنت كل أمة أختها إلا نتيجة اللعب الكونية. وما الواقع العربي المؤلم إلا ربيب مكائد يمسك بعضها في رقاب بعض، منذ الامبراطورية التي لا تغرب الشمس عن ممتلكاتها، حتى زمن القطب الواحد، وما الحروب التي كانت (العراق) طرفاً فيها إلا حروب بالإنابة، في أجوائها حصد المغتصبون الشرعية والاعتراف والتطبيع. وأول مطلب واجه به (بريمر) مجلس الحكم العراقي الاعتراف بإسرائيل، فهل شيء من ذلك جاء اعتباطاً، نعم الأمة العربية مدانة بقابليتها للعب، ومدانة بارتمائها في أحضان الغير، وتصديقها لأعدائها، ومدانة بتهافت أبنائها على المدنية الزائفة والحضارة الوضعية المادية، ومدانة بتقصير علمائها ومفكريها في تفكيك الطارف والتليد، واتخاذ الطريق القاصد والموقف المتزن والتفاعل الإيجابي، ومن ثم فإن هناك غزواً وتآمراً، وهناك قابلية عربية لذلك، وقولنا بالغزو والتآمر ليس للتبرئة، وإنما هو لأخذ الحذر والنفور للمواجهة. والدولة التي يخترق أجواءها الإرهاب من كل جانب، بحاجة إلى أن تفكر وتقدر، وأن تعرف أنها مستهدفة: إعلامياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً، وأن ما أصاب غيرها من تدمير للمثمنات، وتبذير للثروات، وتشتيت للكفاءات، وإخلال بالأمن، وخلق للعداوات سيطالها دخنه، فإن كانت لديها قابلية استفحل، وإلا كمن كما الخلايا النائمة، في انتظار تصدع القشرة، والمؤكد أننا دخلنا دوامة الإرهاب، وأصبح ظاهرة مخيفة، ودخلنا دوامة التصدع الفكري، وهذه الأحداث النافذة علينا من كل جانب بحاجة إلى (مكافحة) و(معالجة). - فالمكافحة مسؤولية رجال الأمن والمباحث والطوارئ. - والمعالجة مسؤولية رجال الفكر والعلم والتربية والإعلام. ولا أشك أن فلول اللعب (الأفغانية) و(الحروب الخليجية) المطاردة من قبل أمريكا التي أسقطت الشرعية في (أفغانستان) و(العراق)، ولم تنجح في سد الفراغ الدستوري، ولا في إحكام القبضة، هذه الفلول قد عادت إلى أراضيها جذعة، تحمل الفكر الجهادي والعقيدة التكفيرية، على غير هدى من الكتاب وصحيح السنة، وكان اللاعب الأكبر قد بارك (التكفير) و(الجهاد) حتى قضى بهما وطره، وحسب الناس أن هذا الفكر المتعسكر، وتلك العقيدة المتشددة، ستنتهيان بانتهاء اللعب الكونية، ومن ثم كانت غفلة المؤمن، واسترخاء الواثق عن الثغور وعن الأدمغة، ولو لم تكن الغفلة من الطرفين لما نفذ العتاد إلى البلاد بهذا الحجم، ولما عشعش الانحراف في الأدمغة بهذه القوة، ولما التقى الوباءان على قدر، لتكون محاولة الإخلال بالأمن، وتصديع الوحدة الفكرية والدينية والوطنية التي لم تتحقق، ولكنها تنذر بالخطر، وما لم يلتق الطرفان: رجال الأمن، ورجال الفكر، لرسم خطة محكمة، وأسلوب رشيد، تفلتت من بين أيديهم خيوط المشكلة، ووجد الموتورون أرضية مناسبة لصناعة محكمة، تفجر الأوضاع، وتنسف الأمن، وتشتت الفكر. إذ بقدر ما يحكم رجال الأمن الطوق، ويجوِّد رجال الفكر القول، يمكن تطويق المشكلة، وإن كنا نتوقع السباق بين الجريمة والمكافحة. والإرهاب غنوصي التصرف، سِرِّي التخطيط والتنفيذ، تقضي أموره تحت الظلام الدامس، وفي أعماق الكهوف المظلمة، ولا يقرؤها الناس إلا في بيوت مهدمة، ونفوس مزهقة، وأمن مختل. ولهذا لا بد من التقدير والتدبير، واستباق الأحداث، والتوقي، ومباغتة المناوئ قبل أن يغدر أو يفر. ولن يتمكن رجال الأمن من قطع شأفة الإرهاب بإمكانات عادية، أو إجراءات روتينية، ودون مؤازرة من العالم والمفكر والمواطن، واتخاذ فسحة من الحوار الحضاري الذي تسوده الثقة، وتحكمه القيم، وتسمو فوقه مصلحة الأمة، وفوق كل ذلك فإن العمل الإرهابي حدث استثنائي، لا بد له من مواجهة استثنائية، ورجل الأمن روض نفسه على مواجهة الوقوعات العارضة، مما لا يبيت لها بليل، أما وقد دخلت البلاد في دوامة الإرهاب المنظم، والتطرف المتعنت، وأصبحت اللغة (الديناميتية) هي لغة التخاطب، فإن أحداثاً وحوادث جديدة ستواجه رجل الأمن ورجل الفكر على حد سواء، وستربكهما. وقوة الطوارئ، وفرق المداهمة، والأجهزة والآليات، وسائر المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية بحاجة ماسة إلى تمكينها من التوفر على أعلى الكفاءات، وأحدث الأجهزة، وأدق التدريبات وأحدثها وأوسعها، حتى لا تفوتهم فلول الإرهاب، ولا يسبقهم دعاة السوء، وحتى يتمكنوا من استيعاب الطرفين أو قطع دابرهما. إن هناك إرهاباً قوامه السلاح الفتاك، وتطرفاً قوامه الكلمة المؤثرة، ولكل ظاهرة ما يناسبها من المواجهة، ولا بد - والحالة تلك - من رجل استثنائي، وتخطيط استثنائي، وعمل استثنائي، وإمكانات بشرية وآلية وإجرائية استثنائية، وحركة فورية في اتخاذ القرار، ومرونة في التصرف، تستجيب لمتطلبات المرحلة الحرجة، فنحن أمة لها مكتسباتها، ومثمناتها، وقواعدها الاقتصادية، وقلاعها الحضارية، واستهداف هذه المنجزات من السهولة بمكان، وتعرضها للتفجير حتماً سيعرض البلاد لخسائر فادحة. ورجل الأمن أمام هذه الطوارئ يعيش مرحلة تحد عصيب، فإما أن يسيطر عليها باقتدار، ويلملم خيوط الممارسات الإرهابية التي اندلقت أقتابها بين أيدينا، ويعيدها إلى قمقمها الذي انفلتت منه، وإما أن ندفع الثمن الغالي. لقد دوت الانفجارات فاستغربنا، ودوت ثانية فذهلنا، ودوت ثالثة فتساءلنا، وتحركت أجهزة الأمن، تطارد فلول الهاربين، وتساقطوا في يدها الواحد تلو الآخر، وكان في ذلك نصر مبين، ولكنه كشف عن ثغرات أمنية، أثق تماماً أنها حاضرة المسؤول، ولكن المواطن بوصفه ضحية الخلل، يسبق بتساؤله، ومن حقه أن يلح في التساؤل، ومن واجب المسؤول أن يسمع، وأن يهدئ الروع، ويطمئن النفوس القلقة، فالمسألة ليست عادية، لا على المستوى الفكري، ولا على المستوى الأمني، وإذا تحملنا، وقبلنا ما دون ذلك من الخلل، فإننا لن نقبل بالمعدات الثقيلة، تزيح الأتربة عن مئات الأطنان من المتفجرات المطمورة في باطن الأرض. أين رجال المنافذ الحدودية؟ وأين خفر السواحل؟ وأين الحوامات؟ وأين العيون الساهرة؟ نحن نجزم بل نراهن على أنهم لم يخونوا أماناتهم، ولكننا لا نستطيع التغاضي عما عثر عليه من وسائل التدمير، وما ظهر من شذوذ التفكير، ولن نقبل التصدع الفكري في بلد السلفية الناصعة بمحجتها البيضاء، أين العلماء؟ وأين التربويون؟ وأين أساتذة الجامعات؟ وأين الخطباء؟ ولماذا يُتخطف أبناؤنا من بين أيدينا، ونحن غافلون؟ في بلادنا إرهاب في الفعل، وتطرف في التصورات والمعتقدات وعلينا أن نواجه قدرنا بثقة واعتراف، وأن نرسم الخطط البعيدة المدى، وأن نعيد النظر في كل شيء، نسائل العالِم قبل الضابط، والمعلم قبل الإعلامي، كي يستقر الجميع على أرضية صلبة، وإذ نتفق على أن تربيتنا ومناهجنا مبرأة من صنع التطرف فإنها مسؤولة عن عدم الحماية. السؤال الذي ما كنا نوده: لماذا امتلكت أجهزتها الأمنية القدرة الفائقة في الإجهاز على عدد كبير من الخلايا في وقت قياسي؟ في حين تمكن الإرهابيون في زمن متطاول من تشكيل وجودهم، وجلب آلياتهم ومتفجراتهم، وتفرقهم في البلاد، وحصولهم على أفتك الأسلحة، رجال الأن الذين غفلوا غفلة المؤمن فنمت بذور الشر في غفلتهم، هم رجال الأمن الذين أثلجوا الصدور، ورفعوا الرؤوس، وحققوا من الانتصارات ما لم تحققه أي أجهزة متفوقة بالعدد والعدة، ورجال الشريعة وأساطين الفكر ورجال التربية الذين يتبادلون الراية منذ الحركة الإصلاحية، هم الذين يمسكون بمقاليد المؤسسات: توعيةً وإرشاداً وتعليماً وإفتاء. سؤال مشروع ولكنه محرج، نحن بحاجة إلى الشفافية والمساءلة، ولا نريد لأي مؤسسة أن تكون فوق المساءلة والمحاسبة والنقد، ما الخلل الذي نشأت في ظله الأفكار المنحرفة والأيدي الشرسة. قلت من قبل: إن التطرف والإرهاب وافدان، ولما أزل على شيء مما قلت، غير أن تنامي الإرهاب والتطرف، وشراسة المواجهة، بحيث يتساقط الشهداء من رجال الأمن في كل عملية مواجهة، كل ذلك يتطلب إعادة النظر في كل ما سبق، فحين لا يكون للتربية والتعليم دور في صناعة الإرهاب، فالواجب أن يكون لهما دور في التصدي له. ولقد كنت في كل مواجهاتي النقدية أفرق بين (فساد المبدأ) و(خطأ التطبيق)، ومن ثم فإن الفساد لا يصلح معه الترقيع، إذ لا بد من نسفه والتأسيس من جديد، ولهذا فإننا والحمد لله نحسن الظن بمؤسساتنا، ونراهن على أنها تقوم على الصلاح والإصلاح والصدق والإخلاص، ولكننا لا نراهن على النجاح في كل ما تأتي وما تذر، ولأن الأيام حبلى يلدن كل عجيب، فإن علينا أن ننسق بين المؤسسات الأمنية والتربوية والإعلامية والدعوية والتوعوية، ووضع خطة جماعية تشكل تصوراً دقيقاً للواقع والمستقبل، وتباشر العمل بأسلوب الفريق الواحد، وما إنشاء (مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني) إلا بادرة حضارية، لها ما بعدها، والمواطن وحده القادر على إحباط أي محاولة بحسه الأمني، ويقظته ووعيه، إنه المسؤول الأهم، والجبهة الخلفية التي تحمي الساقة. وإذا كنار نثق برجل الأمن وبالمفكر وبالعالم وبالإعلامي، فمن الواجب أن نواجه الجميع بتساؤلاتنا الملحة، وأن نتحمل قسطاً من المسؤولية، ومن ثم يجب أن يَقْدُم المواطن كلَّ المسؤولين في المساءلة، ماذا قدَّم، وماذا ينوي أن يقوم به في ظل هذه التداعيات. |
الانحناء للريح خير من الاجتثاث..!
د. حسن بن فهد الهويمل الحروب الخليجية المتواصلة، بكل ما فيها من عنف ودموية ومجانية، وخروج على الشرعية، وتطاول زمني، أتى على كل المقدّرات، ونتج عنه انكماش وديون وبطالة وارتباك. - وتفكك الاتحاد السوفييتي، ودخول أشلائه في حروب عرقية وطائفية شرسة، تعاقب على تغذيتها المنتفعون، وما تبع ذلك من تغير في التركيبة السكانية، وتبدل في الخطط السياسية، وظهور القطب الواحد بكل غطرسته. - وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وجرح كبرياء الولايات المتحدة، واهتياجها، وأخذها الظاعن والمقيم، ومباشرتها للحروب في ظل تخلف الحلول السياسية. - والإرهاب «الشاروني» الذي فجر الأوضاع وبورك من قبل رعاة السلام. - وإسقاط الحكومتين «الأفغانية» و «العراقية» من خلال عمليات عسكرية متوحشة، لا تملك غطاء شرعياً، وما نجم عن ذلك من فراغ دستوري، وتكتل عرقي وطائفي، ومواجهات متصاعدة، حولت القطرين إلى مستنقع موحل، ألجأ امريكا إلى الاستعانة بمن ادارت ظهرها لهم عند اتخاذها لقرار الحرب. - واللعب الكونية الكبرى التي غيرت «الاستراتيجيات» والاحلاف والقواعد العسكرية، وخلطت الاوراق، وهمشت الهيئات والمجالس الأممية، وجعلت العالم الثالث دولة بين الأقوياء. - والأحداث المصيرية التي تعاقبت، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، من اعتراف وتطبيع وهرولة. - والتصدعات الوطنية، والاختلافات الفكرية، وفحيح الطائفيات الافعاوي، والهجمات الإرهابية الهمجية المتلاحقة، وتوفر الأجواء الإعلامية والمعرفية من قنوات ومراكز معلومات تهرف بما لا تعرف، وتزرع الشك والارتياب، وتثير الفتن. - والغفلة المعتقة في الشارع العربي، ومسايرة الأعداء في الافتراء وتولي كبر الإفك على المصلحين والدعاة والناصحين. كل هذه الأشياء التي جاءت عبر إجراءات ابتسارية إكراهية متلاحقة لا يمكن أن تمر بسلام، ولا يمكن أن ينجو من وضرها احد، ولا يمكن أن تظل اوضاع الدول التي اتخذت أراضيها مسرحاً للاحداث كما كانت من قبل. وإذ يكون التغيير حتمياً، فإن على الاطراف المعنية ومسارح الأحداث والحوادث تعميق التفكير ودقة التدبير، ومن الخير أن يكون التغيير بيد صاحب الشأن، لا بيد غيره، على حد:- «بيدي لا بيد عمرو» وأحسب أن تدخل الأقوياء في الشئون الداخلية وإكراه الشعوب على التخلي عن الثوابت لن يحقق التغيير المطلوب، وإنما يؤدي إلى التدمير، فالشعوب عصية الانقياد، وهذا «العراق» يتأبى على الوجود الأجنبي، على الرغم من أن خروجه قبل ملء الفراغ الدستوري يعد كارثة عربية إسلامية، وإسقاطه للنظام إزاحة «لدكتاتوري» اناخ على الصدور بكلكله، فهو في ويل من الوجود وويل عليه، على حد:- «وقع السهام ونزعهن أليم». ومن تصور أنه يملك جبلاً او مغارة تعصمه من طوفان الفتن، فقد وقع فيما وقع فيه «ابن نوح»، حين قال له والده الذي يعرف اخذ الله القوي العزيز {(وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) (هود:42) )قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (هود:43) } ولأن نوحاً عليه السلام يعرف أن وعد الله حق، فقد توجه إلى ربه: {(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود:45) } . ولما لم يكن يعرف من علم الغيب شيئاً، فقد وجهه إلى الحق {قّالّ يّا نٍوحٍ إنَّهٍ لّيًسّ مٌنً أّهًلٌكّ إنَّهٍ عّمّلِ غّيًرٍ صّالٌحُ} . والمؤلم والمخيب للآمال أن بوادر الواقع العربي لا تنفك تعيد مقولة الولد الشقي {سّآوٌي إلّى" جّبّلُ يّعًصٌمٍنٌي مٌنّ المّاءٌ } فكل دولة عربية تتصرف وحدها، دونما تنسيق بين وجهات النظر، ودونما عمل رشيد يحدو إلى اتخاذ موقف جماعي، ينقذ ما يمكن إنقاذه، او يسهم في إيقاف التدهور، وكأن الدول العربية في معزل من الماء، والماء ينهمر من فوقها، ويتدفق من تحت ارجلها، مفككاً تماسكها الوطني، ومخلخلاً وحدتها الفكرية، ومحيياً فيها نعرات الإقليمية والعرقية والطائفية، والخليون يهدهدون أنفسهم بجنون العظمة الذي خلفه لهم «عنترة» و «عمرو بن كلثوم» و «المتنبي» وما من موقف واقعي جماعي يعرِّف الأمة بواقعها، ويوقف نزيفها، تتبناه «الجامعة العربية» او مبادرة يطلع بها «مؤتمر قمة طارئ»، فكل دولة لها شأنها الذي يغنيها، ولها مشاكلها الداخلية والخارجية، وثاراتها مع جاراتها، ومصالحها المتعارضة، واحلافها المتناقضة، وأوضاعها التي لا تسمح ولو باللقاء التشاوري، فضلاً عن موقف جماعي، يعيد للأمة شيئاً من هيبتها، ويحولها إلى شريك مؤثر في القرارات والاحداث، وهذه الترديات المؤلمة تذكر بمقولة الشاعر: ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهود والأحداث الجسام التي يمر بها العالم كله، وتنفذ فعالياتها على مسرح الدول النامية، لا يمكن أن تمر بدون ثمن باهظ التكاليف. ومن تصور أنه قادر على معايشتها، دون تحرف لنجاة، او تحيز لتدبير عاقل رشيد، عرضته الفتن العمياء لانهيارات اقتصادية، واختلال أمني، ومع أن احداث الساعة كأهوال الساعة، تذهل فيها كل مرضعة عما ارضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، الا أن الإبقاء على رسيس الماء الذي يبل الصدى في اللحظات الحرجة يتطلب التحرك قدر الطاقة، والله لا يكلف نفساً الا وسعها، وتفادي الرياح العواصف بالانحناء المؤقت، حتى تهدأ العاصفة. ولن يتقي الضاحون هوج الأعاصير الا بالاعتصام بحبل الله، وتبادل الآراء مثنى وثلاث ورباع، عبر الرحلات «المكوكية» والتنازلات المعقولة والتعاذر والعفو والصفح، وتناسي كل ما مضى من المآسي، فما عاد الوقت وقت حساب وجزاء، وإن كنا تمنيناه من قبل، لتصفية القضايا أولاً بأول، أما وقد تركت الامور فوضى لا سراة لها، حتى استفحلت، واستعصى الفكاك منها، فلا اقل من العفو عما سلف، واستئناف حياة جديدة، تفعل برفق، ولا تنفعل بصلف، وتساند بصدق ولا تدابر، وتدعم بأريحية ولا تخذل، وتفقه الواقع بوعي ولا تغامر عن جهل. ولما كان الواقع العربي المنهك، والواقع العالمي المتوتر، والمطامع الغربية الجائرة، والنفوذ الصهيوني المتغلغل، والتخاذل العربي المؤلم، والخوف والترقب بين الشعوب والحكام، والتطرف الفكري المتناقض بين اصولية موغلة بعنف، وعلمانية مندفعة بوقاحة، لا تمكن من اتخاذ موقف «استراتيجي» ناجز، ولا موقف «تكتيكي» مرحلي، كان لابد من تفكير سليم، وتصرف حكيم، متوفراً على حلم «معاوية» ودهاء «عمرو» اللذين تفاضلا في التصرف الحكيم في وجه الازمات، بحيث قال عمرو: ما دخلت في شيء الا وأحسنت الخروج منه، وقال معاوية: ما دخلت في شيء الا وعرفت من قبل كيف اخرج منه. والممسكون بأزمة الامور سياسياً وعسكرياً وفكرياً أحوج ما يكونون إلى شعرة معاوية، وإلى ما يحبه الله من الحلم والأناة والتبصر والتدبر والتشاور. فالأمة العربية تعيش حالة من الضعف والهوان والتفكك، لا تستطيع معها اجتياز الوضع بشكل جماعي. ولكيلا تزداد الاوضاع ارتكاساً، فإن على اقطارها ان تتقي الله ما استطاعت، وأن ترضى باليسير، وان تدفع بالتي هي أحسن، لتوفر لنفسها اجواء ملائمة لتصحيح الاخطاء، وتدارك بعض ما فات، وأن ترتد الى الداخل لإصلاح ذاتها، قبل أن تفكر في إصلاح ذات البين، مطّرحة الخطابات العاطفية، والدعاوى الكاذبة، والتطبيل الزائف، والتصنيم المقيت، مقلصة القول التحريضي، متوسعة بالفعل التوفيقي، وتخدير الشعوب والضحك على الرأي العام. استنفدا كل اقنعتهما، ولم يبق الا تمزيق آخرها، ومواجهة الشعوب بالحقائق المرة، ومناشدتها تقبل قدرها بالصبر والسلوان واحتساب الاجر عند الله، والتفكير الجاد ببدء رحلة العودة، اذ لم يكن هناك بقية من تقيّة، ومواجهة الامة بما هي عليه خير من مخادعتها. واذ تلوح القوى المتغطرسة «بحقوق الانسان» و «حرية المرأة» و «بالاصلاح الدستوري» وبـ «الديموقراطية» و بـ «تغيير المناهج» و بـ«الاعتراف» وبـ«التطبيع» وبـ«محور الشر» وبمقولة:« اذا لم تكن معي فأنت ضدي» وتفسر «الارهاب» و «التطرف » وفق رؤية خاصة فإن على الأمة العربية أن تلتف حول بعضها، لا من أجل المواجهة، فالحرب باهظة التكاليف، كما علمنا وذقنا، ولكن من أجل الحيلولة دون الاختراقات الصهيونية، فلقد تجرعت الأمة العربية الممزقة مرارة التطلعات الصهيونية، التي ما فتئت تؤكد على إذلال العرب نفسياً بعد سحقهم عسكرياً، وإصابتهم بالإحباط الشامل. وعلى الأمة أن تعرف أنها صاحبة حضارة مغايرة، وثقافة مغايرة، وتاريخ مغاير، وأن لكل حضارة ثوابتها ومتغيراتها، وعليها في ظل هذه الظروف أن تعمل في القواسم المشتركة ما أمكنها ذلك، وأن تبادر مشاريعها الإصلاحية وفق ظروفها وإمكانياتها واسلوب ممارستها بالحل الناجز او المرحلي، بحيث تحول دون تفكك الجبهة الداخلية، تحت ضربات من لا يرعى فيها إلاً ولا ذمة. وفي ظل هذه الظروف المدلهمة، لم يبق للقادة الا الشعوب، فهم الرهان الوحيد، وبدون الجبهة الداخلية لا يمكن تجاوز المرحلة المعقدة، وما لم ينتزع القادة التأييد والثقة تفلتت الأمور، وانفلت العقد، وانغمست الأمة في حمامات الدم، وهي الفرصة الذهبية التي ترقبها الصهيونية العالمية، ويتطلع إليها اعداء الشعوب، وما العمليات الإرهابية الغنوصية التي لا تُعرف اهدافها الا بوادر نجاح للمؤامرة الكبرى، لنسف الأمن والاستقرار الذي تنعم به بعض الشعوب العربية. وواجب الشعوب المستهدفة أن تعي خطورة المغامرة والأثر السيئ لاختلال الأمن والموت الزؤوم من جراء الفراغ الدستوري، وما أحكم واعلم رسول الهداية حين ندب إلى قتل من يأتي إلى الامة وامرها على رجل منها، والفتنة اشد من القتل. إن على الشعوب أن تحمي الثغور، وأن تقطع دابر الخلافات الداخلية، وأن تضع يدها في يد قادتها، تمحضهم النصح، وتبصرهم في الأمور، تحمي ساقتهم، وترود لهم، لا تكذبهم، ولا تخفي عنهم الحقيقة، فالزمن رديء لا يحتمل أي هزة، فكل شيء يترنح، ولكل شيء قاب قوسين أو أدنى من الفتن العمياء، وعليها أن تصلح نفسها، وأن تصنع إنسانها، وأن تستثمر خيراتها، وأن تتقي الظلم ومنازعة الأقوياء حقهم، وعلى الحكومات أن ترفع الظلم عن شعوبها، فالله الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرماً، لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهو قد اقسم بعزته وجلاله على نصر المظلوم ولو بعد حين، والدول التي تظلم من دونها والحكام الذين يظلمون شعوبهم على موعد مع اخذ الله الأليم الشديد. ولأن العالم العربي يمر من عنق الزجاجة، واللعب الكونية قد فعلت فعلها في تفرق الكلمة، وتشتت الآراء، وانفراد كل قطر باتخاذ القرارات المصيرية، دون تنسيق، ودون استشارة، ودون استخارة، فإن الوقت عصيب والوضع رهيب، وعلى الحكام مراجعة القرارات، وعلى الشعوب الركون إلى الهدوء، فما عاد الوضع قادراً على احتمال مزيد من الاختلاف والتمزق. |
أيها السرديون .. أربعوا على أنفسكم..!!
د. حسن بن فهد الهويمل عندما بادر «نادي القصيم الادبي»، ونفذ على هامش «مؤتمر رؤساء الاندية السابع عشر» الذي استضافه ندوة عن «الرواية بوصفها الأكثر حضوراً»، ووجهت تلك المبادرة بطائفة من المتحفظين والساخرين، دونما اي مبرر، ولما لم نكن مكترثين من مثل هذا الكلام المجاني وغير المسؤول، فقد مضينا في سبيلنا، تاركين الرد للمشاركين في الندوة من ادباء ونقاد و«اكاديميين» وإن كنا غير متفائلين من استجابة المتحاملين وقبولهم للبراهين، واذ نفذت الندوة، وطبعت اعمالها، فانه لم يمتعض مثيرو اللغط، ولم يراجعوا انفسهم، لأن تصدياتهم جاءت للتخذيل والاحباط، ولم تكن نشداناً للحق، وعتبنا ان كنا من المعتبين على النقاد المتمكنين، الذين سايروا مثل هؤلاء، او صمتوا إيثاراً للسلامة، والحق أحق ان يتبع، واذ لم يكن من الكياسة ترك الامور يحكم بها الذين لا يعلمون، كان لابد من تعليم الجاهلين، وتنبيه الغافلين، ممن لم يدركوا مبلغهم من الفن السردي خاصة، وممن لم يعرفوا نصيبهم من مواهبه، والمشهد اي مشهد بحاجة الى سرات يضبطون ايقاعه، ويأخذون على ايدي مهتاجيه، والمتابع لفيوض الكتابات السردية، وما يكتنفها من تنظير او تطبيق نقديين، يدرك ان هناك فوضى مستحكمة ومغالطات مخلة، وانه من الضروري مواجهة الواقع، وان كان مراً، دون النظر الى من قال: ما ترك قول الحق لي صديقاً، فمن آتاه الله المال طالبه بالزكاة والصدقة والتمتع، ومن شرفه الله بالعلم ألزمه كلمة الحق والصدق والتقوى، والذين يدَّعون الإبداع وليسوا بمبدعين، والمواطئون لهم من ادعياء النقد، لاتقتصر اساءتهم على انفسهم، وإنما يصيبون المشهد، ويدينون المرحلة، ويزاحمون المبدعين الموهوبين والنقاد المتمكنين. ومن المسلمات التي يجب الا تغيب عن كل مشتغل بالسرديات ان الفن انواع: قول وفعل، شكل وصوت، آلية ومادة، طرائق اداء وشروط فعل، ضوابط فنية ودلالية، حرية وانضباط، مواصفات مستقاة من النماذج الاولى، التي هدي اليها المبدع الاول بفطرته، لا بتعلمه، والتي جعلت الشعر شعراً، والسرد سرداً، وفرقت بين المثل والحكمة والخطبة، دونما تدخل مسبق، او توجيه واع، والفن موهبة قبل كل شيء، لا يؤتاه اي مندفع لجوج، ولا ينتزعه من مستحقه اي ناقد لدود، وحين نقول بذلك، فإنما نريد التفريق بين المهنة المكتسبة، والموهبة الملهمة، ومع هذا فقد يمارس المقتدر غير الموهوب اي نوع من انواع الفنون، فيكون اداؤه كالصناعة التقليدية، تخدع النظر، ولكنها لا تفوت على الخبير، وقد يتسرع الموهوب رصد التجربة قبل النضوج، فيجد من ينسيه قدره، فيتوقف حيث ابتدأ، وقد فعلها غير ناقد، والموهبة الملهمة بإذن ربها، لاتضطلع وحدها بعملية الابداع، ولا بتألقه. وحين نقول: إن الفن ابداع، والابداع وليد موهبة، فإننا نستحضر روافدها المتمثلة ب«الثقافة، والدربة، والموقف، والحرية المنضبطة، ونضوج الفكرة، والاجواء الملائمة، ومتى تخلف شيء من تلك العناصر، انعكس اثرها على الابداع، وقد يؤدي ذلك الى تعثر المبدع، وفتح ثغرات عليه، قد تصل بالنقاد الى نفي الشاعرية او السردية عنه. ف«المتنبي» مثلاً مبدع، موهوب، عميق الثقافة، وله مواقفه الضاغطة، التي فجرت شاعريته، ولكن رديء شعره ينازع جيده، وحين نتفق على ذلك، نتساءل: لماذا أنتج شعراً رديئاً، وآخر في غاية الجودة والإبهار؟ أليس ذلك دليل تخلف عنصر من عناصر العملية الابداعية؟ قد يكون افتعال الموقف سبباً من اسباب الإخفاق، نجد ذلك في مدائحه ل«كافور» اذ لم يكن مثله الأعلى، ولم يكن مقتنعاً بما يقوله فيه، كان مثله الأعلى «سيف الدولة»، ولكن الاجواء لم تكن ملائمة له، ومن ثم خرج مغاضباً، وقال قولته التي اصبحت مثلاً، وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم قيل عن «المتنبي» وعن سيرورة شعره «إنه يجمجم عما في نفوس الناس» والحق ان «المتنبي» إنسان له تجاربه، التي نسلت منها قصائده، وكل شعر يرتبط بتجربة انسانية، يكتب له الخلود والسيرورة، والاعمال السردية قد تتوفر لها التجارب الحية، فتكون بهذا أكثر سيرورة، وبخاصة ان كثيراً من الاعمال الروائية تمثل سيراً ذاتية، وأبطالها في الغالب كتابها. وما يقال بحق الابداع الشعري، يقال مثله عن الابداع السردي، ومتى تيسر الوقوف على فنية الابداع الشعري، صعب الوقوف على فنية الابداع السردي، لوضوح معالم الشعر، وخفاء معالم السرد، وان حدد النقاد طائفة من الفنيات بالقول عن اركان الفن الروائي ومحققاته، من: حدث، وحبكة، وشخصيات، وزمان، ومكان، وحركة، وعقدة، وتأزيم، وحكاية، وحوار، وسياق، ومناجاة، ونص، وتيار وعي، وتبئير، وغيرها، ليضعوا الضوابط والسمات والفوارق التي لم يستبطنها المتعمِّلون، وخلوصاً من تلك الاشكالية، اصبحت اللغة محكاً رئيساً، وهو مالم يتوفر عليه الادعياء، الذين يؤذون حراس الفن والفضيلة. وفي ظل الخلط والجهل جاء الحديث عن «الشعرية» و«الادبية» شعرية اللغة الشعرية، وأدبية اللغة السردية، ومثلما حاول النقاد تحديد مفهوم «الشعرية» حاول آخرون تحديد مفهوم «الأدبية»، والسرديون الذين لايحترمون اركان الفن السردي وشروطه، ولا يسيطرون على اللغة الشاعرة بطبيعتها، بحيث لايتوفرون على ثراء لغوي، ولا على تجويد لنظامها المتمثل بالنحو والصرف، ولا يمرون بموقف ضاغط، ولا يتناولون قضية مهمة، ثم يقترفون ما هم مقترفون من كلام متسطح هابط، يشي بالجهل والضعف، هؤلاء حين يتخلصون مما في بطونهم من غثاء وعناء، ينحون باللائمة على النقاد الذين يجتنبون كثيراً من آثامهم، وكان الجدير بهم ان يعرفوا ماهم عليه من ضعف، وماهم فيه من بؤس، ليكفوا عن ملاحاة النقاد، ومؤاخذتهم على ما يتصورونه تقصيراً في حق مايسمونه ابداعاً سردياً، وما هو الا لغو ممل، وكلام رديء مخل، ذلك انه لايشتمل على اي صفة إبداعية، ولا على اي ميزة لغوية، ولا عبرة بالمبدعين حقاً، ممن استكملوا العدة والعتاد، ولما يزالوا واعدين، وهم الذين تدل محاولاتهم على موهبة وموقف واقتدار، ولكنها مغمورة بغثائيات تعلو كما القتام، حاجبة الرؤية السليمة، ومثل هذا الكلام، لايعد من الادب في شيء، وان سماه ذووه والمواطئون لهم قصة او رواية ذلك ان الابداع القولي يختلف عن سائر الاقاويل، ومن تصور ان مجرد الكلام ابداع، فقد اضاع جهده، وامتدت جنايته الى جهد الآخرين ليضيعه، ومثلما ان المشهد الابداعي مليء بالادعياء المتعملقين فإن المشهد النقدي مليء بالمتقولين المغررين، الذين لايتقنون مهمات الناقد، ولا يتوفرون على ثقافته، ولا يحسنون تذوق الفنون، ومع ذلك يكرسون الوهم، ويصفون القول العادي بالابداع، وليس باستطاعة المقتدرين الناصحين الذين يبخعون انفسهم على آثار المنحرفين عن جادة الفن ان يواجهوا المشهد بنقاده المجاملين وكتابه المقوين، ويكفي مثل هؤلاء نكالاً، ان من خدع بهم، ثم اقترب منهم، ترحل عنهم، كما التائب النادم العازم على عدم العودة.. ومما فات اولئك وخسروا بفواته الشيء الكثير، ان النص الابداعي القولي معتمده على اللغة الادبية، اللغة المثالية المتعالية، واللغة: مادة ونظام وصياغة، حقيقة ومجاز، إيجاز ورمز، صورة واسطورة، شيوع وغرابة، عمق وتسطح، تقنع وسفور، كلمة وجملة، عبارة واسلوب، جرس وايقاع، والذين يتعاملون من خلالها، ولا يكونون متضلعين منها، متمكنين من السيطرة عليها، مميزين بين لغة الفن ولغة العلم وحديث المجالس، هؤلاء جميعهم ليسوا مبدعين، وان اطبق الناس على التغرير بهم، واذا لم تشدك اللغة في خيالها ومجازها وايجازها وصورها وغرابة مفرداتها وطرافة صياغتها وانزياحها ومراوغتها ومخاتلتها وفضائلها اصبحت القراءة مضيعة للوقت والجهد، فالقارئ الذي ألف عيون الشعر، وشوارد الابداع كقاصد البحر، ومن قصد البحر استقل السواقيا، وعلى مثل هولاء ان يعذروا العازمين الذين لايجدون ما يغري بالقراءة فضلاً عن النقد. والقارئ المتذوق الواعي لجماليات اللغة، وأركان الفن، حين لا يعيبه التركيب، ولا تتمنع عليه الدلالة، ولا تشده براعة الصياغة، ولا يحس بجرس ولا إيقاع، ولا يصيخ لإيحاء، ولا يجد حصافة ولا رصانة ولا قضية يحس بخيبة أمل، والذين لا يفرقون بين القول المتداول والقول الابداعي، كمن لا يفرقون بين ضجيج المصانع وانغام الموسيقى، ولا بين المشي والرقص، واذ قيل: الشعراء أربعة: منهم من لاتجد بداً من ان تصفعه، فليس هناك مايمنع من ان تضرب المئات من ادعياء السرديات على ادبارهم، لتطردهم من مشاهد الفن. والذين يكتبون كيفما اتفق، ويدفعون به الى المطابع، ثم ينقمون على النقاد الذين يمرون بهم مر الكرام، يقترفون خطيئتين: خطيئة الغرور، وخطيئة القصور، وإشكالية الابداع السردي انه سهل المرتقى، ومن ثم يتهافت عليه الموهوب والمقتدر والخلي من السمتين، وقد يجد الفارغون من يخدعهم بأنفسهم، وينسيهم ما هم عليه من ضعف وضحالة، وقد يعمد الفارغون من سائر القيم الى المخالفة في اللغة والفن والاخلاق، ليكونوا حديث المشاهد، ومتى سمعوا كلمة الحق، لم يترددوا في إحالتها الى الوصاية والمزايدة والتسلط، معولين على حرية التفكير والتعبير. ولو ان النقاد احترموا المصداقية، وتوفروا على آلية النقد ومنهجيته، وتمكنوا من ثقافة الناقد، وعرفوا وظيفته، واعتزوا بما هم عليه من معرفة وتذوق، لكانوا أبعد الناس عن المداراة والتغرير. والكتبة المتزببون في زمن التحصرم، يدَّعون التجريب، والتجريب له ضوابطه وامكانياته ودواعيه، وكيف يتأتى التجريب لكاتب لم يقدم وثيقة التألق عبر عمل متميز، يدل على اقتداره، التجريب محاولة للتجاوز، وليس تحرفاً للانتكاس على الاعقاب، وكيف تؤمل من مخرب يدعي التجريب، وهو يدفع بنص ممتلئ بالاخطاء النحوية والصرفية واللغوية والإملائية والتركيبية مسف في الدلالة دان من العامية، لا ينبض بشيء من سمات الفن، ولا بمؤشرات الجمال، فضلاً عن جهله بلغة الفن، وسمات الأنواع الابداعية. التجريب لا يتأتى إلا لمن فسقت امكانياتهم على سمات الأنموذج، ذلك أنه رقم قياسي، والمجرب الحق من يقدم على تحطيمه باقتدار وتفوق، بمعنى ان يأتي بنص افضل مما سلف ليكون مثار إعجاب النقاد المتذوقين واكبارهم، نقول هذا القول بحق من يخفقون في البناء اللغوي والشكل الفني، اما من يخفقون في البعد الموضوعي، فحدث ولا حرج، وجنايات بعض الروائيين الاخلاقية والفكرية لا تحتمل، والمشاهد الثقافية تعيش حالة سيئة من هذه الفئات التي ايقظت العداوات والمناكفات، وفرقت بين الأخ وأخيه. والمتابع لفيوض الإبداعات السردية: محلياً وعربياً، يقف على تجاوزات دلالية، لا قبل للعامة باحتمالها، فضلاً عن الخاصة، ذلك انها تغثي النفوس باسم حرية التعبير، وأدب الاعتراف، وبخاصة في السير الذاتية، ولقد اتيحت لي فرصة التحكيم في بعض الاعمال السردية، وفرص المناقشة لبعض الرسائل العلمية، فكان ان وقفت على تجاوزات لاتحتمل، وقلَّ ان تجد من يفرق بين الحرية المنضبطة، ومهاوي العهر والكفر، واذا وهنت الأعمال بالاخفاقات البنائية والشكلية والدلالية، ثم شايعها من يعملق تقزمها، ضاع الفن، وتلوثت أجواؤه. وتلك لعمر الله ردة فنية ولا رجلاً رشيداً لها، اننا بحاجة الى من يصدع بالحق، فيقول للمحسن أحسنت، وللمسيء أسأت، ولا كرامة، لقد سيئت وجوه الفنون السردية بتقحمات فجة، تمردت على ضوابط الفن واللغة والأخلاق، ووجد المتقحمون من يحمي ساقتهم، ويرود لهم مهاوي الرذيلة، وحين تناول المنتدون «الرواية بوصفها الأكثر حضوراً»، اخذوها من زوايا متعددة، وقدموا رؤى متباينة، نعرف انها خليط من الجليد والأجود والرديء والأردى، ولكنها لا تصادم ذوقاً، ولا تنسف ثابتاً. وعلينا في ظل هذه الترديات الفنية واللغوية والدلالية ان نضع ضابطاً، يبقي على الحد الأدنى من سائر القيم، ومهمة «الصفحات الأدبية» و«الأندية الأدبية» و«الأقسام الأدبية» في الجامعات ليست في الترويج للرديء والساقط، وانما مهمتها في تلافي النقص، وتسديد القول، وكشف الزيف، ومناصحة المواطئين لرديء الكلام، وساقط الفن. وضوابط الفن، وسمات اللغة، وحدود الحرية، والحق، مستفيضة في الكتب والمعاجم والموسوعات، ومن الفوضى الا يحتكم المختلفون الى مرجعية مستقرة في الصدر او مجموعة في القمطر، مما أجمع عليه اهل الفن المؤصلون لمعارفهم، ومن ضاق ذرعاً بالمعيارية والعلمية، فلا أقلَّته ارض، ولا أظلته سماء، ومن تبرم من رد المسائل الى اهلها فهو دعي ضرره أكبر من نفعه، فحسبه أن يلجم فمه، ويرفع قلمه، فالحياة نظام، والنظام حد، والحرية انضباط، والفن موهبة، ومن رغب عن ذلك، فليس جديراً بأن يفسح له في مجالس العلم والأدب. |
اتقاء الفتنة أو ابتغاء الخلوص منها..!
د. حسن بن فهد الهويمل ليس غريباً أن يقع الناس في تنّور الفتن المسجور، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» وما عصم منها صفوة الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضوان الله عليهم، قال صلى الله عليه وسلم: «أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس من دوني، فأقول: أمتي، فيقال: لا تدري مشوا على القهقرى». هذا على مستوى الأمة. ولهذا استعاذ ابن أبي مليكة من أن يرجع على عقبيه أو يفتن. أما على مستوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال: «حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك» وفي حديث آخر «يرد علي أقوام أعرفهم، ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم». والله قد سأل سؤالاً استنكارياً لمستبعدي الفتنة { )أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) } والناس كلهم أجمعون معرضون لنكسات في الدين أو في الدنيا، وفي الدعاء المأثور: «ولا تجعل مصيبتنا في ديننا» هذه النكسات تشكل دركات، إذ الفتنة في القرآن على ثلاثة عشر معنى، قد تزيد بمترادفاتها، وبينها وبين «الابتلاء» عموم وخصوص، والفيصل في كل ذلك السياق النصي أو الأثر النقلي. ولقد استبعد الصحابة أن يكون ما أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن واقعاً في حياتهم حتى رأوها. وكيف لا تكون، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، ومن الدعاء المأثور: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك». والفتنة لا تؤمن على أحد. قيل عن الإمام «أحمد بن حنبل»، وهو الصابر المحتسب الصادع بالحق الوقاف عند الحدود، المتعرض لفتنة «خلق القرآن» والممتحن فيها: أنه لما كان في سكرات الموت، كان يردد «بعد.. بعد» فلما سئل، قال: يأتيني الشيطان، ويقول: فُتَّني يا أحيمد. فأقول : بعد.. بعد. ولقد سمعت أن العلامة «ابن باز» رحمه الله لا يرغب تسجيل سيرته في حياته، ويطلب إرجاء ذلك حتى يموت، ولما سئل عن ذلك قال: إن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. والسعيد السعيد من يدركه الموت، وهو ثابت على شهادة التوحيد، متخلص من حقوق العبيد، متق للفتن، ملازم لجماعة المسلمين. وأنى لمؤثري السلامة النجاة، والفتن تعصف كالريح العقيم، تجتال الجميع، ولا تصيب الذين ظلموا خاصة. وليس بغريب - والحالة تلك - أن يفتتن الناس بالظاهر منها والباطن، يكثر القتل، ويختل الأمن، وتنتهك الحرمات، وتتفرق بالناس الولاءات، وتتعدد المرجعيات، حتى يغبط الأحياء الأموات، وفي الحديث: «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه»، ولذلك أسباب كثيرة، وقد أومأ المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إلى الأهم منها، فقال: «بنزول الجهل ورفع العلم» وذلك ما نعيشه ونشاهده في كثير من الأوساط. شباب مهتاجون تخطفوا الآيات والأحاديث، دونما إحاطة بها، أو فهم لما فيها، أداروا عليها أحكاماً سياسية، تطال العامة والخاصة، وبرروا بها أعمالاً تقع في صميم الفكر السياسي، بكل حساسيته وخطورته، وسوغوا بها الخروج على جماعة المسلمين، وهم جهلة بضوابط الاجتهاد والاستنباط والفتيا وشروطها، من معرفة بالعموم والخصوص، والناسخ والمنسوخ، والقطع والاحتمال، والتقدم والتأخر، واختلاف التنوع والتضاد، وقواعد الفقهاء، وضوابط الأصوليين، والمفاهيم والمقاصد، وفقه الأحكام وفقه الواقع، مع فقد العمق والشمول والتجارب وآليات اللغة وفقهها. وما أضل الناس إلا دعاة السوء الذين يشرعنون للمنكر، ويشيعون الرذيلة، ويحرضون العامة على التمرد، لا يحترمون العلماء، ولا يهابون السلطة، وإذا قيل لأحدهم: اتق الله أخذته العزة بالإثم، يمارسون التضليل والفوضى باسم الحرية والحقوق، يستأثرون بها، ويصادرون حق الغير، ومن ثم يكفرون الأشخاص والطوائف، لمجرد المخالفة في الرأي، وهذا فيما أرى هو رفع العلم ونزول الجهل، والعامة غنيمة باردة لمن سبق، يحسنون الظن، ويصدقون الكذبة، ويزكون المزيفين. ومن الصعوبة بمكان تصحيح المفاهيم الخاطئة بعد رسوخها، وظاهرة «غسل المخ» خير مثال على ذلك، فكم من شاب أقدم على اغتيال أو تفجير، قتل فيه نفسه ومن حوله، دون أي مسوغ شرعي. ولقد أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح إلى أن هلكة أمته على يد «أغيلمة من قريش»، والمقصود هنا كلمة «أغيلمة» جمع مصغر لغلام، فهو قد جمع سبتين: تصغير الكلمة والسن. والشباب مظنة الافتتان، وما سيئت مشاهدنا إلا من أغيلمة تطيش سهامها، كما طاشت يد الغلام في الصحفة، فكان أن وجد من يرشده: «سمِّ الله يا غلام وكل مما يليك وكل بيمينك» والرسول الذي لا ينطق عن الهوى، يعرف ماذا ستلاقي أمته، ولهذا أوصى بالصبر قائلاً: «إنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه» وها نحن نشاهد ذلك حياً على الهواء، فـ«العراق» الذي تجرع الأمرين في العهد البائد، حيث سيم الخسف: تقتيلاً وتشريداً وإذلالاً وعوزاً، خرج من ظلم ذوي القربى إلى احتلال معلن، لم يخلف إلا فوضى مستحكمة، وانفلاتاً أمنياً مخيفاً، وفراغاً دستورياً مفجعاً، وإيقاظاً لخلايا نائمة، تنذر بـ«أفغنة» أو «لبننة» أو «صوملة» أو «سودنة» وقودها الناس والأموال والثمرات، ونتائجها الجوع والخوف والنقص في كل وجوه الحياة. ويكفي أن نستعيد تفجير «النجف» لنعرف لغة الفراغ الدستوري، وأم المصائب اختلاف النخب حول بدهيات لا تحتمل الاختلاف، ووقوع الكافة في تناحر باللسان والسنان. والموقف يزداد تعقيداً حين يأتي الإرهاب باسم الإسلام، مستهدفاً المسلمين الآمنين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من حمل علينا السلاح فليس منا» بل يزيد في أهمية حرمة المسلم، وتوفير الأمن له بمنع الإشارة بالسلاح، فلقد قال: «لا يشير أحدكم على اخيه بالسلاح»، وكيف يستسيغ مسلم ترويع أخيه فضلاً عن قتله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وهو قد نهى أمته عن الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان قائلاً: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» وفي خطبته التي بلغ بها أمر الله، وأشهده على الإبلاغ، وأشهد الناس على أنفسهم، قال فيها: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»، وخطورة الفتن التي تجتاح الأمة ليست في الوقوعات، ولكنها في المفاهيم. فالذين يقبلون على الانتحار أو التفجير، ويقتلون أنفسهم، ويقتلون المعصومين والمستأمنين، ويهلكون الحرث والنسل، لم يفعلوا ذلك من أجل مكتسبات دنيوية، ولا من أجل تعارض المصالح، وإن كان وراء ما يفعلونه أطماع، ألبسها المهندسون للعب لبوس الدين، فانجر إليها من لم يكتو بمكر الماكرين. هؤلاء الانتحاريون لديهم إيمان راسخ بمشروعية فعلهم، فمن يقتل نفسه، ويقتل الآخرين، لا يمارس ذلك من أجل عرض الحياة الدنيا، ومثل هذه العقيدة المنحرفة، لا يمكن حسمها على يد رجال الأمن والمباحث، ولا بحد الحرابة من قتل أو صلب أو قطع أو نفي، إنها بحاجة إلى مواجهة بالكلمة الطيبة والقول السديد، ينهض بهما العالم والمعلم والواعظ والخطيب والمفكر والمبدع. فالمواجهة القادمة ليست بالسنان، وإنما هي باللسان، وليست حصراً على رجال الأمن، بل أكاد أجزم بأن الدور الأهم لرجل الفكر والقلم واللسان. إننا حين لا نجد ملجأ ولا مغارات نحتمي فيها من الفتن فان علينا أن نحسن التعامل معها، والخلوص منها، بأسرع وقت، وأقل خسارة، فلقد أصابت قوماً فخرجوا منها سالمين، واستدرجت آخرين فأردتهم، وسلبت ما أفاء الله به عليهم من مال وقوة مادية ومعنوية، وخلفت فيهم الفرقة والعداوة والبغضاء والتنازع إلى يوم يلقونه، ولقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الفتن باللين تارة، وبالقوة تارة أخرى، وترك لليهود والمنافقين أكثر من فرصة، وأحسن التعامل مع من فاء منهم، وما كفر من فعل الكفر، وما قيد فعل المخالف بموقف واحد، فعل ذلك مع «ابن أُبيّ» و«حاطب بن بلتعة» وما استجاب لمن هم بقتل المخالف، مخافة أن يقال: محمد يقتل أصحابه، والفتنة لازمة، والأمة تخرج من فتنة إلى أخرى، ولكل فتنة موقف، وفي حديث حذيفة التساؤلي عن تتابع الفتن: «فهل بعد الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه بها»، ونحن نعيش زمن الدعاة المضلين، وهذا يتطلب تحرفاً دعوياً، تكون فيه الكلمة سيدة الموقف، والشاهد في ذلك سؤال حذيفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، وحذيفة رضي الله عنه يمعن في السؤال، حيث استطرد قائلاً: «فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». والبلاد الإسلامية قد تمر بحالات مماثلة، بحيث لا يكون جماعة ولا إمام. ومن ثم كان التوجيه على كل الأحوال: التوجيه بالمحافظة على الأمن واجتماع الكلمة، والتوجيه إذا جاء المسلمين خارجٌ على السلطة الشرعية، وكلمتهم على رجل منهم، والتوجيه حين تكون الفتن مع وجود الجماعة والإمامة، والتوجيه حين لا تكون جماعة ولا إمامة. وأجزم ان العالم العربي يعيش الحالات كلها، فهناك أمن واستقرار، وهناك فتن عمياء مع وجود جماعة وإمام، وهناك حالة من الفراغ الدستوري الذي لا يكون فيه جماعة ولا إمام. والرسول صلى الله عليه وسلم قد وجه أمته في كل الحالات، وأعطاها من الوصايا ما يمكنها من التعامل الحسن مع الفتن، ومع بوادرها. والذين يتصورون الحرب حلاً وخياراً وحيداً ولا يفكرون في تحرف أو تحيز أو دفع بالتي هي أحسن يداوون الأوضاع بالداء العضال، على حد: «وداوني بالتي كانت هي الداء» ولقد استشهد «البخاري» في صحيحه عند حديثه عن الفتن التي تموج كموج البحر بأبيات لأمرىء القيس: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشبَّ ضِرامُها ولَّت عجوزاً غيرَ ذات حليل شمطاءَ يُنكرُ لونُها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل وفي رواية الحميدي: «شمطاء جزت شعرها» واختيار الحرب يوقع الأقوياء في المستنقعات، ويضطرهم إلى التماس المخارج، وإعطاء التنازلات، وها هي قوى التحالف أحسنت هندسة الحرب، ولم تحسن هندسة ما بعدها، والحرب حين تقوم تنقلب الأوضاع رأساً على عقب. واذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العار ان تموت جباناً ولقد تداول الصحابة بحضرة «عمر» رضي الله عنه ما أثر عن الرسول في شأن الفتنة فقيل: بأن هناك فتناً تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الابتلاء والامتحان بالنعم أو بالنقم، كفتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، أما التي تموج كموج البحر فهي فتن الاعتقاد والولاء والبراء وتفرق الكلمة، والتقاء المسلمين بسيفيهما، والخروج على السلطان الذي لم يحدث كفراً بواحاً فيه من الله دليل. ولقد أومأ الصحابة إلى «كسر الباب» إيذانا بقيام الفتنة إلى قيام الساعة، وجعلوه قتل «عمر» وهو قائم يصلي على يد غلام المغيرة بن شعبة. والقارىء للتاريخ القديم تؤلمه مبادرة الفتن، وما حصل بين الصحابة، وما نجم عن ذلك من فرق ضالة شرعت لقومها من الدين ما لم يأذن به الله، وليست قراءة التاريخ الحديث بأقل إيلاماً، والناصح لأمته المهتم بأمرها يعتصر قلبه ما تعانيه أمته من ويلات دمرت الاقتصاد، وعطلت المشاريع، وأخلت بالأمن، وأشاعت الفوضى، وأحبطت النفوس، وأذلت الأحرار، ودنست الحرائر وأخرجت الناس من ديارهم. ولست أعرف أقسى على الإنسان من أن يهاجر مكرهاً من وطنه، ليعيش غريب الوجه واليد واللسان والعقيدة، ولقد استعظم القرآن الكريم الإخراج من الديار، وعده من أكبر الجنايات، وجعله مسوغاً للمقاومة، وأخذ الميثاق على بني اسرائيل بعدم سفك الدماء والإخراج من الديار واستنكر المخالفة {(ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) } وجاءت آيات كثيرة تستعظم ذلك، مما يؤكد حق المواطنة، وأهمية الوطن، ومشروعية حبه والدفاع عنه، والموت في سبيل ذلك، فهو من الضرورات الخمس أو الست التي يتداولها العلماء، ومن مات وهو يدافع عنها مات شهيداً، والفتن القائمة تمخضت عن ملايين المقتولين والمسجونين والفارين من ديارهم. وعلينا وقد أصابنا دَخَنُ ذلك ألا ندع الدخان يتحول إلى ضرام، فليس بيننا وبين الله نسب، وما أوجب على نفسه النصر إلا لمن نصر دينه وامتثل أمره، والذين شردوا من ديارهم، وقتلوا، وسلبوا أموالهم وحرياتهم أناس مثلنا، ومن الخير لنا أن نتعظ بهم، وأن نسعى جهدنا لإتقاء الفتن، فإن نفذ شيء من فلولها فلا أقل من أن نطوق ذلك في أضيق نطاق، ولن يتحقق النصر إلا بمبادرة النصح لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم، والدعوة على بصيرة، وأول خطوة نخطوها الفرار إلى الله، والدخول في الدين كافة، فالدين عصمة أمرنا، والقلم واللسان في هذه الظروف أولى من السيف والسنان، إن على علماء الأمة ومفكريها وأهل الحل والعقد فيها، أن يلتقوا على كتاب الله وسنة نبيه، لا يتخذون أهواءهم آلهة، ولا آباءهم قدوة، وقد تركوا على المحجة البيضاء، التي لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن رضي بالإسلام عقيدة ومنهج حياة، فليتفقه في الدين، لينذر قومه، وما تسلط أراذل الناس على أمة الإسلام إلا بسبب البعد عن سواء السبيل، فهل نشخص الداء، ونصف الدواء، ونجرب العودة النصوح إلى الدين الخالص. |
من أرهق الأمة صعوداً: الثوريون أم المصلحون..؟ 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل وليست الخطورة في الاطلاقات الطائشة، ولا في الاجترار الأبله للقيل والقال وكثرة السؤال، وإنما هي في تقبل الشارع العربي للمغالطات، وتأثره بالشائعات، وخنوعه وخضوعه للعابثين بذاكرته. وقد تكون الخطورة في لزومه للصمت مغلباً جانب السلامة بالجنوح إلى اللامبالاة باسم الحياد الإيجابي، وكأن الأمر لايعنيه. وسكوته نوع من أنواع السكوت عن الحق، وفي الحديث: - (الساكت عن الحق شيطان أخرس). والأمَرُّ والأنكى أن تلتزم المؤسسات العربية الرسمية الحياد السلبي أمام المقترفات القولية والفعلية، أو أن يكون موقفها متخاذلاً مقموعاً. والعبث بسمعة الأمة ومقدراتها طوال الخمسين سنة الماضية، ووضعها بين الحين والآخر في مواقف حرجة أمام الرأي العام العالمي، كل ذلك يطال سيئه المستهمين على سفينة الحياة، ولا يقتصر أذاه على طرف واحد، وذلك شأن الفتن فيمن تصيب، واستعداء الدول الباغية أو مواطأتها يعيد قصة المثل: - (أكلت يوم أكل الثور الأبيض). والأمة في ظل هذه الترديات ملزمة بمواجهة قدرها، مجتمعة لا متفرقة، مكاشفة نفسها، متعظة لا شامتة، متخلية عن الحلول التسكينية، متحامية القفزات البهلوانية. فما تراكم عبر عشرات السنين لا يمكن حسمه بجرة قلم، وفي ظل هذه الظروف لابد من عقلنة التصرف ومرحلة الحلول، والنظر إلى الفساد المتعدد: السياسي والإداري والاقتصادي. إن المسكنات الإرجائية لا تقيل عثرة، ولا تصحح مساراً، ولا تنهي تدهوراً، وعلى الدول العربية المسؤولة أمام الرأي العام العربي، والتي تملك أعماقاً متعددة أن تكاشف الشارع العربي، فالوضع لايتطلب مزيداً من المجاملات، وإن كان من الخير نسيان الماضي، واستئناف حياة جديدة، ولكن بعد أن يعرف المقترفون ما اقترفوا. الواقع العربي يتطلب هزة عنيفة، تهمش الضعفاء، وتعرفهم قدرهم، وتوقظ النائمين، وتذهب الغشاوة عن العيون، وتزيل الوقر عن الآذان. وألم ساعة يحسم الشر خير من تخدير عام يبقي عليه. ومواجهة الخطاب الإعلامي المسف، سواء صدر من مأجورين أو مناوئين أو موتورين بمثل تعدياته مجاراة في الخلق الدنيء. وإذا كان الله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم فإنه حرض على العفو والصفح، ومن ثم فإن التحرف لمواجهة حضارية أفضل من المهاترات والتنابز بالألقاب. والراصدون لمغامرات القنوات يدركون أنها تخلط عملاً صالحاً وآخر سيئا، وأن تنقية الأجواء وعودة الأمور إلى مجاريها في ظل هذه الظروف رقم على اليمّ، ولم يبق إلا اتخاذ موقف حضاري، ينتشل الخطاب الإعلامي من دركات الاسفاف إلى درجات القول الكريم. ولقد تذكرت وأنا أتعقب تلك المقولات المسفَّة ما جاء في صحيح البخاري قال: -(قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه «الحر بن قيس» وكان من النفر الذين يدنيهم «عمر»، وكان القراء أصحاب مجالس «عمر» ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن (الحر) (لعيينة) فأذن له (عمر) فلما دخل عليه، قال: هَيْ يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب «عمر» حتى هم أن يوقع به، فقال له «الحر»: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) } وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها «عمر» حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله)- أ،هـ بنصه-، ولست أشك، بأن كل من تعقب أحداث الأمة وما يشاع عنها وما يفترى على قادتها ومفكريها وعلمائها ومصلحيها يرى نفسه أمام عشرات لايختلفون عن (عيينة بن حصن)، وان بعض المواقف تضطر المتأذي تمثل أمر الله لرسوله: { (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) } غير أن اتهامات البعض بلغت أفئدة خالية، وآذاناً صاغية، وتلقفها شرار الخلق من صهاينة ومتصهينين، في زمن التصعيد الحاد للحرب الباردة ضد قيم الأمة، وواجبنا حين يبدهنا الاتهام الجائر أن نمر باللغو مر الكرام في طريقنا إلى المتلقي، وعلى المتأذي ظلما وبهتاناً أن يسبق الأفاكين إلى الرأي العام، ليحمله على استيفاء شروط التلقي من تثبت وإثبات وبرهان، وليس أقل من ذلك. ومما يؤذي صاحب الحق المغموط أنه قد يتكلم بحضرة شر الدواب، وشرها عند الله الصم البكم الذين لايعقلون. ومغامرات المناوئين الكلامية ليست بأغرب من مغامراتهم العملية التي أرهقت الأمة وأذلتها، وشواهد المجازفات ماثلة للعيان، وعلى المتردد أن يتابع المكاشفات والحوارات والاعترافات والمواجهات القنواتية مع الضالعين في الشأن العربي، ممن زلت بهم الأقدام. على أن واقع الأمة خير شاهد: مجاعات ومطاردات وهوان واختلافات وضعف وتخلف واحتلال واستيطان. ولن نستعيد المغامرات العسكرية والتدخلات السافرة في الخصوصيات، وما آلت إليه، وما ألحقته بالإنسان العربي من أضرار فادحة، أسقطت هيبة الأمة، وشوهت سمعة العربي. وما يطلقه البعض من مفتريات وفرضيات تذكرنا بفرضيات الكاتب الفرنسي (تيري ميان) صاحب كتاب (الخديعة الكبرى) الذي حقق من وراء فرضياته مكاسب مادية لاتقدر، حيث اتهم أمريكا بعملية الحادي عشر من سبتمبر، وجعل (ابن لادن) عميلاً أمريكياً، ومع أن السياسة تعني: فن الممكن، واللعب السياسية تستوعب ما هو أكبر وأغرب، إلا أن الفرضيات تحتاج إلى أدنى حد من المعقولية، ولو قال بأن (ابن لادن) عميل غرد خارج السرب، لكان قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة. والإعلام العربي الذي يدفع بؤسه بإذكاء الضغائن ونبش الدفائن، لم يمتعض مرة واحدة من المسرعين ابتغاء الفتنة، وذلك لعمري مكمن الارتياب. واتهام الموقعين عن رب العالمين بصناعة الإرهاب وتصديره امتداد لما أثر عن خصوم الدعوة من نفعيين وطائفيين. والاختلاف مع (الحركة الإصلاحية) مشروع، والتوقف أو التحفظ ممكن، متى توخى المختصمون الحق، وتخلصوا من الافتراءات والاطلاقات العامة. والخلاف المعمم والتحامل الجائر قديمان قدم الدعوات، وما لقبه المصلحون كافة بعض ما لقيه الأنبياء والرسل، والدعوة الإصلاحية ووجهت من الإمارات الإقليمية والزعامات القبلية ومن علماء الطوائف المخالفة لمنهج السلف ومن العلماء المستنفعين من الأوضاع المتردية: ديناً ودنيا. وشطر من هذا التحامل رعاه صراع المصالح و(الاستراتيجيات) الدولية. وبالجملة فهو خلاف متعدد الأسباب، تذكيه المصالح الاستعمارية والخلافات المذهبية والتناحر الطائفي، هذا الركام التقطه البعض ليجعل منه خلافاً عقدياً، تخالف فيه الدعوة منهج السلف، وكان من المفترض ان يتحول إلى مرحلة تاريخية، يستحضر للموعظة والذكرى، ولقد اعتورت الدعوة والداعية أقلام المفكرين والطائفيين والمستشرقين، أنصفها من أنصفها، وتحامل عليها من تحامل، ولما تزل مجالاً للأخذ والرد، وأهلها أحق بالدفاع عنها وحجتهم الدامغة أن تراث الداعية لاينفرد بحكم في الفروع أو الأصول. وأذكر ذات مرة -وعلى سبيل المثال- أنني كنت في زيارة لصديق في بلد شقيق، وكنت قاب قوسين أو أدنى من لقاء مفتوح مع طلبة إحدى الجامعات العربية، فقال لي: -إياك إياك أن تذكر كلمة (وهابية) فهي الأبشع على مسامع البعض، وبخاصة الطائفيين منهم، قلت: -لقد جئت لتصحيح المفاهيم، ولم آت لتكرير المعلومات وتملق الجماهير. قال: خذها نصيحة من خبير. وشكرته، ومضيت. وما أن صعدت المنبر حتى قلت: -جئت إليكم من أرض المقدسات، ومهوى الأفئدة، من (أم القرى) مهبط الوحي، ومن (طيبة الطيبة) مرقد الجسد الطاهر، ومن سهول (نجد) مدرج الشعراء الجاهليين والإسلاميين، ومصدر الفصاحة، وعرين العروبة، ومسرح حملة الرسالة المحمدية البيضاء، الإقليم الذي شهد الفتن العمياء، والحروب الشرسة، والجفاف والتصحر والقبلية، حتى أنقذه الله (بالمحمدين) محمد بن سعود، ومحمد بن عبدالوهاب، حيث جددا أمر الدين، ووحدا شتات السياسة، وأردفت: أعرف أن بعضكم متحفظ على كلمة (وهابية) وهي كلمة أطلقها المناوئون، وصدقها الطيبون، فما سمى المصلح نفسه وهابياً، وما سماه أنصاره، وما حمل هم المذهبية، ولم يحدث في الدين ما لم يأذن به الله، وكل الذي فعله التصدي للمحدثات، وبخاصة ما يمس جناب التوحيد، فهو (حنبلي) في الفروع (سلفي) في الأصول، وسطي في التعامل، والبعض منكم يرى (الوهابية) مذهباً خامساً، فسقت عن أمر ربها، ولكن دعوتي أفاتحكم بدعوة الرسل: {تّعّالّوًا إلّى" كّلٌمّةُ سّوّاءُ} وبأمر الله {فّإن تّنّازّعًتٍمً فٌي شّيًءُ فّرٍدٍَوهٍ إلّى اللّهٌ وّالرَّسٍولٌ} رجل تعلم في نجد، وتربى فيها، ورحل في طلب العلم، وتزود من علماء الآفاق، وجادلهم، ووقف على جهل قومه، وفرقتهم، واستفحال الخرافة فيهم، فكان أن جاء إلى أوزاع من القبائل، وأشتات من الأقاليم، يغمرهم الجهل، وتضلهم الخرافات، وتحصدهم الفتن، وتقتلهم الأمراض، يأخذ القوي منهم الضعيف، لايجدون فرصة للعمل، ولا ساعة للتعلم، يعميهم التعصب، ويضلهم الهوى، يقتتلون على المراعي والموارد، ولا يتردد أحدهم من قتل صاحبه من أجل تمرة أو ثوب أو دابة، يدعون الأولياء، ويتوسلون بالرمم، يتطيرون بمن لقوا، وطائرهم معهم، ويعلقون التمائم، ويؤمنون بالخرافات، جاء إليهم بالكتاب وصحيح السنة، يحترم سلف الأمة، ويدين لعلمائها بالولاء والمحبة، يأخذ بمخرجات الاجتهاد والقياس والاجماع، ويقدم النص، ويستعين بقواعد الفقهاء، ويشيد بجهود علماء المذاهب في الفروع، يترحم على المحسنين، ويدعو للمسيئين، ولا يشهد لأحد من أهل القبلة بجنة ولا بنار، ولا يكفر أحداً منهم، ويكف عما بدر من الصحابة، يحبهم، ويترضى عنهم، والكفر عنده دركات، والإيمان درجات، والنفاق أنواع، وآيات الوعيد لها أحكامها، ومن ثم يمرها كما جاءت، والدعاء عنده مخ العبادة، استقى رؤيته الاصلاحية مما سلف من العلم والعلماء، وربط بين الدين والسياسة، بحيث لايرى الزعامات القبلية أو الإقليمية أو الطائفية، وقدوته (ابن تيمية) الذي لم يقطع بتكفير الثلاث والسبعين فرقة. وما ان فُتح بابُ الحوار، قال أحد الحضور: وماذا تقول بكلام العلماء والمفكرين عن الوهابي؟ قلت: -المصلح قدم إلى ما قدم، ولا نزكيه على الله، وليس بين أيدينا إلا ما ترك من كتب، وما خلفه من علماء، وما دون عنه من تاريخ، ومرد الخلاف إلى مصدري الدين: الكتاب والسنة، فهات ما قال، لا ما قيل عنه، واعرضه على الكتاب وصحيح السنة، فما وافقهما لزمك اتباعه، وما خالفهما لزمنا اطراحه، ومن أخطأ من علماء الدعوة أو العامة في التطبيق، فذلك لايضاف إلى المبدأ، وهو رد على صاحبه، وخوض الحروب ما كان إلا للدفاع عن النفس أو المبدأ، والمصلح لم يشهر سلاحه إلا للدفاع عن النفس، والواجب أن تؤخذ الحركة في سياقاتها، قال: -وهل ندع قول علمائنا، ونأخذ بما تقول؟ قلت: - خذ بما أمرت بالأخذ به، فما جئت لأدين أحداً، وإنما جئت لأنقذ مظلوماً، وأنت محاسب على ما تفعل، وتذكر: {يّوًمّ تّأًتٌي كٍلٍَ نّفًسُ تٍجّادٌلٍ عّن نَّفًسٌهّا} وقد ألزمت الحجة، وبلغتك الرسالة، فهل أنت مع الحق أم مع الرجال، قال: -أنا مع الحق. قلت: -وهل الحق مع الرجال أم الرجال مع الحق. قال: -الرجال مع الحق، وأردف يقول: - وهل معك شيء من كتب الوهابي. قلت: -الحكم على الشيء فرع من تصوره، فإما أن تتصوره، وإما أن تكف عنه، حتى يتبين لك الحق. قال: -وقول علمائي الذين أثق بهم، قلت: -وهموا كما وهمت، وأضلهم الخلط بين الديني والسياسي، ومضوا دون ان يتثبتوا، أو يبصرهم أحد، والله سيحاسبهم على نياتهم، وعلى مبلغهم من العلم، وإن كان من واجبهم التثبت، وصحة التصور، وسؤال أهل الذكر، ورحمة الله وسعت كل شيء، أما أنت فقد قامت عليك الحجة، قبل ان أسمعك الحق أنت معذور، أما وقد وضح الصواب فإن عليك ان تقبل الحق. إن الدعوة الاصلاحية التي قام بها، الشيخ المصلح (محمد بن عبدالوهاب) دعوة سلفية ترد إلى الله والرسول. وما نسب إليها من حروب أهلية ينظر إليها من خلال سياقاتها التاريخية وظروفها الوقتية، لقد طرد من مسقط رأسه، ولُوحق في مسارح دعوته، وتدفقت الجيوش من البر والبحر لإجهاض دعوته، هدمت الدرعية واقتيد قادتها إلى السجون والقتل والإقامة الجبرية، وما أحد نظر إلى عذاباتهم، وما نقموا منه إلا أنه يسعى لتنقية العقيدة ووحدة الكلمة، وقوة السلطان، والقضاء على الإقليميات والقبليات والطائفيات والخرافات. والدولة القائمة لا تنفرد بعبادة، ولا تختص بنظام، دولة إسلامية تحترم القوانين والحقوق والأنظمة وتجنح للسلم، وتتقبل معطيات الحضارة والمدنية، لاتعتدي، ولا تغدر، ولا تنقض عهداً، ولا تقتل مستأمنا ولا ذمياً، ولا تفجر طائرة ولا مبنى، ولا تخفر ذمة، عقدت مع الدول الكبرى عقوداً ومواثيق وصفقات تجارية، فكانت الأوفى، وما تعيشه الأمة من إرهاب إن هو إلا من فلول اللعب الكونية، وهي كغيرها مسرح للعمليات وليست وكراً للتفريخ. |
من يعتذر للإنسان العربي..!!
د. حسن بن فهد الهويمل عندما أنقم من الوسائل الاعلامية كافة، او من طائفة من المفكرين، او من احد من الادباء او النقاد الحداثويين او الحداثيين على سنن المفرقين بين صيغتي حداثي وحداثوي فإن محل النقمة لايمتد الى الامكانيات الذاتية ولا الى الايجابيات المخلوطة بالعمل السيىء، ولا تستدعي النقمة الاستغناء عن مستجدات العصر: الحضارية والمدنية، ولا تقتضي العودة بالأمة الى الخيمة والجمل والسيف والرمح، وليس شيء من الاعتراضات مؤشر ماضوية، كما يحلو للبعض ترويجه، ولا احسب عاقلاً رشيداً يقطع بمحض الخير او الشر، بحيث يعمم النقد، ويستبعد الفائدة، ويستغني عن المستجدات، والقائلون بمثل ذلك متحاملون يفقدون العدل والمصداقية، وما اكثرهم في مشاهدنا الثقافية والفكرية والادبية، ومع تجاوز السلب والايجاب فإن بعض تلك المحدثات اثمها اكبر من نفعها، مبئسةً: ولاية ونصيراً، وكل هذه الاشتات جزء مما نعايشه مع «قنوات الفضاء» و«مراكز المعلومات» و«وسائل الاعلام» ومن رابه الأمر فلينظر الى تداعي الترديات على كل المستويات. و«القنوات الفضائية» بوصفها ظاهرة توعوية سريعة التأثير، قوية الاثارة، ضالعة في التشكيك والتفريق والتلبيس والتدليس فإنها مع كل الامكانيات والدعم السخي وتهافت المنتفعين والموتورين والاضوائيين تمر بفراغات موضوعية تضطرها الى الافتعال والانفعال والتنقيب في الخبايا والزوايا بحثاً عن قضية وهمية يتلهَّى بها الشارع المتعطش لكل مثير، والرأي العام حين تتوتر اعصابه، وتحتقن مشاعره، وتشتد وطأة المشاكل والاحباطات عليه، يحتاج الى صمامات امان تقيه احتمالات الانفجار، ولقد ضحكنا قليلاً من مسرحيات ساخرة هادفة، وابهجنا تصورنا الساذج انها مبادرات بريئة لحرية الرأي، وبكينا كثيراً حين تبين لنا فيما بعد انها جرعات مهدئة، يعمد اليها الممسكون بأزمة الأمور، كي تخدر الألم، ولا تحسم الداء، وفوق هذا فإن الطرح الاعلامي لا يتهافت عليه المشاهدون الجوف إلا حين يوغل في النيل من أهل الحل والعقد، على حد: «إنَّ نصفَ الناسِ أعداءٌ لمن ولي السلطة هذا إن عدل» ولقد أطلَّت علينا بعض القنوات بأسلوب التباكي على وضع الانسان «العراقي» وكأنه المعذب الوحيد في المشهد السياسي العربي، وجاءت الدعاية للموضوع على طريقة التساؤل المنتفخ الاوداج: من يعتذر للشعب العراقي: العرب الذين سكتوا، أو واطؤوا النظام الصدَّامي، او تعتذر المعارضة التي جسَّرت الفجوات لقوات التحالف؟ وعلى كل التصورات فإن الشعب العراقي مع أنه ظالم ومظلوم في آن، لا ينقصه الاعتذار، وحاجته الملحة في الانقاذ مما ألم به جراء الاحتلال والفراغ الدستوري واليقظة البشعة للفتن النائمة، وما قتل الشعوب العربية إلا فيوض البلاغة والتعويل على الكلمة ونقيضها، فإذا أدين العرب، أو أدينت المعارضة، وحملوا أو حمل احدهما على الاعتذار المشهود، أيكون في ذلك إنهاء للمعاناة؟ أحسب اننا بمثل هذا نعيش مرحلة الظاهرة الصوتية. و«القنوات الفضائية» التي لاتجد ما تحمل الناس عليه من قول فصل تمارس الزعيق الأجوف، لا تزيد الأمة إلا ارتكاساً في وهدة الشقاء، فالجعجعة الكلامية التي تجيد صنعها، يقابلها حز الى العظم، ينتاب مفاصل الأمة العربية، فالصهاينة يحرقون الأرض، ويكسرون العظم، ويهتكون العرض، ويزهقون الأنفس البريئة، ويجتاحون المدن، ويغلون الأيدي، والأمة العربية تعايش الهرولة والتطبيع، وتختلط عندها مشاعر الحزن والغضب، وحراس الحرية والحقوق الانسانية كما يزعمون يواطئون المعتدي، بحيث يعدُّون المقاومة إرهاباً والإرهاب دفاعاً عن النفس، واللاعبون الضالعون في الخطيئات ينفضون أيديهم من لعبة، ويباشرون أخرى، وكل لعبة يظهر معها الفساد في البر والبحر، وتتجرع الشعوب العربية مراراتها، ومعاناة الأمة العربية لاتنتهي بانتهاء ويلات الشعب العراقي، الذي تبدت عذاباته يوم اقامة حكومته الجائرة، ويوم ضعنها، وماتبع ذلك من حلّ لجيشها، وإلغاءٍ لإعلامها، وتفرُّقِ الممسكين بأزمة الأمور بين قتيل وسجين وخائف يترقب في مخبئه، والنابشون للعفن السياسي يتهافتون على المعذرين من فلول النظام سعياً وراء التلميع والتمييع، وإذا لم يكن هناك موقف محدد من الأحداث والمحدثين تساقطت القيم كما ورق الخريف، وذلك ما نعايشه. إن معاناة «الشعب العراقي» قائمة ما اقامت دول التحالف التي تتصرف في الشأن العربي كله، وتسري في جسم الأمة كما الخدر: إما بالقوة حين تبدو للعيان، وهي تجوب الشوارع، وتمخر عباب البحر، وتخترق الأجواء، أو حين تلوِّح بها، أو حين تهدد بفرض العقوبات التي تقضي على الكرامة والحيوية، او حين تفرض على الحكومات المستضعفة ما لا قبل لها باحتماله، او حين تدفع بها الى المواجهة الاعلامية او العسكرية، وعلى كل الاحوال تضع عليها الاصر والاغلال، ولا تضعها عنها، وتحدد لكل شعب آليته العسكرية التي لاتخل بالتوازن، ولغته الاعلامية التي لاتكشف السوآت، ومداولاته الاقتصادية التي لاتؤثر على المكتسبات، وهي لاتقنع حتى يكون الشعب رجلها التي تمشي بها، ويداها التي تبطش بها، وإذا امرته اطاع، واذا سألته اجاب، وهو اذا نقل شكايته الى المؤسسات العالمية ومنظمات حقوق الانسان ماسمع في أروقتها الا «الفيتو» او الامتناع عن التصويت، او الوعيد والتهديد بقطع المعونات، وإذا لفظته المنظمات خارج اسوارها خاسئاً وهو حسير لم تسمع منه إلا الحمد والشكر والثناء والصبر والاحتساب، وكأنها «عزة» التي يدعو لها المتعذب: «هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ لعزة من أعراضنا ما استحلت» وإذا بدرت من ذلك المسكين «التيمي» هنةٌ كاللمم قامت الدنيا ولم تقعد واصبح كما عدو «ابن محمد»: الخائف في اليقظة والمنام، يخوف بالمقاطعة، ويرهب بالمطاردة، ويقتاد الى محكمة العدل الدولية ليحاسب على القطمير، ومجرمو الحرب انتقائيون، ذلك ان مفهوم الاجرام يتم وفق مواصفات خاصة، بحيث يكون «احمد ياسين» مجرماً يؤخذ بالنواصي والاقدام، فيما يكون «شارون» مسالماً يؤخذ بالاحضان، وفوق ذلك فإن من مجرمي الحرب من منح «جائزة نوبل للسلام»، والأمة العربية المقهورة تسمع، ولا تجد بداً من ان تصدق، وإن لم تفعل عرضت نفسها لويلات لا قبل لها باحتمالها، يزامن تلك الويلات استخفاف اعلامي مطاع، فالاعلام العربي عبر قنواته الفضائية وأنهر صحفه اليومية ومن خلال مواقعه المعلوماتية لا يفتأ يتهم أهله، ويطلب من أمته المغلوبة على امرها الاعتذار، وكأنها الاقدر على منع الاحتلال والحيلولة دون حل حكومة العراق، متناسياً اختلاف الزعامات العربية حول الاسلوب الأمثل لإخراج «العراق» من «الكويت»، غافلاً او متغافلاً عن سوءات الحضارة الغربية التي ينظر اليها وكأنها قطب الجلال والجمال والطهر والنقاء، ولو ان الاعلام العربي استبد ولو مرة واحدة وقال كلمة الحق، ولو ان الأمة في زمن المحنة هبت وقاطعت الحكومة العراقية، لما قضي الأمر بأيدٍ أجنبية، استمرأت فيما بعد ممارسة الوصاية والتدخل في أدق الخصوصيات. وإذا كانت تلك القنوات تُفيض على الانسان العربي بهدير كالرغاء وصهيل كالحمحمة، وتمارس جلد الذات المهترئة، وتستمرئ كشف العورات المؤذية، فأين هي من منظمات تسائله عن قتل امرئ في غابة، ولا تسأل غيره عن قتل شعب آمن، ومنظمات «حقوق الانسان» و«مجلس الأمن» و«هيئة الأمم» و«محكمة العدل» وسائر المؤسسات التي افرزتها ويلات الحرب العالمية الثانية، ما اريد بها وجه الحق، اذ نراها تطارد الانسان الثالثي عند كل صغيرة وكبيرة، واذا طرق ابوابها لتنصفه من اكلة لحوم البشر، كلَّ متنه عند ابوابها الموصدة، واذا نكص على عقبيه، لحقت به لتقضي امره، وتتصرف في شأنه، مشرعنة للأقواء تصريف شؤونه، غير عابئة بكرامته، ولا معتبرة لحريته، هذه المنظمات تريد للعالم الثالث ان يعيش متذيلاً لغيره، لا يُعدُّ قوة ترهب، ولا يخطط لزراعة ولا لصناعة تغنيان، وكل اهتمامها منصب على السلخ والمسخ والتمييع والتلميع والإلغاء، فهي تطالب بإلغاء التعددية «الأيديولوجية» والحضارية والعمل على التجنيس بالتبعية لا بالاختيار، وكيف تتحقق حرية الاديان وارادة الشعوب، ويعم الامان دونما ايمان صادق، يجسده الإقرار والقول والعمل و: «إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا» والإسلام حضارة، والمسلم له حقوق، وعليه واجبات، ومن حقه امتثال مقتضيات عقيدته، وعلى الاقوياء احترام التعددية «الايديولوجية»، غير ان المنظمات الموجهة ب«الريموت» تسلبه الحقوق، وترهقه بالالتزامات، ولا تتركه وشأنه، والإعلام العربي كما «براقش» مهمته ان يجني على أهله، والدين أي دين، والحزب أي حزب، والمذهب أي مذهب التزام بالمبادئ والمناهج، واحترام للثوابت، وما لا يقوم الاسلام إلا به فهو عراه التي لا يجوز نقضها، ومن حق الشعوب ان تُلزم نفسها بما تفرضه «الأيديولوجية» المختارة، ومن واجب المنظمات ودول الاستكبار احترام مشاعر الشعوب واعرافها، فهل تحملت تلك الحضارة الغربية مسؤولياتها الانسانية وعدلت بين الظماء، واتقت الارهاب بمنع اسبابه؟ وما اسبابه إلا الكبت واللعب الكونية. إن هناك صراعاً أزلياً بين الشرق والغرب، صراعاً «أيديولوجياً» وصراعاً «حضارياً» وصراعاً «استراتيجياً»، ومراوحة بين الحرب الباردة والساخنة، ومع انه بالامكان اعتزال هذه الفتن، واغلاق النوافذ لصد الاعاصير الا ان عالمنا يهرع اليها سواء دعي او لم يدع، وسواء كان من مصلحته ان يخوضها او لم يكن، ولأن هذا العالم الغريب يوظف كل امكانياته للحروب الكلامية والعسكرية بالأصالة او بالإنابة فان المتصارعين يتخذون من انسانه دروعاً بشرية ومن أرضه ساحة قتال ومن مقترفاته مشروعية تدخل، والقارئ للتاريخ الحديث يقف على محطات لاينفع فيها التمويه ولا التبرير، وفي ظل هذه الترديات لاتحسم الاشكاليات العصية بالاعتذار للإنسان العراقي، وإن كان لابد من اعتذار فإنه حق للإنسان العربي، فمن يعتذر له؟: الغرب بكبريائه وغطرسته وتحريشه وايقاظه للفتن او صياغتها. او الشرق برعونته ومغامراته وتخاذله. او حكام العالم العربي بجورهم وظلمهم او المفكرون العرب بكذبهم وتضليلهم بل اكاد اقول: أيعتذر الانسان العربي من ذاته لذاته، فهو الذي ظلم نفسه، وظلم ذوي قرباه، فمن نفذ مظالم الحاكم العراقي، ومن الذي سام العراقيين سوء العذاب، اليسوا من ابناء جلدتهم، والتاريخ السياسي الحديث يؤكد ان المتأذي من المجازفات والمغامرات انما هو الانسان العربي بما فيه الانسان العراقي، إذ لم يكن الانسان العراقي وحده من مسه الضر، وغفل عنه من تجمعه بهم العقيدة واللغة والتاريخ والأرض، والمواطن العراقي يحتمل ما يحتمله الانسان العربي، فهو الذي صنع الصنم، وهو الذي خاض معه كل الحروب، وهو الذي هب معه لاجتياح «الكويت»، وهو الذي سام ابن جلدته سوء العذاب، وهو الذي اقام الحجة على نفسه، وإن كانت حجة واهية، اتخذها القطب الواحد ذريعة للاحتلال العسكري، ودول التحالف الذين اعلنوا الاحتلال، ليستغلوا مقتضياته، لم يستأذنوا المعارضة العراقية، ولم يستفتوا الانسان العربي، ولم يكتسبوا الشرعية من المنظمات، لقد كذبوا على شعوبهم، واضلوهم بدعوى القضاء على سلاح الدمار، وتحرير الشعوب، وإقامة العدل والحرية، وهم حين اقترفوا ماهم مقترفون احسوا بخطأ التصرف، ولكنهم وصلوا بسياستهم الى مرحلة اللاعودة. لقد جاء الإيذاء من كل جانب، لفحات تؤزها الأحقاد والضغائن، ويطال لهبها القاصي والداني والبريء والمذنب، فكان الايذاء حروباً أهلية وحدودية، وكان إفكا يشكك بالعقائد والأفكار والنوايا، وكان احلافا تضر بالمصالح، وتعرض الأمن والاستقرار العربي للاضطراب، وكان تنفيذاً للعب: إقليمية وكونية، وكان كبتا للحريات، ومصادرة للحقوق، ومغامرات طائشة، جلبت الفقر والفاقة، وعوقت الخطط، وأضاعت المقدرات، وتشتت الكفاءات البشرية ومقدرات الأمة في آفاق المعمورة، وكان غلوا في الدين ووقاحة في العلمانية، تؤزها أيد خفية، وكان جهادا حين كان في السرب وارهاباً حين غرد خارجه، وكان من قبل ومن بعد اعلاماً مضللاً يفرق ولا يجمع، ويستعدي ولا يصد، ويشيع قالة السوء ولا يعف، ومع كل ما هو قائم فإن في الكأس بقية، وباب الأمل مفتوح، فهل يعقب الاعتذار تحرف راشد، يستبينه أهل الحل والعقد قبل ضحى الغد؟ ارجو ذلك. |
قراءة الأحداث وترتيب الحلول عليها
د.حسن بن فهد الهويمل المفكر الفرنسي (تيري ميسان) في كتابه (الخدعة الكبرى) قال: إن أمريكا هي التي صنعت اللعبة الكبرى، وهدّمت برجيها، وضربت (بنتاجونها)، هذا لون من القراءات والتصورات للأحداث الجسام، والمشتغلون بتفكيك الوقوعات السياسية لايستغربون مثل هذه القراءة غير المبررة، وصناع القرارات المصيرية قد يرون ما يراه مثل أولئك القراء المغربون، فيكون الفعل الشاذ شذوذ الهوج القرائي وبالقراءة والفعل الشاذين تقع الكوارث. ولا مراء في أن أي ممارسة لا تستند إلى مشروعية ولا إلى معقولية تكون تربة خصبة لتناسل الآراء والتصورات الشاذة. والحروب التأديبية أو الوقائية أو الاستباقية والتدخلات القسرية في شؤون الغير محفزات لممارسة القول الخرافي، وتجليات القطب الواحد تتسع للقول ونقيضه، لأنه تلون حرباوي تحكمه المصالح، ولا تصرفه المبادئ. والضربات المفصلية مظنة الفرضيات الغريبة، والحديث المتناقض عن الأحداث الكبرى يظل في نماء وتشعب، حتى يخرج من الواقعية إلى الخرافة ومنها إلى الأسطورة، ويكون الفعل المترتب عليه اسطورياً. وتداعيات الحادي عشر من سبتمبر بدأت تتجه صوب المستحيل وغير الممكن، ومثل هذه القراءات التخرصية عن تلك الأحداث قالها غربيون، ولو قالها غيرهم لم نشر إليها، ومن حقنا أن تكون لنا قراءتنا مثلما لغيرنا قراءته. والإشكالية ليست في تعدد القراءات، وإنما هي في ترتيب الحلول على تناقضاتها، وليس من قال: إن أمريكا هي التي هدمت أبراجها بأغرب ممن قال: إن المناهج الدراسية والحركات الإصلاحية في المملكة هي صانعة الإرهاب، ولو أذعنت المملكة لمثل هذه القراءات وغيرت مناهجها وأدانت دعوتها الإصلاحية لكانت الطامة الكبرى. وضرب أمريكا في الصميم مظنة التخرصات، ولاسيما أن الفاعل الحقيقي لما يزل في ظهر الغيب، وحين لايكون ماثلا للعيان يكون من حقنا ان نفكر، وأن نقدر وفق إرادتنا، ولو على سبيل الرياضة الفكرية، وقد نخطئ من حيث التفكير والتقدير، وإذ تكون السياسة عصية الانقياد فإن كل شيء فيها قابل للقراءة عبر كل المستويات، وكل مخرجاتها قابلة للتأويل، والقواصم في تحفيز القراءة الغرائبية للفعل المصيري، والعواصم في السبر والجس والاستواء على أرضية الحقائق. وكل إنسان مغرم بالتفكير والتساؤل، ومن ثم قيل: - (فكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله). وإذا ارتاب الناس بالمغيبات، وأباحوا لأنفسهم الخوض في كل شيء، فهم مع عالم الشهادة أشد ارتياباً وتساؤلاً. وقد تستدرج الرغبة المستخفين لقومهم فتتجاوز بهم المجال الممكن إلى غير الممكن، ومن ثم تكون الهواجس إشاعات، وتتحول الإشاعات إلى رواسب فكرية، ينعكس أثرها على تصرفات الآخرين، و(حرية التفكير) تختلف عن (حرية التعبير)، فالإسلام منح الإنسان حرية التفكير المطلقة، ولكنه نصحه بعدم القفو لما ليس له به علم، ولما لا طائل تحته من فضول الأشياء، فيما قيده في مجال التعبير {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ} {إلّيًهٌ يّصًعّدٍ الكّلٌمٍ الطَّيٌَبٍ} {وّقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا} {لا يٍحٌبٍَ اللّهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ القّوًلٌ} {وّهٍدٍوا إلّى الطّيٌَبٌ مٌنّ القّوًلٌ}. والمتابع لفيوض القنوات، ومستقر المعلومات، وما خط في الصحف والمجلات يصاب بالذهول والارتباك والارتياب، إذ يسمع أو يقرأ أو يقف على تصورات في غاية الشذوذ، وبالتالي تربكه أفعال في غاية الغرابة، والذين يأتون بالإفك، والذين يتقبلونه بقبول حسن، والذين يرتبون أفعالهم على ضوئه، يقترفون الأخطاء الفادحة، ويحملون الأبرياء جرائر لا قبل لهم باحتمالها، وما العمليات الانتحارية والإرهاب المنظم إلا ناتج قراءة خاطئة أضلت من أضلت، حتى جاد المنتحر بأغلى ما يملك، لتفقد أمته أغلى ما تملك، وهو الأمن والاستقرار. وحين تكون الآراء والتصورات وقراءة الأحداث شاذة أو متناقضة، يصبح المتابع فريسة للأوهام والتخرصات، وحين لايستقر الإنسان على رأي حصيف ممحص يكون المجال مهيأ للمفسدين والانتهازيين وأصحاب الأهواء، بحيث يستزلون المترددين، فلا يجدون بدا من طاعتهم والوقوع في حبائلهم. وأخطر المشاكل مشكلة المفاهيم واختلافاتهم والتأويلات وتعددها، وما احترب الناس إلا حين اختلفت مفاهيمهم، وما نسلت الملل والنحل إلا من عباءة التلقي، والمفكرون يتصدون للأفكار ومصادرها، ويستخفون بآلية التلقي والتأويل، وإشكالية الحضارات في تعدد (نظريات المعرفة) و(نظريات التلقي) و(آليات التأويل). والحياة تتناسل فيها المشاكل بمثل ما تتناسل المقومات، والصراع أكسير الحياة، والوفاق حلم الطيباويين، والإشكالية ليست في الاختلافات المتنامية، إذ قيامها حتم، ولكنها في أسلوب المواجهة وطرق الحل. والذين يريدون الحياة ملائكية خالية من أي منغص يضربون في فجاج التيه. والدول الكبرى ذات الأيدي الطويلة والقوة الرادعة حين تتخطى القول إلى الفعل، ثم تمنى بإخفاق ذريع لا يحال ذلك إلى ضعف قوتها، وإنما يحال إلى خطأ قراءتها للأحداث وترتيب المواجهة على ضوء مستخلصات القراءة، وأمريكا لم تهزم عسكرياتً في (كوريا) ولا في (فيتنام) ولا في (الصومال) وإنما أخطأت التقدير والتوقيت، بسبب خطأ القراءة، وأحسبها وقعت في الخطأ ذاته في (أفغانستان) و(العراق) وفي تصدرها لرعاية السلام بين العرب واسرائيل، وفي فهمها الخاطئ لمصادر الإرهاب، والمنطقة مقبلة على شر مستطير ما لم يعد الجميع قراءة الأحداث والمصائر بعقولهم لا بعواطفهم. إن الحصافة ان تضع الدول والجماعات والأفراد في حساباتهم تكاثر المشاكل وتناميها، وتعدد القراءات وتناقضها، لكيلا يكون المستضعفون دولة بين الأقوياء، فكل من توقع شيئاً هيأ نفسه لمواجهته، وحين يكون الاستعداد وتعدد خيارات المواجهة، تكون مؤشرات النجاة أكثر، واحتمالات التغلب أقوى، والذين لايمتلكون بوابات توقف العابرين وتساؤلهم عن الرؤى والتصورات تفيض أوعيتهم بالخداع والتضليل. لقد سمعنا من المؤسسات الغربية تباكياً على (حقوق الإنسان)، ومجت أسماعنا ما يتداولونه من لغط حول انتهاكات الحقوق من المؤسسات السياسية، وحسناً ما يفعلون. فكم من حكومات ظالمة تحتاج إلى من يعينها على نفسها، وكم من فئات مضطهدة لايرفع عنها الظلم إلا التصدي للسلطات الظالمة وكشف سوءاتها، وجميل موقف الدول الكبرى لو أنها لم تكن انتقائية ولا مصلحية، ولو أنهم قرؤوا الواقع بعيون ثاقبة ونوايا حسنة ومقاصد سليمة. غير أنهم حين يريدون استغلال أي نظام يدعون تحرقهم على (دستوريته) و(برلمانيته) وتداولية السلطة فيه، وحين يكون قوياً عادلاً أو دستورياً برلمانياً، ثم لايكون في ركابهم، لايمانعون من افتراء الكذب، والعمل على اسقاطه بأي حجة، ولا يترددون في المبادرة إلى طرح ملفات نائمة: ملفات (حقوق الإنسان)، و(الأقليات) العرقية والدينية، وملفات (الحدود)، و(المعارضة)، و(قضايا المرأة) والسكان والأرض والاقتصاد والتلوث وسقف الانتاج والسعر، وسائر متطلبات العولمة المتأمركة. وحين لايجدون ملفات حقيقة بالفتح يخلقون من الحبة قبة، أو يفتعلون قضايا لم تكن معروفة من قبل. والشارع العربي المحتقن يصيخ لكل قول، ويصدق كل ادعاء، فهو من السماعين للاتهامات والناقلين للإشاعات، وحكومات العالم الثالث مظنة أي اتهام، فهي كالأجسام القابلة للجراثيم و(الفيروسات). وإذ لا ننكر المظالم ولا (الدكتاتوريات) ولا المقابر الجماعية ولا السجون والتشريد وكبت الحريات فإننا نود أن يكون الغرب صادقاً في إثارتها، موثقاً للتجاوزات، منصفاً في المواجهة. بحيث لا يتستر على مظالم، فيما يشيع أخرى لمجرد التخويف أو التركيع، وبحيث لايدس أنفه في قضايا شعب آمن متصالح مع حكومته. وكيف يستقيم أمر العالم والمتكبرون والمتجبرون يصنعون (الأيديولوجيات) كما يصنعون السيارات؟ ويريدون أن يكون تصدير الفكر والآلة بمستوى واحد وقبول واحد. لقد شهد العالم فظائع (إسرائيل) ولم نر ولم نسمع إلا (الفيتو) عند إثارة المظالم وإلا التسليح والمساعدات والتأييد عند اتخاذ القرارات التي تحق الباطل وتبطل الحق. وفي ظل التطاول والتعدي فكرت بعض دول المنطقة في التزود من قوة الردع غير التقليدية، فما كان من الغرب المحكم قبضته إلا أن عرقل مشروعها، بدعوى حفظ التوازن، ومع أننا ضد التسليح النووي إلا أن الغرب يغض الطرف عمن يريد تسلحه، ويضيق الحصار على من لايريد، وقد مارس ضرب المفاعلات النووية، حتى وان كانت للأغراض السلمية. والنخب العربية مع وضوح الانحياز وتجلي التجني يختلفون فيما بينهم، والاختلاف حول المعلوم من السياسة بالضرورة مؤشر تخلف أو مواطأة، ولو ضربنا المثل بظواهر في منتهى الحساسية لتبدت لنا ثغرات في الفكر النخبوي الذي لايحسن القراءة، ولا يتصرف حين يُهدى إلى الحق. فالإرهاب العشوائي الدموي يمارس من قبل الصهيونية على أرض فلسطين، ويمارس في مواقع عدة من العالم، وقراءة الممارستين تختلفان حدة ومواجهة، وما من قارئ رشيد يربط بينهما، بحيث تكون ردود الفعل متجانسة، وما كانت (إسرائيل) في وضع من العلاقات الحميمة مثلما هي عليه الآن، فالاعتراف والتطبيع والتبادل التجاري العربي الإسرائيلي يتقدم خطوات إلى الأمام، فيما تتعقد القضية الفلسطينية، فهل هذا ناتج قراءة مضللة أم أنه مواطأة متعمدة؟. ومع الانتهاكات البشعة فإننا لا نسمع أي كلمة منصفة بل نجد من يبرر فعل اليهود بالمواطنين الفلسطينيين العزل، ويحيل الإرهاب الإسرائيلي إلى الدفاع عن النفس، ويحيل المقاومة الفلسطينية إلى الإرهاب، والناس في حيرة من أمرهم. فأمريكا حين تتزعم العالم ثم تكيل بعدة مكاييل تفقد مصداقيتها واحترامها والتعاون معها، ومع كرهنا لكل عمل غير إنساني نود من دولة قوية كأمريكا ان تكون عادلة منصفة، يذعن لها الجميع رغبة لا رهبة. والرغبة لا تتحق إلا بالعدل والانصاف والمساواة، والرهبة تفرضها قوة السلاح، ولكن ثمن الإرهاب باهظ التكاليف، وزمنه قصير. فالظلم ظلمات، والله أقسم على نصر المظلوم ولو بعد حين، والدولة الظالمة مصيرها للدمار، مسلمة كانت أو كافرة، لأن الظالم مؤسف لله، والله حين يأسف ينتقم، قال تعالى: {فّلّمَّا آسّفٍونّا \نتّقّمًنّا مٌنًهٍمً} والتخطي بالحلول من (الدبلوماسية) الفاضلة إلى القوة القهرية المفضولة بوادر ظلم، تعرض الظالم لعقاب ممن حرم الظلم على نفسه. وليس ببعيد أن تكون المبادرة العسكرية ناتج قراءة خاطئة أو مخادعة. ودول التحالف حين وقعت في المستنقع، بدأ الضالعون في القراءات الخاطئة يحيلون إلى ما بلغهم من الاستخبارات من تقارير حرفت فيها الحقائق، فوقع القارئ في فخاخها، وما انتحار (كيلي) واستدعاء الأطراف الضالعين للإدلاء بشهاداتهم إلا مؤشر تقدير وتوقيت خاطئين، وكل حدث يرد إلى قراءته. والحل العسكري الذي بادر إليه الأقوياء ما كان له أن يسبق الحلول السلمية، فهو حين لايحقق النتائج المطلوبة يبدأ العد التنازلي لمستخدمه، وأمريكا اختارت الحل العسكري على سائر الحلول، وهي إذ تركن إلى قوتها العسكرية، وتفرض القرارات بقوة السلاح يتحول العالم إلى عدو متربص، قد يذعن لهدير المدافع وقصف الراجمات، ولكنه سينسل من تحت غبار الهدميات، كما نسل (اليابانيون) من تحت الإشعاع النووي، واختاروا الحرب الاقتصادية فهزم الغرب كله. واهتياج أمريكا وإقدامها على مغامرات محفوفة بالمخاطر قد تكون مدفوعة بالقراءة الخاطئة أو بالكتابة المحرفة، وكم من زعامات تشظت بسبب الخطأ في قراءة الأحداث أو القراءة عنها. والنكسات الموجعة التي يتعرض لها العالم العربي والإسلامي سيكون لها أثرها الايجابي، متى أحسن المتضررون تغيير ما في أنفسهم، ولا أستبعد صحوة تجعل الإنسان العربي يفكر في مصيره وموقعه. وحين تمل أمريكا من حرق الأرض وكسر الظهر، تعود لتقويم النتائج والتفكير في الحلول السلمية، وساعتها يكون الإنسان العربي قد جرب القتل العشوائي، وقدم الضحايا المجانيين، وتحول من مسالم إلى مقاتل، ومن مصالح إلى منابذ، وأدرك أنه بحاجة إلى ان يبدأ التفكير الجاد لإقامة أنظمة دستورية ومجالس تشريعية وعمل جاد لمواجهة الحياة بكل ما تغص به من مشاكل. إن الأزمات تخلق الحلول، وما من أزمة خانقة إلا وتؤدي إلى فضاءات رحبة. المهم ان يعي الإنسان العربي أنه رهين عمله وتفكيره فليكن جاداً وحاداً، جاداً في العمل حاداً في التفكير. ومتى علم الله منه حسن النوايا وسلامة المقاصد والأوبة النصوح سهل له طريق الرشاد. {وّتٌلًكّ الأّيَّامٍ نٍدّاوٌلٍهّا بّيًنّ النّاسٌ}. وقانون التداول والتدافع نافذ، ولا عمارة للكون إلا بالصراع فهو أكسير الحياة، ومتى أمن الإنسان وشبع استرخى، وإذا خاف وجاع فكر في طريق الأمن وطريق الشبع، والحاجة أم الاختراع. |
بغداد يا قلعة الصمود..!
د. حسن بن فهد الهويمل يبدو لي أنه لم يعد بمقدور المتبلدين إحساساً احتمال ما يرونه من مناظر مفجعة، وما يستمعون إليه من أخبار مزعجة، تجتاح مشاعرهم في الغدو والآصال عن عذابات (بغداد الرشيد)، بكل ما تنطوي عليه من طارف وتليد. ولا أحسب رجلاً فيه ذرة من إنسانية لا يتمعر وجهه مما يعانيه الإنسان العربي المسلم في بلاد الرافدين، مرقد الحضارات الشرقية والإسلامية، إلا إذا كان ك(المتنبي) في تساؤله المتألم: (أصخرة أنا ما لي لا تحركني تلك المدام ولا هذي الأغاريد؟) وليس على أرض العروبة إلا العلقم والفحيح والويل والثبور، وما أكثر الذين لا تحركهم تأوهات المتعذبين، ولا يعتصر قلوبهم أنين المدنفين، ولقد أطلقها (حكيم المعرة): (غير مجدٍ في ملَّتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي) وبئست حضارة لا ترحم ولا تلين، ولا تقتضي نصوصها العدل والإنصاف والرأفة والحرية، وبئست أمة تقول آمنَّا، وهي لم تُسْلِم فضلاً عن الإيمان، والدين المعاملة والحب المتبادل والاهتمام بأمر المسلمين. ومن ذا الذي لا يمضه الألم، ولا تذهب نفسه حسرات على ما يعانيه شعب عربي، مسه الضر، وأضنته المصائب، وتجرع مرارات الذل وعذابات الفقر ومنغصات الخوف، على امتداد الحكومات الثورية، وعلى يد قوات الاحتلال الأجنبي، الذي أحدث فراغاً دستورياً، تململت من تحته الخلايا النائمة، وتمكنت كل الفئات والطوائف والأعراق المكبوتة من أن تتنفس من تحت الماء، ممارسة أعنف المواجهات الدموية لتصفية الثارات واقتسام الغنائم، حتى لقد أصبح الإنسان العراقي شَويَّةً على سفُّود حكم جائر طاوله عشرات السنين، وفراغ دستوري مفزع، ومحتل يحسب كل صيحة عليه. والقارعة أن هذه الأوضاع تشكل خطورة محلية وإقليمية، وتهدد أنظمة وكيانات جُرَّت بالسلاسل إلى أتون الفتنة. فالحكم الثوري المتسلط انتزع الحرية، والمحتل المعتدي انتزع الأمن، فكان هناك أمن الخوف، ثم أعقبه خوف الفوضى. والشعب العراقي الذي فقد إمكانياته المادية وطاقاته البشرية ومقوماته الحضارية طاولته محن الحروب الشرسة عشرات السنين العجاف التي أكلت البقرات السمان والسنبلات الخضر، حتى لقد ذهبت معها الأنفس والأموال والثمرات، واستفحل الجوع والخوف والمرض، وانتهكت الأعراض، وديست الكرامات، ولمَّا تلح للمتفائلين ولا للمتشائمين بوارق أمل، فكل شيء ينحدر إلى الهاوية، والناس من حوله في ذهول وارتباك وعجز. فالثورات في العراق دموية عنيفة، تعمدت التصفية الجسدية، واستمرأت الحروب الحدودية والطائفية، واختارت القبضة القبلية والحزبية الإكراهية، وتعمدت نسف جسور التواصل مع الأقارب والأباعد. تحت هذه الظروف الضاغطة حاولتُ الهروب من الواقع المرير إلى الماضي المجيد، أملاً في بلسمة الجراح، فكان أن عدت إلى (مكتبتي)، وعنَّ لي أن أقرأ (بغداد) الحضارة والتاريخ، (بغداد) الأمجاد، (بغداد) الخلفاء والقادة والعلماء والشعراء والمفكرين، (بغداد) الحضارة الإسلامية والإنسانية. (بغداد) التراث والآثار، (بغداد) المكتبات والمتاحف، (بغداد الرشيد) الذي نظر إلى سحابة لم تمطر، فقال لها: (أمطري أنَّا شئت فإن خراجك عائد إلي)، وأربط بين بغداد الأمس المبهجة وبغداد اليوم المفجعة، وأسأل عمن اقترف هذه الجرائم المتنامية، وأعاد شبح الضياع. لقد تبدت لي في أعماق النفس جراحات (الفردوس المفقود). وما (قرطبة) و(طليطلة) و(غرناطة) من (بغداد) ببعيدة. وما حضارة (الأندلس) بأقل من (حضارة الرافدين) وما الظروف التي عاشتها (دول الطوائف) من تفكك وتنازع وانهزام فكري واستعداء للأعداء وضعف عسكري وديني واقتصادي وعصبية وإقليمية وطائفية وتفلت على الشرعية ببعيدة عما تعيشه دول المنطقة في راهنها الأليم. ولما كانت نقطة الضعف القاصمة في المثقف العربي أنه لا يقرأ الحضارة العربية إلا من خلال التاريخ السياسي، أو من خلال التجريح الاستشراقي، كان لا بد أن ننبه إلى ما أهمله القارئ العربي، ولم يهمله التاريخ، ذلكم هو (التاريخ الإسلامي) ولا سيما في ظل الظروف القائمة، التي تحمِّلُ الإسلام مقترفات المسلمين، وتُوجِّه بالحلول العلمانية، وكم هو الفرق بين تاريخ بغداد السياسي وتاريخه الإسلامي، وإن كنَّا لا نجهل «قرن الشيطان» ومطابخ الفتن وجدل (المغيرة) مع (عمر) و(الحجاج) و(البرامكة) والمحن والإحن والتاريخ الدموي. ومع كل ذلك كنت أقول: إن هناك تاريخاً للإسلام وتاريخاً للمسلمين، وأن هناك فجوة بين التاريخين، وحضور تاريخ المسلمين يكاد ينفي حضور التاريخ الإسلامي. فالذين يقرؤون التاريخ السياسي وما أفرزه من ممارسات مناقضة لمقتضيات الفكر السياسي الإسلامي ومن صراع على السلطة، وظلم وجور واستبداد واستباق إلى الفتنة يصابون بالإحباط والشك والارتياب، وقد تبلغ بهم الحماقة ذروتها فيحمِّلون الفكر السياسي الإسلامي كل الجرائر، ولا يجدون ملجأ إلا أن يسايروا المعولين على تجارب الغرب العلمانية الشمولية، بحيث لا يفرقون بين محاسبة المبادئ ومراجعة الإجراءات، ذلك أن الفكر السياسي الإسلامي يستوعب محاسن السياسات السابقة منها واللاحقة، ولو أخذ به الساسة المسلمون كما أراده المشرع لكان القدوة لكل نظام سياسي، وقد أنكر الله على من استشرف لحكم الجاهلية {أّفّحٍكًمّالجّاهٌلٌيَّةٌ يّبًغٍونّ}. والذين يتجاوزون أوضار السياسة، ويصلون حبالهم بالتاريخ الحضاري الإسلامي، يشعرون بمرارة الضياع. وقد تنبه البعض لهذه الحلقة المفقودة، وحاول أن يكتب فيها بعض ما يجب، نجد ذلك عند المؤرخ للعقلية العربية (أحمد أمين) في سلسلته الحضارية (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام) وهي دراسة حضارية لها وعليها، وميزتها أنها ارتبطت بالإجراء، ولم ترتبط بالنظرية، وانطلقت من التاريخ، ولم تنطلق من المساءلة والنقد، كما فعل (الجابري) في مشروعه الأكثر حضوراً وإثارة عن (نقد العقل العربي). ودراسة (أمين) حاولت أن تعيد قراءة التاريخ الحضاري بعيون العقلية الاعتزالية. وأكاد أجزم بأن أهم مرجعية لتأريخ الإسلام إنما هو: (تاريخ بغداد) و(تاريخ دمشق) و(سير أعلام النبلاء) وسائر كتب الطبقات والمناقب، ذلك أنها ترصد تاريخ صناع الحضارة والعلم، فيما يرصد التاريخ السياسي الحوادث المؤلمة والحروب الطاحنة والصراع على السلطة، وبين التاريخين يأتي (تاريخ التمدن الإسلامي) الذي أراد له المغرضون الحاقدون أن ينطلق من القصور وما فيها من الغلمان والجواري، ومن الحانات وما فيها من القاذورات، فعل ذلك (جرجي زيدان). وإذ غفل التاريخ السياسي عن المعطيات الحضارية، فقد غفل المؤرخون للتمدن الإسلامي عن المدنيات وزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وهكذا ضاعت الأمجاد بين الرغبات والشهوات. وكنت كلما عشت حالة من الكآبة واليأس والإحباط عدت إلى تاريخ الرجال، أجيل النظر فيما تركوه من حضارة فرطنا فيها، وتمثلها سراق الحضارات، وما فرطوا في شيء مما هو مناسب لمادياتهم، بحيث نقلوها مادة تتمثل بملايين المخطوطات وقطع التراث، وكتابة تقوم بتحقيق المخطوطات وترجمة المعارف، وامتثالاً يتجسد بالممارسات الدستورية والتشريعية والشورية، ولهذا قال بعض المفكرين:- رأيت في الغرب إسلاماً، ولم أر مسلمين، ورأيت في الشرق مسلمين ولم أر إسلاماً. وهي مقولة لها دلالتها، فالعدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص وإعداد القوة العلمية والاقتصادية والعسكرية من المقاصد الإسلامية التي تمثلها الغرب، وأهملها المسلمون، منشغلين بالتنازع على السلطة أو مُستَغلِّين بالغزو والتآمر. و(تاريخ بغداد) الذي ركضت إليه برجلي بحثاً عن مغتسل بارد وشراب وثَّق حضارة العالم الإسلامي، وترجم للخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والأشراف من علية الناس وسائر طبقات حملة العلم من النحاة والصرفيين والبيانيين واللغويين والقراء والمفسرين والمحدثين والمتكلمين من سائر النحل والملل والمنطقيين والأصوليين والمجتهدين والفقهاء والقضاة والفرضيين من سائر المذاهب والزهاد والنساك والمتصوفة والقصاص والوعاظ والرياضيين الحسَّاب والمهندسين والفلكيين والمنجمين والموسيقيين والأطباء والصيادلة والجراحين والكتّاب والخطاطين والمتأدبين والإخباريين والنسابين والمؤرخين والعروضيين والشعراء والمغنيين والرماة والفرسان وحذاق الصناع. كل هؤلاء يذكرهم، ويذكر مؤلفاتهم، وكل هؤلاء عاشوا في بغداد أو مروا بها، وها هي اليوم تخوض مستنقعات الفتن، ويكثر فيها الهرج والمرج، ويهددها التقسيم الطائفي والعرقي، ولا من ولي ولا نصير يواسي أو يأسو أو يتوجع. و(البغدادي) الذي أتى على كل هذه المعارف عاش في القرن الخامس الهجري، فكم من العلماء والمفكرين ممن جاؤوا من بعده، وجسدوا بعلمهم وثقافتهم وحذقهم جانباً من التاريخ الإسلامي. هذه الفيوض وسعتها أرض الرافدين، ولما يزل العلماء والمفكرون والشعراء والأبطال يداس رفاتهم، وكأن المعري أدرك هذا ليقول:- (خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد)، وها هم علماء العراق وخبراؤه يتخطفون من حوله، كما تنتهب معالم الحضارة ونوادر الآثار، وكأن المحتل موكل بطمس الذاكرة والتاريخ معاً. والخطيب البغدادي كما في (الوفيات 92/1، وتهذيب ابن عساكر 398/1، وطبقات السبكي 12/3، والمنتظم 265/8، والمعجم 13/4، وتذكرة الحفاظ 1135، والعبر 253/3، والشذرات 311/3) من الحفاظ المتقنين المتبحرين، وله إلى جانب التاريخ مائة مصنف، برع في الفقه والحديث والتاريخ، ولد سنة 392 وتوفي سنة 463هـ. لقد رصد جانباً من حضارة العالم الإسلامي الذي يعده المستكبرون من الشعوب المتخلفة، وما حل به وحال بينه وبين مواقعه الطبيعية إلا الاعتداء والمواطأة، اعتداء الدول الكبرى التي نظرت إليه كمارد في قمقم، ومواطأة الشعوب الإسلامية ممثلة بقادتها ونخبها وقابليتها للخنوع والخضوع والاستسلام. هذا التاريخ الحضاري حفظ للمنبهرين بمدنية الغرب من أبناء الإسلام ما تنطوي عليه بغداد الجريحة. والمؤلم أن هذا التاريخ الحضاري المشرق نبذه الأبناء العققة، وتلقفه الرجل الأبيض، ليشرق كما الشمس في ظلمات التخلف. والمستشرقون الشرفاء الباحثون عن الحق، ينصفون الحضارة الإسلامية، ويذكرون أفضالها على كل ما لحق من حضارات، والحاقدون الناقمون يكتمون الحق، وهم يعلمون، والتبعيون من أبناء المسلمين يسايرون أولئك، ويتصورون أنهم عالة بالفطرة على الغير، مؤكدين بفعلهم أنه لا فلاح لهم إلا بالمروق من الدين والدخول في الحضارة المادية. ولقد أصِّل الردة الحضارية في نفوسهم ما مروا به من تجارب وحدوية وقومية وحزبية فاشلة، وما عايشوه من حكومات عسكرية سامتهم سوء العذاب، وفي كل تجربة يرذلون، لأنهم يعودون لما نهوا عنه، ولا يستجيبون لما أمروا به. والهروب إلى التاريخ الحضاري يبلسم الجراح، ويشفي الصدور، ويفتح أبواب الأمل، فالأمة التي تمتلك مقومات الحياة الكريمة قادرة على التحرف السليم، وإذا هبط النسر من قمته إلى السفح لأي سبب، فإن نسوراً أخرى قادرة على أن تعود إلى قممها، والنسر مهما ضعف لن يكون من بغاث الطير. والأمة العربية التي تزحف في السفوح باستخذاء أبنائها ومكر أعدائها فيما يخفق بغاث الطير في الذرى بحاجة إلى من يعيد إليها ثقتها، ويبصرها بأمرها وبرسالتها في الحياة، لتبدأ رحلة العودة. وإذا كان (ديجول) و(تشرشل) قد أقالا عثرة (الفرنسيين) و(البريطانيين) في أحلك الظروف فإن (صلاح الدين) من قبل و(عبدالعزيز بن سعود) من بعد فلا مثل ذلك، فحرر (صلاح الدين) بيت المقدس ولملم «عبدالعزيز» أطراف الجزيرة، ولم تزل الأمة قادرة على إنجاب القادة المنقذين الذين يزنون الأمور، ويعالجون مناطق الضعف، ويعرفون الثنيات المهملة ومكائد الأعداء، ويفقهون الواقع، ويلبسون لكل موقف لبوسة، فلا يموؤون في وقت الصهيل، ولا يزأرون في وقت الضعف والهوان وقلة الحيلة. لقد زرت العراق أكثر من مرة، يوم أن كانت المنطقة تعيش خدر اللعبة الكونية، وكانت النخب كما شاعر غزية في معيته الغاوية لا في إبانته الراشدة، والتقيت يومها بعمالقة الفكر والثقافة والأدب، وهم يعيشون حالة من الشلل الفكري، وتزودت من إبداعات المبدعين ومعارف المثقفين، ودخلت مكتباتها العريقة وتزودت منها بنوادر المطبوعات، واليوم لا نراها إلا مهيضة الجناح، لا تشم في أجوائها إلا رائحة البارود، ولا ترى على أديمها إلا الرماد والرميم. عراق الحضارة تعرض لحملتين شرستين:- (التتار) و(التحالف) مهدت لهما أوضاع شاذة، خارجة على كل الأعراف والدساتير، والأعداد المتربصون كما الأوبئة تخمل عندما تقوى أجهزة المقاومة، وتستشري عندما يضعف الجسم، وتقل المناعة. وما أتى العالم الإسلامي إلا من قبل نفسه، فهو بأوضاعه وممارساته يشكل قابلية للاستعمار. والعراق العريق تتقاذفه أمواج عاتية من جور أبنائه إلى حقد أعدائه، ومن سوء أفعاله إلى خوف جيرانه، ولا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه، وعلى كل المضطهدين أن يفكروا ويقدروا، وألا يمكنوا العدو من أن يقتلهم من حيث يكون التفكير والتقدير. |
{ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ
} د. حسن بن فهد الهويمل في ظهورهم، وفي العراق كل يوم تقطع أصابعهم أما إذا دخلوا إيران فستكون حياتهم فيها ليلاً ليس له آخر! قام من فراشه قبيل الظهر، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، متناسياً أنه سبعيني مكانه في الصف الأول بين المصلين، ولما تقم شمطاؤه نؤومة الضحى، ولا أولاده الذين تقطعت بهم الأسباب، وتسربوا من الدراسة، بعدما أترفهم بما يغدقه عليهم من مطعم ومشرب لم يطبهما. ولم يكن من حوله في اليقظة، ولا في النوم إلا طائفة من العمالة الذين لا يدُلُّهم على استيقاظه من نومه إلا سعاله وتمخطه وصراخه البذيء وسبه لمن حوله. وما أن أطل عليهم بجسمه المترهل، حتى هبوا خائفين لاستقباله وخدمته وإصلاح ما أفسده الدهر من شعره وتجاعيد وجهه، فهو في كل صباح يحتاج إلى ساعة أو بعض الساعة لمغالبة عوادي الدهر واستكمال متطلبات الخروج إلى الناس بوجه مرمم. لم يطل الوقت، كانت المسافة الزمنية بين زعيقه وشتائمه وارتمائه على أقرب كرسي في الصالة لا يتجاوز عشر دقائق على الأكثر، وكان القائمون على خدمته وترميمه لحظتها يتجمدون خلفه، حتى يرتد إليه طرفه الشاخص، وحتى يلتقط أنفاسه اللاهثة، فعند كل استيقاظ لابد أن يلتف من حوله منظم الشعر وصابغه، ومقلم الأظفار، وكواء الملابس، وحامل الطيب والمدلك، كانوا أربعة من جنسيات مختلفة وديانات مختلفة ولغات مختلفة، وكان التفاهم بينهم بالإشارات، تسهلها عليهم رتابة العمل ونمطية الممارسة، فكل واحد موكل بمهمة يمارسها كل صباح. ولما أخذ الشيخ «مسعود» زخرفه وازين، نهض متحاملاً على عصاه، وقد أمسك بعضده سائقه، ودخل صالة الطعام، ليأكل ما لا قبل له باحتماله، وما ليس بحاجة إليه من السكريات والدهنيات والنشويات والبروتينات، ولم يكن أحد من أفراد العائلة في طريقه ولا في صحبته، وما اعتاد أن يلتقي بأحد منهم، ولا أن يقضي إجازته الأسبوعية أو السنوية مع أحد منهم، لا يلتقون به إلا حيث يتعرض أحدهم لمشكلة أو يحتاج إلى مال، وويل لهم من وابل السب والشتم، خرج يجر جسما أقعدته الشحوم، وأثقلته السنون، وبهظته الطعوم، وهدته الهموم، وبين البيت والحديقة لقيه ابن عمه «سعيد» فسلم عليه، وقبل رأسه، وهم بالحديث، ولكنه أحس بأن الأجواء مكفهرة، وما كان من عادة «مسعود» أن يهش أو يبش بأحد، إلا حيث تكون الدثور، ولكن الحاجة تحمل المحتاج على إراقة ماء الوجه، لقد أحس الحارس بالحرج، فهو الذي سمح ل «سعيد» باختراق أجواء البيت، وماذا يفعل أمام ابن عمه. التف «سعيد» ليمشي خلفه، وتوقع أن يسأله عن حاله وأهله وأقاربه، ولكن السكون القاتل لا تقطعه إلا سعلات حادة أو مكالمات متحشرجة في «الجوال» يتلقاها تباعا من موظفيه الذين يسردون له مجمل العمليات التجارية، وما تلقاه من سائر الفروع من مضاربات مع الشركات، وكان لا يزيد في الرد على كلمة: «ثم ماذا...» و«ماذا بعد» و«كيف تصرفتم؟» ووصل الثلاثة إلى السيارة الفارهة، فتح السائق الباب، وساعد الشيخ على الركوب، برفع رجله اليمنى، ورد الباب برفق، ثم أسرع إلى المقود، وتحركت السيارة، فيما بقي «سعيد» شاخص البصر، متجمدا في مكانه. ولما يفق من ذهول الصدمة إلا بوقع أقدام الحارس الذي طلب منه مغادرة القصر. خرج متثاقلاً، لا يؤرقه إلا ما تعانيه أسرته، وما يترقبه من ضروريات، لام نفسه: لماذا لم أفاتحه بحاجتي؟ سلمت عليه، وتمكنت من المشي خلفه، وهو صامت، كان من واجبي أن أفصح عما أريد، إنني رجل خجول مفرَّط، وهذا جزائي. لا بأس، هناك أكثر من فرصة، بإمكاني أن أعود إليه يوم غد، وسوف أباشره بالمفاتحة. إنه رجل ثري، وأنا أقرب الناس إليه، أليس هو ابن عمي، ويعرف جيداً أنني فقير، وأن أبي كفله يوم أن مات أبوه، وهو صغير، حقاً إنني رجل خجول، ما كان لي أن أتردد في عرض حاجتي عليه، ولكن أليس من واجبه أن يسأل عما أنا عليه، وعما أتعرض له من ضوائق، أبداً هو يعرف أنني قضيت حياتي سائقاً في إحدى الإدارات، وأنني تقاعدت، وأن تقاعدي لا يسد حاجتي فضلاً عن حاجة أسرتي، وبيتي يمتلئ بالأبناء والبنات والأحفاد والأسباط، لا أرد قادما، ولا أمنع سائلاً، إنه يعرف جيدا ما أعانيه من الفقر والفاقة، ويعرف أنني أقل منه مالا وولداً، وأن الله جعل له مالاً ممدوداً، غير أنه لم يعرف أن كل ذلك لا يغني عنه شيئاً إذا تردى، ولكن لماذا لا ألحق به في مكتبه، وأنجز مهمتي، فما عاد وضعي يحتمل التأخير، ولقد علمت ما يدفعه من تبرعات، وما ينفقه في المناسبات، وما يبذره في الرحلات، وما يغدقه على أولاده العاطلين العققة، مع أنه يحب المال حباً جما، ولا يبالي من أي الطرق أخذه، ولا كيف أكله، وسواء عنده أكله، بالإثم أو بالظلم أو بالباطل، كل هذه الهواجس خطرت على بال «سعيد»، كان يفكر فيها بصوت مرتفع، ومما يزيد ألمه أن سيارته قد لا تصل به إلى ابن عمه «مسعود» ثم تعود به إلى بيته، فالوقود على وشك النفاد. حسنا ستصل بي إليه، ولن يخيب أملي. وانطلق صوب المكتب، وترجل من سيارته، التي لم يسمح لها بالدخول في ساحة المبنى، ودخل على مدير المكتب الذي يعرفه جيداً، ويعرف أفضال أبيه على سيده. طلب منه مقابلة ابن عمه، رحب مدير المكتب، وأسرع إلى سيده، ليعلمه بأن ابن عمه «سعيد» يود مقابلته، وكان يشعر بأنه يقدم إليه بشارة، كانت لحظة عصيبة، لقد اكفهر وجه «مسعود»، وقطب جبينه، وتفلت لسانه بكلمات تفيض بالوقاحة، حملت مدير المكتب على التراجع إلى الخلف، ثم النفاذ بجلده، وانتابته الحيرة، ماذا سيقول للقابع في مكتبه بانتظار الإذن له بالدخول؟ توقف برهة في المكان الفاصل بين المكتبين، ليفكر ويقدر، إذ لم يستطع مصارحة ابن العم بما تم، وتحامل على نفسه، وأقبل على صاحبه يجر رداءه، وقال بصوت متقطع: «العم» في حالة نفسية سيئة، فهناك صفقة خاسرة، لما يزل في اتصالات مستمرة، لتخفيف حدتها على نفسه، ولم أشأ مفاتحته بوجودك، لعلك تختار وقتا آخر أكثر مناسبة، أو تجعل زيارتك له في قصره، فهو ملتقى العوائل، أو تعود إليه غدا أو بعد غد. وهنا كانت الطامة، السيارة في الرمق الأخير، فوقودها لن يبلغه مأمنه، وليس بمقدوره أن يكاشف مدير المكتب بشيء، ولأن الأمر لا يحتمل إلا حلاً واحداً، فقد أسر له بأن الوقود قد ينفد، ولم يكن معه مال ولا بطاقة صرف، وما كان يتوقع نفاد الوقود، ولم يتردد مدير المكتب، بل ناوله مبلغاً من المال على شكل قرض، وانفضَّ سامر القوم. وبعد يوم أو يومين سأل «مسعود» مدير مكتبه عما فعل مع ابن عمه، فأخبره بما تم، فاستحسن ذلك، وأوصاه بأن يصرفه كلما جاء بمبلغ مماثل. جاء الخبر كالصاعقة على مدير المكتب الذي لم يكن يعرف ما آلت إليه ظروف «سعيد» الممتلئ حياء وبشاشة وكرما، لقد تبين لمدير المكتب أن «سعيداً» يمر بحالة حرجة، وأنه جاء يستمد العون من ابن عمه، أزعجه الموقف غير الإنساني من رجل ثري تربى تحت كفالة عمه والد «سعيد»، ولم يف ببعض حقه لولده الذي اضطر الى استرفاده. ومرت الأيام سراعاً، وعاد ابن العم إلى ابن عمه، فنهض مدير المكتب لاستقباله، وأخذه بالأحضان، وأجلسه حيث يريد، وأقبل عليه متهللاً، فما كان من «سعيد» إلا أن أعاد القرض شاكراً، ولما أن طال الانتظار فاتح المدير: أليس ابن عمي في مكتبه؟ بلى. بودي لو أقابله على انفراد. كان بودي. ولكن ما الذي يردك. رغبة ابن عمك في أن أصرفك كلما جئت بمبلغ من المال تسد به رمقك. أو فعلها وأخبرك عما أريد. ما كنت أود معرفة ما بينكما، ولكنه الشح ونكران المعروف. وهل أخبرك بأفضال والدي عليه. كان يحدثنا عن كفاحه، وتبذير والدك، ولما أن تلطفت له بالقول، وألنت له الحديث، وحاولت ترقيق قلبه صاح بي قائلاً. لقد كنت إلى جانب عمي، وهو يحتضر، بعد ما أغرقته الديون، فلمته على تبذيره وترك أولاده فقراء يكتففون الناس، أتدري ماذا قال لي عمي وهو يحتضر. لقد تركت في رقبة كل إنسان معروفا، وسوف لا يحتاج أبنائي. والمقيدون بإحساني يملؤون الأسواق، وها أنت أيها المدير الغبي تراه يتردد علي، ويستلف منك، إنها خرافة: «كل النداء إذا ناديت يخذلني... إلا نداء إذا ناديت يا مالي» نعم كفلني وأنفق عليّ، وفتح أمامي آفاقاً واسعة، ولكنني لن أكون مثله مبذرا يتهافت عليه المستغلون، فيسلبون ماله، أيريد مني أن أذعن لخرافة الكرم، لتفعل في مالي ما تشاء، لقد مات فقيرا، وكان بإمكانه أن يكون مثلي يخدمه المال، وهو مكدس في خزائنه، إن للمال طاقة حرارية تنبعث من أعماق الكنوز، فتحرك الجميع لخدمة صاحبه، ألا تراني في اوساط العامة، وكأنني علم في رأسه نار، كلما رأتني الجموع تصدعت كما تصدع البحر لموسى، وما أحد منهم نال منها ولن ينال، إن للمال جاذبية، وإن له لسحراً، فلا تبذره بل تمترس خلفه. ودع «سعيداً» يبحث عن أفضال والده، فالفقر لا يصنعه إلا الفقراء. ومر عام أو بعض عام و«سعيد» يعيش الصدمة، كيف لا يسأل عنه ابن عمه؟ ولا يقيل عثرته التي أقالها الأباعد حين علموا ما يعانيه، ولم تكن اقالتهم في الاعطيات، بل كانت بالمشاركات والتسهيلات، حتى لقد استقام أمره، وأقبلت عليه الدنيا، وهي صاغرة، وبعد عام آخر علم «سعيد» أن السمنة والشيخوخة حالت دون مباشرة «مسعود» لتجارته وسائر أعماله، وأن تصريف الامور تولاها أبناؤه الجهلة المترفون، لقد كان يغدق عليهم الأموال، ولا يمكنهم من معرفة ما هو عليه، ولم يحسن تربيتهم وهم كما هو لحم نبت على السحت، لقد حرمهم من أيسر الحقوق، وما أن بلغوا مبلغ الرجال استاؤوا مما يمارسه والدهم من التكتم على أحواله، والاعتماد على الأباعد، مع الحرص والشح والجشع، فكان أن أقبلوا على المتع والتبذير، ولأنهم يجهلون السوق وفن التجارة وحذق المضاربات فقد تعرضوا للخسائر المتلاحقة، وما كان الأب يعرف شيئاً عما حل بمؤسسته وفروعها وأعمالها والخلاف المستشري بين أبنائه وكبار موظفيه وجاء «سعيد» ليزور ابن عمه، وهو على فراش المرض، فرآه في حالة سيئة، ومنظر بشع، شعر أشعث ووجه أغبر، وتجاعيد تحكي مرارة الألم، قبَّل رأسه ودعا له بالشفاء والأجر، ولم يشأ إشعاره بما لقيه منه، ولما هم بالانصراف حاول «مسعود» استبقاءه، فالوحشة والوحدة وآلام الشيخوخة تقتله، وما من صديق ولا رفيق وما من زوجة ولا ولد، يزحف لحاجته، وقد تمده الخادمة بما يحتاج إليه، وما أن استجاب «سعيد» وجلس، حتى انطلق في سب أولاده وأصدقائه وأقاربه الذين لا يمرون به، ولا يسألون عنه، ولم يجد «سعيد» بداً من القول، ولكنه لم يشأ إنكاء الجراح، ولم يزد على قوله: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه في ساعة العسرة، لقد كانت تلك الكلمة رصاصة ضربت سويداء القلب، وسبقت الدموع اللسان، واكفهر الجو، فانسل «سعيد» على نشيج ابن عمه، هذا الموقف الضاغط أعقبه شلل نصفي أصاب «مسعود» فعطل الجسم عن الحركة، ولم يكن بد من إلقائه في المستشفى بين عشرات الفقراء والغرباء، وكان ان انقطع عنه الزوار، وقست عليه الظروف، ولم يكن بحاجة إلا إلى مزيد من الرعاية، ولما لم يكن أولاده على شيء من المال أو البر، فقد ترك حيث هو، حتى تقرح جسمه وساءت حالته، وقررت إدارة المستشفى نقله إلى دار رعاية المسنين الخيرية، ودخلها ليحمل رقما في رقبته، وعاد «سعيد» يسأل عنه فلم يحر جوابا، وراح الى قصره الذي لقي فيه أحرج المواقف، ليستجلي الأخبار السيئة، فلقيه ساكن جديد، وسأل عن مصير أولاده، فعرف أنهم تفرقوا أيدي سبأ، يبحثون عن عمل يوفر لهم أدنى حد من الكفاف، فأخذته الحمية وانتابه الدوار، ليسقط على الأرض مغشياً عليه، ولم يصح إلا بين الأيدي الناعمة في المستشفى، ومن حوله أبناؤه وبناته وأحفاده وأسباطه وزملاؤه وأصدقاؤه، يحفون به، ويؤنسون وحشته، فحمد الله، وتمنى لو أن ابن عمه «مسعود» شهد هذه التظاهرة العائلية التي فقدها حين لم يحسن تصريف المال، وأحسب أن «مسعوداً» لن يسمع بعد هذه إلا قوله تعالى: {خٍذٍوهٍ فّغٍلٍَوهٍ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ، إنَّهٍ كّانّ لا يٍؤًمٌنٍ بٌاللَّهٌ پًعّظٌيمٌ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فلّيًسّ لّهٍ پًيّوًمّ هّاهٍنّا حّمٌيمِ، وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)} . |
لقد لقينا في سفرنا هذا هلكة ولكن الله سلَّم..!
د. حسن بن فهد الهويمل تصور نفسك على متن طائرة تشبه القرية المسوَّرة، فيها ما لا يتوقع من الأناسي والأشياء، وهي تسبح فوق هام السحب، والناس فيها يريحون ويسرحون، وفجأة لجَّ صوت الإنذار، مختلطاً بأصوات آلية، وضجيج بشري، وحركة غير عادية. ثم غمر ممراتها ومقاعدها دخان كثيف، كادت تحتجب معه الرؤية، وتبع ذلك اضطراب الناس، كلٌّ يحملق في شرود، والكلُّ يسأل في ذهول، ولا أحد مخول بالإجابة، ففوق كل ذي علم عليم، ولا مفر ولا وزر، فالجميع مرتهنون داخل صفائح من حديد، وسابحون على ارتفاع شاهق، والركاب فيهم الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والصابر المحتسب والهلوع الجزوع، والمتفائل والمتشائم، والسليم والسقيم. ثم انظر كيف تكون وسط هذه الضوائق والضواغط، إنها ستكون حالة حرجة، تتبدل فيها الأوضاع غير الأوضاع والمشاعر، تبرز فيها الخيفة، ويختل التوازن، وتنشل الحركة، ويقف كل محشور في هذه الزنزانة الطائرة أمام الموت وجهاً لوجه. ذلكم الموقف العصيب تتبدى فيه فرصة الشيطان المَرِيد، الذي يقعد لبني آدم كل مرصد، ويحتنكهم بالوسوسة والتسويل والتخويف والتخذيل والنزغ والاستدراج، مستدعياً صغار الأبناء وعظائم الذنوب، ليعقد الألسن عن ذكر الله، ولا يتيح إلا فرصة النظرات الذاهلة، وهو قد هدهد الغافلين عن معالي الأمور، وقال لكل منهم بطاعة: (نم عليك ليل طويل). إنها لحظات حرجة يقف فيها الزمن، ويضيق فيها المرء بكل شيء. وكل راكب تختنق أنفاسه، ويصبح ثوبه الفضفاض زنزانة تختلف داخله أضلاعه، ويحاول عبثاً أن يقدَّه من قُبُلٍ أو من دُبر، ليخرج النفس المحتبس في الأعماق، وكأني بكل راكب مغموساً في بحر لجي من الخوف والهلع، وهو ينظر إلى من حوله، ممن كان يأنس بهم، ويأنسون به، فيكونون من حوله كما الخشب المسندة. وهؤلاء الناس الذين يملؤون الطائرة حركة وحيوية يتحولون إلى أكداس من اللحوم المجمدة. منهم من يتلفت بذهول، ومن ينظر نظر المغشي عليه، ومن يلزم رأسه بيديه، وكأنه إناء زجاجي يتصدع، ومنهم المرأة التي تضم ولدها إلى صدرها، وكأن أحداً يغالبها على انتهابه. في هذا الجو المشحون بالتوتر، تعيش غربة قاتلة، كأنك وحدك في مهب الريح، والأناسي الذين كنت من قبل لحظات تخوض معهم وتلعب، وتتحدث بكل ما يعن لك من الكلام، وتسمع منهم أحسن القصص، ما لبثوا أن غارت عيونهم، وتخشبت ألسنتهم، وتجمدت حركاتهم. إنها ساعة راجفة، يذهل فيها كل مخلوق عن كل ما حوله. هكذا كنا، ونحن على متن طائرة (الإيرباص) المتجهة من (الرياض) إلى (الخرطوم) فجر يوم الأحد، الثالث والعشرين من شعبان. كنتُ لحظتها أغط في نوم عميق بعد الإفطار، واستعراض صحف الصباح. ولقد سمعت وأنا في سنة النوم أصوات إنذار وأصواتاً مدوية، غير أني لم أعرها أي اهتمام، لأنني بين اليقظة والمنام. وما أن عمَّ الدخان أرجاء الطائرة، أحسست بضيق في التنفس، ففتحت عيني، فإذا به يغطي مقاعد الدرجة السياحية والأولى، ولم أزد على كلمة:- - ماذا حدث، ما هذا الدخان الكثيف؟ ولم أسمع جواباً، وكأن المخولين بالإجابة أو المالكين لها نذروا للرحمن صوماً، فلن يكلموا اليوم إنسيّاً. ولو أنهم كذبوا للتطمين، كمن يكذب لإصلاح ذات البين، وقالوا: تسرب زيت خفيف على صفيح ساخن، نفذ مع التكييف، لما أصاب الركاب ما أصابهم. التفت إلي الدكتور (عبدالرحمن العشماوي) القابع خلفي، وهو يطل من النافذة في خوف وترقب. - قلت له: ما الذي حصل؟ - قال: المحرك الأيمن احترق وتوقف. ولما لم يكن أحد منا يعرف درجة الخطورة في مثل هذه الحالة، ولمَّا لم يكن أحد يعرف ما حصل بالضبط، ولما لم يتطوع أحد لتهدئة الأنفس الوجلة، فقد ذهبت بنا الظنون أسوأ المذاهب، التهبت مشاعرنا، و اضطربت نظراتنا، وتوقعنا امتداد الحريق إلى الوقود، وامتداد التوقف إلى المحرك الثاني، لتكون الراجفة. ولمَّا أصبح الأمل معلقاً بالمحرك الثاني، فقد حدقنا به الأنظار، وتسمرنا حوله، وكأنه وحيد أمه المسجى على سرير المرض، وهو يغالب سكرات الموت، كان هو الأمل بعد الله. في تلك الأثناء لم أفكر في شيء تفكيراً واعياً إلا بمساءلة نفسي: هل قرأت أورادي المعتادة؟ وتأكدت أنني تلوتها، بل كررتها بعد صلاة الفجر في (مطار الرياض). وقلت في نفسي: هنا أرقب وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، وبدأت النفس تهدأ، ولكنها تعود إلى الاضطراب، فهي بين الرجاء والخوف، ولاسيما أن الدخان نذير شؤم، ولا يمكن أن ينبعث من لا شيء، والطيار ومن معه في صمت مريب، ومن حقنا والحالة تلك أن نتوقع تدهور الأوضاع، وألا نستبعد التشظي في الفضاء. كنت من قبل، يوم أن كنت حرَّاً على الأرض، أسأل نفسي عن مشاعر السجين المحكوم عليه بالإعدام، وهو يرقب تنفيذه كلما صَرَّ باب السجن، أو المريض الذي نفض الأطباء أيديهم منه، وتركوه بانتظار قدره، كيف تكون حالهم؟ وكيف يفكرون؟و كيف يرون الأشياء من حولهم؟ وهل يحسون بآلام الترقب، أم أنهم في حالة من الانفصام الشخصي؟ وما أكذب المتنبي حين قال لممدوحه: (تركتني أصحب الدنيا بلا أمل). فحين لا يكون أمل، يكون الإنسان خارج الحياة ودون الموت، فلا هو حي فيرجى، ولا هو ميت فينعى، وما من حي إلا ولديه بصيص من الأمل، وفي المثل: (دون سَلَّتِ السيفِ فرج). وما أن تفرقت بنا الظنون، وتعددت الاحتمالات، تفاقمت التوقعات السيئة، وحاولت عبثاً أن أستعيد غفوتي، لأنسى ذلك الزمن المنيخ بكلكله المتجمد في لحظته الحرجة، فلم أستطع، لقد دخلت في يقظة لم أكن أتصورها من قبل، زُويت لي كل الأشياء، وتمثل لي الأبناء والبنات، والأهل والأحباب، والأحياء والأموات، وتغولت الغيلان في داخلي، ولم يبادر أحدٌ بالأذان، فالناطق الرسمي على الأرض، ولا بد لكل تصريح أن يغبَّ وأن يصاغ بطريقة تملصية. أحسست أنني أحاول الهروب إلى المجهول، أغمضت عيني، وجعلت أصابعي في أذني، واستغشيت وسادة، وغرست رأسي في أخرى، لقد كانتا من قبل رقيقتين ناعمتين، أما الآن فقد صارتا كما كيس من حسك السعدان، عدت إلى وضعي الطبيعي كما يطلب التسجيل، ربطت الحزام، وبدأت أتوسل إلى الله بما أعرف من صالح الأعمال، وتذكرت أصحاب الصخرة، وصاحب الحوت، ويعقوب وأيوب، وما جأروا به من الدعاء، وبدأت أردد: (أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) وتساءلت كما المضطهدين: (متى نصر الله) فسمعت هاتفاً من الغيب: (ألا إن نصر الله قريب) نظرت إلى من حولي، فوجدتهم يغالبون الأحزان، وينظرون في وجوه بعضهم. الشيء الذي خفف بعض المعاناة أن المضيفين والمضيفات يركضون هنا وهناك، يبللون المناشف لوضعها على أنوف الركاب وأفواههم، يصطنعون التجلُّد، ويفتعلون رباطة الجأش، كي نرى أن ريب الدهر لا يزعزعهم، ولكن المنية إذا أنشبت أظفارها: (ألفيت كل تميمة لا تنفع)، وتداعيات الموقف جعلتهم لا يكلمون الناس إلا همساً، لقد خصيت الشفاه، فكلما انطلقت التساؤلات قيل لنا:- لا شيء، وكيف لا يكون شيء، والدخان يملأ الرحب، والمحرك متوقف. لم يكن بدٌّ من التسليم اليائس، أخذ كل منا مكانه، وساد الهدوء، وسلم الجميع لقضاء الله وقدره. وكلما دخل الانسان في مرحلة ألفها، وسلَّم لها، لقد أيقنَّا أننا قاب قوسين أو أدنى من الموت. قلت في نفسي كيف تكون السعادة والفرحة حين تحط بنا الطائرة المنكوبة سالمين، واقتربنا من الأرض، وتراءت لنا معالم (الخرطوم)، ونظرنا الى النهرين وملتقاهما، هبطت الطائرة محفوفة بسيارات الاطفاء، واستقبلنا مندوب (وزارة الثقافة) وأعضاء الرابطة بالتهاني، وكأننا ولدنا في ساعة اللقاء، كانوا يحدثوننا عما يسمعون، وكنا نسألهم عما حدث، وكانوا يسألوننا، ولا يجد أحد من الطرفين جواباً شافياً، وكأنه محرم علينا أن نعرف ما يخصنا. ولما كنت في السماء والمنايا مواثل، والطياران البشري والآلي يزجيان كل الإمكانيات على مقعد القيادة، كنت أقول: لو نجوت لما حزنت ما بقي من حياتي، وما هي إلا فرحة اللحظة، أعقبهما حمد وشكر، ثم أخذنا الأمل والنسيان، كما أخذنا الخوف والفزع من قبل، ولم يكن الحدث إلا ذكرى أليمة، نحدث بها من سأل ومن لم يسأل. وما أن بارحنا المطار حتى عادت الأمور الى مجاريها، أمل عريض، وتفكير منظم، وتطلع واسع، وغضب ورضى، ورجاء وخوف، وسبحان من قدر الأقدارا، ويسر كل مخلوق لما خلق له، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فالكون لا يعمره إلا حجب الحقائق، وإلا فحياة محفوفة بالآفات، مختومة بالوفاة، معاشة بالمنغصات، لا تساوي عند بارئها جناح بعوضة. ومع الإغراق في المشاغل والاستعداد للمحاضرات والندوات واللقاءات الاذاعية والتلفازية والصحفية والجلسات الإخوانية وجدول الأعمال المليء بالفعاليات في (أسبوع الأدب الإسلامي) الذي تستضيفه (وزارة الثقافة السودانية)، فقد أصبح الحدث كما النوبات القلبية، يفجؤك بين الحين والآخر، فيشدك الى ساعة العسرة وتقطع الأسباب، ثم لا تلبث أن تفيق، وقد تفصدت عرقاً، لتتحسس نفسك، أأنت على الأرض أم على متن الريح؟ ولولا فضل الله علينا ورحمته ما نجا منا أحد، وما كنا نتوقع الحدث يمر بسلام، دون ارتطام بالأرض يخلطنا بأشيائنا، أو هزة عنيفة تترك السليم معاقاً، وكان بالإمكان تخطي المحنة لو أن أحداً من المسؤولين طمأن الركاب، وإذا لم يفعل، فقد تصورنا الأمر من الخطورة، بحيث لا يُغني فيه الصدق ولا الكذب. بقي ان نتساءل عاتبين مستغربين: - لماذا لم نسمع كلمة تُطمئن أو اعتذاراً يرضي. من المعقول ان يصمت الجميع أثناء مغالبة الحدث، ومن المعقول أن يكذب المسؤول ليخفي بعض ما حصل، إن كان ثمة خطورة، أما أن نروَّعَ، ثم لا يتلقانا الطاقم ولو بوجه طلق، فإن في ذلك إخلالاً في العلاقات العامة، وإذ سلَّم الله، فإن من حق الراكب أن يعرف الأسباب والمسببات دون تفصيل، ودون تنصل من المسؤولية. لقد فتحت الأبواب، وعَدوْنا كقطيع من الغنم، ونفد كل بجلده، وكأن شيئا لم يكن، كنت أتوقع أن يتحدث قائد الطائرة أو مساعده أو كبير المضيفين عما تعرضت له الطائرة، وما بذله الطيار، وما نسبة الخطر. الحدث خطير، وآثاره واضحة، كتل من الدخان الخانق وأصوات إنذار مفزع، ولا شيء بعد ذلك. إن لزوم الصمت في حدث كهذا يعني اللامبالاة، فالراكب بكل ما ينطوي عليه من مشاعر يتحول عند إخواننا في الخطوط الى شيء من الأشياء، شأنه شأن متاعه الذي عُهد به الى هذه الآلة، ليكون حمله وفصاله في ساعة أو ساعتين. لقد لقينا في سفرنا هذا هلكة ونصباً، وكان أقل ما يجب أن يقول المعنيون - (نأسف لما حصل، وهو خارج عن إرادة الجميع، ومتوقع في كل رحلة، ومن فضل الله أن تغلبنا عليه، ولم يضار أحد). لقد ترك الحادث آلاماً نفسية، وأصبحنا نتخوف، وحق لنا أن نتخوف، فما من رحلة إلا ولها مشكلة، فما أن عدت في العاشرة صباحاً من يوم الجمعة الثامن والعشرين من شعبان الى (جدة) وكنت على موعد مع أحد الأقارب لترتيب جلسة بحرية، وأكلة بحرية، ولقاء حميم نقضيه في منتجعات (جدة) الجميلة، استعداداً للمواصلة الى (القصيم) بعد سبع ساعات، إلا وكان الحدث الآخر، وتكون (الخطوط السعودية) السبب الرئيس في إفشال كل شيء، كان الداعي على متن الطائرة المتوقع عودتها من (اسطنبول) وشاء الله أن يحبسهم خرابها، لتفوت الفرصة، وأقضي الساعات السبع متسكعاً وحدي في ممرات المطار، وإمعاناً في الإيذاء، تعلن الخطوط عن تأخير رحلة (القصيم) مساء ذلك اليوم ساعة أو بعض ساعة، وكل ذلك يحصل دون أن يتمعر وجه، أو يخاف مسؤول، فما من منافس يحملهم على تلافي التقصير، ولا من مُسائل يحاسبهم على الخطأ أو التأخير، وكأن الخطوط المدللة ترقب (ستة مليارات) أخرى متخطية كل الأولويات الإنفاقية لشراء أسطول آخر، كي تفك به الاختناق المزعوم، وتتطلع الى تعيين أرتال من الموظفين، ليضربوا الرقم القياسي في البطالة المقنعة، التي شكلت العقبة الأولى في سبيل الخصخصة. أحسب أنه من الضروري ايقاف المسؤول للمحاسبة والمساءلة، أو قطع ألسنة المواطنين الذين ما فتئوا يتحدثون بتندر وسخرية عن الأعطال والتعطيل، مع غزارة في الامكانات وسوء في التوزيع، طائرات جاثمة لا تباع ولا تستعمل، وآلاف من الموظفين الكتبة يأكلون ما كان، ويضيقون في المكان، وقلة في المهندسين الذين يسلقون الصيانة سلق البيض، وشح في الطيارين. ومع هذه الغضبة المضرية لا ننكر الفضل لذويه، ولو شئنا الثناء على الخطوط لوجدنا ايجابيات كثيرة، ونكون قد صدقنا في الثناء، ولم نكذب في الذم، وعلى معالي المدير العام بما عهد فيه، وما عهد إليه، وما عرف عنه، ألاَّ تلهيه القصائد التغلبية، فكم تحت السواهي من دواهي. |
مسوغات الأدب الإسلامي..!
د. حسن بن فهد الهويمل ما من مصطلح جديد إلا ويواجه بالتساؤلات والتحفظات، ويطلب من ذويه البرهنة عن مشروعيته ومرجعيته وتخطيه من الفرضية إلى النظرية، ومراد الأفكار أهم من مراد المعدات والشهوات، ذلك أن الأفكار تشكل المواقف والتصورات، وتنقب في السوائد والمسلمات، وتنشئ الملل والنحل، وتوقظ الفتن، وتدفع إلى الحروب، ومن ثم أصبحت قضايا الفكر هي القضايا الأهم. لأنها تجمع الأشتات، أو تفرق الجماعات، ولأن الأدب عامة و«الأدب الإسلامي» خاصة بعد موجة «الأدلجة» والتسييس قضية من أهم القضايا الفكرية والأدبية التي تتداولها المشاهد الفكرية، فقد كان لزاماً على المصدقين بمشروعيته إبداء الأسباب والمؤيدات، سعياً وراء الإقناع والاستمالة، أو الدفع بالتي هي أحسن، ولن يتأتى الإقناع إلا بتقصي حيثيات المشروعية ومسوغات الطرح، والتناوش من مكان قريب، وعقلنة التداول، والمصطلح المثير ثنائي التركيب ثنائي المقاصد، فالأدبية لها شرطها، والإسلامية لها مقتضاها، ولابد و- الحالة تلك- من النظر في كل وجوه المصطلح المركب ومقتضياته ومشروعية قيامه، وبخاصة بعد الخلطة المستحكمة بين الفن والفكر، ومثل ذلك يتطلب تلقي التساؤلات والتحفظات بصدر رحب، ومجادلة بالتي هي أحسن، في سبيل تبرير مشروعيته، وسط أطياف المذاهب والتيارات والقضايا والمبادئ التي تملأ الرحب، ومشروعيته تتحقق بحشد المسوغات والتماس المبررات، ولاسيما أن هذا المصطلح لم يقم إلا بعد قرون من قيام «الأدب العربي» الذي تحمل مهام الإمتاع والإقناع، ولأن الفن عامة والفن القولي خاصة سابق على التشريع، ومختلف بلغته وغاياته عن سائر المعارف، فإن النظر إليه بعد التشريع يختلف عما كانت عليه النظرات من قبل. و«الأدب الإسلامي» يواجه تحديات متعددة، فخصوم الإسلام خصوم الداء، والمتفلتون على القيم الأخلاقية، ممن لم يجتنبوا كبائر الإثم والفواحش خصوم متفاوتون بين متحفظ ومتخوف، أو متردد بجهله أو بوقوعه تحت تأثير المفاهيم الخاطئة، ممن يرى أن الفن القولي بمعزل عن الدين، ثم لا يعرف قدر الاعتزال وأمداء التداخل، وأمام تلك المواجهات لابد من أن يقدم المعنيون بالمشروع مسوغات مشروعهم، وأحسبها إن لم تكن معهوداً معرفياً فإنها معهود ذهني، إذ ما من متلق واع إلا ويعرف لماذا طرح المشروع، وما هي دواعيه ومقاصده، ولعل من أهم المسوغات:- - هيمنة الإسلام، وشموليته وحاكميته وحقه الإلهي في أن يكون كل شيء على مراد الله، ومن جعل الفن خارج أمر الله أعوزه الدليل، وحق الفن في التشريع كحق سائر الممارسات القولية والفعلية، ودراية الأمة بأمور دنياها مرتبطة بوعي المقاصد الإسلامية. - مشروعية تكافؤ الفرص، وتساوي الحقوق، فالقبول ب «أدب حداثي» أو «وجودي »أو «ماركسي» يلزم بقبول «أدب إسلامي » وبخاصة بعد أن وسع «الأدب العربي» كل هذه الاتجاهات وأصبح نهباً لها. - تصحيح العلاقة بين «الادب» و «العقيدة» ولما كان واجب الأدب- أي أدب- أن يكون في خدمة عقيدة الأمة التي ينتمي إليها الأدب، كان لابد من تصحيح العلاقة بينهما، لتتم الخدمة على أقوم طريق، فالأدب وثيق الصلة بالحياة، ولن تتحقق العقيدة منفصلة عن الحياة، ولن يكون الأدب بمعزل عن تواشج الحياة بالعقيدة. فالأدب تعبير عن موقف، وإبداع المنتمي مصطبغ بالانتماء، فالأدب إذاً بطبيعته تعبير غير مباشر عن العقيدة، ولكي يكون التعبير سليما مطابقاً لمراد المشرع، كان لابد من وعي المقتضى، وما لا تقوم العقيدة إلا به فهو عقيدة أو جزء منها، ولأن العقيدة هدف أسمى، كان لابد أن يكون قول المعتقد في خدمة هذا الهدف، ولعلنا نلمح للدلالة اللغوية لجذر «عقد» إذ يوحي بعقد مبرم بين طرفين يلزم بالوفاء، فهي من تعقيد الأيمان، وعقدها غير اللغو فيها، ومن لم يلتزم بمقتضيات العقيدة فهو يلغو فيها، والخصائص الايمانية لا تتحقق إلا بالتمثل قولاً وعملاً واعتقاداً، فمن قال ولم يعمل كبر مقت الله له، ومن اعتقد بقلبه وناقض الاعتقاد بالقول أو بالفعل أخل بالمقتضى الايماني، ولهذا جاء «الادب الإسلامي» ليصحح العلاقة بين ثلاثي التحمل: الاعتقاد، والقول، والعمل، ولا يمكن أن يكون الأدب بمعزل عن العقيدة، كما لا يمكن أن تكون الحياة بمعزل عنها، وفي الوقت نفسه لا يكون الأدب خالصاً لها، ولكنه يكون مخلصا لها، والفرق دقيق بين الخالص والمخلص، هذه القطعيات الطردية تؤدي إلى حتمية ارتباط الادب بالعقيدة ارتباطاً يعي الفرق بين «الأدب» و«علم الكلام»، إذ ما من أدب أمة إلا ويكون مصبوغاً بعقيدتها، و«تولستوي» يربط عظمة الفن بقدر ما يعكسه من إدراك ديني، ولعل شهرة «الإلياذة» مرتبطة بما تعكسه من وثنية معتبرة في لحظة الإبداع، ويقال مثل ذلك عن «الكوميديا الإلهية» «لدانتي» حيث تجسد العقيدة «الكاثوليكية»، وكذلك «الفردوس المفقود» «لملتون» إذ فيها تصوير لموقف االمسيح من الله والعالم. وحتى الآداب ذات البعد العاطفي لا يمكن أن تثير الكوامن النفسية إلا من خلال العواطف الدينية، فالعقيدة سدى الفن ولحمته ومدده، وبدونها لا يكون الأدب أدباً خالداً، والقول ب «اللامنتمي» يعني الانتماء لعدم الانتماء، فما من قول إلا وله مضمون وهدف وانتماء، وإذا تبدت عقائد النصارى واليهود والبوذيين في آدابهم فإن العقيدة الإسلامية أولى في الظهور والتمثل، ومع هذا يجب أن نفرق بين «الأدب الديني» و«الأدب الإسلامي»، فالأول يشتغل بالموضوع الديني، والآخر يشتغل وفق المقتضى الإسلامي. - وإذا تجاوزنا المقتضى العقدي بوصفه الركيزة الأساسية تبدى لنا مسوغ آخر، يتعلق بالسلوكيات، وحفظ القيم الأخلاقية مطلب إنساني، قبل أن يكون مطلباً إسلامياً أو مطلباً أدبياً يهتم بقيم الإسلام، والجذر اللغوي لكلمة «أدب» في كل دلالاته وثيق الصلة بالقيم الأخلاقية ف «الأدب» - بسكون الدال- هو الدعوة للزاد، وهو عين الكرم، والكرم مفردة أخلاقية، والتأديب تهيئة نفسية وسلوكية لتمثل المكارم الأخلاقية، وإطلاق كلمة «أدب» مسمى لتدارس الشعر والنثر إطلاق مولد، نظر فيه إلى التأديب والدعوة، ولقد قيل للمعلم مؤدب، لأنه يحمل طلابه على مكارم الأخلاق، فالأدب دعوة وتطويع، ومن ثم تصبح كلمة «أدب» مرتبطة بالقيم الأخلاقية على كل دلالاتها، والتمرد على الآداب السلوكية خروج على مقتضى الدلالة، والشاذ يفقد مسوغه، وأدب الرذيلة لا يعد أدباً بالمفهوم الأخلاقي، وإن كان أدباً بالمفهوم الفني، والدول التي تعتمد الحرية الدينية والسلوكية، يروعها الانحراف الخلقي، ومن ثم تحاول محاصرة الأخلاقيات المسفة، وإن حماها قانون الحريات الشخصية، وحين أصبح دور الأدب المتهتك في الانحرافات السلوكية دوراً فاعلاً، تحرف المسؤولون عن الأخلاقيات لترشيده والحد من تهتكه. ولقد ارتفعت نبرة الجدل حول أولوية الجمال أو الجلال، وإذ يسلم الجميع بأن الجمال الحسي مرتبط بالغرائز، فإنهم يسلمون بأن الجلال المعنوي مرتبط بالقيم المعنوية، والإنسان في النهاية مجموعة قيم، وليس مجموعة غرائز وحسب، ذلك أنه بالقيم يمتاز عن سائر الأمم، فالغرائز قاسم مشترك بين الإنسان والحيوان، بينما القيم الأخلاقية خاصة بالإنسان. وتبعاً لذلك يكون الجلال المعنوي شرط الجمال الحسي وأسُّه، وجمال القيم والأخلاق أهم من الجمال الحسي، وشرف اللفظ والمعنى أزكى من شرف اللفظ وحده، وقد نبه المشرع حين حذر من «خضراء الدمن» وأكد على مكارم الأخلاق في أكثر من آية وحديث، والأخلاقيات المطلوبة في الأداء الإبداعي امتداد لاهتمام الإسلام بالأخلاق، وحرصه على عدم الجهر بالمعاصي، وحديث «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» يؤكد أهمية التستر، وعدم إبداء الصفحة، فمن بدت صفحة خطيئته لزم ردعه وأطره، وإشاعة الرذيلة عبر الكلمة الجميلة عين التهتك، وعين المجاهرة وبدو الصفحة، والعملية الإبداعية طاقة موجهة، فلابد أن تكون بناءة. - ومن مسوغات «الأدب الإسلامي » ما عليه الآداب العالمية والعربية من سقوط وانحراف وهبوط في المستويات الفنية واللغوية، ف «الأدب الإسلامي» هدفه إقالة عثرة الأدب العربي، والنهوض به من كبواته المتعددة، والمتابعون لفيوض الإبداعات والدراسات والكتابات: التنظيرية والتطبيقية، يدركون الانحرافات الواضحة عن جادة الصواب، انحراف فكري، وسقوط أخلاقي، وتمرد على الشرط الفني، وإلغاء لخصوصيات الأنواع الإبداعية، وتفلت على ضوابط اللغة، وترد في مهاوي العامية، ونسف لقنوات التواصل، بافتعال التغامض، وخلق الأسطورة، وتعمد التغنص. «والأدب الإسلامي» يسعى لتلافي ذلك كله، ويتعمد إشاعة القيم الفنية واللغوية والأخلاقية على حد سواء، ويحرص على حمل الناس عليها طواعية لا إكراهاً، وهدفه أن يقدم مشروعه بالتي هي أحسن، لا يكره الناس على أن يكونوا أدباء إسلاميين، إنه دعوة سلمية، تحاول إغراء المتعطشين إلى الكلمة الطيبة والقول السديد بالنهوض بهذه المهمة قولاً وتلقياً، ولما كانت طائفة من دعاة «الأدب الحديث» تعيش عالة على كل القيم الفنية والدلالية الغربية، ولما كان مشاهير الأدباء المعاصرين في لهاث وراء سرابيات المذاهب والتيارات الوافدة، كان لابد من التماس قيم عربية وأخلاقيات إسلامية تميز الأدب العربي عن غيره من الآداب، والمتابع للمشاهد الأدبية لا يسمع إلا بمذهب غربي، ولا يعايش إلا ظاهرة غربية، والأدباء العرب يصطرعون حول قضايا ومذاهب لا تمت إلى الحضارة الإسلامية بصلة. لهذا كان لابد من استشعار الواقع المتردي للأدب العربي، والعمل على تلافي نقاط الضعف سعياً وراء إقالة العثرة. و«الأدب العربي» جزء من مفردات الحضارة الإسلامية، منها ينطلق وإليها يعود، وارتماؤه في أحضان الحضارات الوافدة مسخ له وإذابة لخصوصيته، ولاشك أن طائفة من عمالقته تولت كبر الارتماء في أحضان الغير، ونافحت عمن تعجل إلى الحضارات، دون تضلع من التراث، يمكن من التمثل، ووسط هذا التهافت على المستجد دون وعي ودون حاجة اقتدار وتمثل، كان لابد أن يكون لنا أدبنا المتميز الذي يستصحب التراث، ويتفاعل مع المستجد، لا ينسلخ من قيمه الفنية والأخلاقية، ولا يعتزل المعاصرة، فالناس أبناء حاضرهم، وليسوا أبناء تاريخهم، والتفاعل الإيجابي مطلب حضاري، ومؤشر قوة واقتدار، وكم هو الفرق بين أن يحتويك الطارئ أو تحتويه، والنزعة التقليدية هي احتواء التراث للمبدع والناقد، وليس تقليد الغرب بأحسن حال من تقليد التراث، والمحافظة غير التقليد، ومحاكاة الغرب ليست تجديداً، ان مهمة «الأدب الإسلامي» أن يحتوي التراث والمعاصرة معاً، ويستن لنفسه طريقاً قاصداً، يستجيب فيه لحاجة الأمة، ويشبع رغباتها المشروعة، ولن يتحقق التميز إلا إذا انطلق أدباؤنا من التصور الإسلامي لله والكون والحياة والإنسان، والتصور الإسلامي لا يناقض أدبية النص ولا شعريته ومن قال بذلك حمل « الأدب الاسلامي » ما لا يحتمل ، وإذا تحققت أدبية النص في الإبداع الوجودي والماركسي فإن تحققها في «الأدب الإسلامي» أولى، وما القرآن إلا معجزة بيانية في الدرجة الأولى، مع أنه وعاء التشريع والتوحيد والقيم الأخلاقية. - ولما لم يكن الأدب في سالف عهوده مؤدلجاً ولا مسيساً لم تقم الحاجة إلى أسلمته، إذ هو إسلامي لتوفر الحاكمية والتزام الناس بالمقتضى الإسلامي وقوة الوازع الديني، وما مرت به عصور الأدب من نزوع صوفي أو شعوبي أو طائفي أو سياسي يعد مبادرات شخصية، وليست مذاهب مقصودة، نجد في أدبنا العربي القديم شعر «الخوارج» و«الهاشميين» وشعر «الشعوبيين» و«المتصوفة» و«الشكوكيين» و«الماجنين»، ولكنها عوارض مقموعة بالغلبة، وليس لها ثبات المذهبية. أما في العصر الحديث فقد تجلى الالتزام، وقامت المذهبية، ودخل الأدب في ضوائق السياسة و«الأيديولوجيات» وحين تعي المذاهب الفكرية أهمية الأدب ومهمته، وتسعى لتوظيفه في خدمة المبادئ والمذاهب يكون من حق المفكرين الإسلاميين استنهاض الأدباء للقيام بواجبهم الإسلامي. ومقاصد «الأدب الإسلامي» لا تقف حيث يكون شعر المواعظ والزهد والتصوف والشعر الديني والابتهالات والأناشيد الإسلامية، إنها مقاصد تستوعب الطارف والتليد، وترمي إلى غايات أبعد مما يتصوره المتحفظون. إن أمامنا أدباً ماركسياً، وأدباً حداثياً، وأدباً وجودياً، تشيع المبادئ والأفكار والقيم بطرائق لا تكون فيها مباشرة الدعوة، إنها تمثل للمبادئ والأفكار، وتحرك وفق مقتضياتها، وذلك ما تسعى إليه نظرية «الأدب الإسلامي»، ولو كان هناك توظيف واع وقاصد للأدب العربي لما كان هناك تفكير في الأسلمة، ذلك أن الأدب إسلامي بطبيعته، وذلك ما يجنح إليه البعض ممن يتحفظون على التسمية، ولا يعترضون على الممارسة، ولكن «الأدلجة» حين حادت بالأدب العربي عن طرائق العفوية، أصبح من الضروري طرح مشروع «الأدب الإسلامي». - وفوق هذا وذاك فإن الأدب «كلمة» وللكلمة رسالة تواكب رسالة المسلم في الحياة، فما رسالة المسلم في الحياة، قبل أن يكون مبدعاً، وبعد أن كان؟ إن «الكلمة» مسؤولية {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ } { وّقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا} {وّهٍدٍوا إلّى الطَّيٌَبٌ مٌنّ القّوًلٌ } {إلّيًهٌ يّصًعّدٍ الكّلٌمٍ الطَّيٌَبٍ } {لا يٍحٌبٍَ اللهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ پًقّوًلٌ إلاَّ مّن ظٍلٌمّ } وإذا كان الإنسان محاسباً على ما يقول، وإن تصور أنه في قوله يخوض ويلعب، فإن من واجبه ألا يقول إلا حسنا، أحسب أن الواقع المعاش يستدعي مثل هذا المشروع، فالواقع العالمي وواقع الأدب العربي يقتضيان التحرف السليم لصناعة الكلم الطيب والقول السديد، مع الاحتفاظ بحرية الأديب وأدبية النص، فالأدب غير الفقه وغير التفسير وغير التاريخ، ولكنه يستمد منهما ما يحقق انتماءه لحضارته، وما حضارته إلا الإسلام، وما الإسلام إلا أمر ونهي وحرام وحلال وأطر على الحق، يقع على القول مثلما يقع على الفعل، والحرية لا تكون إلا بضوابطها. |
أرى خلل الرماد وميض نار..!
د. حسن بن فهد الهويمل بعد تواصل المطاردات واكتشاف الخلايا النائمة والمتململة والناشطة في أطراف البلاد وفي حدقات العيون وسويداء القلوب أرض القداسات، ووقع التفجيرات المحكمة التخطيط والرهيبة التنفيذ، عاج المفجوعون والذاهلون من هول الصدمة إلى الاستنكار والشجب والتجريم، وعجت أسأل عن الفواعل والمفاعيل، وعن المواجهات والمعالجات، وعن مستوى أفراد الأمن وآلياتهم، وعن دور المواطن التوعوي والتعقبي الغائب أو المتخاذل أو المتردد أو الفاعل على استحياء، عجت أسأل عن: المفعول به، وفيه، ولأجله، وعن الفاعل، ونائبه: الظاهر والمضمر. وعن مدى العلاقة الطردية أو العكسية بين الفاعل والمفعول فيه: (المجرم) و (الوطن)، ومن وراء الفعل: تمويلاً وتسهيلاً وتمويهاً؟ وهل الفعل مقاومة وطنية، كما يتصور السذج والحاقدون؟ أو هو استعجال للإصلاح، كما يشيع المغفلون؟ أو هو لعبة خطيرة اتخذت لنفسها أشكالاً وألواناً: من حروب أهلية، إلى مناوشات حدودية، إلى صدام طائفي، إلى احتلال سافر، وإلى تفجير مدمر، أو هو لعبة ارتدادية ضد اللاعب الأكبر خارج أرضه، أو أن ذلك رسالة ثقيلة المضمون ضد صمود البلاد وأهلها، لتركيعها، أو إزاحتها عن طريق الحلول الاستسلامية، وكأن خارطة العالم الجديدة ليس فيها متسع لأناس يقولون: ربنا الله، ويصرون على حقوق عالمهم المنتهك من كل جانب. وكل هذه التخمينات لمجرد أن التفجير العشوائي يحصل في بلد ليست لديه قابلية للإرهاب، وليس أهله من شرار الخلق، فهم لا يعرفون القتل الهمجي، ولا المقابر الجماعية، ولم يألفوا توارث السلطة عن طريق الثورات الدموية والتصفيات الجسدية والانقلابات البيضاء المدفوعة الثمن للساكت والداعم. ومع كل هذا فقد ملئت أرضهم بالسلاح الفتاك، وشاعت في أوساطهم الأفكار المنحرفة والانتماءات المتعددة والرؤى والتصورات المتناحرة، ومما زاد الحال سوءاً تسابق القنواتيين على تداول شؤونهم الخاصة في الغياب والحضور، وكأنهم من (بني تيم)، وتهافت الوُصوليين لتمويل هذا الفضول الممقوت. وأحسب أن الأمر بعد أن تداعى الفارغون والماكرون والحاقدون على الإثارة والتحريض والفعل التدميري لا يكفي فيه مجرد الاستنكار، ولا المواجهة الهجائية، وديننا وجهنا لذلك. وفي الحديث: )لا تلعنوا الشيطان فإنه يزهو). وطلب منا الكف عن النيل من مقدسات الآخر: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم). والأمة في السلم والحرب والرخاء والشدة مأمورة بإعداد القوة: قوة التقدير والتدبير، والقول السديد، والفعل الرشيد. ونحن في ظل هذه الظروف العصيبة بحاجة إلى خطة محكمة تطاول الزمن، يقل فيها الكلام المتشنج، ويكثر فيها العمل المحكم، وتشدد فيها وطأة المحاسبة لكل من امتدت يده الآثمة إلى مثمنات الأمة، أو انطلق لسانه في تغذية الفتنة، ودعم عناصرها، ولو عن طريق التلميح، خطة لا تقتصر على المطاردة والمداهمة والتناوش بالألسنة والسلاح. وإذ يكون الإرهاب ظاهرة تتسم بالثبات والديمومة، فإن مواجهته تختلف عن العرض الزائل، ومكمن الإشكالية يتراوح بين الممارسة الإرهابية والمواجهة غير المتكافئة. وتجاوز الحدث بكل مراراته وويلاته، يمكِّن من التبصر والتروي للمواجهة: الرسمية والشعبية، بعد قراءة الأحداث على كل المستويات، وبعد إحكام الخطط، وفهم الدوافع والأسباب والمصادر. فالذين يحصرون دوافع الإرهاب في الأوضاع المحلية القائمة يصيبون الوطن بما هو أسوء من الإرهاب، والذين يحيلونها على المناهج الدراسية يضربون في فجاج التيه، والذين يحصرونها بالصحوة الإسلامية يقعون في حبائل المتماكرين. وفوق كل ذلك فالذين يوقظون رجال الأمن للمواجهة: ثم يغطون في نوم عميق، تواكلاً لا اتكالاً، لا يختلفون عمن يحرفون الأسباب عن مواضعها. رجل الأمن وحده في ظروف عصيبة كهذه الظروف التي تعيشها البلاد لا يحقق أدنى حد من المواجهة، نحن في زمن عصيب ومخاضات لا تنتج إلا الأشأم، زمن تحولت فيه لغة الكلام إلى لغة السلام، والشخوص الماثلين إلى أشباح لا تكاد تستبان، إنه زمن مشكل، يتطلب عملاً جماعياً، يستنفر له كل قادر، وتستدعى له كل الخبرات والتجارب في كل بقاع العالم، ويستعان من أجله بكل الممكن، فما بعد الوطن وأمنه من مكرم، ولما نزل ننعم بالأمن، ولا نخشي إلا الله والذئب على الغنم، والخوف من تفاقم الأحداث. ولتفويت الفرصة على المتربصين لابد من حالة طوارئ، توضع فيها خطة أممية لا أمنية، ينفر فيها كل الناس، وتوجه لها كل الجهود، تشكل لجان، وتنشأ مديرية خاصة بالمكافحة، وتقام أسابيع توعوية، في كل الحقول، ومن كل الحقول المعرفية والفكرية والثقافية والتربوية والتعليمية، ويزج في أتون المواجهة كل مقتدر، فهناك تشبع فكري منحرف، وتشبع إرهابي عنيف وسلاح فتاك، ولا تواجه هذه الظروف إلا بالنفور الجماعي: - الأستاذ في فصله. - والدكتور في قاعته. - والإمام في محرابه. - والخطيب على منبره. - والعالم بين كتبه. - والمرأة في بيتها. - والأب بين أولاده. - والإعلامي في صحيفته أو إذاعته أو قناته. - والتاجر في متجره. - والمزارع في مزرعته. - والبدوي في صحرائه. - وكل عاقل رشيد يملك القدرة على القول أو الفعل. فما عاد الوقت وقت رسميات، ولا تسلسل سلطات، ولا فروض كفايات، المسألة مسألة حياة أو موت، فالأمة مستهدفة في عقيدتها ومقدراتها ومكتسباتها وإنسانها وأمنها، ومن أحال إلى المعارضة أو إلى التنازع على السلطة فقد وهم. وكيف نتواكل والبلاد التي تنفست فيها الفتنة، وفحت فيها الأفاعي، ليست بلدا متخلفا فقيرا منهكا، يعيش أهله تحت الشجر ويشربون الماء الكدر، ولا يجدون ما يقيم الأود ولا ما يستر العورة، إنه بلد حضاري، توغل في المدنية، حتى فاق أهلها، وتواصل مع العالم حتى زويت له الأرض، له قلاعه الصناعية، ومحافله العلمية، ومؤسساته الدستورية والتشريعية والشورية، وبنيته التحتية، وإمكانياته الاقتصادية التي تتحلب عليها أفواه الجشعين الحاقدين، بلاد ركضت في فجاج الحضارة والمدنية لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه من قبل. وإذا كنا نفزع إلى المساجد للصلاة والقنوت، ونصعد على المنابر للشجب والاستنكار والدعاء بالويل والثبور كلما خر مسلم صريعاً في (الشيشان) أو في (أفغانستان) أو في (كشمير) أو في (الفلبين) فإننا أحوج ما نكون إلى اللجوء إلى الله والإلحاح بالدعاء والتركيز على التوعية مما نحن فيه، فالنوازل تحدو بالأمة إلى القنوت، وكم قنتنا من أجل نازلة ألمت بالمشرق أو المغرب الإسلامي، وهل بعد ازهاق الأرواح المعصومة أو الآمنة من كارثة تستحق أن ننادي لها ب:- (الصلاة جامعة)، وهل بعد الوطن المطعون في الخاصرة من فتنة. ومن واجب كل مواطن يعي واقعه وأبعاد واقعه: دينيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا أن يلح بالتساؤل، وأن يتجاوز الأنماط والسوائد، فالوقاعات غير المتوقعة لا يكفي فيها التعامل (الروتيني). والبحث عن تفاصيل الحدث، يسبقه البحث عن معقولية الحدث، بمعنى: هل من المتوقع وفق أوضاعنا القائمة أن يحصل في أرضنا مثلما هو حاصل؟. كلنا مقصرون، وكلنا خطاؤون، ونحن أحوج إلى الإصلاح والتغيير والاستخارة والاستشارة في كل صغيرة وكبيرة، وما من شيء من ذلك يبرر أن يصدح صوت أو تعلو يد، فضلاً عن أن تراق قطرة دم. البلاد ليست مهيأة لما حصل، وأهلها لم يألفوا هذه الظواهر، فلقد عشنا الأمن والاستقرار والرخاء، وإذا بدرت خطيئة حسمت بين عشية وضحاها، وحين لا تكون الأسباب مرتبطة بالمسبب، يتجاوز التساؤل الحدث إلى امكانية وقوعه. لقد وقعت التفجيرات، وهلك من هلك دون بينة، ولم يعد بالإمكان أن نقول للمتوفين والمصابين: (أيديكم أوكت وأفواهكم نفخت)، ذلك أنهم لم يكونوا أبرياء وحسب، وإنما هم في بلد آمن مستقر - وسيظل إن شاء الله- يوفر الكرامة والحرية لكل قادم، بل أكاد أقول: إننا نحن الضيوف والوافد رب المنزل. وحين لا يخطر على بال أحد أن يتعرض لمثل ما تعرض له، يتجاوز التساؤل الحدث من حيث وقوعه إلى الحدث من حيث أسبابه ودواعيه، فلم يعد البحث عمن فجر، وإنما البحث عن الأسباب والكيفيات ولحساب من. وفوق كل ذلك: - كيف استطاع المجرم أن يتوفر على الأجواء الملائمة للفعل النكرة؟ وكيف وصلت هذه الأرتال من الأسلحة؟. إن هناك خللاً، ومن أوجب الواجبات أن نتجاوز الإدعاء والاتكالية، وأن نعترف بتقصيرنا مواطنين ومسؤولين، وعلينا أن نملك الشجاعة في الاعتراف، فكل مريض ينكر مرضه لا يمكن أن يشفى، وكل جاهل ينكر جهله لا يمكن أن يتعلم، وكل عاجز ينكر عجزه لا يمكن أن يحقق شيئاً. ليس عيباً أن نخطئ، وإنما العيب أن ننكر الخطأ، أو أن نصر عليه، البلاد مزروعة بالإرهابيين، ومليئة بأسلحة الدمار، فكيف غزيت الأرض والأدمغة؟ هل واطأ المواطن أو غفل المسؤول؟ لقد وحد الملك عبدالعزيز البلاد، وليست له وزارة دفاع، وزرع الأمن وليست له وزارة داخلية، كان المواطن جنديه ورجل أمنه، وهل من المعقول أن يفرط عاقل رشيد بهذه المنجزات؟ دعونا نقول بكل تجرد: إشكالية البلاد من أبنائها المقتدرين الذين غفلوا. نعم أوضاع العالم اليوم غيرها بالأمس، والفتن من حولنا تعصف بالحيوات والمثمنات، ولابد - والحالة تلك- أن نصاب بدخنها، ولكن الدخن بدأ يتحول إلى ضرام، والأحداث المتلاطمة من حولنا كشفت عن ثغرات، ومن الخير لنا أن نستبق إليها، لسدها قبل أن يتهافت من خلالها المفسدون في الأرض، البلد بلد الجميع، والأمن أمن الجميع، ومن وكل أمره المصيري إلى غيره فوت على نفسه أهم الفرص، لقد حان الوقت للنفور كافة بالأقلام والألسنة والأفكار والخبرات. وعلى الذين أنشأوا الصناديق والجمعيات والمؤسسات للأعمال الخيرية في الداخل والخارج أن ينشئوا مثلها لمكافحة الإرهاب، وتخليص البلاد من وباء قادم، قد يحولنا إلى متلقين لإعانات الغير، ومحتاجين إلى المؤسسات الإنسانية، وما لم يضع المواطن يده مع السلطة في المواجهة تنامت الفتن، وما تحت أديم السماء من قوي يراهن على السلامة. إن ما نشهده من أحداث توجب على كل مقتدر أن يوظف كل طاقاته، وألا ينتظر حتى يطلب منه الإسهام، فالوضع يتطلب أن يكون كل مقتدر رجل أمن يتقدم إلى المسؤولين بالرؤى والتصورات والأساليب والمعلومات. وأوجب الواجبات أخذ الحذر في كل سوق وبيت ومكتب ومسجد ومدرسة. وعلى كل الخطباء وكل العلماء وكل المعلمين أن يواجهوا الأحداث بلسان عربي مبين، لا تورية فيه ولا كناية ولا تلميحا. انتهت فترات التردد، وانتهت فسح التأويل والتبرير والتعذير، وجاءت لحظة ( إن لم تكن معي فأنت ضدي).هذا لسان الوطن، فلمن نكل أمره، إلى عدو يتربص به، أو إلى جشع يتلصص على خيراته، إن لدينا قبلة الموحدين ومعبود الجشعين الأسودين: الكعبة والبترول. وإذا فقد الأمن فُقد كل شيء، بل ساء كل شيء، إنه قضية المخدرة في بيتها، والطالب في مدرسته، والمواطن في سوقه، والطفل في حضن أمه، والوافد في عمله، والظاعن في صحرائه، الأمن حق مشروع كالماء والهواء، فإذا بادرنا إلى تصفية الماء من الكدر، وتنقية الهواء من التلوث، وجب أن نحفظ الأمن من نواقضه، وإذا اختل الأمن مس الضر كل من أقلته أرض الوطن وأظلته سماؤه. والأمن ليس قضية تخص وزارة الداخلية ومكافحي الشغب وقوة الطوارئ والمباحث الذين أبلوا بلاءً حسناً، الأمن حق لكل مواطن ومسؤولية كل مواطن، وحين يختل ترخص بعده الأموال والأنفس والثمرات، وكيف لا ترخص وفي (باب الفتن)، أن الرجل يمر بالقبر ويتمنى أن يكون مكان صاحبه، لما يراه ويعيشه من أهوال. وعلى العقلاء أن يلتفوا حول المسؤولين للنهوض بالمسؤولية المشتركة، فالمسألة لم تعد بحيث ننام ملء جفوننا لمجرد أن رجل الأمن يسهر على راحتنا وأمننا. الأحداث تحولت من دخان إلى ضرام، ولما يزل المواطن في مأمن، ولكنه أمن الخائف، وعلى المسؤولين لإحكام المواجهة وترشيدها تجنيد كل مقتدر من طلاب الجامعات وخريجيها للمتابعة والمكافحة والتحري والتوعية، ورصد التحركات المشبوهة وتزويد مراكز المعلومات الأمنية بما يصلون إليه من معلومات، لا لمحاصرة المفسدين في الأرض، ولكن لاجتثاثهم. السؤال الأكثر إلحاحاً واستحالةً وتعقيداً: من يكون هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ ومن هم خصومهم؟ وإلى أي شرعة أو منهاج يرجعون؟ وإلى أي قانون يحتكمون؟ لو رأيناهم أو سمعناهم أو عرفناهم، ولو من وراء حجاب، لكان أن حسمنا أمرنا معهم، ولكننا لما نزل مع أشباحهم في أمر مريج. |
علاقة الأدب الإسلامي بالأدب العربي..!
د. حسن بن فهد الهويمل كلما استفحل الخلاف بين طوائف الفكر والأدب، نظرت إلى اختلاف المفاهيم، فوجدتها «جوف الفراء» كما يقول المثل: «كل الصيد في جوف الفراء». ذلك أن «نظريات التلقي» تحول دون استكناه الأشياء واستنطاق المصطلحات، وفق مراد منشئيها. ولما كان شرط المصطلح ان يكون جامعاً مانعاً يجمع اطراف القضية، ويمنع دخول ما سواها، كان على المتلقي استنطاق المصطلح، لا النطق عنه. وحين ينهض المصطلح بمهمته ومقتضياته، ثم لا يكون المتلقي واعياً للمقاصد والحدود ومناطق الاشتراك بين المترادفات، يلجأ إلى الافتراضات والتخرصات، ويرتب موقفه على ذلك، ثم يكون التنازع بديلاً عن الوفاق. وحين لا نقرأ الأشياء من خلال نصوصها قراءة تقترب من البراءة ولا تكونها، تجتالنا «نظريات المعرفة» التي توجه التأويل، ليكون نقيض المقاصد، وكل قراءة لا تمتلك قسطاً أوفى من البراءة والحيادية تحمل النص ما لا يحتمل، وتكرهه على أن يقول ما يريده المتلقي، لا ما يريده المرسل. ومن تحت عباءة النظريات: القرائية والمعرفية والتأويلية نسلت الملل والنحل، وانشغل رواد النهضة وقادة الفكر وزعماء الإصلاح بتصحيح المفاهيم التي يقصدونها، لا بتقديم المعارف التي يودون توصيلها. ولو أن المشاهد الفكرية والأدبية تلقت المصطلحات والظواهر والقضايا على ما هي عليه لحوصر الخلاف في أضيق نطاق، ولو أن المتجادلين لم يتخذوا أهواءهم آلهة لما بعدت الشقة على طلاب الحقائق. إن هناك معلومة، وهناك سبيلاً للحصول عليها أوالوصول إليها، وبمعنى أوضح، أن هناك إرسالاً وتلقياً ومتى استقامت وسائط ذلك توفرت المعلومة كما هي عند المرسل، وما من مفكر أو أديب إلا ويود أن تصل رؤيته إلى الآخرين كما يعتقد. وما وجدنا أكثر ذوي المبادئ إلا مستهلكين في تحرير مسائلهم، وتوضيح وجهات نظرهم، وتصحيح أخطاء التلقي والتأويل، وما أتيت المذاهب والأفكار إلا من سوء الفهم، أو من شطح التأويل، أو من التعصب المقيت أو من زيف المواقف، وكم من كتَّاب كنا نعدهم من أصحاب المواقف والمبادئ استزلتهم أهواؤهم ورغباتهم الذاتية ومصالحهم، والمصالح لا تتحكم إلا في المشاهد السياسية، أما المبادئ فتحتاج إلى مواقف تبحث عن الحق ولا تنشد الكسب غير المشروع. وما «الأدب الإسلامي» من كل ذلك ببعيد، وإشكالياته وعقباته ناشئة من آليات التلقي، لا من مقتضياته ومقاصده، إذ ما من رجل رشيد يعترض على الكلم الطيب والقول السديد. والأدب حين يلتزم الفضيلة يظل أدباً ، وحين يقع في الرذيلة يظل أدباً، وحين يحارب القيم السلوكية والأخلاقية يظل أدباً، فالأدبية والشعرية مقتضيان فنيان لا يرتبطان بالدلالة على كل أحوالها التألقية أو الانطفائية، وتحقق أدبية الأدب أو شعريته رهينة الشرط الفني ليس غير. و« علم الدلالة» أصبح من القضايا المهمة في مشاهد النقد الأدبي، وهو محور الجدل عند المشتغلين ب«الأدب العربي» و«الأدب الإسلامي» وإن كانت نظريات «علم الدلالة» توغل في قضايا ليست واقعة ضمن اهتمام «الأدب الإسلامي». ولأن «الأدب الإسلامي» مصطلح حديث، فقد تصوره المتلقي حديث المقتضى والمحتوى والشرط، بحيث ربط بين التاريخية والممارسة ربطاً عضوياً، ولو أن المتلقي نظر إلى الممارسة منذ أن نزلت «آيات الشعراء»، ومنذ أن وجه الرسول صلى الله عليه وسلم . الشعراء من أصحابه إلى المنافحة عن حوزة الدين، ومنذ أن دعا لحسان بن ثابت، لكان أن عرف أن «الأدب الإسلامي» كائن منذ أن كانت الرسالة. وتصور الدارسين والنقاد بأن «الأدب الإسلامي» يشكل مع «الأدب العربي» اختلاف تضاد لا اختلاف تنوع استدعى القول في العلاقة بينهما. ولو أنهم فكروا في ثنائية التنوع أو العموم والخصوص لما احتاج الأمر إلى مزيد من القول. ولما كان «الأدب العربي» في صدر الإسلام وعاء الفضيلة ومنطلق القيم الإسلامية لا يزاحمها ولا ينازعها إلا ما جن ذليل أو شعوبي حقير، فإنه لم يكن أحد يفكر بهذا المصطلح، ولا يفكر باعتزال الأدب الذي وسع كل مناحي القول. ولو أن الذين يسكون المصطلحات لم ينسبوا الأدب إلى لغته ، ولا إلى زمانه أو مكانه أو حكامه أو مضامينه لما كان لأحد منا أن يفكر بنسبة الأدب إلى الإسلام، أووصفه به، ولو أن الأدب لم «يودلج» ولم يسيس، ولو أنه ترك للامتاع والتسلية لما أدلى الإسلاميون بدلوهم، أما وقد حمل الأدب العربي ما لم يكن يحتمله من قبل، وأبيح له ما لم يبح له من قبل، فقد لزم اقتطاع جزء من مساحته الواسعة، كما تقتطع الأرض، لتكون مكاناً للعبادة، والأرض اقلت المساجد والملاهي والحدائق والمزابل والصحاري القاحلة والرياض الغناء. وهكذا الأدب يتسع لكل فنون القول وأغراضه، وكل فن وغرض يحمل سمته واسمه ولا مشاحة في ذلك. ومعايشة المشاهد للأدب موصوفاً بأولويات مقاصده يستدعي إلف ما يجد من مصطلحات، وعدم التحفظ عليها فضلاً عن الرفض، لقد وصف مصطلح «الأدب» بما لا حد له من المصطلحات أو الكلمات التي تحولت فيما بعد إلى مفاهيم مصطلحية، لقصد التخصيص والتميز وتكثيف الأداء فقيل: الأدب العربي أو الفرنسي أو الانجليزي أو الألماني. وقيل: الأدب الصوفي أو الحداثي أو الماركسي. وقيل: الأدب العباسي أو الأموي أوالسعودي. وقيل الأدب الحجازي أو المصري أو السوري. وما اعترض أحد على شيء من تلك التسميات، وما تساءل أحد عن مشروعيتها، وحين قيل «الأدب الإسلامي» ثارت الثائرات، وأثيرت التساؤلات، وسيقت التحفظات، وقيل بالتجزيئية والتصنيفية والأدلجة والتقييد ومصادرة الحرية الفنية، وافترضت الثنائية المتضادة زوراً وبهتاناً، بحيث لا يكون في ازاء الأدب الإسلامي إلا الأدب الكافر. ولسنا بصدد التزكية أو الإدانة أو سوء الظن، ولكننا نود أن نلتمس الوشائج والمساحات المشتركة بين «الأدب العربي» و« الأدب الإسلامي» سعياً وراء تصحيح المفاهيم، وتقريب وجهات النظر، وكشف الدعاوي الواهمة، وتطمين النفوس القلقة، فأدب الأمة يتوفر على المرجعية لكل ما نسل منه من مصطلحات جديدة. وإذ يكون «الأدب الإسلامي» مصطلحاً مركباً من كلمتين اصطلاحيتين: مصطلح «الأدب» ومصطلح «الإسلام». يكون «الأدب العربي» هو الآخر مركباً من مصطلحين، أولهما مشترك بين العروبة والإسلام، وهو كلمة «الأدب» وأما الآخر، وهي كلمة «العربي» فهو مصطلح يحدد لغة النص،ليس غير، ومن ثم يلحق به الأدب الإسلامي إذا أبدع بلسان عربي، وعلى هذا فإن هناك التقاء وافتراقاً، أو قل التقاء مطلق وآخر مقيد. والتقاء في الأدبية ومقتضياتها، والشعرية ومطلباتها، واللغوية وجمالياتها، وافتراق في مشروعية المضامين وتنوعاتها لا في تضادها. وافتراق الصفة المخصصة لا يشترط فيها تناقض المضامين، بحيث لا يكون «الأدب العربي » إلا أدب عهر وكفر، وعلى نقيضه «الأدب الإسلامي»، ولكن يظل «الأدب العربي» متسعاً لكل المضامين، بما فيها المضمون الإسلامي، فيما يقتصر «الأدب الإسلامي» على ما يقتضيه الإسلام من قيم وأفكار وتصورات، ومن ثم تكون العلاقة بين الأدبين علاقة عموم وخصوص، وليست علاقة تضاد، ف «الأدب العربي» منسوب إلى لغته وإلى ما وسعته اللغة من مضامين، وبهذا يكون أدباً عربياً، وإن تعددت مقاصده وتصوراته ومضامينه، واللغة العربية وسعت كتاب الله لفظاً وغاية. و«الأدب الإسلامي» منسوب إلى مضمونه، فما وسعه الإسلام من المضامين فهو مادة «الأدب إسلامي» وما وسعته اللغة فهو أدب عربي، ولأن اللغة العربية وعاء الفكر والدين فإن أدبها يكون الأوسع والأشمل. وكلمة «أدب» ترحل بمقتضياتها الفنية وتصطحبها مع كل اضافة، فهي كما هي في الأدب الحداثي او الوجودي أو الماركسي أو العربي أو الإسلامي. مثلما أن الإسلام كما هو عند الهندي والفارسي والعربي لا يتغير بتغير اللغات، ولا بتعاقب الأزمنة، ولا بتعدد الأمكنة. فالمقصد الرئيس، وهو أدبية الأدب قائمة في الأدب العربي والإسلامي. واللغة العربية وعاء الإسلام، وما من عربي إلا هو ربيب الإسلام، لأن علاقة اللغة بالفكر كعلاقة الجسد بالروح، ولهذا لا تجد تميزاً حاداً في أدب نصارى العرب، لا في القديم ، ولا في الحديث، يتجسد ذلك عند الأخطل التغلبي في العصر الأموي، وعند الأخطل الخوري في العصر الحديث. وعلاقة «الأدب الإسلامي» ب «الأدب العربي» كعلاقة العلوم الإنسانية بالفلسفة، ف «علم النفس» و«علم الجمال» نسلت من عباءة الفلسفة. ولهذا فإن هناك عموماً وخصوصاً بين الأدبين، ف«الأدب العربي» وسع كل الآداب الإسلامية والحداثية والسريالية والدادية والماركسية والوجودية التي أبدعت باللغة العربية، ذلك أن شرطه أدبي لغوي ليس غير، ومن ثم فإنه ليس معنياً بالدلالة، وليس له شرط دلالي، بدليل أن ما أبدع في اللغة العربية فهو أدب عربي، وليس كذلك الأدب الإسلامي، فالأدب العربي يقتصر اهتمامه على الأدبية بوصفه أدباً وعلى فصاحة اللغة بوصفه عربياً. ولأن لكل أدب موصوف أولوية وشرط تفرضها الصفة، فقد اتخذ كل أدب موصوف سمته التي تكرس صفته وشرطه. فالأدب العربي يتسع لكل مناحي الفكر والأخلاق، ولا تكون لغته إلا عربية، فيما يضيق «الأدب الإسلامي» موضوعياً، بحيث لا يتسع إلا لما يقتضيه الإسلام من قول أو فعل أو معتقد، ويتسع لغوياً بحيث يكون عربياً وغير عربي. وتميز «الأدب الإسلامي» يرتبط بالدلالة وحسب، بحيث لا يختلف عن «الأدب العربي» في ثوابت الأدب ومقتضياته اللغوية والفنية والشكلية والعاطفية، وإن كانت له مواقفه من الغموض والأسطرة وبعض الجوانب الفنية والشكلية، غير أنها مواقف ترتبط بأدبية النص لا باسلامية الدلالة. «الأدب الإسلامي» له رسالة وهدف وغاية ومقتضى، قد لا يحفل بها الأدب العربي، ولكنه لا ينفيها، ولا يضيق بها، فقد يلتقيان في الدلالة فيكون «الأدب الإسلامي» قد عاد إلى مصدره، وقد يفترقان فيكون «الأدب العربي» أدباً بفنيته ولغته فيما يكون «الأدب الإسلامي» أدباً بمضمونه دون الاخلال بأدبية النص وشعريته وفصاحة لغته وانزياحها. وكم من أديب عربي لا يعرف مصطلح «الأدب الإسلامي» اتى بما لم يأت به الأدباء المعنيون بهذا المصطلح مجتمعين، وكم من ناقد أو سارد أتيا بما لم يستطعه المنتمون لهذا المصطلح. والتفاوت في الشرط الدلالي لا يفرق بين الأدبين من حيث الثوابت. وتعدد المصطلحات لا يقتضي التعدد الفئوي، كما لا يقتضي الضدية، ذلك أن الشيء يوصف بما يغلب عليه، ولا تقتضي الصفة نفيها عن غيره، فوصف «عمر بن الخطاب» بالعادل لا يعني أن ما سواه جائر، وكذلك القول ب «الأدب الإسلامي» لا يجعل ما سواه أدباً كافراً. وحرية التعبير التي يطيل المتحدثون الوقوف عندها مكفولة في «الأدب الإسلامي» بشرطها، إذ ما من حرية إلا ولها شرط وضابط وانضباط، وإلا أصبحت فوضى، وليست الفوضى من الحرية في شيء. وعندما تختلف المفاهيم حول الحرية يحمل «الأدب الإسلامي» شطراً من أوزار المفاهيم الخاطئة، وكأنه يريد من المبدعين أن يتركوا الإبداع، ومن تخوف من القيود والحدود، وأشفق على الفن من ضوابط «الأدب الإسلامي» فقد عميت عليه المقاصد والضوابط والنظائر، ذلك أن الماركسي والحداثي، متأدلجان» ملزمان مشترطان، ومع ذلك جاء إبداع المنتمين الى تلك «الأيديولوجيات» في غاية الجودة والتألق، فالمسألة مسألة اقتناع وتمثل وصدق واقتدار وموقف. وعلى ضوء ذلك فإن المسألة محكومة بالالتزام لا بالالزام، وبالاقتناع الطوعي لا بالاقناع القسري، وبالرغبة لا بالرهبة، فمن خاف من شرط الأسلمة تسلطاً تعثر في ابداعه، ومن دخل في الدين كافة، وأشرب في قلبه الايمان لم يستطع أن يقول إلا الحق وهو غاية كل أديب اسلامي. ومعتصر المختصر: أن الأدب ذو رسالة امتاعية اقناعية استمالية، وهو رهين الانساق الثقافية والاجتماعية السائدة، ومتى فسق عن أنساقه وسياقاته المعتبرة شرعاً وعقلاً دونما وعي بمسؤوليته، أصبح وبالاً على أمته، ولأن الانساق تتشكل لحمتها وسداها من حضارة عريقة عميقة شاملة تمس حياة الإنسان الخاصة والعامة، بل الأخص منها والأعم. فإن مسؤولية الأدب بوصفه مفردة منها تتضاعف، ولما لم يكن «الأدب العربي» مضطلعاً بمتطلبات المرحلة وفق المنظور الاسلامي مع ما يعتريه من عجز أوتمرد، فقد اقتضت مصلحة الأمة مساءلته عن العجز أو الشطح في سيبل ترشيد مساره، وتوظيفه لخدمة العقيدة والحياة وفق المقتضيات الشرعية تمشياً مع الأوضاع القائمة، وعلى ضوء ذلك فإن «الأدب العربي» يشكل الدائرة الأوسع التي تمتلك فيها الآداب المؤدلجة أوالمسيسة حيازاتها لتصبح العلاقة في النهاية علاقة عموم وخصوص. ومن قصر «الأدب الإسلامي» على أدب الدعوة أو الزهد أوالتصوف أوالرقائق فقد تجنى، ذلك أنه يتسع لكل ذلك ويتجاوزه، إنه الابداع القولي المت.وفر على كل متطلبات الإبداع المرتبط بالرؤية الإسلامية للكون والحياة. |
الثوابت والمتغيرات في مواجهة التفجيرات..؟ 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل تمر الأمم في محطاتها التاريخية بلحظات حاسمة: توصف تارة بالمبادرات الانسيابية، وتارة أخرى توصف بالمخاضات الابتسارية، وهناك فروق دقيقة بين الحالتين، لا يفهمها إلا الراسخون في علم السياسة. وقد تفاجىء الناس حالات ولادة متعسرة، تأتيهم بياتاً أو هم قائلون، وكل ظرف عصيب يواجه: إما بالمستطاع من التقدير والتدبير والحلم والأناة واختيار الأيسر، وإمّا بالصلف والعنف والتطرف، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وحين تصاب الأمة بنازلة مذهلة، تتفرق بجماعاتها الطرق، فتبلى بالمراء الظاهر والباطن أو بالتنازع والتفرق، {وّإذّا أّرّادّ اللهٍ بٌقّوًمُ سٍوءْا فّلا مّرّدَّ لّهٍ} وفي مثل هذه الظروف المذهلة يجب أن تتفادى الأمة التخبيص والرجم بالغيب، والناجون من مثل هذه الأوضاع من يبادر عقلاؤهم إلى الالتفاف حول بعضهم، والتبصر في أمورهم، والحيلولة دون الارتباك، ولا تتحقق النجاة حتى تلتزم عامتهم ما تخرج به المطابخ السياسية والدينية فالعصر عصر مؤسسات وليس عصر أفراد، والنوازل قد تخلط الأوراق، وتعرض ثوابت الأمة إلى التصدع، ولاسيما أننا أمة مسلمة، علمها دينها كيف تواجه المصائب، وكيف تتفقه في الدين، وألزمها التفريق بين الأركان والواجبات والسنن والمباحات، فكان أن بني الإسلام على ثوابت، لا يجوز المساس بها، ولا الاجتهاد معها، وقد قيل :« لا اجتهاد مع النص» ويعنى به قطعي الدلالة وفي المقابل أحيطت تلك الثوابت القطعية بمتغيرات، يحكم بها ذوو العلم والحجا، تجلت في مساءلة الرسول صلى الله عليه وسلم لرسوله «معاذ» رضي الله عنه، بم يحكم، وباستفتاء القلب، وما يحوك به من إثم، وما يطمئن إليه من بر، وبدراية الأمة بأمور دنياها، والأمة الإسلامية لها ثوابتها التي لا تحيد عنها ولو وضعت الشمس في يمينها والقمر في شمالها، وحين يدير ذوو الشأن والاختصاص كؤوس المعرفة والرأي حول القضايا المصيرية، ويضطرون إلى نقض البنية وإعادة تأسيسها، يجب عليهم أن يفكروا بالقدرة الذاتية على فهم الشيء ونقيضه: الذات والآخر، ماذا نريد؟. وماذا يراد منا؟ فلم نعد أهل قرية مسوَّرة، لا نحتاج إلى سوانا، ولا يحتاج سوانا إلينا، وحين نتقحم متاهات الفكر، ومضلات السياسة، وأعماق الدين، ونوغل فيها بعنف، دون أن نؤسس لأنفسنا معرفياً، يستخفنا المتربصون فنطيعهم، ثم نفقد مع الأشياء الذوات، بوصفها منتمية إلى شيء لا مزايدة عليه. وما من شيء إلا وله ثوابته، فللسياسة ثوابتها، وللدين ثوابته، وللتربية ثوابتها، وللاقتصاد ثوابته، وليس من مصلحة الأمة أن يتهافت غير أولى المعرفة والتجربة والاختصاص على القول في القضايا المصيرية، وليس من مصلحتها أيضا أن يلوذ المقتدرون بالصمت، بحجة الأجواء الملوثة والانفلات الفكري، فكل مقتدر راع، وكل راع مسؤول عما استرعاه الله عليه، والقول في الدين مسؤولية كفائية، وهو قائم على التفصيل وعدم التفريط، والأزمات تقود إلى النجاة أو إلى الهلكة، فإذا تلقَّى الراية أهل الحل والعقد، تفادت الأمة الهلكة، أما إذا بادرها سواهم تحت شعارات الغوغائية التي ألحقت الضرر بالأمة فإن الطريق سيؤدي إلى الهاوية. ولأننا نتحدث في ظروف عصيبة، وحول قضايا مهمة، ولأن الإسلام بحسب للأولويات حسابها، فإن أولويات الثوابت في هذه الظروف:- - «الدين» و«السلطة» و«المرجعية»، ف«لا دنيا لمن لم يحي دينا»، وليس هناك أمن بدون سلطة قوية عادلة مطاعة، تأطر على الحق، وتمتلك العزمات، وليس هناك اجتماع كلمة دون مرجعية علمية شرعية محترمة حاسمة للخلاف، يصار إليها، ويذعن لها، تلك هي أهم الثوابت في قضايا التنازع السياسي والفكري والديني، وهي مجتمعة أو متفرقة لا تؤدي رسالتها، ولا تحقق مقتضياتها على الوجه الأكمل إلا إذا تفادينا «الغلو» في الدين، وتحامينا «التصنيم» للسلطة، واتقينا دعوى «العصمة» للعلماء، وإلا إذا أوغلنا في كل ذلك برفق فالإفراط والتفريط نقيضان مهلكان، والوسطية هي السمة الإسلامية المنجية، فالله لم يجعل علينا في الدين من حرج، ولم يكلف نفساً إلا وسعها، ولم يعصم إلا رسوله: {وّاللَّهٍ يّعًصٌمٍكّ مٌنّ النّاسٌ} ولم يجعل أحداً فوق المساءلة {وّقٌفٍوهٍمً إنَّهٍم مَّسًئٍولٍونّ}، والسلطة بشرية لها وعليها مسؤولية وغير معصومة، وهي أحوج إلى الاستشارة والاستخارة والمناصحة والمعاضدة والرد عن الظلم والتسليم لشروط البيعة الإسلامية أو الدستور المتفق عليه، فمن اختار «الديموقراطية» وحاكمها بالفكر السياسي الإسلامي، وقع في المتناقضات، ومن اختار السياسة الإسلامية وحاكمها بالفكر العلماني أو «الديموقراطي» فقد وقع في الفتنة، والممارون في القنوات الفضائية يتقحمون «استديوهاتها» دونما تحديد للمرجعية، ودونما تأصيل للقضايا، ودونما تحرير للمسائل، ودونما أهلية لتبادل الآراء، ولهذا يقع المتلقي في دوامة من الشك لا تزيده إلا إمعاناً في الضياع. والعلماء الربانيون مطالبون بالاجتهاد أمام النصوص الاحتمالية الدلالة والثبوت وبين يدي النوازل، بعد استكمال مسوغات الاجتهاد كما ساقها الآصوليون، والخطأ في الاجتهاد متوقع، وإذا توفرت آليته وإمكانياته وشروطه ودواعيه، ثم مارس العلماء حقهم فيه وأخطؤوا، كان لهم أجر الاجتهاد، وإذا أصابوا جمعوا بين أجري: الاجتهاد والصواب، وهذا الوعد الرباني للمجتهد الذي لم يحالفه الصواب ترغيب في الاجتهاد، وحث عليه، ودفع للتحرج والتردد، ومن تجمد في مذهبية، أو سلَّم لطائفية، أو أذعن لحزبية فقد أوقف حركة التاريخ، والغى حقه ووجوده الطبعي، ومن تقحم مضائقه بدون أهلية جنى على المقتدين به والمفتي المخالف للإجماع مجتهد، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد صدَّع تلاحم الأمة واستزل الرِّجال الجُوف، وحين يكون المتبني للقضايا الفكرية أو الدينية أو السياسية من العامة، فليسعه ما وسع الخاصة، وليس من حقه حمل الناس على ما هو عليه، وليس من حقه القطع بخطأ الآخر والعمل على توهينه، فالمقلد لا مزيد على تقليده، وليس له إلا الامتثال، لأنه غير متفقه، وإنما هو متلقٍّ، ينذره الذي نفر للتفقه في الدين، ومن تقحم مضامير الاجتهاد والدعوة والإفتاء، فليعدَّ لها عدَّتها الباهظة التكاليف، ومن لم يعرف أسلوب المراجعة والنقد والمساءلة مع العلماء أو مع السلطة أخل في أدبيات الحوار، وصار ضرره أكبر من نفعه، ومن نظر في سلامة «الغاية» فعليه أن يتقن مشروعية «الوسيلة»، بوصفها آلة توصيل ومسؤولية، فالإسلام لا يرى مقولة: «الغاية تبرر الوسيلة»، ولهذا فإن قائل الحق أمام «دال» و«مدلول» وسلامة أحدهما لا تبرر الآخر، فالكلمة اللغوية بوصفها وسيلة/ دالٌّ، لها ضابطها: النحوي والصرفي، والإملائي والتركيبي، والمضمون «مدلول» له حكمه في المشروعية والحظر، ومن ثم لابد من مشروعية «الدالِّ» و«المدلول»، ولا تتحقق الثوابت المشار إليها إلا ب «الالتزام» و«الهيبة» و«الاحترام» التزام الدين كما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال: «تركتكم على المحجة البيضاء..» وهيبة السلطان، المجمع على شرعيته، واحترام العلماء المشهود لهم بالعلم والاستقامة، ومتى مُيِّع الإسلام، وأصبح كل شيء مباحاً باسم حرية التفكير والتعبير، وتمرد العامة على السلطة باسم حق التعبير عن الرأي، وأصر كل ذي رأي على رأيه بحجة «نحن رجال وهم رجال»، حلَّت الفوضى، وفقد الأمن، فالتسامح وحرية التفكير والتعبير وحق الاجتهاد مشروعة بضوابطها ومؤهلاتها وحقها، والأحداث التي تعصف بالأمن والاستقرار، امتحان لوعي الأمة، وجس لتماسكها، واكتشاف لقدرتها على احتمال البلوى، وتصرفها في ساعة العسرة {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ}، وما الأحداث إلا تحديات تؤثر على كل المقدرات والمكتسبات، والعامة يواجهونها على كل مستوياتهم وحقهم في التصدي بمواقف مختلفة، وقد يستزل الهوى والشيطان من لم يحسب للعواقب حسابها، فلا يذعنون لشرعية، ولا يرجعون لمصدرية، ولا يسألون أهل الذكر، ومن ثم يواجهون النص القطعي الدلالة والثبوت الذي لا اجتهاد معه بحداثة سن وضحالة معرفة. والتلاسن الكلامي حول الثوابت والقطعيات يفضي بالأمة إلى خلل ذريع، يفوق بأثره السيئ أثر الحدث، فالحدث غالباً ما يكون مادياً ينتهي بلحظته، ولكن الاختلاف الفكري والديني والسياسي غير المنضبط يمتد أثره، ويتجذر، ويشكل طوائف وأحزابا، ويدخل بالأمة في دوامة الصراع الفكري والديني، وتغييب دور الثوابت ووظائفها يسهم في تطوير الخلاف وتأليه الهوى، ليشكل طائفية مقيتة، وحين تتشرذم الأمة تصبح البلاد مليئة بالعبوات الناسفة، لتكون ورقات ضغط بيد اللاعبين الكبار، وكم من دولة تفرق شعبها بين قبليات متوترة، وطائفيات قلقة، وحزبيات متحفزة، وإقليميات متدابرة، بحيث شكلت هذه التكتلات ثغرات نفذ منها الأعداء، مما اضطر الدولة المصابة بهذا الداء العضال إلى تحييد اللاعبين الكبار بتنازلات مصيرية تمس الثوابت والحريات وحق تقرير المصير، وما يعانيه العالم من إرهاب عنيف منظم ليس شرطاً أن يكون ناتجاً محلياً، ذلك أن أساليب الضغط والمساومة والتسلط تمارس كل شيء في سبيل تحقيق المآرب. والذين يحيلون إلى «الدين» أو إلى «المناهج» أو إلى «حركات الإصلاح» أو إلى «اختلاف السلطة مع الأمة» أو يلمحون إلى «جامعة» بعينها، يواطئون الناقمين على الإسلام المصرّين على إجهاض مشروعه، وإن لم يستشعروا هذه المعية، والمتابع لفيوض القول يدرك أن اللعبة محكمة، فالإسلام أصبح المتهم الأول، ولم يتنبه ذووه إلى المكيدة الحاذقة، بل ظلوا يرددون ببلاهة ما تردده الوسائل الغربية المناوئة، وإذا حصل اعتداء وحشي دموي همجي، لا يعرف بالتحديد فاعله، ولا تعرف دوافعه، ولمّا تحدد قضيته، فإن واجب العامة ألا تخوض فيه، وألا تتعجل معرفة الفواعل والدوافع والنتائج، لأنها إن فعلت ذلك ثبطت عزمات أهل الحل والعقد، ومهما تفاوتت الآراء فإن:- - الإخلال بالأمن القائم والمعاش جريمة. - وقتل الأبرياء: مسلمين أو مستأمنين جريمة. - وتصفية الاختلاف في وجهات النظر بالسلاح جريمة. - والطعن في أمانة العلماء وكفاءتهم جريمة. - ومنازعة السلطة المجمع على شرعيتها جريمة. - والتسليم لحكم إسلامي ثم محاكمته على ضوء أنظمة وضعية جريمة. - واستفزاز الرأي العام بالتطرف الديني أو العلماني جريمة. وهذه الجرائم دركات، فحرمة المسلم تفوق كل حرمة، واختلال الأمن رأس كل خطيئة، والفراغ الدستوري ذروة كل بلية، وللحديث بقية. |
الثوابت والمتغيرات في مواجهة التفجيرات «2/2»
د. حسن بن فهد الهويمل وإذا اتفقنا على ما سبق من ثوابت ومتغيرات ومفاهيم، ونحن ملزمون بالاتفاق أو بالتعاذر أو بالتعايش على الأقل، لأن ترك الأشياء معلقة تعويق لمسيرة الحياة، إذا اتفقنا لزم أن نفرق بين «الاختلاف المعتبر» و«التنازع المحظور». كما يجب أن نفرق بين «المعارضة» المشروعة و«التمرد على السلطة»، وأن نفرق بين «مراجعة العالم» الشرعي و«الطعن في كفاءته وأمانته ونزاهته». وفي الوقت نفسه يجب أن نفرق بين «السكوت» عن الحق و«المجادلة» عمن يختانون أنفسهم. ولن يستقيم لنا شأن حتى نسمي الأشياء بأسمائها، ثم نتفق على وسيلة مقبولة لتداول القضايا الخلافية، ونهيئ قنوات مأمونة للتواصل بين ذوي الرأي والسلطتين: السياسية والدينية وإذا نسلم بمساءلة الذات، فإننا مضطرون لحوار الآخر، للإسماع والاستماع عن مراد كل طرف، أو لتصحيح المفاهيم المتبادلة. ولا يتم ذلك على وجهه إلا بالتحرير الدقيق للمسائل المختلف حولها، وتحديد الموقف منها، ومعرفة الثوابت التي لا مجال للبحث فيها، والمتغيرات التي يمكن النظر فيها. ولا بد أن نعرف من نكون. فمن جادل وهو يجهل ذاته أرداه خصمه. وما من دابة عاقلة إلا ولها انتماؤها، وكل انتماء لا يتحقق إلا بالإصرار والاعتزاز والتمثل. وبهذه الضوابط يتحقق التحرف الحصيف لمواجهة متكافئة: مادياً ومعنوياً وبشرياً ومعرفياً. فإذا قيل لنا: بأن «الإرهاب» منتج إسلامي، بحجة صدوره من أفراد ينتمون إلى الإسلام، وإذا زيد في النيل، وقيل: إنه منتج إسلامي محلي، لأن من أطرافه من ينتمون إلى هذه البلاد، لزمنا التفريق بين المبدأ والتطبيق، وبين الطرف الموالي والمعارض والمنشق على السلطة. فنحن وأبناء الإسلام، كما أراده الله، وكما تركنا عليه رسوله، ونحن حماته وحملته إلى العالمين، لا نسوغ لأنفسنا قتل «هرة» فضلاً عن قتل إنسان معصوم، وفي ديننا: «أن امرأة دخلت النار بهرة حبستها فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» وفيه المنع من اتخاذ الحيوان غرضاً للرماية، وفيه «كل نفس رطبة فيها أجر»، وفيه «ان امرأة مومساً سقت كلباً فدخلت الجنة»، وفيه التحذير من إشهار السلاح، وفيه الحث على الحلم والأناة والرفق والسكينة والتيسير. وحتى في الحرب نهينا عن قتل المرأة والطفل والشيخ الكبير والأجير والمستجير. فكيف نساير الأعداء في تداول الإسلام بوصفه مصدر التفجير والتدمير؟ ثم نقبل إحالته على البلاد وأهلها. وكيف يكون منا أو من ديننا ما يخل بالأمن القائم، أو يسعى لإحداث فتنة أو فراغ دستوري، وهو الذي يحذر من الخروج على الشرعية، لأنه طريق الفتنة، كما أنه لا يقبل قتل المعصومين بالدين أو بالذمة لأنه عدوان، والسلطة الشرعية عنده شرط الحياة السوية، و«من مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية». وإذا تزيّا أحد من القتلة بزي الدين، وابتسر الآيات والأحاديث والفتاوى من سياقاتها، ومارس المزايدة على الدين ، فإنما ذلك من باب الكذب والافتراء والتضليل. ولقد علمنا ما كان يفعله المناديب والجواسيس والمبشرون والمستشرقون من تودد وتلطف وإسلام مزور. ومن الحصافة ألا ننخدع بالدعاوى الكاذبة، وألا نساير الغلو الديني والعلماني والحزبي، وألا يستدرجنا الخطاب الغربي من حيث لا نعلم، فهؤلاء وأولئك يخلطون بين الإرهاب والمقاومة والجهاد، ويجعلون الإسلام مصدر العنف والإرهاب. ومسؤوليتنا التصدي لمفتري الكذب على الإسلام وأهله، وتصحيح المفاهيم عن الدين أولاً وعن الذات ثانياً. وإشكالية العالم الإسلامي أنه خافت الصوت، لا يُسمع اعتراضه، ولا يبلغ رسالته، وفوق ذلك فهو مشتت الانتماء: - طائفياً وحزبياً وسياسياً، والقوة الإعلامية لا تقل عن القوة العسكرية، والحرب النفسية ليست بأقل شأنا من الحرب الميدانية، ولا قوة مع التفرق.وفي ظل السعار الإعلامي يجب أن يكون خطابنا قائماً على ركيزتين: - تحديد عربي إسلامي لمفهوم الإرهاب والمقاومة والجهاد. - عدم تداول الإسلام بوصفه طرفاً في قضايا الإرهاب، ولو قال الإرهابيون بأنهم إسلاميون، فالذين يمارسون الإرهاب الحقيقي الذي نراه رأي العين في بلادنا ليسوا إسلاميين، وليست قضيتهم قضية إسلامية، وليست مطالبهم مطالب وطنية. فالحق والباطل واضحان، والأمور المشتبهة لا يجليها إلا ذوو العلم والحجى والتجربة وفقه الواقع، والعامة مطالبة بسؤال أهل الذكر. وإذ نكون مضطرين لمجادلة المتقول علينا أو على ديننا فلا بد أن يكون خطابنا مسالماً لا عداونية فيه، صحيحاً لا مغالطة فيه، ناجزاً لا مماطلة فيه، متحدا لا تفرق فيه، عازما لا تردد فيه. فكم من إنسان أو أمة سقطت حين نطقت. ولأن لكل حدث حديثاً فإن المقدمين على تفجير أنفسهم وقتل من لا يعرفون ومن لا يقصدون بأسمائهم وبأعيانهم ما هم من الإسلام في شيء، والنص قطعي في تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والانتحار، وما أولئك إلا عصابة يستخدمها أعداء الدين والحرية والحقوق الإنسانية واستقرار الشعوب، ليهدموا المعنويات والمثمنات. وإذا كان المستخفون لهم بالفتيا أو بالتأييد يدعون أنهم مجاهدون في سبيل الله، وأنهم يواجهون الكفر، وجب أن يسبق ذلك مسوغات الجهاد الإسلامي، ومنها: - الخلافة الإسلامية. ودخول الكافة في الإسلام: قولاً وعملاً وحاكمية. ومباشرة الدعوة. ومتى استنفدت الأمة: القوية المسلمة المتحدة في كل أقطار العالم كل الوسائل السلمية الممكنة، وجب إعداد القوة الرادعة، واستلهام آية: {الآنّ خّفَّفّ اللهٍ عّنكٍمً وّعّلٌمّ أّنَّ فٌيكٍمً ضّعًفْا }، والاستغناء التام عن العدو المحارب، ليس فقط بالمقاطعة، ولكن بالمنافسة والمماثلة والاكتفاء الذاتي، والاستغناء عن دعمه، وعما عنده من عدة السلم وعتاد الحرب، مع تكافؤ الامكانيات، وبعد ذلك كله النظر في مصالح المسلمين كافة: هل هي بالصلح والدفع بالتي هي أحسن أم هي بإعلان الجهاد؟ وهل هي في نبذ العهود أو باتمامها إلى أجلها؟ وحينئذ لا بد من النبذ إليهم على سواء. فالقتل ليس هدفاً بذاته، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، وهو ذروة سنام الإسلام، ولا جدال حول مشروعيته، وهو من ثوابت الدين، وشتان بين الجهاد الإسلامي وما يقترفه الغادرون. لقد أقره النص القطعي، ولم يختلف العلماء حول مشروعيته، وإنما اختلفوا حول أمور تتعلق بالخيارات المتاحة، كالاستئناف أو الإرجاء، وحول من يعلنه، ومتى يعلنه. والأجدى أن نقف حيث انتهى علماؤنا من ثوابته، ونمضي في الاجتهاد حول متغيراته وظروف المرحلة، مستصحبين خطورة إعلان الحرب المرتبط بالترسانة النووية، غير أن الدفاع مطلوب مهما كانت الظروف، ولأن للأمة خيارين: - الدعوة أو الجهاد. ولأن الدعوة ممكنة، وبخاصة في ظل الانفجار المعرفي، وثورة الاتصالات، فإن على الأمة أن تتحرف لها عبر كل قنوات الاتصال. ويظل «الجهاد» الذي يحيل عليه خوارج العصر، ويعولون عليه كالصلاة والزكاة والحج والصوم، له شروطه، وموجباته، وموانعه، وخياراته، وأهليته، فليس كتاباً موقوتاً كالصلاة، وليس من حق أحد أن يعلنه بدعوى غياب الخلافة، ولا بدعوى أنه ضد دولة كافرة، فالكافر يكون حربياً، ويكون مستجيراً، ويكون معاهداً، ويكون مستأمناً، ويكون ذمياً، ويكون قوياً متسلطاً، لا يدفع بالمواجهة، ولكن بالمصالحة أو بالاتقاء، ولكل طائفة أو طرف أسلوب التعامل معه، وبلاد الكفر فيها أقليات مسلمة، تمارس شعائرها، والدول الإسلامية المعنية بالدعوة ورعاية مصالح المسلمين أتيح لها ممارسة الدعوة والدعم، كما أتاحت تلك الدول للدعوة والدعاة ما لم تتجه بعض الدول المنتمية للإسلام، والعالم في الظروف العادية يحتكم إلى مؤسسات عالمية، يشرعن من خلالها ما يريد. ومع كل التحفظات فليس لأحد أن يعطل شعيرة الجهاد، ولا أن ينال منه، ولا أن يعلنه في ظل ظروف غير مواتية، ولا أن يتوانى في إعداد القوة. وكيف نتوانى ونخلط بين «اللاعنف» و«الضعف» والغرب وركائزه في أرض المسلمين يتسابقون في التسلح، ويستأثرون بحق إنتاج السلاح النووي، وكأنهم يريدون الاستسلام باسم السلام، وما من دولة تمارس سباق التسلح إلا وهي على موعد مع الحرب. وعند معالجة ظواهر الإرهاب والعنف والمقاومة والجهاد، فإنه لا يجوز ابتسار النصوص، ولا استلال فتاوى العلماء خارج سياقها، فالذين يستحضرون «ابن تيمية» أو «ابن عبدالوهاب» أو غيرهما، ثم لا يستحضرون معهم سياقاتهم وظروفهم يفترون عليهم الكذب. وإذا كنا نرفض الإرهاب، فإننا لا نرفض المقاومة، وإذا كنا نرفض الاعتداء والغدر ونكث العهود، فإننا لا نرضى بأن يكون الإسلام طرفاً مداناً منزوع السلاح، وإذا كنا نسعى للوفاق، ونجنح للسلام فإننا لا نرضى أن يكون ذلك من طرف واحد. ثم إن كل حدث يؤخذ بسياقه، فإذا وقع التفجير في «إسرائيل» أو في «العراق» أو في «أفغانستان» قلنا بأن المواقع ساحات حرب، تتسع لمشروعية المقاومة، فهم بين «طغاة» أو «غزاة»، وكل أهل بلد أدرى بمصالحهم، وأحق في تقدير ظروفهم، واختيار الطريقة التي يواجهون بها المحتل، فلسنا عليهم بوكلاء، ولكن من يصنع القنابل في «مكة» ويحولها إلى ترسانة أسلحة، مستغلاً غفلة المؤمنين، لا يكون مجاهداً ولا مقاوماً، ولا يحق لأحد أن يعالج الموضوع على أن الفاعل مسلم متطرف. التطرف الإسلامي غير الإرهاب الدموي، قد يكون التطرف حدة في الأقوال أو شدة في المواقف، أو غلطة في الأفعال بحيث يأخذ البعض بالخيار الأصعب في مواجهة الخصم. والصحابة رضوان الله عليهم اختلفت مواقفهم في مواجهة الأحداث، بين متشدد ومتسامح، نجد ذلك في قضية «الأسرى» في «بدر» وفي قضية «الردة» زمن أبي بكر، وفي الخلاف الذي بدر بين الصحابة، وذهب ضحيته «عثمان» و«علي» رضي الله عنهما، وفي الأحداث التي حصلت في حياة الرسول، فكان من الصحابة من يبادر في الاستئذان لقتل المخالف، فيما لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما يفعله السفاحون في البلاد الآمنة المطمئنة المسلمة لا يعد تطرفاً إسلامياً، فضلاً على أن يكون جهاداً، إنه العنف والإرهاب الذي لا يمت إلى الإسلام بصلة. قد يكون اللاعبون الكبار مارسوا غسيل الأدمغة، وقد فعلوها من قبل، ولما تزل ذيولها قائمة، ومن ثم أوحوا إلى المنتحرين بما يوهمهم بأن عملهم هذا جهاد، كيف لا؟، وقد كان الجهاد قضية «أمريكا» يوم أن حارب المسلمون بالإنابة عن العالم كله لإسقاط القطب المعادل. والمتصدون للإرهاب من المسلمين يجب ألا يسلموا لغيرهم بكل المفاهيم، بحيث يواجهون معهم الإسلام والمسلمين بوصفهم مصدر الإرهاب، وألا يتصوروا أن الصحوة الإسلامية والدعوة إلى الله والفرار إليه تؤدي في النهاية إلى التطرف. وكم نجد من يتحفظ على المناهج، والأسلمة، والإصلاح، والدعوة، وإظهار الدين، وتحكيم الشرع، والتضامن الإسلامي، ودعم الجمعيات الخيرية، ظنا منهم أن ذلك كله يغذي الإرهاب. وتداول الإسلام والتجمعات الإسلامية كطرف في اللعب الخطيرة جناية على الإسلام والمسلمين، وإن صدرت من بعض الكتاب المنتمين إلى الإسلام بالهوية. إن على قادة السياسة والفكر في العالم الإسلامي أن يمضوا في سبيل الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعم الأقليات الإسلامية لممارسة شعائرها بحرية، وإنشاء الجمعيات الخيرية، والروابط الإسلامية، والسعي الدؤوب لأسلمة المناهج، وتحكيم الشريعة، وإقامة شعائر الدين في كافة الأقطار الإسلامية، وعدم الالتفات إلى الدعاوى الكاذبة والدسائس المغرضة من العلمانيين المتطرفين، والصليبيين الحاقدين، والصهاينة الماكرين، والعمل على قمع التطرف في شقيه: - العلماني والإسلامي، وتحامي الصدام مع أي طرف ما أمكن ذلك، والتأكيد على الوسطية، واحترام مشاعر العامة المتدينة، فالإسلام دين الرأفة والرحمة والعدل والإنصاف والحرية. ومن أراد أن يعالج ظاهرة الإرهاب، فعليه أن يعرف ثوابت الدين، لكيلا يعرض نفسه لخطيئة تمس مشاعر المسلمين، وعلى الكافة أن يستدعوا كل محتل ومغتصب بوصفه رأس الإرهاب، وأن يقللوا من الربط بين الإسلام والإرهاب، لكيلا يتعرضوا للردة في القول عن ثوابت الإسلام بغير علم. فالغرب الذي يضخ لنا مبادئه ومفاهيمه وعلمانيته وعولمته بقوة السلاح يهمه أن يصيد عصفورين بحجر: نزع الأمن والإيمان معاً من بلاد المسلمين وقلوبهم. ومسايرة الخطاب الغربي ينقض الإسلام عروة عروة، ويحول دون التمييز بين الثوابت والمتغيرات. فالإسلام دين حضاري، والجهاد ذروة سنام الدين، والإرهاب لا جنس له ولا دين، وهو مرفوض في كل الشرائع، والجهاد غير الإرهاب، و«آية» إرهاب العدو كقوة الردع. وأخشى ما أخشاه في ظل هذه الفتن، أن نعطي الدنية في ديننا، وأن يخفت صوت المحقين، ويعلو صوت المبطلين، لقد جنحنا إلى السلم، وبقي الآخر متمترساً خلف ترسانته. والتنازلات من طرف واحد مكمن الكارثة، فالمسلم في ظل الإسلام لا يكون عزيزاً إلا بإعداد القوة اختراعاً وإنتاجاً وعلماً واقتصاداً وصناعة، وهو في ظل الهيمنة الغربية تابع ممتهن، يرزقه العدو ويسلحه بثمن باهظ والعالم الغربي بامكانه تحقيق التعايش السلمي متى كف أذاه، وأعطى للحضارات الأخرى حقها في الوجود، وبقدر تعديه تتسع هوّة الخلاف، وتستشري المقاومة، وحين لا يقدر المضطهد على التعبير عن رأيه والحصول على حقه بالطرق السلمية أو بالحرب المعلنة يلتمس ذلك من أي طريق، ولو أن يتحالف مع الشيطان، فالسياسات الرعناء تهيئ الاحتقان والتوتر، كما أن التطرف العلماني يسهم في إيغار الصدور، وشد الأعصاب، ومصلحتنا لن تتحقق حين نغمض في الحلول، أو حين تملى علينا، أو حين لا نبتدر خطابنا، وما أحوجنا إلى وعي ظرفنا الخطير، وصياغة خطاب سديد لينقذنا من التضليل، فليس كل طلقة إرهاباً، وليس كل طلقة من عند العالم الإسلامي، وليست الحضارة الغربية العادلة هي المنقذة. والعمليات التي تنفذ في أنحاء العالم منها ما يحال إلى المقاومة المشروعة، ومنها ما يعد إرهاباً، لا تبرره ديانات ولا حضارات. وليس من الحصافة إطلاق الأحكام على عواهنها، ولا تعميم المواقف، ففي «فلسطين» وفي «العراق» وفي «أفغانستان» وفي كل بؤر التوتر تمارس المقاومة والإرهاب معاً، وتختلط اللعب الكونية بالعمل المشروع، ويحال ذلك كله إلى المقاومة المشروعة، أو إلى الإرهاب المحظور، وعلى القائلين والمتقولين ألا تستزلهم الفتن، وكم من عملية إجرامية هزت الضمير العالمي اختلفت الآراء حولها، بحيث لم يتفق على حظرها أو مشروعيتها أو مصدرها اثنان. وأمام الفتن العمياء يجب التثبت، فمن أطلق كلمة كمن أطلق رصاصة، وكم من كلمة أثارت فتنة، وكم من رصاصة أزهقت الأمن والاستقرار، وجرّت الويل والثبور، ومع ذلك فالفتنة أشد من القتل، وما الفتنة إلا في اختلاف الأمة في قراءة الأحداث، وذلك ما يكيد به الأعداء المتربصون، وإذا سلمنا بمحاربة الإرهاب، ونحن مسلمون لا شك، فهل يسلّم غيرنا بأن يمارس في «فلسطين» من الصهاينة ذروة الإرهاب؟ وإذا سلمنا بأن المتطرفين الإسلاميين إرهابيون، فهل يسلّم غيرنا بأن قتل الشعب الآمن في عقر داره إرهاب؟ إن علينا ألا نعطي الموافقة والتسليم من جانب واحد، ونقتل معنوياتنا، وندمر امكانياتنا، فيما يمارس غيرنا رفع معنوياته وبناء امكانياته، إن تهافتنا على تداول ما يطلقه الغرب وما يطلبه، وأخذه بقوة، مؤشر ضعف وتبعية، فهل ننصف ديننا وأمتنا وقادتنا وعلماءنا؟ |
التخليات لا تحقق التجليات والمعارضة غير المفارقة..! «1/2»
د.حسن بن فهد الهويمل الراصد لأحوال الأمة العربية في عصرها الراهن لا يعايش إلا افتعال المواقف وانفعال الردود، والخلط بين المفاهيم، والإسراف في الإقبال، والتولي الجامح في الإدبار. نجد ذلك عند حملة الأقلام، وحملة الأعلام، وسائر النخب الفكرية والسياسية، وطائفة من الموغلين في الدين بغير رفق. فالطرف المطاع يصل به المريدون إلى حد التصنيم والعصمة والإحساس بأنه لا يُسأل عما يفعل، فيما يكون الطرف المخالف أو المناوئ شيطاناً أكبر، لا يصدر منه إلا منكر القول والتآمر والعمالة، وليس له ها هنا إلا ما للخاطئين من مسكن ومطعم، وما من وسطية لا تخرج البشر من بشريته، ولا تُحمِّل النفس فوق طاقتها، بل هناك توتر وانفعال وشك وارتياب وشقاق ونفاق وتأليه للهوى. وتذبذب الرأي العام بين المصنمين والمشيطنين جعله رهين المحبسين، لا يفرق بين الموالاة والمعاهدات، ولا بين الاتقاءات والمداهنات، ولا بين المحارب والمعاهد، ولا بين المعارضة والمنازعة. وهذا الخلط أدى إلى استحالة القبول باختلاف التنوع، وألجأ المستهمين على بطن السفينة وظهرها إلى إحلال الصدام محل الحوار، والتلاوم بدل التعاذر، وسوء النوايا بدل حسنها، والقطع بدل الاحتمال، ولغة السلاح بدل لغة الكلام. وهكذا أصبح الإنسان العربي شؤيَّة التناقض، وهذه المرحلة المتوترة أتاحت للمرتكسين في الفتنة أكثر من فرصة، فكل مواجهة ضدهم يتربصون بها الارتداد السريع والتراجع الذي لايلوي على شيء، فكل مهتاج أعزل من الإمكانيات المعرفية والمادية مصيره إلى التولي دون أي مسبقات. وعندما يختار البعض الطريق الأصعب والأشد، يقع في عزلة شديدة الوطأة، تضطره إلى التسربل بالدروع، والتمترس خلف الأكمات، والفرار إلى الكهوف والمغارات، وما أن تأخذه وحشة المسيء لنفسه، ويجد الطريق أمامه مسدوداً يضطر إلى التخلي عما بدر منه من قول أو فعل أو إقرار، وحين يتخلى عن آرائه يتصور البعض أن كل من قال كلمة الحق على موعد مع الرجوع عنها. والأسوأ من هذا إضفاء التجليات على المندفعين بغير علم، وبدون أهلية، وبدون أي مسوغ لتصدر الفتيا، مما يعني ان هذه المواقف هي عين الحق على كل الصعد: العلمانية والدينية والفكرية والأدبية، حتى إذا سادت وأصبحت قضية قطعية لا مجال للبحث في مشروعيتها تبدلت الآراء غير الآراء والفتاوى، وعول المتخلون عن فتاواهم على مبدأ (الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل). أملاً في أن يكتسب المتخلي عن سالف أقواله (تجليات) جديدة، تعطيه فوق ما أعطته اندفاعاته، ويكون بهذا ملء السمع والبصر في الإقبال على الآراء المتطرفة، وملأهما في الإدبار. وكأني بهذه المكتسبات تغري المترددين باختصار الطريق إلى البطولة الزائفة. فمن جازف بالآراء، ثم ضُيِّق عليه، وأطر على الحق، لم يجد بداً من الانقلاب على نفسه، كان في نظر البعض بطلاً في الأولى ومتألقاً في الثانية، وهو في حقيقة الأمر متسرع في الأولى، ومنهزم لا يلوي على شيء في الثانية. وكان يجب والحالة تلك أن نفرق بين الرجوع إلى الحق وفشل المشروع والتخلي الاضطراري لتفادي الخسارة الشاملة، وإذا قبل غيري إضفاء البطولة على مثل هذه الممارسات، فإنني أجد أن من حقي التغريد خارج السرب، ف(ذلك فزدي). والحكماء المجربون يحذرون القول الذي يضطرهم إلى الاعتذار أو الانكسار، والعاقل الحصيف من يعرف المخارج قبل المداخل، ولقد رأينا طائفة من المجازفين وعايشناهم، وكان بإمكاننا أن نفعل فوق ما فعلوا، وخطؤنا التردد في الإنكار عليهم، وتفضيل الموقف الحيادي، حتى صرنا إلى ما صرنا إليه، ثم كان أن تخلوا عن كل ما قالوه، وحسناً فعلوا، وقبيحاً أن نسمي الأشياء بغير أسمائها. ولما لم يكن اندفاع الرأي العام وغوغائيته وقفاً على حدث بعينه محلياً أو عربياً، لزم استدعاء كثير من الظواهر والأشخاص الذين ملؤوا المشاهد السياسية والفكرية والدينية والأدبية، منذ بدء الثورات العربية، التي أذلت الإنسان العربي، ولعبت بعواطفه من علمانية متطرفة، إلى قومية متشنجة، إلى طائفية متسلطة، إلى غلو ديني مدمر، إلى استغراب ماسخ، أو تبعية مُذلَّة. فماذا كان الموقف من الحرب (الأفغانية) و(العراقية الإيرانية) إبان اشتعالها، وما الموقف من ذيولها وآثارها ونتائجها، بعد ان تعرت اللعب، ووضعت الدعاية أوزارها، وكم ألقي على كراسي القيادة العربية من أحزاب ومبادئ وأنظمة، ولكنها لم تنب، كما ناب سليمان عليه السلام. وعلى مستوى العلماء والدعاة والساسة نضرب المثل بالمواقف: (الذاتية) و(الغيرية). فهذا (سيد قطب) رحمه الله، اندفع الرأي العام المناوئ للاشتراكية والعلمانية إليه، واقبلوا على كتبه وآرائه يطبعونها ويوزعونها بالمجان، ظناً منهم أنها صالحة لكل زمان ومكان، وما علموا أن مشروعه الإسلامي صيغ ليكون في وجه الاشتراكية الشرقية والعلمانية الغربية. ولما أن تبين المراهنون على مشروعه أنهم قدروه فوق قدره، واستعملوه في غير محله، كانت ردة الفعل، إذ نبذوه، ونالوا منه، وحمَّلوه مسؤولية التطرف، على شاكلة الاسقاطيين الذين يبحثون عن المشاجب، ليتخففوا من تأنيب الضمائر، وما كان من حقهم من قبل أن يأخذوه بقوة، وما كان من حقهم فيما بعد ان ينبذوه بعنف، ويذموا صاحبه على الإطلاق. (سيد قطب) عالم ومفكر ومفسر ومجاهد، عرفته يوم أن كان صدى لفكر العقاد، ويوم أن تخطاه إلى الفكر الإسلامي، ويوم أن تجَلَّت حركيته واقتيد للمشنقة، فكان أن استفدت من معارفه وتجلياته، ولم أتبن عزماته. وحقه علينا الدعاء والترحم، وما تركه من كُتب تعد إضافة للفكر الإسلامي، وليس شرطاً أن تكون مشروعاً عملياً، نأخذ بها جملة وتفصيلا. مع أن مشروعه ومقاصده إذ ذاك تحيل إلى ماهو قائم في البلاد من إظهار للدين، وتحكيم للشريعة، ومن ثم فإن مشروعه السياسي دواء لوضع غير وضعنا، وحين ضربه المتسرعون، أحدث عندهم مغصاً ودواراً، فقطعوا بفساده، وما كان الفساد إلا في تصرفهم، ومن ذا الذي يجرؤ على النيل من (الظلال) وأشياء من (العدالة..) و(أمريكا من الداخل)، ولو فعل الناس مع كل من يختلفون معه فعلهم معه لما بقي على ظهرها من محسن، وها نحن نجد من ينال من مشروع (ابن تيمية) رحمه الله ومشروع (محمد بن عبدالوهاب) رحمه الله، وما كان الخطأ إلا في ابتسار النصوص أو تبني الأفكار مع تغير الأحوال، فمشروع (ابن تيمية) الجهادي في زمن (التتار) ومشروع (ابن عبدالوهاب) لحفظ جناب التوحيد، في زمن الجهل والخرافات والتمزق والقبليات والإقليميات، وفاتنا أن لكل زمان دولة ورجالاً. ولا أن يحرم من حقوقه بوصفه مواطناً، كل الذي نريده وضع الأمور في مواضعها، وإنقاذ الرأي العام من قلب الحقائق، فالمعارض يختلف عن المنشق، والراجع إلى الحق يختلف عن الفاشل المغلوب على أمره، إذا عرفنا ذلك، وأيقنا به، فليس لنا من بعده أن نطالب بصيغة معينة من التعامل، بل نطالب بالعفو والصفح ليعود المنشق الفاشل أو المتخلي إلى الصف كما خرج منه، ومتى تصورنا الأمور على غير ذلك، رمَّت جروحنا على فساد، وأتحنا الفرص لمغامرين آخرين. إن على مثل هؤلاء أن يعودوا متجردين من التمشيخ، ويقصدوا مقاعد الطلب بتواضع وندم، ليعرفوا حكم الله في المخالف، لقد خطؤوا أنفسهم فيما قالوا بمحض إرادتهم، وبدون أن يتنزل عليهم وحي من السماء، وما ارتكبوه من أخطاء أدت إلى مصائب فادحة، إن كان المفجرون قد أخذوا بآرائهم. لقد كانت لهم آراء في مقترفات ومقترفين، وفجأة برؤوهم دون تحفظ أو تحديد أو تخفيف ومن المخالفين من لا تبرأ الذمة بتزكية قوله، فالمخالف المقترف فعلاً أو قولاً يظن أنه على صواب، ومن ثم انطلق يهنئ مخالفه على التوبة، ولما يزل على خطيئته أو لممه. إن هذه الدوامة من الفعل ورد الفعل خلطت الأوراق، وفتحت أكثر من ثغرة، فلا المعتدل يعرف أنه معتدل، ولا المخطئ يعرف أنه مخطئ، وتلك كارثة تصيب الأمة في الصميم، إن من حقنا الحيلولة دون ان يتنفس الحاقدون، ليقولوا هذا هو الإسلام، وهؤلاء هم أهله، يحرِّمون بلا دليل، ويحلِّلون بلا تفصيل، فحين نقبل المتخلي عن قول أو فعل، فإنما يجب قبوله للعفو عما سلف، لا أن يعود رمزاً يبحث عن تجليات جديدة، ليغرق في التطرف المضاد، ثم نكون مع قضايانا المصيرية العربية بين الافتعال والانفعال. لقد كانت لعلماء الأمة بحق وحقيق مواقف من علماء ومفكرين وأدباء لم يصلوا بها إلى حد التكفير، ولم يشرعنوا لأنفهسم المواجهة المسلحة أو استعداء السلطة عليهم، وإنما أعلنوا مخالفتهم، وحددوا وجوه الخلاف، وألزموا خصومهم كلمة الحق، ومازالوا على آرائهم يختلفون مع غيرهم، ولكنهم لا يكفرون، ويعترضون، ولكنهم لا يفجرون، ويصدعون بالحق، ولكنهم لايخلون بالأمن، لايصادرون حقاً، ولا يستعدون سلطة. وهؤلاء الذين غلوا في الدين بغير رفق، وكانت مواجهتهم عنيفة، ثم فجأة ألقوا السلام، وشرعنوا لمخالفيهم ما كانوا كفروهم عليه، خرجوا من النقيض إلى النقيض، وكلا طرفيهما ذميم. هذا الاضطراب مدعاة إلى الشك والارتياب وتضليل الرأي العام. وفقهاء السلطان المتزلفون المرتزقون كما يسميهم أولئك مازالوا عند رأيهم الذي تجاوزه الناكصون في الذهاب والإياب، حتى لكأني أراهم ألعوبة بين الإفراط والتفريط. لقد مللنا من تزييف المواقف وقلب الحقائق، وإذا كان علماء السلف يختلفون فيما بينهم ثم يلتقون حول ما طلب منهم الرد إليه، يرجعون إلى ما تطمئن إليه نفوسهم، ومن تعقب كتب الفقه المقارن: ك(المغني) وكتب الخلاف ك(الإنصاف) تجلت له عظمة العلماء، وعرف متى يكون الرجوع إلى الحق فضيلة. |
التخليات لا تحقق التجليات والمعارضة غير المفارقة!! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل والذين يخرجون على الشرعية بقول أو بفعل، ثم لا يفرقون بين المعارضة ونقض الميثاق، يزجون بالأمة في أتون الفتن، ويفقدون الاعتصام الهادي إلى صراط مستقيم، فكل نظام سياسي لا يكون فاعلاً حتى يجد سبيله إلى التمثيل، والنظام السياسي الإسلامي يقوم بالبيعة، وهي لا تقوم إلا على السمع والطاعة في المنشط والمكره، ولا يسوغ نقضها إلا عندما يحدث الخليفة كفراً بواحاً عند العلماء فيه من الله بيان قطعي الدلالة والثبوت، والمعارضة غير النقض، لأنها اختلاف معتبر، فيما يكون النقض فسخاً للبيعة، وإذ لا تكون المعارضة محظورة يكون من واجب ولي الأمر الإصاخة لذوي الرأي، ومن حقه عند اختلاف التنوع العزم والحسم، وهو ما توحي به آية الشورى: {فّإذّا عّزّمًتّ فّتّوّكَّلً عّلّى اللهٌ} فالعزم هو البت في القضايا المختلف حولها عند الملأ المفتين وأهل الرأي والمشورة، ولو لم يكن لولي الأمر عزم يبت فيه مسائل الاختلاف لكان أن وقعت الأمة في المراء العقيم، وضاعت مصالح العامة، وتحول الناس من جد العمل إلى فضول السفسطة والمناكفات، والسفسطة: ظاهرة فلسفية إجرائية مؤداها الجدل من أجل الجدل، و«العزم» المنقذ في لحظات الارتباك لا يعني مخالفة كل الأطراف، ولا يعني الاستبداد بالرأي، ولا يعني حكم الفرد وإلغاء الرأي العام، كما لا يتسع لمفهوم أن الشورى ملزمة أو غير ملزمة، وتداول مثل هذه المفاهيم يعني التقليل من أهمية الشورى الإسلامية، والقدح في الفكر السياسي الإسلامي، وكل ما أفهمه أن «العزم» يعني الميل إلى ما تطمئن إليه النفس عند تضارب الآراء واختلاف وجهات النظر وعدم الوصول إلى رأي موحد، وحين يحصل الخروج على الشرعية باسم المعارضة المشروعة يرتبك الرأي العام، بحيث لا يفرق بين المعترض على الفعل والخارج على الفاعل، وفي ظل هذه الأطياف فإن على المتقَحِّمين لمشاهد السياسة أن يتقنوا المفاهيم، بحيث يفرقون بين المواقف، فالمعترض يجادل بالقول، والمفارق يواجه بالسلاح، والمعارض يراجع في المسائل، والمنشق ينازع على الشرعية، وبين الاثنين مثلما بين لغة الكلام ولغة السلاح. فالاختلاف والمراجعة والنقد والمساءلة والمناصحة وإبداء الرأي حق مشروع بضوابطه وعبر قنوات التوصيل المعتبرة والمأمونة العواقب، وقد قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: - «لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها»، ثم إن الاستماع للرأي المعارض لا يعني القبول به على إطلاقه، وليس من تمام المعارضة أن تنصاع السلطة إليها، ولا أن يُجمع الناس على أنها الأجدى والأهدى. المعارضة حق، وسماعها واجب، والقبول بها مرتبط بمصلحة الأمة وبقدرة قادرها على التنفيذ، فقد يكون رأي المعارض فاضلاً، وما عليه ولي الأمر مفضولاً، ولكن الظروف والإمكانيات تحول دون التحول من المفضول إلى الفاضل، المهم أن يسمع ولي الأمر، وأن يوفر قنوات مأمونة للتواصل، تمكنه من استجلاء الآراء والأخذ بأحسنها، وأن يجد المعارض حرية القول المنضبط، ولس من مقتضيات المعارضة عدم الولاء والمحبة، ولهذا جاء في الحديث: «أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً» ولما أشكلت إعانة الظالم على الصحابة، وضحها المشرع بأن الإعانة تعني رده عن الظلم، وإذ يكون من مقتضيات الولاء السمع والطاعة لا يكون من مقتضياتها القبول المطلق، وإنما هي المشروطة، والقول عن الخطأ غير المقصود أو التصرف غير السديد من النصح والولاء والاخلاص والمحبة، وليس من مقتضيات المعارضة التحزب ولا التكتل، ولا تعمد تفتيت الأمة، ولا تشكيل الزعامات المعارضة، وليس من مقتضياتها التباهي بها والادلال، وليس من مقتضياتها تشكيل جماعات الضغط، وتهييج الرأي العام، واستغلال العقل الجمعي، وليس من مقتضياتها أن يكون المعارض أزكى من الموافق أو الصامت، فالخطاب الثوري يفترض العداوة مع السلطة وتخوين الموالين لها دونما تفصيل، ومن الخير أن يقول المعارض كلمته ويمضي، وعلى ولي الأمر أن يلقي السمع وهو شهيد. والذين يكيدون لولي الأمر يكيدون للبلاد، والذين يصدقونه ولا يصدقون معه يكيدون له، والمقتدرون الصامتون عن الحق إيثاراً للسلامة وصفوا بأنهم شياطين خرس، وكم هو الفرق بين صامت يتأمل ويستبين وصامت لا يبالي بأي واد هلكت الأمة، والذين يطوقهم ولي الأمر شطراً من مسؤوليته ثم لا ينصحون لله ولرسوله وللمؤمنين، يخونون أماناتهم، وعلى كل الأحوال فنحن أحوج ما نكون إلى فهم الأشياء على أصولها، وإذ نكون مع «المعارضة» بضوابطها فإننا ضد الانشقاق، فالمفارقة والمقاومة تؤديان إلى الفتنة، وقد تمتدان إلى الفراغ الدستوري، والمسايرة الخاطئة أو تبرير الأخطاء تؤديان إلى الفساد الكبير، وخيانة الأمانة تعوق مسيرة البناء، وما نسمعه ونشاهده عبر المواقع والقنوات من نيل مباشر وافتراء كاذب ومبالغات زائفة دليل على أن المسألة ليست معارضة مشروعة، وإنما هي نقض للميثاق، وتنازع على السلطة، وخلط للأوراق، تفوت الفرص على الناصحين، واختلاف وجهات النظر لما تزل قائمة عند العقلاء والمجربين، والصحابة رضوان الله عليهم راجعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما هو من أمور الدنيا وقال لهم: أنتم أدرى بأمور دنياكم، فعلوا ذلك، وهم يعلمون أن من ثوابت العقيدة أن يكون الرسول أحب إلى المؤمن من نفسه وماله وولده، ومتى تعرضت الأمة لعدم التفريق بين المعارضة والنقض، واختلطت عندها المفاهيم، تحركت الأيدي الآثمة المتربصة لتخلق التناقضات والتناحرات، ثم تمد هؤلاء وأولئك بالسلاح، تبديه تارة، وتخفيه أخرى، حتى إذا شارفت أي فئة على حسم الموقف، اتجه التأييد إلى خصومها، وهكذا تعيش الأمة المصابة بهذه الأدواء بين جزر ومد، لتفقد في النهاية أمنها واستقرارها وثروتها بل تفقد وجودها الكريم، وحتى لا يعرف المقتول لماذا قُتل، ولا يعرف القاتل لماذا قَتل، وإذا كانت السلطة غنيمة تتنازع عليها القبليات والطائفيات، وتحسم أمرها الثكنات العسكرية تصبح العامة كقطيع الماشية، أما إذا كانت المصلحة العليا هي الهدف فأي مواطن تلقى الراية فهو أحق بها، وواجب الخاصة المقتدرة أن تحمي الساقة وترود للمقدمة، وتحويل السلطة إلى هدف أسمى يعرض البلاد إلى الويلات، و ما الثورات المتلاحقة إلا ناتج صراع على السلطة، وكل الذين ينتزعونها بقوة السلاح، لا يحافظون عليها إلا بقوة السلاح، ومن أراد أن يعرف خطورة الفراغ الدستوري فلينظر إلى من حوله من دول كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، ثم عصفت بها الفتن، ودخل أهلها في حروب أهلية أو طائفية أو حزبية أو حدودية، أذهبت الحرث والنسل، إنها بلاد ذاقت حلاوة الأمن، وتمتعت بالاستقرار، ونعمت بالرخاء، ثم اختارت التنازع على التعاون، والتفرق على الاعتصام، ومنازعة الشرعية على مناصحتها، ونقض الميثاق على الوفاء بالعهود، فأصبحت ناراً تلظى، وفقد أهلها كل مقومات الحياة الكريمة، والنكسات المؤلمة ربيبة من لا يفرق بين التآمر والتقصير الذاتي، ولا بين الوصولي والأصولي، ولا بين المقاومة والإرهاب، ولا بين المعارضة المشروعة والانشقاق المحظور، وعجبي من أناس يعيشون حالة من العقد النفسية، بحيث يجعلون كل خطيئة ناتج تآمر، وأعجب من ذلك مثقفو سماع جوف ينفون التآمر جملة وتفصيلاً متخذين الحضارة الغربية قدوة وعضداً، ومصائب الأمة من كتبة منشئين على عين الأعداء، يقولون ما قالوا، ويزعمون استيعاب الحضارات، ومن ناشئة لا تعرف الفتن، لقد فتح شبابنا عيونهم على الأمن والرخاء والاستقرار، وظنوا أنه باق فيهم، وأنهم أهله وخاصته وأحق به، ولقد أشار «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه إلى أن نكبة الإسلام والمسلمين ممن لا يعرفون الجاهلية، إن على قادة الفكر والإصلاح والدعوة أن يبصّروا الشباب بخطورة الوضع واختلال الزمن النفسي والفكري، فما عدنا نتحمل مزيداً من الترديات، ودعاة السوء يتخطفونهم من كل جانب، ويدفعون بهم إلى مهاوي الهلكة، والكتبة المبتدئون والمتهافتون على القنوات والمواقع دون وعي، يتعمدون الإثارة بمقاربة المناطق الحساسة، وقد يتبنون أفكاراً منحرفة، لا يعرفون حكم الله فيها، ولا يعرفون مجالات الاختلاف المعتبر، وما لا مجال فيه للاجتهاد، ولم يحرروا أركان الإيمان ولا نواقضه، من ثم يتسلقون إلى محاريب الضوء، ليكونوا على كل لسان، ويحسبون ذلك من المغانم، وما هو إلا عين المغارم، وليست مصائب الأمة في «عالم» متمكن يختلف مع بعض السوائد والمسلمات في خطبه أو مواعظه أو فتاواه، وإنما هي في «متعالم» فج الآراء متسرع في الأحكام، يختط لنفسه مشروعاً سياسياً قائماً على العنف وتصفية الطرف الآخر، ويتفانى في إسقاط السلطة، وهو لا يملك مشروعاً ولا كوادر ولا قاعدة عريضة، وكل حساباته تقوم على الحلم الطوباوي الذي يحسب أنه يتحقق بإسقاط النظام، ثم لا تكون له حسابات فيما بعد، ولقد قدمت أمريكا أوضح الأمثلة، حين أسقطت النظام في العراق، ولم يكن في حسابها أن إعداد البديل أخطر من إسقاط القائم، فكان أن انغمست وانغمس معها شعب بريء في حمأة الفتن، وحتى الذين يطالبون بخروج المحتل في ظل هذه الظروف يدفعون بالشعب العراقي إلى حمامات الدم، الاحتلال خطأ فادح، وإسقاط النظام دون بديل خطأ فادح، وخروج المحتل واللحم على الوضم نكبة موجعة، والشعوب دائماً تكون ضحية «المتعالمين» و«الطوباويين و«المجازفين»، إننا نخلط بين العالم والمتعالم والمعارض والناقض ومن يريد إسقاط الشرعية ومن يريد إصلاحها، ومثلما تتضرر الأمة في اختلاط المفاهيم بين المعارضة والانشقاق، تتضرر كذلك في الخلط بين «عالم» يملك مشروعية الاجتهاد، ويتوفر على أهلية الطرح، ويقول رأيه في القضايا، وهو على علم بالظروف والأحوال والممكن والمستحيل وفقه الواقع ومتطلبات المرحلة، و«مبتدئ» مهتاج أعزل لا يقدِّر ولا يدبر، يتبنى شق عصا الطاعة، ويجمع من حوله المريدين، ويناصب الآخر العداوة والبغضاء، يتبنى الحدية والواحدية، ويشكك في الأهلية والأحقية والأمانة، ويحرض على المقاومة والتمرد، ولن تستقيم أحوال الأمة حتى توضع الأمور في مواضعها، فلا يقال للمخفق إنه متراجع، ولا للمتراجع إلى الحق إنه انتهازي.. وعلى الرأي العام ألا يندفع وراء سراب القيعان، ولكيلا أُقرأ على غير ما أريد، أقول: إنني أرحب بعودة الهاربين بأبدانهم أو المخالفين بأفكارهم، وأحمد الله على لمّ الشمل وتوحيد الكلمة، وليس بعد هذا من مزيد، وأتمنى من كل قلبي أن يعود الهاربون بأبدانهم وأفكارهم خارج البلاد والمنشقون المختفون في الكهوف والمغارات إلى أهلهم وذويهم، وأن يمارسوا حقهم في المراجعة والمناصحة تحت ضوء الشمس، فما عادت الأمور تتطلب مزيداً من المشاكل، والبلاد وأهلها وقادتها بأمس الحاجة إلى الكفاءات الوطنية التي أخطأت الطريق أن تعود إلى سربها، إن البلاد تنعم بالأمن، وما عليه قادتها ومسؤولوها وعلماؤها ومفكروها من تقصير يمكن علاجه بالتي هي أحسن، وكلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون، وما عصم إلا الأنبياء، ومن ثاب إلى رشده من قبل أن تقدر عليه السلطة استحق اللطف في المساءلة والرأفة في العقاب، فليبادر أبناؤنا وفلذات أكباد البلاد إلى حضنه الدافئ وعطائه الثر، وعلى رجال الفكر أن يتلقوا راية النصح والتوعية والتهدئة بروح متفائلة وموعظة حسنة ودفع بالتي هي أحسن فالزمن غير مواتٍ، والعبوات الناسفة تملأ الرحب، والعالم العربي والإسلامي يعيش حالة من الضعف والتفكك والهوان، وليس بمقدور أحد من حملة همه أن يضع التصور النهائي للمستقبل، ولكن عليه أن يعي نفسه وواقعه، وأن يمد رجله على قدر لحافه، والزمن زمن الهدوء والسكينة والارتداد إلى الداخل والتعاذر والتعاون على البر والتقوى. |
لكل حدث قراءته والموقف منه..!
د. حسن بن فهد الهويمل الحوادث الأليمة المتلاحقة في الساحات العربية والإسلامية والعالمية طوت صفحات، ونشرت أخرى، جاعلة التاريخ السياسي الحديث ذا مرحلتين: مرحلة ما قبل تهديم «البرجين» وضرب «البنتاجون»، ومرحلة ما بعدهما. على غرار التاريخ السياسي العربي قبل «النكسة» وبعدها، وقبل احتلال «الكويت» وبعده، وقبل «سقوط بغداد» وبعده. إذ كل يوم تطلع فيه الشمس يكون للأمة العربية بداية تاريخ أليم. وبعد كل لعبة موجعة تنقلب الخطابات، وتختل الموازين، ويصاب أصحاب المواقف المبدئية بإحباطات مؤلمة. فعندما رفعت أقلام المؤرخين، وجفت صحف التاريخ الحديث بجزئه الأول، طويت معه «أجندة» السياسة المهيمنة، ونزلت إلى المشهد «أجندة» جديدة. والبسطاء من الناس من لا يمتلكون إلا آلية واحدة للقراءة، ولا ينظرون إلا إلى زاوية واحدة من زوايا الحدث، تحكمهم الثبوتية والنمطية، وتتحكم فيهم واحدية الرؤية. وقراء الأحداث المعمَّاة كقراء الكف، يفترضون مصائر قد لا تكون، وهم مع هذه الأدواء القرائية لا يتخلصون من امكاناتهم المعرفية وأنساقهم الثقافية وسياقاتهم الآنية: فالسلفي والعقلاني والقومي والعلماني و«الراديكالي» والذرائعي، والمادي والطائفي، ومن رجله في الماء البارد، ومن رجله في النار الملتهبة، لكل واحد منهم آليته ومستخلصات قراءته ورؤيته المستقبلية. وقل أن تجد قارئاً بريئاً لا تحكمه أنساقه، وقلَّ أن تجد توافقاً في القراءة، وقلَّ أن تجد قارئاً متنوع القراءات، ينتاب الحدث من عدة زوايا، ويكتنفه بكل هذه الأنساق، وبكل مستويات القراءة وآلياتها، ويخرج بنتائج معقولة وموضوعية. ولما كانت الأزمنة والأحداث والأناسي ليسوا سواء وجب أن يكون لكل مرحلة «خطابها» و«مستواها القرائي»، ولكل قارئ رؤيته وتصوره. إذ كل نخبوي أسائله عن حدث بعينه تكون له رؤية مخالفة أو مناقضة لمن سبقه أو زامنه أو لحق به، حتى لقد كدت أذهل مما أسمع. و«أمريكا» بوصفها الأكثر حضوراً وتقحماً على خلوات القراء، تشكل المقروء الأصعب، كما أنها القارئة الأخطر، لأنها الأقوى، والأشد اندفاعاً، والأكثر تدخلاً في خصوصيات الآخرين، وبخاصة بعدما تجرعت مرارات الذل في لحظات التعملق والفرادة. ومن حق كل ممسوس بالضر من هذه القسوة المتغطرسة، أو خائف منها أن يختط لنفسه منهجاً قرائياً ونهجاً تعاملياً مواكباً لهذه الحالة الاستثنائية المتوترة. وعلينا نحن نواجه تحديات متعددة أن نقرأها قراءة واعية. ف«أمريكا» المدنية، وأمريكا العلم، وأمريكا الاقتصاد، وأمريكا الشعب، غير أمريكا «البيت الأبيض» و«البنتاجون» و«المخابرات» و«الإعلام» و«جماعات الضغط الصهيوني». وقراءة الثالوث: السياسي والإعلامي والمخابراتي تختلف عن قراءة الوجه الآخر، وجه المدنية والحضارة والعلم و«التكنولوجيا» التي نلتقي مع الكثير منها، ونختلف مع الأكثر، ولكنه اختلاف يمكن تلافي سلبياته. وقراءة «أمريكا» المحمومة المتوترة غير قراءتها في وضعها السوي. وحين نرتب موقفنا منها على ضوء قراءة مبتورة أو لحظية نخسر الرهان السليم، وقد نتجرع مرارة ضربة استباقية، أو محاصرة إرهاقية، أو نضطر إلى تراجع مذل واستسلام مهين، مثلما فعلت بعض الزعامات المتعثرة على خواء وجبن. أمريكا دولة قوية في كل شيء، ضالعة في كل شيء، ولديها أكثر من ورقة تلعب بها ضد من يعكر صفوها أو يتعرض لمصالحها، والناس: اللاعنون لها والمربتون على أكتافها يودون احتواءها وتصفية الخلافات معها. وكم من لاعن لها على رؤوس الأشهاد يسبح بحمدها ويقدس لها من وراء الكواليس. ومع كل ما هي عليه، وما بدر منها فإن من مصلحة الشعوب النامية أن تقترب منها، وأن تتحامى منازعتها، لأنها دولة لا تنظر إلا من خلال كوة المصالح، وسياستها «ميكافيلية»، كما أنه ليس من مصلحة الصغار أن يضعوا أيديهم في يدها لمواجهة خصومها، فهي حين تكون معك، تغطي كل عيوبك، وحين تقضي منك وطرها تحمِّلك عيوب غيرك، والأجدى ألا نناصبها العداء، وألا نعادي من أجلها، وتلك معادلة صعبة، ولكنها ممكنة. وإذا كانت أمريكا في راهنها المضطرب لا تملك خطة واضحة ولا طريقاً قاصداً في مواجهة الأحداث، ولما تزل في ارتباك منذ أن تفكك الاتحاد السوفيتي، ومنذ أن ضُربت في الصميم، فكيف يتأتى لمن سواها الاتزان، وأنى للدول المسكونة بالقلاقل ترتيب طرائق المواجهة أو الموافقة. لقد كان أمامها بعد الضربات المذلة مسؤوليات: الأول: رد الاعتبار، وإثبات أنها لم تتأثر بعد غزوها في عقر دارها، وأنها قادرة على الوصول إلى خصومها في مخابئهم، وقد فعلت ذلك، فغزت «أفغانستان» و«العراق» ولوحت ل«سوريا» و«إيران» وطوعت «ليبيا» و«السودان» ولكنها لم تحسم الموقف لصالحها. الثاني: إعادة التركيبة العالمية: - ثقافيا. - واقتصاديا. - وسكانيا. - وأيديولوجيا. وقد باشرت ذلك الفعل الخطير، وبدأت تتدخل في المناهج والثقافات وأنظمة الحكم، ممتطية صهوة «العولمة»، وهي إذ نقضت غزل بعض الأنظمة وجعلته أنكاثاً لم تحقق ما وعدت به من أمن وحرية و«ديموقراطية» لتحفظ أصدقائها وتمنع أعدائها. الثالث: إعادة ترتيب الأولويات فيما يتعلق: - بالأصدقاء. - وبالمصالح. - وبالقواعد العسكرية. وقد فعلت الكثير في هذا السبيل مختصرة ذلك كله بمقولة: «إن لم تكن معي فأنت ضدي» بحيث قست في لومها، وجارت في مطالبها، وتعسفت في إجراءاتها. الرابع: إحكام قبضتها على العالم، وتحقيق مفهوم القطب الواحد. وها هي توالي حملاتها على دول المنطقة الملتهبة فارضة أقسى الحلول. وأمام هذه الأولويات المؤذية لا بد من تحرف رشيد لصيغة الخطاب وآلية القراءة ليحدا من الفوضى، ويقربا بين وجهات النظر، مع التحسب لقراءتها الخاطئة، وكل مقدمة خاطئة تؤدي إلى نتيجة خاطئة. ومما يضاعف تعقيد الإشكالية أن حساباتها لمواجهة مسؤولياتها لم تحقق نسبة النجاح المطلوب، وإذا حققتها فبأثمان باهظة، تطال الأنفس والأموال والعتاد والعدد: أمريكياً وعربياً وعالمياً. والإخفاقات تطال الممارسات والتحركات «المكوكية». فزيارة «بوش» لحليفه وشريكه في الاحتلال تجلت فيها متغيرات في الشارع الأوروبي عامة وفي اضطرابات الخطاب البريطاني على وجه الخصوص، وفي النتائج. ولعلنا نذكر الاستفتاء الأوروبي الذي قلب الطاولة على الصهيونية، وزيارة «شارون» ل«إيطاليا» التي أعادته دون المؤمل. والارتباك الواضح يتجلى للمتابعين لخطابات «بوش» و«بلير» وكل ذلك يحال إلى خطأ القراءة. لقد كانت مهمتهما الأولى مواجهة الإرهاب واجتثاثه، وقبل الناس ذلك، وبدأت أمريكا المواجهة في «أفغانستان»، ولما تزل الأوضاع سجالاً، فلا «قرضاي» انتصر، ولا «الملا عمر» قتل أو أسر أو انتحر. و«أمريكا» وحدها التي تدفع الثمن الباهظ من رجالها وعتادها وسمعتها. ودافع الضرائب الأمريكي يصيخ إلى النتائج، ويتحكم بكل شيء، بحيث يحسب له الحزب الحاكم كل الحساب، فهو الذي يدخل زعيمه البيت الأبيض عزيزاً أو يخرجه منه ذليلاً، وذلك هو المأزق لكل رئيس، وبخاصة حين لا يكون هناك بوادر انفراج يلمع بها الرئيس وجهه، ولو في فترة الانتخابات الحرجة. ولم يكن المواطن الأمريكي وحده الراصد والمتابع، بل وقف الناس كلهم أجمعون: الموالون والمناوئون والحياديون، ينظرون جميعاً إلى الفعل وإلى النتائج. فكان أن جاء الفعل مرتجلاً والنتائج عكسية، فما وسع الموالين إلا التبرير، وما وجد المناوئون إلا الشماتة، أما الحياديون فانشقوا على أنفسهم، وتقاسمتهم فئتا: المعية والمناوءة. وكل الفئات لم تتمكن من الوقوف على حقائق دامغة، فالمسألة رهانات على طائر في السماء أو على سمك في الماء، ولو قرنت الأحداث والمحدثين وفق متطلبات المرحلة، لكان أن خفت وطأة الفتن، وأمكن تلافي الشتات والشقاق. ويظل الراصد والمتابع والمستشرف في حيرة من أمرهم، فالرهانات المتداولة في الشارع العربي ليست متقاربة. فرهان حول تفكك أمريكا على شاكلة الاتحاد السوفييتي، ورهان على سقوط الحكومات العربية والإسلامية وقيام أنظمة «ديمقراطية»، ورهان على الاستسلام غير المشروط لمن بقي من الدول الهشة والتوقيع على بياض، ورهانات أخرى ليست من المعقولية على شيء، وفي النهاية تجري الرياح أو تسكن رغم أنف الربَّان. وأمريكا التي تورطت في أكثر من عملية، وخرجت منها بخسارة فادحة وخطيئة غير مغتفرة تعيد «السيناريوهات» نفسها في مواقع جديدة مكرهة لا بطلة. ولم يضطرب الخطاب الأمريكي بوصفه ناتج قراءة خاطئة اضطرابه في الشأن «العراقي»، لقد جيء بسلاح الدمار الشامل كمبرر للحرب، وضرب العراق الضربة الموجعة له، وللعالم العربي من حوله، وللمؤسسات العالمية، وللشرعية الدولية. وجاءت الغلطة القاصمة لظهر أمريكا بإعلان الاحتلال، وبحل وزارة الدفاع والداخلية، ونهوض الجيش المحتل بحماية الأنفس والمدن والثغور، وفات «أمريكا» أن مجرد الفراغ الدستوري كاف لشغلها. ذلك أنه يؤدي إلى فتن عمياء، نشاهد أطرافاً منها، والمستقبل ينطوي على ما هو أسوأ. وتتكشف أوهام القراءة وتخبط الخطابات، وتتعرى اللعب عند عدم العثور على سلاح الدمار الشامل، وتظهر خطيئة الكذب على الشعب، وممارسة الكذب من أخطر المقترفات في الدول «الديمقراطية»، ومع ذلك انتظر الناس كثيراً، ولما تهتد أمريكا ولا بريطانيا إلى شيء من مسوغات الحرب، حتى بعض القبض على «صدام». وبدأت نغمة محاكمة القادة لكذبهم على شعوبهم، فكان أن تحول الخطاب إلى جعل مهمة الغزو الأمريكي إحلال «الديمقراطية» وتحرير الشعوب المضطهدة. نقول هذا لنؤكد أن خطأ القراءة ليس وقفاً على طائفة دون أخرى، فقراءة أمريكا للأوضاع العربية قادتها إلى أنفاق مظلمة ومستنقعات موحلة. إن قراءة الرجل العادي ورجل الدولة لمجمل الأحداث والوقوعات يجعلهما يعيشان في حالة من الذهول والارتباك، وقراءة الراهن مغامرة محفوفة بالمخاطر، فهل نغامر بالقراءة أم نطوي الصحف إلى حين، وندع الأحداث تنبئ عن نفسها؟ إنها معضلة، فالإقدام والإحجام لكل منهما آثاره ومحاذيره. ولما تزل تحولات الخطاب الأمريكي واضطرابات القراءة قائمة، وفي كل تحول تفقد أمريكا أشياء كثيرة، تفقد الأصدقاء، والمصداقية، والموالين، والمعجبين، والمحبين، ويتنفس أعداؤها المنبوذون والمطاردون والمحاصرون والمتربصون، فيستفحل الإرهاب، وتنشط المقاومة، وتتعرض مصالحها للتفجير مما يحرج أصدقاءها، ولما تزل في غباء أو تغابي، بحيث لا تريد القراءة البريئة ولا الخطاب الثبوتي، فهي إذ تسهم في صنع الإرهاب أو في تكوين حواضنه من خلال ممارساتها، تصر على إحالته إلى منهج أو دين أو أمة، ويظل معها الخليون يقولون ما تقول، وتظل في الساحات الملتهبة كما نرى، تمنى بنكسات موجعة، وتظل في الساحات العالمية كما نشاهد، تواجه تحديات ومظاهرات وتساؤلات، وقد لا تريد قراءة الأحداث كما هي، بل كما تريد، وهي إذ تظل مع إحالة الإرهاب لدول وحضارات ومناهج وحركات يظل المتسرعون معها في المنشط والمكره ينوبون عنها في ترويج الافتراء. وأمام هذا الاضطراب، وهذا الاهتياج العملي والقولي يجب على النخب الإعلامية والعلمية والثقافية وقادة الفكر أن تدق نظرتهم في قراءة الأحداث، وأن يعوا مسؤوليتهم، وأن يتخذوا أحكم الطرق وأسلمها لتجاوز هذه المرحلة المضطربة. فالذين يتخذون في قراءتهم موقفاً «استراتيجياً» ولا يضعون في اعتبارهم «التكتيك» المرحلي، قد ينالهم ما لا تحمد عقباه. فالمرحلة تستدعي التصرف الحكيم، وفي القرآن {إلاَّ أّن تّتَّقٍوا مٌنًهٍمً تٍقّاةْ} مع مراعاة الاستدراك {وّيٍحّذٌَرٍكٍمٍ اللّهٍ نّفًسّهٍ}، بمعنى يجب أن تنتبهوا، ولا تجعلوا التقية المؤقتة ارتماء في الأحضان وامتثالاً للأوامر وموالاة مطلقة. فقد يقول الإنسان كلمة الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد يقولها وهو شاك مضطرب، وقد يقولها وهو مؤمن بها. فاللفظة هي اللفظة، ولكن النِّية تحيل إلى الاضطرار المعذور أو إلى الإلحاد المحبط. والذين يقولون ما تقوله أمريكا في شأن الإرهاب والتصحيح والتعديل يواطئون على الخطايا. وعلى قادة العالم العربي والإسلامي أن يقدروا هذه المرحلة، وألا ينجرفوا في تيارها، لأنها مرحلة عارضة، وليس من مصلحة أي دولة أن ترتب أوراقها النهائية على معطياتها. فالصبر والمصابرة والمرابطة هي سلاح الناصح الأمين، ذلك أن أخطر ما تواجهه الأمة إطلاقات الغرب وتصديق المتسرعين لها، وإدارة خطاباتهم على ضوئها. إن التعامل مع أمريكا يحتاج إلى أكثر من مستوى قرائي، وإلى خطاب حضاري قادر على الجمع بين المداراة والاتقاء وتجاوز المنعطف الخطير بأقل الخسائر، والصهيونية التي زجت ب«أمريكا»، عرفت الطريق إلى استدراجها، وهو ما يفقده العالم الإسلامي والعربي: المال والإعلام والقراءة الواعية لكل حدث وموقف، وتجاوز المؤسسات إلى الشعب الأمريكي، هي مفاتيح الأمة الأمريكية. |
الآن انتهينا من تراث الدكتور المنشور في جريدة الجزيرة فيما بين عامي 2006م و 2003م وسنكمل إن شاء الله بنتاجه في عام 2002م
لكم من عباس كل محبة |
مشكور جلست اسبوع من شان اقرا موضوعك
|
شكرا أبو نورة
|
الحُرمات بين غطرسة القوة وصلف الخطاب..! 3/3
د. حسن بن فهد الهويمل والأوضاع القائمة التي بلغ فيها السيل الزبى، لا تحتمل الفوضى باسم «حرية الكلمة»، ولا تعدد المشيخات والقيادات الفكرية والدينية باسم «حرية الفكر» وضرورة «الاجتهاد»، إذ لم تعد الأمة قادرة على احتمال مزيد من التحزبات لرأي أو قول، ولا للتجمعات حول متقحم بآرائه ورؤاه وتصوراته، ولا لتصنيم الأشخاص وتهميش القضايا. إذ ليس لدى الأمة المثخنة مزيد جهد كي تقعر الرؤية حول القضايا الفرعية وتلهو بالهامشيات التي لا تغير مجرى الأحداث بإهمالها أو بأعمالها. وليس من مصلحة الأمة كثرة الجدل حول المذهبية واللامذهبية، والمقدم والمؤخر من الأقوال. والجبهة الداخلية حين يجتالها المتنطعون والمتفيهقون والمماحكون والغالون في دينهم أو في أفكارهم ثم يؤدي ذلك إلى ارتباكهم وسط تضارب الآراء، وتناقض التصورات، تشكل عبئا ثقيلاً على أصحاب القرار، وتصبح عرضة للانفجار في أي لحظة، لأن الخلاف مع غياب المرجعية وتعدد القيادات الدينية تضخم القابلية للفشل وذهاب الريح، وتكون الأمة هدفاً للدسائس واللعب السياسية، والكائدون للأمة يمدونها بما يشغلها عن معالي الأمور، ويستغلون أبناءها الفارغين للجدل والفارغين من المعرفة بمجريات الأحداث. والذين يثير انتباههم كثرة الهالكين من حولهم، لا يعرفون ضلوع المستعمر في أدق تفاصيل الحياة، والوعي المتشكل من الفيض الإعلامي ليس مؤهلا لتداول الرأي، فضلا عن التصدر للقول المؤثر على مجريات الأمور. وليس من شك أن بعض ما تعانيه القيادات من تفلت الرأي العام إنما مرده إلى البون الشاسع بين ما يقال في الإعلام وما هو كائن في الواقع، حتى لقد كدنا نتصور المتداول من القول على كل الصعد «قصيدة كلثومية». وقد كانت الرضة «الحزيرانية» مؤذنة بغياب هذا الصوت، وكاشفة للمفارقة بين الخطاب الإعلامي والواقع العربي، غير أن دابر التآمر لا ينقطع إذ الذين اتخذوا طريقهم إلى السلطة محمولين بمحفة اللعب السياسية لا يقدرون على اعتزالها، ولا على قول الحق، ولا على الفعل الخالص من الشوائب، لارتباط مصائرهم بمن مكن لهم. وصنَّاع الزعامات يوقعون العداوة والبغضاء بينها وبين من تلي أمره، ليسهل تأديب إحدى الطائفتين بالأخرى، والمصنوعون حين يكونون ممثلين أغبياء يفوتون على بلادهم فرص النماء والاستقرار، وكل لاعب بالإنابة أو بالأصالة يشرعن للعبته باسم الدين، أو باسم القومية، أو باسم الحرية، ويهيل على الأطراف الأخرى تراب الذل، ثم يجد من يقبل بهذه الكذبة السوداء، معرضاً أهله وعشيرته للهيب الفتن، محملاً دولته أعباء التطهير، مثبطاً عن فعل إيجابي يدرء الشر. وقد مرت المشاهد العربية بزعامات فاقعة اللون، استهوت الخليين، وصعدت لغط الرهانات، وعند انجلاء الغبار تقطعت بالمراهنين الأسباب. والمؤلم سريان تلك الخطابات كالخدر في أوصال البعيدين عن دخن الفتن، وما ينشئه من تناحر لا يبرح فيوض الطرح الإعلامي، والعراقة السياسية المتجذرة مع الزمن، والمشروع الأيديولوجي المستجيب لحاجة الأمة، البعيد عن الصدام والإثارة مكتسب لا يجوز التفريط بشيء منه تحت أي ظرف. والطوارئ وإن كانت تتسم بذات الصبغة الدينية لا يمكن أن تتشكل بمعزل عن المشروع العريق المجانس، ما دام الدخول في المعمار الأصل والعمل من خلاله ممكناً. و علينا لكي نستبين الفواجع والبواقع ونحسب ألف حساب لكل رؤية جديدة أن نقرأ غيضاً من فيض الكتب التي نُسيت في غياهب الفتن وغيابة اللعب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر :«لعبة الأمم» و «من يجرؤ على الكلام» و «لا سكوت بعد اليوم» و «تنظيم الغضب الإسلامي في السبعينات» و «اللعبة واللاعب» و «ألغام في طريق الصحوة الإسلامية» و «بؤر التوتر في العالم» و «الإرهاب والإرهابيون» و «الأصولية الإسلامية في العصر الحديث» و «الإرهاب إسلام أم تأسلم» و «الصهيونية والعنف» وسلسلة «العنف الأصولي» و «الاستعداد للقرن الحادي والعشرين» و «على مشارف القرن الحادي والعشرين» و «الصراع بين التيارين الديني والعلماني» و «صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي» و «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» و «غطرسة القوة» ومذكرات الساسة، والعسكريين، ورجال الاستخبارات في الشرق والغرب، وما قامت به من تصفيات علمية وسياسية وقضاء على مشروعات عسكرية وسلمية واقتصادية، وتحليل الوثائق السرية المفرج عنها، و «الغليان» و «الانفجار» لهيكل، و «تزييف الوعي» و «المفترون» و «حمى سنة 2000» وصراعات المفكرين، وتناحر المذهبيين، وجدل المارقين، وعلينا استعادة المشاريع «الأيديولوجية» ومصائر زعمائها، وصدامات المتبادلين للمواقع فيما بينهم وصدامهم مع مراكز القوى المهيمنة، وتعدد الخطابات والانتماءات، وما تبديه من ظواهر الرحمة، وما تلوح به من مغريات، والقراءة الحيادية لما ذكر ولتاريخ الحركات المتعددة كاف لمراجعة النفس، ففي كل ذلك تكمن الدروس والعبر. والذين يتهافتون على الصراع، ليسوا على شيء من معرفة خلفياته، فأكثرهم مثاليون مصدقون وصادقون، أو هم وصوليون ميكافيليون، ومنهم من إن تسأله عن حيثيات رؤيته لا يدري ما هي، وما السياسة، وقد يكون همه محصوراً في رغبة الحضور ضمن دائرة الأضواء، و ذلك أضعف المطالب. ويستطيع الواعي أن يستبين هذه الفئات مثلما يعرف أسلوب توقي النوازل وتلقيها، والتعامل معها. وحين نحذر من تلك البوادر، نعرف الأكفاء من الساسة ونحفظ لهم حقهم، ونعرف لعلماء ومفكرين إسهاماتهم المعرفية والفكرية ممن قضى نحبه، وممن ينتظر، ونعي ما تركوه من كتب. وما عرف عنهم من سير عاطرة شاهد على سلامة مقاصدهم، فنحن لا نريد أن نبخس أحداً حقه، ولا نسعى للإحباط والتشكيك والتيئيس، فالأمة الإسلامية ولود ودود، والطائفة المنصورة قائمة، وستظل قائمة حتى يأتي أمر الله. والتحذير من المزالق لا يقتضي السكوت وكتمان الحق، ولايعني العدول عن المراجعة والمساءلة، ولكن هناك فرقاً بين المراجعة والمرافعة، وبين اختلاف وجهات النظر وتعمد التخوين والاتهام للآخرين. وجدير بنا وقد ادلهمت الأمور واستحكمت الشدائد أن ننظر بعين البصر والبصيرة إلى أوضاع الدول التي رضي قادتها تنفيذ اللعب السياسية على أرضها باسم الدفاع عن الثغور أو القضاء على الرجعيين والدكتاتوريين، وأن نستعيد الخطابات الثورية، وأن نستعرض معطيات المصطلحات المتداولة ك. «اللبننة» و «الصوملة» و «السودنة» و «الأفغنة» وما تنطوي عليه من مآس. وعلينا أن نتأمل ما آلت إليه أحوال الشعوب المغلوبة على أمرها من تشرد وضياع بين المنافي والسجون والمقابر والملاجئ ودور المعوقين، وما بلغته الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من ترديات لا مزيد عليها، كل ذلك، ومثله معه، يحمل على التفكير الجاد قبل القول في الأحداث المتلاحقة، والاختلاف حولها. وفي الحديث المقتضب لأوهام النخبة تحدث الدكتور «علي حرب» عن خمسة أوهام، يهمنا منها «وهم الحرية» وهي المزلق الأخطر، لأن الذين يتحركون في ظل مشروعيتها لا يفرقون بينها وبين «الفوضوية» التي أصبحت فيما بعد مشروعاً له أصوله ودعاته منذ أن ألف كتاب «ضد المنهج» ولحق بصاحبه من أوغل في هذه المهايع. والحرية حين تفهم على غير وجهها تكون أخطر من «الدكتاتورية» والاستبداد. لقد تداول البعض كلمات خطيرة وحساسة، وجعلوها شعاراً لمفهوم الحرية، مثل مقولة قاسم أمين:«الحرية الحقيقية تحتمل كل رأي ونشر أي فكر وترويج كل مذهب». وتعريف الحرية بهذه العبارة تفضي في النهاية إلى «اللادينية» و «اللا أخلاقية» بل و«اللاإنسانية» إذ التجمع الإنساني يقتضي عقداً اجتماعياً، يحتمي به كل متعايش. فالدول «الديموقراطية» تنتخب من تذعن له، والدولة الإسلامية تبايع من تسمع له وتطيع في غير معصية الله. والإذعان والسمع والطاعة ينتج «الحرية المنضبطة» التي فقدناها في ظل «المغالين» و «الحداثيين». ولعل أخطر ما يواجهه العالم المستضعف ارتباكه في فهم ثنائية «الحرية» و «السلطة» وحين لا يكون المعول عليهم على فهم جيد لحدود مفردتي: الحرية والسلطة فإن الكارثية لن تحل قريباً منهم، بل ستكون وسطهم، ولقد عالج المفردتين أساطين العلم الشرعي وعمالقة الفكر الحديث وكبار الساسة، وما من متقحم لهذه المهايع أخذ نفسه بجد المتابعة لمعرفة أدنى حد من متطلبات القول في قضايا السياسة. والعالم المضطرب في أحواله، المتوحش في تعامله، المقتدر بوسائله: الراصدة والمدمرة، لا يتحمل مسؤولية أطره على الحق من تحيط به الفتن من كل جانب، ولا من هو ساع بماله على المشردين، ولا من هو موظف كل إمكانياته لتخفيف الأعباء عمن يواجهون شواظ الحقد ولهيب الضغينة، وكيف يسوغ كاتب أو عالم أو مفكر أو خلي حدث السن لنفسه زج مقدرات الأمة لمواجهة الطوفان، وتحمل مسؤولية الترديات، والعمل العازم على إرجاع كل آلة حرب إلى قواعدها، وهل المواجهة في ظل هذه الظروف المتردية مطلب لا ينظر معه إلى الامكانيات والعواقب الوخيمة؟ وليس من العقل أن يتصرف البعض على أساس ان القادة قادرون على حمل الكون، وما يعج به من فتن، على ما يريد من عدالة «عمرية» واستقامة «سلفية»، بين غمضة عين وانتباهتها، وكيف يتأتى التدخل، والأخ يقتل أخاه، والشقيق يخوِّن شقيقه، والجار لا يأمن غدر جاره، والحروب الطائفية والقبلية والحدودية قائمة على أشدها، والعالم العربي والإسلامي يترنح من مغامرات أبنائه، وصلف قادته، ومكائد أعدائه؟. وكل الخسائر التي تتعرض لها دول العالم الثالث تصب في خزائن الأعداء. إن علينا الدعوة بالحسنى، وإصلاح ذات البين، وليس من حقنا شرعنة حرب غير متكافئة، أو تبرير أي فتنة عمياء يفجرها من لا مثمنات له يخشى نفوقها، وما علينا من حق لمن رضي أن يجعل أرضه وأهله مسرحا لصراع المصالح وتصادم الاستراتيجيات وتصفية الحسابات. وليس من حقنا ولا من مصلحتنا تسويغ الإرهاب الذي لا يقمع معتد، ولا يرد مظلمة. وفي الوقت نفسه يجب أن نميز بين «الإرهاب» الحقيقي الذي لا يحتمل إلا تصورا واحدا، و «المقاومة» المشروعة لردع ظالم عن مظلمة واستعادة حق مشروع لا خلاف حول أحقيته. وعلى كل الأحوال فإن ضبط النفس واستنفاد كل الوجوه الممكنة سلميا أفضل من الاندفاع والتهور. وتجربة مؤتمري «الطائف» و «مكة» وتشكيل اللجان والجمعيات لجمع التبرعات وتصدير الإعانات للدعم السلمي وإنشاء المراكز وعمارة المساجد ودعم الجماعات السلمية خير مثال للنهوض بمهمتنا الحضارية، بوصفنا مسلمين، نتداعى لآلام إخواننا في آفاق المعمورة. والأوضاع القائمة بحاجة إلى من يعالجها لا إلى من يواجهها ويؤججها، والمريض المقعد لا تتلَّه بيده، ليركض برجله، ولكن تجلسه برفق، وتعرف داءه، ثم تبدأ بعلاجه، لينهض بنفسه، ويمارس مهمته باقتدار، وإذا كانت الصهيونية تمارس أبشع صور الإرهاب على مرأى ومسمع من العالم وبتمويل منه، ثم لا تجد من يردع طغيانها من دول التحكم بمصائر الشعوب، فإن من واجب الأمتين العربية والإسلامية الخروج بموقف جماعي مرحلي مستطاع، يحسب له الأعداء حسابه، لا يتهورون بفعل غير مأمون العواقب، ولا يجازفون بقول غير مستطاع التنفيذ، ولا يهيجون الرأي العام الذي أصبحت له أهميته في السلم والحرب، وليس من العقل الاستخفاف به، وعند المبادرات يجب أن ننظر إلى الأسباب التي آلت بالأمة إلى هذا الوضع، إذ المؤسف أننا بلا ذاكرة، لا نستعيد الأحداث، ولا نقرأ التاريخ الحديث، ولا ننطلق في آرائنا ومواقفنا من خلفية معرفية رصدية، ولا نعترف بأخطائنا، ولا نحذر من مقولات قلناها ثم تبين لنا فيما بعد خطؤها، نسأل الله هلاك الأعداء، ولا نسأله صلاح الفساد، نلعن الشيطان ولا نستعيذ منه، وحين تنهض الأمة بما تقدر عليه، يكون في ذلك معذرة إلى الله، ولعله يكتب النصر، ويكشف الضرَّ، وما تمارسه الدولة من ضغوط عبر قنواتها جهد المقل، وما تدفع به من إعانات عبر مؤسساتها واجب المستطيع، والمؤمل المزيد من هذا وذاك، وليس من حق أحد أن يدفع بمقدرات الأمة في مهاوي الردى. والله العالم بالضعف خفف على رسوله وعلى أمته، ولم يحمِّل أحداً منهم تحقيق النتائج «ليس عليك هداهم» «إنك لا تهدي من أحببت» «ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً» «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً» «إن أنت إلا نذير» «ليس لك من الأمر شيء». وإذ لم يلزمنا بالنتائج، فقد ندب إلى فعل الأسباب، وحدد إمكانية الفعل ومشروعية الاتقاء: «الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً» «إلا أن تتقوهم تقاة» « لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» ومن الدعاء «ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به». إن أحداث العالم فوق الوسع وفوق الطاقة، وهي تنذر بمستقبل مخيف، وفتنة عمياء، ولمَّا يتعظ العالم الثالث، إذ ما يزال مسرحاً للفواجع، وميداناً للتصفيات، وساحة لتجارب السلاح، ومجالاً لتنفيذ اللعب السياسية. والإعلام الغربي الذي ذاق بعض غوائل الإرهاب بعد أمن، ومسته ضوائق الاقتصاد بعد رخاء، وانكشف ضعف تحصيناته بعد ادعاء، وطالته جرائر فعله ونتائج سياساته غير المتوازنة وغير العادلة، يشن حملات مريبة، على بلاد وفت بعهودها، وتجرعت ويلات الإرهاب من قبله، وواجهته بوضوح وقوة، بلغت قطع الرقاب، وإسقاط الجنسية، و استنكاره على لسان مرجعيتها الشرعية، ولم تفرق في مواجهته بين إرهاب يستهدف المواطن أو المقيم. فالذمي عندها له حق الأمن، و «من آذى ذمياً فقد آذاني» و «من قتل ذمياً لم ير رائحة الجنة». وحين يحرض الإعلام الغربي القوة المتغطرسة على الضاعن والمقيم، ويحفز المتجبرين على التدخل في الصميم، وتمتد نظرة الغرب المريبة إلى الثوابت والمصائر من : مناهج، وثروات، وتحكيم للشريعة، وحق السيادة، يأتي دور القادرين من علماء ومفكرين وأدباء وإعلاميين، لتشكيل جبهة داخلية، متماسكة، ملتفة خلف قادتها، محتمية بمؤسساتها، مؤازرة في التصدي للحرب الإعلامية الشرسة، متعاذرة عند اختلافها، لكي تكون مواجهتها حضارية، وخطابها متزناً. والأوضاع العالمية المتوترة لا تستدعي مزيدا من المشاققة، بعدما تبينت المقاصد والنوايا، وأصبحت مشروعية التدخل العسكري لتقليم الأظافر وحفظ التوازن وتحديد مواصفات الزعيم من الأمور المألوفة، وتلك بوادر خطيرة ما عهدناها من قبل، وليس فوقها من خطورة. وعلى الأمة والحالة تلك أن تتخذ الأسباب المأمور بها من إعداد الإنسان قبل القوة، وأخذ الحذر قبل المنازعة، وأن تستعين بمن وعد بالنصر «ومن أوفى بعهده من الله». ولكن بعد استقامة على المأمور، وتغيير لما بالأنفس، فحق النصر الذي أوجبه الله على نفسه للمؤمنين لا يتحقق إلا بذلك، وما نعظ به، لا يسلب حقاً، ولا يعطل حرية، ولا يمنع واجباً، ولا يخون مجتهداً فاته الصواب، ولا يعمق خشية، ولا يؤصل خوفاً من عدو متكبر متسلط، ولا يمنع من مساعدة مسلم متضرر بالقول أو بالفعل. وإنما لكل مقام مقال، ولكل ظرف خطاب، «فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا». والزمن زمن السكينة والتهدئة واجتماع الكلمة، والدفع بالتي هي أحسن، زمن الالتفاف، والتعاذر، وحسن الظن، زمن اللجوء إلى الله، فهو الذي يدبر هذا الكون، وهو المدافع عن الذين آمنوا، وهو الذي بيده نواصي الأمور، زمن الارتداد إلى الداخل، وترتيب البيت، وإعداد أبنائه لمواجهة الحياة العصبية زمن التصرف الحضاري، والفعل الواعي لمجريات الأمور، و «فوكوياما» أوجز قواعد النجاة لأصحاب المنهج الواقعي بأربع قواعد: «توازن القوى» و «اختيار الأصدقاء» و «القدرات لا النوايا» و «فصل كل الأخلاقيات عن السياسة عند التقويم» ونحن أحوج ما نكون إلى إعادة النظر في كل شيء في القوة والأخلاقيات والأصدقاء. فالحادي عشر من سبتمبر حد فاصل بين حياتين مختلفتين، وهو كما السابع من حزيران، الذي كشف الغمة، وفضح الخطاب العنتري. وما نرجوه من الله، لا يمنع من أن نحسب كل الحساب للأسباب والسنن. نعد القوة: قوة الفكر، والاقتصاد، والعلم، والسلاح، والإنسان، والتعاون على البر والتقوى، والاعتصام بحبل الله. وعلى قادة الأمة، وقادة الفكر أن يعوا متطلبات المرحلة الحرجة، فعند الأزمات لا بد من القوة والعدل، وإعلان حالة الطوارئ، ليكون الخطاب غير الخطاب، والموقف غير الموقف. فالصلف الخطابي في المواجهة تحريض لغطرسة القوة، وتفرق العلماء والمفكرين وإعجاب كل ذي رأي برأيه والتنازع فرصة الأعداء المتربصين. والجنوح إلى السلم، و الدخول فيه، تحرف مشروع، ومصير منطقي، ومن وجه فوهة بندقيته إلى خصمه، فعليه ألا يترقب من يرشقه بالتين والزيتون، ولا من يتولاه بالرأفة والرحمة، وعليه أن يستعد لمواجهة تزهق الأرواح، وتحرق الأرض، وتشعل الفتن، وتخيف الآمنين، وتشرد المستقرين، وتدفع بالانتهازيين، وتدفع إلى تصفية الثارات وبعثرة الملفات. و من فكر وقدر، ثم لم يضع في اعتباره الاستعداد لهذه الكوارث، فهو كمن يحلم. والذين يتقحمون المنابر، وينتشرون في المواقع، ويتصدرون المشاهد، لا يقدمون مشروعا، ولا يقدرون عدة ولا عتادا، وأقصى ما يملكونه الاهتياج العاطفي الأعزل، والرهانات غير المقبوضة «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا»، وما نشاهده الآن من إرهاب دولي، وانتهاك متعمد لحرمات المسلمين، يحفزنا على التساؤل «متى نصر الله»؟ ويحفزنا على ترقب الفرج بعد الشدة «حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا« «وما النصر إلا من عند الله». لقد ابتلي الأنبياء فصبروا، وابتليت أقوامهم فاتقوا واحتسبوا، وحورب الإسلام بصنوف المكائد من إفك، وتشكيك، وإثارة للعصبيات، وإغراء، وإغواء، وإغراق في الشهوات، وصد عن الذكر. وعرف المسلمون جذور البلاء، وثقافة الضرار، وأجنحة المكر، معرفة لا شائبة فيها. فما اعتزلوهم، وما جودوا فقه التعامل مع المخالف، ففتحوا بجهلهم أكثر من ثغرة، وأغروا بصلف خطابهم أكثر من عدو، وأتاحوا بموالاتهم أكثر من فرصة للمكر والمكيدة. والأخطر أن يختلف المتخندقون في خندقهم، والناصرون لله حول نصرتهم، فذلك البلاء المستطير. هذا ما أقول وما سوف أواجه الله به، وأجادل فيه عن نفسي متوقعاً صحته، وما أردت إلا الحق والإصلاح ما استطعت، ومن وجد خيرا مما أقول فليفض علينا من صوابه. |
الحرُمات بين غطرسة القوة وصلف الخطاب..!(2/3)
د. حسن بن فهد الهويمل وإذ تعيش الأمة العربية والإسلامية والعالم بأسره حالة من التوتر والغليان، وعشوائية في التخبط، فإن على الناجين من أعاصيرها، أن يرعوا هذه المكتسبات، وألا يتقحم أحد منهم بقول أو بفعل ما يؤجج غطرسة القوة، ويدفعها إلى كسب الرأي العام، واتخاذ موقف استعدائي ضد دولة تؤثر السلامة، وتجنح للسلام، وقدوتنا في اعتزال الغليان والانفجار، ما اختاره الورعون من الصحابة رضوان الله عليهم، حين اشتعلت الفتنة الكبرى، حيث اعتزلوها، وأغلقوا أبوابهم على أنفسهم، والإسلام شرع طريق الخلاص والنجاة، حين وجّه إلى الصبر والاحتساب والاعتزال. والحروب المشتعلة في بقاع كثيرة من ديار المسلمين، تخوضها فصائل عرقية أو اقليمية أو دينية، تدعمها قوى خارجية، وحين تشوبها أدنى الشوائب، لا تكون مشروعة، ولا تضاف إلى الجهاد الإسلامي، ولا يجوز للممتلئين غيظاً من غطرسة القوة أن يتخذوها متنفساً لهم، والطائفتان المقتتلتان، وصفتا بالإيمان، وندب إلى قتال الباغية منهما، وعلى هذا لا يكون من مصلحة الأمة، ولا من مصلحة أحد من أفرادها التورط في تلك الحروب: قولاً أو عملاً، إلا إذا كان الدخول فيها حقناً للدماء، أو إصلاحاً لذات البين، أو تخفيفاً من معاناة الأبرياء الذين أصابتهم الفتنة، دون أن يكونوا من الضالعين فيها. على أن يكون الفعل تحت ضوء الشمس، وعبر القنوات المشروعة. وحين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن مشروعية القتال، جاء جوابه حاسماً وبيناً: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله». و «الجهاد الإسلامي» لا يكون إلا بحاكم مسلم، يقدّر، ويدبر، ويوقت. مع اجتماع كلمة تعصم، ووحدة أمة تخيف، وقوة من صنع الأيدي ترهب، و لا يكون الجهاد إلا بعد دعوة بالغة، ومنابذة على سواء، ووفاء بعهود. وكيف يتصور جهاد، والأمة اليوم ممزقة الأشلاء، متعددة الأهواء، لم ترد الخروج ولم تعد له عدته. ذلك على مستوى المبادرة، أما صد الاعتداء والدفاع عن الحق والنفس فشيء آخر لم يلتفت المختلفون حوله ولم يتحمس المفتون من أجله، ومن بادر الحرب أو سعى لإثارتها بدون تلك المسوغات، فعليه أن يتحمل وحده تبعاتها، ولا يجوز الحديث عن تلك الفتن على أنها من الجهاد، ولا يجوز تحميل الإسلام ما لا يتأكد من إسلاميته. ومن خانه سوء التدبير أو سوء التعبير، ولم يصدر في تدبيره ولا في تعبيره عن مشورة أو مواطأة، فليس له على غيره حق، وليس من حقه القول باسم الإسلام. وما على الذين قدّروا، ودبّروا، واعتزلوا الفتنة بتقديرهم وتدبيرهم السليم أن يزجوا بمكتسباتهم، ولا أن يفرطوا بهيبتهم، ولا أن يضيعوا ثقلهم العالمي وأدوارهم الايجابية في صد العوادي. كما أنه ليس من مصلحة الأمة نكث العهود، وحل المواثيق، ونسف قنوات الاتصال. وإذا كانت للأمة سياستها الناجحة في معالجة الأمور، ومواجهة الأحداث، وحل المشاكل، ودرء الفتن، فإن التخلي عنها مغامرة محفوفة بالمخاطر. والدعوة للمواجهة، ومسايرة المغامرين، وقوع في الفتنة، ومعانقتهم في خطاباتهم الاستعدائية تعميق وتعميم لها. والدخول في اللعب السياسية باهظ التكاليف على كلا المستويين: الحرب الباردة، والحرب الساخنة. والذين رضوا لأنفسهم ولشعوبهم مسرحة أرضهم، وتنفيذ المخططات عليها تحت أي مسمى، ثم تجرعوا مرارات الدخول في الفتنة، لا يتحفظون العقلاء بمعسول الوعود. وكم نرى ونسمع من الخطابات ممن هو ضالع في اللعبة من طوائف وفئات ودول أوْهَى من بيت العنكبوت. وإذا كان الله قد أكد للمسلمين بسماع الأذى الكبير من الذين أوتوا الكتاب، فقد أمرنا بالصبر والتقوى، وجعل ذلك من عزم الأمور. كما أنه نهى رسوله عن أن يكون في ضَيْق مما يمكرون. وخيار المسلم والتسامح في هذه الظروف أرأف بحال الأمة المستضعفة.وهل أحد يجرؤ على إعلان الجهاد، والسلاح من صنع الأعداء، والعالم يداول مشاكله في المجالس والهيئات والمؤتمرات، ويقوي نفسه بالتكتلات متعمداً نسيان ما سلف. إن حاجتنا الملحة في الجهاد الأكبر، جهاد النفس الأمارة بالسوء، وإعدادها لذروة السنام، إذ لم يكن بد منه، ولكن بعد إعداد القوة المتفوقة والمرهبة، وقد فصل الله لنا مشروعية الإقدام والإحجام في آية التخفيف.والخطوب حين تدلهم، وغطرسة القوة حين تخلع القناع، تحدو أفراد الأمة وطوائفها إلى تقوية الجبهة الداخلية بالتعاذر والتماسك، وتوحيد الخطاب، وتفويض الأمر إلى أهل الاختصاص والمسؤولية، ممن ندبوا لذلك، وجهزت لهم الإمكانيات، ووفرت لهم المعلومات، وعرفوا دخائل الأنفس ودواخل الأمور، ودوافع المواجهات، ومقاصد اللعب السياسية، وإمكانية مواجهتها، أو توقيها، وحمّلوا مسؤوليّة التفكير، والتدبير، والتوقيت، والتقدير، والدفع بالتي هي أحسن، والمصير إلى أيسر الخيارين رفقا بالأمة، وصيانة لكرامتها، وتوفيرا لهيبتها، واقتداء برسولها الرؤوف الرحيم عندما يخير بين أمرين. ولأن السياسة فن الممكن، و «الميكافيلية» على أشدها، وحكومة الصقور في أعنف حالات اهتياجها، والمطابخ السياسية تحكم صنع اللعب، وزرع الألغام، وجر الأقدام، فإنه لا مكان للاهتياج العاطفي، ولا للمزايدات، ولا لصنع النمور الورقية، واقتراف تحشيد المشاعر، وتأزيم النفوس، وتجييش الرأي العام، والتشكيك بالمواقف. ولا مكان للمبادرات الشخصية: قولاً أو عملاً. ومن شمله العهد والميثاق، وجب عليه العدول عن القول الرافض المناهض في النوازل العامة التي هيئت لها المجالس، وندب لها الأكفاء، ومن عدل عن القول المخالف محافظة على مصداقية دولته، وتمكينا لها من استغلال ظروف السلم والاتفاقات وتبادل المصالح، ومن عدل عن الفتيا درءا للفتنة، وجمعا للكلمة، فالعادلان لا يدخلان في وعيد الله للذين يكتمون ما أنزل من البينات والهدى، ولا في وعيد رسوله صلى الله عليه وسلم : «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» وهو ما يعول عليه البعض. إذ أن من شروط وجوب الإفتاء تعينها على المفتي بالتكليف أو الخلو، وأن لا يخاف المفتي غائلة الفتيا، فإن خاف وقوع شر أكبر من الإمساك أمسك، لأن المفسدة لا تزال بمفسدة أعظم منها. ولما كان المفتي مخبرا بحكم الله عن الله بدليل لمواجهة نازلة، وجب عليه أن يراجع نفسه، قبل الاقدام على ذلك، وأن يعرف متطلبات النص المعول عليه، من ناسخ ومنسوخ، وخصوص وعموم، وتعارض لا يتيح الجمع، ولا يحمل على الإسقاط وقطعية دلالة وثبوت، أو احتماليتهما، ثم ليعرف أن لكل زمان ظروفه وامكانياته، وما أفتى به أو قال به علماء الأمة من السلف في ظل ظروف مواتية، لا يمكن إنزاله بحذافيره على واقع مغاير. ولهذا لزم أن يكون المفتي «مجتهداً» «أصولياً» «عالماً بالحكم» و «بالواقعة» و «بضابط الإنزال» و «بمقتضى الحال». وتوقي كتمان العلم له طرق غير التصدر لشق عصا الطاعة، كالإرشاد، والتعليم، والفتيا في العبادات والمعاملات، وإفتاء السائل المعين باسمه مشافهة، وحين لا يكون بد من القول، فلا يجوز التضييق على الناس بالمقدم من المذاهب، متى كان هناك ما هو أيسر في ذات المذهب من أقوال، فضلاً عن المذاهب الأخرى. والرسول صلى الله عليه وسلم سكت عن الترجيح بين أقوال المختلفين، حين احتمل النص الرأيين في قضية «صلاة العصر» في بني قريظة، وهي قضية جهادية، ولو طبقنا شروط المفتي وصفته كما تداولها الأصوليون، لما جاز لكل متعلم أن يتصدر للفتيا، لأن من شروط المفتي: الاجتهاد بضوابطه، ومعرفة أصول الفقه، ومن لم يكن كذلك فهو «حاكي فقه» وما أكثر «الحكواتية» في زمننا، ممن يقولون : «نحن رجال وهم رجال».والذين يعولون في فتياهم على فتيا سلفهم، يجهلون أن زمن السلف تتكافأ فيه القوى، وتتخلف أهلية القيادات. أما اليوم فليس هناك تكافؤ، مع تخلف في أهلية القيادات والأمة، ومثل هذا الوضع يتطلب تحرفاً لصناعة الأمة، لا زجا بها في أتون الفتن. وكم نسمع من يتعطش لعودة «صلاح الدين» وكأن الأمة تفتقر إلى قائد يلملم إمكانياتها المتكافئة مع إمكانيات الآخر. وكان علينا أن نتعطش إلى أمة تتخلص من غثائيتها التي أخبر بها من لا ينطق عن الهوى، وهي التي تنتج القائد التاريخي، يقول «جوستنيان» الإمبراطور الروماني، وصاحب المدونة في «الفقه الروماني» : «إنه لكيما تحكم الدولة حكماً صالحاً في وقت السلم وفي وقت الحرب لا يجد صاحب الجلالة الإمبراطور بدا من الاعتماد على ركنين: الأسلحة. .والقوانين. بالأسلحة يستمر قاهرا لكل عدو من الخارج يقصد الدولة بسوء، وبالقوانين يقطع دابر المظالم التي يبيتها بعض الأهالي لبعض» ذلك قوله في زمنه، أما اليوم فإن هناك مطالب حضارية، لم تُستكمل بعد، ومن أراد السلام فليستعد للحرب، وليصنع الأمة، وليقوي النظام، وليحترم القانون. وإذا كانت أمور الجهاد، والعلاقات الدولية، وتبادل المصالح، وعقد الاتفاقات منوطة بولي الأمر المبايع على الكتاب والسنة، والمستحق للسمع والطاعة فإن على من هو خارج المسؤولية ألا يشق عصا الطاعة بقول أو فعل، وألا يحرض العامة بقبول رؤيته المخالفة لرؤية الجماعة، متى كان في الأمر فسحة. وعند تعدد الرؤى والخيارات، يلزم الأخذ برأي الجماعة، وإن كان مفضولاً. ويتحتم الإحجام عندما تشتعل الفتن، وتعظم البلوى. أما حين تستقر الأحوال فإن إبداء الرأي من حرية القول المكفولة لكل مقتدر ينشد الحق، ويعرف آداب مخاطبة السلطة، وتداول الرأي معها. ومنازعة السلطة حقها في الخطوب يعد من مداخل الفتنة، ولا عبرة لمثيري البلبلة بدعوى الورع وإبراء الذمة، فمعرفة الحكم الشرعي وحده في قضايا السياسة ومنازلة الأعداء لا يكفي، إذ لا بد من «فقه الواقع» المتمثل: بفهم النازلة، ومثيراتها، وحجم المواجهة، وقدرة المتصدي لها: عسكرياً واقتصادياً وبشرياً، وفهم اللعب السياسية، والوقوف على تفاصيل القضايا والملفات، ومعرفة النوازع والدوافع، والركون لذوي الاختصاص من أساطين السياسة، بالخبرة أو بالدراسة، واستصحاب حق الولي ومقتضيات البيعة، والفهم الدقيق لمصالح المسلمين، واعتبار إمكانياتهم، والنظر في الخيارات، والأخذ بأيسرها، ومراعاة ضعف المسلمين وأحوالهم، المتمثلة: بتقطع أمرهم، وتفرق كلمتهم، وضرب بعضهم رقاب بعض، وتصنيم حدودهم، وتقديس المفرطين من قادتهم، وتعدد ولاءاتهم، وشح أغنيائهم، وعمالة المستضعفين منهم لعدوهم، وتخلف سوادهم الأعظم، وتعلمن مترفيهم، وفقر أكثرهم، وركونهم إلى عدوهم، وعدم استغنائهم عنه، في صناعاته: السلمية والحربية، وحاجتهم إليه، لحفظ التوازن، وفك الاشتباكات، وفض المنازعات، وصد العدوان، واشتراكهم معه في منظماته، وأحلافه، وإفادته، والاستفادة منه. فخيار المواجهة قولاً بصيغة التحدي والصلف، أو عملاً بالمناجزة غير المتكافئة، في ظل هذه الظروف المتردية، ليس هو الحل الأمثل، ولا الوحيد. ولما لم يكن بد من التحرف القولي أو العملي فإن هناك عدة مستويات مندوب إليها، ليس منها خيار الصلف في الخطاب أو الحرب في المواجهة، وما دامت الأمة متشرذمة، وفي أشد حالات الغثائية، وتحت سلطات متعددة، وأيديولوجيات متناحرة، ومستويات اجتماعية واقتصادية متفاوتة، وخلطة مستحكمة مع غيرها. وما دامت العدة غير مرهبة، وما دام الدعاة إلى الله قادرين على إبلاغ الدعوة، عبر مراكز الإسلام ومنظماته، وكافة وسائل الاتصال، وما دامت شعوب العالم غير المسلم مستعدة لسماع الدعوة، والأقليات الإسلامية تتمتع بحق المواطنة، وتتحسن أحوالها يوماً بعد يوم. فإن الحوار والحالة تلك أفضل من الصدام، والوفاق العالمي أفضل من الافتراق، والدفع بالتي هي أحسن أرفق بالمستضعفين، وبالأقليات الإسلامية، والأمة منهية عن تمني لقاء العدو، ولاسيما أن الدخول في الإسلام يبشر بمستقبل أفضل، واختراقات المسلمين لأجواء الديانات الأخرى لا يقابلها اختراقات مماثلة لأجواء الإسلام، ويكفي أن الخيرين يبنون المساجد، ويقيمون المراكز، ويندبون الدعاة، ويوزعون الكتب، ثم لا يبادلون بإقامة الكنائس في بلادهم واستقبال المبشرين. مع إن الخطابات الإسلامية عبر منظمات العنف لا تملك مشروعاً حضارياً، يضمن الاستقرار والاستغناء، حتى لقد جر تفكك الاتحاد السوفيتي غوائل بسبب واحدية القطب وغياب المعادل الإسلامي. وجرأة المفتين المحرضين على القتال أو المشرعنين للإرهاب توغر الصدور، وتؤزم المواقف، وتوقظ الغافلين عن مشاريع الدعوة إلى الإسلام. وتصفية الثارات، ورد الظلم لا يكون بالغدر، ولا يكون بالعنف. وما كان العلماء المجتهدون الأصوليون يتسرعون في فتيا العبادات والمعاملات، فكيف «بحاكي فقه» يتصدر للفتيا في مصائر الأمة، مناهضا لولي الأمر، مخالفاً لفتيا المكلف، قادحاً في عدالته، طاعنا في أمانته.والعقلاء الورعون من علماء الأمة من يدفعون بالسائل إلى من يليهم، خوفاً على أنفسهم من زلة عالم تطال مصلحة الأمة، فضلاً عن أن يبادروا إلى القول في النوازل المصيرية، وقد كفوا مؤونة ذلك بمن هم أهل للفتيا، ومسؤولون عنها. وليس هناك ما يحمل على التزاحم على منابر القول، ومراكز المعلومات، لتبرير الإرهاب، أو للتحريض على المواجهة، أو لشرعنة الحروب العرقية والطائفية والتسلطية والسلطوية، وإضفاء قدسية الجهاد الإسلامي عليها، ولاسيما إذا اهتاج الأقوياء لضر مسهم، وملكوا شرعية الرد العنيف لمن غزاهم في عقر دارهم. والقول عندما تُعمى الأمور، وتدلهم الخطوب كالفعل، فالذي يضرب بسيفه، كمن يضرب بلسانه. فذلك يفعل، وهذا يدفع إلى الفعل، ومن ظن أن كلمته غير المحكمة، وغير الممحصة، تطير في الهواء، فقد وهم. فما أشعل الحروب إلا بوادرُ القول، وما تفرقت الأمة إلا باختلاف علمائها ومفكريها، وما كَبَّ الناسَ في النار على مناخرهم إلا حصائِدُ ألسنتهم، وليس من المصلحة العودة إلى ما كانت عليه طوائف التطرف والعنف الديني: كالخوارج، والقرامطة، والمعتزلة، ممن جروا الويل والثبور وعظائم الأمور على علماء الأمة وعامتها. ولعلنا نستعيد ما هو دون ذلك، وهو فعل «العامة ببغداد» في القرنين الثالث والرابع الهجري، ومطاردتهم لمن خالف رأيهم، وبخاصة «الفصل الثامن عشر» «ص 465» من كتاب «العامة ببغداد». وتعصب كل طائفة وإعجابها برأيها مؤذن بإعادة التاريخ، فالذين يخوضون معارك السلاح، ليسوا بأسوء حال ممن يخوضون جدل القول. واختلاف الآراء بين الناصحين العقلاء الصادقين المخلصين لا يؤدي بالضرورة إلى التنازع، وتصفية السمعة أو الجسد، وإنما يحيل إلى المراجعة وتداول الآراء، والتماس الحق، ثم القطع والعزم والتوكل، ومن لم يؤخذ برأيه، وجب عليه السمع والطاعة والتسليم، ومن بحث عن الانتصار أو الكسب صعب عليه الإذعان، وكيف لا نقبل بالتغليب، ونحترم الأغلبية، وبعض أحكام الشريعة مدار حظرها وإباحتها على التغلب، فإذا غلب الخير على ما دونه شرّع. والرسول صلى الله عليه وسلم الذي يتلقى الوحي من السماء، استشار أصحابه، وألح في طلب المشورة، ولم يجد بأساً في العدول عن رأيه. ولا يليق بالعلماء والمفكرين أن يحملهم العجب بالرأي، والإصرار عليه، على مفارقة الجماعة، ولا على النيل من أندادهم المخالفين أو المتوقفين. وسكرات الفتن تفرز حقائق النتائج التي تصيب الجانحين إلى الوئام، والمتذرعين بالصبر والتقوى، وما نشاهده ونسمعه، وما نستدعيه من مراكز المعلومات، وما يتبادله البعض من مسترجعات ومصورات، وما تضخه قنوات الإثارة، وما يسره الفضوليون، وما يعلنونه، لا يبشر بخير، ولا يبعث على اطمئنان، فالمتقحمون بأقلامهم وألسنتهم إن هم إلا يوقدون نار الفتنة، فطائفة تؤيد، وأخرى تعارض، وثالثة تفسّق، ورابعة تكفّر، وعالم جليل يخون، ومفكر ناصح يتهم، ومخلص تشاع عنه قالة السوء. والنفوس مليئة بالحقد والضغينة، وظاهرة التصنيف والاتهام على أشدهما، لا يهاب سلطان، ولا يحترم عالم، ولا تقال عثرة، ولا يلتمس عذر، وما أحد أحسن الظن بالمخطئ، ونبه إلى الصواب برفق، بل كل يدعي أن قوله صدق لا يحتمل الكذب، وقول غيره كذب لا يحتمل الصواب. وتلك ظواهر ما عرفناها، وما كانت من أخلاقيات السلف الصالح، الذين إذا ادلهمت الفتن اعتصموا بحبل الله، وردوا خلافهم إليه وإلى رسوله، ثم لا تكون لهم الخيرة. ولو أن المتنازعين لزموا جماعة المسلمين، وأيقنوا أن من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ولو أنهم توقوا الابتداع واتباع الهوى، والتعصب والتحزب لكان خيرا لهم، ومثل هذا التدافع على القول عبر المنابر والمنشورات ومراكز المعلومات والقنوات، والتهافت على الأضواء، وكسب الغوغاء مخل بالمروءة، مشكك بالمصداقية، طاعن في الإخلاص.وما يرافق من أخبار عبر المواقع أشد خطرا مما يراق من دماء في ساحات القتال. فأين الورع؟ وأين الخوف؟ وأين سلامة الصدور؟ وأين حسن الظن؟ وأين النوايا السليمة؟ وأين حرمة المسلم التي قال عنها المصطفى في «حجة الوداع» ما تقشعر له الجلود؟ وأين مذهب السلف الصالح في التعامل مع المخالف؟ لماذا تحولت الصفوة المؤملة في الظروف الحالكة من التفكير إلى التكفير، ومن التحري إلى الجزم، ومن الورع إلى الجرأة، ومن الإيثار إلى الأثرة، ومن حب السلامة إلى الجماح في فجاج الفتنة؟. وإذا كنا نحتمل لغط العامة في مجالسهم، فإن مقولات النخب وثائق تصب في أوعية من يتربصون بالأمة الدوائر. والدول القوية الظالمة تتعقب زلات العلماء والمفكرين، ممن يقولون عن النوازل والأحداث دون تروّ أو تمحيص، تحلل، وتستثمر، وتحتج، وتثبط عزائم الناصحين. وأنى للخائضين في لجج الفتن المصدر المحايد، الذي ينقل لهم الحدث بكل دقة وأمانة وصدق. والعدو المتربص هو الذي يبث الأخبار، وينتقي الصور، ويصنع الرأي العام، ويستفز المتسرعين، ثم يدفعهم إلى قول متشنج، لا يغير من الوضع شيئا، وإلى فعل متهور لا يقلب موازين القوى، والعدو المتربص المترصد يحيل آراءهم وأفعالهم إلى مواقف دولتهم، فيصيب هدفين بضربة واحدة: يكسب الرأي العام، ويفرق كلمة الأمة، ويثبط عزيمة الدولة. والعقلاء العالمون، يفوتون الفرص على الانتهازيين، ويحولون دون اختراقاتهم، والبلاد التي أطعمها الله من جُوع، وآمنها من خوف، ووقاها مصارع الفتن، وحماها من أعاصير السياسة، ومن صلف الثوريين، ومغامرات الحزبيين، وفجور العلمانيين، عليها أن تعرف أن ذلك ناتج تصرف حكيم، وتوفيق من رب رحيم، وعليها أن تعرف أن استبداد كل عالم أو مفكر برأيه واستقلاله بفعله يعد بداية تفكك، ونذير تفرق، وظاهرة اختلاف، وذلك مؤذن بزوال النعم، ولسنا دعاة تزكية لأحد، وإنما نحن دعاة اعتزال للفتنة، ولزوم للجماعة، وتحر للصواب. |
رحمك اللّه
أبا خالد ، ، ، ! د، حسن بن فهد الهويمل إذا قيل إن الموت «نقاد» فلا تظنن أنها مقولة مرتجلة، فالحكم والأمثال نتاج تجارب طويلة، ورصد دقيق، ومتابعة واعية، صحيح أن «كل نفس ذائقة الموت» وأن الموت «يلاقي» ولا يلحق، وأنه ينفذ إلى الكبار في بروجهم المشيّدة، والى الضعفاء في أكواخهم المهلهلة، ولكنه حين يأتي بغتة وفي غير موعده، يكون كما «النقاد» الحبير الذي ينتقي الأجمل والأروع، يخطف العائل من بين زوجته وأبنائه، وينتزع المحبوب من أحضان محبوبته، ويسل العالم من بين طلابه، ويقتاد الموسر المنفق من بين فقرائه، يخطف الوحيد من حجر أمه، والشاب المتوثب من طريق آماله، يهدم البيوت على أهلها، ويطفئ أنوار الأسرة باختطاف عميدها، ومن بعد الأب الحاني، وصديقنا الغالي غانم بن عبد اللّه الغانم الذي وافته المنية في مشافي أمريكا من الذين رحلوا في وقت مبكر، وفي وقت نحن أحوج ما نكون إلى مثله في حسن شمائله، ورحابة صدره، وسرعة بديهته، وخفة ظله، وروعة لذعته، وسعيه الدؤوب للملمة شمل الأصدقاء، وتنظيم لقاءاتهم، وملئها بالمرح البريء والسعادة الغامرة، لقد ترك فراغاً مملاً، فقده أصدقاؤه الذين أفعم حياتهم بالسعادة، وصدم زملاؤه الذين ملأ وقتهم بالعمل، وفجع ذوو الحاجات من معارفه وأقاربه، وخلى منه مسجده الذي يتعهده في كل موسم عبادة بالطيب والمشروب، لقد كان بيته مثابة لذوي الحاجات من معارفه، يشفع لهم، ويسعى في أمرهم، يأوي إليه الأقارب فيجدون عنده رحابة الصدر وكرم الضيافة وقضاء الحاجة، لقد كان وفيّاًَ في حضور المناسبات، ولحوحاً في البحث عن الأصدقاء، وكانت جلسته ضحى الجمعة ملتقى الأصدقاء الذين تباعد بينهم المشاغل، والذين يعرفون سجاياه الحميدة، يبكون كما أولاده وأحباؤه، لقد بكيناك أيها الغالي حين علمنا بدائك العضال، وبكيناك حين غادرت البلاد سعياً وراء الاستشفاء، وبكيناك حين تذكرنا ما تفيضه على أصدقائك من بهجة وسعادة، ولكننا أحسسنا بالغبطة تطفئ لظى الفرقة، حين تدفقت أمواج المصلين عليك، حتى ضاقت بهم أرجاء المسجد، وما وسعتهم الأسواق، وحين سمعنا دوي الدعاء، وحين رأينا المتدافعين وراء نعشك، وحين لم يُعرف المعَزي من المعزّى، فكل واحد من معارفك وأصدقائك يحس بذات الحزن والألم، ويتلقى التعازي بفقدك، لقد كنت الصديق الوفي، تملأ المجلس بهجة، وتحييها بالمرح وبالمزاج البريء والنكتة الخفيفة خفة نفسك وسلامة صدرك، كنت كريماً، ومضيافاً، وسباقاً إلى كل خير، ومما زاد الألم أننا ما كنا، وما كان الأقربون يتوقعون رحيلك بهذه السرعة، وما كنا نتوقع أن يتسلل المرض إليك من ثنيات عدة، فيحول بينك وبين التدخل الجراحي لإنقاذ حياتك، كنا نراك تذبل، ولكنك صبور كتوم ،تشيع البهجة والسعادة على جلسائك وأصدقائك، وفيك ما فيك من ألم ممض، وحين أحسست أنك لا تقدر على احتمال مزيد من المرض، امتد إليك حرص الأبناء والأصدقاء وشملتك رعاية الدولة فتلقتك سفارتها في أمريكا بكل ما لديها من إمكانيات، وفتحت لك أرقى المستشفيات في العالم، وحف بك أولادك البررة، وتبعتك دعوات أصدقائك الأوفياء، ولم نتوقع أن رحيلك حيا متحاملا على نفسك سيكون الذهاب إلى الأرض التي ستموت فيها «وما تدري نفس بأي أرض تموت»، وهناك كنا معك في قلوبنا وفي اتصالاتنا، نتابع حالك ساعة بساعة، وفي كل يوم نحس أننا نقترب معك إلى النهاية، ومضى الأمل معنا كما سراب القيعان يخفف الأعباء، فلقد غدوت من أهلك تبحث في المشافي عن شفاء اللّه الذي أنزله لكل داء، وكنا متفائلين بشفائك، وما زدنا على الدعوات الصادقة التي تحفك من يمين وشمال سائلة اللّه أن تعود كما أنت في حيويتك ونشاطك ومرحك العفوي، ولكن قضاء اللّه سبق كل شيء، وعدت محمولاً إلى الأرض التي منها خلقت، وعليها درجت، الأرض التي أحببتها وقضيت زهرة شبابك وبوادر كهولتك في خدمة أهلها، عملت في الصحافة مراسلاً، وكاتباً، وعملت في قطاعات كثيرة موظفاً، وكنت إنساناً اجتماعياً تشارك في كل المناسبات، عرفتك الصحافة في زمن مبكر، ثم شُغلت عنها، ونسيتها لتنساك، إلا من إشارات وشذرات كتبها رواد الصحافة من أمثال «عبد الفتاح أبي مدين» في مذكراته، ومرت السنوات الأربعين التي عرفناك فيها كغمضة عين وانتباهتها، فإلى جنة الخلد أيها الغالي الذي لن يغيب، وأحر التعازي لوالدك الصبور، وزوجتك المفجوعة، وأبنائك الذين كانوا معك في أيام الشدة، و«لمهند» الذي نقرأ في بريق عينيه ملامحك الوادعة، إلى أسرتك التي كنت لها الظل الظليل والأب الرؤوف الرحيم، ولأصدقائك وزملائك الذين وجدوا فيك الأخ والصديق الذي يجمع الشمل ويبذل الجهد، |
النقد الثقافي: البديل أو الرديف (11)
د. حسن بن فهد الهويمل ولو نظرنا إلى القيمة المعرفية «النقد الثقافي» بوصفه جماع المشروع: تنظيراً وتطبيقاً، لوجدناه دون المؤمل من مثله، بوصفه كتاب مشروع يغمره الواردون للامتياح، ويغمر المشهد بجدة منهجه وآلته وشرطه، وبوصف صاحبه من كبار المثقفين الذين لا نغمطهم حقهم، وإن اختلفنا معهم، إذ هو بدون ثقافة وثوقية، وكأنه تفسير الرازي المقول عنه: «فيه كل شيء إلا التفسير»، وكل صيده جملة من الافتراضات، وحشد من التلاعب اللفظي والتشقيق الكلامي، والتكرار الممل لكلمات: «النسقية»، و«التشعرن»، و«التفحلن»، وجلد مميت للشعر العربي، ممثلا بتعيس الحظ «أبي الطيب المتنبي»، وبالسيئ من غرض المدح، دون سائر الأغراض الأخرى، من فخر وحماسة ووصف وحكمة وغزل وعتاب ورثاء، وتلميع زائف للذات، باستدعاء متأخر ل«نزار قباني» و«أدونيس» اللذين صنما من قبل على يد رفاق الدرب، ومشروع نقدي يخلص من زحام المذاهب يستأثر بالمشهد مميتاً ما سواه لابد ان يكون في محتواه وإجرائه استثنائياً، أما وقد قزَّم الأشياء لتكون بحجم تصوره للثقافة العربية جاهلاً أو متجاهلاً ما يتوفر عليه الشعر العربي من قيم متعددة، وهو مفردة من مفردات الثقافة المنكوبة بأبنائها العققة فإن الموقف لن يكون ودياً ولا مطمئناً، وبخاصة حين يتنكر لديوان العرب، ولو انه عاد إلى الدراسات الأكاديمية عن القيم الأخلاقية في الشعر العربي القديم والحديث وعن النقد الأخلاقي في مختلف العصور، لتبين له انه يرجم بالغيب، على انه في إحالته للمرجعية التراثية التي يلم بها كما نَدْل الثعالب، إنما يعول فيها على احتمالات دلالية لا تحتمل، وكأنه بعض المفسرين اللغويين ذوي النزعات الطائفية الذين يتغصون في البحث عن أدق الدلالات، لتعزيز رؤيتهم، دون النظر إلى الأنساق، وبصرف النظر عن الإنشائية والتغنص والندل والالتفاف الغبي على رواسب الماضي وسمعته، هنا، وفي «حكاية الحداثة» فإن التعامل مع النص الإبداعي، أو مع مكوناته، أو مع مضمونه، أو مع انعكاساته وتشكيلاته السلوكية والتصورية والمفهومية يتقاطع في بعض تلك الوجوه مع «البنيوية التكوينية» التي خرجت ب«النقد البنيوي» من سلطة اللغة بوصفها بنية: «علائقية أو توليدية إلى سلطة الأيديولوجيا، وذلك حين فرضها الماركسيون على الشكلانيين الهاربين من الالتزام الماركسي، ممن وصفهم «جابر عصفور» بالنقاد الهروبيين وإن كانت «التوليدية» ذات نفس ماركسي كما ان «النسقية» توصيف بنيوي، والمشروع برمته لا يبرح الترويج لتحولات نقدية غربية، تدعي كسر الطوق وتفكيك الدائرة اللغوية المفرغة التي كبلت روح النص، وعطلت قيمه الحقيقية وتشكيلاته السلوكية، وكأني بهذا التحرف الفج التقاط غبي لهذا الخيط من تحت أنقاض التداعيات الماركسية والبنيوية والحداثية، إذ ان النقد بهذا الانعطاف المتعدد الاحتمالات يعدُّ خروجاً من سلطة النص اللغوي الذي لا يبرح «العلاقة» و«العلامة» و«الجمالية» والاحتباس داخل نفق «الفن للفن» إلى فضاءات لا حدود لها، فهي باتساع مشمولات الثقافة وإن أركس في دعوى «التشعرن» المتشكل من الفهم السقيم، والمحمَّل جريرة تشكيل الأنساق الاجتماعية، وذلك بعض ما يقرره صاحب المشروع بطريقة عازمة جازمة، لا مكان للاحتمال عندها، وهذا التحرف عودة إلى ما هو خارج النص، وإحياء للمؤلف الذي قضى نحبه بذات اليد التي أحيته، واشتغال بالمضمون، أو بمخرجات المضمون، بوصفه تشكيلاً للوعي وللسلوك، وبالتالي فهو ضربة لازب للبنيوية اللغوية التي أغثينا بها فترة من الزمن الرديء، فأميت من أجلها المؤلف، ونفي المضمون، وقضي على جغرافيا الفن على الطريقة «الهيغلية» الذي قال يوما ما ب«موت الفن» في سبيل مواكبة «الجمالية الفوضوية» وقد يتاح للبنيوية أو لرواسبها في آفاق «النقد الثقافي» «مفحص قطاة» وبالذات «البنيوية الانثروبولوجية» كما هي عند «شيتراوس» و«البنيوية بكل تنقلاتها: اللغوية والأدبية والاجتماعية وبكل تحولاتها المفهومية والإجرائية: كالتقويض والتفكيك والتشريح وبكل مسمياتها: اللسانية والأسلوبية والنصوصية لم تبرح أدمغة المستغربين الذين لا يملكون إلا الاهتياج الأعزل لاستقبال كل طارئ، ولكيلا نغمط البنيوية حقها نشير إلى انها ذكرت البعض بأهمية الحفريات اللغوية، وحفزت على الاهتمام بالوظيفة اللغوية على حساب المعيار الصرفي والنحوي مع الاستعانة به بوصفه آلة ووسيلة، وهي قد نبهت إلى أهمية «الشعرية» بوصفه مصطلحاً خفف من غلواء الشرط الفني، وإن أخفق البعض في تفهمه كما انها ضيقت الخناق على التاريخية التي طغت ردحاً من الزمن، ولكن الذين اشربوا في قلوبهم عجل الغرب سفسطوا الأمور، وبرعوا في القول الفارغ، وحملوا النصوص من الدلالات ما لا تحتمل، وتقولوا على المبدعين كل الأقاويل لا بعضها، و«النسق الثقافي» الذي عول عليه «النقد الثقافي» المحلي مصطلح من مصطلحات علم الاجتماع، واستدعاؤه ليكون المجال الأوحد للمشروع، لا يمكن من خلط الأوراق وتعمية الأمر على من لهم قدم صدق في مفردات «علم الاجتماع» والصيرورة إلى «النقد الاجتماعي» صيرورة فعلية إلى «النقد الثقافي» وهنا لا يكون من حق أحد وضع اليد على معروف لا يحتاج إلى تعريف، وقد أومأت من قبل إلى ان المشروع مشاع تتنازعه معارف متعددة، وضياع هويته بين قبائل المعارف يحول دون التبني. والاشتغال بالمضمون أو بتشكيلاته النسقية بعد القطيعة ارهاص للخروج من هيمنة النص اللغوي الإبداعي المزدوجة: هيمنة اللغة، وهيمنة القبح المضموني المتوسل بالجمالية، كما يدعي صاحب المشروع إلى ما وراء النص، أو إلى أثر النص بوصفه المشكل الأقوى للنسق الاجتماعي، ثم ان القول بالنسقية الثقافية كالقول بالنسقية اللغوية، فهاجس الأنساق مراوحة بين الثقافة واللغة، وليس في ذلك مساحة كافية للدعوى العريضة والإجلاب عليها بالمصححين والممحصين والصابرين على اللأواء من زوجة وأبناء، والناقد الثقافي من خلال رؤيته المحلية يمارس محاكمة القبح الدلالي المفترض والمتضخم في الشعر، وامتداد المحاكمة إلى «النقد الأدبي» المظاهر له، لأنهما ومنذ ظهور شاعر المديح في آخر العصر الجاهلي إلى «نزار» و«أدونيس» يقترفان جريمة شعرنة الأمة، بحيث تكون: «شحاذة» «مداحة» ومن ورائهما اللغة المتفحلنة، وجريمة الشعر العربي في قبحيته المتوسلة بالجماليات لتسريب القبحيات المشكلة للأنساق الاجتماعية المتسيدة، ومن حقنا في ظل هذه الغيرة المصطنعة ان نتساءل عن غيابها وغفلتها أو تغافلها في جنح «الرواية» وترديات الروائيين في وحل الرذيلة والعامية؟ والزمن كما يقول الحداثيون «زمن الرواية»، ولست أدري لماذا غفل النقاد الحداثيون الذين ضخموا القذات الشعرية عن جنايات الرواية، بل اتجهوا صوب مناصرة المنحرفين والساقطين من المبدعين الروائيين الذين بلغوا حد الدعارة، ولم تكن كتاباتهم عن موهبة، ولم تكن لغتهم لغة فن رفيع، والنقاد الحداثيون لم يغفلوا فقط وإنما تفانوا في سبيل شرعنة هذا السقوط الذريع والانحراف المريع حيث جنحوا لربط الصراع حول مشروعية هذه الجنايات بحرية الفكر وحرية التعبير ولو ان «التشعرن» قائم في الثقافة لما كان في الأمر من بأس ولكنه وهم من الأوهام، وليس الاشتغال به إلا تلهية عما هو قائم من جنايات موجعة، على ان النصوص المستدعاة للمحاكمة والإدانة للأنساق ليست من اللغة في شيء، وإن أنتجتها نصوص شعرية، كما يفترض صاحب المشروع، فالأنساق بوصفها نصوصا تحال إلى الثقافة الرؤيوية التصورية، وكل شيء معنوي أو حسي أو إجرائي نص بالنظر إلى المدلول الوضعي المحيل إلى «البروز»، ثم النظر إلى كل ظاهرة على انها نص، والتعامل معها بهذا المفهوم، فلم يعد النص اللغوي هو المجال الأوحد للنقد، وإنما كل شيء قائم في الذهن أو متشخص في السلوك أو متمثل خارجه مشتمل على نظام ومرجعية هو «نص ثقافي» والاشتغال فيه «نقد ثقافي» ذلك ما لمسته، وذلك ما لا أرى بأساً في الأخذ به، ولكن ليس على طريقة صاحب المشروع في تحديد المفهوم، واختلاق النسق، وافتراض المرجعية، وتخويل الذات إقامة الدعوى وتنفيذ الحكم. و«النسق» و«النص» و«التفحلن» بقايا رسوبية من مصطلحات البنيوية، أفرغت من محتوياتها وملئت بمدلولات تقترب من الثقافة ولا تكونها، وهذا التقليب العقيم لا يضيف شيئاً ذا بال، ومع كل هذه المقترفات والتحرفات والتوهيمات والتغريرات لا جديد في المشروع، ولا تحديد للمنهج، ولا تعيين للآلة، ولا حتمية للمجال، إذ المشمول الثقافي لا يحتويه مذهب، ولا يحيط به مشروع، وتلك الدعوى بهذه المواصفات لا تستحق كل هذه التظاهرة التي تدل على بدائيتنا وجهلنا للمتداول في المشاهد الأدبية والثقافية والاجتماعية والنفسية، والذين يتابعون المشاهد وما فيها لا يجدون فيما يقال باسم «النقد الثقافي» أية إضافة تستحق كل هذه الجلبة، و«النقد الأدبي» مرَّ بتحولات «سوسيولوجية» و«إنثربولوجية» و«ميثولوجية» و«أيثولوجيا» و«أيديولوجيا» هي الأقرب إلى «النقد الثقافي»، ولما يفكر أحد من رواد هذه التحولات بادعاء مصطلح جديد للنقد ووصفه بالمشروع الذي يمات من أجله ما قبله، إذ التحولات طبيعية والتجديد عفوي، ولتعذر الجمع والمنع المصطلحي، إذ الثقافة: «وجادة»، و«اقامة»، و«سمة»، و«طريقة» والاشتغال بأي مفردة من مفردات الثقافة لا يضاف إلى الثقافة وحدها، وعلى الذين تتواصل معهم لحظة الصدمة والانبهار العودة إلى «التنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية» و«العقل الأخلاقي العربي» للجابري، وهو الجزء الرابع والأخير من مشروعه المثير، و«المنهج الموضوعي: نظرية وتطبيق» للدكتور عبدالكريم حسن، و«محاولات في دراسة اجتماع الأدب» للدكتور نوري القيسي، و«التحليل الاجتماعي للأدب» للسيد ياسين، و«السوسيولوجيا والأدب» للدكتور قصي الحسين، و«سوسيولوجيا الأدب» «لروبيرا سكاربيت» ترجمة آمال عرموني، وإلى بعض مباحث «استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية» لمطاوع صفدي، و«النقد الأدبي والعلوم الإنسانية» ل«جان لوي كابانس» ترجمة د. فهد العكام، بل العودة إلى مكتبة خاوية على عروشها حول الواقعية الاشتراكية، والذي يحسم الخلاف ما وعته معاجم «علم الاجتماع» التي تناولت طائفة من المصطلحات التي عوَّل على بعضها صاحب المشروع بوصفها مبادرة وتجديداً وما هي من المبادرة والتجديد بقريب. والنقد الاجتماعي «السوسيولوجي» يحال إلى الثقافة تذرعا بعلاقة العموم بالخصوص، بحيث يطلق عليه «النقد الثقافي» ولو استغنى بمصطلح «السوسيو ثقافي» لما تغير في الأمر شيء، فعلماء الاجتماع وكتابه، لا يرصدون وحسب، وإنما يحللون، ويقومون، وذلك عين النقد، والقول ب«النقد الثقافي» إنما هو نظر لاهتمامه بمجموعة من البنى: الاجتماعية والدلالية والتفاعلية، على انه لا يكون جديداً بمجرد الإضافة إلى الثقافة، التي وسعت أشياء كثيرة، وهو إذ يحيل إلى النسقية الذهنية أو السلوكية، ينظر إلى النسقية البنيوية التي امتد القول فيها زمن الطوفان البنيوي، و«النقد الثقافي» بكل معطياته المفهومية لا يند بطائل، ولا يبرح المنجز «السوسيولوجي» الذي نجد بوادره في القرن التاسع عشر عند «مدام دي ستيل»، وقد التقط الخيط منها «الماركسيون» حين جعلوا الأدب مجرد «واقعة اجتماعية» وليس هنالك كبير فرق حين تحولت «الواقعة» إلى «نسقية»، وليس من شك ان هناك تداخلاً دائرياً بين «النسقية الثقافية» و«الواقعية الاجتماعية» وليس شرطا ان يكون هناك توارث ايديولوجي بين التصور الماركسي و«النقد الثقافي»، ولسنا نريد من وراء ذلك إلا اثبات ان «النقد الثقافي» قائم منذ أمد بعيد، مثله مثل «النقد الإسلامي» الوريث الشرعي «للنقد الأخلاقي» منذ ارسطو إلى اليوم، والذين تدق نظرتهم في تقصي اهتمامات «لوكاش» و«جولدمان» لا يجدون أدنى فرق بين «الواقعة» و«النسقية»، على ان الراصدين للاتجاهات النقدية لم يعطوا هذه الظاهرة كبير اهتمام، وبخاصة «رينيه ويليك» في رصده التاريخي والموضوعي والفني للحركة النقدية، و«ويليك» بهذه اللامبالاة يحيل إلى عجز هذا الاتجاه عن تقديم «أسس تتلاءم مع المشكلات الدينامية التي تطرحها الظواهر الأدبية الحديثة» «النقد الأدبي المعاصر ص38» وعلى المتابع المهتم ان يقرأ كتابي «آفاق العصر» و«زمن الرواية» لجابر عصفور ففيهما ترديد ممل لهذه التحولات، واستعادة لما رصده «رينيه ويليك» عن جغرافيا النقد، والنقد في القرن العشرين، وقد أشار من قبل «سمير حجازي» لقضايا النقد واتجاهاته وإلى مجموعة من النقاد «السوسيولوجيين» وإلى طائفة من أعمالهم وتحولاتهم، ففي ألمانيا «ميسهرج» ت 1916» وفي روسيا «بليخانوف ت 1918» وفي أمريكا «جرانفل ماكس» وفي انجلترا «كريستوفر كوريل ت1907م» الذي نقد «ثقافة الحضارة» الفردية والحرية البرجوازية، وقد يكون صاحب «النقد الثقافي» بتجريحه الجائر وغير المتزن وغير العلمي للنسق الثقافي العربي المتشعرن على حد قوله مقلدا غبيا ل«كوريل» ولن نمضي مع طبيعة التحولات النقدية المربكة ومحاولات «العوربة» و«الأسلمة» و«العلمنة» و«العولمة» والرهانات الرابحة والخاسرة، إذ لو مضينا مع ذلك لبعدت علينا الشقة، وإنما نكتفي باللمحات والإحالات لنؤكد ان «النقد الثقافي» مجرد رداء حوله اللابس من يمين إلى شمال، كما يحول «المستغيث» رداءه تفاؤلاً بتحول الحال، وهذا التشبع والتجشؤ من فراغ أوهم البعض بأنه اتيان بما لم تستطعه الأوائل. وكم أتمنى لم تقصى الراكضون وراء عجاجة صاحبهم ما كتبه «ويليك» عن ملامح التحولات النقدية، وما أفاض به سائر النقاد الماركسيين والواقعيين والحداثيين، وما وسعته معاجم المصطلحات الحديثة، وبخاصة معاجم المصطلحات النقدية وعلم الاجتماع وملفات المؤتمرات وحلقات الدرس الأدبي، إذ لو فعلوا ذلك لعرفوا ان التحولات لا تصل إلى مستوى المشاريع، ولست معترضا فيما أقول على تجديد التسميات، ولا على تنويع المجالات، ولا على المراوحة بين المواقع، وأملي ألا يكون المتقصون للحقائق ساذجين، ولا قابلين لمخادعة الساذجين، بحيث يصدقون ما يقال من ان الخلاف حول مشروعية التجديد والتغيير، فنحن مع التجديدات، ومع التغيير، ومع كل الاطروحات الأدبية والنقدية والفكرية، نستوعب، ونقترض، ونتابع بنهم كل جديد، ونبارك المستجدات، ونرى ضرورتها، ولا ندعي مبادرة ولا ريادة ولا مشروعا، ولا نميت، ولا نقترف خطيئة الازاحة لما هو قائم، ولا نكره أحدا على واحدية الاهتمام، وحين تفرز المشاهد الثقافية أو الأدبية أو الفكرية أو الدينية معارضين متشنجين للمستجدات فإن هذا لا يخول العابثين باسم التجديد حشر كل المتسائلين أو المتحفظين في قائمة واحدة، لشرعنة عبثهم، والإحالة الماكرة على أساليب المعارضة أو التحفظ وجمعها في سلة واحدة مكر يمكره الكائدون في مدينة الفكر والأدب ولكنه مكر ضعيف بائر، ولو ضربنا مثلاً بحركة التجديد الاقليمية التي اتخذها البعض شاهداً على المواجهة للتجديد وبالناقد المجدد «محمد حسن عواد» لألفيناه بين متحفظين على اندفاعه، ومجرِّمين لهذا الاندفاع، وليس من حق الراصد حشر الطائفتين في سلة واحدة، و«العواد» رحمه الله دعا إلى «السفور» و«العامية» و«النثرية» وهو ما لا يجوز الاتفاق المطلق معه عليه، ومع هذا فإن «الحداثة» التي هتف لها الفارغون لا تمت إلى مشروع «العواد» بصلة، إنها قول في «التفكير» وليست قولاً في «الفن» ولا يجوز تلويث سمعة المجددين. واعتراضنا لا يمتد إلى التناول من حيث هو، ولا يمنع أي أسلوب في التناول، وإنما هو على المغالطة والاتفاق الغبي، ف«الحداثة» ليست التجديد، ومن قال بذلك فهو جاهل أو متجاهل، «الحداثة» مشروع فكري لا يمت إلى التجديد بصلة، و«النقد الثقافي» ليس وقفاً على ضرب الثقافة العربية، والاعتراض يمتد إلى دعوى المبادرة والتجديد، والأثرة، وعلى إكراه الناس، وحملهم على اتجاه نقدي لا تربطه بالأدب رابطة، وعلى استدعاء مصطلحات لا علاقة لها بالأدب، وتصور اغنائها إلى حد إماتة «النقد الأدبي» القائم ما قام الأدب، وعلى تجميع الظواهر الاجتماعية، وتسميتها بالأنساق الثقافية المتشعرنة، لتبرير دعوى «النقد الثقافي»،. وكل هذه الابتسارات والاكراهات ليست بشيء إلى جانب «التشعرن» وما تستتبعه هذه الصيغة من مفاهيم جائرة لا تليق بثقافة الأمة وابداعاتها القولية التي وسعت جلائل الأمور، ولو ان المفكر الغربي أطل على الثقافة العربية من كوة «النقد الثقافي» وتطبيقاته الاقليمية لأثلج صدره ذلك التقزيم، وهو بلا شك سيطل، والعمل سيترجم إلى أكثر من لغة، وسيطبع أكثر من مرة على شاكلة رواية «الحزام»، لأنه يشفي صدوراً كثيرة، تود لهذه الحضارة ان تختصر في الخرافة والاسطورة والعامية والتشعرن والتفحلن، وحين لا ننكر تعرض الأنساق الثقافية لشيء من ذلك فإن هناك فرقاً بين التخصيص والتعميم، والنصيحة والتعبير، وما حواه الكتاب من قول عن الثقافة العربية وأنساقها، لم ينظر إلى خصائصها الربانية وما تتميز به من: شمول، واتزان، وأخلاق، وتوازن، وواقعية، وعالمية، وإنسانية، وإيجابية، ولم يستحضر الخيرية الباقية بانتظار نصر الله. والأسوأ من كل ما سبق التصور الخاطئ والفهم السقيم، وعدم وعي المتلقي بمآلات الاستنتاج، وإذا كان «لويس عوض» و«محمد مندور» و«عبدالمحسن بدر» و«عبدالمنعم تليمة» و«محمود أمين العالم» ومن قبلهم «حسين مروة» وسائر النقاد والمنظرين والمبدعين قد ركنوا إلى «الواقعية» بكل مستوياتها واتجاهاتها: الماركسية والاشتراكية والاجتماعية فإنهم استبطنوا «الجمالية الأدبية» واستطاعوا إحكام لعبتهم، أما صاحب «النقد الثقافي» فقد خسر مشروعية محاكاته، بدعوى موت «النقد الأدبي»، وقد ألمح د. سمير حجازي إلى بعض المحاولات المشابهة لمهمات «النقد الثقافي» بقوله: «إن محاولة الربط بين الفرع المبدع والجماعة والأثر هذا الثالوث لا يلتقي إلا في إطار الإبداع الفني أو الأدبي على المستوى السوسيو ثقافي» «ص48 النقد الأدبي المعاصر»، ولو ان «النقد الثقافي» وسَّع «الإبداع» و«الاجتماع» وتفاعلاتهما، وما يفرزانه من أثر يتشكل في ظله «النسق الثقافي» الحقيقي، وليس التوهمي، لكان رديفاً لا بديلاً، وهذا أقصى ما يملك الحصول عليه، أما الاستئثار فضرب في فجاج الوهم والتوهيم. |
جائزة الأمير نايف العالمية.. من المحدودية إلى الشمولية!
د. حسن بن فهد الهويمل حينما كتبت عن «مؤسسة الفكر العربي» وعن «التعليم الجامعي من المأزومية إلى المأزقية» وعن «وزارة المياه» هاتفني بعض المتابعين يستحثني على الخروج من ضوائق الأدب إلى فضاءات المجتمع، ويصف كلماتي بحدة النبرة، ويناشدني التخفيف، متعللاً بأن الأمر لا يحتمل كل هذا الخوف، غير اني حين لقيت صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز على هامش تكريم الشاعر الأمير عبدالله الفيصل لم يبد أي امتعاض مما قلته حول مؤسسة الفكر العربي، ولم يضق ذرعاً بالتحفظات والتحذيرات، بل أكد على اهتمامه بما دار في المقالين، وقدَّر التساؤلات والتحفظات، وشكر لي ما أبديته من تخوف، وما قدمته من اقتراحات، وتلك الرحابة في الصدر والثقة بالنفس من لدن سموه، بعثت في نفسي الثقة والاطمئنان، إذ تأكد لي ان رجالات الدولة يثمنون الكلمات الصادقة المخلصة، وإن لم توافق هوى في نفوسهم، ولاتزال الأمة بخير متى أصاخ قادتها للموعظة، ومتى رحبت صدورهم للتساؤل، ومتى عرف المتعقبون من حملة الأقلام حدود ما يجب، وحفظوا حق القادة عليهم، وكنت فيما أتناول من قضايا أفرق دائماً بين الخطأ العارض في التطبيق والخطيئة المتأصلة المرتبطة بالمنهج، وأخطاء المسؤولين من العوارض التي يجب تعقبها. والمتطوعون بالأعمال الخيرية، الباذلون لجهدهم ووقتهم ومالهم في سبيل خدمة الوطن عبر أي موقع، يودون لو تسدد أعمالهم، ويكون نصيبها النجاح والقبول، فالكبراء منهم يرفلون بحلل الجاه والغنى، وتحفهم الأضواء من كل جانب، وتغمرهم المسؤوليات الجسام، وليسوا بحاجة إلى مزيد من العناء، وتطوعهم بتحمل مزيد من الأعباء دليل على وعي سليم لرسالتهم في الحياة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الصدقة برهان» لأن نفاق الأقوال والأعمال يسير، ولكن الإقدام على الانفاق دليل إيمان، وبرهان تقوى، وعلامة صدق، والجود بالمال، كما الجود بالنفس دليل إيمان هناك ومؤشر إحسان هنا، ولهذا صار الجهاد ذروة سنام الإسلام، وواجب المقتدرين بالقول أو بالفعل ان يسهموا بما يقدرون عليه، لا يحابون، ولا يتملقون، وفي المقابل لا يشكون، ولا يتشاءمون، والقصد مطلوب في كلتا الحالتين، وبخاصة حين تكون المشاريع في خدمة الكلمة سواء كانت من عند الله أم من عند غيره، فالمشاريع الفكرية بما اوتيت من وسائط النقل ومراكز الحفظ وسهولة الوصول تسهم في تشكيل وعي الأمة وتصورها لله وللكون والحياة، ولا سيما ان الأمة تعيش حالة من التيه والارتباك بفعل الكلمة المنحرفة والرأي السقيم، وما البواقع التي تصيب الأمة إلا نتاج شحنات ذهنية بلغت حد غسيل المخ، فالذين يتصدرون للقول ثم لا يكونون على وعي عميق بفقه الواقع ومعرفة سليمة بشفرات اللعب السياسية القاتلة يسيئون من حيث يريدون الإحسان، وذلك ما عرَّض الأمة الإسلامية لنكسات موجعة، قد لا تسترجع معها عافيتها إلا بعد معاناة طويلة، وتبني المشاريع العلمية والفكرية من ذوي الوعي والخبرة والمسؤولية يبعث على الثقة والاطمئنان. وإذا كنت اختلف مع مشروع ما من حيث المنهج أو التوقيت أو المجال أو كنت أراه دون المؤمل فإن هذا لا يمتد إلى سلامة المقاصد ولا إلى حسن النوايا، والواثقون بأنفسهم لا يزيدهم النقد والمساءلة إلا إمعاناً بالثقة ومزيداً من الأداء السليم، ومما لا نقبله من كُتَّابنا ومفكرينا ونخبنا العلمية والأدبية التخلي عن المساحة المشروعة للقول الحق والاشتغال بالكلام العديم الجدوى من مجاملة لا يتطلع إليها الجادون في حياتهم، والذين يتخلون عن الممكن من القول كالذين يقولون في غير الممكن. ومشروع معرفي سلفي مستنير يظهر إلى الوجود بحجم السنة النبوية المطهرة، ويتبنى دعمه رجل بحجم نايف بن عبدالعزيز في زمن رديء، وعزوف معيب، وظروف عصيبة يمر بها العالم الإسلامي، يعد بحق من أهم المشاريع العلمية وأجدرها بالمتابعة والتساؤل، وإبداء المشورة وتفادي المجاملة التي قد تفوت على المعنيين تلافي أي نقص، ولا سيما إذا كانت تلك المشاريع في دور التأسيس، ومبادرة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز تتطلب المباركة والمؤازرة، والمباركة والمؤازرة ليستا وقفاً على الثناء والرهان والتزكية، فسموه لا يريد الجزاء ولا الشكور الفانين فناء الدنيا. وإذا كان «مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف» قد حقق خدمة جليلة لكتاب الله، بلغ به آفاق المعمورة، وتمكن من الحصول على نسخة من المصحف الشريف كل مسلم، كان يتمنى الحصول على نسخة منه، ثم لا يحصل عليها من قبل، لقد تخطى المجمع بجهوده طباعة النص إلى ترجمة المعاني إلى مختلف اللغات وتفسير آي الذكر الحكيم وتسجيله صوتا لعدد من المقرئين، وحقق نجاحا لا مراء فيه، وانتزع اعجاب الأمة الإسلامية، فإننا نرجو ان يكون مشروع الأمير نايف بن عبدالعزيز بهذا المستوى، بحيث تكون الجائزة جزءاً من المشروع، وليست هي كله، ولا سيما ان اللجنة العليا سيكون لها اجتماع قريب، لوضع تصور شامل لهذا المشروع، ولقد راودتني من قبل فكرة التقدم لصاحب السمو الملكي ولي العهد بإنشاء مجمع رديف لمجمع الملك فهد، ينهض بمهمة إحياء السنة المطهرة، وتكون مهمته استقطاب الجهود الفردية لعلماء الحديث، وتمويل مشاريعهم في التنقيب عن المخطوطات والمطبوعات غير المحققة، والتحقيق العلمي السليم القائم على أوفر المناهج وأدقها، والتخريج العلمي وفق ضوابط الجرح والتعديل والتصحيح والفهرسة والشرح والدراسة، وطبع الأعمال المميزة في أكثر من دولة، وتخفيض أسعارها قدر الإمكان، والاسهام في ابتعاث الدارسين الذين يسجلون بحوثهم في تلك الأقسام واقتراح مشاريع علمية يفرغ لها المتخصصون من علماء الحديث، بحيث تشكل لها فرق العمل بقيادة العلماء المتمكنين، حتى إذا فرغوا من تجهيزهم تقوم مؤسسة الجائزة بطباعة الأعمال، وإيصالها إلى آفاق المعمورة، ويجب ان تكون المشاريع المدعومة أو المتبناة ذات تميز، مستكملة ما تتطلبه السنة النبوية من خدمة معرفية، وبخاصة بعد ظهور مراكز المعلومات والشبكات العنكبوتية وأجهزة الكمبيوتر والإنترنت، ولعل الأهم في هذا المشروع ترجمة كتب السنة إلى مختلف اللغات وبالذات لغات الدول الإسلامية، مع ان تنامي الأقليات الإسلامية في الدول المتقدمة يجعل من لغاتها لغة اقليات، وحاجة الأمة الإسلامية اليوم إلى توفير النص التشريعي المجرد من تراكمات المذاهب ومعوقات المراحل التاريخية قائمة وملحة، فالمذهبية والطائفية التي عوقت تلاحم الأمة لا يخفف من حدتها إلا التنادي إلى كلمة الله وكلمة رسوله، ففي ذلك رد مقنع ومفحم. والمعروف ان هناك علماء أجلاء خدموا السنة النبوية المطهرة ممن قضى نحبه وممن ينتظر، وبعض أولئك وقفت الظروف المادية والجهد المحدود والطاقة المبعثرة بين العمل الوظيفي والجهد التطوعي في طريق إنجاز مشاريعهم، وبعضهم الآخر انتقل إلى رحمة الله، تاركا ثروة لا يستهان بها من الأعمال العلمية المبعثرة هنا وهناك، أو المطبوعة بأعداد محدودة، وفق الإمكانات المتواضعة، ولنضرب على ذلك مثلاً بخادم السنة النبوية المطهرة المرحوم محمد ناصر الدين الألباني، الذي وقف حياته على خدمة الحديث النبوي الشريف، وقطع مسافة لا يستهان بها، وفتح الطريق أمام الناشطين من العلماء لتتبع كتب الصحاح والمسانيد والسنن المخطوطة والمطبوعة، والعمل على تحقيقها تحقيقا علميا واخراجها إلى الناس، والسعي وراء الثروة العلمية المنهوبة من مكتبات العالم الإسلامي وخزائنه والمسجونة ظلماً وعدوانا في مكتبات العالم الغربي، والعمل على استعادتها ذاتا أو مصورة، والنهوض بمهمة التحقيق والتخريج والطباعة والتوزيع، ويقال عن سماحة العلامة بكر عبدالله أبوزيد شفاه الله ما يقال عن الألباني، وعن آخرين لا نعلمهم، ولكن الله يعلم سرهم ونجواهم، وجليل أعمالهم، لقد حفزت جهود أولئك الأفذاذ طوائف من العلماء والمتعلمين إلى مبادرات مشكورة يحسن العمل على ترشيدها.. ومن الظواهر الإجرائية التي بدت في الآونة الأخيرة تضافر جهود العلماء والمتعلمين على فهرسة كتب الحديث، وهي فهرسة في مجملها بدائية، إذ تعتمد على أوائل الأحاديث القولية، وكم كان جميلا لو ان هذه الجهود وجدت من يرعاها ويدعمها، لتنتقل من الفهرسة إلى المعجمة، بحيث يسهل العثور على الحديث بمجرد حفظ كلمة منه، على غرار المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وعلى طريقة أسلم وأحكم من طريقة المستشرقين في معجمة كتب المسانيد والصحاح والسنن. لقد انتهت الجهود الفردية والمبادرات الشخصية، وجاء دور المؤسسات الفكرية والأدبية والدينية والسياسية والاقتصادية، جاء دور فرق العمل المتخصصة لإنجاز الأعمال الهامة، واستكمال المشاريع الحيوية التي لا يمكن ان يوكل امرها إلى فرد لا يقدر على استكمالها، وإنشاء الجائزة مشروع لا يستهان به، ومن حق صاحبه علينا الشكر والدعاء والنصيحة، والمطالبة الملحة بتوسيع مجالات ذلك المشروع، وبخاصة حين يتبناه رجل ودود مُقدَّر ومقتدر مثل الأمير نايف بن عبدالعزيز، ولأنني أؤمن بمبدأ «خذ وطالب» فإنني اتمنى على سموه الأماني، وهو الأجدر والأقدر على تحقيق تطلعات المهتمين بالمعارف الإسلامية، وماذا عليه وعلينا لو تقدم خطوات إلى الأمام وحمَّل المشروع مسؤوليات إضافية، مستعينا بمن شاء من المحسنين، بحيث يتطوع الموسورون بتبني مشاريع علمية تقترحها الجائزة العالمية، وتشرف عليها وليس هناك ما يمنع من تضافر الجهود، وإذا قام رجل يمتلك أهلية القيادة بتبني فكرة علمية أو غيرها فإنما هي من السنن الحسنة التي يؤجر عليها، ولعلنا نستذكر دواعي مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سنَّ سنة حسنة فله أجرُها وأجر من عمل بها»، ذلك ان الرسول قام خطيباً يستحث الناس على جمع الصدقات لمحتاجين مسهم الجوع، فقام بعض القوم بطرح أرديتهم ووضع ما معهم فيها فتقاطر المتصدقون حتى امتلأت الأردية، واستغنى المعسرون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم قولته تلك «من سن سنة حسنة»، وليس ما يمنع من ان يبسط الأمير رداءه ويخطب في الناس لدعم السنة النبوية المطهرة، ليكون من أصحاب السنن الحسنة. وفعله ابتداء يعد بلا شك من السنن الحسنة التي نسأل الله ان يكتب له فيها الأجر لتكون صدقة جارية إذا انقطع عمله، وكل من مات انقطع عمله إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، ومشروع كهذا لا نود ان يرتبط بذات الرجل وجودا وعدماً، ومن ثم لابد من النظر في أمر الصدقات والأوقاف الإسلامية التي يحبس أصلها وتوجه منفعتها لدعم هذا المشروع، إضافة إلى ما تجود به أريحية الأمير وهي بلا شك أريحية تغني وتقني، وخدمة السنة المطهرة لا نود ان تقتصر على الجائزة، ذلك ان الفائز فيها قد أنجز عمله، ونحن نريد إنشاء أعمال جديدة، والتفكير في إضافة أعمال فوق أعمال الفائزين بالجائزة، وإيجاد مثابة لخدمة السنة المطهرة من علماء ومؤسسات تكون بحجم «مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف» علما ان خدمة السنة المطهرة لا تقتصر فقط على طباعة الجاهز من الأعمال، مثلما هي الحال بالنسبة للقرآن الكريم، وبالتالي فإن هذا سيضيف أعباء جديدة على الجائزة، ولكنها أعباء تحت السيطرة متى تلقف رايتها إنسان متميز مثل الأمير نايف بن عبدالعزيز، بما هو عليه من مبادرات إيجابية، ليست من اختصاصات وزارته، ولعلنا نذكر تفانيه في محاصرة «البطالة» وطرح مشروع «السعودة» والتصدي لخدمة الإسلام في هذه الظروف الحرجة دليل على وعي التوقيت والتقدير، وتأكيد على ان التصدي للإعلام الغربي ومن ورائه اللوبي الصهيوني لا يكون بالقول فقط، وإنما يكون بالفعل المؤصل للإسلام، الفعل الذي يلبي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: «بلِّغوا عني ولو آية»، وإعادة النص التشريعي وتنقيته من كل ما علق به من شوائب المذهبية والطائفية وإعادة قراءته في ظل النوازل مؤذن بالخروج بأحكام إسلامية بعيدة عن التخرصات قريبة من واقع الحياة، فالنوازل تضيء عتمة النص وتفجر دلالاته الكامنة فيه، ولأن الأمير نايف رجل دولة قبل ان يكون مسؤولاً أمنياً فإن مبادرته تلك تحيل إلى اهتمامات الدولة بالقضايا الإسلامية في كل المجالات وعلى كل الصعد، وهي اهتمامات حصيفة وواعية ورائدة، ومما يبعث على الاطمئنان ذلك الانتقاء الذكي للهيئة التي نحسبها من الخيرين، ولا نزكي على الله أحدا. والأمل معقود بنواصي صفوة الصفوة المتمثلة بهذه الهيئة لتفادي أي صدام أو تبني أية رؤية ضيقة، أو الركون لأي مذهبية، فالسنة المطهرة مرجعية معتبرة لكل مذهب إسلامي، وما عليها إلا ان تقدم النص الصحيح خاليا من كل الشوائب، وعلى الذين يسعون للحق ان يتلقوا هذه النصوص الموثقة الثابتة القطعية، ويمتثلوا أمر الله وأمر رسوله، ومع ثقتي بالهيئة رجالا بأسمائهم أو مسؤولين من خلال مواقعهم فإنني أتمنى ضم مؤسسات أخرى كان لها قدم صدق في خدمة السنة المطهرة ودور نشر عنيت بالسنة تحقيقاً وطباعة للاستفادة من خبراتهم وتوفير الدعم لهم، والعمل على لملمة الجهود وتوجيهها إلى مجرى واحد ومصب واحد، وحسنا ان تكون الجائزة ملتقى المؤسسات والهيئات والأفراد المهتمين بالسنة المطهرة عليها يردون ومنها يصدرون، يمنحونها نصحهم ويهبونها جهدهم، وفيها يتلقون دعمهم علميا وماديا. لقد واجه العلماء والأدباء والمفكرون هذه البادرة بالارتياح، والجميع يودون لو تجاوزت الجائزة محدودية أثرها إلى ما هو أهم، وبخاصة ان سمو الأمير قادر على قيادة حملة لها ما بعدها، وهو موطن ثقة رجال الأعمال الذين تتدفق اعطياتهم بشكل مبهج، وعلينا ان نستعيد اسهامات المحسنين في مشروع صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله في رعاية الموهوبين ومشروع صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل لرعاية الفكر العربي، ومشاريع أخرى لسنا بصدد تقصيها، وبلادنا تدخل سباقات ايجابية، والأمراء يتصدرون هذه السباقات، ومن ورائهم رجال المال والأعمال والجميع بجهودهم المتضافرة يمدون هذه السباقات بالدعم السخي، فخادم الحرمين الشريفين حفظه الله قدم للعالم الإسلامي أهم مشروع، وهو «مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف» والأمير عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله قدم أكثر من مشروع من مثل «مكتبة الملك عبدالعزيز» ومشروع رعاية الموهوبين، والأمير سلطان بن عبدالعزيز أنشأ «مؤسسة الأمير سلطان الخيرية»، وموَّل مشروعه الموسوعة، والأمير مشعل بن عبدالعزيز له اسهاماته المتميزة، والأمير سلمان بن عبدالعزيز له حضوره المتواصل، وأبناء الملك فيصل وأبناء الملك خالد لهم مبادراتهم، ولكل أمير مشروع ديني أو فكري أو إنساني، ولا نزال بخير ما دمنا نتلقى مثل هذه المبادرات الكريمة من الأمراء والأثرياء، وعلينا ان نكون ردءاً لها، ومحفزا لذويها، وداعما لها بالقول وبالفعل، وليس من مصلحة الأمة التخذيل أو التثبيط، ولا أقل من المشاركة بالقول، على حد «فليُسعِد النطقُ إن لم تُسْعِد الحال»، وذلك أضعف الإيمان، وإنشاء جائزة تقف جنبا إلى جنب بإزاء جائزة الملك فيصل العالمية، مبادرة حضارية، يجب ان تتجاوز الثناء إلى الدعاء والنصح، فصاحبها لا يريد من ورائها جزاء ولا شكورا من أحد. |
الإبداع في الأدب: حدوده.. وآفاقه..!1/2
د. حسن بن فهد الهويمل 1/1 لكيلا نعوِّم القول أو نعممه على شاكلة الآخذين من كل شيء بطرف، نرى أنه وتمشياً مع المنهجية العلمية الدقيقة من الضروري تقصي الدلالات المتعددة لمفردات العنوان، وتعقب تحولاتها المصطلحية، وتقصي مراحلها التاريخية، وتعدد حقولها المعرفية. ذلك أن تأطير المعلومة من خلال تحريرها معرفياً كالأطر على الحق، كلاهما مطلب حضاري. ونحن هنا أمام أربع مفردات، بمعرفة مدلولاتها الوضعية والاصطلاحية نستطيع أن نتخذ الطريق القاصد إلى معطياتها ومقتضياتها والتعامل معها تعاملاً معرفياً لا يشوبه افتعال ولا انفعال، ومفردات العنوان هي: «الإبداع» و «الأدب» و «الحد» و «الأفق»، وإشكالياتها المتأبية ليست في الدلالة، ولكنها في المفهوم، وفي المقتضى، وفي التصور. والمصطلحات المراوغة تقي مدعيها إقامة الحجة، وإن كانت مأخوذة بمقاصد الحضارة المنتجة لها، ومع ذلك فلا بد من العودة إلى درجة الصفر في البحث عن الدلالة، والانطلاق منها والتحسس عن التطورات الدلالية لها عبر سياقاتها التاريخية. وإذ تكون لكل كلمة منها دلالاتها الوضعية المتأثرة بالتطور الحضاري. ولها مقتضياتها المصطلحية المتأثرة باختلاف المفاهيم، ولها استعمالاتها المجازية: مفردة كانت أو مضافة أو مركبة، إذ أن بناءها في نسق تعبيري تنشأ عنه علائق جديدة، تتجاوز دلالة أي مفردة مستقلة أو آخذة بسياق مغاير: أسلوبياً أو ثقافياً أو تاريخياً، ولكنها مع تعدد السياقات والأنساق تحتفظ بقدر كبير من مدلولها الوضعي والاصطلاحي، والدلالتان منارتا هداية لكل باحث عن دقة المعلومة وحدود الموضوع. 2/1 ف«الأدب» بوصفه محور الحديث، وجماع أمره، أخص من الإبداع على إطلاقه، والإبداع يعني: الإنشاء على غير مثال، وهو مع الخالق على الحقيقة، ومع المخلوق على المجاز، لأن التخيل البشري استرجاعي، ومن ثم فإن القول بالإبداع تجوزاً، وقديماً قال الشاعر الجاهلي: ما ترانا نقول إلا معاراً أو معادا من قولنا مكرورا ويقول: هل غادر الشعراء من متردم والأدب في مجمله إبداع قولي، وإذ يكون الإبداع: قولاً وفعلاً، فإن الإبداع القولي بعض مفردات الإبداع على إطلاقه، وهو مؤشر فعل أو قول، ف«الرسام» و«النحات» و«الموسيقي» و«الراقص» و«المغني» و«الشاعر» و«القاص» و«الممثل» كل أولئك يوصفون بالمبدعين والفنانين. ولكل واحد منهم ضوابط فنِّه، وحدود مجاله، ومقومات نوعه الإبداعي، وآفاق سبحاته. ومتى جهل المعنيون شيئا من ذلك انفلت العقد، وعمت الفوضى، وعُمِّيت الأمور، وفُقِدت المرجعية التي يُرَدُّ إليها عند الاختلاف. وذلك بعض أدواء المشاهد القائمة، وعامل فوضويتها. ولكون الأدب إبداعاً قولياً في شقيه: السردي والشعري، فإنه أخص من مطلق القول المتسع لسائر العلوم: البحتة والإنسانية والشرعية. ولأن الشعر ذو خصوصية شكلية، مغرقة في الغنائية، عصية في الشرط الشكلي، دقيقة في البناء اللغوي، فإنه يستأثر بأهمية لا ترقى إليها مفردات الإبداع القولي، كالقصة والرواية والمسرحية والسيرة الذاتية والمقالة، والشعر يستأثر بالتألق حين يكون الشاعر موهوباً، عميق الثقافة، صادق التجربة. ولما كان الإبداع السردي أىسر مرتقى، فقد كثر أدعياؤه ومقتدروه، وقل موهوبوه ومبدعوه، وطغى افتعاله وانفعاله، وندت عن الاستقامة مواقفه وتجاربه، وغُمِرت مشاهد الأدب بفيوض من القول الفارغ واللغة الرديئة والكلام الكثير الذي لا يقول شيئاً، حتى كسر الحدُّ ولوث الأفق، وحتى قيل ب«زمن الرواية» لكثرة الثلاثيات والخماسيات والمجاميع القصصية واستفاضة الدراسات وتتابع القضايا والظواهر الأسلوبية والفنية واللغوية التي لا تكون إلا في الوهم، وعلى يد السواد الأعظم من الروائيين والقصاص والنقاد سيئت وجوه الفن الرفيع، ودنست المقدسات الطاهرة، وهتكت الأخلاقيات المصونة، وأنسن الإله، وسئل عما يفعل، وعورضت الأقدار،ورفضت الأوامر، وسفهت الأحلام، وكلما تمعرت وجوه الوجلين تذرع المقترفون والمعذرون بحرية القول وحقوق الفن وحتمية التجديد، ولم يرق مما كتب من أعمال إلى سدة الفن الخالد إلا الأقل من الإبداعات الروائية، التي كتبها موهوبون متمكنون من لغتهم وفنهم وثقافتهم وصدق تجاربهم. ومما يلفت النظر مفارقة المقومات، فمتى تألق الفن، وأشرقت اللغة، خبث المحتوى، ومتى شرف المعنى تعثر الفن وتلعثمت اللغة، وندر اجتماع الأشراف: شرف اللفظ والفن والدلالة، ومن ثم وجد المفسدون في أرض الفن والمرجفون في مدينة الإبداع هذه المفارقة سبيلاً قاصداً لشرعنة الفجور، كما وجدوها مبرراً لتعطيل الحدود وتلويث الآفاق. والمؤسف إن الشهرة والحضور واكبا المتمردين على القيم كافة: قيم الفن واللغة والأخلاق، وجاء أساطين النقد كالمعذرين ظهيراً للمبدعين الذين لم يرعوا في المشاهد إلاً ولا ذمة، وكل ذلك الفيض من الانتهاكات يتذرع بالحرية التي لم تفهم على وجهها. ولأن ضوابط الشعر الفنية دقيقة وشاقة وعصية، سواء تعلقت بلغة النص أو بفنياته أو بدلالاته، فقد وجد فيه النقاد فضاءات رحبة، حتى لقد طغى سلطانه وكثر أعوانه، واستأثر بالشاهد والمثل والدرس. ولأنه مجال علماء اللغة والنحو والصرف والبلاغة والتفسير فقد احتشم الشعراء المعول على شعرهم، ولم يسفوا، ولا عبرة بمن ندَّ من الشعراء الشعوبيين عن جادة الصواب، فانحراف أولئك ذليل محدود.ولما زوحم الشعر بوسائل الإعلام: المقروء والمسموع والمرئي، وشغل الناس بما جد من فنون القول بما هيئ لهم من وسائل تسلية وترفيه، تقلصت مساحة الشعر، وغلبت السرديات عليه، وتبع ذلك ضعف سلطانه، وما أن تعددت قنوات الاتصال بالجماهير هبطت الفنيات، وضاعت القيم، وتقحم المشاهد من لا خلاق له، وأصبح الذابون عن الفضيلة نشزا في سياق الإبداع والنقد، ولقي حماة الأصالة أذى كثيراً من تجاوزات المنتهكين لحرمة التراث، فكانت الأذية مضاعفة، لأنها تمس الأخلاق والتراث معاً، والذين تجاوزوا حدود الفن والقيم شايعهم من تجاوز حدود اللغة، ليحتل «الشعر الأمي» صدارة المشاهد وسدة الإعلام مزاحماً بمنكبه الضعيف وجناحه القصير وبمؤازرة المنتفعين من حملة الأقلام «الشعر الفصيح» الذي اعتورته الرذيلة والعامية والضعف العام، ومن ثم ضاعت حدود الفن والقيم واللغة. 3/1 و «الإبداع الأدبي» تنتابه إشكاليات متعددة، لاختلاف المفاهيم والتصورات، ولتعدد الجغرافيا الفكرية والدينية، والنقاد المعذّرون والمعارضون، والمؤصلون والمشرعون يقعون تحت تأثيرات متعددة، تدفع بهم إلى الصدام، ولا تحملهم على التعاذر والالتقاء على كلمة سواء، يحترمون معها الضوابط الأخلاقية والقيم الفنية والمعيارية اللغوية، ويمكنون النص الإبداعي من إقامة اللسان واستقامة الخلق على حد: ولولا خلال سنها الشعر ما درى بناةُ المعالي كيف تبنى المكارم وحين نتحدث عن «الحدود» و«الآفاق» نعرض أنفسنا لجدلية حادة النبرة، وبخاصة حين وقع الأدب في مضائع الالتزام الأيديولوجي المسيس، واستزلته دعوات الحيرة الفوضوية في مجال القيم الفنية والأخلاقية والفكرية والسياسة، و«الإبداع الأدبي» مادته اللغة وآفاقه التجربة الإنسانية: فردية أو جماعية، ولكل من «الإبداع» و«الأدب» و«اللغة» و«الفن» و«التجربة» حدود وآفاق تواضعت عليها النخب وتوارثتها الأجيال، وسلم لها أفراد المجتمع الواحد المتجانس في لغته وجنسه وجغرافياته: الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية معولة على مرجعية نصية أو عرفية، وتلك المواضعات منها الثابت والمتحول، وهوامش التحول تمكن من التحرف المتواصل للتجديد لمواكبة الحياة المستجدة، وكل حضارة تنطوي على ثوابت ومتغيرات، والإشكالية في تحديد الثابت والمتحول، ومن تصور ان التحفظ على المقترفات عقبة في طريق التجديد، فقد تعمد التحريف والتزييف، ومن صدّق هذه الدعاوى فهو خب يخدعه الخب، فالسكونية والماضوية ليستا سمة الأخلاقيين ولا خلق المؤصلين، كما ان الاستشراف المستقبلي والتجديد الحقيقي ليسا سمة المتهتكين والمتمردين على الضوابط والحدود، واختلاف المفاهيم كالاختلاف حول الثابت والمتحول، كلاهما مجال صراع مستحكم وتنازع مضر بالمصلحة العليا للأمة، والأخطر من كل ذلك الاختلاف حول المرجعية، ومتى اختلف الناس حول المرجعية وقعت الواقعة إذ ان الاتفاق عليها يحصر الخلاف في وجوه التأويل، وفي تعدد الدلالات، والسلف من العلماء أدركوا ان النص حمَّال أوجه، وقبلوا الاختلاف على ضوئه وعمدوا إلى وضع الأصول والقواعد في استقرار النصوص. ولكي نستبين الوعي الحضاري للعملية الإبداعية لا بد ان نعرف الشرط الفني، والمعيار اللغوي، والضابط الأخلاقي، والمقتضى العقدي، والمفهوم المصطلحي، وحدود الثبات والتحول، ونعرف إلى جانب ذلك القدر المتاح من الضرورة وشرعية التغيير في الشرط، وإمكانيات المخول للتغيير، وحقه في ذلك. إذ لا يجوز تخويل حق التغيير لكل من وجد في نفسه الرغبة في ذلك، وإنما هو لمن يقدرون للضرورة قدرها، ويحفظون حق الحضارة التي ينتمون إليها، ولا بد مع هذا من ضوابط يحترمها الجميع، ويسلمون لها، ولا بد من مساحات محدودة لحرية القول وحرية التغيير، لمواكبة الحياة المستجدة، ولا بد ان يكون كل شيء بمقدار، فالانغلاق على الذات، والانفتاح على الغير، حين لا يكونان محسوبين بكل دقة يستويان في العائد السلبي، والحياة: مادة ومعنى قائمة على النظام، وسنن الله لا تبدل ولا تحول، لأنها نظام الكون الحسي والمعنوي، والنظام ضابط يحد من فوضوية التصرف وهمجية الفعل، وضياع الأمة وهلاكها يستشريان حين يسود الجهلة، وحين لا تحترم ضوابط الفنون والعلوم، وحين لا يخضع الجميع لما تواضعوا عليه من القيم. والأدعياء الذين امتلكوا حق القول في مصائر الأمة وكافة أمورها باسم حرية التعبير وتكافؤ الفرص، اطفأوا منارات الفن، حتى لقد انطمست حدوده، وادلهمت آفاقه، وأصبح كل عابث يحيل على حقه في الحرية الفوضوية وعلى حق التعبير عن الرأي، والحرية لا بد ان تكون منضبطة، ومرتبطة بالمواضعات التي تحمي حقوق الغير: حسية أو معنوية، فالفن تحميه ضوابطه، واللغة تحميها قواعدها، والقيم تحميها الأوامر والنواهي الشرعية، والحقوق الخاصة تحميها القوانين، والحقوق العامة تحميها الدساتير، والحرية والحدُّ صنوان، فغياب أحدهما مؤذن بفساد الأمة وضياع مثمناتها، والضابط هو «الحد» سواء تعلق بلغة النص أو بمضمونه أو بفنياته، ولكل عنصر شرطه، والتعامل معه دون فهم دقيق لنظامه ومهارة متميزة لفك شفراته واستيعاب جيد لممكنه ومستحيله ومباحه ومحظوره ضرب في فجاج التيه، وذلك ما نشهده عند دعاة الانقطاع المعرفي، واستمرارية التغيير، وضرب الثوابت والسوائد دون مساءلة أو تقويم. 4/1 وكل شيء في الوجود له حده الذي لا يتحقق وجوده إلا بقيامه واحترامه و«الحدود» واحدها «حدٌّ» وهو في اللغة: المنع، والفصل بين شيئين، ومنتهى كل شيء حده، وهو في الفلسفة: ما دل على ماهية الشيء، والحد التام يقتضي الجمع والمنع كالمصطلح، ويقتضي الاطراد، وهو التلازم بين الحد والمحدود، وليس من مقتضيات الحرية تجاوز الحد، فالحد مطلب رئيس من مطالب الحرية، والمشاهد الفكرية والأدبية تقترب من حافة الفوضية، لأن الحداثة اطلقت أيدي ذويها من مبدعين ونقاد: مطبقين ومنظرين، فكسر الحد، وعطلت القواعد، ورفضت السلطة: الحسية والمعنوية، ولهذا لم يعد هناك حد متفق عليه، حتى القول في أنواع الفنون لم يعد مقبولاً، وقد طرح مصطلح «الكتابة» لكيلا يكون هناك تمايز بين فنون القول، وليس من مصلحة أي حضارة ألا يكون لأدائها القولي «حد» و«أفق» يلتزمهما المبدعون، وينافح عنهما النقاد. وما من حضارة انتقضت عراها عروة عروة إلا ضاع أهلها، واستعبد أفرادها، وأصبحت تركة موروثة لحضارة أخرى، والحد في الإبداع القولي يكون للغة النص، وهو معيارها، ويكون للنوع الفني، وهو شرطه، ويكون للمضمون، وهو ضابطه المتعدد: عقديا وأخلاقياً وسياسياً واجتماعياً، والحد في المضامين لا يقل أهمية عن سائر الحدود، ولا سيما بعد ان طغت السرديات، واتسعت للقضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والعقدية، ومن تعقب التجاوزات في الفكر والأخلاق راعته الترديات الأخلاقية والفكرية، وإذا كنا نجد في التراث مثل ذلك فإنه تجاوز محدود ومقموع، وليس له ناصر يشرعن فسقه وفجوره مثلما هو حاصل في مشاهد العصر الحديث. |
الإبداع في الأدب:حدوده.. وآفاقه..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل 1/2 و«الآفاق» واحدها«أفق»، وهو المجال الظرفي الذي تسبح فيه الأفعال والأقوال، ولكل فن مضاميره، فلا يجوز أن يدرج أي فن في عش غيره، فالفقهاء لهم مجالهم، كما أن للمحدثين والمفسرين والفلاسفة والمؤرخين آفاقهم، واتساع المجالات وتبادلها وتداخلها، واختلاف المفاهيم، وتباين التصورات لا يلغي الأفق الطبيعي للأشياء، ومن جهل ذلك أساء إلى نفسه وإلى فنه وإلى حضارته. والتداخل الدائري بين الآفاق لا يلغي تعدديتها وتمايزها، إذ ليس من شرط الأفق الانغلاق، بحيث لا يسبح فيه إلا نوعه، وبقدر اتساع الآفاق للتداخل تكون الخصوصية المرنة. والمتذرعون بدعوى الحرية في إلغاء«الحد» وطمس«الأفق» أفسدوا الفن والقيم الأخلاقية، و«الحداثيون» هم الذين دمروا بنية المجتمع، وفجروا اللغة، وأوغلوا في الاغتراب والعدمية والفوضوية الجنسية. ولغط القول حول مفهوم الحرية في الفن لا يقل سوءاً عن اللغط حول«الحرية» و«السلطة» إذ إن السلطة المعيارية والسلطة الدينية والسلطة السياسية، تقمع المتمردين والمتهتكين، وتضيق الخناق عليهم، وتأطرهم على الحق، والذين يتمردون على السلطات مثلهم كمثل الذين يفهمونها على غير مراد المشرع، فالحرية غير الخنوع، والفوضى غير الحرية، والإشكالية في المفهوم والممارسة وأسلوب التبادل بين السلطة والمحكوم بها من الأناسي والأشياء. والدخول في تلك المهايع مضلة إفهام ومزلة أقدام، ولكن واجب تغيير المنكر يحمل المقتدر على أن يصدع بما يعتقد وبما يؤمر به. وكل من لم يسلم اقتناعاً وطواعية للسلطة التي يفرضها التجمع الإنساني يحس بالضوائق، وهو إحساس مرضي، إذ إن طبيعة الإنسان السوي الإذعان لمقتضيات العقود والعهود والضوابط والحدود، والحرية الحقيقية هي الالتزام بما تواضع عليه المجتمع، سواء استمد تواضعه من تشريع سماوي أو من قانون وضعي، والسلطة السياسية مفوضة لتفعيل الشرائع والقوانين، والسلطات القضائية والتشريعية تمثل الحدود والضوابط. والعلماء والأدباء والمفكرون لهم قسط من السلطة حين يصطلحون على شروط وضوابط ومعايير، وواجبهم أن يتعهدوها من حين لآخر، يضيفون، ويحذفون، ويعدلون. وعلى الكافة من مبدعين ونقاد أن يحترموا هذه المواضعات لأنها سبيل الحياة السوية. والمذاهب المعاصرة هي التي أخلت بمبدأ«الولاء والبراء» و«السمع والطاعة» وقوضت المواضعات الدينية والاجتماعية. فالحداثة وما نسل منها من«انطباعية»و«مستقبلية» وما واكبها من«دادية» و«سريالية»و«وجودية»و«رمزي ة» التقت على مبادىء ومواقف، تمثلت في اللاوعي والرفض والشذوذ والغموض والفوضى والتهكم والتهتك والقلق والاغتراب والعبث واللاشعور، وتفعيل الجنون والعرافة والحدس والأحلام والكهانة، واستعادة الخرافة والأسطورة، واتفقت على رفض العقل والمعرفة، وركزت على الشذوذ الفكري والاجتماعي والأخلاقي والصخب والإثارة والفوضى، والتعويل على المعرفة الحدسية والحلم والجنون، وكل ذلك قائم وموثق في كتبهم. ومن قال عن الحداثة غير ذلك، خذلته الوثائق والنصوص، ومن تداولها بوصفها مصطلحاً لمطلق التجديد وجب عليه أن يتصدى لمن يراها غير ذلك، ومن غالط وكابر ولم يحدد موقفه فهو من الحداثيين بالفعل أو بالموالاة. ومصطلح الحداثة لا يكون قصراً على التجديد تعويلاً على الدلالة الوضعية فالمفهوم المصطلحي والاستفاضة القولية والفعلية تكذب المعذرين. وفلاسفة الغرب ونقاده أطلقوا أحكاماً، وأنتجوا مصطلحات، ورسموا حدوداً وهيئوا آفاقاً، تقبَّلها البعض بالقبول الحسن، وسلموا لها، ونافحوا عنها، وسفهوا أحلام المترددين والمتحفظين، ولو أنهم إذ تقحمت مشاهدهم فيوض المذاهب ردوا ذلك إلى مقتضيات حضارتهم ومتطلبات واقعهم، وبرزوا للطوارئ بمعرفة عميقة، وإرادة قوية، وحوار حضاري، وتبادل متكافىء، ومواقف ندية لكانوا أعزة كما أراد الله لهم. والتهافت الذليل على فيوض الآخر لا يحقق الوجود الكريم. 2/2 وحين نتحدث عن حدود الأدب وآفاقه تمتد نظرتنا إلى فنون القول ومتطلباتها، فالنص الإبداعي له مكوناته التي أنتجته، وله فضاءاته التي استقبلته، وله تأثيره الذي يصطبغ به المتلقي من الأشياء والأناسي، وله قبل هذا وبعده لغته التي وسعته، وشروطه التي ميزته، وحده الذي جمع ومنع، وافقه الذي استوعب فيوضه، وكل هذه نجدها في«الحدود والآفاق»، ثم إن النص الإبداعي منتج حضارة، ومشكّل حضارة، فهو فعل حضاري، وفاعل حضاري، تنتجه الحضارة وينتجها كما«البيضة والدجاجة»، وتلك إشكالية معقدة، غفل عنها كثير من النقاد: المنظرين والمطبقين. فحين نشتبك مع النص في عملية تفكيكية أو تشريحية أو تقويضية، لا نقف حيث تتجلى لنا اللغة بنظامها وعلاماتها وعلائقها، وإنما نبحث عن بعد ثالث يضاف إلى بعدين هامين وهما: البعد اللغوي. والبعد الفني. والنقاد الهاربون أزوروا عن«البعد الدلالي»، بوصفه الهدف الأسمى والغاية الأهم، بحيث وقعوا في ضوائق اللغة أو في محدودية الفن، مظاهرين«للبنيوية اللغوية» أو«الفن للفن»، ونسوا ما ذكروا به من أهمية المضمون وأثره في التصور والسلوك والموقف، ولأن الأبعاد الثلاثة«اللغة، والفن، والمضمون» متوازنة ومهمة، فإن الأهم التفريق بين الوسائل والغايات. فالنص رسالة، واللغة وسيلة، والفن إطار جمالي، والدلالة غاية، والمبدع المتمكن من يتقن عملية الأداء مستشعراً أهمية عناصر الرسالة، كما يراها«ياكبسون» قادراً على حفظ التوازن. والنقد الأخلاقي الذي نشأ مع مدائن الفلاسفة اليونانيين، وظل يتقلب على ألسنة النقاد عبر العصور، نفته مذاهب النقد الحديث متذرعة بمقولات التراث:«أعذب الشعر أكذبه»و«الشعر يغني عن صدقه كذبه»و«الشعر في معزل عن الدين». وفات المبررين والمعذرين أن تلك مقولات تعول على«المجاز»و«الخيال» و«الأفق» ولا تنظر إلى ما ينظر إليه المتهتكون والمنحرفون من شرعنة للفساد والرذيلة. وكيف يجد المؤول مبرراً لعزل الأدب عن سلطة الدين،«وخطبة الحاجة» التي كان يستهل بها رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله تتضمن آية {يّا أّيٍَهّا پَّذٌينّ آمّنٍوا \تَّقٍوا پلَّهّ وقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا (70) يٍصًلٌحً لّكٍمً أّعًمّالّكٍمً ويّغًفٌرً لّكٍمً ذٍنٍوبّكٍمً } [الأحزاب: 71] وهل ما تشتمل عليه إبداعات بعض الشعراء والروائيين الحداثيين من القول السديد؟ وأين المعذرون من قوله تعالى: {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ} [ق: 18] . ومقولة التراثيين تشير إلى أن للإبداع مجاله، بحيث لا يكون المبدع واعظاً ولا مفتياً ولكنه يكون مستقيماً كما أمر. 3/2 والنقاد الذين ظاهروا المنحرفين عن جادة الصواب الفني واللغوي والدلالي، وتفانوا في ترويض المتلقي للقبول بهذا الانحراف والقول بمشروعيته تعويلاً على الحرية وعلى خصوصية الفن، وظاهروا الخارجين على نظام اللغة وضوابط الفن ومقتضيات القيم الأخلاقية، يتولون كبر الخطيئة، ذلك أن المبدع المنحرف حين تزور عنه المشاهد وتزلقه الأبصار وتسلقه الألسن يتحول عن غيه، أما حين تحتفي المشاهد بتردياته الفنية والأخلاقية ويمارس مع غيره التشايل والتنافخ والتقارظ، فإنه يوغل في ذلك، ولا يجد المتلقي بداً من القبول بالمنكر وإنكار المعروف، والإسلام حث على الاستتار وعدم المجاهرة بالقاذورات لحماية المجتمع، فإشاعة الفواحش يطرد غربتها، ويخفي نكارتها. والمتعقبون للمنظرين من نقاد الغرب الذين خلطوا سائر العلوم مع بعضها لينتهوا بالفن إلى فوضوية مستحكمة يقفون على مقولات مستمدة من علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال وعلم اللغة وعلم الأخلاق ومن الفلسفة والأساطير والأيديولوجيات، وكلها قبضة من أثر الغرب تجتال مشاهد الإبداع الأدبي، لتقضي على خصوصيته وتميزه وضوابطه، والقائلون عن علاقات المبدعين ب«الجنون»و«العناد» يتقحمون آفاق علم النفس، ليشرعنوا الفجور في القول والشذوذ في الفعل، ولهذا فلسنا مع من يربط الإبداع بحالات التوتر والقلق والغثائية والمرض والجنون، وإن تعرض لذلك غير واحد من عمالقة الإبداع الغربي من أمثال«شكسبير»و«هولدرلن»و« نيتشه»و«فان خوخ»و«تشومان»، ولسنا مع من يقول باستواء«العقل»و«الجنون» في حالة التلبس بالعملية الإبداعية. ولقد ثبت هبوط مستويات المبدعين بعد تأزم حالاتهم النفسية. والقول التراثي عن«شياطين الشعر» والتباهي بذكوريتهم وأنثويتهم في الشعر قول أسطوري، لا يعول عليه، وتنزل الشياطين على الشعراء كما في الذكر الحكيم إشارة إلى إغوائهم وعالم الجن والشياطين عالم غيبي، مصدر معرفته النص الشرعي القطعي الدلالة والثبوت، وقد تعقب ظاهرة شياطين الشعر غير واحد من الدارسين. والتعويل على«المعاندة» في الإبداع لتبرير المغايرة تعويل يحتاج إلى ضوابط، فحين لا نجد مبرراً لاستمرار المجاراة، نرى أن المخالفة يجب أن تكون في إطار المقبول عقلاً على الأقل. وإلى جانب القائلين بالجنون والعناد نجد أن طائفة من الماديين قد ناضلوا ضد الآراء«اللاهوتية» في علم الأخلاق، وانتقدوا التفسير اللاهوتي القائم على الثواب والعقاب المادي، وتشعبت نظريات علم الأخلاق بين: المادية والمثالية، ومن المؤسف القول: إن الحضارة الإسلامية لا تسر«نظرية أخلاقية»، وتلك مقولة في مشروع الجابري حول«العقل العربي» في جزئه الرابع والأخير، وهو قول يتساوق مع القول بخلو الحضارة الإسلامية من نظريات سياسية واقتصادية وتربوية، والمؤذي اندفاع المفكرين وراء افتراءات المستشرقين، وكيف لا تكون نظرية أخلاقية والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وكيف يقال بنظرية غربية ونهاية الحضارة الغربية ناتج انحطاطها الأخلاقي. والانحطاط الأخلاقي في الحضارة المادية أدى إلى الانحلال في القيم الأخلاقية والفنية معاً، وهذا الانحطاط والانحلال لفتا نظر الفلسفة«الهيغلية» إلى تبني نظرية«موت الفن» بحيث انفصل الفن عن الحياة الجادة، ليكون أداة تسلية ولهو وترف ووهم. والحضارة الإسلامية ذات خصوصية في فكرها وفنها ولغتها وسائر شؤونها، ولا يجوز لنخبها الخروج من فلكها الذي تسبح به كل المعارف والفنون، لأن الخروج مؤذن بالتشظي والاحتراق كما الكواكب حين تنفلت من أفلاكها، والتعالق مع المستجد دون وعي بمتطلبات الحضارة الاسلامية ومقتضياتها، ودون احترام لضوابطها، ودون اجتناب لمحظوراتها يعني الدخول مع الآخر في جحور الضباب. وحين لا يجد الفلاسفة والمفكرون والأدباء بداً من التواصل مع علوم اللغة والنفس والاجتماع والأخلاق والجمال فإن التواصل المشروع لا يكون على إطلاقه، فمثلما أن الحضارات الأخرى لا تسلم لنا بما نريد فإن من حقنا ألا نسلم لها بما تريد، وفضاءات الحضارة الإسلامية استيعابية، فنحن الأعلم بأمور دنيانا وعلينا لكي نحفظ حقنا أسلمة العلوم والآداب، والتحفظ لا يمنع من التفاوض والتقارض والتفاعل، والحضارة الإسلامية ورثت حضارات كثيرة واستوعبتها، ولم تتخل عن خصوصيتها، وإن شابتها شوائب انعكس أثرها على مناهج البحث العلمي وآلياته، وعكر صفو النقاء النصي، وحمل طائفة من العلماء على التأويل البعيد، وتحميل النصوص ما لاتحتمل، مما نتج عنه تعدد الملل والنحل والطوائف والمذاهب والاتجاهات. والدخول في عوالم الآخر دون استعداد معرفي وتحصين أخلاقي وتأصيل فكري وعقدي مؤذن بفساد كبير، وذلك ما تعانيه الأمة، وما تجره النخب المتبعة لسنن اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة. 4/2 وإذ تكون«الحدود»و«الآفاق» مجال الحديث مرتبطة بالإبداع الأدبي فإن علينا أن نشير إلى تجاوزات مدانة كسرت الحدود، ولوثت الآفاق، تولى كبرها«روائيون» ينتمون إلى الحضارة الإسلامية، ومنهم من يحتل سدة الفن الروائي، وهؤلاء المتمردون يجدون من المعذرين من يدفع عنهم التهم، ويشرعن مقترفاتهم باسم الحرية. ولن نطيل القول فيما نشير إليه، فالروايات التي صدعت وحدة المشاهد مستفيضة ومتداولة، والدراسات المؤيدة والمعارضة لما تزل في جدل صاخب، ومازاد مشاهدنا إلا خبالاً. ورائدة هذه الروايات رواية«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، وخلاصتها أن الحارة كانت ملكاً«للجبلاوي» الذي اختفى ليخلفه أولاده الثلاثة:«جبل» و«رفاعة»و«قاسم» عبر مراحل زمنية لتحقيق العدل، وبعد وفاتهم جاء«عرفة» الذي يمثل«العلم» لتحقيق العدل، ويبقى الأمل معلقاً عليه لصناعة المستقبل. والرواية تحكي قصة الكون، وهي مدانة عقدياً، وإن كانت رواية رمزية تحتمل أكثر من تفسير، وقد تناولها مؤيدون ومعارضون، منهم غالي شكري، ومحمد حسن عبدالله، والعالم، ومحمد العزب، ونبيل فرج، ومحمد أحمد مخلوف، وآخرون. وتليها في السوء والتجني رواية«سلمان رشدي»«آيات شيطانية» ولما تكن كما«أولاد حارتنا» رمزية، بل كانت صريحة في مواجهتها للفكر والعقيدة الإسلامية، وقد تعقبها مجموعة من الدارسين والنقاد، من مثل«سيد حافظ أبو الفتوح» في كتابه«رسائل إلى سلمان رشدي»، و«صلاح الصاوي» في كتابه«مؤامرة الآيات الشيطانية». وتتواكب مع هذه الرواية المثيرة المشبوهة«تسليمه نسرين» في روايتها«العار» التي تدين المسلمين في عنفهم وتعديهم على «الهندوس»، وهي من الروايات التسجيلية، وقد درسها موضوعياً وفنياً الدكتور«إبراهيم عوض» تحت عنوان«افتراءات الكاتبة البنجلاديشية تسليمه نسرين»، وتصدى لها آخرون، وترجمت الرواية بقلم«عصام زكريا». وجاءت فيما بين هذه الروايات أعمال روائية موغلة في التهتك الأخلاقي والإلحاد العقدي، لكتاب مغمورين، وعبر كتابات تفتقر لأبسط مقومات الفن مثل«مسافة في عقل رجل». أما عن التهتك الأخلاقي، والانتهاكات الفنية فقد استفاض في كثير من الأعمال الروائية بحيث لا يحتاج إلى تذكير، وآخر الأعمال المثيرة«وليمة لأعشاب البحر» للروائي السوري«حيدر حيدر» والتي عصفت بالمشهد الأدبي المصري، وتصدى لها طائفة من الكتاب والدارسين من مثل«أحمد فؤاد عبدالعزيز» في كتابه«وليمة لأعشاب البحر: الإلحاد يخلع أقنعته». ولما تزل المشاهد الأدبية تدفع بالأعمال النقدية والإبداعية: الشعرية والسردية التي تتجاوز الحدود والآفاق حدود الدين واللغة والفن وآفاق الفن الدلالية، وتلك ممارسات جنائية تصدّع تلاحم الأمة، وتمس ثوابتها، وتدنس مقدساتها، وتشيع الفواحش في أوساطها، والنقد من وراء أولئك يلتمس لهم العذر تارة بدعوى الحرية وأخرى بالإحالة على الرمز والصراع الحضاري، وليست الأعمال الفكرية والاجتماعية والنفسية بأقل ضرراً من الأعمال الإبداعية، ولعلنا نذكر«نصر حامد أبو زيد» و«نوال السعداوي» وطائفة من أصحاب المشاريع الفكرية والنقدية. وليس من مصلحة الأمة أن يتفلت أدباؤها ومفكروها من ضوابط الإسلام وحدوده وآفاقه، فالحضارة الإسلامية قائمة ما قامت السماوات والأرض، ومن الخير للمنتسبين للإسلام عقيدة أو مولداً أن يعرفوا أن الغرب الذي يستزلهم إنما يريد استذلالهم والقضاء على عزتهم، ومن شايعه فهو منهم، ولكنه سيتجرع مرارة النيل من أمته، والغرب الذي يتخذ العملاء حتى إذا قضى منهم وطره، نبذهم كما تنبذ العلب الفارغة، فمن خان أمته وعقيدته فهو لما سواها أخون، ولن يستقيم أمر الأمة إلا إذا كان الأدب في خدمة الحياة والعقيدة، وإلا إذا استقام الجميع كما أمروا. والإبداع الأدبي يقوم على الإمتاع والاستمالة والإقناع، وتحقق ذلك في الفن الرفيع لفظاً ومعنى، وحين لا يحمل الأدباء والنقاد مهمة الإصلاح تفقد الأمة مصدراً هاماً من مصادر التربية الأخلاقية والذوقية، وإضاعة الحدود مؤذن بضياع الذوات، والوضع الإسلامي بلغ حداً من الترديات التي لا تحمل المزيد، ولما تزل الأمة ترقب المجددين لأمر دينهم كما بشر الصادق الأمين. |
النقد الثقافي: البديل أو الرديف «12»
د. حسن بن فهد الهويمل والاتجاهات الحديثة للنقد الأدبي مهايع مهولة، لا يستكنه مبلغها إلا متابع حصيف، حتى لقد قال «بييرمورو» وهو بصدد الحديث عن «التكوينية» و«الأسلوبية» و«الموضوعية» : «مفهوم هذه الكلمات مطاط، وغير واضح، ويدعو للتداخل، حتى في ذهن من أطلقوها أنفسهم»، فكيف بمن تلقاها دون وعي، وأجراها دون فهم، واتخذها كظل شجرة مر بها في سفر؟ وكيف يكون المعولون على هؤلاء؟ لقد أضر بمشاهد النقد من تصدرها وزعم أنه ابن بجدتها، وهو لا يلوي على شيء. وتحولات النقد واتجاهاته لا تسمح بالتلبث الطويل ولكن التحول شيء، ودعوى المشروع والموت شيء آخر، وفي ظل التحول المستمر وصف البعض مشاهد النقد بأنها «تطن طنين خلايا النحل». ولو أن صاحب المشروع إذ مال إلى جانب من جوانب القول لم يتعد على خيارات الآخرين، ولم يتجن على ثقافة الأمة، بدعوى التشعرن والتفحلن، ولم يكن ذا ادعاء عريض، لما كان في الأمر من بأس، فلقد قلنا من قبله تبعا لغيرنا ب «النقد الإسلامي» ولم ندع المبادرة، ولم نكره الناس على أن يكونوا مثلنا، ولم نتخل عن «النقد الأدبي» فضلا عن إماتته، ولم نقل بأن ميلنا مشروع له ما بعده. والمقتدرون يجلبون ويجربون، وقد يبتكرون أو يعدلون أو يضيفون إلى ما هو قائم، ولكنهم يعرفون قدر أنفسهم وأقدار مجلوبهم، فلا يدعون، ولا يميتون، ولا يغررون بالذين ينبهرون بالصيغ اللفظية والدعاوي العريضة، لخلو أذهانهم، وقصور هممهم عن المتابعة. والتواصل الاستهلاكي الخنوع بالمشاهد النقدية العربية والغربية لتمكين الذات من الحضور الهامشي البائس لا يخدم أدب الأمة، ولا يصون مثمناتها، وهي التي أمدت الآفاق بصنوف المعارف وعيون الإبداع. و«النقد الثقافي» بمفهومه الإقليمي أو المصري أو الفرنسي إن هو إلا قطرة من بحر أو بعوضة على رأس جبل، ومدعيه لن يخرق الأرض، ولن يبلغ الجبال طولا. وإشكالية الاهتياج غير الحصيف أنه يقع في واحدية الاهتمام، وحين يحس بالعزلة والانكماش يفر منها إلى النقيض ليعود إليها، ف «البنيوية» مثلا انقطعت للغة، ونفت ما سواها، و«النقد الجمالي» انقطع للفن، ونفى ما سواه، و«النقد الثقافي» رفض الاتجاهين معا، واضعا كل ثقله في الأنساق الثقافية والاجتماعية المتشكلة من الشعر بوصفه الأوحد في التأثير وهو ما لم يقل به أحد من قبل ولن يجرؤ أحد من بعد إلا صاحب المشروع الضجة. والمبهورون بما يقال مما هو مطروح في الطريق، هم الذين لا يقرؤون، ولا يتابعون، ويقفون حيث ثقافة السماع، وإفضاءات الصحف. ولو أنهم حين فوجئوا ب «النقد الثقافي» كانت خلفيتهم الثقافية شاملة وعميقة ومتابعتهم للمستجد متواصلة، لما لعب الذوّاقون بعواطفهم، وما عليهم إلا أن يعودوا إلى كتاب المشروع، وينظروا فيه بعيون واثقة، ونفوس مطمئنة، ثم ليبحثوا عن منهج سليم، أو آلة دقيقة، أو معلومة موثقة، أو مبادرة توسع المدارك، وتثري المعارف. لقد قرأت الكتاب فلم أخرج إلا بثلاث كلمات يتقلب معهما الكاتب جيئة وذهاباً «التفحلن» و«التشعرن» و«النسقية» وسنفرغ بعد الحديث عن «تهافت النظرية» لتناول «خطيئة التطبيق» معتمدين على الوثائق النصية في شقي الكتاب، وفيما زامنه من كتب أرهصت لهذا المشروع. لقد احتملنا على مضض ضجة الحداثة، وقلنا لعلها تكون تجربة فجة، يعود بعدها التائهون إلى جادة الصواب، واحتملنا بعدها جعجعة البنيوية، وأتحنا لها أكثر من فرصة، أملا في أن يستقر الذواقون، ويعيدوا النظر فيما خلفوه. وها نحن الآن في مغالطات فجة، واحتواء غبي مع «حكاية الحداثة» في محاولة لربطها بالتجديد، ليكون الخصوم تقليديين، ويكون الصراع بين الطرفين صراع مجددين ومقلدين، وهل أحد يقبل بهذا، ويصدق بأن الصراع مع الحداثة الفكرية صراع تجديد وتقليد، وأن المعارك الأدبية التي خاضها في المملكة محمد حسن عواد وحمزة شحاتة رحمهما الله كالمعركة مع الحداثيين، ولعل الهزة العنيفة التي تعرضت لها «حكاية الحداثة» من الأستاذ الدكتور سعد بن عبد العزيز الراشد «الرياض 24/11/1422ه» تحمل الحاكي على مراجعة حكايته، وإذ لم نحتمل «الحداثة» بمفهومها الفكري فإنه لم يكن باستطاعتنا أن نتحمل «النقد الثقافي» بهذا التصور المحدود والإجراء الجائر، مثلما أنه ليس مجديا تخلية المواقع من أشلاء الحداثة ب «حكاية الحداثة». والمغالطة وتلاحق البدائل في المشهد الأدبي، والتقدم به إلى سجلات التاريخ الأدبي بهذه الفوضوية وتلك المغالطات يمس سمعة المعاصرين، ويدين المرحلة التي تشملهم، ولو أن مؤرخاً للحركة الأدبية، تابع في رصده هذه التحولات غير الراشدة وغير الناضجة لما كان في وسعه إلا إدانة هذه المرحلة التي وسعت هذه الفوضى، ولست أقصد بها التعددية المذهبية، فالتنوع والتحول الواعيان بين متعددين يختلف عنه عند واحد جمع اللّه فيه كل المتناقضات. ومع ما سبق من تحفظات قد تفسر على غير ما نريد فإننا لا نرى بأسا في تشعب الاهتمامات، وتعدد الاتجاهات، وتنامي الظواهر والقضايا الإبداعية والنقدية، والمراوحة بين لغة النص وشكله وفنياته ومضامينه ومكوناته وانعكاساته، لأنها وقائع مألوفة، وغير مثيرة. والنقد وتبدل مناهجه وآلياته أمر قائم ومألوف، لا يثير الانتباه، ولا يستدعي التبني، ولا حفظ الحقوق، ولا تقليد الغرب بمقدمات كتبهم، وتوزيع الشكر بين الزوجة والأولاد والزملاء، من قراء للنص ومساعدين في تحضير المراجع ومراجعة المشروع والمساعدة في الفصيح والعامي، وعقد المنتديات من المحيط الى الخليج، لتمحيص الكتاب، والإضافة إليه، والحذف منه، وتلافي النقص المحتمل قبل أن يستوي على سوقه، مع أن صاحبه لما يزل حديث عهد بمذاهب أخرى. والكتاب برمته ومن قبله ما يسمى بالإرهاص له «المرأة واللغة» كلام ممطوط، ولغة مترهلة، ولت وعجن مملان على طريقة الذين يتحدثون ولا يقولون شيئا. وكبار الأدباء والمفكرين الذين أنتجوا المشروعات العملاقة وألفوا الكتب والمعاجم والموسوعات، لم يقل أحد منهم: إن المحافل النقدية من المحيط الى الخليج ناقشت مشاريعهم، وآزرت في مراجعتها، وهل كتاب ككتاب «النقد الثقافي» يستحق كل هذا الإيجاف؟ فأين صاحب المشروع من «عبد الرحمن بدوي» و«حسن حنفي» و«زكي نجيب محمود» ومن قبلهما «عباس محمود العقاد»؟ وأين هو من مشروع «عبد الخالق عظيمة» في أساليب القرآن و«فؤاد سزكين» في «التراث» و «شوقي ضيف» في «التاريخ الأدبي» و«ناصر الدين الألباني» في خدمة الحديث، وعشرات من العلماء والمفكرين والأدباء والنقاد ممن كتبوا عن «الفكر العربي» و«العقل العربي» و«النقد الأدبي» و«التاريخ العربي» ك «الجابري» و«العروي» و«جدعان» و«غليون» و«عز الدين إسماعيل» و«صلاح فضل» و«لؤلؤة» الذي كتب وترجم في المصطلح الحديث، و«مطلوب» صاحب معجم البلاغة والنقد القديم، بل أين هو ممن هم دون ذلك بكثير؟. لقد عهدنا من يتحدث عن أشياء: كبيرة أو صغيرة، حسية أو معنوية، كالأزياء والألعاب والمأكولات والمستعملات والعادات، لا يكون أكثر من «كاتب اجتماعي» أو «ناقد اجتماعي» أو «ناقد ثقافي» أو «ناقد واقعي» أو «ناقد أسطوري» أو «ناقد أنثربولوجي»، وكل هذه الاتجاهات قائمة ومتداولة، وليست العودة الى شيء منها بحاجة الى ذلك الحشد البشري «لتدشين» المشروع. لقد ضرب لنا صاحب المشروع «المدشن» مثلا باتخاذ «لعبة البلوت» مجالا لتطبيق «النقد الثقافي» وقد يأخذ بمثلها آخرون، بوصفها تطبيقا للنقد الاجتماعي، مع أن القول عن هذه اللعبة في زمن مدلهم بالمشاكل، مليء بالأحداث الجسام، استهلال فيه تخذيل وإحباط للرفاق. وحين نسلم بأن الحديث عن قانون اللعبة وشرطها وأنواعها خير مثال لمشروع «النقد الثقافي» وقد سلم المشايعون بذلك، فإن «فؤاد عنقاوي» هو الرائد الحقيقي ل «النقد الثقافي»، لأنه أول من ألف عن «لعبة البلوت» كتابا متداولا من عشرات السنين. والبحوث التي أعدها المتخصصون الأكاديميون في أقسام علم الاجتماع في الجامعات المحلية والعربية، وهي بحوث تناولت كل الظواهر الاجتماعية، وكل الأنساق الثقافية، وقامت على منهجية دقيقة، وعولت على معلومات صحيحة، هذه البحوث تخول أصحابها الريادة والتأسيس والانطلاق. ومصطلح «النقد الثقافي» المتفلت من أي قيد، السابح في كل مجال، المحتمل لكل تصور، المستعير لكل منهج ولكل آلة، يحال الى «اللامحدودية» و«الحد المكسور» كما يقول المصطلحيون لا يكون مصطلحا، ومجالات الثقافة أوسع من الحد، ولم يتفق المعنيون بالثقافة على تحديد لها، يحول دون التسيب وليس مسلما الإطلاق والتأطير في آن، والمشروع لا بد أن يكون مؤطرا معروفا لدى المعنيين، والاشتغال بالثقافة لا يكون محدودا، فالثقافة تحصيل وتعديل وحذق، ومن ثم فهي صفة وليست موصوفا، والمشروع يتطلب التوصيف، وصيرورة «النقد الثقافي» إقليميا الى ما يدين الثقافة من خلال أنساقها القائمة بالفعل أو المختلفة من خلال سوائدها ومسلماتها لا يمكن معها تأطير المصطلح. ومع القبول بأي تعالق منهجي أو آلي لا يتعمد نفي القائم من المناهج والآليات، ولا يدين المرجعية ونصها القطعي الدلالة والثبوت، ولا يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة، تبقى هناك أولويات ومواضعات ومسلمات وقناعات وثوابت ومكتسبات، لا يمكن الخروج عليها، أو المساس بها، ولا نسلم بأنه لا شيء فوق النقد والمساءلة، إلا للفعل البشري، ومن ثم لا بد من التفصيل، ف «الإيمان» يقتضي التسليم للنص التشريعي القطعي الدلالة والثبوت، لأنه المصدر الوحيد، فالعقل وموارده لا يملك قطعية الدلالة النصية، ولا يحسم الخلاف في أمر «الميتافيزيقا». والأنساق ودعوى الفحولة ليست من المقدس، وليست من المغيب، ولكن اختلاقها من المقترفات التي تستدعي المساءلة. والحديث عن الأنساق بوصفها المجال الأوحد للنقد الثقافي، وفق رؤية البعض، يحملنا على تصورها مفهوما على الأقل. فالنسق: هو النظام، والتنسيق التنظيم، والمناطقة يرونه: مجموع القضايا المرتبة في نظام معين بمقدماته ونتائجه، والأنساق أو النسق عند الثقافيين: جملة أفكار متآزرة ومرتبطة، يدعم بعضها بعضا،ومنها يتشكل وعي الأمة وموقفها من الأشياء، و«الذهن النسقاني» هو المتشبث بفكرة سابقة، والنسقي نسبة الى النسق، وقد يطلق النسق على المذاهب،ومن ثم أضيف النسق الى الفلاسفة فقيل «نسق أرسطو»، و«نسق ديكارت»، وقد ينبري من المريدين من يضيف نسقا أو أنساقا الى صاحب المشروع، لتحاز له الأمجاد بحذافيرها، وأوسع من تحدث عن النسق في الموسوعات «محمود زيدان» في «الموسوعة الفلسفية العربية»، ولربما يكون «النقد الثقافي» المحلي مرتبطا ب «الذهن النسقاني». على أن هناك مجموعة من النقاد والمفكرين والساسة، توسلوا بالأنساق، وتذرعوا بها للتخلل برؤيتهم وسط البنى القائمة، فهل يكون «الناقد الثقافي» متعالقا مع هذه المتعاليات، واعيا دوره في مواجهة الثقافة، أم أن القضية مجرد احتماء وراء لافتات المريدين؟ ومأزق المصطلح، وتهافت التنظير، يقعان بين الثبات الوضعي ومحدودية المصطلح أو فضاءاته. ولن نتحدث عن مأزق «المفهومية» القائم على أشده بفعل المشمول الثقافي، فالإدانة ليست في المفهوم، لأن المفهوم يفرضه مصطلح الثقافة قبل أن يتلبس بالنقد. وحين تجتاز الكلمات مدلولها اللغوي الى المدلول المصطلحي، يتطلب الأمر الرجوع الى الكلمتين بوصفهما اللغوي والمصطلحي السابق للمدلول التركيبي ومعرفة المقاصد، ولا سيما إذا كانت الكلمة تستعمل مصطلحا في أكثر من علم أو فن، فجذر «ن س ق» مصطلح: فلسفي، وأدبي، واجتماعي، ومنطقي. بل هو جذر صالح لأي إطلاق، بحيث يمكن وصفه أو إضافته لأي مفهوم قائم أو محتمل القيام. والحاذق هو الذي يسيطر علي مراوغة المصطلح، ويحول بينه وبين التعويم والتوهيم، وذلك من خلال الممارسة التطبيقية على ضوئه. و«النقد الثقافي» كما «الحداثة» لها تشكلها الظرفي والفكري، ولها فوق ذلك أزمتها المفهومية التي تضاف الى اتساع الدلالة والمقتضى بفعل النوايا المبيتة، ولكنها تظل كما هي عند المنشئ، ذات مقتضيات ومقاصد، وقد يلح المستعير في صبغها بالصبغة التي يريد، ولكن استفاضة مفهومها الجديد، وقبول المشاهد الفكرية به، يكون من المستحيل على الذواقين تحويل دلالة المصطلح أو تغيير مفهومه أو استئناف مهماته الجديدة، ذلك أن تحويل دلالة المصطلح تتطلب قدرات وظروفاً ومشاهد استثنائية، ولا أحسبنا بحاجة الى هذه التهويمات، فنحن بإزاء وثائق تطبيقية لا فكاك منها. ويكفي أن نحيل الى معطى «التشعرن» القائم على تأكيد مقولة المستشرقين «بفاعلية» الغرب و«انفعالية» الشرق، وقد ألمح الى ذلك الدكتور «تمام حسان» في مقدمته التي كتبها لمترجمه «الفكر العربي ومكانه من التاريخ» من تأليف «ديلاسي أوليري»، و«النقد الثقافي» يؤكد الانفعالية من حيث لا يحتسب، ومن ثم يخدم الطرف الآخر الذي يوغل بالنيل من الإنسان العربي. |
مع كارثة المعلمات وجهاً لوجه الحدث.. والحل..!
د. حسن بن فهد الهويمل 1 عندما ترى سبع فتيات بكل مايحملن من طهر وبراءة منتشرات على الأسرة البيضاء. يملأنها نزيفاً. ويملأن الفضاء بأصواتهن المختلطة، بين أنين وعويل وانتحاب. مبعثرات الشعور، ممزقات الدثور، شاخصات الأبصار، لا يشعرن بغاد ولا برائح، ولا يقدرن على الإدلاء بالجلابيب، والأطباء والممرضات في جيئة وذهاب، يغالبون النزيف، ويساعدون على التنفس، ويحاولون التفويق. والمتقاطرون على المستشفى يضجون بالحوقلة والحمدلة والاسترجاع. ينظرون بذهول إلى الراكضين من الأطباء والعاملين، وكأن لغة الكلام قد تعطلت، وخاطبت العيون الزائغة بعضها بلغة الهلع والخوف. كانت ساعة رهيبة، أعادت إلى الأذهان مشاهد القيامة، التي وصفها القرآن الكريم، ولم يسرف في الوصف {يّوًمّ تّرّوًنّهّا تّذًهّلٍ كٍلٍَ مٍرًضٌعّةُ عّمَّا أّرًضّعّتً وّتّضّعٍ كٍلٍَ ذّاتٌ حّمًلُ حّمًلّهّا وّتّرّى پنَّاسّ سٍكّارّى" وّمّا هٍم بٌسٍكّارّى" وّلّكٌنَّ عّذّابّ پلَّهٌ شّدٌيدِ } [الحج: 2] نعم كان الموقف عصيباً، والساعات ثقيلة مملة، يسأل مفجوع فلا يجاب. أقبلت أبحث وسط الأشلاء عن فلذة كبدي، أعرفها تماماً، ولكن الوجوه السافرة بكل وضاءتها وطهرها، والصدور العارية، والشعور المبعثرة، والسيقان المكشوفة، غشيتني بالغيرة والحياء والذهول، فلم تتجاوز نظرتي اقدامهن، وحين عرفتها، أمسكت بقدمها، أتحسس نبض الحياة، وزحفت نظرتي الواجفة صوب وجهها الشاحب وعيونها الشاخصة وشفتيها المترمدتين ولسانها المتخشب، عرفتها وعرفتني وتمتمت بكلمات خافتة: لا تحزن نحن بخير. لم أشعر بعدها بشيء. غرق الوعي في ضباب الذهول كما يغرق قرص الشمس في العين الحمئة أظلمت الدنيا أحسست أن يداً حانية جذبتني ولم أفق إلا وأنا على مقعد مخملي في مكتب المدير من جاء بي؟ من أجلسني؟ لست أدري! وأقبل شاب زائغ البصر، يتهادى بين طبيب ورجل أمن، وألقياه الى جانبي، وأحسست أنه يمسك بمتكئه، وكأن المقعد سيطير به إلى غير هدى، كان يسأل عن زوجته الحامل: أين هي؟ وكيف حالها؟ والناس من حوله صامتون، مدير المستشفى وضابط المرور، ينظرون الى الأرض كأنما يبحثان عن شيء ضيعاه، وتتلاحق كلماته الواجفة. هل هناك حالات خطرة؟ هل مات أحد؟ قال أحدهم بصوت متهدج: هناك وفيات. إذاً هي قد ماتت؟ لا إنها في حالة حرجة. أريد أن أراها. ستراها في الجنة. وصمت.. تخشب مكانه وتخشبنا معه إنها لحظات لم آلفها من قبل إنها حياة أخرى، عرفت معها كيف تتغير الأمور بلحظات، وعرفت معها ألا سور بين الحياة والموت، نفس يخرج ثم لا يعود، تفهت الحياة، وتضاءلت، ولكن عمارة الكون تزرع فينا النسيان والأمل، كي نقضي حياتنا ببناء للخراب وإنجاب للموت، وكل الذي فوق التراب تراب، لقد انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، مجرد أن سائقاً أراد أن يتجاوز ما أمامه، ففاجأته سيارة مقبلة، فارتبك، ثم حلت الكارثة، فعل بسيط، وتصرف عادي، غيرا مجرى حيوات كثيرة، فجعا أسراً كثيرة، وفرقا بين أحباب لايفكرون بالفراق، يا لها من حياة تافهة، بل هي تافهة التفاهة، البعوضة تافهة، فكيف بجناحها، إنها هكذا عند خالقها، ولكنها عند عبد الدينار والدرهم التعيس شيء كبير. كنت عائداً من صلاة الفجر. وكنت أشعر بإحساس غريب. بعد حلم مزعج. رأيت في المنام أن ساقي جريحة، وأنها تنزف دماً. وأني أبحث عمن يعالج. ورن الهاتف فأيقنت أن شيئاً سيكون. كان المسعف المحسن قد وصل ابنتي بي، وسمعتها وهي تغالب آلامها. حادث بسيط.. لا تسرع يا أبتي كلنا بخير. نحن في الطريق الى مستشفى «رياض الخبرا» وانقطع الصوت، كانت الساعة السادسة صباحاً من يوم الأحد 27/11/1422ه، سحبت نفسي كسارق أحس بحركة، وتركت الجميع يغطون في نوم عميق. وركبت الطريق. أردد الأوراد والأدعية، وأقطع الإشارة تلو الإشارة وأبحث في الذاكرة عمن سينقذ الموقف، أذكر أنني أيقظت سمو الأمير في الثالثة صباحاً، ولكنه لموقف إنساني، لا يحتمل التأخير، ولا يباشره سواه. وتحرك العقل الباطن يلوب الآفاق، لم أجد بداً من الاتصال باللواء «خالد الطيب» مدير شرطة القصيم الذي تلقف الخبر، وباشر العمل. وبعده اتصلت بالدكتور «ياسر الغامدي» مدير الشؤون الصحية، حيث بادر الاتصال بالطوارئ ليجدها على اتصال مع المستشفيات القريبة من الحادث. وفي الطريق الذي امتد كألف ميل، كان الرجلان معي عبر الجوال. وحين وصلت شعرت بأن كل الأطراف في مستوى الحدث. سيارات إسعاف سيارات أمن ومرور أطباء تتخطفهم الطرقات جوالات وهواتف، وكأن حريقاً قد شب في الردهات، قلت في نفسي الحادث مروّع ملامح الرجال لا تبشر بخير والحركة فيها ذهول وشرود لم يستقر بي مكان، ولم يهدأ لي بال، عرفت ان ابنتي على قيد الحياة، ولكن الحوادث تزرع الإصابات بحيث لا يستبينها أحد إلا حين تكشر عن أنيابها. جلست خائفاً أترقب أسرق بسمعي الكلمات الخافتة بين الأطباء والمساعدين، حالات خطرة، نزيف حاد، غيبوبة، «وفاة». واحدة فقط.. كانت أعز صديقات ابنتي ماتت «منى». الفتاة حامل، قضى عليها النزيف والتهتك والجنين الذي تمزق في الأحشاء كل ذلك لم يدع فرصة للأطباء. نهضت، وكأني أحتج على الخبر. أرفض قبوله، فتاة بريئة تستقبل مع زوجها مولودها البكر، يموتان معاً ميتة مجانية ومفاجئة. تصورت أهلها وزوجها والديها أقاربها الذين يرقبون عودتها هي وحدها بين الغرباء إنها بحاجة الى من يضع يده على جبينها الصبوح من يلقنها الشهادة من يسجيها، لا أحد، تركها الجميع، سحبت الآلات والأجهزة، وأوقفت الحقن، وعجز الطب عن التدخل السريع. زحف بها السرير المتحرك الى الثلاجة. انتهى كل شيء بالنسبة لها، وابتدأ كل شيء بالنسبة لذويها. دخلت في عالم جديد. وأقبلت على رب رحيم، وجنة عرضها السماوات والأرض. رحمك الله أيتها الفتاة الطاهرة. بارحت مكاني، تشبث بي مدير المستشفى الذي أغرق الجميع بلطفه ومواساته، ولم ألتفت إليه، عدت إلى ابنتي فلربما تكون الشهيدة الثانية. دخلت الغرفة كانت إلى جانبها «وفاء» تصرخ من الآلام، وتردد سأموت سأموت، ابنتي ابنتي، كانت هي الأخرى حاملا ترقب مع زوجها الحدث السعيد، وكان الحدث الأليم هو الأسبق. وأقبلت علي ابنتي.. كانت في حالة من الذهول ولما رأتني قالت: هل مات أحد.. قلت لا أنت الأخطر، وها أنت تتكلمين.. صاحت بي لاتبتعد أحس بغثيان أحس بغيبوبة. غشيتها صفرة، غارت نظراتها نظرت إلى الطبيب المنكب على «وفاء». طمأنني: حالتها غير حرجة. وعاد وعيها ببطء لتقول: لا لست الأخطر «منى» و «وفاء» حاملتان، وقد اختارتا مقدمة السيارة، لتلافي المطبات، كان مفروضاً أن أكون في المقدمة، ولكنني تنازلت عنها مراعاة لوضعهن. تحركت أولى المصابات الى مستشفى «البكيرية» الذي رفع درجة استعداده. وتحركت الأخرى، كانت «وفاء» هي الثانية حالتها خطيرة، ولكن لا بد من التحرك. النزيف والتهتك يتطلبان التدخل الجراحي. وأثناء التدخل لإنقاذ حياتها، توفيت، وعندها أحسست أن العقد بدأ ينفرط. وصل من «بريدة» فريق من الطوارئ، وزادت حالة التوتر، الباقيات في حالة خطيرة، ومن المتوقع أن تموت أخريات، لقد بدأ الهلع على الوجوه، وتحركت سيارات الإسعاف بمن استقرت أحوالهن. كانت الساعة الثانية عشرة ظهراً، وكانت الأوضاع في طريقها الى الاستقرار، الإصابات متفاوتة، السائق أعطى المعلومات للمحقق قبل أن يدخل في حالته الحرجة. وتجيء التوجيهات بنقل كل المصابات الى مستشفى الملك فهد التخصصي، وتحركت ابنتي، وانطلقت وراءها، كانت كل المعلومات بين يدي صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر وسمو نائبه، وكانت توجيهاتهما تؤكد على رفع درجة الاستعداد الى أعلى مستوياتها. وتفضل سموه الكريم وسمو نائبه بمهاتفتي للاطمئنان والتطمين، وتابعت حرم سموه الحالات، وتوالت المهاتفات من كبار المسؤولين والأصدقاء، يواسون ويأسون ويتوجعون، ويعرضون الخدمات، وأحسست أننا بخير، وأن إمكانياتنا في مستوى احداثنا، لم ألاحظ أي تقصير على كل المستويات في الإمارة وفي الصحة والأمن والتعليم، كان تعليم البنات يتابع، وهاتفني مدير تعليم البنات للتطمين ولما يعلم أنني في أتون الحدث، وكان مندوب الرئاسة وبعض الموجهات في المراكز القريبة داخل المستشفى، كل المدرسات اللاتي مررن بالحادث عدن من مدارسهن قبل نهاية الدوام، لم يشعر أولياء الامور الذين توافدوا فيما بعد على المستشفى بالوحدة ولا بالغرابة. وقبل العصر كان كل شيء قد انتهى، وعاد المستشفى في محافظة «رياض الخبراء» الى وضعه الطبيعي. أديت صلاة الميت على «منى» و «وفاء» وبدأت رحلة المتابعة لحالة المصابات، وانهالت كلمات المواساة والاطمئنان والتهنئة. * * * 2 وثارت التساؤلات: من المسؤول عن هذه الحوادث؟ السائقون، السيارات، الطرق، المرور، التعليم، أولياء الامور، واستعاد البعض أحداثاً مماثلة، واستحثوني على طرح القضية، فالأمر لا يحتمل التأخير، وجميل أن يبحث الرأي العام عن أسباب أي كارثة. البلاد تعيش حرباً داخلية، كل دقيقة تزهق روح، ويعوق مواطن، وتضيع ثروة. حوادث السيارات إشكالية، يجب أن تفكر فيها كل القطاعات لا على طريقة: من المسؤول؟ ولكن على طريقة: ما الحل؟. يجب أن نبحث عن الحل، أن نعرف، لماذا وكيف حصل الحادث؟ نعم هناك أطراف ضالعة في الحوادث ومسؤولة، والإشكالية ليست وقفاً على «المعلمات»، أسر تخرج ولا تعود رجال ونساء شباب وأطفال يموتون دون سابق إنذار. وحين يزعجنا ارتفاع نسبة الحوادث بالنسبة للمعلمات فإن واجبنا أن نفكر جيداً في ذلك، وألا نتخذ الرئاسة مشجباً، وفي الوقت نفسه يجب عليها ان توظف خبراتها المتميزة في عمليات النقل لمعالجة مشاكل نقل المعلمات. الرئاسة لها أساطيل نقل في كل بقاع المملكة، وتجربتها مشرفة وعملها متفوق، وإمكانياتها جيدة، ووسائل السلامة عندها متميزة. وحوادث سياراتها نادرة، وإذ لا يكون من مسؤوليتها نقل المعلمات، ولا يحق لأحد تحميلها أي مسؤولية، فإن الموضوع لا يرتبط بالمسؤولية أو عدمها، وإنما هو في أن تستخدم الرئاسة خبرتها المتميزة في تقديم المشورة لمن يهمه الأمر. لقد فكرت طويلاً في تقديم رؤية معقولة وممكنة، وكل من استعداني على المسؤولين طلبت منه رؤيته، غير أني لم أهتد الى رؤية مناسبة، ولكنني لم أيأس من حل المشكلة، لابد من التفكير، لابد من استقبال الآراء، ومساءلة كل الأطراف: المرور، الطرق، أولياء الأمور، لا شيء يستعصي على الحل، لا بد من الإرادة والإصرار، لابد من تداول الإشكالية على كل المستويات، مجلس الشورى، وزارة الداخلية، وزارة المواصلات، الرئاسة العامة لتعليم البنات.هناك سائقون متهورون، وآخرون غير أكفاء، وذوو سوابق، وهناك سيارات انتهى عمرها الافتراضي، لا تصان، ولا يعرف المعنيون إمكانيات احتمالها للطرقات الطويلة، هناك طرق ضيقة ومعوجة ومرتفعة، ومكتظة بالحركة، «طريق المدينة» مليء بالقرى والهجر المتناثرة على جانبيه، تنتاب الطرق الإبل السائبة، ويجوبُه من لا يعرفون وسائل السلامة، لا رقابة على هذا الطريق، ولا مطاردة للمسرعين والمتهورين، حوادث الطريق مروعة، لا بد من دعم المستشفيات الواقعة عليه بالإمكانيات، وبخاصة في أوقات الذروة كالحج والدراسة، وأمام هذه الشبكة من الإشكاليات لابد من تكوين فريق عمل، يستعرض المشاكل، ويقدم الحلول، لا بد بادئ ذي بدء من شبكة مراقبة، ونقاط تفتيش، ومحطات فحص للسيارات المستخدمة باستمرار على الطريق، ولا بد من تأخير دوام المدارس النائية ساعة أو أكثر، لتتمكن سيارات النقل من الوصول برفق، كانت حجة السائق أنه متأخر، والمدرسات يحاسبن حساباً عسيراً على التأخير. لا بد من دراسة إشكاليات نقل المعلمات، ووضع نظام دقيق وصارم، يطال السائق والسيارة، أولياء الأمور مسؤولون، ولكنهم قد لا يجدون بداً مما ليس منه بد، وقد لا يعرفون شيئاً عن السيارة والسائق والطريق. إن إشكالية المدارس النائية ستظل في تنامٍ مخيف، ما لم تتخذ الحلول الجذرية على مستوى الدولة، فهي لن تحل إلا من جهة السياسة العليا، إذ لابد من نقل رسمي أو إشراف مباشر، أو شركات مقتدرة، ولا بد من مكافآت للمناطق النائية، ولا بد من تكثيف الساعات في جزء من أيام الأسبوع للوافدات من بعيد، بحيث يكون هناك تناوب، ولا بد من دراسة فكرة المجمعات، وفكرة السكن الجماعي، وهناك خيارات متعددة، معقولة وغير معقولة، إن علينا ألا نثور أمام الحدث، ثم نغفو بانتظار حدث آخر.. الإشكالية منا وإلينا، ونحن فريق يشترك في المسؤولية وفي الحل، وعلينا أن نبدأ التفكير والإقدام: وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابا |
تسييس الحج: رفث وجدال وفسوق..!
د. حسن بن فهد الهويمل لو كانت الأمة الإسلامية في راهنها أمة واحدة، تظهر الدين، وتحكم الشريعة، وترد إلى الله والرسول عند الخلاف، وتملك قوة متكافئة، واقتصاداً متيناً، واستغناءً عزيزاً، لما كان من بأس في تداول قضاياها السياسية في حجها الأكبر، ورفع الاذان بالبراءة من المشركين، وان كانت بريئة منهم، أعلنت ذلك أم لم تعلنه. أما وقد قضى الله أن تكون غثاءً كغثاء السيل، كما أخبر من لا ينطق عن الهوى، تصنم الحدود، وتتغنى بالتراب، وتكفر في زمن التفكير، تستهلك ولا تنتج، وتقول ولا تفعل، ترسانتها بلاغة، وسلاحها مستورد غير رادع، فإن التسييس والحالة تلك، تعميق للخلاف، وإشاعة للفوضى، وصرف للحج عن مساره الديني إلى الرفث والفسوق والجدال ومعصية الرسول، القائل بغير ذلك واهم، يضرب في فجاج التيه، ويتمنى على الله الأماني. وحفاظاً على قدسية المشاعر وروحانية الأجواء، وحرصاً على سلامة المستضعفين من شيوخ وهنت عظامهم، وعجائز تقاصرت خطاهن، وأطفال رضع، يُطالع قطاعُ الأمن في البلاد وفودَ الحجيج بما يجب أن تكون عليه الشعائر والمشاعر، من سكينة ووقار، وخضوع وخشوع، وتلبية لله وحده وإقبال عليه، واستدبار بكل متعلقات الحياة الدنيا، ومثلما ان الدولة المختارة لتطهير بيت الله للطائفين والعاكفين والركع السجود فإنها مختارة ايضاً لتطهير الأفكار من اللوثة، وتهذيب الألسن من الجدل، وسلامة المأكولات من التلوث، وتنقية الهواء من الفساد، وحماية الأجسام من الأوبئة والأمراض والحوادث، وتخلية المسالك من العوائق الحسية والمعنوية. ولن يكون الحج نظيفاً مريحاً حتى تتضافر الجهود من كل الأطراف داخلياً وخارجياً، والحج عقد مضيء معقّد من اللحظات الحاسمة، لو انفرط وتبعثرت حباته لحلت بالحجيج كارثة لا تحتمل، فكل شيء قابل للانفجار. ولأن الزمان والمكان روحيان فإن الدولة التي شرفها الله بخدمة ضيوف الرحمن لا يود أحد من رجالها التحول بها الى حالة من التوتر والاضطراب، ولا يود مؤمن بالله أن يفوت أي فرصة على أي حاج من أن يتزود من التقوى، ولو علم الحاج كم تواجه الدولة المضيفة من متاعب وخسائر، وما تبذله من جهد جهيد لتوفير الأجواء الروحانية الملائمة لشاطرها ما تعانيه من هم ممض، وتعب مصمي، وخسائر موجعة، لا تنتهي بانتهاء الموسم، وإنما تمتد لتصل الى العام القادم، ومع ذلك فإنها لا تجد فيما تعانيه إلا المتعة والراحة، ولا ترجو من وراء ما تبذله جزاء ولا شكوراً، ولا تمن بما تفعل على أحد، ولم تمتد يدها يوما من الأيام بطلب العون، ولم تستغل مشاهد الحج للدعاية لخطابها السياسي، وكل الذي تتطلع اليه التزام الهدوء والسكينة، وان يتفرغ المقيم والوافد والمواطن لاستكمال متطلبات الحج، وقد نبه الله وفود بيته بقوله جل وعلا: «فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال» ومن لم يفرض على نفسه الحج، وظل في بلاده، فله فعل ما يحلو له من قول أو فعل، يبدي فيه موقفه من الأحداث والأناسي والدول، يؤيد فيه زعيمه، أو يلعن به شيطانه الأكبر، سواء كان ذلك الشيطان من كفرة الأناسي أم من مردة الجن، أما في الشعائر والمشاعر فليس هناك مزيد وقت، ولا فائض جهد تطال غير الشعائر، ومن أراد أن يتزود فليتزود من التقوى. والحج أيام معدودة، لكل يوم وظائفه ومتطلباته التي تستغرق الجهد والوقت معا، والفقهاء العارفون الناصحون تعقبوا نصوص التشريع، واجتهدوا في استنباط الأحكام، فحددوا الأركان والواجبات والسنن والمباحات والمحظورات، واستخدموا في سبيل الوصول الى أصح الأقوال الأصول والقواعد، ولم يكن لأحد منهم قول في السياسة وشعاراتها، ولا في الهتاف وغوغائيته. ولم تكن السياسة من المنافع التي يسعى اليها الحاج، ولا من الفضل الذي يبتغيه الوافدون، فالله رفع الجناح عمن ابتغى الفضل في البيع والابتياع والسعي في المصالح، متى أمكن ذلك، دون إضاعة شيء من واجبات الحج. والقول في السياسة في ظل التشرذم العربي والإسلامي وتعدد الأهواء والانتماءات من الرفث والفسوق والجدال. والوضع العالمي يعيش حالة من التوتر والاهتياج، والأمة العربية والإسلامية في حالة من الضعف والتفرق، والدخول في المناكفات السياسية في ظل هذه الظروف، يؤدي الى العداوة والبغضاء، سواء جاء في السر أو في العلن في التدبير أو في الصدف بين الأفراد أو الجماعات، والجدل حول قضايا السياسة بين الحجاج لا يحقق مصلحة للأمة، ولو أتيحت الفرصة للقول فيها لتعددت ، وتنوعت الهتافات، وتدخلت كل دولة في تنظيم المظاهرات لصالحها، وأحلت الهتافات محل التلبية، وسعت الدول لتوظيف المتظاهرين والهتافين وحملة الاعلام والصور وترديد الشعارات، فيما يقوم آخرون بفعل مماثل في شكله مضاد في مقاصده، ويومها تصبح المشاعر والشعائر معرضاً لصور الزعماء وضجيجاً متناحراً لتمجيدهم، وقد تنتقل المشاعر المحتدمة من الألسن الى الأيدي، فيشتبك المتظاهرون، وتسيل الدماء، ويعود بعضهم الى بلادهم في التوابيت، ثم يستقبل الهالكون بالمظاهرات والهتافات، ويتحولون الى رموز اقليمية وشهداء للواجب الوطني، الأمر الذي يعمق العداوة والبغضاء، وقد تتحول المشاعر الى ساحات لتصفية الخلافات، وأخذ الثارات، وبعد احتدام الأنفس وامتلاء الساحات واختلاط الأصوات بتمجيد المبادئ، وتقديس الزعماء، ينسى الحجاج ذكر الله، وتهمل الشعائر، وتدنس المشاعر، وقد تعجز الألسن عن ارضاء، الزعيم القابع في ترسانته، فيعطي أمراً بتحريك الأيدي مع الألسن، لتحل الفوضى، وينفلت عقد النظام، ويومها يتأذى الشيوخ والعجائز الذين قضوا حياتهم وهم يحلمون ببلوغ هذه المقدسات، حتى اذا بلغوها بشق الأنفس حيل بينهم وبين ما يشتهون. وماذا لو أن الدولة المضيفة، وهي قادرة على فعل ما تريد، جندت حجاج الداخل للهتاف، كيف تكون مشاعر المسلمين الذين هفت أنفسهم لأرض القداسات للذكر والدعاء والصلاة؟. لقد طلع رجل الأمن في البلاد، ليقول: إن الهتاف باسم أي زعيم حتى لو كان باسم خادم الحرمين الشريفين لا نرضاه، ولا نقره، ومن بدر منه شيء من ذلك حاسبناه حساباً عسيراً، وأحسب ان ذلك روح العدل والإنصاف، وعين الحكمة والعقل، والدولة التي شرفها الله بخدمة الحجيج وتطهير بيت الله تعرف ان القول في السياسة اخطر من أي تجاوز، لأنه الوباء المخل بالأمن، والمؤثر على روحانية الشعائر والمشاعر، ولو أتيحت فرصة التعبير عن المواقف السياسية في «عرفات» و«منى» وساحات «البيت العتيق»، فمن يقود الحجيج، ومن يلقن الهتافات، ومن يختار الشعارات، ومن يحدد الزعماء، ومن يعين المبادئ؟ والمتكئون على ارائكهم حين يحلو لهم القول في السياسة، فمن يواجهون زعماء اذاقوا شعوبهم الويل والثبور، أم دولاً شرعت لنفسها رسم السياسة العالمية، ومن يملك تحديد العدو والصديق، مهاتف لا يعرف الأوضاع أم ضالع في اللعب لا يملك الرحمة. ومثلما أنه من الرفث الهتاف باسم المبادئ والأحزاب والقادة فإنه من الجدل تداول الكتب والمنشورات والتسجيلات، وكل ما يشغل عن الذكر والصلاة، والدولة قد تنبهت لذلك، وحالت دون الاشتغال بأي شكل من اشكال الدعاية، وصرامتها حققت أجواء ملائمة لممارسة أركان الحج وواجباته، وحالت دون أي توتر. وليس من مصلحة العالم العربي والإسلامي الدخول في جدل السياسة في ظروف معقدة كظروف الحج، ولا سيما ان الأمة الإسلامية مختلفة الآراء، متعارضة المصالح متناقضة الانتماءات، وأوضاعها السياسية والاقتصادية في حالة لا تحتمل المزيد، وكيف تتحدد الهتافات والأمة يصرفها أفراد متعددون أو مؤسسات متنوعة، وتقوم بها أنظمة متباينة الأشكال والألوان، ولكل كيان أسلوبه السياسي وإجراؤه في الوصول الى سدة الحكم، ولكل نظام انتماؤه الأيديولوجي، وطبيعته الاجتماعية، ومستواه الاقتصادي، وكثافته السكانية، ومشاكله الخاصة. ولكل شعب إرادته التي لا يجوز منعها أو مصادرتها، وفوق كل ذلك فإن الأمة الإسلامية تختلف في أحلافها، وتتعارض في مصالحها، وتتباين في خياراتها. والشعوب الوافدة الى الحج ليس لها من الأمر شيء، وهي احوج ما تكون الى معرفة احكام الحج لتؤديه على مراد الله، وهي أحوج ما تكون الى الأجواء الملائمة لاستكمال متطلباته. وفي ظل هذه الفوضى التي تعيث بمقدرات الأمة الإسلامية، يحسن بها التعاذر، وتفادي الصدام، والالتقاء حول القضايا المشتركة، ولأنها في حالة من التناقض لا تتطلب المزيد، لا يمكن أن يتأتى لها التعبير عما تريد، وهل أحد من المتحمسين لتسييس الحج قادر على ان يهتف ببلده بمحض إرادته؟. والحج أيام معدودات، وعبادة مخصوصة، لا يبلغه القاصدون إلا بشق الأنفس، فهم من كل جنس، ومن كل لغة، ومن كل فج عميق، لا يعرف بعضهم بعضاً، لا توحدهم إلا التلبية ووحدة الشعائر والمشاعر، ربهم واحد، وقبلتهم واحدة، وقرآنهم واحد، ورسولهم واحد، ولكن لغاتهم وقياداتهم وسياساتهم وهمومهم ومشاكلهم وأحلافهم مختلفة.. فإذا اكتظت بهم الأودية والشعاب وجب ان توحدهم العقيدة والقبلة، ولن يتوفر لهم الأمن والاطمئنان في ظل حمل الهموم الاقليمية والطائفية والعرقية والسياسية. وإذا كان الحاج يتجرد من ثيابه ليندمج في الناس، ويكون الجميع سواسية فإن عليه أن يتجرد من انتماءاته الاقليمية والطائفية والسياسية ويتجه بكليته الى الواحد الأحد الذي يتفق الجميع على توحيده وتعظيمه والخضوع له، والحج له خصوصيته، وله أزماته الخانقة، ومن ثم فإنه لا يحتمل المزيد من الهتافات والشعارات والمظاهرات. والدولة التي تستنفر كل طاقاتها لتوفير الأمن والسلامة ليست بقادرة على تحمل فوضوية السياسة، والتناجي فيها منزوع الخيرية لأنه لا ينطوي على أمر بالمعروف ولا على صدقة ولا على إصلاح بين الناس. وعلى الحاج الذي تحمل الخسائر والأخطار، وبارح أهله ودياره أن يعرف واجبات الحج ومتطلباته، وان يعرف ان الدولة مسؤولة عن سلامته وأمنه وصحته واستيفائه لمتطلبات الحج التعبدية، ولن يتوفر له إلا إذا احترم الأنظمة وتقيد بالتعليمات، وحين لا يكون منه احترام ولا تقيد فإن أجهزة الدولة قادرة على ردعه وأطره على الحق، وساعتها لن تبالي بما سيناله من أذية، لأنها مسؤولة أمام الله، ومطالبة بالنص القرآني ان تطهر بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، ولم تطالب بتهيئة الأجواء للهتافات والشعارات والمظاهرات، ولست أشك ان التسامح في شيء من ذلك مضيعة للجهد والوقت والمال، وإشاعة للفوضى، وتمكين للعابثين، وواجب الحكومات الإسلامية ان تقوم بتوعية حجاجها، والتأكيد عليهم باحترام الأنظمة والتعليمات، واستيعاب خطط الحج، فالحاج حين يقدم على الحج دون معرفة، ودون توعية، يشكل عقبة في طريق الخطط والتنظيمات، والدولة التي تنشلّ حركتها، وتوجه كل امكاناتها الى المشاعر المقدسة، تود ألا يكون فشل خططها بسبب جهل الحجاج وفوضويتهم. نسأل الله للحجاج القبول والسلامة، وللدولة المضيفة التوفيق والنجاح والمثوبة. |
مبادرة الأمير.. وإشكالية (التطبيع)..!
د. حسن بن فهد الهويمل 1/4 قضية الامة العربية والإسلامية على مدى عمرها الطويل، تمر بحالات حرجة من الاشتعال والخبؤ، تحركها الكلمات، مثلما تحركها الحجارة، وقد تتحرك بفعل أزيز الطائرات، ودوي المدافع، وقصف القنابل، وفي العمليات الانتحارية، والفعل العنيف ورده الأعنف. وكلما خبت نارها المضطرمة في النفوس أو في الشموس، بعث الله من يزيدها سعيرا، او يحولها برداً وسلاماً، فإما أن يتقدم بها إلى أتون المعارك، أو يجنح بها الى مرافىء السلام. والشعب الفلسطيني الصابر المحتسب تشرئب أعناق مقهوريه كلما لاح بارق في آفاقه المكفهرة. ومع كل البوارق الخلَّب فالقضية في حال لاتسر، والوضع القائم: عربيا وإسلاميا وعالميا لا يمكن ان يتمخض عن حل يحقق الطموح والتطلع، وعلى الرغم من كل الترديات والتحفظات فإن القبول بالوضع القائم مؤذن بفساد كبير، فهو وضع على فوهة بركان يقذف حممه، وقوده الشعب الفلسطيني الذي يتجرع الخوف والجوع والذل، ويتعرض لنقص في الأنفس والأموال والثمرات، بلغ ذروته بفرض الإقامة الجبرية على رئيس الدولة. ولأن المستقبل غيب لا يعلم كنهه إلا الله، فإن انتظار ما لا يأتي مضيعة للوقت والجهد والمال، والأمة في ظل هذه الظروف العصيبة بحاجة إلى منقذ، وحين لا يكون بالإمكان تحقيق الأحلام فإن الحلول المرحلية توقف النزيف والاستنزاف، والمتابع لتاريخ القضية يقف على محطات مصيرية وفرص نادرة، فوَّت بعضها العناد، وقضى على بقيتها المكر والخداع اليهودي والتفكك واختلاف وجهات النظر العربية، وأخرى من المحطات لا تتجاوز التحرف للإنقاذ وإيقاف التدهور ، والطوية الحسنة التي كان يضمرها صاحب السمو الملكي الامير عبدالله بن عبدالعزيز، والتي جاء اكتشافها بالصدفة على يد الصحفي الأمريكي اليهودي (توماس فريد مان) وسميت تجوزاً (مبادرة) تأتي في سياق (الإنقاذ)، و(إيقاف التدهور) وزحزحة الأرجل، لتأخذ خطوة إلى الأمام أو إلى الخلف، كي تتجاوز بؤر الفعل العنيف والرد الأعنف، فالقتل والقتل المضاد، وهدم البيوت، واقتلاع الاشجار، وكسر العظام، وحرق الأرض، ليست في صالح المستضعفين. ومن يشاهد الحدث، ويعد الشهداء بأصابعه ليس كمثل من يصنعه ويموت، ولأن هاجس المنقذ لما يزل حبيس مكتبه على شكل مقترحات بانتظار القمة وانكشاف الغمة، ومن المتوقع إجهاضه بفعل (شارون) المتوحش، فقد ألحت كل الأوساط لتحويله إلى (مبادرة) ثم الصعود به إلى (مشروع) عربي مشترك. ولم يكن اختلاف الآراء حول المبادرة هو السبب في استئثارها بالصدارة. لقد تلقفتها وسائل الإعلام العربي والاسلامي والعالمي، وفرغت لها المنتديات والمطابخ السياسية، وجاءت ردود الفعل بين التفاؤل والتساؤل. والمحللون السياسيون الرسميون والمحترفون: الأحرار والمأجورون، انتابوها، وكأنها مشروع صاغته أطراف متعددة، وما هي في حقيقة الأمر إلا رؤية أو مقترحات كتبت بالحروف الأولى، وحفظت لوقتها وظرفها المناسبين، ولا أحسبها مشروعاً مكتمل الإعداد. والقنوات الرسمية في المملكة التي يقف الأمير عبدالله على فوهاتها لم تقل شيئاً حيال نهائية المبادرة، إذ هي لا تتعلق بقضايا محلية، ولما يتفق عليها مع المعنيين. ولأنها مجرد رؤية من إنسان يحمل هموماً كثيرة، فقد قوبلت بتفاؤل كبير، وتنازعتها محافل: أوروبية وروسية وأمريكية. والأهم من كل ذلك أنها تسربت نتيجة إثارة صحفية ذكية، وجاء احتفاء (النيويورك تايمز) الصادرة في 17 فبراير 2002 محركا أقوى للجادين والفضوليين، ولو قدر لها أن تتحول إلى خطاب عربي مشترك فإنها مشروطة بتحولات جذرية في السياسة العدوانية الإسرائيلية، ولا أظن إسرائيل ستقبل بتهيئة الأجواء الملائمة لها، وفق تطلعات الأمير، وفوق ذلك فإنها على مفترق طرق بالنسبة للمرجعية المتنازع عليها، بين الإسلامية واليهودية وسائر الايديولوجيات العربية. ولست أشك أن الأمير عبدالله في ظل الظروف الضاغطة والمتوترة أراد أن يخرج الجانب المتغطرس، ويضعه في الزاوية الضيقة، لأنها في الجملة استدعاء لقرارات شرعية، التزم بها العرب، وتملصت منها إسرائيل، وفتح لملفات حفيت أقدام الوفود العربية من تداولها. ومقاصدها النهائية إحياء مفردات ورؤى طرحت من قبل في أوقات مختلفة، وفي ظروف مغايرة، ولما تؤت ثمارها المرجوة، لتعاقب الحكومات الإسرائيلية المعولة على المماطلة واستغلال الوقت، ولربما كانت (انتفاضة الأقصى) وأحداث سبتمبر أجواءً ملائمة لمثلها. 2/4 ولأن القضية همّ القادة فإن المبادرة بكل ما اكتنفها من مداخلات على أعلى المستويات مسبوقة بمبادرة في ذات السياق، وبذات المفهوم، ومن ذات المؤسسة، ولكنها جاءت في ظل ظروف مغايرة، فبين قمة الرباط 1981 وقمة بيروت 2002 اجواء متباينة، فلقد كانت للملك فهد حفظه الله مبادرة معروفة، دخلت عالم المصطلحات السياسية باسم (مبادرة السلام) عام (1981) وأخذت وقتها بعداً إعلاميا، وتداولتها المحافل السياسية، ولكنها اختلطت بمبادرات متعددة، واكتنفتها رؤى متنوعة، وتحولات سياسة. وتجيء مبادرة الأمير عبدالله بذات القوة والفاعلية، معززة بمواقف سموه المحرجة للحليف الأقوى للمملكة والمساند الأقوى لإسرائيل، إلا ان الظروف الحرجة عربيا وإسلاميا وعالميا، قفزت بها من حروفها الأولى الى مشروع، وكم هو الفرق بين (المشروع) والتفكير في تقديم مقترحات لمؤتمر مرتقب. والأمير عبدالله يعرف جيداً أنه ليس اللاعب الوحيد على مسرح الأحداث المصيرية، ويعي حدود ما له وما عليه، يتمثل آداب الحوار وشروطه، ويعرف أهليات المؤتمرين، ومقدار حقهم، وضوابط تداول القضايا المشتركة، ويعرف موقعه في سلم القضية، ومن ثم لا أحسبه حفيا بهذه النقلات البعيدة، المدعومة بثقله على كل الأصعدة، وبالوقت الحرج الذي يتلهف لمثلها، ولأن مبادرته لما تزل في مرحلة جس النبض، ورصد ردود الفعل، فإنها لم تأخذ شكلها النهائي، ولم تكن ورقة رسمية لا باسم المملكة، ولا باسم الأمة العربية، ولا باسم الفلسطينيين، ذلك ما يتبادر من الملابسات، وقد تكون هناك ترتيبات غير معلنة، اسرَّها الأمير في نفسه، ولم يبدها، أتمها عبر قنوات متعددة، لا يعلمها إلا العالمون، والمبادرة بهذه الاحتفالية، وبالتوقيت الدقيق، وبوزن صاحبها ستكون مسرحا للتنبؤات وتجريب الإمكانيات، وقد يكون القول فيها وعنها من الرجم بالغيب، وحين تكون حدثاً مؤثراً فإن من حق المعنيين تداولها وفق رؤاهم غير الملزمة وغير النهائية، وسيظل المعنى في بطن الشاعر. وأكاد أجزم أن سموه حين سربها، كرد على سؤال الصحفي الأمريكي الذي حمَّل الأمة العربية مهمة التقدم برؤية تنقذ الموقف لم يكن يتوقع أنها ستكون حديث الأوساط العربية والإسلامية والعالمية، ولو أنه عرف حجم التطلع العالمي لحبرها تحبيراً، وطرحها في خطاب رسمي، وعبر قنوات الأمة العربية. ولعل من لطائف المحللين السياسيين الاشتغال ب (التوقيت) دون البنود، لأهمية الظروف القائمة، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتورط أمريكا في مواجهة الإرهاب، وتولي كبر مطاردة الأشباح، ولأن المبادرة لم تنطو على بنود ليست متداولة في مبادرات سابقة، فقد ربط المحللون المثير (بالوقت) و(بالشخصية) فأمريكا تمر بمرحلة حرجة، وأوضاعها السياسية، والاقتصادية والعسكرية، تنذر بالخطر، وهي بحاجة إلى من يفتح لها الطريق للخروج من مآزقها المتعددة والصعبة. والمبادرة ربما تفك الاختناق، وتكسر الجمود، وتوقف التدهور في سمعة القطب الوحيد. والغريب في الأمر أن تلقف الإعلام الأمريكي لها، لم يكن تلقفا استهلاكياً، إنه تلقف متلهف، متفائل، تلقف المحلل والمقوم والمحرض على عدم تفويت الفرصة. وإذا افترضنا أن المؤسسة السياسية في أمريكا غير راغبة في إطلاق المبادرة في هذه الظروف وبهذا (الحجم) فإن الإعلام الامريكي هو الآخر قد وضعها في موقف حرج، وذلك حين بادرت الصحف العملاقة التي لم تكن تأبه بالخطاب العربي فخصتها بافتتاحياتها، وهذا مؤشر اهتمام شعبي، وليس مهما أن يكون رسمياً، ذلك ان الرأي العام الأمريكي يوجه المؤسسة السياسية، حتى لقد خرج بوش معلنا ترحيبه وتفاؤله، كما بدأت الرحلات المكوكية بين (الرياض) وعواصم العالم، ويقال مثل ذلك في إسرائيل فقد جاءت إشارات متعقلة على ألسنة المعارضة والأحزاب الجانحة للسلم، وتوجهت لجان إسرائيلية وفلسطينية الى (روسيا) لدراسة المبادرة، كما جاءت تحذيرات من مراقبين إسرائيليين ركزوا علي خطورة خروج المملكة من سياسة الضغوط الكواليسية إلى الطرح المعلن. فالعمليات الفدائية التي استهدفت (دبابات) الجيش الإسرائيلي، وهزت الثقة بها، وأوقفت صفقات التسليح معها، و(تمرد ضباط الاحتياط) وخطاب (شارون) الذي قوبل بامتعاض شديد وسخرية مرة، كل ذلك هيأ الأجواء لتلقف مبادرة عربية ذات وزن ثقيل. 3/4 والأمير الذي جاءت مقترحاته كفلق الصبح دون مقدمات أو توطئات، جعل الكرة في شباك الجامعة العربية، ومؤتمر القمة، لتحويلها من صفتها الفردية إلى مشروع جماعي، يأخذ طريقه الى منظمة (الوحدة الأوروبية) التي تحس أنها بمعزل عن القضايا المصيرية، ومن ثم إلى رعاة السلام المتخاذلين أو المنحازين، وحين تتقدم الأمة العربية بالمشروع تضع كل الأطراف: أوروبياً، وأمريكياً، وإسرائيليا، في مواقف حرجة، تحملها على القبول المطلق، أو المشروط، أو طرح مشروع مقابل، يضطر معه العالم الحر بكل مستوياته: الحيادية، والانحيازية، الى الموازنة، والنظر في عدالة الخطاب، وحين يفشل المشروع فإن آثاره سلباً أو إيجاباً ستكون في صالح الأمة العربية، لأنه مشروع عادل، بل هو إنقاذي، روعيت فيه مصالح كل الأطراف، والسياسة الواقعية الهادئة تفوت الفرص على الخصم، لأنها الأقدر على الإقناع والاستمالة والتعاطف، وإسرائيل ستجد نفسها أمام دولة تحترم العهود والمواثيق، وتمتلك عراقة سياسية وتفاوضا لا تخادع فيه شعبا ولا أمة، ومبادلاتها يداً بيد، وإسرائيل لا يلائمها هذا الأسلوب. والمتتبع للمبادرة يجدها تقوم على محور رئيس، هو (الأرض) مقابل (السلام) المستتبع (للتطبيع) فيما تقوم مراوغات إسرائيل على مبدأ (الأمن) مقابل (السلام)، المستتبع (للتطويع)، والذي يجهض مع كل حكومة جديدة. ومبادرة الأمير فرصة نادرة لكل الأطراف، فإسرائيل سوف تلملم مشروعها الدموي التأديبي التطويعي الفاشل، وستحصل على مشروعية الوجود من دولة إسلامية تتصدر العالم الإسلامي، وقد ظلت الى الآن المتمنع الوحيد الذي لم يعط إسرائيل أي فرصة للاختراق، ومع أن ثمن التمنع باهظ التكاليف فإن الخطاب الإعلامي المناوىء أو المأجور يضربان عنه صفحا، وقد لا يكون لعدم مشروعية الوجود أثر في المنظور القريب، ولكن المستقبل بيد الله، والأمة العربية بنجاح هذه المبادرة توقف حرب الاستنزاف، وراعي السلام يحسن صورته المتشوهة. والذين ربطوا أهمية المبادرة ب (التوقيت) أو (بالشخصية) أو بهما معا ولم ينظروا إلى بنودها إنما يحيلون الى مواقف المملكة الرسمية التي لم تتبدل، ولن تتبدل، وهي مواقف تكتسب مشروعيتها من الإسلام، والمتابعون للكلمة الرسمية التي وجهها إلى الحجاج خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين يدركون ثبات الموقف المتمثل بدعوة العالم الى العمل من أجل مصلحة الإنسانية جمعاء، وتحمل مسؤوليته الإنسانية بإيقاف العدوان الإسرائيلي عند حده، وحمله على تطبيق ما صدر من قرارات ذات شرعية دولية بشأن القضية الفلسطينية، ليكون ذلك انطلاقة لتحقيق سلام قائم على العدل والمساواة. وخطاب القيادة في (منى) تمحور حول ثلاث قضايا: تحقيق (الوسطية)، وإقامة (العدل) ومحاربة (الإرهاب)، ومبادرة الأمير عبدالله تستمد لحمتها من المحاور الثلاثة، فهي مبادرة (وسطية)، أخذت أفضل ما في المبادرات السابقة، وهي (عادلة) لأنها تضمن السلام لكل دول المنطقة، وهي (سلمية) لأنها تدعم كل الاطراف الى وقف العنف، والمصير إلى موائد المفاوضات. 4/4 و(التطبيع) الذي جاء ضمن مبادرة الأمير عبدالله، كان متداولاً من قبل تحت مفاهيم متعددة، وهو الآن يعود في مبادرة الأمير بمفاهيم أخرى، قد تحد من انفتاحه واحتمالاته الدلالية، وتقمع الطمع الصهيوني بتحويله من (التطبيع) إلى (التطويع)، وهو في مبادرة الأمير سوف يربك المشهد السياسي: عربيا وأمريكيا وإسرائيليا، لأن الأمير هو وحده الذي يملك تحديد المفهوم، ولا أظنه يقبل بالمفهوم الإسرائيلي، ولا ببعض الممارسات العربية على ضوء مفهومه الإسرائيلي. وتجارب (التطبيع) السابقة جاءت على مستويات عدة، أساء بعضها الى المصالح العليا للأمة، كما أحدث ريبة في نفوس كثيرة، واستدعى مصطلحات أخرى (كالهرولة)، فالمؤسسات السياسية فوجئت بالمصطلح العائم، ووقع بعضها في حبائل التغرير الإسرائيلي، وكل مؤسسة لها مفهومها المتفق عليه، أو المختلف حوله، والشعوب العربية لها مفهومها المستمد من التاريخ والواقع والمرجعية، ولهذا فإن اسرائيل ستظل حائرة بين إرادة المؤسسات السياسية وإرادة الشعوب العربية، وكل الاطراف المعنية ستعيش في حيرة امام التفسير القانوني لمصطلح (التطبيع)، وإسرائيل لاشك أنها ستكون الأكثر تشبثا بالمفاهيم والمقتضيات الواسعة، وهي قد شغلت المحافل السياسية بغنوصيتها، وأفقدت كثيرا من القرارات محدودية الدلالة والمفهوم، وذلك بسبب تفسيرها المتعنت لبعض الكلمات الحمالة. و(السلام) و(التطبيع) سيأخذان مفهوما آخر في مبادرة الأمير، ولهذا جاءت إحدى مقالات الصحافة الإسرائيلية تحت عنوان (انتبهوا للسعودية) ووصفوا تحرك الأمير العلني بانتصاب طرف سياسي جديد، كما ركز المستشار الإعلامي الإسرائيلي على الحذر في دراسة المبادرة، معللا ذلك بعدم توفر التفاصيل، لعلمهم ان مفاهيم جديدة ستصاحب مبادرة الأمير، ولن تكون في صالحهم، فالإسرائيليون كانوا يتأذون من تحركات السعودية خلف الكواليس وسيكونون أشد تأذيا بعد التحرك على المسرح، والأمير عبدالله حين طرح مصطلح (التطبيع) لم يشفعه بتفسير أو تحديد، لأن سياسة حكومته تملك رؤية خاصة لهذا المصطلح، وهي رؤية تختلف كثيرا عن مفاهيم عربية وإسرائيلية، ويبقى السؤال من يملك تفسير (التطبيع) وتحديد مفاهيمه ومقتضياته ومشمولاته وحوافزه، ومن يحدد المحظور والمباح في العلاقات مع إسرائيل: اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وسياحياً وإعلامياً. ان اسرائيل لها مفهومها المرفوض للتطبيع، وللأمة العربية مفاهيم متباينة، وأحسب أن المملكة العربية السعودية سيكون لها موقف أكثر تشدداً وأدق محدودية من أي دولة عربية، فهي دولة إسلامية لا بالسمة ولكن بالامتثال والممارسة، وإذا قبلت إسرائيل مفهوم التطبيع كما تراه المملكة فإنما تقبله لإنقاذ وضعها المتدهور، والذين طاروا بالمبادرة تصوروها كما المتداول، ومعاذ الله أن تكون كما هو. والتطبيع مصطلح متعدد الدلالات والحقول، ولم يكن متداولا بمثل تداوله بعد اللقاء التاريخي في المنتجع الريفي للرئيس الامريكي (بولاية ماريلاند) (كامب ديفيد( بين «السادات» و«بيجن»، تحت رعاية الرئيس «جيمي كارتر» خلال الفترة من 1517 سبتمبر 1978م والذي تمخض عن معاهدة «كامب ديفيد» وقد تضمنت إحدى الوثيقتين كلمة (إقامة علاقات طبيعية بين مصر ودولة اسرائيل) وتحولت كلمة (طبيعية) إلى مصطلح مستقل عرف فيما بعد (بالتطبيع) واستطاع الماكر اليهودي أن يعطي الكلمة أبعاداً دينية، وسياسية، واقتصادية، وثقافية، وسياحية، أثقلت كاهل المفاوض العربي، وأدت الى تعثر المفاوضات العربية الإسرائيلية، وأثارها الشارع العربي، حتى لقد خيبت التجربة الإسرائيلية في استغلال مفاهيم الكلمات المصطلحية وفق رؤيتها آمال الشارع العربي. ودولة اسرائيل أحوج ما تكون الى (التطبيع) حسب مفهومها له، ومتى قبل المفاوض العربي بهذا المفهوم اختلت موازين القوى، وسقطت ثوابت الأمة. ومن ثم فإن اسرائيل لن تكون سعيدة بطرح كلمة (تطبيع) في مبادرة الأمير عبدالله، لأن القبول بها سيعطي المصطلح دلالات جديدة، لن تكون لصالح اسرائيل والمبادرة سواء قبلت بها إسرائيل كما يفهمها المبادر العربي أم لم تقبل بها أخذت أبعاداً عربية وعالمية ستضطر معها إسرائيل إلى القول أو الفعل، وهي في كلا الحالين أمام تحد لم تكن تحسب له أي حساب، حتى لقد ارتبكت في المواجهة مُتخذة سبيل التحدي بتوجيه الدعوة للأمير بزيارة القدس، أو هي تماكرت بغباء لا تغابي، لتحويل المبادرة من التدويل إلى الثنائية، لجر قدم المبادر ليكون مفاوضاً وهو لا يملك حق الوصاية. بقي أن تتلقف الأمة العربية عبر مؤسساتها هذه المبادرة. وتلح في تحويلها الى مشروع عربي جماعي، يضع الاطراف الاخرى امام مسؤولياتها التاريخية والإنسانية. والمتعنترون الذين لا يريدون السلام، ولا يمولون الحرب، ولا يعرفون قدر أنفسهم، يطلقون (بالوناتهم) الفارغة، ثم يلوذون بالفرار، باتجاه ملاجئهم الآمنة المستقرة في أوروبا، يبيعون ماء الوجه بثمن بخس، واضعين أقدامهم في الماء البارد فيما يتململ الشجيون على صفيح ساخن. والمؤلم أن قنوات الإثارة الفارغة لما تزل حفية بمثل هؤلاء، تسرج ظهورهم كلما سمعت هيعة، لتشكل منهم قوة اعتراضية تزيد بها فقاعة توهجها السرابي، مستغلة ضعف الذاكرة العربية، ضاربة صفحاً عن تعايش الفعل معززة جانب الانفعال. |
الحازمي بين النقد السردي والرصد النقدي «1/2»
د. حسن بن فهد الهويمل ليس من باب المجاملة ولا المبالغة ان نقول: بأن الاستاذ الدكتور منصور بن ابراهيم الحازمي «وُلد 1935م في مكة المكرمة» رائد النقد القصصي والروائي في المملكة بمفهومه العلمي المعياري المنهجي، وبهذه الريادة نال جائزة الملك فيصل العالمية للآداب، وإن سبقه نقاد انطباعيون وذوقيون وحكميون، لا يغمط لهم حق، ولا يجهل لهم أثر، وريادته تأسيسية تأصيلية منهجية ولّما يكن رائداً في الزمان، وهو إذ يملك هذا تَخَصُّصياً وتطبيقياً، فإنه لم يفرغ له كما ينبغي بل أذعن لسلطانين: سلطان الشعر: وله فيه دراسات تطبيقية وتنظيرية. وسلطان المقال الصحفي: وله عدد من المقالات التي جمعها فيما بعد في كتب مطبوعة. مع ما شغله من عمل اكاديمي وعمل في العديد من اللجان، وحضور عدد من المؤتمرات، وإسهامات أخرى على شكل استشارات، كل ذلك أبعده كثيراً عن مجال تخصصه، ولما يمكنه من التأصيل لحركة نقدية علمية مثلما فعل غيره من الدارسين المتخصصين في النقد الروائي في الوطن العربي من أمثال: «الهواري» و«النساح» و«الياقطين» و«طه وادي» و«عبدالمحسن بدر» وغيرهم. وقد جاء في سياق تفويت الفرص احجامه عن ترجمة رسالته العلمية للدكتوراه التي أعدها باللغة الإنجليزية عام 1966م في جامعة لندن «الرواية التاريخية الحديثة في العالم العربي» وهي العمل الأجود، والألصق بالنقد السردي، الذي لم يكن حاضر المشهد الأدبي في مواقع كثيرة من العالم العربي، ولأن رسالته تلك تجيء في شح الدراسات الاكاديمية للإبداعات السردية، فقد أثنى عليها الدكتور محمد يوسف نجم وتمنى لو ترجمت واستفاد منها الدارسون، ولو أنه فعل ما نصحه به «نجم» لكان قد وثق سبقه في دراسة الروايات التاريخية، قبل ان يحفل المشهد النقدي بأعمال نقدية للرواية التاريخية من مثل: «الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث» للدكتور أحمد الهواري وآخرين، و«الرواية التاريخية» لجورج لوكاش وكتب ودراسات أخرى لا أستحضرها. وفي كتابه عن محمد فريد ابو حديد اشارت للأعمال الروائية ذات الموضوع التاريخي، وبخاصة اعمال جرجي زيدان، ولأن رسالته لم تترجم بعد فيما أعلم، فقد جاء كتابه «محمد فريد ابو حديد، دراسة في أدبه الروائي» العمل الاكاديمي الوحيد، وما سوى ذلك دراسات ومحاضرات ومقالات أنجزها في فترات متباعدة وبمستويات من الجد والأناة والتخفف والتعجل، ثم جمعها وأصدرها في كتب متنوعة مثل «في البحث عن الواقع» و«مواقف نقدية» و«سالف الزمان»، ولما تكن هذه الكتب ذات موضوع واحد ولا منهج واحد، باستثناء كتابه «فن القصة في الأدب السعودي الحديث» الذي طبعه قبل عشرين عاماً، ثم أعاد طباعته قبل عامين او ثلاثة وجعله في ثلاثة فصول، جاء الفصل الأول مدخلاً عاماً، وخص الفصل الثاني بالنقد الروائي التطبيقي، والفصل الثالث بالنقد القصصي، وقدم في الملحق نماذج من القصص القصيرة لمجموعة من المبدعين القصصيين السعوديين معتبراً «احمد رضا حوحو» قاصاً سعودياً، وما هو بسعودي، وقد فعل من قبله او من بعده الدكتور «محمد الشامخ» و«حوحو» في اقامته وعمله ومشاطرته للأدب والأدباء السعوديين من قبل، مثله مثل «محمد صالح الشنطي» في الوقت الحاضر. وعمل آخر أحسبه مشروعاً تبنته جامعة الملك سعود، ولكنه لم يستمر، وهو «معجم المصادر الصحفية» وقد أنجز فيه جزءاً من صحيفة «أم القرى» يمتد قرابة عشرين عاماً، من استعادة مكة المكرمة على يد الملك عبدالعزيز عام 1343ه الى عام 1365ه ولما يشتمل على ما قبل التاريخ، ولم يمتد الى ما بعده، وهو بهذا التوقف لم يعد مجدياً للباحثين الذين يودون التقصي، ولست اعرف ما اذا كان غيره قد انيط به امر معجمه المدد الباقية. وما ادري هل انجزت ولما تطبع، او ان المشروع قد توقف، وهذا المشروع مفيد لو تلقفته مؤسسات قوية، وقد انجزت فهارس بالنسبة للشخصيات الفكرية والأدبية في مصر والشام والعراق. والحازمي الذي تخصص في الدراسة المنهجية للسرد الروائي والقصصي كانت له إلمامات نقدية بكل فنون القول، وهو في دراساته الاكاديمية يخلط بين المناهج والآليات دون الأخذ بالتكاملية في مناهج النقد، كما انه الأكثر احتفاء بالمنهج التاريخي او المدرسي او التكويني كما يسميه المحدثون، ولما لم يقم بترجمة رسالته للدكتوراه التي افاض بالثناء عليها الدكتور محمد يوسف نجم فإننا لا نستطيع القطع باستكناه منهجه وآلياته. وكتابه الذي درس فيه الأدب الروائي عند «محمد فريد ابو حديد» مؤشر على دقته المنهجية وتقصيه المرجعي، ولكنه كتاب صغير، ربما أنه أعد للترقية فكان تقيده بما يرضي المحكمين واضحاً كل الوضوح، والحازمي درس في «مصر» وأتم دراسته في «لندن» والدولتان من الحواضن الأدبية المتميزة، ثم انه باشر التدريس الاكاديمي فاستكمل ما ينقصه وطبق ما كان قد درسه. وأقوى إصداراته غير الاكاديمية كتابه «الوهم ومحاور الرؤيا» وهو الأعمق، فيما جاء آخرها «سالف الاوان» دون ذلك، وكتاب «الوهم» كما اشرت دراسات في الأدب العربي الحديث في المملكة العربية السعودية، يشتمل على ثمانية بحوث تحدث في احدها عن «اللمحات الفنية في الأدب السعودي المعاصر». وهو بحث جاء على هامش الحفل الثاني لجائزة الدولة التقديرية عام 1404ه ويعد استكمالا لما جاء في بحث سابق عليه في الاعداد متأخر عنه في الترتيب. وفي حديثه عن المعارك النقدية استهل بحثه بالحديث عمن كتب حول الأدب السعودي، حيث عد أدب الرحلات للمستشرقين وكتابات الوافدين السياسيين المقيمين والعابرين من ذلك النوع الذي اشار الى الأدب، ولم يتعمد الحديث عنه. واشار بشيء من الاهتمام الى شخصيتين بارزتين: الزركلي. والريحاني. وهما الأهم عنده، ثم افاض بالحديث الى «المازني» و«ارسلان» و«عزام» و«بنت الشاطئ» ويأتي بعد أدب الرحلات المقالات والدراسات التي تناولت الأدب السعودي. وفي مقدمة اولئك «طه حسين» في كتابه «ألوان» ومقدمة «هيكل» ل«وحي الصحراء»، وله كتاب في هذا المجال بالاشتراك عن الأدب السعودي بأقلام الدارسين العرب، جاء على شاكلة ندوة موسعة، ولي مع اثنين من زملائي كتاب مطبوع على شكل فهرسة موسعة للكتب والدراسات عن الأدب السعودي. ولما كان كتابه «الوهم..» تجميعا لإسهامات متفرقة، فقد افاض بالحديث عن بدايات الشعر في الحجاز، وعن بداية الأدب الحديث، ولم يغفل الحديث عن القضايا والأغراض والمعاني. وامتد حديثه الى «النثر» وعلاقته بالصحافة وأبرز فنونه، وبخاصة القصة والرواية عند الرواد ك«السباعي» و«الدمنهوري» و«الناصر». والدراسة تاريخية موجزة لا تتجاوز الإشارات السريعة التي لا تسد خلة، ولكنها تضيء الطريق للباحثين المبتدئين بما تذكره من شخصيات وأعمال. أما المبحث الثاني: فهو عن «حركات التجديد في الأدب السعودي الحديث» وهو كسابقه محاضرة القيت «بلندن» عام 1993م. استهل الحديث فيها بما يكتنفه من صعوبة تمتد في الزمان والمكان. وهو إذ ينطلق من عملين رائدين «للصبان» و«العواد» لا يلمح الى الفرق بينهما. ف«الصبان» ألف في التراجم، أما «العواد» فكتب في النقد والتنظير، وليست هناك اوجه شبه بين العملين، ولو أنه عرض لكتاب آخر للصبان هو «المعرض» لكان بالإمكان الجمع بينهما. والصحوة الأدبية التي يجعل منطلقها كتابا «الصبان» و«العواد» لا تسلم له، إذ هناك عوامل أخرى كنت اود لو تقصاها، وهو يقطع بأن البداية الحقيقية للأدب السعودي تأتي بعد استعادة الحجاز على يد الملك عبدالعزيز، وأحسبها بداية تسمية، وليست بداية فعل، فالأدب قائم في العهدين العثماني والهاشمي، وهو في العهد الهاشمي أكثر حماساً وقوميةً، بسبب الثورة التي استقطب لها «الحسين بن علي» ألمع الأدباء والكتاب، ممن فروا الى الحجاز من الشام. والدارس يربط الحركات التجديدية بما صدر من كتب نقدية مثيرة من مثل «خواطر مصرحة» و«المرصاد» على انه لم يشر الى الفوارق الجذرية بين هذه الأعمال. «فالمرصاد» ل«الفلالي» عمل تطبيقي انطباعي مبتدئ، لا ينطوي على أي استشراف او تمرد، كما هما في كتاب العواد «خواطر مصرحة». وان اشار الى ما ينقص «الفلالي» من أدوات أساسية للنقد، وهو قد حدد الابعاد الفنية عند الناقد القائمة على الاحكام المعنوي والفني والعاطفة والتجربة والوضوح، والدارس يراها مقاييس ضيقة، بحيث كانت سبباً في النيل من «العواد» و«القنديل». لقد حصر حركات التجديد في اربع مراحل او تيارات. سمى الأولى ب«الصحوة» ولا يقصد بها الصحوة الإسلامية. واتخذ سبيله لإبرازها في الكتب التي صدرت ان في التاريخ للأدب والأدباء او في التنظير او في التطبيق. ويمثل الصحوة ثلاث شخصيات أدبية: محمد سرور الصبان. محمد حسن عواد. إبراهيم الفلالي. وينتقل من الحركة الأولى التي استغلت نصف المحاضرة الى الحركة الثانية «الأيديولوجية» ويجعل رائدها الناقد «عبدالله عبدالجبار»، ويصفها «بالايديولوجيا» أي علم الأفكار، وهو يعول على تناولات «عبدالله عبدالجبار» للاتجاه الواقعي في الشعر السعودي المعاصر. ولا أحسب هذا التقسيم يسلم له، فالأدب السعودي لم يقع في تلك المرحلة بما يسمى ب«الأيديولوجيا» وان استعذب عبدالجبار مصطلح «الواقعية». وهو حين يقسو في نقد «الفلالي» فإنه يمارس ذات القسوة مع «عبدالله عبدالجبار» حين يعرض لكتابه «التيارات» الأمر الذي حفز الناقد «عابد خزندار» الى وصفه بالأوهام، فيرد عليه الحازمي، ليعود الخزندار الى رد غير موضوعي عبر الصحافة المحلية. وأياً ما كان الأمر فإن الحديث عن كتب النقد لا يكفي فيه الاستعراض التاريخي الوصفي، إذ لا بد من الدخول في عمق الأعمال وربطها في سياقاتها المتعددة. وقد اتخذ «الحداثة» حركة ثالثة تلي الاتجاه الايديولوجي.. واتجه بالحديث الى ثلاثة نقاد يراهم الممثلين للحداثة المحلية هم: عبدالله الغذامي. سعيد السريحي. سعد البازعي. واستعرض كتبهم الثلاثة: الخطيئة والتكفير. الكتابة خارج الأقواس. ثقافة الصحراء. مع ذكر كتب أخرى ليست فى مستوى تلك الكتب الثلاثة. والدارس لم يشأ الدقة في الحديث عن «الحداثة» ومرجعياتها وسماتها، ولم يشأ التفريق بين حداثة الفكر، وحداثة الفن، والمقبول والممنوع في شقي الحداثة. وهو في الوقت ذاته تحدث عن النقاد، ولم يتحدث عن المبدعين، كما اشار الى طائفة من خصوم الحداثة مشيراً الى «عبدالله بن ادريس» و«أحمد فرح عقيلان». وهو اذ يجعل الحركة الثالثة حداثية، فقد جعل الحركة الرابعة والخاتمة «إسلامية»، وقد استعرض جوانب من مقتضياتها وتحفظات النقاد عليها. وحديثه وصفي سريع، اذ هو اميل الى الانطباعية، ولو أنه وظف امكاناته وأعطى الجهد المناسب لكان حديثه عن الحركات الأربع أدق وأعمق واشمل، ولو خص الحداثة بالوصف الايديولوجي جاعلاً المرحلة الثانية واقعية اجتماعية في إزاء الواقعية الاشتراكية لكان أقرب الى الدقة في التحديد. |
الحازمي بين النقد السردي والرصد النقدي 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل أما حديثه عن «المعارك الأدبية» في المملكة فيأتي ثالث البحوث، ولا يختلف عن محاضرته الأولى «لمحات من أدبنا السعودي المعاصر» يستهل مقاله الذي نشره في مجلة المنهل عام 1996م بالحديث عن معركة «العواد» و«الأنصاري» حول الإبداع القصصي، وقد آخذَ العواد على سخريته وتهكمه وخلطه بين متطلبات القصة والرواية، وبين الواقعية والرمزية والفلسفية في العمل القصصي. واستطرد الى معارك «العطار» و«السباعي» ووصف هذه الحملات بالتطرف والإسعاف. وأبدى ارتياحه عند الحديث عن «المرصاد» للفلالي. وان قرر عدم اختلافه عن النمط السائد للمعارك النقدية السابقة، واصفاً دراساته بعجزها عن الرقي الى مستوى الدراسات الجادة المتأنية، إذ هي في نظره تعليقات سريعة وانطباعات عابرة تعتمد على الذوق الشخصي الممزوج بحدة الانفعال والسخرية. والدارس تناول كتاب «الفلالي» «المرصاد» حين تحدث عن «حركات التجديد في الأدب السعودي الحديث». وتذبذب حديثه بين المؤاخذة والتأييد وهو قد بسط القول عن «المرصاد» في الموضعين، ولما يكن في ذلك ناقداً بقدر اهتمامه بالوصف والرصد، وإن أوما في سياقاته الى بعض ملاحظاته كقوله مثلاً «تنقصه الأدوات الأساسية للنقد» وجعل منها وفرة النصوص المدروسة، ولما يشر الى ما هو أهم، وهو آليات النقد ومنهجيته، وان مرت مقطعة الأوصال في اشارات عابرة في المقالين «حركات..» و«معاركنا النثرية». ولا تثريب في ذلك، فالدارس يتحدث عن كل موضوع في معزل عن الآخر، وهو في النهاية مؤرخ للحركة الأدبية والنقدية في المملكة، ولربما تأخذه طبيعة الأستاذ في القاعة وهمه في التوصيل والترسيخ. وقد ألمح الناقد «عابد خزندار» لذلك من تلك الزاوية، ولكننا لا نتفق مع «خزندار» في وصف عمله بالوهم، ولا نذهب معه في مطالبته للناقد بالتقاعد عن الكتابة مثلما تقاعد عن التعليم، فمثل هذا التجني وان كان ديدن «الخزندار» يحط من قدر المشهد النقدي، ويشوه صورة الحركة النقدية في البلاد، وبامكان «الخزندار» غير المتخصص ان يحدد نقاط الضعف والاخفاق عند «الحازمي» تاركا الحكم للقارئ الذي يستعرض الوثائق، ويقرر النتائج، والنقد لا يكون بالضرورة «نصوصياً» و«ابداعياً» كما يود «الخزندار» وإنما الحاجة تحدد المنهج. والدارس يود من دراسته تلك إعطاء تصور عن الحركة الأدبية والنقدية في المملكة، وهو في هذه الرغبة يحتاج الى «المنهج المدرسي» او ما يسمى ب«النقد التكويني». ومجمل الأعمال الدراسية التي اشتمل عليها كتابه «الوهم...» من هذا النوع التاريخي الوصفي المعلوماتي. والدارس حين يكون مستعرضا عارضا في هذا الكتاب يكون ناقدا في كتب أخرى. فالكتاب يمثل زاوية من مؤلفه، ولا يحتويه، وتأطير الحازمي في واحد من كتبه او في واحدة من محاضراته جناية متعمدة. ويمتد رصده للمعارك بين البسط والإيجاز والإشارة والاستدعاء، ويختم حديثه عن المعارك الأدبية بالحديث عن «عبدالفتاح أبي مدين» وكتابه «أمواج وأثباج». وقد ساق أطرافاً من أحكام أبي مدين الجائرة على طائفة من الشعراء الذين أرخ لهم «عبدالسلام الساسي» في موسوعته وفي كتابه «شعراء الحجاز..» ولكنه استدرك قائلاً: إن آراء أبي مدين في «أمواج وأثباج» خلال الخمسينيات لا تمثله في فترة لاحقة، ولا سيما بعد تبلور الكثير من الحركات والتيارات الأدبية، وبعد اتصاله الوثيق بممثلي النقد الجديد. أما بحثه الرابع «مكة المكرمة في قصص أبنائها المبدعين» فمحاضرة ألقيت في نادي مكة الثقافي عام 1996م. ونشرت في ملحق الرياض الأدبي. وفيها تناول بعض الأعمال الإبداعية الروائية، وما هي عليه الحياة في مكة من حيث البيئة والموقع والمكان بوصف مكة مهاداً طبيعياً للفكر والأدب، وهو قد كتب أو حاضر عن شيء من ذلك. حين أنجز دراسته «البيئة المحلية في قصص أحمد السباعي». والدارس لا يود أن يفرق بين مصطلحي «القصة» و«الرواية» فهو يعنون «بالقصص» ويتناول الروايات، ثم هو يؤاخي بين المناهج بحيث يوازن تارة، ويحاول استبانة الحديث عن مكة تارة أخرى. وقد اختار خمس روايات من بين ستين رواية أشار إليها «الشنطي» في دراسته للرواية العربية: هذه الروايات هي: «أبو زامل » للسباعي 1374ه. «ثمن التضحية» للدمنهوري 1378ه. «لا ظل تحت الجبل» للعنقاوي 1399ه. «لا تقل وداعاً» لعاشور 1400ه. «سقيفة الصفا» لبوقري 1404ه. وقد ركز في دراسته على «النماذج البشرية» وقد يكون استوحى هذا العنوان من كتاب «محمد مندور» عن النماذج البشرية في الروايات العالمية، وهو من أهم الكتب وأجدرها بالقراءة، مع أنه كتاب لا يعرفه إلا الأقلون. والمحاضرة التي أعدها عن مكة في قصص أبنائها مختصرة إلى حد الاعتصار، واشاراته لا تفي بالغرض، والموضوع عميق ودقيق، ويحتاج الى جهد ووقت لم يتوفر عليها الدارس، ودراسته البعد البيئي والشخصي في روايات خمس لا يمكن أن يؤتى عليه بصفحات قليلة وجهد متخفف. ولا سيما ان الدارس متخصص في النقد الروائي. وهو بهذه الصفة يتوقع منه العمق والتركيز والغوص في البُنى التحتية للأعمال واكتشاف الأهم في هذا البعد الذي اختاره لأهميته، وهو محور العمل الإبداعي، والحديث فيه من متطلبات النقد الحديث، ويرتبط به موضوعان «أضواء على تصور القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية» و«البيئة المحلية في قصة أحمد السباعي»، وقد أعد لطرحهما في ملتقى القصة القصيرة في الكويت وفي المهرجان الوطني. والبحثان يتسمان بالعمق ومباشرة النقد النصوصي الذي تجاهله «الخزندار» في مؤاخذته للناقد، وان كان دون ما نؤمله من مثله، إذ يبدو تخففه في كثير من أعماله، وهو الأقدر لو أراد ذلك. وقد عول في بحثه عن تطور القصة القصيرة على مجموعة من الدراسات التاريخية والنقدية، وكان اتكاؤه الأقوى على أطروحة «سحمي الهاجري» عن القصة القصيرة في المملكة، والدراسة التاريخية للدكتور «محمد الشامخ»، والدراسة التاريخية الوصفية للدكتور «محمد بن صالح الشنطي»، وما كتبه كل من : «البازعي» و«سعيد السريحي» و«شاكر النابلسي». وفي حديثه عن القاص «حسين علي حسين» عول على دراسة للدكتورة «فاطمة موسى» عبر مقالين: «تطورات جديدة في القصة القصيرة العربية» و«الرحيل بين الأنموذج والواقع». وفي البحث اعتمد على المرحلية الزمنية، فهناك رواد ك«أحمد رضا حوحو» بوصفه مارس الإبداع والترجمة والنقد في المملكة، وإن كان جزائرياً بارح الديار المقدسة، واستشهد في حرب التحرير الجزائرية، ومن بعده «حمزة بوقري» و«إبراهيم الناصر» و«محمود المشهدي» ولم يسلم أحد منهم من التأثر المباشر عن طريق القراءة أو المعايشة. ف«البوقري» أقام في مصر. و«الناصر» أقام في العراق، وكل واحد منهم استفاد من إقامته التي لم تطل، واتخذ إمامه من مشاهير المبدعين القصصيين في مصر والعراق، ويبدو لي أن الإشكالية تكمن في «الموهبة» و«الموقف» و«الثقافة». والنظر الى ابداعات الآخرين لا يشكل أهمية قصوى. والثلاثة الذين اختارهم الدارس من السعوديين بالأصالة او بالإقامة وعدهم من رواد القصة القصيرة يأتي الى جانبهم آخرون ليسوا بأقل منهم، ولكن المرجعيات التي عول عليها ركزت على أولئك، فلم يكن بد من التعويل عليهم. حتى لقد أطال الحديث عن «حسين علي حسين» بشكل ملفت للنظر لا لشيء أكثر من أن المادة توفرت للدارس من النقد التطبيقي لأعماله لدى الدكتورة «فاطمة موسى». وهو في تناوله لتطور القصة قسم المراحل الى ثلاث: «الرواد» و«الشباب» و«الحداثيين» أو المتأثرين بالحداثة، ولشح المرجعيات فقد شار الى «المشري» و«محمد علوان» ولم يشر الى مبدعين قصصين لا يقلون عمن تحدث عنهم، ويبدو لي ان المرجعيات التي عول عليها لم تشر الى احد منهم من مثل: «باخشوين» و«الشقحاء» و«عبده خال» وغيرهم، وليس بضائر فيما أرى العدول عن الاستقصاء إلى الانتقاء، متى استطاع المنتقي إغناء البحث عمن صرف النظر عنه. وفي حديثه عن «السباعي» وتجلي البيئة المحلية في قصصه حاول ان يلملم نثاره من مواقع كثيرة، ولما ينج من الاستهلال التاريخي والاستطراد على حساب القضية الرئيسية، بحيث تقصى أشياء كثيرة عن السباعي، ليست في خدمة الموضوع الرئيس، وحديثه عن البيئة حمله على افتراض البعد التاريخي في الإبداع القصصي، مما حفزه على استدعاء «جرجي زيدان» و«أبي حديد» و«محفوظ» و«باكثير» للموازنة بين فنيات الاستخدام التاريخي، وكل ذلك استطراد أثقل البحث، والسباعي يقصر باعه عن أولئك في أمرين: الأمر الأول: حجم البعد التاريخي في قصصه. الأمر الثاني: حجم البعد الفني إزاء من ضرب بهم الأمثال. وما أظن هذا الاستدعاء إلا نتيجة التشجيع والاستحضار، فالدارس ملم بالرواية التاريخية، وله فيها أطروحة علمية ودراسات أخرى، وتوارد هذه الشخصيات لم تثره مقتضيات الدراسة، وإنما أثارته معارفه الوفيرة في هذا المجال، وما كان له أن يخل بمنهج البحث، وهو الأقدر على استبعاد ما يتداعى من معلومات لا يقتضيها المقام. وهو حين يطلق على بعض مراحل حياة السباعي «المرحلة الفلسفية العاطفية» يكون أكثر تزايداً، فالعاطفية الرومانسية عنده لا ترقى الى التصور الفلسفي، وكيف يستوحي السباعي بطلته كما يشير الدارس من قراءاته الرومانسية، ثم لا يكون في أدائه فيلسوفاً، وبودي لو أن الدارس فرق بين الاستغراق التخيلي، والاستغراق التأملي، فالفلسفة العاطفية ربما تكون نتيجة الاستغراق التأملي، ولا تكون نتيجة مستغرق في الخيال، والسباعي في روايته «فكرة» مستغرق في الخيال الى حد الخرافة، ولكي يؤكد رؤيته في ذلك فقد تعمد الربط بين «السباعي» و«جبران» وشتان بين الرجلين، والربط التعسفي لا يسوِّغ التصور الفلسفي عنده، ووصفه لحديث «فكرة» بطلة الرواية بأنه حديث العالم الفيلسوف الشاعر المتصوف فيه شيء كثير من المبالغة. و«السباعي» الذي خلق شخوصه، ولم يلتقطها من المجتمع، أراد أن يحقق من وراء هذا الخلق الممعن في التخيل أقصى حد من النقد لبعض الأوضاع السائدة، مما له علاقة بالمرأة في سائر وجوه الحياة عنده، وفي مجال التعليم بالذات، وهو بهذا الإغراق يمارس القناع بطريقة مغايرة لتقنع المبدع، وإنما هو تقنع القضية، والتماس البيئة المحلية في رواية مغرقة في الخيال مثل «فكرة» يلجئ الى التمحل، وقد اشار اليه الكاتب الذي لم يُكرهه أحد على تناول رواية خيالية رومانسية بآليات مغايرة. ويأتي الموضوعان الأخيران: «أدبنا السعودي في عيون الآخرين» الذي تحول فيما بعد الى كتاب. و«واقع الثقافة العربية بين الإيجابيات والسلبيات». وهما محاضرتان ألقيتا في المهرجان الوطني للثقافة والفنون عامي 1412ه و1418ه. استعرض في البحث الأول رؤية السائحين لهذا الأدب ورؤية الباحثين ورؤية المتعاطفين المجاملين، وحديثه عبر كل الرؤى استعراضي انطباعي وقليل من الجدل المخنوق بحجم البحث. وحديثه عن واقع الثقافة لا يتجاوز التمهيد أو المدخل. لقد أعطى إشارات رقمية، ولما يعط تصوراً شاملاً، فالحديث عن قضية كتلك يتطلب فضاءً واسعاً وإمكانيات استثنائية لا تنقص الحازمي، ولكنه لم يشأ استخدامها لمحدودية الوقت المتاح لمثله في لقاء عام. وكتابه «سالف الأوان» يتساوق مع كتب أخرى وهو مجموعة مقالات قصيرة جمع شتيتها وصنفها موضوعياً وفنياً، وجاءت في خمسة حقول «في الأدب السردي» و«من أدب السيرة الذاتية» و«شخصيات» و«نفحات من الشرق الأقصى» و«أصداء وتأملات» وأدرج تحت كل عنوان ما يناسبه من المقالات المقتضبة، ولم تكن تناولاته قصراً على الأدباء السعوديين، ولم تكن مقالاته عازمة بل جاءت على شكل خطرات وخواطر، ويبدو في مقالاته تلك متابعاً للمشهد الأدبي، حفياً بإبداعات الشباب، ولم يشأ إضافة أي دراسة منهجية جادة كما هو في كتابه «الوهم ومحاور الرؤيا». لقد صرفت النظر عن سائر كتبه التي تضمنت مقالاته الأدبية لأنها تناولت إبداعات شعرية ولَّما يكن الحازمي فيها معلوماتياً وإنما كان انطباعياً، وإلماحاته المعرفية فصل القول عنها في محاضراته الموسعة والممنهجة، ولم أشأ الحديث عن الحازمي الشاعر لخروج ذلك عن مجال بحثي، ويبقى الحازمي علماً من أعلام الأدب السعودي في انتظار أقلام شابة تنقب في عالمه وتوفيه حقه الممطول، وما كنا لنفي بحق أعلامنا حتى يتواروا في التراب. * تنويه: ملخص الورقة التي القيت في ندوة «الأدب السعودي خلال عقدين» وستطبع الورقة بكاملها مع كامل الأعمال.. |
النقد الثقافي: البديل أو الرديف (13)
د. حسن بن فهد الهويمل ولو أننا تعمدنا تقصي مفهوم المصطلح ومشموله ومشروعيته وعلاقاته بأنواع النقد: حاجة أو من باب الفضول فإننا قد لا نجد جوابا شافيا كافيا وبخاصة حين لايكون بين أيدينا الا ذلك القول المقتضب في الفصل الثاني من كتاب المشروع أو الحديث عن (لعب التسلية) وظاهرة (الاستراحات) التي يقضي فيها الفارغون فائض وقتهم في أطراف المدن أو الحديث الافتراضي عن المرأة واللغة. ومشروع يحكي صاحبه مراحل تشكله من المحيط إلى الخليج لا يكون بهذا الاقتضاب ولا بتلك النماذج التطبيقية. أما عن المشروعية فلا خلاف حولها متى استقام المشتغلون على الطريقة وتفادوا التخندق مع الضِّد. والقول بالنقد الثقافي أخذ بالعموم دون الخصوص، وهو قائم في كل التناولات إذ الثقافة أعم مما سواها، وعلى ضوء ذلك فإن تناولات أي ناقد ثقافي يمكن توجيهها إلى معارفها المتعارف عليها من قبل. فالحديث عن المهمشات ك (لعبة البلوت) و(الاستراحات) أقرب إلى (علم الاجتماع) منه إلى الثقافة والاشتغال في اللغة من حيث فحولتها وأنوثتها اقرب إلى علم الصرف أو إلى فقه اللغة منه إلى الثقافة والاشتغال في الأخلاقيات من خلال الحديث عن (الشحاذة) و (المدح) أقرب إلى علم الأخلاق ومقاربة الأخلاقيات المهمشة من قبل عند البنيويين حفز البعض على التوقع بأن مثل هذا الفعل محسوب (للنقد الإسلامي) وماهو منه لا في قبيل ولا دبير، فالمقاصد والأهداف تفرق بين مشتغلين في قضية واحدة ومن ثم فإن تنبؤات البعض، والقول بالمؤاخاة بين (النقد الإسلامي) و (النقد الثقافي) غير مسدد إذ ان ضرب الانساق المختلقة أو المتصورة في الوهم لا تحيل إلى الاصلاح، ولا يكون المشتغل بها أو من خلالها وفق هذه الغايات مصلحاً ولا متناجياً بالمعروف واقتياد الثقافة العربية من فضاءاتها الواسعة ومرجعياتها المتعددة وتحولاتها المعرفية وتقلباتها الدلالية وتشعباتها المذهبية وتفاعلاتها الواعية واستجاباتها المختلفة المستويات، وحشرها ظلماً وعدواناً في نفق ضيق ومصدر واحد، بل في سمة سيئة واحدة من سمات المصدر الواحد، قول لا يتفوه به إلا جاهل يجب تعليمه، أو ماكر تتحتم مواجهته، والقول بالجهل لايعني أمية الشخص، وإنما هو جهل للقضية، وهو قائم عند العلماء والعامة. والثقافة المحال إليها تتسع لأكثر مما عول عليه صاحب المشروع، وقد أشار تمام حسان إلى أنها تشتمل على مفهومين: طريقة الحياة. نتاج الفكر. والقول في التشعرن قول في (طريقة الحياة) ليس غير، وقد يحال على التفكير بوصف الأمة العربية أمة انفعالية، وهو اتهام أطلقه الماكرون، وصدقه المغفلون أو المواطئون. وما نقوله ليس تصدياً لمن يحلو لهم المصير الطوعي إلى مصطلح (النقد الثقافي) لا على المستوى المحلي، ولا على المستوى العربي، ولا على المستوى الفرنسي، وليس هو رفضاً لمن ركن إلى هذا اللون من النقد، فالناس أحرار في ذوائقهم وما يشتهون، وليس لأحد حق في إكراه الناس على ما يريد، كما أنهم أحق من غيرهم في ترتيب أولوياتهم، إذا احترمت الثوابت، وليس فيما يلمون به من مناهج وآليات اجتراح للحمى، غير ان التطبيق والغايات تبرئ أو تدين، وقد يلفت تحفظنا المتكرر نظر المتابع، ولكن تعمد لوي أعناق النصوص وتحميلنا ما لا نحتمل بوصفه أسلوباً هروبياً اضطرنا إلى مواصلة التحفظ، وتصدينا إطفاء لشرة الادعاء، وقمع للتطاول على (النقد الأدبي)، المشكل ظلاً للإبداع وإيضاح لمقاصد هذا المشروع عند أساطين الحداثة وسدنة الظلامية، ممن يتنفسون بفوضوية وحرية في الأجواء (العلمانية) خارج محيطنا الإقليمي المأطور على الحق، وهي مقاصد مشبوهة: فهم مع اختصار ثقافتنا في الأدب الخرافي الأسطوري العامي المتمثل ب (ألف ليلة وليلة) وهم مع إشاعة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ومع تدنيس المقدس، وأنسنة الإله في الإبداع الشعري والسردي: قصة ورواية. وهم مع تقديمنا بوصفنا قبيلة بدائية متوحشة مستعبدة لزعيم القبيلة في السير الذاتية، وهم مع حرية الكفر لا حرية الفكر في الطرح الفكري والنقدي، وهم مع حرية الوصول إلى المرأة لا حرية المرأة في الطرح الاجتماعي، والمشاهد المليئة بوثائق الاثبات خير شاهد، و (النقد الثقافي) جماع الإبداع والنقد الفكري والاجتماعي، ونحن لا نرضى لابنائنا ان يكونوا مغفلين أو مبهورين، وان كنا لا نتهمهم بشيء من ذلك غير أنا لا نعفيهم حين يحومون حول الحمى، أو حين يضعون أيديهم بأيدي أولئك الأساطين أو المنحرفين. وما نود قوله انه بالإمكان استشراف المستقبل، وحوار الآخر، والاستفادة منه، دون ضجيج إعلامي أجوف، ودون استخفاف بالأدباء والنقاد والمفكرين الذين لايرون مايراه التبعيون، ودون مساس بما هو قائم، إذا كان من مفردات حضارتنا، وليس معوقاً لانطلاقنا ومن الممكن اتمام التفاعل مع المستجد دون قتل للأبرياء. والذين فرغوا على مدى عمرهم الكتابي الطويل للأخذ المباشر وغير المهجن أو المدجن من الآخر، وانقطعوا لتبنِّي الجاهزيات بدعوى التجديد، ثم لم يعرفوا أنهم عيال على المتداول في المشاهد العربية التي مارست مسخ ذاتها لا بالمداهنة ولكن بالانسلاخ هؤلاء يخلطون من حيث يدرون أو لايدرون بين مفاهيم التجديد والتقليد ولمّا نزل نؤكد على ان تقمص شواخص الغير لايعدو تجديداً، ولاسيما حين يكون التقمص لسيىء القول ومنحرف الفكر وما نشاهده الآن من تبنٍّ للتجريب الغربي، لم يكن بدعاً من الأمر، فطائفة من قراء الأمة العربية لم تفق بعد من حالة الصدمة الحضارية منذ (حملة نابليون). وإذا كنا نعجب مما يحكيه (الجبرتي) في تاريخه عن مفاجآت الحملة الفرنسية وتصورها عند العامة، فإن فينا من يعيش الدهشة نفسها، ولما يستفد من كل هذه السنوات العجاف. ولو كان المبهورون على ثقة بأنفسهم وبحضارتهم وبتراثهم لما تهافتوا على المصطلحات الغربية، ظناً منهم انها مغانم، وماهي في حقيقة الأمر إلا مغارم، والتحولات المرتجلة المستجيبة لتأثيرات الاجواء البعيدة لا تعد تحولات راشدة ولا محمودة، التحول السديد من يستجيب لتطلعات الأمة ويلبي حاجاتها القائمة أو المستجدة، والمشاهد الأدبية والاجتماعية والتربوية والفكرية تفيض بالقائلين ما قال الغرب وكأنه (حذام) التي يقول فيها الشاعر: إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام ولعل الناقد (جابر عصفور) شاهد من الأهل، حين يقول عن (الإيقاع اللاهث من التغير) وهو يتحدث عن تحولات النقد: (هذه المتغيرات الحاسمة تفرض نفسها علينا لأننا نعيش في هذا الكون معيشة المستهلك الذي يستجيب إلى متغيرات لا يسهم في صنعها ويستقبل تحولاتها ليس له دور حاسم في توجيهها) (آفاق العصر ص104) ذلك قوله عمن أخذ مباشرة من الغرب، فما قولنا عمن أخذ من الآخذين: فلو كان عبدالله مولى هجوته ولكن عبدالله مولى مواليا وأصحاب المشاريع لا يكونون مستهلكين، والمستهلكون لا يسهمون في صنع الأشياء، والقول في (الحداثة) و(البنيوية) و(التحويلية) و(النقد الثقافي) استهلاك، والقائل بشيء من ذلك مستهلك، وادعاؤه بأنه صاحب مشروع ادعاء عريض، والقبول به مؤشر بدائية، وتلك (الزئبقية) كما يسميها الدكتور (عبدالرحمن السماعيل) بحق صاحب المشروع، تحولت عند البعض إلى ميزة لم تتحقق إلا لذوي القدرات الخارقة على التحول الدائم، كما هو عند (رولان بارت) (كتاب الرياض) (9798) والمحمود من الزئبقية لا يكون على إطلاقه، فصاحبه في اضطرابه كالمرآة في كف الأشل، لايحقق متابعها إلا دواراً في الرأس وغثياناً في المعدة، ومايقوله (جابر عصفور) ليس وقفاً على النقاد، ومن ثم لم يكن الأدباء وحدهم من يمارس الأخذ عن يد وصغار. فطائفة من علماء النفس والاجتماع والتربية واللغة والاقتصاد والسياسة، يأخذون بغير حساب، محققين التبعية المخلة بالوجود الكريم. وما أحد من أولئك حاول (الأسلمة) أو (العوربة) وصُنع المصطلح، واتخاذ المنهج والآلة الملائمين لحضارته المغايرة وذلك أضعف الايمان. على ان من حاول مثل ذلك وصف بالرجعية والسكونية والماضوية، وهي كلمات مجّتها الأسماع، وملّتها المشاهد واهترأت من كثرة التداول، ولما تزل ملاذ الهاربين من ملاحقة الناصحين وصراع التجديد والتقليد مضلة أوهام ومزلة أقدام ولما يفرق البعض بين الراحل بالتراث والراحل إليه والمستبطن له والمنغمس فيه ولا بين المستوعب لحضارة الآخر والمقتطع منها الجالب دون استيعاب أو هضم. ومُدَّعو التجديد لايقدرون علي التمثيل الغذائي الذي تتحقق معه مقولة: (الأسد مجموعة خراف مهضومة) ولايرضون بالمؤاخاة بين ماهو قائم وماهو قادم، ولا يقنعون بالترادف والتعايش وإنما يصرون على البدائل وفي ذلك انسحاب مرحلي لحضارة سطعت شمسها على الغرب، إنهم بهذا النفي وذلك الا ستخفاف يقترفون خطايا جلب النكرات وطرد المعارف ولهذا اتخذ البعض منهم سبيل (النقد الجنائزي) ففي كل يوم نسمع بموت ظاهرة وحياة أخرى ولن نحصي كم أميت في مشاهدنا الفكرية والأدبية والعلمية من نظريات ومعارف لتخلية الجو لمجلوب غريب يطير به البسطاء، ويتصورونه فتحاً مبيناً، ثم لايكتفون بالذهول، بل ينكصون على أعقابهم للنيل من كفاءاتهم الوطنية وتراثهم العميق، وكأني بالتاريخ يسائل أولئك: أتؤذون رجلا يرفض موت النقد وهلاك النحو، ويقبل بالجديد المفيد والمبتكر الجديد، لماذا التشنج والانفعال والإيغال في تسفيه الأحلام؟ وإشكالية المشاكل اختلاف المفاهيم حول القضايا المصيرية، وحول أسلوب التعامل معها، والتقارب العالمي والخلطة المستحكمة فرضت التخطي من الصدام إلى الوئام، ومن التدابر إلى الحوار، غير ان مفهوم الحوار تحول إلى إشكالية أخرى. فالوضعيون، والماديون، واللغويون، والتربويون، والنفسيون، والاجتماعيون، والاقتصاديون، والأدباء، والنقاد، والمؤرخون اختلفوا فيما بينهم حول طريقة (الحوار الحضاري)، وحول مشروعية المصير إلى الآخر أو أسلمة ماعنده، ومن ثم اقتتلوا حول افتراض القديم والجديد، والمقلد والمجدد، والرجعي والتقدمي، ولم يشتغلوا في التمثل السليم والاستيعاب المقتدر. والقول عن القديم بهذا النفس العدواني إدانة له، واستنهاض لنفيه. على ان البعض سعى لقطع دابر القديم بإشاعة الموت لظواهر تراثية قائمة ما أقام (عسيب) واحتدام مشاعرنا ليس خوفاً علي (النقد الأدبي) أو (النحو العربي) حين أميتا بجرة قلم، ليخلو الجو لناقد فرنسي أوعالم لغة أمريكي، وإنما هو خوف على أنفسنا وسمعتنا إذ كيف تنطلق هذه الدعاوى من أرض الجزيرة التي حوت أعظماً يعز عليها ان تلين قناة اللغة والأدب. ومُدَّعو التجديد تفانوا في الأخذ بعصم المذاهب الغربية، ولم تكن لهم مبادرات تتحسس حاجة الأمة، وتستجيب لمطالبها، والأقل من عرف كيف يحاور، فمنهم من أضاف ما أخذ إلى ما عنده محاولاً إذابة الطريف بالتليد محتفظا بملامح ذاته، والأكثرون الأخسرون استخفوا بما عند قومهم وما أحد منهم أحسن صنع شيء ثابت مفيد، والقليل القليل من طوى كشحه، وانكمش على نفسه، ولما يعرف انه الأدرى بأمور دنياه ومن ثم فوّت على نفسه فرص الحياة الكريمة، وموقفنا من الرافضين لكل جديد كموقفنا من المنسلخين من كل قديم المتهالكين على كل وافد، ولو أن المتهالكين وهم النقيض أخذوا ماهم بحاجة إليه، وأضافوه إلى ماعندهم، واتخذوا مذاهبهم وآلياتهم من حضارتهم، لكانوا أعزة عند قومهم، وعند خصومهم، وكان فعلهم مشروعاً، فالاقتراض دأب الحضارات، غير أن أولئك اسقطوا تجارب الآخرين بالشكل والصورة والمسمى مما اضطرهم إلى اغتيال الأشباه والنظائر في حضارتهم. وملاحقة الغرب في تجاربه وتحولاته المستجيبة لحاجته تفويت للفرص وحرمان للأمة من قدرات أبنائها المستنزفة في سبيل الملاحقة لكل عارض غير ممطر والمتابع للمشاهد الأدبية في الوطن العربي يدرك انها في ضجة من أجل الغير والمناكفات والعداوات كلها حول مستجد الآخر، وليس هي حول مبادرات الذات، وعلى الذين يتشابه البقر عليهم ان يصيخوا لهذا اللغط، ليعرفوا حجم النزيف المجاني حول مصطلحات لم تستقر مفاهيمها، ولم تتقن اجراءاتها. |
تحولات النقد الأدبي 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل 1/1 كلمة «نقد» مصطلح مشاكس، ذو أبعاد متعددة: تاريخية، وفنية ووظيفية، ومنهجية، وآلية، ومجالية. لا يستقر شيء منها على قرار، و«الثبات» و«التحول» حين يفهمان على غير ما يجب أن يكونا عليه، تختفي القضايا، وتتضخم الإشكاليات. ولما كان التحول المطلق المعول على الانقطاع المعرفي والتفجير المتواصل لكل ماهو متداول هما الشغل الشاغل عند رموز الحداثة الفكرية المنحرفة، أصبح من الضروري معرفة المرجعية لتحديد المرجعية والمتعلق، ذلك أن الحضارة الإسلامية ذات مرجعية ربانية ملزمة، لها ثوابتها ومتغيراتها. وكل حضارة لا يعرف مفكروها ثوابتها، ولا يحترمون خصوصيتها حضارة مستباحة. والنقد مع الأزمنة والأمكنة واللغات والحضارات ذو خصوصيات مختلفة، وأحكام وضوابط لمبدأ التحول، لما يضع لها مستهلكو فيوض الحضارات المهيمنة الاعتبار المناسب. والنقد الذي نتوقع منه حسم الخلاف حول النص والقدرة على التوسط بين المبدع والمتلقي لم يحسم الخلاف حول ذاته، وارتداده إلى الداخل عطَّل فعاليته. وإذ يكون الفعل النقدي مراوحاً بين: التنظير. والتطبيق. فإنه بارتداده يقع في احتباس ذاتي، يفوِّت على المشهد مباشرة الفعل الوظيفي، والذين يحصرونه في ضيق الرؤى الذاتية، ممارسين نفي الرؤى الأخرى يضيقون على أنفسهم وعلى الآخرين، وذلك مؤشر ضعف في الملكة التصورية للظواهر والقضايا والمذاهب النقدية. وضيق العطن والاستقطاب حول الذات تولدت منهما دعوى «الوفيات» للظواهر والقضايا، وظهر ما يعرف ب «النقد الجنائزي». والمتابع الحصيف للتحولات يتعامل بحذر شديد، ولا يتعمد إيقاف التدفق ليكون ك «المصور» الذي يحبس بالتقاط الصورة جزءاً من اللحظة، ثم يتوقف عندها. والمشاهد النقدية يمر بها فئام من القراء، متصورين القدرة على التحبيس كما المصور، يقع في مثل هذا المحذور المتعصبون والمتسطحون، فالموت لا يكون إلا للجانب المادي المحسوس، أما سائر الظواهر فتقع تحت طائلة التمدد والانكماش والغياب والحضور. وحين نرى مشروعية المذهبية، نقف بها دون التعصب، لنتيح الفرصة لقبول التحول المستمر، وإمكانية تبادل المواقع. وكلمة «نقد» في الجاهلية والإسلام مفهوم عام، ومعهود ذهني، ولم تكن مصطلحاً معرفياً، نقل عن «الشعبي» في القرن الأول قوله: «ما شهدت مثلهم أشد تناقداً»، وفي القرن الثاني أخذت الكلمة بعداً أقرب إلى المصطلحية يقول «المفضل الضبي»: «ولا يتميز الصحيح منها أي الأشعار إلا عند عالم ناقد». واتخذت الكلمة أوفى مدلولها المصطلحي، عند «قدامة بن جعفر» حين اتخذها عنواناً لكتابين: «نقد الشعر» و«نقد النثر». ذلك فيما يتعلق ببروز الكلمة وتطورها الدلالي، وتحولها المصطلحي، أما من حيث التطبيق والنقد، فهو قائم منذ الجاهلية الأولى، ومقاصده: إما توصيلية، أو تفسيرية، أو تقويمية. وفي العصر الحديث تحول النقد إلى معادل إبداعي، وعُرِّف بأنه: فكرة على فكرة، أو أنه: ضمير الضمير، وعند بارت «قول على قول»، والراصدون لتحولاته تعقبوه: مفهوماً ووظيفةً ومجالاً. 2/1 في صدر الإسلام تحول النقد إلى القيم الأخلاقية، وكان ابن الخطاب أكثر الخلفاء اهتماماً بالشعر، وسعياً وراء استقامة الشعراء. وفي العصر الأموي تجاذب النقادَ والشعراءَ همُّ «الأسواق» و«القصور» و«المنتديات»، فغلَّب نقاد القصور ومجالس الخلفاء والأمراء شعرَ المديح. فيما جنح نقاد الأسواق الأدبية إلى الفخر والحماسة والهجاء المقذع. واستقر ذوو المجالس والمنتديات الخاصة على الغزل والنسيب. وفي هذين العصرين تبدى «التحول» من خلال محورين رئيسين تمثلا في «المفاضلات» و«السرقات» وقد استدعيا التقصي اللغوي والمعنوي والقولَ في الطبع والصنعة والبواعث، ومهاد النقد الأهم إضافة إلى المجالس والمنتديات أسواق العرب ك «سوق عكاظ» في الجاهلية والإسلام، و«المربد» في أواخر القرن الأول، وهي كثيرة استوفاها «الأعشى» في «صبحه»، وخصت فيما بعد بكتاب. ولما جاء الإسلام أخذ «المسجد» دوره في مطارحة الشعر نقده، حتى لقد وضع «لحسان بن ثابت» منبر للإنشاد. وعند الأمويين جاءت «القصور» رافداً أقوى وأشمل، وفيها برز النقاد اللغويون والنحويون وبدت الخصومة بين الشعراء والنحاة، وطرحت قضايا جديدة كالمبالغات والضرورات والوحشيات والمفضليات، ومن مجالس القصور نسلت المجالس والمنتديات، كمجلس «ابن عتيق» و«سكينة بنت الحسين» و«عائشة بنت طلحة». والراصد لتلك المجالس يتقرى تحولات كثيرة، لم تكن معهودة من قبل، وهي تحولات استدعتها المتغيرات السياسية والاجتماعية والدينية. والرصد المعرفي الحيادي للنقد يرى أنه في بدايته اتسم بالأحكام العامة والجزئية، واعتمد على الذائقة والانطباع، وركز على القيم الدلالية، وفي صدر الإسلام تجلت المواقف من الفن عامة، وهي مواقف تتراوح بين الحل والحرمة والإباحة المنضبطة. كانت البدايات الأولى على يد «أبي عمرو بن العلاء ت 154» الذي قال فيه الفرزدق: «ما زلت أغلق أبواباً وأفتحها.. حتى أتيت أبا عمرو بن عمار». وجاءت أكثر وعياً عند «الأصمعي» و«ابن عتيق»، ولما يبدأ التأصيل النقدي إلا عند «الجمحي» و«بشر بن المعتمر» و«الجاحظ» و«ابن قتيبة» و«ابن المعتز»، ومن التأصيل إلى المنهجية عند «الآمدي» و«الجرجاني»، وفيما بين هؤلاء وأولئك مئات النقاد والعلماء والرواة والموسوعيين والمؤرخين والمترجمين، وآلاف الكتب المشتملة على الدراسة والنقد والشرح والمختارات والرواية والتراجم، وهي في مجملها مرجعيات نقدية ومصادر لدراسة الأدب، والمتعقبون للحركة النقدية تناولوها من خلال ظواهر النقد الإجرائية، تناولوها: قضايا، وشخصيات، وكتب، وتحولات تاريخية. والمثيرون منهم من قعروا رؤيتهم في تأثير «النقد اليوناني»، وفي مباحث الإعجاز البياني للنص القرآني وانعكاسه على الحركة النقدية وفي الموقف من شعر المحدثين. 3/1 لقد كانت حواضر النقد في بداياته الأولى ثلاثاً: الحجاز، والعراق، والشام. وأزمنته الأولى ثلاثة: الجاهلي، والإسلامي، والأموي. ولاشك أن لكل مكان وزمان تحولاته الساذجة أو الواعية، تجلت فعالية النقد الواعي في محورين رئيسين: الموازنة بين الشعراء. والسرقات الشعرية. ولكل محور مقاييسه العلمية، ففي «الموازنة» نظر النقد إلى مرونة الموهبة واقتدارها المتكافئ في الأغراض، وفي النسيج الشعري المتناسق، وفي مغالبة الأنموذج الشعري، كما نظر إلى مقياس السيرورة وعمق المعاني، ولما يطلق النقاد الموازنة، بل قيدوها بعدد من الوحدات: الزمانية والموضوعية والنوعية، وأقام النقد موازينه على الابتكار والصدق والأخلاق والتلازم، ولعبت الثنائيات دوراً هاماً: ك«الغموض والوضوح»، و«الصدق والكذب» و«القصر والطول». وألمح النقد إلى قضايا فنية تتعلق بالوزن والقافية والصورة، وقضايا نحوية ولغوية، ولما تكن نظرة النقد إلى قضية «السرقات» بأقل من نظرته إلى «الموازنات». جاء بعض هذا في القرن الأول ومستهل القرن الثاني. ومستجدات قضايا الموازنات والسرقات تعد تحولات عربية خالصة العروبة، إذ لم يكن الإسلام قد انتشر، ولما يتمكن الأدباء والنقاد من استيعاب ما عند الحضارات التي امتدت إليها الفتوحات الإسلامية، وهي تحولات تنبئ عن استعداد ذاتي للإنتاج والتفاعل والاستيعاب والندية، ولا يستبين الراصد مدى القدرة المتميزة عند الناقد العربي إلا إذا نظر إلى أبعاد النقد في الجاهلية ومنجزاته في القرن الأول ومستهل القرن الثاني، وهي تحولات واعية، أخذت بأطراف الفن ومكوناته، وكل فترة زمنية كرست متطلباتها الذوقية والموضوعية، ولم تسبق الطاقة الاستيعابية، ولا القدرة الإبداعية، ولم تكن عند النقاد خلاف ما هي عليه عند الشعراء، فالشعر الحقيقي هو المستجيب لحاجة الأمة. 4/1 استهل القرن الثالث بصحيفة «بشر بن المعتمر ت 210» التي تحدث فيها عن تصوره للأدب واستعداد الأديب وأحوال المخاطبة والأصول التي تجب مراعاتها، والصحيفة أميل إلى البلاغة منها إلى النقد. يليه «الأصمعي ت 216» الذي جنح إلى النقد اللغوي، وإذا كان الأصمعي قد طرح مصطلح «الفحولة» فإن ابن سلام طرح مصطلح «الطبقات» فيما طرح «الجاحظ 255» مصطلح «اللفظ والمعنى» ويأتي «ابن قتيبة ت 276» رافضاً المقياس الزمني المسيطر، ملخصاً رؤى النقاد من قبله، مرتبطاً بالنص من حيث حدوثه، لا من حيث انتماؤه: زماناً أو مكاناً أو ذاتاً، ومنشأ الخلاف ما استجد من شعر المحدثين ك«أبي نواس» و«بشار»، وفي هذا القرن بدأ الطرح المصطلحي الذي واكب القرون اللاحقة. 5/1 وفي القرن الرابع بدت التحولات الواعية في كتاب «الزينة» للرازي، و«التشبيهات» لابن أبي عون و«البرهان» لابن وهب و«الموازنة» للآمدي و«المصون» لأبي أحمد العسكري و«الصناعتين» لأبي هلال العسكري و«الوساطة» للجرجاني و«نقد الشعر» لقدامة، فيما اكتشف أن «نقد النثر» مستل من «البرهان» لابن وهب و«عيار الشعر» لابن طباطبا و«الموشح» للمرزباني و«الأشباه والنظائر» للخالديين. إضافة إلى كتب الإعجاز البياني للقرآن عند الأشاعرة والمعتزلة، وترجمات كتاب الشعر لأرسطو، والموسوعات كالأغاني، وكتب اللغة والفلسفة، وبخاصة إخوان الصفاء، وكتب النحو والصرف، وشراح الدواوين على اختلاف اهتماماتهم، وكتب السرقات والمثالب. وهذه الدراسات والموسوعات أسست لحركة نقدية واعية، ف«الجرجاني» في وساطته تقمص شخصية القاضي لفض المنازعات الفنية والدلالية، و«الخالديان» جليا نظرية التناص تطبيقاً، و«قدامة» مثل الرؤية المقارنة والتأثر الواعي، وهي مرتبطة بتحولات الإبداع الشعري، كما هو عند «أبي تمام» الذي نشأت في ظل تحولاته مذاهب نقدية، حتى لقد فجر شعره مواهب النقاد، ولا يقل «البحتري» عنه في استثارتهم. 6/1 أما في القرن الخامس فقد أسهمت تحولات الشعر وتحيزات النقاد في تفجير أزمات حادة في النقد، تولى كبر ذلك شعر «المتنبي» ولربما كان للفجوة بين تحولات الذائقة الشعبية وثبات المعيارية النقدية سبب أكبر في تأزيم حركة النقد، والشعراء الذين وعوا التحولات العامة، واستجابوا لرغباتها، حفزوا الحركة النقدية على ممارسة العنف النقدي، فظهرت كتب السرقات والمساوئ والرسائل الموضحة، ولقد وجد النقاد أنفسهم بين تحولات الذوائق وثبات المعايير، الأمر الذي حدا بالأكثرين منهم إلى سرعة التغيير، واحتدمت المعارك النقدية حول «القديم والجديد» وكان «المتنبي» محور التنازع، والمعارك بلا شك امتداد لما دار من جدل حول «أبي تمام» و«البحتري» ومن قبلهما «أبي نواس» و«بشار بن برد» ولكنها جاءت مع المتنبي بشكل لم يعهد له نظير، لا في الماضي ولا في الحاضر، ولمَّا يزل المتنبي مجالاً خصباً للتحولات النقدية. وجاء شعره أكثر شيء جدلاً، إذ لم يكن المتجادلون توصيليين وحسب بقدر ما كانوا مؤصلين لتحولات المتنبي اللفظية والمعنوية. والتمحور حول شعر المتنبي أفرز ثلاث فئات من النقاد: أنصاراً وخصوماً وموازنين بينهما، وظهرت قضية نقدية، تمثلت في الموقف الإسلامي من التجاوزات الدلالية، وتحرر في أثنائها مصطلح «النقد الأخلاقي». فالقاضي الجرجاني يرى «أن الديانة ليست عياراً على الشعراء» فيما يرى «الثعالبي» أن «للإسلام حقه» ولم يتقيد بهذا المفهوم في الاختيار «لليتيمة»، وفيما مضى تداول النقاد مقولة: «الشعر بمعزل عن الدين»، وقد تأزمت بسبب فهم المقولة على غير مراد القائل. وظاهرة أخرى تناولها النقاد، وهي «البداوة» و«التحضر» في الأداء والشرح، وعند أصحاب المختارات، وأحسبها وليدة التخوف من شعر المحدثين. و«شعر المتنبي» و«قضية الإعجاز» من أهم مضامير اللزز النقدي، لقد وضع شعر المتنبي، ومن قبله أبو تمام والبحتري حداً فاصلاً لمفهوم التحول، ولكن كل صيد النقد وعته الخصومة حول شعر المتنبي، والمتعقبون لها لما يتأملوا الرؤى والتصورات، ولم يربطوا ما وصلوا إليه بما هو قائم من قضايا النقد، ولما يزل المتنبي يتمتع بفيوض من القضايا والظواهر التي لو أخذت من أطرافها بوعي لأعادت المعركة جذعة، وربطت النقد بالجذور النقدية العربية التي استدبرها النقاد المعاصرون، تحت وطأة الطوارئ غير العربية. ولن يفوتنا ونحن بصدد تحولات النقد في القرن الخامس اكتمال نظرية «عمود الشعر» على يد المرزوقي، ولا شك أنه محصلة واعية لمنجزات من سبقه من النقاد، كابن قتيبة، وابن طباطبا، وقدامة، والجرجاني والآمدي، وابن فارس، ودقة منهجه مكنته من الاستفادة الحذرة، حيث حصر عمودية الشعر «بالشرف، والجزالة، والإصابة، والمقاربة، والالتحام، والمناسبة، والمشاكلة» وفوق ذلك أشار إلى معايير العمودية. ولن نغفل تحولات أخرى لعل من أهمها «فلسفة النقد» على يد «ابن سيناء». ففي مقدمة «فن الشعر» وفي «الشفاء» تنظير نقدي أقرب إلى المنطق. فمن تحرير الفن «بعمودية الشعر» عند المرزوقي إلى «فلسفة النقد» عند ابن سينا، ومنهما إلى الذروة عند «الجرجاني» ونظرية «النظم» ثم إلى خلط الأوراق عند «القرطاجني» بدرت تحولات جذرية، غيرت مفاهيم النقد، وإذا كان «البنائيون» اهتموا بالعلامة والعلاقة فإن الجرجاني سبق أولئك، حين نفى أن يكون «للفظة» في ذاتها وانفرادها من تفاضل، والحكم عليها حين تدخل في السياق. ومع أنني أعي كم هو الفرق بين «البنيوية» و«نظرية النظم» إلا أن رؤية «الجرجاني» تحول في الحركة النقدية، لم يُلتفت إليها بالقدر المناسب لها، كمبادرة عبقرية، أقامت وزناً للعلاقات والأنساق، وهي التي تداولها النصوصيون والبنيويون والألسنيون، ومع التوافق الإجرائي فإن هناك تفاوتاً في الجذور والمآلات، فالبنيوية عبر رحلتها من حقلها الفلسفي بوصفه الأصل إلى الحقل اللغوي، ثم إلى سائر الحقول النقدية والاجتماعية منيت بتحولات في المفهومية والمقتضى، ليس لنظرية النظم شيء منها. ولا شك أن القرن الخامس من أخصب القرون وأحفلها بالتحولات: اللغوية، والدلالية، والفنية، والشكلية، والنفسية. والناقد الحداثي «جابر عصفور» تناول التحولات في النقد التراثي من خلال ثلاثة أعلام «ابن طباطبا» و«قدامة بن جعفر» و«حازم القرطاجني» حيث تشكل المفهوم الشعري عند ابن طباطبا، وتحدد علم الشعر عند قدامة، وتكامل المفهوم عند القرطاجني، وتمثل هذه المواقف تحولات واعية وجذرية، وقراءة عصفور للتراث عبر ثلاثة كتب قراءة واعية وعميقة، وليست بأوعى من قراءة «محمد مندور». وعصفور في مجمل استعراضه للتحولات النقدية التراثية يرى الترابط الوثيق بين مجمل النصوص النقدية «فالتراث النقدي عنده لا يمكن أن نقرأه في عزلة عن غيره من النصوص» لأن التراث «وحدة سياقية واحدة» داخل وحدة سياقية أوسع هي التراث. وفيما حررت قراءة «مندور» منهجية النقد العربي، اتجهت قراءة «عصفور» صوب الوعي النقدي التراثي لخصوصية الفن، وقد تناولت من قبل «ملامح الموروث في الظواهر النقدية المعاصرة» في مجال اللغة وفي مصطلح، «الشكل»، وفي مجال «الصورة الشعرية»، وفي مجال «التفسير النفسي» ووقفت على مبادرات تراثية، لا يستهان بها، وإن عدلت فيما بعد عن بعض ما قررت من نتائج. 7/1 وبعد القرن الخامس دخلت أقاليم جديدة في حركة التحولات النقدية تمثلت في «القيروان» و«الأندلس» بعد أن كانت متألقة «في الشام» و«العراق» و«مصر» وليس من شك أن الحركة النقدية في الأقاليم امتداد للحركة النقدية الأم، وإن كانت هناك تحولات عند «ابن خفاجة ت 533» في مقدمة ديوانه، وعند «ابن بسام ت 542» في الذخيرة، وعند «الكلاعي»، وإذا كان «ابن سينا» و«الفارابي» قد توليا طرفاً من التحول الفلسفي للنقد في المشرق العربي، فإن «ابن رشد ت 595» قد عرف الأندلسيين بكتاب «الشعر» لأرسطو، وأعطى النقد بعداً فلسفياً لا أحسبه يماثل ما توصل إليه المشارقة، وقد لوحظ عليه سوء الفهم للمصطلحات الواردة في الكتاب، ولكنه استطاع أن يسهم في تحولات كثيرة. وفيما بين القرن السابع وعصر النهضة لم تكن هناك تحولات، وإنما هي مراوحة بين الثبات والارتداد والإغراق في المعيارية البلاغية، ويجب أن نلمح إلى أن النقد سار جنباً إلى جنب مع البلاغة، ولما يستحضر العلماء والنقاد أن النحو والصرف والبلاغة وعلم اللغة آليات نقدية، وليست غاية في نفسها ، ولو أتيح الدمج بين الآلية والمنهج لكان للحركة النقدية شأن خطير. هذه إلماحات لا تحرض على الارتداد للماضي، ولكنها تود استصحابه وتلقي فيوض المستجدات لإثراء الحركة النقدية. |
تحولات النقد الأدبي 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل 1/2 ذلكم حديث مقتضب عن تحولات النقد القديم، وهي تحولات فرضتها المتغيرات العلمية والاجتماعية المحلية، وانتجتها الإرادة المستقلة، وأضفت عليها جهود المفسرين اللغويين وشرّاح الدواوين المهتمين بالفن واللفظ ما اكتشفته محاولاتهم المذهبية المتعصبة، أو تخصصاتهم النحوية والصرفية والبلاغية المعمقة، اضافة إلى تعالق البعض بما أفاء الله به على المسلمين من فيوض الحضارات، وبخاصة ما يتعلق بالنقد عند اليونان. وإذا كانت هناك ردة فعل غير عنيفة ازاء تحولات النقد على ضوء ما جاء في «كتاب الشعر» و«الخطابة» لأرسطو، فإن هنا ما يماثلها في مستهل العصر الحديث. فعندما بدت بوادر «حملة نابليون» علمياً وأدبياً ومسرحياً، أحست طائفة من الأدباء بالتحدي، فنهضوا لاستعادة التراث، وتكريس معارفه. تمثّل ذلك في مجال النقد بكتاب «الوسيلة الأدبية» للمرصفي، وفي مجال الشعر عند «البارودي» في ابداعه ومختاراته. وإذا كان «حسين المرصفي 1890م» و«حمزة فتح الله ت 1918م» يمثلان بدايات الاحيائيين في مجال النقد، فإن «المويلحي 1930» و«سيد علي المرصفي ت 1931م» يشكلان استمرارية الهم الاحيائي، ولكنه هم لم ينج من دخن النقد الأوربي والأمريكي الذي استوى على سوقه عند «مدرسة الديوان» و«جماعة أبوللو»، وكان تواصل كل الأطراف مع «المهجرين» مؤذناً بتحولات جذرية في الحركة النقدية، يضاف إلى جهود المدرستين جهود فردية ليست بأقل أثراً، ف«طه حسين» لم يكن منتميا لاحدى المدرستين، ومثلة «أحمد ضيف» و«محمد مندور» و«روحي الخالدي»، والثلاثة الأُول يمثلون «اللانسونية» في نزوعها التاريخي القائم على الأخذ بالروح العلمية والمزج بين الذوق والمعرفة، وإن جنح «مندور» إلى الواقعية الاشتراكية، واضعاً أسس النقد الماركسي، فيما جنح «الخالدي» إلى المنهج المقارن. والذين تلقفوا تحولات النقد الماركسي زامنهم آخرون تلقفوا فيوض النقد الانجليزي، الذي عبر إلى المشرق العربي من خلال استيعاب النقاد المعاصرين لأطروحات «صمويل كولردج ت 1834» و«زورث ت 1850» و«هازلت ت 1830» و«بيرسي شيلي ت 1822» وعند هؤلاء تغير مفهوم الشعر ووظيفته وعناصره ولغته وخياله وشكل القصيدة. وكل هذه الرؤى تشكِّل بدايات للتحولات الجذرية المقبولة إلى حدّ «ما» لأنها تؤسس للنقد الحديث. 2/2 ورواد النقد المعاصر ومؤسسوه يختلفون عن جيل الانطلاق، إذ يتفاوتون في استبطانهم للتراث وتمكنهم من المستجد، فالمؤسسون استقبلوا فيوض الطوارئ، وهم متضلعون من التراث، فيما لم تستخف الرواد، بوارق التجديد، ولكنها أضافت إلى معارفهم معارف، فكانوا الأقدر على وعي الطوارئ، وفهم مناحيه، والأمكن في التأسيس لحركة نقدية متفاعلة. أما الذين استخفهم المستجد، واستزلتهم مغرياته فهم الذين استقبلوا فيوضه، وهم فارغون من التراث، وأولئك لم يقدروا على فهمه، ولا على استثماره. وأمام فيوض المستجدات ظهرت ثلاث فئات: المشايعون. والهاربون. والمتفاعلون. ولكل موقف دركاته ودرجاته، فمن «المشايعين» من هو على شيء من التراث، وعلى شيء من الاقتدار، غير أن هذه الطائفة فضّلت المشايعة على التفاعل، وتجنت على الموروث. ومنهم من هو خالي الوفاض من التراث، وليس بقادر على استيعاب المستجد، وهذه الفئة تصدق عليها مقولة الناقد الفرنسي «تيبوديه» «النقد الحركي» المعتمد على الجدل العنيف الذي يقوده شباب ينطوون على رؤى غير أصيلة، فيها فجاجة وافتعال. وآخرون تلقوا فيوض المذاهب الغربية بلغاتها، وبعض هؤلاء أغرقوا في الاستغراب والتجني على التراث، وليس من شك أن طائفة منهم قدمت رؤية سليمة عما أخذت به من المذاهب الجديدة، ووفرت مناهج وآليات مفيدة، ولفتت الأنظار إلى قضايا مهمة، ولكنها أمعنت في الاغتراب. وبعض تحولات «المشايعين» استغرابية، لا تستجيب للذوائق، ولا تنهض بالحوائج، وغالب منجزها غربي جاء بلسان عربي ذي عوج وغير مبين، حتى لقد نفى بعض المستشرقين اهتمامه بالأدب العربي الحديث، لكونه أشبه بالبضاعة التي رُدت لأصحابها، لأن ما تكتبه هذه النوعية نقل مترجم. ويبلغ الاستغراب حده بالمشايعين الذين يعتمدون على المترجمات، ممن لا يحسنون اللغات، ولا يقرؤون النظريات بلغاتها الأصلية، وهم نقاد الصحافة. أما «الهاربون» إلى التراث، المحتمون به، المنقبون في بطونه عن البدائل، فهم الراحلون إليه في أزمنته، وليسوا الراحلين به إلى أزمنتهم، وهؤلاء يصادمون سنة الحياة القائمة على التحول المستمر، وهم بهروبهم الوجل لا يحسنون خدمة التراث، ولا يجيدون التفاعل مع المستجد، و«المشايعون» و«الهاربون» يسيئون ولا يحسنون، ولأن معطيات العصر مؤثرة ونافذة فإن رفضها سيجعل من المتأبي منتمياً إلى عالم قديم، واقعاً تحت تأثير عالم حديث، وفي هذا الوضع تستشري ظاهرة التمزق، وتلك سمة تمنع الافادة والاستفادة. وأما «المتفاعلون» فكالغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، وقد بدت بوادرهم في الأربعينيات والخمسينيات عند من وقفوا على مستجد الغرب، واستوعبوه، من أمثال «زكي مبارك» و«محمد غنيمي هلال»، بوصفهم مؤسسين للتطبيق والتنظير، وعلى أثرهم جاء «عز الدين اسماعيل» و«محمد عبدالمطلب» وآخرون ممن وفروا شيئاً من التوازن، وإن جنح بعضهم إلى الاغراق في الاستغراب، ولكنه اغراق المقتدر. وكل هذه المستويات لها وعليها، وتحولاتها ليست خالصة الاستجابة، ولكنها متفاوتة في الأهمية والمشروعية. ومع حضور هذه الفئات الثلاث وإلحاحها في تكريس الوجود، فإننا وفي ظل واقعنا أحوج ما نكون إلى الاستشراف والتلقي، وليس من حقنا التخلي عما نمتلك من تراث عريق وعميق وصالح للاسترجاع والتفعيل. كما أنه ليس من مصلحتنا أن نزور عما تفيض به الحضارات من حولنا. والراصدون بوعي يدركون أن هناك فرقاً شاسعاً بين التفاعل الواعي مع المستجد والاستسلام الطوعي المستخذي له، والذين يخلطون بين المفاهيم، إما أن يكونوا أغبياء أو متغابين. واشكالية المفهوم كنافق اليرابيع لكل من أعوزته الحجة وألجمه الدليل، ومع أن اختلاف المفاهيم قضية أزلية، إلا أن التعويل عليها لشرعنة التناقض مخل بالأهلية. 3/2 وإذا كنا نؤمن بمبدأ اختلاف المفاهيم، فإننا في الوقت نفسه لا نذهب مع الذين لا يضعون حداً لهذا الاختلاف. فمصطلح «الحداثة» مثلاً يراه البعض تجديداً فنياً، فيما يراه آخرون حيدة فكرية، هذا اختلاف حول فهم المقتضى يتسع له المصطلح من خلال مدلوله الوضعي، غير أن هناك مدلولاً اصطلاحياً تجاوز المدلول الوضعي، وأعطى مفهوماً تواضعياً. والحداثة بهذا التواضع مرفوضة، فيما هي مقبولة في تصورها من خلال الدلالة الوضعية، ولو أن المختلفين فضوا النزاع المفهوم، بحيث يباشر كل واحد تحديد مفهوم المصطلح عنده، لما وقعوا في الاختلاف، ولما امتد اختلافهم إلى التشكيك في الفكر والانتماء. على أن مجرد القول بالتجديد وحده لا يكفي، متى كانت الوثائق منسجمة مع حداثة الفكر. وقولنا عن مصطلح «الحداثة» مجرد مثل نظر به، للتدليل على الخلاف الممكن تلافيه. واستعراض التحولات النقدية في القرون الأولى يمكن استيعابها، إذ هي تحولات بطيئة واستجابية، فالمشهد يتفاعل من داخله وبأيدي نقاده الذين تحركهم الحاجة، وتوجههم البراعة الذاتية، أما مشاهد النقد الحديث فمختلفة جداً، لأنها في الغالب مسيرة لا مخيرة، ومحكومة لا مستقلة، وسريعة لا متأنية، ونقادها متلقون لا منتجون. كما أن المشهد النقدي عربياً واقليمياً لا يتوفر على ثقة بالنفس، والمتابع لحاضره يدرك أن واقعه غير مستقر، وغير عربي، فأجسام ذويه في المشرق، وأدمغتهم في المغرب، وجمهور الدارسين في الغرب يعودون برسائله إلينا، ولا يبلغون رسائلنا إليه، فهم عون له على الأمة لا عون لها عليه، على الرغم من قدرة الموروث، وتوفره على آليات ومذاهب قابلة للاستيعاب والتحول الطوعي، ولن يكون ما يحققه دون ما أنجزته التبعية المستحكمة المرتبطة بتحولات قسرية ليست من عند أنفسنا. ولن نحقق فاعلية متميزة حتى نسترجع ما للتراث من حقوق مهدورة، إذ لم يكن عقيماً ولا سكونياً ولا منغلقاً، ولو أحسنا الدمج بين الآليات والمناهج لكنا متوفرين على حركة نقدية لغوية وفنية لا تنازع، وإذ يملك التراث النقدي القدرة على التفاعل والاستيعاب فإن من الجنايات الاستغناء عنه. وما نتطلع إليه لا يحول دون استقبال المستجد، والتفاعل معه، وصبغه بالصبغة العربية التي تحد من الهيمنة. ولو عدنا إلى قراءة تراثنا لاستطعنا اكتشاف كوامنه، ولكن طائفة من المنفعلين لا الفاعلين ولت الأدبار مستقبلة فيوض الآخر. ولو أنهم حين استقبلوا المناهج اللغوية الغربية حانت منهم التفاتة إلى «نظرية اللغة في النقد العربي»، واستعادوا فيوض القول عن «نظرية النظم» لكان بالإمكان تأسيس نظرية نقدية لغوية لا تنازع. إن نقدنا الحديث غربي بلا ذات، كوصف «ريكور» الدارس «لشتراوس» بأنه «كانتيٌّ بلات ذات» والاشكالية التي لم يدرك خطورتها الأكثرون تعالقاً مع المستجد جهلهم أو تجاهلهم ارتباط المنهج بفكر الحضارة المنتجة، ودعوى تفريغ المناهج من محتواها تعذير وتبرير مردود. ومما يزيد الاشكالية تعقيداً «تسييس» الأدب و«أدلجته» و«التزامه الفكري»، وهذه الصيرورة مع ما تنطوي عليه من مزالق تقلل من فنية الفن. والمنهج النقدي الحديث مواكب لمهمات الأدب ورسالته في الحياة، ولأن الفلسفة الطاغية مادية بحتة، وهي جذر لكل المذاهب والمناهج فإن ذلك مؤذن بارتباط التحولات النقدية بالجذوز الفلسفية، والمشايعون «للبنيوية» على سبيل المثال لا يعرفون جذورها الفلسفية، وتخطيها من الفلسفة إلى اللغة، ومن اللغة إلى علم الاجتماع، ومنه إلى النقد، وشيوعها في كل العلوم لا يُخلصها من دخن الفلسفة المادية التي أنشئت لتكريس مقاصدها، وبعض مدعيها أخفقوا في الفهم وخذلهم الاجراء. 4/2 وعلى ضوء ذلك يظل المنهج النقدي مرتبطاً بطبيعة الفكر المنتج، ولكل منهج نظرية، وتحولات «نظرية الأدب» لا يمكن أن تكون في العصر الحديث كما هي في القرون الأولى، ذلك أنها في عصور الازدهار عربية إسلامية خالصة، وهي في العصر الحديث غربية النظرية والمنهج، ولما يكن التحول طبيعياً في ظل الاستعارة غير الواعية والجلب غير الحصيف. والمخل بأهلية التحولات النقدية ارتباطها بالخطاب السياسي الإعلامي، فالمد الماركسي إعلامي، ولما تتجذر مبادئه الفلسفية في الذهنية العامة، والمد الشيوعي الذي احتنك ذرية النقد الأدبي طرح الحتمية التاريخية. والمنهج التاريخي المتداول ذو انتماءات متباينة. لقد استهل النقد الحديث مشروعه في الدرس التاريخي، وتصور التاريخية لا يبعد النجعة، فالتراث يلم بالتاريخية التي قد لا تتسع للتكوينية ولا للحتمية، والاشتغال بمنتج النص يشكِّل تحولاً نسبياً، فالتراث حفل بشيء من ذلك، وجاءت على النقيض «نظرية المنهج الشكلي». الذي مرَّ بتحولات وتنقلات «قارية» و«لغوية» و«فكرية»، يستحيل تقصيها، ولكنها مرّت بحالات من الوضوح والاستقرار النسبي، استطاع معها المتابعون أن يتعرفوا على ظواهرها. والمشهد النقدي الحديث تتردد فيه مصطلحات وشخصيات وكتب، تشكِّل مذاهب ونظريات ومناهج وآليات، وتمثل أقصى حد لحمَّى التحول، نسمع ب«سوسير» و«لوي هلمسيلف» و«جاكبسون» و«نعوم تشومسكي» و«لاكان» و«بروب» و«تودوروف» و«دريدا» و«رولان بارت» و«سارتر» و«بيير مورو» و«جاستون باشلار» و«سانت بيف» و«بروست»، و«ماثيو آرنولد» و«ريتشاردز» و«أليوت» و«أدموند ولسون» و«أوستن» و«ويليك». ونسمع بنظريات وتحولات وبعديات وما ورائيات ومترادفات مصطلحية «بنيوية» «حداثة» «ما بعد الحداثة» «ما بعد البنيوية» «السنية» «نصوصية» «تكوينية» «تحويلية» «تفكيكية» «تشريحية» «تقويضية» «شكلانية» «أسلوبية» «شعرية» «نسقية» «سياقية» و«سيمولوجية»، ولعل كتباً كثيرة كانت الأكثر حضوراً وتداولاً، مثل كتب «سارتر» وبخاصة «ما الأدب» و«درجة الصفر في الكتابة» ل«بارت» و« ما هو الفن» ل«تولستوي» و«مبادئ النقد الأدبي» لريتشاردز و«قلعة آكسل» لأدموند ولسون. ولعل «جاكوبسون» الأقدر على بلورة مفهوم «الشعرية» و«الأدبية» فهو القائل:« إن موضوع علم الأدب ليس الآداب، وإنما هو أدبيته» ويعني العناصر التي تجعل من عمل «ما» عملاً أدبياً. وبهذا بدأت التحولات اللسانية بوصفها علماً يهتم بالشعرية. وعن تحولات النقد الغربي خلال القرن العشرين جاء «جان إيف تادييه» ليجملها في كتابه «النقد الأدبي في القرن العشرين» حيث تناول: الشكلانية الروسية. النقد الألماني. نقد «الوعي» و«الخيال». النقد التحليلي النفسي. سوسيولوجية الأدب. اللسانيات السيمبائية «علم العلامات». الشعرية. النقد التكويني. وتحت كل عنوان تحولات كثيرة، لا مجال للاشارة إليها، لأنها تشبه البحر اللجي، ولو أشرنا فقط إلى غنوصية «التفكيكية» لطالت علينا الشقة. والتحول إلى «التفكيكية» كما هي عند «دريدا» ركون إلى الاعتقاد بوجود مدلول متعال، خارج حدود اللغة، وذلك اغراق في العدمية، وقد اتهمت «التفكيكية» بالتدمير والاستفزاز، حتى لقد قال «ملر»: «إن العدمية لقب للتفكيك» فيما يرى غيره أنها قراءة حميمية للنصوص، وتلك حلقة في سلسلة أنماط «قراءة النص» التي يلهث وراءها من حمل المعرفة ومن لم يحملها. 5/2 والتحولات التي طالت المشهد النقدي، قد لا يكون لها أدنى أثر في العملية الابداعية، ومن سلبيات الحركة النقدية تفاوت سرعتها مع الحركة الابداعية، فالتحول النقدي سريع الايقاع، أما التحول الابداعي فبطيء الايقاع، وكما تنفصل المثالية المتعالية عن الواقعية المتدنية، ثم لا يكون أدنى حد من التفاعل، تنفصل تحولات النقد السريعة عن استجابات الابداع، ثم لا يكون تفاعل ولا استفادة. والمتابع الحصيف يستبين الفجوة بين التنظير والتطبيق النقديين، ومحاولة تجسير الفجوة يوقع بعض النقاد في التمحل والادعاء، بحيث يحمِّلون النصوص ما لا تحتمل. والأسوأ من ذلك تطبق آليات النقد الحديث ومناهجه على الشعر العربي القديم، بحيث يكره النقاد النصوص الجاهلية أو العباسية على أن تتسع لدلالات أو تتجلى ببناء أو بشكل يحقق مفاهيم مصطلحية جديدة، وذلك إكراه يكشف عن تمحل لا مكان له، كما فعل «كمال أبو ديب» مع الشعر الجاهلي، وكما قرأ غيره نصوصاً ابداعية قديمة بأنماط قرائية حديثة، تبدت فيها العجائب وفات المندفعين ان شرط القراءة قابلية النص. وفي اطار التحولات الأيديولوجية التعسفية نظر نقاد «المنهج التاريخي» وفق الرؤية «الماركسية» الرؤية «اللانسونية» إلى «الحتمية التاريخية» في العملية الابداعية، ومن ثم امتدت رؤيتهم إلى الحركة النقدية، فالحياة البشرية عندهم مراحل متوالية مرتبطة بالمادة، وهذا اقصاء للمثاليات والغيبيات والفكر الديني في تشكل الابداع، والجبرية التاريخية فرضت تحولات، وطرحت رهانات وأقرت نتائج مسبقة، والنقاد الماركسيون العرب ك«العالم» و«مروه» مارسوا التحولات وفق الرؤية الماركسية، فهم يرون حتمية التطور التاريخي نحو الماركسية. لقد واكب المنهج التاريخي الماركسي منهج آخر تمثّل «بالوجودية» هذه النظرية تربط الابداع بالواقع، وتنظر إلى تحولاته، وقد ركز الوجوديون على محورين: «الحرية» و«المسؤولية». ومن هذين المحورين نفذ الفساد في أرض الأدب: إبداعاً ونقداً، وبدت التحولات غير المسؤولة، فمحور «المسؤولية» لا يعني «المسؤولية» الغيرية، بل يعني المسؤولية «الذاتية» فأنت بوصفك الفردي مسؤول عن نفسك، إذاً أنت المشرع لها، لا سلطة سابقة ولا قائمة و«الحرية» و«المسؤولية» أمدتا الفكر الحداثي بفساد كبير، لما تزل الأمة المسلمة تتجرع نتائجه، ولا تكاد تسيغها، وهذه الترديات الأخلاقية والفكرية والفنية تتوسل ب«الحرية» و«المسؤولية» وفق الرؤية «الوجودية» التي تقمصها الحداثيون، فأوغلوا في الرذيلة والانقطاع. وبتجاوز اشكالية «الأدلجة» وهيمنة فكر المنتج لا المضيف تقوم اشكالية أخرى، وهي ميل البعض إلى «انسانية الفكر» المفضي إلى اللامنتمي، بحيث كان الطريق القاصد إلى «نوبل». 6/2 والنظرية التاريخية بكل مستوياتها أرهص لها ناقدان كبيران هما: د / طه حسين. د/ محمد مندور. ارتبط الأول ب«تين» فيما ارتبط الثاني ب«لانسون» ولكل واحد منهما رؤيته، ولكن نقاداً تابعين انحرفوا بالتاريخية عن مسارها، وأوغلوا في الماركسية والوجودية، بحيث أخذوا من الأولى إلحادها، ومن الثانية غثائيتها وعبثيتها، وجاءت أعمال ابداعية: شعرية وسردية مشتملة على رؤى تلفيقية متعددة، تكشَّف عوارها فيما بعد عند أساطين الحداثة، وتلك تحولات دركية أخلت بالقيم والثوابت، وانفصلت عن المجتمع المنتمي لحضارة مغايرة ومرجعية مغايرة. وفيما بين هذا وذاك أوغل النقاد في «المعرفة النقدية» تحامياً عن الذوقية والانطباعية، ووقعوا في تخشب المعايير، وعلمية النتائج، مما عطّل لغة الفن. والقول بعلمية النقد والإيغال في المعيارية والكم الاحصائي عرّض المشهد النقدي لمآزق كثيرة: مأزق الحيدة بالفن عن فنيته. ومأزق المعرفية التي قد لا تتوفر للناقد. ومأزق تداخل المنظومات المعرفية الثبوتية بالمنظومات الأدبية والتاريخية التحولية. وهي مآزق تعرض لها النقد العربي ظلماً وعدواناً، فالنقد العربي القديم بفنياته وآلياته النحوية والصرفية واللغوية والبلاغية يمتلك تميّزه عن غيره من العلوم. لقد كنا نعايش تحولات داخل النظرية النقدية، ولكننا بفعل التبعية والمسخ وقعنا في استبدالات وتحولات داخل الظاهرة النقدية، وقد بسطت الحديث عن هذه الظاهرة في سلسلة مقالات عن «النقد الثقافي: البديل أو الرديف» والذي نشرت منه حتى الآن ثلاث عشرة حقلة، ولسنا بحاجة إلى استعادة «التقليعات» المخلة بالأهلية. واشكالية المشاهد تستحكم بتدافع الشباب، وتزاحمهم على المستجدات، والتفاني في نشر الأفكار والرؤى الفجة المفتعلة، ثم افتعال المعارك والجدل العنيف العقيم في آن حول قضايا لم تؤصل، ولم تستقر، وملاذ الثائرين على السوائد: اما علم اللغة الحديث أو علم النفس أو الفلسفة أو علم الاجتماع. ولما تزل المشاهد النقدية تتلقى وابلاً من التحولات المذهبية والفنية، فبعد ان خبت ضجة المناهج التاريخية والاجتماعية والفنية، والماركسية والنفسية والواقعية، تلتها «البنيوية» التي أفضت إلى «بعدياتها»، وتحولاتها: كالأسلوبية، والسيميولوجية، والتفكيكية، والشكلية العضوية، والنقد الأسطوري، والنقد الجمالي، ثم جاءت تحولات في التلقي والقراءة والتأويل. وها نحن اليوم أمام «علم النص» و«النقد الثقافي» و«الكتابة» و«الجنائزيات»، وسنظل وراء البروق الخلَّب، وسرابيات الأدعياء، ولن ينقذ الحركة النقدية إلا التأصيل المعرفي والتأسيس لحركة نقدية عربية متفاعلة مع المستجد، وليست مستهلكة له. |
الموقف من الإنسان والأشياء في العمليات الأمنية..!
د. حسن بن فهد الهويمل المجتمع المدني المتحضر يتطلب رجل أمن تتكافأ إمكانياته المعرفية والأخلاقية والإجرائية مع إمكانيات الشرائح المجتمعية التي يتعامل معها، ومع المثمنات المادية المتنوعة والمتعددة والمعقدة في كثير من الأحيان، والأكثر خطورة إزاء العوارض حتى يتعامل معها في هدم أو حريق، ومتى سوِّيت الفجوة بين المرتكزات الثلاث: * الإنسان. * الأشياء. * الموقف. نجحت العملية الأمنية، وتفادى المسؤول أيَّ سلبية محتملة الوقوع، ومتى اتسعت الفجوة بين رجل الأمن وشرائح المجتمع ومثمناته، تفاقمت عملية الاتصال، وأدت الممارسات الى تصعيد لمشاكل، تتنامى مع الزمن، لتضع الجهاز الأمني في حرج، وبدل أن يقضي على جيوب المشاكل، يعمق بفعله بؤر التوتر والحساسيات، ويشكك بالثقة، ومتى فقدت الثقة تعطلت كل الفعاليات، ولهذا لابد من خلق أجواء ملائمة، تمكن رجل الأمن من زرع الثقة في الأنفس: ثقة في الإمكانيات، وثقة في الأخلاقيات، وثقة في سلامة الإجراء، وثقة في الكفاءة الذاتية، وروافد الثقة الثلاثية: * الإمكانيات. * الأخلاقيات * والإجراءات. ليس من السهل التوفر عليها بالقدر الكافي، ذلك أن إعداد الكوادر البشرية المؤهلة للاضطلاع بالمهمة الأمنية لا يمكن أن تتأتى بسهولة، إذ هناك عوائق غير مقدور على تذليلها، قد تتعلق بالإمكانيات المادية، او بعدم التكافؤ بين رقعة الخدمات وتعدد مستوياتها من جهة ورجل الأمن الميداني المباشر، وقد تتعلق بالإمكانيات الآلية كمّاً وكيفاً، إذ إن مباشرة الحدث لا يكون بالضرورة من رجل أمن مؤهل بالمعرفة والخبرة، وعمليات التوظيف ليست انتقائية، وليس هناك فترات تدريب كافية بحيث يمكن تلافي أوجه النص. ولهذا فإن تصور الموقف ميسور، ولكن التوفر على الإمكانيات التي تجسده في الواقع على أحسن صورة قد تكون عسيرة المنال، وعصية التحقيق، وحين لا تتأتى الإمكانيات، فإن واجب المسؤول المضي في المحاولة وعدم اليأس، فالذي لايدرك كله لا يترك كله، وبعض الشيء أفضل من لاشيء، وواقع الفعل الأمني في بلادنا مشرف، إذا قوم من خلال سياقاته العربية، وكفى المرء نبلا ان تعد معايبه. والمؤسسة الأمنية حين تمنى بأي إخفاق يجب ألا يحصر في سبب واحد فقط، ولا ان يحال على سوء النية او يحال على الموقف غير الحضاري، او على الإجراء غير السليم، او على الامكانات غير المتكافئة، فقد لايكون منها البتة، ذلك ان الاطراف الثانوية غير المتمثلة في مسرح الحدث تؤثر على الموقف، دون ان يتصورها الرأي العام، فهو دائما يحيل الى الاقرب للموقف، وهو رجل الأمن، وحين يكون رجل الأمن امام حدث ومحدث وظرف لهما فإنه بحاجة الى إعطاء كل طرف ما يتطلبه، وهو لكي يتمكن من السيطرة على الحدث والعودة بالاوضاع الى وضعها الطبيعي، لابد ان يفهم الأجواء، ويرسم الخطط، ومع هذا يجب ان يضع في تصوره النسبة المحتملة للإخفاق، إذ هو امام مقترف ربما يكون محترفا، يضع في اعتباره كل الاحتمالات. وإذ لا يتمكن المسؤول من التوفر على التوازن بين رجل الأمن والمستفيد منه، فإن الواجب مواجهة القدر بشجاعة، بحيث يعرف أطرافُ الاشكالية الممكن والمستحيل، بالتالي يقوم التعاذر بدل التلاوم، والرضا بالميسور بدل السخط على الواقع، والمكاشفة والشفافية تتطلبان شجاعة وثقة، شجاعة في مواجهة العارض، وثقة بإمكان التخطي الى الافضل، فالتقصير خطأ، والخطأ ابتداء ناتج عمل، ولكن الإصرار عليه، او التكتم عليه، او المغالطة والمكابرة في مواجهته، يحول الخطأ الى خطيئة، والتسامي فوق المساءلة والنقد يشرعن للنقص والخطأ، ومن بوادر الثقة مواجهة الاخطاء والنقد بروح رياضية، وعلينا استشعار مستويات الثقة: ثقة بالذات، وثقة بالغير، وثقة متبادلة، وقيام الثقة بكل مستوياتها يحول دون الصدام والاتهام، ويحصر الخلاف في اطار التساؤل والتشاور والتناصح، وكم هو الفرق بين المراجعة الودية والصدام العنيف وتبادل الاتهامات. وحين لا تكون الثقة بين طرفي العملية الامنية تتحول الاشكالية من معالجة الاحداث الى التناجي بالإثم والعدوان، وحديثنا عن «الموقف» يستدعي التحفظ على المثاليات المتعالية عن الواقع، فالذين يقرؤون «الموقف» قد لا يقرؤونه بواقعيته، وانما تعدو اعينهم اليه بوصفه مشروع فعل، وليس فعلاً، وهناك فرق كبير بين مشروع الفعل والفعل، فالمشروع دائما يستمد مشروعيته من اقصى حدود المثالية، فيما يأتي الفعل متدنياً ومجسداً لمجموع الامكانيات المتاحة، والاشتغال في عيوب الآخرين دون النظر في عيوب الذات مخل بالأهلية، وذلك بعض معوقات التفاعل الايجابي في المرجعيات. ورجل الأمن بوصفه المطبق الفعلي للعملية الامنية قد تنقصه اشياء كثيرة: ذاتية، وغيرية، وشبكة الاشكالية معقدة، إذ ربما يكون كفاءة متميزة في خلقه وذكائه وأهليته ومناسبته للمكان، ولكن الطرف المستفيد دون ذلك، وقد يكون طرفا العملية في مستوى الكفاءة، ولكن الإمكانيات الآلية دون ذلك، ولأن هناك كوادر بشرية وكيانات إدارية تأتي في أعقاب ممارسات رجل الأمن أو معه ك«القضاء» و«الصحة» فإن بوادر السلبيات التي تنتجها الاطراف الثانوية تضاف الى الطرف الرئيس بوصفه ماثلاً في الصورة، ومثل هذه الرؤية المقعرة تحول دون الانطلاق الآمن الواثق. والمواقف الأمنية بوصفها ممارسة سلطوية شرَّع لها النظام واقتضتها متطلبات الاجتماع فإن النفس البشرية مجبولة على عدم استساغة الخضوع المشروع للسلطة، مهما بلغت شرعيتها، وهذه الحالة النفسية قد لا يضع لها الموقف لحظة الإجراء أي اعتبار، ومن ثم تشكّل عقبة في طريق الأداء الوظيفي، وعلم الاجتماع الجنائي، وعلم النفس الجنائي، والقانون الجنائي تفيض بالضوابط والأساليب الإجرائية المناسبة والمجسدة للإشكاليات. والأحداث، والحوادث، والجرائم في سباق مستعر مع المواجهة، وكلما طرح مسؤول الأمن اسلوباً ذكياً لتعقب الجرائم والمجرمين، اتخذت الجريمة اسلوباً أدق للنفاذ من مسام الشبكة، وهكذا، وبالتالي فإن التوفر على الإمكانيات يتطلب ترقي المعادل، ورجل الأمن قد لايتمكن من استعمال كل إمكانياته تمشياً مع إمكانيات المستفيد، ومأزق الموقف في فورية التقدير والتوقيت، وتسارع البدائل الإجرائية، وتغيير الخطط في مسرح الجريمة، وبالتالي فإن هرمية المسؤولية لا مجال لها، وممارسة الصلاحيات المؤقتة امتحان لقدرة رجل الامن الميداني الذي قد لا يتوفر على امكانية التواصل مع غرفة العمليات، بحيث تتحمل معه قسطاً من الإخفاقات، وهو حين ينهي العملية بنجاح يشاركه غيره، وحين لا يحالفه الحظ، يتحمل المسؤولية وحده، وهذا قدره المحتوم والمجحف في آن. وحين نتحدث عن «الموقف» تتجسد امامنا صورته الحضارية ومرجعيته الاسلامية، بحيث لانقطع بتوفر المستوى المطلوب، لا من حيث الصورة، ولا من حيث مقتضى المرجعية، وليس مستساغاً إحالة هنات الموقف الى الجهل او سوء النية، فالخطأ او التقصير حين يعالجان بهذا المفهوم تتعمق هوة الخلاف، والبعض تتشكل رؤيتهم من خلال البحث في السلبيات واستصحاب التجهيل وسوء النية، وتلك مواقف تحمل الاطراف على التحول من الحوار الايجابي الى الصدام المخل بمتطلبات العلاقة الايجابية، وباستدعاء الموقف تتجه الانظار صوب من يتحقق على يده نجاحه أو إخفاقه، وهو رجل الأمن الميداني، وليس القابع وراء مكتبه المخملي، وهنا تتجسد صورته في المخيلة كفارس أحلام، ليس في شكله ووسامته، ولكن بممارسته الحضارية، فما هي الصفات التي يتطلع اليها المواطن المرتبط أمنه واستقراره وسلامته بتصرفات رجل الأمن؟ ذلك أنه حين يضطلع بأخطر مسؤولية، وأهم مسؤولية، تكون صفاته وأخلاقياته استثنائية، قد لا تتوفر بالقدر المطلوب، وهو بتحمله تلك المسؤولية، ينتقل بمواصفاته العامة التي يشترك فيها مع سائر الناس الى متطلبات المهمة الامنية المتمثلة: بالعزم، والحزم، والشجاعة، والتضحية، والعدل، والحيادية، والفراسة، والصدق، والأمانة، والنزاهة، والسيطرة على الأهواء الشخصية، وضبط الأعصاب، والتكيف مع المستجدات والعوارض، ذلك أن مهمته جماع الفضائل، ودعك من القيم السلوكية خارج إطار المسؤولية، ودعك من التوفر على المعرفة الشرعية التي تحدد اسلوب المواجهة ومرحليته، فالموقف لا يكون مشروعاً بالقوة، وإنما القوة للقانون الملزم، والقوة المادية كالوازع، وكما في الأثر: إن الله لينزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن. وحين لا يكون رجل الأمن رجلاً عادياً فإن سلوكياته تتضخم إلى حد الاستحالة، وتكون صفحة السمعة عنده فاقعة اللون، تجسد أي خدش، وتضخم أي مخالفة، وتصورنا للمواصفات النفسية والسلوكية والمعرفية يحملنا على تفادي الثنائيات، فالشجاعة يجب ألا تصل إلى حد التهور، واللين يجب ألا يصل إلى حد الضعف، والحيادية يجب ألا تصل إلى حد السلبية، ولابد والحالة تلك أن تدخل الصفات الخلقية في مفهوم التوازن، والموقف يزداد حساسية في ظل المستجدات العالمية والإسلامية والعربية، بوصف الدولة فاعلاً رئيساً ومؤثراً ومسؤولاً، والإعلام المعادي بمعرفته لحجم المملكة يتلقط السقطات ليحولها الى عقبات معوقة في طريق الأداء السليم. وإذا كانت مهمات رجل الأمن ذات مواقف متعددة وفورية ومباغتة ومتغيرة وفق أجواء الأحداث وغير مقدرة فإن الإمكانيات الشخصية يجب أن تكون بمستوى مواصفات المواقف ومراوغتها، ولكل موقف متطلباته، وقد تكون من أولويات مهمات رجل الأمن: الوقاية لمنع الجريمة من الوقوع، وتعقب اطرافها بعد الوقوع، وتنفيذ حكم السلطة القضائية بعد مواجهة المجرمين بمقترفاتهم، وصدق الإثبات والإنصاف في الإدانة، وهو بهذا يكون مع الجنح منذ بدايتها حتى نهايتها، وهو معها في كل محطاتها، وتتواصل المعية لتأخذ بآثارها وانعكاساتها على ذات الجانحين، وعلى المقربين منهم، وعلى المجتمع، ومن ثم تكون معلوماته المصدر الرئيس للقضاة وللإصلاحيين الذين يرسمون المناهج ويقترحون أساليب العلاج. ولأن الجريمة تختلف باختلاف الدوافع، والنتائج، وحجم الضرر، وتجاوزه وشموليته فإن المواقف يجب ان تكون مرنة في تحولاتها الفورية. فجريمة المخدرات ترتبط بالمهرب والمروج والمستعمل، وهناك مستويات متفاوتة للمهربين والمروجين والمستعملين، لا من حيث السبب، او التنظيم، او المقاومة المسلحة، وإنما هي من هذه وغيرها. وجريمة المخدرات تختلف كثيرا عن جنح الأحداث التي تسهم في صناعتها الاسرة والمدرسة والوضع الاقتصادي والفراغ والإعلام، ومستويات السرقة بين السطو والاختلاس، وبين الاحداث والعصابات، وحتى الجريمة تختلف من حيث التنظيم والفردية، كل هذه الامور تشكل امتحاناً عسيراً وفورياً لرجل الأمن، والمواقف تتطلب اتخاذ القرار الفوري وغير المؤجل، واتخاذ القرار يؤثر على خطوات الحل، فقد يكون الإبطاء في اتخاذه سبيلاً لضياع الخيوط، وقد يؤدي التردد ولو لدقائق الى فوات الفرص النادرة، وملفات الحوادث حين تقرأ، تبدو الثغرات المفوتة لأهم الفرص وأندرها، ولهذا فإن الموقف حساس وهام، وليس من الممكن تبرير أي تصرف يسهم في انفلات الاطراف او تعقيد الحل، وكم هو الفرق بين منع الجريمة، ومكافحتها، وملاحقة المجرمين، والكشف عن غموضها، فالمجرم المحترف يختلف كثيراً عن المجرم المبتدئ، ومذكرات رجال الامن تنطوي على مفاجآت غريبة، وقد يفقد رجل الامن حياته بسبب تصرف فوري، لم يحسب له الحساب المناسب، وكم نسمع بين الحين والآخر عن شهداء الواجب الذين فقدوا حياتهم، وقد تضيع بضياعها معالم الجريمة. وبقدر المفاجآت الموجعة هناك مفاجآت سعيدة، فقد تكتشف جرائم غامضة بالصدفة، وبدون اي تخطيط، والحملات التي تنفذ بين الحين والآخر تكون لها محصلات متعددة، ليست واردة في حسابات الحملة. ولأن الوقاية من الجريمة من أولويات مهمة الأمن فإن من الأفضل ألاّ تتم وفق منهج ثابت تتوارثه الاجيال، وواجب المسؤول ان يكون قادراً على ملاحقة المستجدات، فهناك وسائل وقائية تقليدية، فيها الثابت والمتحول، كالعقوبات، والرقابة، والتوعية، ووسائل المعالجة، والكشف، وبعض هذه تدابير وقائية، ولكن لابد من التخطيط والبرمجة، والفهم الدقيق «للاستراتيجية»، «والتكتيك»، وفصل اجهزة المواجهة عن اجهزة الوقاية خطوة نحو التطوير، ولتنمية قدراتنا الوقائية لابد من اتاحة الفرصة للباحثين العلميين للاطلاع على كافة الاحوال والمواقف، لكي يفاعلوا بين معرفتهم وخبرة الآخرين، فالقطاعات المسؤولة من اولويات مهماتها الارتفاع بكفاءة رجل الأمن وقدراته، وذلك بعقد الدورات وبرامج التدريب المستمر، وربط ذلك بالترقية والعلاوة والمكافآت التشجيعية، سواء كانت مادية او معنوية، كالشهادات والأوسمة. ولن تتطور فعاليات الوقاية والمواجهة إلا بتنمية الطاقات البشرية، وتوفير الإمكانات المادية، والتحول بالتوعية من الوعظية الى العلمية المقننة، وتمكين المستفيد من الوقوف على آخر ما توصل اليه علم الجريمة من نتائج. والعمل على اصلاح المنحرفين والمجرمين وإعادتهم الى المجتمع قد لا يكون مسؤولية رئيسة لرجل الأمن، ولكن من مصلحته ان يسهم في هذا القطاع، موظفاً كل خبراته وتجاربه، إذ ان أسلوب الوقاية يطال ثلاثة محاور: * رجل الأمن. * المجرمين. * المجتمع. وإذ يكون التشريع الاسلامي في قضايا الجريمة ذا شقين: الوقاية والعقاب، فإن على المسؤول تنمية الجانب الوقائي، وتحديثه، وتطوير الاجهزة في شقيها: الأمني والقضائي، وما يتتبع ذلك من رقابة وتحقيق وادعاء وعلاقات. ولأن الجرائم ذات صلة وثيقة بسائر الاوضاع الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية فان الاسلوب الوقائي الناجح هو الاسلوب الشمولي الذي ينظر الى الجريمة بوصفها منتج فعاليات متعددة، وليست محصورة بذات المقترف. فالمجتمع قد يصنع المجرم، والوسائل الإعلامية قد تهيء الأرض الخصبة لتنامي الجريمة، فالجريمة لا تنزل من السماء، إنها مُنتج مجتمعي، والسؤال هل تنشأ الجريمة ثم تبحث عن المجرم؟ أم ينشأ المجرم ليبحث عن الجريمة؟ وهذا التساؤل يدخل بنا في سفسطة «البيضة والدجاجة» أيهما الأول، ولكن تصور العلاقة بين المجرم والجريمة والمجتمع تهيئ الاجواء الملائمة للحل. ومحاولة إصلاح الذات غير مجدية، ما لم يمتد الإصلاح الى الأوضاع الموثرة على الذات، إن عودة المجرم الى المجتمع السليم قد يساعد على سلامته، وإذا عولج المجرم داخل السجن بوصفة مؤسسة إصلاحية، لا زنزانة عقابية، ثم خلي سبيله ليختلط في مجتمع ينتج الجريمة، كان مهيئاً للعودة إليها مرة ثانية. إن الوقاية أهم خطوات رجل الأمن، والوقاية بحد ذاتها تعد إشكالية معقدة، وإذ يتطلب الموقف فهم الفئات المنحرفة ودوافعها النفسية والأخلاقية والاجتماعية والعاطفية ومستوياتها، كالقتل، والسطو، والاختلاس، والسرقة، والاغتصاب، والاحتراف، والصدفة، فالمعرفة، والفهم تنتقلان الى التحليل واتخاذ الموقف، والتنبؤ بما سيحدث، ومن ثم فإن سبق الحدث أفضل من تعقبه. وإذا كان الموقف يتجاوز الإنسان الى الأشياء، فإن رجل الأمن بمثلما هو مؤتمن على الأنفس فهو مؤتمن على الأموال، وحفظ الأموال يمتد الى التصرف الحكيم إزاء مواجهة الكوارث كالحرائق والسيول والزلازل، وكم تضاعفت الخسائر بسبب التصرف غير المنظم من رجل الأمن، ولهذا فإن الموقف من الإنسان في العملية الأمنية لا يقل أهمية عن الموقف من الأشياء، والحديث عن الموقف يستدعي الحديث عن الوسائل، فرجل الأمن كالمقاتل، كلما كانت آلياته حديثة ودقيقة ومتطورة، تمكن من السيطرة الفورية، وحين يعتريها أي نقص ينعكس على أدائه، وحين لا تكون في مستوى الحدث فإنها تؤدي الى مضاعفات، يتحمل أعباءها الوطن. إن الحديث عن الموقف يستدعي ظواهر تسهم بتعقده وتنامي إشكالياته، وهي ظواهر ليست من اختصاص مسؤول الأمن، ولكن حلها يهبط بمعدل الجريمة، ف«البطالة» مثلاً ليست مرتبطة بقطاع الأمن، ولكنها مقلقة له، وكم يود ذلك القطاع أن تكون صورته في المجتمع مشرفة، إن معدلات الجريمة تحال لرجل الأمن، وهي إحالة جائرة، والمسهمون في معدلات الجريمة ليسوا في الصورة بينما يستدعى رجل الأمن عند كل مخالفة، إن الإشكالية في تنامٍ مستمر، ونحن أحوج ما نكون إلى وضع الأمور في مواضعها الطبيعية. |
تفكيك الخطابات المتلاحقة في المشهد السياسي
د. حسن بن فهد الهويمل ليس مصطلح«الخطاب» مرتبطاً بالقول المنبري وحسب، إنه اندلاق وامتداد، بحيث يشمل أي مشروع: سياسي أو اقتصادي أو فكري أو أدبي. والخطاب بهذا المفهوم يمر بعمليتين «ديناميكيتين»: بناء الخطاب. تفكيك الخطاب. وعملية البناء تتشكل من خلال سياقات وأنساق عارضة أو ثابتة، أو منهما معا، فخطاب ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، يختلف كثيرا عما قبله، والعالم كله يتسابق في طرح خطابات مغايرة عما سلف، ليسبق إلى المقاعد الأمامية، والأمة العربية بوصفها غنيمة ليست باردة على الإطلاق فإنها تقع تحت طائلة الخطابات الحساسة، وكان عليها أن تعي متطلبات المرحلة ومقاصد الخطابات المتوازية والمتقاطعة والمتصادمة، ليكون خطابها أكثر انسجاما مع المتغيرات، ويكون تفكيكها لخطابات الآخر أكثر واقعية مما سبق، إذ ليس البناء بأقل خطرا من التفكيك، وخطأ البناء أو التفكيك مربكان. والتفكيك هو الآخر يتشكل من سياقات وأنساق، وليس شرطا أن تكون كما سياقات وأنساق البناء. وتلك إشكالية المرسل والمتلقي، والعالم يمر بحالة من التحولات السريعة والخطابات الأسرع، فكل خطاب يحمل معه شفراته، قد لا تصلح الاستعانة بشفرات قديمة لتفكيكه، فالمتغيرات السريعة تحول دون الثبات ونمطية المواجهة، والمتابع يمكن أن يصف أي حدث مثير بالخطاب، لأنه رسالة من نوع آخر، وإشكالية العالم العربي أنه لم يرق بخطابه إلى مستوى الأحداث المصيرية«أحداث الحادي عشر من سبتمبر» و«حروب الألفية الثالثة» و«محور الشر» و«انتفاضة الأقصى»و«العولمة» و«الاجتياح الإسرائيلي». ولو ضربنا الأمثال بعدد من مفردات الخطابات المتناسلة من الخطابات الرئيسة لتراءت لنا عن قرب: زيارة كولن باول: بوصفها آخر حدث، إنها بنية سياسية، كل محترف يفككها وفق رؤيته، والمتابعون مختلفون حول الأهداف والنتائج. لماذا جاء؟ وبماذا جاء؟ ولمن جاء؟ هل جاء بخطة؟ أم جاء لصناعة خطة؟ مبادرة الأمير عبدالله تعد بنية سياسية، وخطاباً جريئاً لم يتفق المشهد السياسي عليها، وإن ظفرت بما لم يظفر به أي خطاب في ظروف عصيبة كهذه الظروف التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية، لقد تحولت من تصور واقتراح إلى مبادرة عربية، وأصبحت محوراً لأكثر من خطاب، والرافضون لها تحت أي مسمى ينضم إليهم«آرئيل شارون» حين أعلن مؤخراً رفضه لها، وكان قد رحب بها من قبل، وهذا تفكيك يؤكِّد الارتباط بالسياقات والأنساق والظروف الطريفة أو التليدة. زيارة الأمير عبدالله لأمريكا ومقابلة بوش في أحلك الظروف. ماذا تعني؟ وما النتائج المتوقعة؟ وهل هي امتداد لتحرك دبلوماسي أفرزه تفاقم الأمور، وحرض عليه تمادي إسرائيل في التوغل والحصار والقتل والاعتقال؟ يضاف إليها ما أثير في طريقها من عوائق لتعطيل فعاليتها مثل: عرض لأفلام عن«القاعدة»، وما أثير حول قصيدة السفير«القصيبي»، ورفض شارون للمبادرة، وتصنيف جمع التبرعات على أنه دعم للإرهاب. ولك أن تقول مثل ذلك أو فوق ذلك عن: تعاقب الحروب على أفغانستان. ظاهرة الإرهاب وتعدد المفاهيم. محور الشر كما تتصوره أمريكا وحلفاؤها. التلويح بقطع النفط العراقي والليبي والإيراني عن أمريكا. قمع المظاهرات أو منعها. ثني أمريكا عن ضرب العراق. دعم أمريكا لعمليات الاجتياح كرد فعل للموقف العربي من ضرب العراق. أشياء كثيرة تقرأ على عدة وجوه، والمتابع الشريك يختلف عن المتابع المتأثر الذي ليس له يد في البناء، وليس بقادر على التفكيك السليم، ولكنه يتجرع نتائج الخطاب السياسي في هذه الظروف الأكثر حساسية وخطورة، وليس هناك ما يمنع من محاولة تفكيك أي خطاب، وإن تباينت الآراء وتعددت التصورات. وكم من مشتغل بالسياسة فكك«انتفاضة الأقصى» بوصفها خطاباً سياسياً استرتيجياً أو تكتيكياً، ومع تباين الآراء عند استقرائها، فإنها مرت بتحولات كثيرة، وأبلغت رسالة واضحة للعالم، واخترقت فضاءات عالمية، وغيَّرت مفاهيم كثيرة، وحولت مواقف، وحدت بالمتوحش الإسرائيلي لارتكاب أبشع الجرائم لتركيع المحاصر الفلسطيني وإذلاله. وكان من تداعياتها الرحلات المكوكية بين دول العالم، لإيجاد مخارج من هذه المآزق، ومن بين هذه التحركات مجيء«كولن باول» الذي عاد بخيبة أمل، وهو ما عبَّر عنه الرئيس بوش بقوله:«إما السلام وإما الإرهاب». والقراءة المنصفة أن يقول:«إما السلام وإما الحرب». هذه الانتفاضة الميمونة، كشفت من جانب آخر عن ضعف المواقف العربية، بوصفها مواقف متخاذلة. على أن تفكيك«الضعف» و«التخاذل» بوصفهما سمة الخطاب العربي، يختلف من قارئ لآخر، فالبعض يحيل إلى التآمر العربي على القضية، ويرى أن«الضعف» و«التخاذل» مصطنعان، وأنه بالإمكان اتخاذ مواقف أكثر فعالية، فيما يرى آخرون أن ذلك الموقف طبيعي، وأن الوضع العربي لا يستطيع أن يقدم أكثر مما قدم، ويحيل لسلسلة من الأحداث والقضايا والاتفاقات التي كبلت الخطاب العربي. فمعاهدة«كامب ديفيد»، وحرب الخليج الأولى والثانية، وحرب لبنان، وحرب التحرير الأفغاني، والحروب الأهلية في السودان واليمن والصومال، والخلافات الحدودية، وتعارض المصالح والأحلاف، وتسجيل المواقف، والعنتريات الفارغة، وتباين الأيديولوجيات، والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي، كل ذلك أسهم في صناعة أجواء ملائمة لمثل هذه الممارسات الصهيونية والمواجهات العربية المتخاذلة. والعودة إلى سلسلة الأحداث التي فتَّت في عضد الأمة ضروري ومهم، فقراءة الموقف العربي لا يمكن أن يكون مجدياً، مالم نربط ذلك بكل الأحداث التي اجتاحت الأمة العربية، وأنهكتها مادياً ومعنوياً، وزرعت الشك والارتياب والخوف، والحلقة المفقودة أن بعض المفككين للأوضاع حين لا يقبلون بالرأي الآخر، يحيلون إلى الخيانة والتآمر والعمالة، ولو أنهم قرئوا بذات الآليات والحيثيات/ لكانوا الأكثر تآمراً وخيانة وعمالة، غير أن الأمر مختلف جداً، إن هناك سراً لا يبلغه المفككون، فالسياسة فن الممكن، وهي تتسع لكل الاحتمالات، وسيظل المعنى في بطن صانع اللعبة دون اللاعب، ومتى خفيت بعض الحلقات، تحولت قراءة الخطاب إلى رجم بالغيب. وأي قراءة معمقة لأي حدث أو خطاب لا ترتبط بسلسلة الأحداث إنما هي قراءة مسطحة، وقراءة«الأبيض»و«الأسود» قراءة تعسفية. والإشكالية ليست وقفاً على الواقع، وتفكيك أحداثه، الإشكالية في ذاكرة الإنسان العربي، لأنها ذاكرة معطوبة، تنسى الماضي بكل مآسيه، وتستفتح كل يوم بخطاب جديد، لا يحيل إلى المآسي السابقة، ولا يستعيد صناعها بكل بشاعتهم، وهذا النسيان أو التناسي يصب في مصلحة العدو، لأنه يكسر العظم، ويحرق الأرض، ثم يغسل العار بالتقادم، ويستر الخطيئات بالصفح والعفو عما سلف، والمسيء حين تفضل بإيقاف الإساءة، لا يتعثر بماضيه المجحف بحق القضايا العربية. لقد لعب الاستعمار دوراً دنيئاً منذ«وعد بلفور» ويوم كانت بريطانيا سيدة الموقف، كانت الأكثر ميلاً مع الصهيونية، والأكثر دعماً لها. وقراءة الأحداث حين تجتث من فوق الأرض، ولا ترتبط بجذورها، تغري أي دولة قوية على ممارسة الرض والكسر والإحراق والإزهاق، ثم غسل آثارها بمرور الأيام، لتعود إلى المشهد طاهرة مطهرة، وعلى ضوء ذلك يجب أن نفكك زيارة«كولن باول» باستحضار الخطايا لا بنسيانها، فزيارته محاولة لسل شعرة أمريكا من عجينة المشاكل، وممارسة التطهير، للدخول من باب الأصدقاء الأوفياء، الذين لهم النصيب الأوفى في المغانم، وعلينا الكفل الأكبر من المغارم. والزيارة رغم دعمها والحاجة إليها لم تنجح، فهي في نظر البعض«فاشلة»، وفي نظر الفلسطينيين«كارثة»، وفي نظر أمريكا«حققت بعض التقدم»، وهذه مستويات ثلاثة من التفكيك للزيارة، بوصفها مفردة من مفردات الخطاب الأمريكي.«بول» جاء لإرغام ياسر عرفات على الاعتراف بأن ممارسات المقاوم الفلسطيني إرهاب، وأن ممارسة إسرائيل دفاع عن النفس، والرئيس الأمريكي من ورائه يطالب بدعم عربي لمكافحة الإرهاب، بوصف العمل الفلسطيني إرهاباً، فيما يرى العالم العربي أن الفعل الإسرائيلي هو عين الإرهاب، وبتناقض هذه المفاهيم ستتحول العلاقات العربية الأمريكية من سيىء إلى أسوأ، ومن ثم فإن من الطبعي أن يفشل بول في«مرثونه» بينما يحمِّي «تينت» لمباشرة «مرثون» محكوم عليه بالفشل، والاثنان يركضان في مسارين متوازيين: المسار السياسي. والمسار الأمني. بوصف أحدهما على قمة السياسة، والآخر على قمة الأمن. والأمير عبدالله الذي يحزم أمتعته لمواجهة الرئيس بوش في أحلك الظروف مع ما نشر في طريقه من أشواك أومأت إليها لن يخرج بخطابه عن الصف العربي والأمل الفلسطيني، ومن ثم فلست متفائلاً من الموقف الأمريكي، ولكن يجب ألا نمل من المحاولات. وإذا كان«بول» قد جاء وفي تصوره رؤية الصقور والحمائم الأمريكان، الذين سيفككون مضامين رحلته ويقومونها، فإن الأمير عبدالله سيواجه مهمته وفي باله أكثر من صقور وحمائم عربية. دعاؤنا الصادق أن يكلل الله أعماله بالتوفيق والنجاح، لإيقاف هذا التدهور، وإذا كان المناوئون للمبادرة والزيارة قد نثروا عوائقهم بذكاء فإن الاختراق الجديد من وزير الخارجية السعودي بزيارته«لموسكو» محاولة تمهيدية للضغط على أمريكا، وقد تكون ظهيراً لزيارة الأمير عبدالله، ولست أعرف كيف يقرأ هذا الخطاب؟ وهل سيكون هناك مزايدات كما ألفنا؟ قد تقرأ زيارة الأمير عبدالله لأمريكا، بأنها مواجهة صريحة، وعتاب عنيف للأصدقاء الذين خذلونا في ساعة العسرة. وبول الذي عاد بخفي حنين ماذا سيكون خطابه القادم، وكيف يتم تفكيكه من قبل الأطراف المتلقية، وهو قد ترك الباب مفتوحاً،ولم يؤمن بالطريق المسدود الذي حشر نفسه فيه. جميل جداً أن نجد متسعاً للقراءات المتعددة، والأسوأ أن نسيء الظن بمن يخالفنا الرأي. |
تفكيك الفعل الأمريكي ..!
د.حسن بن فهد الهويمل 1 - لم نصف دور أمريكا بالموقف، وإنما تجاوزنا به إلى الفعل، والدولة الشريكة في الأحداث لها: موقف، وفعل. وأمريكا ضالعة في صناعة الفعل، أو في الرعاية له، أو في الموقف منه، أو في ممارسة الفعل: منفردة أو شريكة. والمطابخ السياسية العريقة تقد القمص على قدر الأبدان، فلا مجال للارتجال ولا للمجازفة ولا للقرارات الفردية ولا للتصرفات الانفعالية، وليس فيما نقول تزكية، ولكنه تحريض على المواجهة بالمثل، وأمريكا صاحبة القدح المعلّى في تعدد المكاييل والموازين والتناقض الصارخ. والتخطي بالتفكيك من الموقف إلى الفعل له دلالته، إذ ربما يكون الموقف مؤيداً لطائفة على أخرى، أو محايداً، ثم لا يكون لحالتيه التأثير الذي نعيشه مع الفعل الأمريكي، ولو نظرنا إلى مواقف الدول الأوروبية على سبيل المثال، لوجدناها كما نومة الذئب الذي: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الأعادي فهو يقظان نائمُ فالأوروبيون ينظرون بعين حذرة وجلة إلى الحق، وبالأخرى إلى المصالح المشتركة مع الخصم، إذ ليس هناك فعل أو موقف إلا بثمن، والأقل الأقل من يأخذ بالحق الإنساني، وبالعدالة المطلقة، وحق الشعوب في تقرير المصير. ومثلما أن لأمريكا مصالح في أوروبا، فإن للأوروبيين مصالح دون تلك في أمريكا وفي الوطن العربي، ولهم قضاياهم ومشاكلهم التي تتطلب حبلاً من الله أو حبلاً من أمريكا، لإنجازها أو تذليل عقباتها، وأمريكا بما تملكه من أذرعة طويلة قادرة على إجهاض المواقف وتقويض الأفعال، يحسب لها القاصي والداني كل الحساب، وليس من المصلحة لأي طرف نسف قنوات الاتصال معها، ما أمكن ذلك. 2- وموضعة الفعل الأمريكي وتفكيكه، يتطلبان إمكانيات استثنائية، إذ ليس من السّهل على المتخصص في السياسة والمشتغل فيها وصانع أحداثها أن يراهن على تمكنه من قراءة السياسة الأمريكية قراءة سليمة، فكيف بالذين لم يتخصصوا، ولم يشتغلوا، وكل ما لديهم لايتجاوز المتابعة الإعلامية، والقليل من القراءة الاستعراضية للدراسات والمذكرات والمقالات المتسطحة والمتناقضة إلى حد الفوضى وبما أن المسموع والمرئي والمقروء عبر الوسائل الإعلامية قد يكون جزءاً من اللعبة السياسية إذ لا يفيض إلا بما يخدمها، وقد يتعمد التضليل، ورد الفعل لا يتجاوز التدفق العاطفي الفارغ من المعلومات والحقائق، بحيث لا يتجاوز الهجاء المقذع أو التبرير الواهي. ولقد كدت أذهل حين قرأت عملين للكاتب السياسي الشهير «محمد حسنين هيكل» يتحدثان عن مرحلة سياسية واحدة شرق أوسطية: أحدهما يعتمد على الخبرة السياسية، فيما يعتمد الآخر على الوثائق السرية المفرج عنها بعد أمة، مع أن الإفراج لا يمتد إلى الوثائق التي تضر بالمصالح القومية، وقد تكون الوثائق مزورة أو مسلوكة في اللعب الذكية، وأحسب أنه لو ألف كتاباً ثالثاً لناقض ما سالف. والحديث في السياسة عن السياسة يقترب من قراءة الكف والتنجيم والضرب بالودع، تنبؤات ورهانات تقترب من الصواب، ولكنها لا تكون عينه، ولو أن الكتاب السياسيين أعادوا قراءة ما كتبوا بعد انكشاف اللعب، لتمنوا أنهم لم يقولوا ما قالوا، ومع هذا فإن القول في السياسة يوفر للكاتب فضاءات واسعة، ذلك أنها في النهاية «فن الممكن». والكتبة لا يلتفتون إلى الوراء ليعرفوا كم حققوا من الصواب، وكم هي مسافة الإيغال في الخطأ، ولم أنهم فعلوا ذلك لخجلوا من أنفسهم. وصناع القرار، والمنفذون له، والمتداولون للقضايا السياسية عبر المؤتمرات واللقاءات يخرجون إلى الناس بوجوه باسمة، وأعصاب باردة، فيما يعيش الأبعدون عن صنع القرار وعن المؤتمرين في أقصى حالات التوتر والانفعال والاستياء، وقد تصل بهم الحال إلى الاشتباك بالأيدي، وتبادل الشتائم والاتهام بالعمالة، ذلك أن المشتغلين والمؤتمرين يعرفون بعض الحقيقة، فيما يعرف سواهم نقيضها، مع الجهل التام بمجريات الأحداث التي تمسهم في الصميم، ومن هنا نشأت المعارضة والخطاب التشنجي. ولأن القول في السياسة لا يحيل إلى مرجعية وثوقية، ولأن بوادر الأحداث لا تعبر بالضرورة عن طبيعتها فإنه من الصعوبة بمكان كشف المتقولين كل الأقاويل على السياسة والمتهمين في تشكيل الوعي الزائف والمحرضين للرأي العام على المواجهة. ومع هذا فالسياسة مغرية على الحديث وعلى السماع، بل تكاد تكون فاكهة المجالس، والمؤكد أن الشعب المسيَّس لا يقل خطورة عن الشعب المعسكر، ولما كانت أجواء السياسة مشحونة بالأحداث الجسام، كان على حملة الكلمة دقة التحري، وتلافي التهييج، وتحامي تصعيد الاحتقان. 3 - والحديث عن الفعل الأمريكي كما التواصل السياسي معها محفوف بالمخاطر التي تمس المصلحة والسمعة معاً، ذلك أنها متوغلة في الخصوصيات، ضالعة في صنع اللعب الموجعة، منحازة لألدِّ الأعداء، والناس بقدر ما هم متوغلون معها فإنهم معادون لها، وتلك معادلة صعبة، قل أن يحسب لها أدنى حساب، وخطابهم إزاءها خطاب عاطفي متأجج، لا تحكمه دراية ولا روية، ومع كل ذلك فإن الجميع يمرون بها في غدوهم ورواحهم، شاؤوا أم أبوا، والحتمية تفرض التفكير الجاد لعبور هذا المنعطف الإلزامي. وكأن أبا الطيب المتنبي يعيش بيننا، يتجرع مرارة الذل الذي نتجرعه، ويعاني المهانة التي نتعرض لها، ويتلوى من التوجع الذي نغالبه، وليس من شك أنه بكبريائه وإبائه وقلة حيلته وهوانه على الناس، مر بما نمر به، وعانى ما نعانيه، وأسقط في يده مثلما أسقط في أيدينا، وذلك حين قال: ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يَرَى عدواً له ما من صداقته بدُّ وأمريكا التي نزعت قناعها، وكشرت عن أنيابها، وكشفت عن ساقيها، وتقاسمت مع «شارون» آلة الحرب المزدوجة: حرب الأسلحة الذكية. وحرب السياسة القوية. أعطته أحدث المعدات، وتولت كبر الحرب السياسية في كل المحافل مع حفظ ساقته «بالفيتو» و«التجويع» و«تسييس الإعانات والقروض» و«تحريك الملفات» التي لا يود المستضعفون تحريكها، وهي رائدة لمقدمته بكل ما تملك. وتظل بكل هذا الانحياز الدولة الوحيدة التي بيدها مقاليد الأمور، ومفاتيح الأعمال، وحل الإشكال، فهي راعية السلام، واللاعب الأهم في كل الأحداث، وصوبها تتجه المناشدات والمظاهرات والنداءات، طائفة تطالب بالمقاطعة لها، وأخرى تطالب بالضغط عليها، وثالثة تصيب الأقربين، وتتهمهم بالعمالة والمواطأة، ورابعة تحدو قومها لاتخاذ أي موقف، يحفزها لكي تحق الحق، وتقمع الظلم، وتوفر الحقوق الإنسانية التي قالت في سبيلها الكثير، وكل الزعماء المثقلون بهموم أمتهم، يعولون عليها، ويتمنون أن يكون فعلها في سبيل الحق، ولو بكلمة واحدة، تحاج لها أمام الناقمين عليها من أصدقاء صدقوا معها، ومتعاملين شرفاء، وفوا بالعهود والمواثيق، ومنحوها دعمهم وتأييدهم في مواقف كثيرة، وصدقوها وهي كذوب. 4 - وأمريكا التي تهتف الجماهير بسقوطها، تظل الأكثر تأثيراً في الأحداث المصيرية، والأكثر حضوراً بأشيائها مع ألد خصومها. ومتى امتلك المعنيون سبيلاً إليها فإن من واجبهم سلوكه، فالحرب العسكرية غير ممكنة في ظل الظروف والإمكانيات القائمة، ولم يبق إلا الحرب «الدبلوماسية» على سبيل «التكتيك» لا على سبيل «الاستراتيجية»، إذ الجهاد فريضة إسلامية، وإذا كان «الأمير عبد الله» يخوضها عبر جولتين: «المبادرة» و«الزيارة» فإن من واجب الأمة كافة أن تشد أزره، وأن تدعو لمساعيه بالسداد والتوفيق، إذ ليس بالإمكان إلا ما كان، ومن يملك خطاباً آخر، أهدى وأجدى فليأت به، فالوضع العربي كافة والفلسطيني خاصة في حالة لا تتطلب المزيد، والمؤتمرون يلتقون في خيمة بين الصفين على أشلاء القتلى لحقن الدماء وفك الاشتباك. والمتجهون إليها، لا يقرون مواقفها، ولا يباركون خطواتها، ولا يمنحون انحيازها مشروعية، ولكنهم يبذلون أقصى حد من العمل لإيقاف هذا الفعل الذي لا يليق بدولة بوزنها، تفرط بسمعتها وبأصدقائها في سبيل شرذمة قليلة، لا ترقب في مؤمن إلاَّ ولا ذمة. ودولة بحجم أمريكا وباقتدارها وبإحكامها اللعب السياسية وصناعة الكذب تستطيع أن تكون «سلفية» و«شارونية» في آن، وهي قد فعلت حين أحكمت قبضتها على الإتحاد السوفييتي في أفغانستان، لقد وطأت أكنافها لكل الإسلاميين، تمدهم بالسلاح والمال والمعلومات، وتحجب عنهم المواقف المناوئة، حتى إذا سقط الاتحاد، نسلت من اللعبة موجهة فوهات البنادق إلى الذين التقت معهم في مصالحها. وحين انجلى الغبار وبان الفرس من الحمار، لم يتحمل المجاهدون فداحة اللعب، فكانت كارثة الحادي عشر من سبتمبر بداية لاستهداف مصالحها، وهنا تحول الغول من «السلفية» إلى «الشارونية»، وظهرت مصطلحات «الإرهاب» و«محور الشر»، وكلتا السمتين «السلفية» و«الشارونية» لا تخرجان عن اللعب السياسية، فنحن نستفظع «التَّشَوْرن» بمثل ما استفظع الاتحاد السوفييتي «التَّسَوْلف». وركوب الموجة حين تكون باتجاه الهدف غنيمة باردة إذ ليس من بأس على راكبها. وعلينا تحت هذه الظروف أن نعمل على توازي الخطوط لا على تقاطعها، فنحن بوضعنا القائم غير قادرين على طرح خطابات مستقلة. وتبقى أمريكا هي أمريكا تتلمظ، وتخلل أسنانها لفريسة أخرى، وفعلها كالأيام التي يداولها اللّه بين الناس فيوم لك ويوم عليك، والذكي من امتلك مرونة التحرك حتى يستقل برأيه وقراره: فإما سلام الشجعان. وإما حرب الأقوياء. «وليسوا بغير صليل السيوف يجيبون صوتاً لنا أوصدى» لقد جاوزوا المدى ولو كنا قادرين: لحقَّ الجهاد وحق الفداء. ولكن ليس بأيدينا إلا حرب الدبلوماسية، فلنتفق على أسلوبها، بانتظار ما لا يأتي. |
صناعة الإرهاب .. بين المناهج الدراسية واللعب السياسية (1/2)
د.حسن بن فهد الهويمل بعد سقوط المعادل الشيوعي، نجمت معضلة (القطب الواحد)،بكل ما يحمله من تسلط واستبداد وبكل ما يرافقه من انعدام لمبدأ التدافع الحافظ للتوازن والتداول. ولما جاءت (دراما) السقوط مفاجئة، وغير متوقعة، ربكت المعادل الذي لم يهيئ نفسه لمهمات (القطب الواحد) وارتبك تبعاً لذلك العالم الثالث بوصفه الغنيمة المتنازع عليها، والمجال الرحب للعب السياسية، والحرب الباردة، والحقل المناسب لتجارب الإمكانيات والمكتشفات وتسويق الصناعات واستغلال الخيرات. هذا العالم المغلوب على أمره، كان يجد في صراع الأقطاب متنفسا للحرية، واستغلالاً للحظات التنازع على الغنيمة، ولما يكن التكتل الأوروبي قد فرغ من رسم سياسته، فحساباته مرتبطة باستمرار القطبين. الانهيار المفاجئ وغير المتوقع للاتحاد السوفييتي، حرض الولايات المتحدة الأمريكية على سد الفراغ السلطوي والنهوض بمتطلباته، ولم تكن أمريكا من الغباء بحيث تفوت الفرصة، وإنما التفت على الإرث بأسلوب ذكي وسريع، وقطعت قول كل خطيب بتصدرها العالم بوصفها الأقدر على قيادته: تقنيا وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً، ولما لم تجد في طريقها من يحول بينها وبين ما تشتهي بعد خلو الجو من المنغصات الشيوعية، فقد بدت هواجسها تدور حول الخصم القادم، وتحرك عقلها الباطن باتجاه التراكم التاريخي. لقد قفزت نظراتها إلى نجاحات الإسلام في تجربته العالمية، وفتوحاته المظفرة، وسرعة الاستجابة له، ودخول الناس فيه أفواجاً، واستحضرت ويلات الحروب الصليبية وتكسر أمواج الغزو الصليبي أمام صمود المسلمين وقوة إيمانهم، واستذكرت تجربة الصراع المرير عبر أحقاب التاريخ، ولم تفكر في الوحدة الأوروبية، فهي معها في خندق واحد، وإن اختلفت المصالح، لقد نظر الأمريكان إلى العالم الإسلامي نظرة ارتياب، ووجدوا فيه المعادل المنتظر، مما حفزهم على تصعيد الصراع معه على كل المستويات: الإعلامية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، حتى لقد تجاوز الصراع إمكانية الاحتمال، حيث دخل في حرب مدمرة، وغير معلنة، تمثلت بالتدخل السافر، والوقيعة المكشوفة، وإثارة النعرات الطائفية والإقليمية، وتزويد الضعيف حتى يقوى ثم الانقلاب إلى خصمه، مما أدى إلى زرع الخوف، واستنزاف الطاقات، وشغل العالم عن التفكير في صناعة نفسه. ولاشك ان استخدام المكر تارة والقوة تارة أخرى، وتصفية الطرف الآخر الذي لايملك سلاحا متكافئاً هو ذروة الإرهاب وسنامه. والغرب يبرر المواجهة مع العالم الثالث بما يمارسه من إرهاب، ولايفرق بينه وبين المقاومة المشروعة لاستعادة الحق السليب من أرض مغتصبة واقتصاد منهوب وحرية غائبة. فهو حين يمتد بسلاحه إلى آفاق المعمورة يصف فعله التسلطي بمواجهة الإرهاب، وبحرصه على إقرار السلام، وحفظ التوازن، وإعادة الحقوق الإنسانية. فيما يرى العالم الثالث ان ممارسة القمع، والتسلط، والإذلال، ومصادرة حقوق الإنسان، والمنع من التوفر على قوة الردع هو الإرهاب، ذلك ان الإرهاب ليس قصرا على ازهاق الأرواح كما يفسره الغرب. ولأن أمريكا تتصور أنها قادرة على قطع شأفة القوة المنافسة، فإنها بحاجة إلى تدمير القيم المعنوية والمقومات الحضارية لطمس المعالم ومسخ الذات. ولتحقيق هذا الحلم فتحت جبهة جديدة على (المناهج الدراسية) بوصفها المنتج لقيم الحضارة والمشكلة لوعي الأمة، والمحددة لمسارها ولموقفها من الأشياء، معتبرة إياها بهذه المهمات محرضة على الإرهاب، وصانعة للإرهابيين، فكان ان وجهت إعلامها ضد (المملكة العربية السعودية)، بوصفها قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، والمحكمة للشريعة والمظهرة للدين، ومتى خضدت الشوكة سهل عليها القضاء على ماسواها، وساعدها على ترويج هذه الشائعة انتماء بعض المتهمين بحوادث الإرهاب إلى المملكة بالجنسية أو بالدراسة، مع ان كل مايشاع كذب لا يحتمل الصدق، وليس صدقا لايحتمل الكذب. والضالعون في تدمير المنشآت والمصالح الأمريكية من مختلف الجنسيات والأعراق كانوا معها في مواجهة الشيوعية، فهي التي صنعتهم، وشكلت وعيهم، وحين تخلت عنهم، وسعت لتصفيتهم، لم يقبلوا بالموت المجاني، وإنما أخذوا ثمن حياتهم بالمواجهة وفق الإمكانيات. والقول بأن المناهج تصنع الإرهاب قول مغالط، والصهيونية المسيطرة على المال والإعلام في أمريكا هي التي تصنع تلك المفاهيم، وفات اللوبي الصهيوني الناشط في ترويج هذه الشائعات ان الإرهاب الحقيقي إنما ينسل من اللعب السياسية التي تصنع في الغرب، وتنفذ في بقاع كثيرة من العالم الثالث. وصناعة اللعب يضطر الصانع إلى الممارسة (التكتيكية) بحيث يتقلب في اعطاف المبادئ، تتناقض خطاباته، وتتعدد أحلافه، وتختلف مصالحه، وقد أشارت (تاتشر) ذات مرة إلى ان الصداقات لاتدوم، لأنها محكومة بالمصالح، والمصلحيون يتلونون كما (الحرباء) حتى لاينكشف أمرهم ولايبطل كيدهم. واللعبة السياسية لايدق خفاؤها حتى ترتبط شكلا وأسلوبا بالمنفذ، وصانعها يحاول قدر المستطاع إخفاء وجوده والحيلولة دون ظهور أي مؤشرات على تورطه. وبراعته تتجلى في بعده عن مسرح اللعبة، وهذا الفعل يضطره إلى القبول بأيديولوجية مناقضة لأيديولوجيته، وتجهيز خطاب إعلامي مغاير لخطابه المعلن، ولربما يكون ناتج هذه المغايرة مخلا بتوازن القوى، الأمر الذي يضطر صانع اللعبة إلى تخلية الموقع من مخلفاتها، وقد تكون عملية التخلية بحاجة إلى لعبة أخرى لإبطال مفعولها، وقد يكون منفذ اللعبة ذكيا، بحيث يستغل الظروف، لكي يصنع آلية اكبر من طاقة صانع اللعبة، وليس شرطاً ان يكون اللاعب واحدا إذ ربما تتداخل اللعب، بحيث لايستطيع المتابع التفريق بين ماهو فعل اضطراري نابع من الحاجة، وماهو لعبة صنعها الأقوياء ونفذها الضعفاء، لحفظ توازن، أو لتأديب متمرد، أو لهبوط بمستوى اقتصادي، أو تفكيك لوحدة قوية، واللعب تكون كونية، وتكون اقليمية، تكون طويلة الأجل أو قصيرته، وقد تكون متبادلة بين طرفين كما الجاسوس المزدوج، وقد يكون حتف الصانع فيها. ولعلنا نستعرض قضايانا العربية، فيما بين العرب، وفيما بينهم وبين غيرهم، وفيما بينهم وبين اسرائيل بالذات، فالمستويات الثلاثة تشكل سلسلة من اللعب بكل أنواعها، ومقاصد اللاعبين في ان تبقى الأمة العربية في مستوى عسكري واقتصادي لايخل بتوازن القوى في المنطقة، ولايجعل اسرائيل في وضع لاتملك معه قمع أي محاولة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية تمس أمنها أو تهدد وجودها، وأحداث المنطقة خلال العقود الخمسة الماضية مليئة بالعبر، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وكل حدث تستطيع ان تقرأه على عدد من المستويات. وحين يضطر صانع اللعبة إلى إعادة الأمور إلى مجاريها، يحس المنفذ لها بالغبن والقهر، ذلك انه أضاع جهده ووقته وماله، تحت تأثير الكذب والخداع، ثم لم يجن من دوره الذي قام به إلا خيبة الأمل، وهنا يفقد صوابه، ويحس أنه بحاجة إلى استعادة كرامته، وإذ لايقدر على المنابذة على سواء، يتخذ الإرهاب سبيلا للنيل ممن غرر به، واستغل سذاجته. واللعب القاصمة تصنع ابتداء في أوكار لاترعى في اللاعب إلاًّ ولا ذمَّة ويكون اختيار المنفذ وفق الموقع الجغرافي المناسب والأعماق السكانية والاقتصادية والحضارية المناسبة، وقد يكون الحدث قائماً وصالحا لكي يحول إلى لعبة، والمتابعون الأذكياء يعرفون اللعب بسيماها، ويعرفون اللحظة التي يدخل فيها الحدث مجال اللعبة، ويعرفون اللاعب الذكي واللاعب الغبي. وحين تشارف اللعبة على النهاية، تقترب شفراتها من الانكشاف، بحيث لايجد صانعها بداً من الانسحاب تاركا اللاعب الغبي يجمع أشلاءه ويراجع حساباته، ولحظة التنوير هي التي تصنع الإرهاب، لأن اللاعب الذي أضاع مقدراته وجد نفسه على المسرح وحده، فيما هرب الصانع بالغنيمة، وهنا يتحول اللاعب المخدوع إلى كتلة من الحقد، يحفزه للأخذ بالثأر، ولأنه لايقدر على إعلان الحرب لفقده الندية فإنه يلجأ إلى العنف والإرهاب ومطاردة الهارب الذي تركه في منتصف الطريق في عقر داره. ذلك وجه من وجوه صناعة الإرهاب، ولو ان المناهج لها دور في صناعة الإرهاب لتحولت الأمة كلها إلى عصابات، والجريمة المنظمة منتج غربي، وليست من الإسلام في شيء، والمناهج مطالبة بالتأصيل، وتحرير المسائل، وتشكيل الأمة على هدي من نصها المقدس. أما الوجه الآخر من وجوه صناعة الإرهاب، فهو تسلط الأقوياء على الضعفاء: شعوباً أو دولاً أو جماعات أو أفراداً، فالمقهور حين يتجاوز القهر معه حد الاحتمال، ينفجر في وجه من قهره، ذلك ان الحياة قيم وفلسفة ومعنى، وحين تفقد قيمها ومعانيها يكون الانتحار الفردي أو الثورة الجماعية، فالصبر له حدود والاحتمال له نهاية، والتدخل السافر في أمور الدول الضعيفة وقضاياها وفرض الحلول المناسبة للمتسلط تؤدي في النهاية إلى مواجهة دامية تجسد مقولة: (عليَّ وعلى أعدائي). والعالم الثالث مسرح القهر والتسلط، ومع ذلك لم تمتد يده إلى مصالح الأقوياء، ولا إلى أراضيهم ولكنه كبت وغلت يده، وحيل بينه وبين حقوقه المشروعة. ان هناك وجودا تسلطياً من الغرب، ودعماً لحكام متسلطين، وهناك نزاعات إقليمية وطائفية، يحركها الغرب، ويمولها، ويسهم في إشعالها، فيما لم يحاول العالم الثالث التدخل في شؤون الكبار، وهو غير قادر على ذلك، ان الظلم، والقهر، والكبت، وسلب الحريات، ودعم الحكام المتسلطين، واستنزاف الخيرات، وإحداث العداوات بين الأشقاء، ونصر جانب على آخر مدعاة إلى الكره والحقد الذي يترجمه المقهور بالتفجير والمظاهرات وضرب المصالح. |
صناعة الإرهاب بين المناهج الدراسية واللعب السياسية..!(2/2)
د. حسن بن فهد الهويمل وإذا كان العالم الثالث يواجه حرب تجويع وتطويع، فإن العالم الإسلامي يواجه حروباً مزدوجة: شيئية وحضارية، ولن يستقيم أمر العالم كلِّه مع الظلم والتسلط، وكبت الحريات، والإخراج من الديار، وتدمير الحضارات. والدولة الظاملة: مسلمة أوكافرة عرضة لأخذ الله وقصمه وإهلاكه {وّكّذّلٌكّ أّخًذٍ رّبٌَكّ إذّا أّخّذّ پًقٍرّى" وّهٌيّ ظّالٌمّةِ (102)} [هود: 102] و {وّكّمً قّصّمًنّا مٌن قّرًيّةُ كّانّتً ظّالٌمّةْ (ر11)} [الأنبياء: 11] و{وّمّا كّانّ رّبٍَكّ لٌيٍهًلٌكّ پًقٍرّى" بٌظٍلًمُ وّأّهًلٍهّا مٍصًلٌحٍونّ (117)} [هود: 117]، والدولة العادلة: مسلمة أو كافرة أضمن بقاءً واستقراراً. وأمريكا بالظلم أو بالمواطأة عليه، تفقد الأنصار والاستقرار والاستمرار، وتنمي العداوات والخصومات. وعمليات الحادي عشر من سبتمبر ألحقت أضراراً بهيبتها واقتصادها، وأعطت المناوئين لها أملاً في محاولات جديدة تصيبها في الصميم. وإحالة المواجهات إلى (صراع الحضارات) دعوة باطلة، فالإسلام دين متسامح، مصالح، مسالم، ينابذ على سواء، يُسْمع المستجير كلام الله ويبلغه مأمنه، ويدفع بالتي هي أحسن، ولا يكره على دين {أّفّأّنتّ تٍكًرٌهٍ پنَّاسّ حّتَّى" يّكٍونٍوا مٍؤًمٌنٌينّ (99)} [يونس: 99] و {لا إكًرّاهّ فٌي پدٌَينٌ(256)} [البقرة: 256] و{أّنٍلًزٌمٍكٍمٍوهّا وّأّنتٍمً لّهّا كّارٌهٍونّ (28)} [هود: 28] لا يمنع من علم، ولا يكبت غريزة، دين الفطرة والعدل والإحسان والحرية. ومع ذلك شرع الجهاد والحدود، وعقوبة المحارب والمرتد، ونظم علاقاته مع دار الحرب والسلام وأهل الذمة، وصدق الله {مَّا فّرَّطًنّا فٌي پًكٌتّابٌ مٌن شّيًءُ (38)} [الأنعام: 38] فالمواجهات أخْلاط من صراعات تؤزها المصالح والاستراتيجيات والأحلاف، والإرهاب في ظل هذه الأطماع، لا يمكن أن يحال إلى حضارة، ولا إلى فكر، ولا إلى مناهج، وقول دول الاستكبار:« إنه صراع حضارات»، مشرعن للاعتداء ومهيج لمشاعر المواطن الغربي لدعم تسلطه. ولو أراد الغرب القضاء على الإرهاب لتوقف عن صناعة اللعب السياسية، وتعامل مع شعوب العالم على قدم المساواة، وكفَّ عن التدخل في النزاعات (الإقليمية) و(الإثنية) و(الطائفية) و(وحد المكاييل) وحفظ (توازن القوى) ومكّن الجميع من (قوة الردع).وكيف تقر عينه وهو يغذي بؤر التوتر، لقد كان فاعلاً رئيساً في أحداث فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان والصحراء والسودان وأرتيريا والصومال وأنغولا وموزمبيق والتشاد وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، وسائر النزاعات والحروب لإحكام سيطرته، حتى إذا شارفت اللعب المدمرة على النهاية، دبَّر اغتيال اللاعبين الضالعين، وعاد بثوب المصلح لذات البين. والغرب المتماكر المتوغل في صناعة الإرهاب يخادع قومه بالتأكيد على أن الدين الإسلامي مصدر الإرهاب ومأوى التخلف، وما كبرت في عيوننا تلك الاتهامات التي تخرج من أفواه إعلامه، فهي لا تبعث على الاستغراب، ولا تحمل على الانفعال، فالإسلام يتلقى عبر مسيرته إفْكاً وأذى كثيراً. والإعلام الغربي المتصهين حين يوغل بقوله: - إن المناهج التعليمية في المملكة خاصة تصنع الإرهابيين، فإن ذلك قول متوقع من مثله على مثل المملكة، وجميل أن يظهر المتصهينون ما بأنفسهم، وجميل أن يجاهروا بما يتناجون به من الإثم والعدوان وعلينا أن نستقبل اتهاماتهم بالحلم والأناة ورباطة الجأش، كي نتمكن من إبلاغ مقاصد ديننا وإنسانيته ورأفته وإكرامه للإنسان، دون نظر إلى دين أو لون، فنحن أصحاب رسالة ومهمة في الحياة. وهم يحوكون المكائد لإثارتنا، وفقد صوابنا، كي نعجز عن السيطرة على مشاعر الثورة والغضب فينا، ومن ثم يحققون رغباتهم الشريرة، وبهذا نكون قد ساعدناهم على أنفسنا، وحققنا مرادهم، إن من واجبنا أن نسمع، ومن حقنا أن نرد، وليس من اللائق أن نثور ونمور. والعقلاء المنصفون يعرفون أن الإرهاب قائم منذ (هابيل) و(قابيل) و(الغراب) الذي يري الظالم كيف يواري سوأة أخيه. والإرهاب مفهوم نسبي أزلي استأثر بالأهمية بعد أن رمى الله برجي أمريكا فهدمهما، وحين لا نؤيد الفعل، لا نقبل الإحالة على الإسلام. ولو نظرنا إلى التمرحل الزمني لمصطلحات ((الإرهاب)) و((العنف)) و((التطرف)) و((اللاعنف)) و((المقاومة السلمية أو المسلحة)) لوجدناها مع الأيام في تقلبها، وتداولها، ولوجدنا الفاعلين والقائلين عنها أوزاعاً مختلفين، فهم بين الإفراط والتفريط، والتطبيق والتنظير، فـ«الصليبيون» و«النازيون» و«الفاشستيون» و«الثوريون» منتج غربي، ونجد على رأس المطبقين «للمقاومة السلمية» ((غاندي ت 1948م)) وله فلسفته التي عرفها كل المشتغلين في مقاومة الاستعمار، وعلى رأس المنظرين المفكر الجزائري «مالك بن نبي ت 1973م» الذي عاش أحداث حرب التحرير الجزائري، وتجرع أحزان المليون شهيد، وجاء من بعده «جودة سعيد» ليحيد بالمبدأ عن جادة الصواب، متطرفاً في «اللاعنف»، وآزره على ذلك الدكتور «خالص جلبي». وهذا الإغراق في «الحمائمية» لم ينظر إلى عنف «الصقور»، وخطاب «جودة سعيد» تعطيل للجهاد الإسلامي، وإجهاض للمقاومة المشروعة، دون إدانة للطرف الآخر الذي يمثل أقصى حد في التسلط وسباق التسلح. والمؤكد أن التطرف والإرهاب والعنف لا يرتبط شيء منها بزمان ولا بمكان ولا بدين ولا بقومية، إنها عمل إجرائي، تفرضه الظروف، ويفرزه أسلوب التعامل بين أطراف متعددة، ويحدو إليه الظالمون، فالكبت في الديار أو الإخراج منها، يحدث الانفجار، والظلم هو المنتج الطبيعي للإرهاب، والدول المتسلطة، والحكام الجائرون، حين يكتمون الأنفاس، ويسلبون الحريات، يحملون على الإرهاب، وما حيلة المضطر إلا ركوبه. ولما كانت الحياة فلسفة وموقفاً، أصبح من المتعذر القبول بها على غير مفهومها، وعمليات الانتحار الفردي أو الجماعي تعبير عن رفض الحياة المناقضة للموقف وللفلسفة، غير أن الانتحار موت مجاني أثيم، لا يقره الإسلام، فيما تكون العمليات الانتحارية موتاً بثمن، والحياة في نظر البعض مجموعة من القيم، وليست مجرد الأكل والشرب والمشي في الأسواق. وعندما يفقد الإنسان القيم الحياتية يصبح في نظر نفسه ميتاً، وإن عاش كما الحيوان. والتسلط استلاب للقيم، ودخول في العدمية، وحمل على العنف والانفجار، إذ ليس هناك أهم من الحرية والأمن بكل مفرداته، وعند فقد الحرية والأمن يتحول الإنسان إلى حيوان غير أليف، ينتزع طعامه ويوفر حريته وأمنه بالناب والمخلب. وحين يكون المضطهد واعياً لإنسانيته، تفقد الحياة بفقد الانسانية قيمتها، ويصبح الموت هو الحل الطبيعي، وإذ لا يكون من مصلحة المضطهد أن يموت بلا ثمن فإنه يقدم على انتزاع قيمة حياته المهدرة بمبادرة الموت عن طريق تدمير العدو وأشيائه، ومن هنا يكون الإرهاب الاضطراري الذي دفع إليه الظالم، ولم تبادر إليه الضحية. وليس بعيداً أن يكون الإرهاب جزءاً من اللعبة، أو ناتج غلوٍّ أو تغرير، أو تحرفاً لقتال، إذ لكل ظاهرة شفراتها، والإطلاقات والتعميمات لا تحرر الظواهر والقضايا. ومقاومة الظلم يسميه الظلمة إرهاباً، ولكنه في حقيقة الأمر مقاومة مشروعة، والقتيل في هذه الحالة شهيد، وقد سماه الدين الإسلامي شهيداً، فالقتال دون الدين أو النفس أو العرض أو المال أو الأرض قتال مشروع، والحرب خدعة، الذكي الحاذق هو الذي يختار أسلوب المواجهة. والخلاف بين الفقهاء حول مشروعية العمليات الانتحارية المتمثلة بتفجير الذات خلاف معتبر، ولكل عالم حيثياته وشواهده واستنباطاته، ولا يجور للمختلفين تبادل التهم، وإنما المشروع تبادل الأدلة والحجج، وبسط الآراء أمام الرأي العام، لتحرير المسائل وإبراء الذمم. ثم إن الإرهاب من حيث الحكم إرهابان: - مشروع .. ومحظور. وهو من حيث النوع إرهابان: - إرهاب مسلح .. وإرهاب فكر. ومنه التعصب الأعمى للمعتقد، الموصِّل لتأليه الهوى، وظاهرة الفرق الغالية في الحضارة الإسلامية كما تحدث عنها «السامرائي» في كتابه، قائمة في كل الديانات، وعنها نجمت ظاهرة «التكفير»، وتلك إشكالية، وقعت فيها بعض الطوائف الإسلامية: القديمة والمعاصرة، وقراءة كتاب «الغلو في الدين» للدكتور «عبدالرحمن اللويحق» تقف بالقارئ على جذور التطرف، من معتقدات ونحل، استخفت بأمر التكفير وبالدماء المعصومة. وقد تقصى ظاهرة «الصحوة» و«التكفير» طوائف من العلماء والمفكرين المعاصرين، من مثل «عبدالفتاح شاهين» و«نعمان السامرائي» و«سالم البهنساوي» و«عبدالله القرني» و«مقداد يالجن» و«القرضاوي» و«حسن العواجي»، و«حامد سليمان» في كتب مستقلة، فيما وقع آخرون في الأرجاء من مثل «خالد العنبري» و«علي الحلبي». والإسلام ينهى عن التنازع، وعن حسم الخلاف بالقتال بين المسلمين، وفي الحديث:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، وعلى خلافه القتال لقمع الفتنة، وقتال الخارجين على وحدة الكلمة أو وحدة الصف.لقد نجم في العصر الحديث طوائف إسلامية مسيَّسة، اعتمدت على المواجهات الدموية والتكفير، وتبنت الخطاب الثوري، وتعقب هذه الظاهرة علماء ومفكرون، كتبوا عنها بأساليب متفاوتة، ودوافع مختلفة، وفي المقابل تناول كتّاب ومفكرون علمانيون وعقلانيون وليبراليون هذه الظواهر بالدراسة أو بالمواجهة، ومن أهم الكتب «الإرهاب: إسلام أم تأسلم»، وسلسلة «كتاب النقد» عن العنف الأصولي، وبحوث المنتديات و«الأصولية» كتابان مترجمان لـ«دليب هيرو» و«ريتشارد هرير دكمجيان». والحديث عن العنف أو التطرف أو الإرهاب يستدعي حركات إسلامية وصفت بـ«الأصولية» و«الوصولية»، وتصدى للإسلام من خلالها مفكرون يتخذون من الماركسية والعلمانية وسائر المذاهب الغربية ملاذاً ونصيراً، ووجدها الغرب فرصة سانحة للوقيعة بين المنشقين على أنفسهم. فالماركسيون والحداثيون والعلمانيون والإسلاميون، ينتمون إلى لغة واحدة، وحضارة واحدة، وتحتضنهم جغرافيا واحدة، والجدير بهم التلاقي على كلمة سواء، وهذه الفرصة النادرة، مكنت الحضارة المعادية من الوقيعة، وسك المصطلحات، وإشباعها بالمفاهيم السيئة، وإلصاقها بالمنظمات الإسلامية، تمهيداً لاختراق تنظيماتها، وزرع بذور الفتنة بين أفرادها، ولقد تولى التنويريون التصدي الإعلامي لكل التنظيمات الإسلامية، وبدل أن تتجه فعاليات التنظيم للدعوة والحوار الهادي، استنزفت طاقاتها في الدفاع تارة، والهجوم تارة أخرى، ولم تكن «الأصولية» وقفاً على الإسلام، فقد تقصتها «كارين آرمستونج» في كتابها «معارك في سبيل الإله»، وكنت قد نشرت في جريدة «البلاد» قبل سنوات عشر حلقات عن «الأصولية والوصولية» ووعدت بالعودة، ولما أعد.. والإرهاب يكون فردياً وجماعياً ودولياً، وكل من تخطى أرضه، وخاض الحروب والدسائس للإخضاع أو للاستغلال فهو إرهابي، عرف ذلك واعترف، أم جهل وأنكر. والصهيونية الغاصبة، الحاقدة المتعطشة للدماء والدمار، حين تُعميها الضغائن، وتضلها الأحقاد، تصعِّد بهمجيتها الموت المجاني، تكون إرهابية تفرض المقاومة المشروعة، وتسميها إرهاباً، وحين يرى الإنسان الفلسطيني المحاصر أنه يموت بلا ثمن، يحفزه ذلك على قبض الثمن الربيح بالعمل الفدائي. فالمقاوم الفلسطيني يبرر فعله بقوله تعالى {وّمّا لّنّا أّلاَّ نٍقّاتٌلّ فٌي سّبٌيلٌ پلَّهٌ وّقّدً أٍخًرٌجًنّا مٌن دٌيّارٌنّا (246)} [البقرة: 246] ، وكل الدول الغربية خاضت معارك التحرير، وسمت فعلها بطولة وفداء، فلماذا شرعنت لفعلها، وجرَّمت الفعل الفلسطيني. إن التعدي السافر، وقتل النساء والأطفال والشيوخ، يحرض على المواجهة والرد الأعنف. والقوة النظامية المدججة بأحدث الأسلحة، والموجهة من غرف العمليات، والمحروسة من كل الجهات، والمزودة بأدق وسائل الحماية وأرقى آليات السبر والتحري والاستشراف، حين تمارس - وبأسلوب متغطرس - التدمير والتجويع والتركيع، ينهض الأباة لرفض الركوع والاستسلام، فتعديها ظلم، ودفاعه حق. وسيظل العمل الفدائي قائماً، حتى تعي إسرائيل ومن وراءها أن الإنسان العربي يستكين، ولكن الكرامة لن تموت بداخله، وإذا طلب العاجزون الانسحاب، وإيقاف الاعتداء، فإن النفوس المجروحة لن ترضى فقط بإيقاف العمليات دون حساب وعقاب، وإن سكنت لتمرير الاتفاقات، فالدم لا يغسله الماء، ولا تواريه الأحبار. والمناهج الدراسية: مادة وأهدافاً ومقتضيات تركيب متوازن من القيم والتصورات والمعارف والمهارات، روعي في إعدادها حاجة الأمة المتجددة ومتطلبات حضارتها. ولأن لكل أمة حضارتها المشتملة على عقيدتها وشرعتها ومنهاجها فإن من أبسط حقوقها أن تشكل وعي أفرادها على ما يحقق هويتها، فالتفقه في الدين مطلب أولي. والقرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهرة بوصفهما المصدرين الرئيسين للتشريع، لا ينطويان على عنف، ولا على إرهاب، ولا على تسلط. {أٍذٌنّ لٌلَّذٌينّ يٍقّاتّلٍونّ بٌأّنَّهٍمً ظٍلٌمٍوا (39)} [الحج: 39] ، {فّلا عٍدًوّانّ إلاَّ عّلّى پظَّالٌمٌينّ (193)} [البقرة: 193] ، {وّلا تّعًتّدٍوا إنَّ پلَّهّ لا يٍحٌبٍَ پًمٍعًتّدٌينّ (190)} [البقرة: 190]، {فّمّنٌ \عًتّدّى" عّلّيًكٍمً فّاعًتّدٍوا عّلّيًهٌ بٌمٌثًلٌ مّا \عًتّدّى" عّلّيًكٍمً (194)} [البقرة: 194] ، {لا يّنًهّاكٍمٍ پلَّهٍ عّنٌ پَّذٌينّ لّمً يٍقّاتٌلٍوكٍمً فٌي پدٌٌَينٌ وّلّمً يٍخًرٌجٍوكٍم مٌَن دٌيّارٌكٍمً أّن تّبّرٍَوهٍمً وّتٍقًسٌطٍوا إلّيًهٌمً(8)} [الممتحنة: 8] ، كما أنهما يحثان على الجدل بالحسنى، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجنوح إلى السلام، والله قد كرم بني آدم ورزقهم من الطيبات، ونهاهم عن القتل إلا بالحق. وإذا وقعت بعض الطوائف الإسلامية في خطأ التأويل فإن هذا لا يحال إلى الإسلام. وإذا احتربت العرقيات أو الطائفيات كما في «الجزائر» و «أفغانستان»، وشرعنت فعلها بالإسلام، كذب ذلك «النص» و «التاريخ»، فالرسول صلى الله عليه وسلم عايش المنافقين، ولم يشهر السلاح في وجوههم، مع فضح القرآن لهم. إن على الغرب لكي يعيش آمناً مطمئناً أن يتحرر من اللوبي الصهيوني، وألا يمنحه (الفيتو) و(السلاح) وأن يتخلى عن غطرسة القوة، وعن الظلم الذي حرمه الله على نفسه، وأن يوحد مكاييله، وإن لم يفعل فليستعد للفتن العمياء والإرهاب العنيف، مما لا تصنعه المناهج، ولا يحبذه الإسلام: (ومن عاشر بالمكر كوفئ بالغدر). |
أيها الخليجيون خذوا حذركم من العمالة..!
د. حسن بن فهد الهويمل كل أسواق الجذب في العالم تمر بمخاضات موجعة، وهي إذ تكون مضطرة أو ملزمة باستيعاب العبوات الناسفة من العمالة المتفاوتة، يكون من واجبها أن تتحسس مواقع أقدامها، وأن يكون لديها الاستعداد التام لرفع درجة الحذر والحيطة، وتوجيه كل طاقاتها لرصد رياح التغييرالناتجة من تقاطر الوافدين الذين لا ينظرون إلا بعين الكسب: مشروعاً كان أو غير مشروع، وما يتركونه من آثار سيئة على كل المستويات. وحين ينعم الله على الأمة بالمال الوفير، والأمن الوارف، والخطط التنموية الطموحة، يتهافت عليها العاملون والمستثمرون، وتمارس معها الضغوط لتسهم في فك اختناقات البطالة عند الآخر، وقد تستدرج بالإغراء تارة، وبالترغيب أو الترهيب تارات أخرى، وتكون عشق الملايين من الناس ومهوى أفئدتهم. وإذا كان المعسرون يعانون الأمرين في سبيل الحصول على لقمة العيش، فإن الموسرين يعانون مثل ذلك في سبيل ترشيد المسار، وتحامي الانزلاق في مهاوي الترف واللامبالاة. وضريبة الغنى كضريبة الفقر، والمسألة في النهاية معادلة صعبة أو تعادلية متوازنة، فلكل وضع مشاكله، وأسلوب مواجهته، ومن ظن أن الموسرين على شيء من الراحة والاسترخاء، فقد وهم، فالحياة كلها كبد ومغالبة، وللأغنياء مثلما للفقراء همومهم وتطلعاتهم. وقدر (الخليج العربي) أنه منطقة جذب، يتهافت عليه أفواج من الناس المختلفين في لغاتهم وأعراقهم ودياناتهم وعاداتهم وأخلاقياتهم، يستنزفون الخيرات، ويضيقون فرص العمل على أبناء الوطن، ويتركون آثاراً سيئة لا يعرف مداها إلا المكتوون بها، ومع أن تلك الظاهرة عبوة موقوتة فإن الناس ألفوها، وعايشوها، ولم يأخذوا حذرهم منها، والراصدون لآثارها من رجال الأمن والتربية والاقتصاد يكتمون بعض ما يعرفون خوفاً من إزعاج الناس، ولو أنهم أظهروا ما عرفوا من إشكاليات العمالة، ثم وضعوه بين أيدي الكافة بكل بشاعته، لأخذ الناس حذرهم، واكتفوا بالأقل من العاملين، والدليل على ذلك أن المكتوين بويلات البعض منهم صرفوا أنظارهم عن الاستقدام أو الاستعانة فضلاً عن التوسع. لقد كانت لي إلمامات خليجية، تقف بي على متجر هنا، أو فندق هناك، أو منتزه هنالك، وفي كل موقع أشعر أني غريب الوجه واليد واللسان، حتى لكأني في ملاعب الجنة التي قال عنها (المتنبي):- (لو سار فيها سليمان لسار بترجمان). مع أن الله علمه منطق الطير، وهذه الغربة لا شك أنها موغلة الأثر في الأسر الخليجية، ولا سيما الأطفال، والتلقين في الصغر كالنقش على الحجر، فما يتلقفه الصغار من لغة أو عادة يتأصل في وجدانهم، وكأنهم ورثوه من الآباء والأجداد. وإذا تركت العمالة أيسر ما عندها من سلبيات، ورحلت، تحولت ظواهرنا الاجتماعية إلى خليط عجيب، لا تعرف له أصلاً ولا فصلاً، وتلك رزية لا قبل لنا باحتمالها، ولو كانت تلك المؤثرات عربية لما كان في الأمر من بأس، ولكنها أخلاط متناقضة، وعجمة مستحكمة، ومما يؤسف له أن العمالة ربما تجمع بين العجمة واختلاف الدين والتخلف بكل وجوهه، والطفل المولود على الفطرة يجد المربية والسائق والخادمة الذين قد لا يهودون ولا ينصرون، ولكنهم ينسون الأطفال ما تعودوه من آبائهم وأمهاتهم، وإن لم يتهودوا ويتنصروا فإنهم بلا شك سيتأثرون بمن لا يذكرون الله ولا قليلاً، ومن ثم تتحول البيئة إلى بيئة موبوءة، وهذابحد ذاته كاف لإطفاء المشاعر وتبليد الحواس، وكيف تتأتى لنا التربية السليمة والآباء والأمهات لا يلمون بأطفالهم إلا قليلاً، وما أجمل مقولة شوقي عن غفلة الآباء وانشغال الأمهات:- ليس اليتيم من انتهى أبواه من همِّ الحياة وخلفاه ذليلاً إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلَّت أو أباً مشغولاً ولو أن هذه الإشكاليات جلبتها المؤسسات الحكومية لسمعنا تشنجاً وعويلاً، أما وقد كان المواطن هو الفاعل مع سبق الإصرار فإننا لا نسمع عنها إلا همساً، والأسرة الخليجية مهددة من «الخادمة» و«السائق» و«عامل النظافة» و«المسوِّق» وهذا الحصار المحكم الذي صنعناه بأيدينا لا يمكن أن يمر بسلام، ولو أن جهات الأمن كشفت عما تضبطه من سوءات وإساءات تمس كل جوانب الحياة لعاش الإنسان الخليجي في خوف لا قبل له باحتماله، وكيف تطمئن نفوس واعية والبلاد يسرح فيها ويمرح أكثر من ستة ملايين وافد، تختلف مستوياتهم ولغاتهم وعقائدهم وعاداتهم، منهم المرضى، ومنهم المجرمون، ومنهم المشعوذون، ومنهم الناصحون الساعون في فجاج الأرض لطلب الرزق الحلال، فيما يقابلهم من المواطنين العاميون، والمعسرون، والمستغلون، والمتحايلون، والمهملون والمغفلون والقابلون للاستغلال، هذه التركيبة العجيبة لا يمكن أن تأتي معطياتها سليمة كما يتوقعها المتفائلون. ومما يضاعف الإشكالية المتسللون من الحدود والمتخلفون من الحج والعمرة والهاربون من كفلائهم والمتسترون على كل هذه المخالفات من المواطنين الذين يواطئون على الخطيئة. والعدد المخيف يتزايد يوماً بعد يوم، والإشكالية أن الجهات الأمنية والمواطنين على الخطيئة في سباق (مرثوني) فكلما أحكمت الجهات الأمنية ضوابطها، خرق المتحايلون على النظام خرقاً يتسع على الراقع، حتى إذا بدا عواره تداركه واضع النظام. ومع تزايد العمالة، وتشعب إشكالياتها فإن المملكة تعد من أعلى دول العالم في نسبة المواليد، ومن أعلاها نسبة في فئة الشباب المحتاجين للعمل أو المقبلين عليه، وظاهرة البطالة بادية للعيان بنوعيها: البطالة المكشوفة والبطالة المقنعة. ومما يؤزم البطالة انعدام عنصر المنافسة، فالوافد يجد نفسه ميسور الحال بأقل الأجور، فيما لايكفي ما يتقاضاه لسد قيمة المحروقات أو أجور المكالمات للشاب السعودي، وهذا الفارق يحفز صاحب العمل على التمسك بالعمالة بقوة النظام أو بالتحايل. ومما يضاعف الإشكالية أن العمالة الوافدة يستدعيها من لا يحسن إدارتها، أو من لا يستطيع الوفاء بحقوقها، حتى إذا وقعت الواقعة بسبب الجهل أو العجز تسربت العمالة من بين أيدي الكفلاء بالتواطؤ أو بالحيلة، وحين لا تجد الكسب المشروع، التمسته في الكسب غير المشروع، فتكون السرقات والاختلاسات والسحر والشعوذة والتطيب الشعبي وصناعة الخمور والقمار والدعارة، ويكفي ما نواجه به من أخبار مفزعة عن تصاعد نسبة الهروب، وبخاصة عند فئة الخادمات، وما نسمع به من عثور عن طريق الرصد أو بالصدفة على أوكار الخطيئة المتعددة. وقد تضيق السبل بالعمالة، أو يقسوا الكفلاء على المكفولين، فيكون الغدر القاسي الذي قد يقع على الأطفال الأبرياء. وكل هذه الظواهر لو عرفها الناس لما فُزِّع عن قلوبهم، ولكن الجهات الأمنية تتكتم خوف الإزعاج، وما كان من مصلحة المواطن أن ترأف الدولة بمشاعره، حتى يقع في الكارثة من حيث لا يدري ، إن على أجهزة الأمن أن تكشف عن كل هنات العمالة، وأن تضع المواطن في الصورة، ليأخذ حذره، ويقلل من فرص الاحتيال على النظام ، وتسريب المكفولين للعمل غير المشروع. وإذا كانت المملكة بسبب عمقها الجغرافي، وكثافتها السكانية، قد احتملت شيئاً من هذه السلبيات، واستوعبت الكثير منها، فإن بقية دول الخليج نالها من هذه التركيبة الغريبة ما لا يمكن احتماله، وهي مقبلة على مؤثرات لغوية وسلوكية، قد تطمس الهوية، وتقلب التركيبة السكانية رأساً على عقب. وتلك الظواهر لم تكن وقفاً على الخليج فلقد مرت بها دول كثيرة واتخذت من الاحتياط ما خفف الآثار السيئة، وعلينا أن نستفيد من تجارب الآخرين ، نجد ذلك في أمريكا الشمالية والجنوبية قبل قرن من الزمن، حيث كانت مواطن جذب واغراء فيما كان المشرق العربي إذ ذاك موطن طرد، فكان أن نشأت ظاهرة (المهجرين العرب ) حيث كان لتكتلهم وتعلقهم بلغتهم وآدابهم نتائج إيجابية، بحيث نشأ ما عرف ب (الأدب المهجري)، وذلك على مستوى المهاجرين من الشام. أما في (نجد) التي يقول أهلها عنها: إنها تلد ولا تغذي، فقد عرفت ظاهرة (العقيلات) وهم رجال عصاميون من حواضر نجد، خرجوا للتجارة والعمل، وعاد من عاد بعد الاستقرار والرخاء ، وبقي منهم خلق كثير، وقد شكلوا فيما بعد تاريخاً استهوى طائفة من المؤرخين، وسيقت عن بعضهم حكايات بطولية، ووسع الشعر العامي طائفة من حكاياتهم، وانتهت ظواهر (المهجرين) و(العقيلات) لتحل محلها ظواهر أدهى وأمر، هي ظاهرة (هجرة الأدمغة) و(الكفاءات العلمية) لتوفر المناخات العلمية والتقدير المادي. إضافة إلى ظاهرة اللاجئين الذين لم يحتملوا جور الحكام، ولم يطيقوا شظف العيش، لقد فاضت الملاجئ بالحزبيين والخارجين والمناوئين والهاربين، وكل ذلك ناتج قلق سياسي واضطرابات أمنية وضلوع في اللعب السياسية، وكل هذه الظواهر جعلت الكافة من الخليجيين يعولون على غير العرب في سد حاجتهم في الأيدي العاملة، الأمر الذي أخل في تركيبتهم السكانية، وأفسد عليهم لغتهم، وستظل العمالة مصدر إزعاج وبؤرة عادات سيئة وعاميات غير مستقرة وبطالة مؤثرة على القيم المادية والمعنوية، وواجب الخليجيين تدارك الأمر قبل فوات الأوان. والأمة أحوج ما تكون إلى (عوربة) العمالة بعد تسويات سهلة، فالأقربون أولى بالمعروف. وأحوج ما تكون إلى الفصل بين العمالة والعلاقات السياسية ورياح التغيير. وأحوج ما تكون إلى مراعاة الحاجة، بحيث لا تنظر إلى تخفيف حدة البطالة عند الآخر، والأجدى لها أن يكون بحث شؤون العمالة اقتصادياً صرفاً، يدار وفق الحاجة، من حيث الكم، ومن حيث النوع، ومن حيث نسبة العمالة إلى نسبة السكان، وعبر مؤسسات متخصصة بشؤون القوى البشرية، لا مؤسسات مهتمة بالأمور السياسية. ونحن في المملكة أحوج ما نكون إلى تجميع شتيت المسؤولية، إذ أن وزارة الداخلية، ووزارة العمل، ووزارة الخدمة المدنية، تقتسم المسؤولية، وقد لا تتبادل الخبرات والمعلومات، وحين توحد جهة الاختصاص، وتسلخ الإدارات من تلك الجهات لتجتمع في دائرة واحدة، تكون الأقدر على التقدير والتقويم والتدبير والتطوير والرصد الدقيق.كما أننا أحوج ما نكون إلى حماية السواعد الشابة التي زوحمت في عقر دارها، ومورس معها الإغراق بأرخص الأسعار، وتتم الحماية بمضاعفة الضرائب مع استثناء المؤسسات الإنتاجية كالزراعة، وبتمويل مراكز التدريب من تلك الضرائب التصاعدية، والإغراء على التدريب، وذلك بصرف مكافآت مغرية للمتدربين على المهن التي تتطلب مهارات، وتمكين المتدربين بعد استكمال تعلمهم من فرص العمل، وذلك بمنح قروض ميسرة، بدعم من البنوك، وفي سبيل تحسين الأوضاع لابد من تجميع الوحدات الصغيرة من الورش بمجمعات مشتركة تستفيد من التأمين والخدمات الصحية والقروض وغيرها. أما عن العمالة المنزلية فيحسن إنشاء شركات نقل لخدمة الأسر التي تحتاج إلى خدمات النقل، وتحويل كفالة الخادمات إلى شركات بدل كفالة العوائل، على أن يكون عملهن باليوم أو بالشهر أو بالسنة، وفق ساعات العمل المطلوبة بحيث يسهل الاستبدال عند سوء الفهم، وفوق كل ذلك لابد من متابعة وإحصاء ودراسة وتقويم مستمر. |
الفكر والبيئة بين النقاء والتلوث 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل أذكر أنني قرأت أمشاجاً من كتاب «التلوث مشكلة العصر»، وتجرعت مع غيري مرارات التلوث، في أعقاب تفجير حقول النفط الكويتي، وفي زمن الطفرة الزراعية. وكتبت عن خطورة ذلك، وضل عني الكتاب والمقال، ولما تزل تجتال المشاهد أنواع أخرى، تلوثت منها الآفاق، والتاثت فيها الألسن، وارتابت معها الأفكار. وإذا كانت الأوبئة تنسل من المستنقعات وعوادم المعدات، فإن الفتن العمياء توقظها لوثة الأفكار وعنت السياسة. ومتى فسد الفكر، وتلوثت البيئة، شقي الناس، ومع كل أنواع التلوث، يظل حقلان هما الأخطر: تلوث البيئة، وتلوث الفكر. ولقد استذكرت النوعين ساعة كنت في مطار الملك خالد الدولي في طريقي الى القاهرة، لحضورمؤتمر «العولمة وحوار الحضارات» المنفذ «بجامعة عين شمس» في مستهل شهر صفر 1423هـ، إذ لقيت في أبهائه لفيفاً من المتخصصين السعوديين بصحة البيئة، وهم في طريقهم الى القاهرة لحضور مؤتمر آخر، يتعلق بتلوث البيئة، فيما كنت مع أربعة من المفكرين والاجتماعيين والأدباء والاعلاميين نحزم أمتعتنا لحضور مؤتمر يتعلق بتلوث الفكر. وكانت بعض المؤسسات في المملكة قد تبنت من قبل مثل هذه الندوات «فمكتبة الملك عبدالعزيز» و«رابطة العالم الاسلامي» قد فرغتا للتو من تنفيذ ندوات مماثلة، وقلت في نفسي: إن وراء هذا الاحساس أكثر من تساؤل، فتعاقب المهرجانات والمؤتمرات والندوات، وتتابع الكتب، مؤشر اهتمام وخوف، يسبق المخاضات التي لها ما بعدها، وفوق ذلك فقد تحرفت دول عربية واسلامية لانشاء مراكز لدراسة الحضارات المعاصرة، إذ أنشىء مركز في «طهران» وآخر في «جامعة عين شمس»، وعلمت ان مؤسسات علمية في المملكة بصدد انشاء مركز مماثل، تتعقب من خلاله كل المؤتمرات والندوات والكتب والمحاضرات التي تجعل من «العولمة» أو «حوار الحضارات» أو «النظام العالمي الجديد» مجالا لفعلها، وفي ذلك خير كثير. وقادة الفكر عندنا خير معوان لحماية البلاد من دخن الأفكار المنحرفة، ولا خوف من فلول الحداثة وذيول الماركسية وسدنة التغريب، وسائر التبعيين الذين يحلو لهم وضع العصي في العجلات وتعكير صفو الوحدة الفكرية التي تنعم فيها البلاد، ويحس بدفئها العباد، ومع ما هم عليه من شغب مفتعل فإن عودتهم مأمولة، فهم أبناء فطرة لا يبعدون النجعة. لقد كان هذا التحرك الاستثنائي المثير عبر كل المشاهد العربية سببا مباشرا في استدعاء تلك القضية الأهم، وهي «تلوث الفكر» وأهمية حمايته، و«تلوث البيئة» وأهمية تنقيتها، ولاسيما في زمن الانفتاح والصناعة. الانفتاح المعرفي والاعلامي والمعلوماتي، والتسابق القنواتي، والمتاجرة بالامكانيات. وليس «التلوث البيئي» بأحسن حال من «التلوث الفكري»، والحديث عنهما مطلب رئيس في ظل التحولات الصناعية والزراعية والكثافة السكانية في عواصم الجذب، واستشراء قنوات الفضاء، وتسابقها في الجذب والاغراء والتغرير، وسهولة الدخول على المواقع عبر الشبكات العنكبوتية، وامكانية الوقوف على كل ما انتجه الفكر الفلسفي المادي. والخبراء الغربيون ورجال الأعمال منهم، ممن يمرون بالمنشآت الزراعية في المملكة زمن الطفرة لتقوية العلاقات مع الشركات الزراعية والأفراد، يفزعهم الاستعمال غير المرشد لسائر المركبات الكيماوية، سواء منها ما يتعلق بالتقوية أو بالمكافحة، فلقد ملئت المحلات بالمبيدات والكيماويات المركزة التركيب، وتهافت المزارعون عليها، بدون وعي لأضرارها، وبدون معرفة لاستعمالها، ولقد كنا نحس بظاهرة التلوث، حين تنطلق بنا السيارات باتجاه الشمال، إذ نشم روائح ملوثة، تزكم الأنوف، وتسيل الدموع. وأصحاب المشاريع الحيوية يمنون بأوبئة، تجتاح مشاريعهم، ثم لا تبقي، ولا تذر، وبخاصة مشاريع الدواجن. فأين منها حفظة التوازن، وجهات الاختصاص، الذين يحمون الأجواء والتربة من فساد كبير؟ وأين منا المرشدون الذين يعلِّمون المزارع، ويوعّونه، ويحذّرونه؟ لقد خلت الأجواء للاعلان التجاري، وضل عن الجميع ما هم بحاجة اليه. ومشكلة التلوث البيئي من أكبر المشاكل التي يواجهها العصر، ومن أكثرها خطراً على مستقبل الحياة في الأرض، ولعلنا على علم بالمؤتمرات المتلاحقة حول «الثقب» الذي أحدثته نفايات الأرض في طبقة الأوزون، وما يمكن ان يتركه من آثار سيئة، تطال كل جوانب الحياة، وإذ لا أكون مع المبالغين في التهويل والهلع، أجد في الأمر شيئا، لا يصل حد التهويل الذي نسمع به. وعلينا ان نفرق بين «التخويف» و«التحذير» و«المكائد»، فالتسليم لكل ناعق مضيعة للمثمنات، وتعطيل للامكانيات. وسائر المشاهد لا تخلو من لاعبين أذكياء يخوفون أولياءهم، ويصدونهم عن الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي، وعلينا ان نعيد النظر في كل ما يطرحه الغرب، فلربما يكون طرحه من باب المكيدة الحاذقة، وبخاصة ما نسمعه عن «حرب المياه»، وتعمده ارباك المشاريع الزراعية، حتى لقد خوت المزارع على عروشها، ونجمت مشكلة تصدير فائض المعدات الزراعية، وبيعها بثمن بخس، واجهاض تجربة مثيرة، وفقنا بها على مشارف الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي. ومشكلة التلوث فتحت شهية عصر القطب الواحد وغطرسة القوة وحمى الأمركة وصبغة الغرب، ومن لم يستجب سيم سوء العذاب، حتى لقد فرضت ضريبة تعسفية على دول النفط لمكافحة التلوث، فيما لم تفكر الدول الصناعية في التعويل على دراسات متخصصة لتطوير أجهزة العوادم. و«النفطويون» لا يملكون أكثر من ترويج البترول الخام، وعلى الذين يتولون التكرير التحرف لمزيد من التقنية. وحسم التلوث لا يتم إلا بالتعاون الصادق بين الأطراف، لتكون «التقنية» و«التنقية» صنوان، وكم نتمنى لوان دول العالم كافة استدبروا المكائد والابتزاز، وفكروا جيدا في عمل مشترك للتخفيف من حدة التلوث الذي خلف أوبئة وأمراضاً مستعصية. ومع الاشفاق الكاذب، ودموع التماسيح، اكتشف العالم فضيحة الدول الغنية التي تستأجر شواطىء الدول الفقيرة المتخلفة، لطمر النفايات النووية. والدول التي تلوح بورقة الدفاع عن حقوق الانسان والمرأة والاسكان، لتخيف الناشزين عن عصمتها والمتلملمين تحت وطأتها، هي الساعية مع سبق الاصرار لحرمان هذا الانسان من أبسط حقوقه، وهي الصانعة للارهاب والمصدرة للتلوث، وهذا التناقض الصارخ، لا يمكن تبريره على أي شكل من الأشكال، والتقدم الصناعي الذي حقق مزيدا من الرفاهية للانسان، ومكنه من التواصل، يعد من أكبر أسباب التلوث الطبيعي، فالمصانع والمعدات ووسائل النقل البري والبحري والجوي تنفث غازات ضارة، تلوث البر والبحر والجو، اضافة الى مخلفات المصانع وسائر الكيماويات الزراعية وأدوية المكافحة. والتلوث حين يمتد الى البحار، يميت أحياءها، ويلوث ماءها وشواطئها، وأهمية البحار الاقليمية زادت بعد مشاريع التحلية والسياحة. والدول التي لم تستكمل البنية التحتية، وبخاصة ما يتعلق بالصرف الصحي، تتعرض لأضرار مادية وصحية، وتدمير لما نفذ من بنية تحتية، لأن طفح المياه في المنخفضات وفيض المياه من البيارات وتسرب المياه من الشبكات الضعيفة يقضي على سائر التمديدات والخطوط والطرق، مع ما يتركه من تلوث بيئي ونزف للثروة الماية، وقد شوهدت آثار ذلك في بعض مناطق المملكة، وبدأت التحركات الجادة لمواجهة الأضرار في وقت مبكر، ولكننا لم نستكمل ذلك، لا على مستوى تصريف المياه المستعملة، ولا على مستوى مياه الأمطار، ولم نستكمل مشاريع المعالجة الصحية، وتدفق مياه المجاري في المنخفضات تصرف بدائي، واستخدامه زراعيا دون تنقية مضر بصحة الانسان والحيوان، والتلوث مؤذن باختلال التوازن بين عناصر البيئة المختلفة. والتوازن بين عناصر البيئة أصبح يشكل قضية جديدة، لم يلتفت اليها العالم، إلا بعد استفحال التلوث، وتعدد مصادره ومجالاته، كتلوث الهواء بثاني أكسيد الكربون، وتلوثه بالشوائب، وتلوث الماء، والتلوث النووي، المتمثل بالتجارب النووية أو بالتوسع في استعمال محطات الطاقة النووية وتسربها، وبالنفايات النووية، وما يترتب على الاستخدام النووي السلمي من حوادث ونفايات وتلوث حراري. ومن عجائب العصر ما عرف بالأمطار الحمضية، وأثرها على النبات والانسان والحيوان. وتلوث آخر منشؤه الكثافة السكانية. والذين يعيشون في الحواضر المكتظة بالسكان، ويقيمون في العمائر الشاهقة، يعانون من أمراض «الربو» و«الحساسية» و« الأمراض الجلدية»، ومع ما يعانيه سكان العواصم والمدن الصناعية فإن الانفاق على مكافحة التلوث لا يكاد يذكر، وفوق ذلك نجد عدم الالتزام بالاتفاقات العالمية لمكافحة التلوث، كما ان أساليب التوعية بدائية وثانوية، وليس هناك مؤسسات مستقلة للرصد والدراسة والتوعية والمكافحة. ومن ظواهر التلوث عرفت الهجرة واللجوء، إذ هناك اثنان وعشرون مليون لاجىء بسبب التلوث. ومع ان العواصم العربية تعرضت لاشكاليات الكثافة السكانية بسبب تكديس المنشآت والمصانع ومجالات العمل والدراسة المغرية على الهجرة، فإننا لم نستفد من ذلك، ومدينة «الرياض» مقبلة على كثافة سكانية مهيأة لتلوث بيئي، وكان بالامكان تلافي ذلك، لو اتعظنا بغيرنا، ولم نجعل «الرياض» مثابة لكل شيء. ومع ضعف المقاومة والتوعية تتعدد مصادر التلوث وأسبابه، ولم تعد الصناعة وحدها مصدرا من مصادره، فهناك النفايات التقليدية والنووية، والحروب الجرثومية، ومياه الصرف الصحي، والمستنقعات، والطفح، والسيول، والأوبئة، والضوضاء، والكثافة السكانية، والأخطر من كل ذلك معامل وزارات الدفاع الغربية الساعية لتطوير أسلحة الدمار الجرثومية، حتى لقد اتهمت البنتاجون بتسرب فيروس «الايدز»، والعالم الثالث لم يتخلص بعد من مصادر التلوث التقليدي كالمستنقعات. والبلاد مرت بحالات من عقابيل التلوث التقليدي، ظهرت في «جازان» وفي «سواحل الخليج» وبخاصة بعد الحربين الخليجيتين، وفي مدن الجذب ك«الرياض» و«جدة». ومكافحة التلوث لا تتم إلا بتضافر الجهود واخلاص النوايا، وأحسب ان العالم بعد لم يخلص النية، ولم يصدق عزمه على تجنيب كوكبنا الأرضي من نكبة مدمرة، بسبب التلوث الناتج عن الاهمال أو التعمد. وإذا كنا نؤازر العالم في الحد من التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل فإن عليه تعميم المتابعة والعدل بين الظماء، وذلك بالحد من التسلح عند الجميع، أما ان تمارس الضغوط والعقوبات الذكية والغبية على طائفة دون أخرى، فذلك الظلم الذي لا يطاق، والجور الذي لا يحتمل، والظلم هو الحاضن المخصب للعنف والارهاب، وإذ لا نجد بداً من القبول بالحد من التسلح، نود ان يمتد الى العصابات الصهيونية، التي تعيث في الأرض فساداً، وتتلقى الدعم السخي من حماة العدل والحقوق والديمقراطية، وعلى عالمنا الموصوف بالتخلف والانفجار السكاني والفقر ان يكل أمر مكافحة التلوث لمؤسسات قوية، تستشرف المستقبل، وتخطط له، وتواجه الواقع المرير، وتحسن اشكالياته. إن العالم النامي والنائم يتعرض لحملة بشعة تضعه تحت طائلة الأوبئة والتضليل، فلا هو قادر على الرؤية السليمة بسبب التضليل، ولا هو قادر على ايقاف التدهور البيئي بسبب الاستغلال البشع، وسيبقى ضحية التضليل والاستغلال حتى يأذن الله بيقظة قادته ووعي نخبه واستجابة كافته وعدل الأقوياء في الأرض. |
الفكر والبيئة.. النقاء والتلوث 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل ومع الخوف والهلع اللذين يصيبان الانسان من تلوث البيئة، يقوم الى جانبه تلوث آخر، لايقل عنه خطورة، ذلكم هو «تلوث الفكر» وهذا النوع من التلوث يستشري بين العلماء والمفكرين والأدباء ممتداً الى الكافة، بحيث يؤدي الى خلل في وحدة الفكر ووحدة الصف، ومن خلل الوحدتين تنسل الفتن، والأعداء لا يخوضون الحرب المسلحة حتى يوهنوا الخصم بإشاعة الخلاف والفرقة، وتحويل الأمة الى شيع وقبائل، يضرب بعضها رقاب بعض. وما دون ذلك من التلوث يتمثل في الخلاف حول المرجعيات والمفاهيم، والخلط بين الوسائل والغايات، والمتناكفون حولها لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، ولا بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة وما طريقة التفقه، ولا بين ماهو مجال للاجتهاد وما لا يحتمل الا التسليم، وليس من شك ان مثل هذه الظواهر ناتج عن تلوث فكري، لم يحل بالأمة دفعة واحدة، وإنما تسرب عبر الثنيات المهملة كالخدر، على حين غفلة من حراس الثغور، او اشتغال بما دون المهم ويستفحل دخن التلوث حين يؤدي الاختلاف الى العداوة والبغضاء والتنابز بالألقاب، إذ ليس من التلوث الاختلاف ابتداء، وليس منه الجدل في سبيل تحرير المسائل وإحقاق الحق، وليس منه البحث الجاد عن الصواب، وما أجمل مقولة الشافعي: «إذا صح الحديث فهو مذهبي» ولقد قال زكي مبارك لخصمه اللدود طه حسين «الويل لنا إن لم نختلف» والاختلاف المقبول هو ذلك الاختلاف حول «النص وصحته» «النص ودلالته» و«الدلالة ومقاصد الشريعة» و«تعدد الدلالات وفق الواقع»، أما الاختلاف حول شرعنة الباطل، وتأهيل المنكر، فاختلاف مذموم، ولقد عشت الاختلاف في كل لقاء أحضره، وفي ثنايا كل كتاب أقرؤه، وعبر كل حديث أسمعه، ولما يكن بعضه من الاختلاف المعتبر المتوقع الذي يتعاذر فيه المختلفون. واستفحال التنازع في المؤتمرات التي أريد منها تقريب وجهات النظر، وتنقية المشاهد من شوائب التلوث الفكري ظاهرة مألوفة، لقد رأيت وسمعت في مؤتمر «العولمة وحوار الحضارات» في القاهرة، وفي ندوة «مشروع النهضة العربية..» في دمشق اللذين حضرتهما مشاركاً مؤشرات التلوث الفكري، فبعض المشاركين لاتحكمهم مرجعية يرضون بالرد إليها، ولا تستوعبهم أيديولوجية يركنون إليها، فكل واحد تعدو عينه الى مرجعية مغايرة، وإلى أيديولوجية مناقضة، فهناك قومي مغرق في القومية، وعلماني متطرف في العلمانية، وإسلامي كما الأعراب الذين قالوا: آمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وإسلامي موغل في الإسلام بدون رفق، ولعل من بين ما سمعت اختلافا مخيفا في وجهات النظر، وآراء متضاربة، لا توحدها مرجعية، ولا يشغلها هم مشترك. والذين جاؤوا من آفاق العالم العربي للحديث عما يجب اتخاذه من احتياطات، عمقوا الخلاف فيما بينهم، ولما يكن اختلافهم حول مفهوم الظاهرة، وإنما امتد الى المرجعية، وفوق ذلك فقد القى بعض المؤتمرين ملخصات بحوثهم ب«اللغة الانجليزية»، في حين ان المستمعين لا يجيدون إلا العربية، وفي ذلك تهافت مخل بالأهلية على لغة حضارة مغايرة، من أهم أهدافها عولمة العالم: لغة وحضارة، واللغة وعاء الفكر، وعنوان الحضارة، والتخلي عنها في لحظات البحث في مشروعيتها مؤذن بفساد كبير. وكل الذين يدافعون عن الفكر الأصيل، ويؤكدون على الخصوصية العربية، وما لها من موروث عريق، يحاولون صد هذا الطوفان، ومع ما لهؤلاء من دور فعال فإن الخطورة تكمن في طوائف تقمصت هم الاستشراق.. والاستشراق قضية عويصة في ذاتها، فضلاً عن مقاصدها. وتلوث الفكر المتعمد والمبيت والقصدي لايقل خطورة عن تلوث البيئة الاضطراري واللاقصدي، فهذا يفسد المادة، وذلك يفسد الروح، والحياة الدنيا طريق للحياة الأبدية، وتلوث الفكر نتيجة تفكير ومكيدة مدبرة يؤزه حقد دفين، والمتماكرون أذكياء، ومتفانون في خدمة مصالحهم العاجلة، ولكل تنظيم وسائله وسبله المتعددة، ولا يمكن تحديد مصادره، ثم هو باقٍ ما بقيت تشكلاته. ولكيلا نديم الإحالة على المكروالتآمر، ولكيلا نمعن في جلد الذات وعمليات الإسقاط نجد ان طائفة من المفكرين تحيد بهم أفكارهم وتصوراتهم ابتداء عن جادة الصواب، ويبلغ بهم الإعجاب بالرأي حداً يفوق عبادة الهوى، والإسلام ذم من اتخذ إلاهه هواه، ومرد ذلك سوء الفهم، او التعويل المطلق على العقل، واستدبار النص، وما نسلت النحل والملل إلا من لعبة «النص والعقل» أيهما الحاكم والمحكوم، وما حدود كل منهما، ولسنا بصدد تحرير الموقف من «النص والعقل» فذلك له مجاله الذي نود تقصيه في موقف آخر، وعلينا أن نتلمس مصادر تلوث الفكر المتعددة والمتنوعة، ولا شك أن «الكلمة» حجر الزاوية في النقاء والتلوث، والفائزون من يهدون إلى الطيب من القول. والكلمة هي الوسيلة الأهم، لأنها تسهل في تشكل الفكر وصياغة الذهن، وحين تصاغ الذهنية العامة على عين الجهلة وأنصاف المتعلمين والحاقدين الماكرين يصعب تصحيح ما فسد، وقنوات التواصل تعددت وتنوعت، ومن أخطرها القنوات الفضائية، والشبكة العنكبوتية، ومراكز المعلومات، وفيوض المطبوعات، وسرعة الاتصالات، وسهولتها، والخلطة المستحكمة، ورقة الدين، و«الرأي العام» أصبح فريسة للإعلام الموجه وللمتفلتين من جماعة المسلمين، وحين يتشكل وعي «الرأي العام» على عين الأعداء يصعب اختراقه واستمالته وإقناعه في سبيل تشكيل جبهة داخلية متماسكة، تحمي الساقة، وتمكن القيادات الفكرية من النظر إلى الأمام. والأمة الإسلامية واجهت حروباً شرسة من أخطرها «حرب الكلمة»، فالمبشرون والمستشرقون والمستغربون والمتعالمون المتصدرون للفتوى المتزاحمون على القيادات المعرفية كل أولئك يمارسون مكيدتهم أو جهلهم أو تعالمهم تحت نوايا ورغبات مختلفة، ولكن النتيجة واحدة، والإعلام المتوغل ناقل سريع لهذه الأدواء، ولم يكن الإعلام وحده في المعركة، فالأدب المؤدلج جنح الى الالتزام الفكري، والممعنون في الأدلجة غير مؤصلين، والروائيون الماجنون المنحرفون المتمردون على شرط الفن وضوابط اللغة وأطُر الاخلاق، يفسدون الذوق واللسان والسلوك، والنقاد الصامتون أو المؤازرون يواطئون على الرذيلة باسم حرية الفن، والجميع لا يعرفون حدود ما أنزل الله ومن ثم يلوثون الفكر ويدمرون الأخلاقيات، وما فتئ أعداء الإسلام يتحرفون للوقيعة، ويمارسون مختلف الأعمال لتزييف الوعي، وتشكيل الذهن الإسلامي على مرادهم، ليكون منفلتاً، يشرعن لكل شيء، ويلتمس العذر لكل منحرف، أو يكون متشدداً يحرم كل شيء، ويكفر كل مخالف، وهذا التلويث المتعمد، زرع الشقاق، وأشاع الخلاف، وعدد الولاءات والانتماءات، وأذهب ريح الأمة، وجعل أهلها شيعاً تتناحر حول القضايا المصيرية، مثلما تتجادل حول أتفه الأمور، ولتلويث الفكر مجالاته المتعددة، ويأتي في مقدمتها التعصب للرأي والإعجاب به، والانتصار للذات، والتأكيد على المذهبية والحزبية، وخلق مناخات للصراع، وتكريس الرغبة في التشرذم والتجزيئية، وتصنيم الحدود الإقليمية، وتقديس العادات والتقاليد، وتأصيلها، والتأكيد على أهمية المحافظة عليها، واعتبارها جزءاً من حياة الأمة، وإثارة الشكوك حول الرموز الدينية، والدخول في مأزق المفاضلة في الأفعال الإجرائية لا في الأهداف والمقاصد، وطرح عدد من المصطلحات الغربية بمفاهيمها ومقتضياتها، أو بمفاهيم مستحدثة، بدعوى إفراغها من محتوياتها، والخلط بين مفهوم التجديد والحداثة الفكرية، والالتفاف الغبي على المفاهيم، وتسجيل مواقف الارتياب على حساب الفكر الاسلامي المستنير، واجترار الاخطاء الاجرائية بوصفها أخطاء مبادئ، وليست اخطاء منتمين للمبادئ، وإثارة الجدل حول ظواهر وقضايا بينة العوار ك«العلمانية» او «الحداثة» او «العولمة» او «الحاكمية» وغيرها، ومحاولة زرع الخلاف حولها بتعدد مقتضياتها، فالعلمانية مثلاً تطرح على أنها «عزل الدين عن الدولة» أو «عزل الحياة عن الدين» وقد يقال إنها «الدولة المدنية» في إزاء «الدولة الدينية» وضرب المثل مع الفارق، فالغرب متقدم بالعلمنة في إزاء دين محرف، والشرق متخلف في إزاء دين غير محكَّم، وهكذا يختلف الناس حول دينهم، ثم يختلفون حول مجلوبهم، وإذا اختلفوا حول الثوابت فسدت الحياة الدنيا، وهذا الجانب من أخطر جوانب التلوث، وتأتي قضايا كثيرة يختلف الناس حولها، ولا يردون خلافهم إلى مرجعية متفق عليها، تفض النزاع، وتحق الحق، والمشاهد الفكرية تعج بعشرات القضايا «كالمرأة» و«الحرية» و«الاقتصاد» و«المناهج» وسائر الأنظمة، وما من أحد يرد إلى الله والرسول. وإذا كانت الدول المتحضرة تخسر المليارات في سبيل حماية البيئة من التلوث الحسي فإن واجب الدول الإسلامية التأكيد على أهمية الفكر وحمايته من التلوث العقدي، وأهمية المجتمع وحمايته من الفساد الأخلاقي، وأهمية ذلك مرتبطة بما يترتب عليه من نتائج، لقد كان الخلاف سابقاً بين فئات من الناس لا تملك التغيير، أو قل خلافات العلماء والنخب داخل دوائرهم العلمية البعيدة عن الرأي العام، أما الآن فإن الخلاف يمتد إلى مؤسسات لها سلطة التغيير، وإلى شرائح من المجتمع لا تعي ما يقال، ولا تعي خطورة ما يقال، وهي قادرة على سماع ما يقال، والأخذ به دون فهم دقيق، ودون قدرة على استبانة المرجعية، وهذا الخلاف في هذه الأجواء المشحونة بالتوتر قد يدفع الى مواجهة مخلة بالأمن، واختلال الوحدة الفكرية لا يقل خطورة عن خلل الوحدة الإقليمية، والتناوش الفكري والطائفي من أخطر القضايا، وأي دولة لا تضمن صفاء جبهتها الداخلية، لا تستطيع الفعل الإيجابي. إن على الدول الإسلامية أن تحسب للتلوث الفكري حسابه، وألا تحيل الصراعات القائمة على أشدها إلى حرية الرأي وحرية التعبير، دون ضوابط، ودون فهم لمقتضيات الحرية لأن مردود هذا الخلل لا يقف عند حد الانحراف الشخصي، بل يتعداه إلى إحداث فوضى فكرية تمزق وحدة الأمة وتلاحمها، وتزرع بذور البغضاء، وتتيح فرصة للمفسدين ليندسوا بين المختلفين الناصحين المتعاذرين، وينفثوا سمومهم، والذين يعولون في لغطهم على «الحرية» ثم لا يفهمونها يبلغون حدَّ الفوضوية، والحرية هي النظام والانضباط، وتفويض حمايتها الى سلطة قوية تقمع الظلوم الجهول، وتأطر السغية، ومن أخطر حالات التلوث الفكري أن نفهم الأشياء على غير وجهها الشرعي، وإشكالية الاختلاف في المفاهيم مصدر مزعج من مصادر التلوث الفكري، وقد يعتمد المستفيدون من خلاف الأطراف الإيغال في مسائل الخلاف وتضخيمها، والخلط بين الوسائل والغايات، وتشجيع تعدد المرجعيات، وضرب المؤسسات الدينية، والتشكيك في علماء الأمة، والنيل الصريح من كفاءتهم وأمانتهم واستمرار النيل منهم، وليس ببعيد ان يكون تلوث الفكر نتيجة مكيدة حاذقة على خلاف تلوث البيئة، وقد يكون لرموز الفكر يد في ذلك، وأساطين الفكر الحديث لهم مشاريعهم الفكرية المخالفة لمقتضيات الإسلام، ومذاهبهم لاتندرج تحت مفهوم الخلاف المعتبر، ولا يشرعن لها حق الاجتهاد، إذ هي مذاهب غربية، ليست من الحضارة العربية والإسلامية في شيء، وتلوث الفكر يتلون كالحرباء، وتتعدد مواقعه، والمتابعون ببصر وبصيرة، يدركون مواطن الريبة، ويعرفون مرضى القلوب من لحن القول. والسعيد من وظف قلمه ولسانه لخدمة العقيدة الناصعة والمحجة البيضاء، ولزم الجماعة حتى وإن بدا له ان القاصية من الغنم على الأفضل، وهو على الفاضل. والأمة التي تعيش تحت مظلة وحدةٍ فكرية متناغمة، تسمو بنفسها فوق النزهات والنزاعات، ومتى اختلت الوحدة الفكرية في الأمة، دب الخلاف، واستفحل الشقاق، وتمزقت الأمة، ومن أوجب الواجبات على قادة الفكر في أي مجتمع أن يجنبوا «الرأي العام» مثل هذا الاختلاف في وحدة الفكر، وأن يحاولوا التسامي فوق الخلافات الجزئية لدرء الفتن «والفتنة أشد من القتل»، وقادة الفكر ليسوا بأقل خطراً من قادة الجيش، ولهذا فإن اختلافهم مؤذن بفساد كبير، والمؤسف أن العامة تستعذب الاختلاف، وتدفع إليه، وتعلي من شأن المتنازعين، وتتهافت على المثيرين، وعشاق الأضواء كالممثلين يتلمسون الرغبات ولا ينشدون الحق. ومن أخطر ظواهر التلوث ان تختلط الأمور بحيث لانفرق بين الاختلاف المشروع والخلاف المحظور، إن هناك من يطالب بالفوضوية باسم حرية الرأي وحرية التعبير، بحيث لا تكون حدود ولا قيود، ولا أطر على الحق، وكل من حرَّم فهو عندهم ضد الحرية، وكل من أباح فهو العالم النحرير، ولهذا ارتفعت أسهم التمشيخ القنواتي، وفات البعض ان الدين مجموعة من الأوامر والنواهي والعزائم، وأن الصبر على الأقدار كالصبر عن الشهوات المحرمة، والصبر على الأوامر العازمة، لقد عايشنا خطابات لا ترى الحظر ولا الأمر، فكل ما حلَّ باليد حلال، وكل فعل ممكن مباح، وتلك حياة بهيمية، لا يستقيم أمر الأمة معها. ومن ظواهر التلوث تقحم البعض منابر الخطابة، ومجالات الافتاء، ومواقع «الإنترنت»، والسعي الدؤوب في سبيل البحث عن آراء شاذة أو مخالفة للسائد، والقول بها، بدعوى «نحن رجال وهم رجال»، ولم يفكر أولئك أن من مقاصد الإسلام لزوم الجماعة، وإن كانت مع المفضول، ذلك أن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، ومن الخير الأخذ بالمفضول، حفاظاً على وحدة الكلمة، وتجنيباً للأمة عن مزالق الهوى والأثرة، وإن كان ثمة صيرورة إلى الأفضل فليكن عن طريق مؤسسات علمية ومجمعات فقهية. |
فكرة رائعة وجهد مشكور أقل مانقدمه لهؤلاء الكبار ..
|
لله دركما معاً ..
الدكتور حسن له صولاته وجولاته ضد الحداثة الغير منضبطة فجزاه الله عنا كل خير .. |
فيتامين
أبوفارس الخالدي أشكركما على هذا التعقيب |
تفكيك المفككين لبيان المثقفين« 1/3»
د. حسن بن فهد الهويمل 1/1/3 - قبل عشرين سنة أو تزيد، حبَّب إليَّ مسؤول تعليمي زيارة «مزرعة نموذجية»، تتبع لمؤسسته وكلمة «النمذجة»، حفزتني على قبول الزيارة، وما كنت أدري أنها تعني مزرعة التدريب الطلابي، لتطبيق ما يتعلمونه في الفصول والمعامل والمختبرات من دروس نظرية. لقد وجدتها دون المؤمل فكل مدرب له أسلوبه، وكل متدرب له رأيه وطريقته. والبذرة والشجرة تتعرضان لممارسات متناقضة، مما يؤدي إلى تعثر النمو، واصفرار الأوراق، وقد تتحول الأزواج البهيجة إلى هشيم تذروه الرياح. وإذا كانت التجارب التطبيقية يجريها الطلاب الزراعيون على نوابت الأرض، ويجريها طلاب الطب على جثث الأموات، فإن النقاد يلتمسون عملاً سردياً أو شعرياً، ليجروا عليه تجاربهم، مستدعين كل نظريات التلقي، وكل مستويات القراءة، وكل آليات النقد ومناهجه، وقد يتعالقون مع غيرهم فلا يكون انتقاء لمدروس، ولا تجويد لدراسة. ولعلنا نستذكر رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، وكيف اعتورتها أقلام النقاد، وحمَّلتها ما لا تحتمل من فرضيات، حول أركان الرواية، ولغتها، وأسلوبها، ومقاصدها، تحدوهم الرغبة في تجريب المذاهب والآليات التي درسوها، ولم يفهموها، أو قلدوها، ولم يحسنوا التقليد. مع أن حقول التجريب لا تكون بالضرورة على شيء من التميز وإن تصور البعض رواية الطيب فتحاً مبيناً في عالم الإبداع الروائي. وبيان المثقفين السعوديين «على أي أساس نتعايش»، أخذ المصير نفسه، بحيث امتدت إليه أيدٍ كثيرة، سلفية متشددة، وأخرى مستنيرة، وليبرالية متحررة، وحداثية متطرفة، وتنويرية ظلامية. وطبقت في قراءته مذاهب ومناهج وآليات متعددة، وتهافتت عليه المنصفون والمقتدرون والنطائح والمترديات، ومن استهوته مناهج الغرب. ولما يكن الدافع للأكثرين منهم استبانة الحق، ولا الوصول إلى النتائج، وإنما هي رغبة في اكتشاف الذات من خلال الآخر، مع أن بعض النفوس لا تخلو من دخن الضغينة، والمتابع النابه يعرف ذلك من لحن القول ولست بصدد الدفاع ولا المشايلة، وإنما هي الرغبة في تشخيص المواقف والوقوف على أزمة الحوار الداخلي. 2/1/3 - فناقد عول على «النسقيَّة»، وعلاماتها الثقافية، مكرراً مصطلح «النسقية»، بشكل ممل ممثل: لغة النسق، والخلفية النسقية، والتصور النسقي والكارثة النسقية، والبعد النسقي، والحيلة النسقية، والوقوع في النسقية، والشعار النسقي، وأساليب النسق، والمضمر النسقي، واللحظة النسقية، وألاعيب النسق، ومع ذلك فهو الأكثر إنصافاً وتروياً «الرياض 11، 18/3/1423هـ»، والنسقية «السوسيرية»، التي حولها المريدون إلى «بنيوية»، قفزت بقدرة قادر من «اللغة»، إلى «الثقافة»، وهي قد قفزت من «الفلسفة»، إلى «الاجتماع»، وقد تقفز يوماً ما إلى مصطلح رديف. وناقد آخر تملق «التحويلية»، موغلاً في الإدانة اللغوية والمقصدية ناسفاً دعوى النسقية الوطن «6/3/1423هـ»، و«الرياض 25/3/1423هـ»، وثالث أمعن في القذف الصريح والاتهام السافر، ورابع اكتشف أن الحداثة مجتثة من فوق الأرض، وأنها لا تملك عمقاً شعبياً، وأن مبدأ الحوار مرفوض سلفياً «الحياة 2/3/1423هـ»، وثُبَاتٌ آخرون، لهم نوازعهم الفكرية أو السياسية، المتشددة أو المتسامحة، المتسائلة أو المدينة. كل أولئك ومثلهم معهم أوجفوا بأقلامهم، وكأن البيان قاضي «قم»، الذي عزله حب الوالي للسجع، حيث قال: «أيها القاضي بقم قد عزلناك، فقم»، فكتب للخليفة مقسماً بالله أن الوالي لم يعزله إلا حباً للسجع. والآخذون بعصم الخاوي من مذاهب الغرب يكرهون النصوص على أن تستجيب لمتطلبات آلياتهم ومناهجهم، ولو أن هذا البيان صدر في ضجة «البنيوية»، لأخذوه بآلياتها، ولو أنه تأخر حتى يتجاوز الغربيون مذهباً من المذاهب لما كان بد من أخذ البيان بما فرغ منه الغربيون. وما ترانا نقول إلا معاراً أو معاداً من قول الغرب مؤكدين القابلية للتبعية، حتى البيان جاء في أعقاب البيان الغربي، ويا ليت قومي استبدوا مرة واحدة «إنما العاجز من لا يستبد». ومثلما أن مزرعة التدريب لم تكن أفضل المزارع، وأن جثة التشريح ليست بأفضل الجثث، وأن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، لم تكن أفضل الإبداعات السردية فإن «بيان المثقفين»، لم يكن أفضل البيانات، كما انه في الوقت نفسه ليس بأسوئها، ولا يعيبه ألا يكون كذلك، فكل عالم ومفكر، يؤخذ من كلامه، ويترك إلا من لا ينطق عن الهوى. وما من مجتهد أفضى بقول، إلا تمنى في الغد أنه تريث، وأعاد النظر فيما قال، ويأبى الله إلا أن يتم كتابه «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً»، والتهافت على قراءة البيان ليس مؤشراً على قوته، ولا على تأثيره، ولا على أهميته. وأثره منحصر في كشفه عن خلاف مستحر، داخل المنظومة الواحدة، وفي الشك في مشروعيته، وفي فراغنا، وكثرة لغطنا، الأمر الذي ذكرني بمقولة «وليم بلجريف»،: «الواقع أن كل شيء كان عربياً تماما، كلام كثير وفعل قليل»، وسط الجزيرة العربية وشرقها ص 264 جزء 1». والذين كتبوه متعجلين أو متريثين، وأمروه على الموقعين، لم يكن أحد منهم يتوقع أن تعتوره سهام النقد من كل جانب، ولو أن المتصدرين لإعداده توقعوا بعض هذا الاهتمام لحبروه تحبيراً، وسدوا المنافذ على كل مجرب، والبيان وما أثاره من ردود فعل لا يعد ظاهرة صحية، ولا فتحا مبيناً، وإنما المسألة مجرد تداعيات متفاوتة، تحال إلى أزمة الحوار التي أشرت إليه في مقال سابق «اليمامة 6/3/1423هـ»، ووجدها البعض فرصة لطنطنة الفارغة. 3/1/3 - لقد فتح «البيان»، شهية الكتاب، ونبه المتربصين لخصومهم وجر أقلاماً «ديناميتية»، وأخرى مجازفة، أوغلت في الاتهام والتشفي، وكأن الموقعين من أصحاب السوابق. ومثلما أن الموقعين شعوباً وقبائل، فإن المتصدين مثل ذلك، ولو كان الموقعون والمتصدون من «صبغة واحدة»، لمر البيان بهدوء، كما مر سلفه الذي وقعه مائة ونيف من أدباء البلاد وإعلامييها. وبعض من تصدوا للبيان لم يتورعوا عن النيل من بعض الموقعين، وتصفية الحسابات معهم، على الرغم من اختلاف مشاربهم وثقافاتهم وهمومهم ومواقفهم من الأشياء والأناسي. وليس من أدبيات الاختلاف أن نمس أحداً من الموقعين بعينه أو بصفة تعينه، ولا أن نوجه الاتهام لسائرهم «الشرق الأوسط 25/5/2002م»، وإن انطوى البيان على أخطاء في الأفكار أو في الأسلوب، أو قل قصر في استيفاء ما يجب استيفاؤه من القضايا، أو جاء مناقضاً لفكر الضالعين في إعداده. إن على المداخلين أن يفترضوا حسن النوايا، وسلامة المقاصد، وأن يحيلوا التقصير إلى خطأ الاجتهاد المأجور، وعليهم أن يعرفوا أن العصمة غير متأتية لأحد من البشر، ولو أن أحداً من المفككين فعل مثل فعلهم، لكانت له أخطاؤه المتوقعة، ومن نقب وجد، ومن نوقش الحساب عذب. والملفت للنظر ذلك الأسلوب «البوليسي»، المعتمد على النبش، واستدعاء الملفات، وتقصي السير الذاتية، والحديث عن ماضي البعض وسلفيته المنغلقة، وتناقض مقاصد البيان مع تاريخية المتحدث، فيما لم يعرج أحد على مشروعية الفعل. والبيان مثار الجدل جاء في أربع عشرة صفحة، ووقعه مائة واربع وسبعون شخصية سعودية، فيهم العلماء: الشرعيون، الطبيعيون، القضاة، المحامون، المفتون، الدعاة، الاكاديميون، الأدباء، الصحفيون، رجال الأعمال، النساء والأطباء، وما دون ذلك. واشتملت صفحاته على أشواط دلالية استوعبت: ممارسات إسرائيل، ودعم أمريكا، وتلخيص بيان المثقفين الأمريكيين «على أساس نقاتل»، وطلب المقاطعة، والتحول عن الولاء الفكري والتبعية، والمطالبة بتأسيس أجواء تفاهم مشترك، يقوم على تفهم «للحوار»، و«استشعار القيم والأسس»، و«تداعيات أحداث سبتمبر»، و«الموقف من أمريكا»، و«الإسلام والعلمانية»، و«الحرب العادلة والارهاب»، وكل فقرة بمثابة خاطرة موجزة تحدد: المفهوم، الموقف، أسلوب الأداء، وعلى الرغم من التركيبة «عراب البيان»، كما يقول أحد القراء، وقد تصدت للبيان سهام الباحثين عن الحق، واللاهثين وراء الوقيعة، وتنفس من خلاله الغيورون والوصوليون والصادقون والمدخولون، وذرعته أقلام نصائحية، وأخرى فضائحية. وعند استعراض المفهوم والمشروعية والتصديات يجب الا نحيل على جاهزيات الأحكام، وألا نشق عما في الصدور، وألا نفترض النوايا السيئة والأهداف الدنيئة، وألا نمارس تصفية الحسابات. فالبيان موقع من عشرات العلماء، القضاة، الخطباء، والوعاظ والمفتين الأفاضل، والأدباء المتمكنين، والمفكرين المدركين، والأكاديمين المجربين، ممن نجلِّهم، ونثمن إسهاماتهم، ونقدِّر مواقعهم، ولا نزكيهم على الله، والإيغال في النيل منهم لا يقل خطورة عن الإسراف في الثناء المجازف، والتزكية المطلقة، وإذا سقط البيان بكل المقاييس، فلا يكون بالضرورة سقوطا لمن وقعه. وعلى القارئ الناصح لله ولرسوله وللمؤمنين أن يتقي الله فيما يأتي ويذر، فالقول الجزاف يمس رجالات أوفياء لأمتهم ولقادتهم ولدينهم. وأجزم أنه لو كانت هناك «محكمة آداب»، وتقدم المتهمون إليها لأعوزت المجازفين الحجة. وصحافتنا أحوج ما تكون إلى الأناة والتدبر كيلا تتحول إلى صحف فضائحية، يتسلى بها القارئ، ولايعول عليها. 4/1/3 - لقد عُرِضَ عليَّ البيان في لحظاته الأخيرة، وطلب مني التوقيع عليه، فاعتذرت لأسباب كثيرة لعل من أهمها: أنني أعد كل مقال سياسي أكتبه بياناً يعبر عن وجهة نظري، وقد يبلغ من التأثير ما لا يبلغه البيان. وأن هناك من سبق إلى اصدار بيانات مماثلة، ولست أقبل التبعية، متى أمكنت المبادرة، وأنني لا أرضى لنفسي الالتفاف بعباءة الآخرين، وإن بادلتهم الاحترام، وشاركتهم الهم، وأنني لا أقبل الانضمام للركب في اللحظات الأخيرة، فالبيان أعد وطبع دون علم مني، ودون استجلاء لوجهة نظري، حول الطريقة والموضوع واللغة والأسلوب والمشروعية. وتمنعي يحال إلى الاختلاف حول الفعل الإجرائي، مع أن هناك تحفظا حول المبدأ وآخر حول الإجراء، وإن كان الهم الذي يساور الموقعين يساورني، والأذية التي تمسهم من جنايات الغرب تمسني، والإحساس الدائم في التحرف لمواجهة أجدى وأهدى قائماً ما قامت مكائد الغرب، غير أني لا أرى التعبير عن وجهة نظري بهذا الأسلوب، ومن ثم لم أوقع، ولم يسألني أحد لماذا لم أوقع. ولما أزل أتمنى لهذا البيان تأدية الغرض المنشود منه، ولا سيما في ظروف الحملات الإعلامية الجائرة التي طالت الإسلام والمسلمين، ونالت من الإنسان السعودي ومناهج التعليم في البلاد. |
تفكيك المفككين لبيان المثقفين..! 2/3
د. حسن بن فهد الهويمل 1/2/3 والمفككون الذين صُدموا بتحولات بعض الموقعين: الموقفية والفكرية، يجهلون (فقه الواقع) و(لغة العصر)، فالعالم اليوم يمر بتحولات جذرية. ومناطقه تجتاحها متغيرات، لم تستوعب، لكثرتها، وسرعة تلاحقها. والأحداث كالرياح العاتية، توجه السفن، أو تضطرها إلى التوقف، حتى هدوء العواصف. وكل حدث يطرح خطابه ورجالاته، وكل زمان له دولة ورجال، والنوازل تضيء عتمة النصوص، وتخصب دلالاتها، وتحيل مواقف التصلب إلى لين، والقصد إلى تردد. و(السكونية) التي يفترضها البعض، ليست التصور السليم، وعلينا أن نتوقع تقلب القلوب والأبصار، وأن نسأل الله الثبات على الدين. ومع أنني لم أكن من المتشددين في شدتهم، فإنني لم أكن معهم في تسامحهم، وإن تقاطعت معهم في الحالين، وفق رؤيتي الذاتية، التي لم يملها عليَّ أحد، ولا أدل بها على أحد، ولما لم يكن في المخلوقات مغير لا يتغير فإن الإحالة على الماضوية تعنت لا مبرر له. وأحسب أننا نمر بحمَّى التحولات الانقطاعية، ولكل تحول شفرته وأنساقه. وصرعة البيانات بوصفها خطاباً جديداً منتج هذه التحولات، وعهدي أنه لم يسبق أن اتخذت مشاهدنا في التعبير عن وجهات نظرها مثل هذا الأسلوب، وإن جاءت ممارسات سياسية وفكرية: قديمة وجديدة على هذه الشاكلة، فعلى المستوى العالمي هناك (البيان الشيوعي) المعروف ب (المانيفستو الشيوعي) وهو النداء الذي وجهه (ماركس) و(انجلز) إلى الطبقة العمالية عام 1847م، وعلى المستوى العربي صدرت عدة بيانات بشكل جماعي وفردي، إبان (المد الثوري) ك (البيان الثلاثي) و(بيان طرابلس) و(بيان 3 مارس)، ثم هناك البيانات التي تتمخض عنها الاجتماعات والمؤتمرات، وكل طائفة تعبّر عن وجهة نظرها بالطريقة التي تراها مناسبة. وبعد أحداث سبتمبر، ومواجهة الإرهاب، والتصدي العنيف للانتفاضات، والانحياز الغربي المدان للاستيطان الصهيوني، انفرط عقد البيانات. ففي (باريس) أصدر عدد من المثقفين العرب بياناً يدينون به الاعتداء على اليهود، وفي أمريكا صدر بيان أعده (معهد القيم) ووقعه ستون أمريكياً، يتساءلون فيه عن مشروعية الحرب الأخلاقية والايديولوجية، والموقف من مثيراتها وأهدافها، وعن حتميتها، وعدالتها. ثم تلاه بيان مضاد من مائة وثمانية وعشرين مثقفاً أمريكياً، ومن بعده صدر بيان موقع من مائة وثلاثة عشر مثقفاً ليبرالياً وأكاديمياً وتنويرياً وصحفياً سعودياً، وعلى أثر البيان الأمريكي وقَّع مائة وأربعة وسبعون مفكرا إسلامياً، وأديباً، وعالماً شرعياً، وأستاذاً أكاديمياً بياناً، يشكل رد فعل للبيان الأمريكي، وبعد مدة تراجع بعض الموقعين، وبدأت التهديدات بإصدار بيانات مضادة، واشتعلت في أثره المقالات الصحفية، وامتلأت المواقع المعلوماتية، بين مؤيد ومعارض، وساخر وشامت، ومفسق ومكفر، وأعقب ذلك بيان توضيحي في محاولة يائسة للالتفاف على الخلاف. ومن يعش منا فسيرى اختلافاً كثيراً، والسعيد من كان على المحجة البيضاء، والمرتاح من تخلص من لعبة (التقليعات)، ووسد الأمر إلى أهله، وأدرك أنه من المستحيل اجتماع سيوف في غمد واحد، ومن أخطر المواقف مجيء اللعبة أكبر من الّلاعب.2/2/3 والبيان الذي تعددت قراءاته، لم يكن مثيراً في شيء: فاللغة قريبة من لغة الإعلام، والخطاب وإن ركن إلى الاستدلال، فإنما هو استدلال يتكىء على معارف متداولة، ومنطق مشاع، والمشاهد متخمة بمقولات مشابهة، وحسبنا أن نستمع إلى الإذاعات والقنوات، أو أن نقرأ فيوض القول في الصحف والمجلات، أو أن ندخل على المواقع، كي نستبين ملامحه، فليس فيه شيء من المسكوت عنه: عجزاً، أو جهلاً، أو حظراً. والمثير فيه: (كشكولية الموقعين) وتحول الصقور إلى حمائم، والدوي إلى زجل، وتصور بعض القنوات، أنه شق لعصا الطاعة، وخروج على سياسة المؤسسات. لقد حاول البيان أن يحدد الفعل ورد الفعل، متجهاً صوب الجمع بين النقائض: (التعايش) و(التقاتل) و(الحوار) وهذا الثالوث الجدلي، لم يتحرر بطريقة معرفية، وإنما هي فرضية تمرحلية ساذجة، تحاول التأسيس على التوفيق أو التلفيق أو التأليف، بوصف الآخر وجوداً متجانساً، يمكن مواجهته بخطاب واحدي النزعة والتصور، ولما يكن التصور لاختلاف الدين، وتعارض المصالح، وحتمية الصراع واضحاً لدى المنشئين للبيان. لقد حاول البيانيون تحديد (الأنا) و(الآخر) وتصور المسافة الفاصلة بينهما، وهي مسافة سحيقة في خطاب الأمس، قصيرة في خطاب اليوم وذلك مثار الاستغراب والجدل. والبيان بهذه المحدودية: مادة وإمكانية، لم يقدم مشروعا، يراهن على فك الاختناقات، وتجاوز المراحل الحرجة، وإن كان يحمل هم الإفضاء ببرنامج للتعايش، ولكنه في النهاية برنامج يضمر الرغبة في إثارة المشاعر والانفعالات، وكأني بمنشىء البيان يحيد عن ازدراء (الآخر) ومناهضته وهو الخطاب السابق للحادي عشر من سبتمبر إلى شرعنة حق (الأنا) في التماثل مع (الآخر)، وليس في ذلك قول (معسول أو مغسول) ، وليست ثقافتنا المحلية (إملائية اكراهية احتكارية)، كما (أن ثقافة الأمة لا تقوم على الحفظ والتكرار)، كما يزعم البعض (الوطن 5/3/1423ه). وحتى لو قبلنا بوابل الاتهامات، لكان من الإنصاف تحديد الاتهام، وعدم تعويمه، وإذا كان الكاتب ناقماً على ثقافة أمته، فإن الموقعين يمثلون أنفسهم، وليست ثقافة الأمة من الضآلة، بحيث تختصر في عدد من المثقفين، وقد يشفع لمعدي البيان دون موقعيه، أن التأسيس لمرحلة ما بعد المواجهة تتطلب لغة مغايرة، وجهل الكاتب بمقاصد السلم والتعايش ضخَّم عنده مشروعية (البرّ) و(القسط) مع الجانحين للسلام. وأخطر من هذا، من حمَّل الموقعين مسؤولية الإطاحة بشواهد الحضارة الأمريكية، والتغرير بفلذات الأكباد التائهين في الأحراش والمرتفعات (الشرق الأوسط 25/5/2002م) وفاته أن اللعب السياسية هي صانعة (الإرهاب) و(الجهاد) (جريدة الجزيرة 24/2 و2/3/1423ه) (صناعة الإرهاب بين المناهج الدراسية واللعب السياسية). وإذا كان الموقعون قادرين بتعبئتهم البلاغية على تشكيل جبهة طويلة الأيدي، بحيث تطال الغرب في عقر دارهم، فنعمَّاهم، إذ هم قد فعلوا ما لا تفعله الجيوش المدججة بالسلاح، غير أن في الأمر حلقة مفقودة لا يعرفها إلا العالمون باللعب السياسية، وكم من صانع لعبة لقي حتفه على يد اللاعب بها. وعلى كاتب (الشرق الأوسط) أن يربع على نفسه، فالقضية أكبر مما يتصور، وعرائس المسرح لا تبهر إلا الأطفال. 3/2/3 ومشروعية الارتياب من بعض المفككين يوحي بها اشتغالهم بهذا البيان، دون غيره من بيانات: محلية وعربية، فما من أحد منهم تمعر وجهه من تعاطف (بيان باريس) مع الصهيونية، وقد وقعه عرب مسلمون، وفيهم سعوديون فرانكفونيون، أسرفت في تمجيد التافه من أعمالهم السردية فلول الحداثة. كما أن بيان العلماء والقضاة والمفكرين والأدباء والأكاديميين، زامنه بيان مماثل من شريحة سعودية مغايرة، حيث وقع مائة وثلاثة عشر مثقفا وصحفياً بياناً يطالب الحكومات العربية باتخاذ موقف جاد من الاختراق الأمريكي والإسرائيلي للمنطقة العربية والإسلامية، ويؤكد على ضرورة المقاطعة. والبيانان لا يختلفان عن بعضهما: همَّاً ومضموناً وأسلوباً، والقارئون لبيان العلماء والقضاة والأكاديميين يمكن أن يقفوا على ذات الهنات في بيان المثقفين (الراديكاليين)، ولكنهم لم يفعلوا، الأمر الذي يؤكد على أن البعض مدفوع بموقف مسبق، ونية مبيتة، وليس الأمر مرتبطاً بعوار البيان. لقد مر بيان المثقفين الشباب بسلام، ولم يقرؤه أحد، ومن قبله مر (بيان باريس) بذات الهدوء، مع ما فيه من الجنايات، فيما تهافت العشرات على قراءة بيان المثقفين والعلماء، فمن ناقم، ومن ناقد، ومن موفّقٍ بين الأطراف. وإذ لا أكون معترضاً على مجرد القراءة فإنني أتحفظ على الدوافع والمآلات، وأساليب العرض، وكثرة اللغط حول قضايا ومواقف، لا تستحق كل هذا التدافع والتكاثر، ولاسيما أننا في ظروف قاسية، تستدعي الترشيد حتى في الكلام. والمؤسف أن طائفةً من المتقحمين، لا تحسنُ الورودَ ولا الصدور، والاشتغال في (الدين) و(السياسة) من المرتقيات الصعبة، التي يتهافت عليها من لا يحسن قراءة أبجديتها، وتلك من الظواهر السيئة التي ربكت المشاهد، وكشفت عن الضعف، وجعلت أبا حنيفة يمد رجله ولا يبالي. ومع أنني لم أوقع مع الطائفتين، ولا يمسني القول سلباً أو إيجاباً عن إحداهما أو عن كلتيهما، إلا أنني ألح على المصداقية والواقعية، وأكره التشفي، والإيغال في الذم دون مبرر. فنحن جميعاً في خندق واحد، ونحمل هماً واحداً، ومن التفاهة والسفاهة أن نصفي حساباتنا الوهمية من خلال قضايانا المصيرية. وإذ لا نرتفع بأحد إلى ِسدَةِ العصمة، ولا نرى لأحد الحق في التسامي فوق النقد والمساءلة، فإننا في الوقت نفسه نرفض الوقيعة، والسخرية، والاستهزاء، والإسقاط، ونريد حواراً بعيداً عن تصفيات السمعة. فلقد وصف البعض (الوطن 6/3/1423هـ) لغة البيان (بالضعف اللغوي والركاكة الأسلوبية الظاهرين في كل فقرة منه) إلى أن قال: (بل لا أبالغ إن قلت إن أكثر من تسعين بالمائة من الجمل فيه تحتاج إلى إعادة صياغة لإنقاذها من الوهن). ويمضي الكاتب في سخريته المرة قائلاً: (وأنا أترك نسبة العشرة بالمئة الباقية لوجه الله تعالى). وفات الكاتب أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. فيما اتهم آخر موقعي البيان في نواياهم، واصفا البيان بالبهتان العظيم، وموقعيه بالمضلين والخادعين، مستثنياً طائفة من المجاملين، غير محدد لأحد من الفئتين (الشرق الأوسط 25/5/2002م). ولن أمضي مع زخات السخرية، ورجوم التهكم، ورد النصوص الشرعية، دون فهم للمحظور والمباح في التعامل مع الآخر: فاسقاً كان أو كافراً. ومع أن جانباً من الملاحظات اللغوية والأسلوبية والمضمونية قائمة إلا أن سوء الأدب، والاتهام السافر، والقذف الصريح، ولغة الانتفاخ والتعالي أفسدتها. وقد أوغل البعض في النيل من أحد الموقعين، محيلاً إلى مرحلة التشدد، مضخماً متطلبات (الولاء) و(البراء) و(الجهاد) التي تداولها السلفيون في فترات سبقت، ومع أن (الجهاد) و(الولاء) و(البراء) من صميم المشروع الإسلامي وليست لطائفة دون أخرى، فإن استدعاءهما في ساعة العسرة والجنوح إلى السلام نوع من الوقيعة، وكم هو الفرق بين استدراك العالم وشماتة الناقم، وفات المتسطحين أن الفكر السياسي الإسلامي ينطوي على تعدد المواقف بتعدد الأحوال، وأن للسلم مثلما للحرب قواعده وآلياته، فهناك نظام المعاهدين، وطرائق الجزية، وأساليب الجنوح للسلم، وضوابط سيادة الدولة في إطار التعددية الدينية، واختلاف دين دول الجوار. والنص القرآني لا ينهانا عن (البر والقسط) مع غير المحارب، كما أنه منعنا من التعدي، ولم يجعل لنا سبيلاً على من اعتزلنا، ولم يقاتلنا، وخفف عنا في حالة الضعف، ومن ثم أتاح لنا فرصة التعايش السلمي، والتحرف والانحياز، وحدد مفهوم التولي يوم الزحف، وقبل الزحف، ووضع ضوابط الجهاد والدعوة، ولن ندخل في التفاصيل، وتقصي متطلبات (آية السيف) ومنسوخها، والاختلاف حول (الإنساء) و(النسيان) و(النسخ المرحلي) و(النسخ الناجز)، والمحكم والمتشابه وخلاف العلماء حول (الصّغار) في دفع الجزية (وأضيق طريق) والعموم والخصوص، فتلك مهايع من الصعب الركض في فجاجها. والبيان مع ذلك يفتقر إلى الفكر السياسي الإسلامي، الأمر الذي حفز المتصدرين إلى التعديل والإيضاح، وحفز المجاملين إلى التسلل ولحس الإمضاء. 4/2/3 والمؤسف أن البعض من الموقعين تحت وابل النقد والضغوط لوّح بالتراجع عن توقيعه مبدياً الأسباب الحاملة على التراجع (الوطن 6/3/1423هـ). ومهما كانت الأسباب وجيهة، فإن التراجع في حد ذاته يهز شخصية المتراجع، ذلك أنه يجب ابتداءً عدم المجاملة في التوقيع على بيان سياسي بهذه الأهمية، ومن فئة على هذا المستوى، إذ من بين الموقعين أكثر من مائة أستاذ جامعي، خمسون منهم من جامعة الإمام، وخمسة وثلاثون من جامعة الملك سعود، والبقية من جامعات أخرى، وفيهم ثمانية قضاة، وأحد عشر طبيباً، وست عشرة امرأة، معظمهن أكاديميات، وعدد من المفكرين والمحامين والصحفيين، وثلاثة أعضاء من مجلس الشورى. وكان على الذين وقعوا، وهم بهذا المستوى أن يقرؤوا البيان كلمة كلمة، وألا يوقعوا إلا بعد قناعة ذاتية، إذ لم يشهر القائمون بإعداده وتمريره سيوفهم على الرقاب، وحين تكون المواقف ارتجالية وعاطفية من نخبة بهذا المستوى، وبذلك التعدد، فإن الأمر لا يليق من علماء وأدباء ومفكرين وقضاة وأكاديميين. وإذا تبين خطأ الفعل أو خطأ المضمون فعلى المقترف الاعتراف، وتحمل كل ما يترتب عليه من مسؤوليات، ذلك أن المغانم مع المغارم. فالذين ينشدون الآخرة أو زينة الحياة الدنيا، لابد أن يعرفوا أن الطريق إليها محفوف بالمخاطر والمكاره. وإشكاليتنا أن المبادرات الشخصية والمجاملات تحكم الكثير من تصرفاتنا، بحيث تعن الفكرة لأحدنا ابتدارا أو محاكاة أو ردة فعل، فيستأثر بكل شيء، ولا يجد الوقت الكافي لطرح الفكرة على المشاركين، وتداولها مع طائفة ممن يثق بهم، وتشكيل فريق عمل متعدد التخصصات والتجارب، وفوق ذلك تحكم البقية المجاملة، فإذا قُدِّم لأحدنا بيان أو خطاب، لم يتردد في توقيعه، ظناً منه أن العلاقات الشخصية تقتضي الاستجابة الفورية. والبيان الذي استأثر بردود فعل حادة، وقعه العلماء والمثقفون والمفكرون بأسلوب (تمريري)، ولم يعايشوه من درجة الصفر، وتلك إشكالية، لم نتخلص منها، حتى في الأعمال الإدارية، فالفردية والمركزية ظواهر سلبية بادية للعيان، ومن الأجدى والأهدى ان نمتلك الشجاعة على التساؤل والتمحيص، وان نقول: (لا) بملء أفواهنا وبمحض إرادتنا، ويجب في قضايا الفكر والدين والسياسة ألا تأخذنا فيهما لومة لائم. وحين اعتذرت عن التوقيع، لم أبال بالسخط، أو بالرضا، بل لم أفكر في شيء منهما، ولم أتوقع أن يكون سخطاً من أحد، ذلك ان طريق النجاة لم يكن محصورا في التوقيع، فما أكثر الطرق التي تؤدي الى النجاة، والذين يربطون صداقتهم بالمسايرة كما (شاعر غزية) لا يستحقون الاهتمام. |
تفكيك المفككين لبيان المثقفين..! 3/3
حسن بن فهد الهويمل 1/3/3 ولأن الموقعين خليط غير متناغم، وغير متفاهم، وغير متكافئ، فقد فقد البيان انتماءه، فالقارئ السلفي أوغل في نقد السلفيين الموقعين، والمفكر المتحرر في تفكيره، نال من المفكرين الذين نسوا ماهم عليه، والسياسي المتمرس في اللعب السياسية سخر من السياسيين الذين تناسوا الإحالة إلى جهابذة اللاعبين. وكل قارئ حاكم البيان من خلال خليفته الثقافية وموقفه من الأحداث. والبيان الذي مُزق كل ممزق، يأتي في سياق مخاضات متعددة، وطرائق قدداً في سبيل التعبير عن المواقف والآراء، وصنع القيادات الفكرية والدينية، وكل حزب بما لديهم فرحون، وهذه الفلتات، قد ينعكس أثرها على وحدة الصف ووحدة الفكر، لأن ذويه يشكلون نخبوية، تنفرد بالتعبير عن موقف: مصيري وجماعي، وقد أدى بالفعل إلى خلافات ومناكفات، في زمن نحن أحوج ما نكون إلى الالتفاف، ولا شك أن الواقع العربي والعالمي يشكل ضغطاً على المشاعر، ويسهم في خلط الرؤى والتصورات، ولما تزل حرب الخليج كليل «امرئ القيس»، الذي أرخى سدوله بأنواع الهموم، التي أثقلت الكواهل، وعمقت اليأس والقنوط، فالمفكرون والساسة والعلماء في حالة من الارتباك والفوضى، وبخاصة بعد الانتفاضة، وعمليات التفجير، ومواجهة الإرهاب بحرب موسعة مدمرة، لقد زادت الفوضى الفكرية، وتعمق الخلاف، وشاع الوهن، واستفحل الارتياب، وادلهمت الأمور، وناقض الإنسان نفسه، بحيث تحول البعض من سلفي متشدد إلى «ليبرالي»، متطرف أو «راديكالي»، متعنت، وكشفت مواقع «الإنترنت»، عن سوآت ما كنا نتوقعها، وأخلاقيات ما كنا نعهدها، وتلك مخاضات سينعكس أثرها على أخلاقيات الأمة.. ومن الظواهر السيئة استغلال المنجز العلمي، كالمواقع «الإنترنتية»، و«القنوات الفضائحية»، لنشر الغسيل، وتبادل الشتائم، وإيقاظ الفتن، ونبش الماضي، وتلفيق التهم. وكان بالإمكان تحويل هذه المواقع إلى منابر لرأب الصداع، وتضميد الجراح، ورفع المعنويات، والتسديد والمقاربة، وتبليغ ما أمرنا بتبليغه. وأحسب أننا أحوج ما نكون إلى التخلص من ردود الأفعال المتشنجة، والفراغ لاستئناف الأقوال ابتداءً، ومن الخير لنا أن نطرح مشروعنا الإسلامي، كما جاء، وكما أراده المشرّع. لقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل صراحة: «بلغوا عني ولو آية»، فالطائفيات، والمذهبيات، والتعصب الأعمى: للقضايا والشخصيات مضيعة للجهد والمال والوقت. لقد ضمد العالم جراحه، وتناسى خلافاته، والتقى على كلمة سواء، نابذاً الخلاف وراء ظهره، مستقبلاً الوفاق المشترك، وكان الأحرى بنا أن نسبق إلى الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق. 2/3/3 ومع كل هذه الضجة، فإن البيان لم يكن مبادرة، ولا ابتكاراً، لقد سبقته بيانات أخرى من مثقفي أمريكا، ومن مثقفين عرب: مهاجرين ومقيمين، ولحقته بيانات من «ألمانيا»، «الوطن 9 و10/4/1423هـ»، وهو أشبه ما يكون بردة الفعل الوديعة، وقد يحيله البعض إلى تسجيل المواقف، والتذكير بالحضور. وإشكالية كل البيانات العربية: إسلامية أو قومية «ليبرالية» أو «راديكالية»، أنها لا تخرج في مضامينها عن المتداول إعلامياً، فليس هناك إضافة تذاكر. وكل المثير في بيان المثقفين: أنه جمع الأشتات الذين يظنون كل الظن ألا تلاقيا، وتشكيلة الموقعين يتحكم فيها الممررون للبيان بعد طبعه، والمدقق في المواقع العملية للموقعين يدرك ذلك، «فمستشفى الملك فهد» استأثر منسوبوه بأحد عشر توقيعاً، فيما لم يوقعه عدد دون ذلك من مستشفيات مماثلة، ومن المثير تأكيده على أصول التعايش من أطراف، لم يكونوا يسمحون لغيرهم التقارب مع المناقض، فضلاً عن أن يصدر طواعية من عند أنفسهم، فلقد جاء البيان مغيباً ما ألفنا الحديث عنه «كالجهاد»، و«الولاء والبراء» وإن كان التغييب لإفساح المجال للسلم المشروع، والحوار المطلوب، ولكن البعض استنكر هذا التحول في الخطاب: إما لسلفية تستنكر مجرد التفكير بالحوار، وإما لجهل أو تجاهل لظروف الطرح ودواعيه. فالبيان يحمل هم التخطي من الحرب إلى السلام. مؤسساً لأسلوب تعايشي من طرف واحد، وبعض المفككين للخطاب يرون فيه حالة استثنائية، تمثل غياب «الأصولية»، المتشددة، وبروز «الوصولية» المتزلفة، والمصير إلى انفراج غير متوقع، ومع أنه خطاب يتحامى مآزق المفاضلة والتصدير، إلا إنه يستبطن التميز والخصوصية، وتغييبه متطلبات «الولاء والبراء» و«الجهاد»، لمجرد أنه في حالة المصالحة في سبيل الخلوص من وهدة القتل المجاني، الذي استخدمت فيه أحدث الآليات وأبشعها، ولكل حدث حديث، فالمفاوض غير المحارب، والمصالح غير المنابذ، والجانح للسلم غير المتحرف للقتال وكنت أتمنى لو ماثل البيان «الألماني» في جدليته ونديته «الوطن 9 و10/4/1423هـ». ومع أن الموقعين خليط متناقض، إلا أن الانفراج ولغة التصالح والتعاذر استهوتهم جميعاً، وبعد إفراغ الشحنة العاطفية المتأججة، أعاد البعض منهم قراءة البيان، ونظر إلى من حوله، فأنكر الوجوه واستنكرها، وأنكر على نفسه الاندفاع، دون التروي والمراجعة والاستخارة، حتى لقد أعلن البعض منهم تراجعه، بعد أن فند الأخطاء والتجاوزات: العقدية والمبدئية، ولم يلم نفسه على اندفاعها العاطفي، بل مارس الإسقاط مبرئاً نفسه من كل التبعات على حد: «أنج سعداً فقد هلك سعيد». ولربما جاء التراجع نتيجة قراءات سلفية متفاوتة ذكَّرت الموقعين بمواقفهم ومبادئهم، وأوجفت عليهم بسيل من الفتاوى والمناشير، التي ما كنا نود أن تكون بهذه الحدة وبتلك الحدِّية. وإذا كان بعض الناقمين يحيل إلى ماضي البعض المتشدد، فإن قارئين آخرين يطالبون بالعودة إلى التشدد، مما حول الموقعين والبيان ومقتضاه إلى معضلة «جحا» و«ولده» و«حماره». والبيان لا يحتمل كل هذه الضجة، فهو تجشؤ من فراغ في فراغ، ونفثة مصدور ذابت في الأثير، وسيعود الجميع إلى «تيميتهم» المعهودة، بحيث يقضى الأمر في غيابهم، ولا يستأمرون وهم شهود. فالعالم المتغطرس لا مكان فيه للضعفاء، ومن أراد السلام فليستعد للحرب. وكيف تتأتى الندية، وكل إقليم مثلُه كمثل العائل المستكبر، يصنم إنسانه وحدوده، ويرى نفسه مركز الكون. ومعضلتنا، أننا عاطفيون، اندفاعيون، لا نحب هوناً ما، ولا نبغض هوناً ما، ولا نوغل برفق، فنحن في كل قضايانا أشبه بالمنبتِّ الذي لا يقطع أرضاً ولا يبقي ظهراً، ولقد وصف البعض هذا الارتباك ب«نكسة المثقفين» «الشرق الأوسط الأحد 16/6/2002م». والحق أن النكسة قائمة من قبل، ولكن الأثرة، والتنازع على دوائر الضوء، وتوهم المغانم، والتهافت على أشباحها أضاع الرشد، وذكرنا ب«أشعب» و«الوليمة». 3/3/3 وإذ يشكل بيان المثقفين الأمريكيين وبيان المثقفين السعوديين فعلاً ورد فعل، فقد تشابها في عرض الحيثيات والمقتضيات، فالأول اتخذ عنوان «على أي اساس نقاتل» فيما اتخذ الآخر عنوان «على أي أساس نتعايش» مستهلاً بيان الأمريكيين فاتحته بخمس حقائق إنسانية: - الحرية، والبحث عن الحقيقة، واحترام الأديان، والتزام مقتضى الإيمان، ومحورية الإنسان، وتأهيل الحضارة الغربية لقيادة العالم، معترفاً بالخطأ، معتزاً بقيم الحرية والعدل والديموقراطية، متطلعاً إلى تبادل القيم المشتركة، مؤكداً على احترام الأديان، مبرراً للعلمانية والعولمة، راغباً في التسامح، وقراءة الأديان لفهمها، محذراً من الحرب، مؤكداً على مشروعيتها لرد العدوان. ولما يستهل بيان المثقفين السعوديين فاتحته بالقيم الإنسانية، وإنما جاءت حقائقه المحايثة في الفقرة الثانية من الصفحة الرابعة، لم تكن خمساً، بل جاؤوا بثمان هي:- تكريم الله للإنسان، وتحريم قتل النفس إلا بالحق، وعدم الإكراه على الدين، والعلاقات الأخلاقية، وخلق كل شيء للإنسان ومن أجله، ومسؤولية الجناية على الجاني، والعدل، والدعوة بالحسنى. والبيان الأمريكي تبريري إسقاطي شمولي دعائي، فيه خبث وذكاء، فالحرب ضد الإرهاب عادلة، لأنها من أجل الدفاع عن المبادئ الإنسانية، ومن ثم فليس من المعقول معاداة الأمريكيين من أجلها، فيما يفقد البيان العربي كثيراً من لعبة المراوغة و«التكتيك»، وتنقصه فنيات الحوار، وبراعة الالتفاف على المحاور. والفرق بين البيانين: أن الأول أعده «معهد القيم الأمريكي»، والثاني أعد بجهد فردي، وكم هو الفرق بين «المطبخ السياسي العريق» و«أكشاك الوجبات السريعة»، ورد المثقفين «الألمان» على البيان الأمريكي أقوى وأدق وأشمل. والبيان إذ يكون موجهاً لشريحة بشرية، لها مستواها المعرفي، كان لابد من مراعاة التماثل بين نصه وإحالته من جهة، والمتلقي من جهة أخرى، ولن يؤدي وظيفته التواصلية، ولن يحقق الاستجابة، ما لم يخاطب الآخر في إطار القواسم المشتركة، ومنشئه حاول ذلك، حين عول على «العدل» و«الحرية» و«المساواة»، وهي مفاهيم يتداولها كل مشروع سياسي أو اجتماعي حتى «الماسونية» طرحت هذه المقتضيات، وأزلقت بها أقداماً كثيرة، والمهم ليس في التطلع، ولكنه في الممكن والمفهوم.والبيان أعد بلغة إنشائية عاطفية، تتصيد حجتها من فيوض الإعلام، ولا تنجو من ارتباك، وتزيد، وشوائب: في المفردات والتراكيب. وهي الثغرات التي نسل منها الموغلون في النقد، ومع التسرع والارتباك، فإن لغته ليست سيئة، ولا سوقية، كما يتصور البعض «الوطن 6/7/1423هـ»، ولكنها لم تكن بالمستوى الملائم لعشرات المفكرين والعلماء الذين وقعوا عليه، وكان يجب أن يعولوا على «لغة التفاوض» بكل متطلباتها: الوضوحية، والمحدودية، والامتلائية. وثغرات لغة التفاوض والاتفاقات والبيانات تديم مطال المتلاعبين، ولهذا يحرص صاغتها متى كانوا ناصحين على تجويدها، واستبعاد الكلمات والصياغات التي تحمل أكثر من تفسير، وقد سبق الجميع إلى تحرير «لغة التفاوض»، علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حين قال:- لا تجادلوهم بالقرآن، فإنه حمال أوجه، ذلك على اعتبار شرعية الفعل، وجدواه، والبيان حين مثل للعيان، لم يعد هناك جدوى من القول في الشرعية، لأنه أصبح قضية ماثلة. 4/3/3 ولو أننا أحلنا «البيان» إلى «لغة التفاوض»، وهو بلا شك نوع من أنواعه، فإننا نستذكر مقولة «ديفيد بيل»:- «إن المفاوضات من أكثر العمليات الذهنية تعقيداً» ومعدو البيان «سلقوه» بسرعة، وبطريقة مرتبكة و«ديفيد بيل» يؤكد على الانتباه «للغة» و«الاتصال»، ومعد البيان لا يمتلك لغة تفاوضية، ولا لغة قانونية، وإنما هي لغة وعظية استرقاقية خطابية، ولعلنا نستعيد الأسئلة التقليدية عن عمليات الاتصال:- من قال؟ وماذا قال؟ وكيف قال؟ وعن أي شيء قال؟ وما أثر القول؟ ولو تقرينا الإجابة على تلك الأسئلة، لتحددت لنا أبعاد البيان، وتجلت لنا هناته، ونحن على كل المستويات، لّما نزل بحاجة ماسة إلى لغة محكمة، تخترق كل التحصينات، وتحمل الطرف الآخر على أن يصيخ. ولابد في «لغة التفاوض» من أن نفرق بين «لغة النص» و «لغة الخطاب»، والنص لا يقتصر في مفهومه على البناء اللغوي فحسب، وإنما يمتد إلى نوع النص، وظروف النص، وأطراف الأداء والتلقي، وهو ما يعبر عنه بلاغياً ب «مراعاة مقتضى الحال». فيما يكون «الخطاب» أوسع من ذلك بكثير، فهو المشروع بكل متطلباته ومقتضياته، ومن ثم يأتي «النص» بكل مفاهيمه مفردة من مفردات الخطاب. ومن حقنا أن نتساءل عمن ناب عن المجموعة في التفكير والتدبير، وكتب البيان، سواءً كان فرداً أو مجموعة، وسواءً جاء عن طريق التداول وفريق الصياغة، أو كان مبادرة من فرد فكَّر وقدَّر وخطه بيمينه، ثم أخذ التوقيعات عليه، على شاكلة «القرارات التمريرية». وهل هذا الفرد أو تلك المجموعة على فهم عميق بحقائق الأشياء والأحداث وحجم اللعب؟ وهل يعي حجم إمكانياته وقدراته على تفعيل ما يقول، وتحقيق ما يتطلع إليه؟ وهل لديه فهم دقيق لتطلعات الرأي العام، وتصوراته للأشياء، وموقفه منها؟ لقد جاء البيان ناكئاً للجراح، مشتتاً للشمل، مثيراً للرؤى والتصورات، معيداً لما كنا قد مللنا الحديث فيه وعنه. لقد مثل البيان للعيان، وليس من حقنا الركون إلى الظن فبعض الظن إثم، وهو في نظري مسؤولية جميع الموقعين بالتساوي، ومن نكص على عقبيه باء بإثمه. ويقيني أن الناقمين والمعذرين يركنون إلى سوائد المفاهيم، ويحيلون إلى فرضيات محتملة. إن فينا من يفترض الغزو والتآمر، ويميل إلى الانكفاء وسد الذرائع، فيما يأتي أقوام آخرون يستبعدون الغزو والتآمر، ويحيلون على نقص الأهلية في الذات العربية، تمهيداً لشرعنة الاستغراب، وفيما بين هؤلاء وأولئك، من يعول على اللعب السياسية، التي تصنع الفتن، وتجيش الجيوش، وتلبس لكل لعبة ما يناسبها، وفينا العصاميون، والعظاميون، وأبناء العصر، والمحيلون للتاريخ والأمجاد، والجالدون للذات، والمحبطون، والناقمون، والسماعون. والدخول في هذه المعمعة يتطلب خلفية ثقافية متعددة المصادر والمرجعيات، ولا أحسب البيان مستوعباً لكل هذه الرؤى، متسعاً لكل هذه التناقضات. لقد فوض الموقعون الغربيون أمرهم إلى مؤسسات مليئة بالمجربين والمتخصصين والخبراء والمستشارين، وجاءت أفعالهم وأقوالهم بعيدة عن الانفعال والافتعال، فيما عولنا على سلطة الفرد، يقول عنا، ويفعل عنا، حتى لقد صرنا كما المتنبي مع ممدوحه «تركتني أصحب الدنيا بلا أمل»، أو كما قوم موسى معه:- «إذهب أنت وربك فقاتلا». أحسب أن البيان جاء متواضعاً، لا من حيث المعلومات، ولا من حيث الرؤى والتصورات، ولو استذكرنا قدرات التواصل الأربع:- «الثقافة، اللغة، النفس، السياسة» لوجدنا البيان يلم ببعضها إلماماً عفوياً لا معرفياً، ولكنه إلمام لا يحفظ التوازن. ومهما تعثرت لغة البيان وتسطحت معلوماته، فإن على المفككين احترام الكفاءات المدبرة، والأخرى المتواكلة، ذلك أن خطأ الفعل لا يحبط ما قبله من أفعال، وكلنا خطاؤون، ولا يظفر بالتميز إلا الرجاعون إلى الحق. 5/3/3 والقارئون للبيان أدركوا ثغرات كثيرة، ووجدوها فرصة لتصفية الحسابات، وفاتتهم ثغرات أخرى، وكما أشرت فإن مداخلات متفاوتة الإمكانيات متعددة النوازع، جاءت عبر الصحف، وعبر المواقع، وبعضها أوغل في الذم والاتهام والتشفي، وحاول بعضهم التذكير بالمواقف السابقة التي تختلف كثيراً عما حواه البيان من لطف ورقة وتعاذر، ولما يعول البعض على قوله تعالى:- {وّجّادٌلًهٍم بٌالَّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ}، وقوله: {لا يّنًهّاكٍمٍ پلَّهٍ عّنٌ پَّذٌينّ لّمً يٍقّاتٌلٍوكٍمً فٌي پدٌٌَينٌ وّلّمً يٍخًرٌجٍوكٍم مٌَن دٌيّارٌكٍمً أّن تّبّرٍَوهٍمً وّتٍقًسٌطٍوا إلّيًهٌمً } وقوله تعالى: {فّإنٌ \عًتّزّلٍوكٍمً فّلّمً يٍقّاتٌلٍوكٍمً وّأّلًقّوًا إلّيًكٍمٍ پسَّلّمّ فّمّا جّعّلّ پلَّهٍ لّكٍمً عّلّيًهٌمً سّبٌيلاْ} فلا سيطرة، ولا وكالة، ولا إكراه في الدين. والاختلاف - في تصوري- ليس حول النصوص، وإنما هو حول المفاهيم والمقتضيات، ف«السلفي» يفهم «لا إكراه في الدين» فهماً مغايراً، فيما يراه «العلماني» و«الليبرالي» شيئاً آخر، وأعجب شيء قضية «المفهوم» فما من اختلاف إلا وللمفهوم يد فيه. ولا شك أن صدور البيان بهذه الصيغة، وبتلك الإمكانيات، مداعاة لمزيد من المساءلة. ومواجهة فكرية وسياسية بهذا المستوى، تتطلب مؤسسة متخصصة، ومسؤولة ، تمتلك النيابة، وحق الفعل، متوفرة على فريق عمل، ينهض بإعداد البيان، والتعبير عن الرأي والموقف، بحيث تراعى فيه متطلبات الحكم واللغة السياسية وسياقات الأمة وظروفها وموقف الآخر. وفوق كل ذلك لابد من شرعية الفعل وأهلية الفاعل، فليس من مصلحة الأمة انفلات العقد، ومن أراد أن ينوب عنها فلينطق بلسانها، وليعبر عن همومها، بلغة رصينة، ومعلومة دقيقة، وحكمة بالغة، وتفويض مشروع، ومتى اجتهد المقتدر، وأقدم على الفعل، وجب احترامه، وحسن الظن به، ورده إلى الحق رداً جميلاً، وكل الذين داخلوا عدلوا عن شرعية الفعل إلى أهليته، وفي نظري أن «الشرعية» و«الأهلية» صنوان، وعلينا أن نفكر دائما في الشرعية، متى نهضنا بمهمة جماعية فالإنابة لا تملك شرعيتها بمجرد الاقتدار على القول، وعلى الذين تساورهم رغبات القول، أن يتوفروا على المناخات الملائمة، وأن تكون عندهم دقة في حسابات الخسائر والأرباح. |
الصَّيفَ ضَيَّعْنَا كُلَّ الألبان..!
حسن بن فهد الهويمل خطب أعرابي امرأة في الصيف فرفضته، فلما كان في الشتاء، ومسّها البرد والجوع، طرقت بابه تطلب لبناً، تسد به فاقتها. فقال لها كلمته التي أصبحت مثلاً: - «الصيف ضيعت اللبن». والناس في بلادي يضيِّعون في الصيف أشياء كثيرة، ويتجرع الفقراء منهم ومحدودو الدخل مرارات الالتزامات الصيفية المتنامية عاماً بعد عام، ويبدو الشح والضيق في كل المرافق العامة، وتعلن الدوائر الخِدمية والزمنية حالة الطوارئ. ترتفع في الصيف درجة الحرارة إلى حد لا يطاق، حتى لا تستطيع معه الأجهزة المسخرة لتكييف الطبيعة على التغلب عليه، وترتفع مع درجة الحرارة نبضات القلوب، وتتوتر معها الأعصاب، وتصعد نسبة المشاكل والحوادث والخلافات. وفيه تكثر المناسبات، وتعمر قصور الأفراح، وتعج الأسواق بالمتسوقين، ويزداد نهم الناس، ويستذكرون ما غفلوا عنه، أو أرجؤوه، أو شغلوا عنه في أيام الدراسة، من مقومات الحياة ومتطلبات العصر. والمؤلم أن الصيف المرتقب من الآباء والأبناء للانطلاق في أرض الله الواسعة، للراحة والاستجمام، يرهقهم صَعوداً، ويخنقهم سعيراً. والمعهود أن الإجازات تفيض بالبهجة والسرور، واستعادة النشاط. والبسطاء والخليون والموسرون يحسبونها كذلك، ويظنون كل الظن أن الجميع بعد فراغهم منها، يعودون إلى ديارهم وأعمالهم، وهم ممتلئون بالحيوية والنشاط، وما درى أولئك أن السواد الأعظم يمرون بفترة الصيف اللافح، وكأن الأقدار قد جمعت لهم فيها كل العذابات والضوائق. أطفال أكملوا السابعة، يحتاج أولياؤهم إلى مراجعات للمدارس والمستشفيات والأحوال، تمهيداً لإلحاقهم بالمدارس، فمستهل العام الدراسي في أعقاب الصيف. وحملة الثانوية العامة من بنين وبنات بكثرتهم، وتدني معدلاتهم، يتدافعون إلى الجامعات، التي لا تستوعب شطرهم، ومكملون يحتاجون إلى دروس خصوصية، ومتفوقون يرقبون الاصطياف، ومؤخرون للزواج يتحفزون لاستكمال نصف الدين، وبيوت تحتاج إلى ترميم، وأجسام تتطلب فحوصات وعلاجاً، وأوضاع كثيرة يسوِّف بها أصحابها إلى العطلة، حتى إذا جاءت، جاءت معها بكل المصاعب والمتاعب. وخمسة ملايين مواطن يبرحون أرضهم وديارهم كل عام، جُلُّهم للاصطياف، كما في تصريح أحد المسؤولين، وخمسون مليار ريال، تراق تحت أقدام الاستجمام ومتطلبات السياحة خارج البلاد، كا يقول مسؤول آخر، وكل شيء في الصيف قابل للاشتعال، حتى الفيروسات والبعوض والجراثيم، وكل مراجع يتأبط بشماله ملفاً، يمسك بيمينه شفيعاً، وهو يردد: - «إن السفينة لا تجري على اليبسِ». وفي الصيف ينتهي العام الدراسي الذي قيد العفاريت والأشقياء من الطلاب والطالبات في البيوت للمذاكرة، وفي فصول الدراسة للتعلم، وفيه يفرغ الشباب من شبح الدراسة، ورهبة الامتحان، ولزوم البيوت، ومطاردة أوليائهم لهم، من أجل التحصيل، وحل الواجبات، وتنظيم الوقت، والنوم المبكر، والاستيقاظ المبكر، حتى إذا سلّموا آخر ورقة في الامتحان، لفظتهم البيوت، بما يتوفر لهم من: شباب، وفراغ، وجدة، وشيطنة. والثلاث الأول منها، «مفسدة للمرء أي مفسدة»، وما أن تغلق أبواب المدارس، تفتح أبواب المشاكل، فتضج السيارات بالحركة: جيئة وذهاباً، على غير هدى، وبدون حاجة، مما يعرض المارة للخطر، والسكان للأذية، ويعلو صريخ العجلات المزعج، تعبيراً عن البهجة بأيام الصيف، ولمواجهة هذا التعبير المتخلف، تنتشر سيارات المرور والدوريات، لتخفيف حدة الإزعاج، والحيلولة دون المخالفات والحوادث. وقد يصعّد الشباب التعبير عن مشاعرهم ب «التفحيط»، الخطر، والمواكب المزعجة، والسرعة المرعبة، والقطع المتعمد لإشارات المرور، وفي المنتزهات يختلط الحابل بالنابل والخليّ بالشجيّ، ثم لا يكون احترام لكبير ولا رأفة بصغير ولا غض لبصر، الأمر الذي يضطر جهات الأمن إلى إعلان حالة الطوارئ، وفي كل ذلك يتحمل الآباء مصائب الكوارث، والحوادث، والغرامات، والمطاردات، ويتحول حديث الناس إلى تفجُّع ومواساة، ومن لم تشبع فضوله التجمعات في الساحات، والمطاعم، والمقاهي، والحدائق، وأطراف المدينة، والاستراحات، والمراكز الصيفية النمطية المتقشِّفة المتسوِّلة، يأخذ ما خف حمله، وغلا ثمنه من أشيائه، مع ما يسلبه من جيب والده من مال، ويطوف مع زملائه أرجاء الوطن يبغي الرفاهية الموعودة، حتى إذا جاءها لم يجدها، ووجد الغلاء وأزمات السكن عند بوارق الدعاية، وقد تعدو عيناه إلى مطارح السياحة في الخارج، فيكون فريسة المغريات، ويعود بعد أمة، خالي الوفاض: جيباً وجسماً. واللافت للنظر أن نصف المغادرين كل عام، حسب إحصاء «إدارة الجوازات»، يذهبون إلى دولة البحرين، فماذا يجدون؟ وبماذا يعودون؟. وحين يغرق الشاب المسكون بكل الشهوات والرغبات في دنياه الحالمة فوق مرتفعات الجبال، أو على سواحل البحار، ينتابه كرم حاتمي، فيحثو الدينار والدرهم يميناً وشمالاً، مما يضطره إلى مهاتفة أبيه، طلباً لمزيد من النفقة أو إشعاراً لأهله بتمديد زمن الرحلة. والأب المسكين غارق بضيوفه الذين يتهافتون عليه من هنا وهناك، يستهل أيام العطلة بالولائم الدسمة، والترحيب العريض، والتعرض لكل قادم، فإذا شارفت العطلة الصيفية على النهاية زوته الحاجة، وأنهكه التعب، وتكاثرت عليه المناسبات، حتى يكون «كخراش»، الذي تكاثرت عليه «الظباء»، فما يدري ما يصيد، غير أن المسكين يتكاثر عليه «الغول»، فما يدري ما يواجه أو يتقي، فيجنح إلى الوجبات الخفيفة، والاعتذار المتواصل، ومحاولة التسلل لِواذاً من كل مناسبة، فلا يسلم جيب، ولا يتوفر عرض، ولا تحصل راحة. ولأن النساء والأطفال والبنين والبنات فارغون من كل شيء، فإن نهارهم يتحول إلى سبات، وليلهم إلى معاش، وتصير الهواتف والجوالات هي المتنفس الوحيد، وتظل الكهرباء على أشدها، وكل ذلك على حساب العائل الفقير، الذي أضناه عام الجد، وسحقته أيام الراحة والاستجمام، فما وجد الراحة في عام الجد، ولا وجد الاستجمام في أيام اللهو البريء. وصيف نجد من أسوأ الفصول، وأشدها حرارة، ولا يطفئ لظاه إلا تدفق الماء العذب والهواء البارد، ولا يتوفر ذلك إلا بأغلى الأثمان، و «شركة الكهرباء»، و «مصلحة المياه»، تدخلان في أزمات طاحنة، وعجز مخل بالوفاء، وفي هذا الفصل تكثر الشكاوى والتذمرات، من انقطاع التيار الكهربائي، ونضوب الخزانات، نتيجة الأحمال والاستغلال، وأزمة مياه الشرب قاتلة، فثمن الماء قد لا يكافئه راتب القاعدة العريضة من موظفي الدولة، وشح الماء يجعل «بورصة»، «الوايتات»، تضرب رقماً قياسياً، وتبدو ظاهرة السوق السوداء، الأمر الذي يضطر السلطات إلى التدخل لحماية المستهلك. ودعك من سائر المناسبات التي تعرف منها وتنكر، كمناسبات الزواج التي تشتعل في كل مدينة وقرية، وما يصحبها من إنفاق باذخ، لا يدرك حجمه إلا الوالدان والأقربون، فكل الأسواق، وبخاصة أسواق الذهب والهدايا والحلويات والزهور والعطور والأقمشة تعج بالحركة. كما ينشط مصممو الدعوات وطابعوها، ومصممو الأزياء، وخياطو الملابس والفساتين، وترتفع أسهم «الطقاقات»، و«الطهاة»، و «الكوافير»، وهذه المناسبات مضيعة للجهد والمال والوقت، تأتي على ما جمعه الآباء، وما وفره الأبناء والبنات من رواتب ومكافآت. ومما يضاعف الأعباء أن الأبعدين في مقار سكنهم من المعارف والأقارب والأصدقاء يقبلون بِقَضِّهم وقَضِيضِهِم: سائحين أو مشاركين في المناسبات، ولا يجدون الراحة إلا في بيوت أقاربهم، بدعوى صلة الأرحام، والتواصل، وتعارف الأبناء. وتقاطرهم جماعات ووحدانا يزيد الطين بلة، فبعض البيوت صغيرة، لا تتسع للساكنين الأصليين، ولا توفر الكفاف من خدمات الماء والكهرباء في الصيف لذويها، فإذا بها تستقبل العديد من الأقارب، لحضور مناسبة عارضة، أو زيارة واجبة، والعائل المسكين في جيئة وذهاب، لتوفير الأجواء الملائمة للنساء والأطفال داخل البيوت، ولذويهم من الرجال في المتنزهات والشاليهات والاستراحات، واليد القصيرة والعين البصيرة في جيئة وذهاب، لإنفاق ما في الجيب، في انتظار ما لا يأتي من الغيب، مستأنساً بالمثل التفاؤلي «أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب». والإنفاق مطلب ديني، والكرم سمة الرجال، وصلة الرحم من صفات المؤمنين، ولسنا ندعو إلى نقيض القيم والمثل العربية والإسلامية، ولكن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وإذا كان الموسرون قادرين على الإنفاق، وإذا كانت البيوت الواسعة قادرة على الاستيعاب، فإن الأغلبية لا يملكون مالاً، ولا يتوفرون على مساكن واسعة. ومع أن التزاور والتواصل مطلب إسلامي وعربي إلا أن الصيف بكل ضوائقه، لا يحتمل التحركات الجماعية، والوفادات المتواصلة، فهل من مدكر؟. ومناسبات الأفراح والأتراح باهظة التكاليف، ولا سيما إذا كان الأقارب يتعاملون مع بعضهم على مستوى «البروتوكول» الحاتمي، ومقتضيات الضيافة العربية، التي طواها التحضر، بحيث تُنحر الكُوم من بهيمة الأنعام، وتُقام الولائم، ويدعى الَجفَلَى من الأقارب والأباعد على حد:- «نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى... لا ترى الآدِبَ فينا ينتقر» وإذا استوت الذبائح على الجفان، لا يجد المضيف بداً من الاعتذار عن تقصيره في حق الضيف، مؤكداً أن حقه ليس فيما يوضع في الجِفان الغُرّ، التي تلمع في العتمات، وهذه الطوائف التي بَطِرَتْ معيشتَها، وجرَّت أُزُرَهَا، وفتلت شواربها، لا تنظر إلى المشاعر، ولا إلى الإمكانيات، وإنما تُسمِّرُ عيونَها على الوليمة، مؤمنةً بأن الإنسان يُقوَّم من خلال أشيائه، لا من خلال ذاته وأخلاقياته، وما علموا أن المرء إذا لم يدنس من اللؤم غرضه، «فكل رداء يرتديه جميل»، وهي بهذه الرؤية الشيئية، تقوِّم ذاتها بالشاء والبعير، مما لا يؤكل، ولا يترك في الجيوب لمناسبات أخرى. و «الجمعيات الخيرية»، التي تستعمل فيوض المناسبات، تضيق ذرعاً بالدعوات، للملمة أشلاء الولائم الممزوجة بأشلاء المساكين، وتكون المنعمة المتفضلة، حين تبادر إلى منزل الداعي، وتخلصه من بقايا مائدة باهظة التكاليف، لم يؤكل منها إلا اليسير، وماذا على الطرفين:- الضيف والمضيف، لو أقيمت وليمة مناسبة، تكفي للضيوف، وتحد من الإسراف، وتحول دون تبذير ثروة البلاد من المواشي والأرزاق والطاقات، وإخلاء جيوب المواطن، وامتلاء جيوب العمالة الوافدة التي تتولى: الذبح، والطبخ، والتخديم. وما توفر من الاقتصاد والتعقل، لا يودع في البنوك، وإنما يصرف نقداً للجمعيات الخيرية، أو تستقبل به مناسبات أخرى، أحسب أننا لو فعلنا مثل ذلك، ونهض به الأثرياء والأعيان بوصفهم القدوة، لكنا أكثر تحضراً، وأقرب إلى المثوبة. وما يقدمه البعض لضيوفه، يعد من الإسراف المذموم، وما يصير من فائض الأغذية إلى صناديق النفايات، يفوق المأكول منها، وفي ذلك كفر للنعم. ومما يزيد الإثم، ويحقق التخلف الحضاري، لجوء المضيف إلى الاقتراض أو الاستدانة بالتقسيط، أو حين ينعكس انفاقه الباذخ على واجباته الضرورية إزاء أسرته، أو حين لا يقوم بحق القانع والمعترّ والسائل والمحروم من ذوي القربى والأرحام. وكم من مسرف تعقدت حياته، وتشرد أهله، بسبب العادات السيئة، التي لا تعد مؤشراً حضارياً، ولا مطلباً إسلامياً. ومن شاء معرفة تحول العادات السيئة إلى بدعيات تعبدية، فلينظر إلى «أيام العزاء»، وكيف يواجه المصابون من التكاليف، وكيف يستقبلون من العوائل والمعزين، الذين يطيب لهم المقام، فيأكلون، ويشربون، ويتحدثون في أمور الدنيا، ويغتابون، وهم في مجلس العزاء البدعي، فيجمعون بين بدعية الظاهرة، وإثم الممارسة. ثم لينظر إلى الذين يصنعون الطعام للمصابين، في سبيل إحياء السنة التي ندب إليها الإسلام، مما يسرفون على أنفسهم، ويقدمون الولائم الباهظة التكاليف إلى محزونين لا يحتاجون أكثر من سد الرَّمق، وقد يكون الأقربون للمصابين عاجزين عن المسايرة، فيتركون السنة عجزاً لا تقصيراً، ومن ثم يعرضون أنفسهم للمؤاخذة، وبهذه الأساليب البدعية المتخلفة تتحول السنن إلى مباهاة وبذخ. والصيف الذي ترتفع فيه درجات الحرارة في الطبيعة، ترتفع فيه درجات الحرارة في الصدور، وينعكس أثر ذلك على العلاقات الأسرية، وبدل أن تقضي الأسرة صيفها بالراحة والاستجمام، تكون العذابات المستطيرة، والخلافات والمنازعات. وما أحوج الأمة إلى حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا، وصدق الشاعر:- ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا إن الصيف ضيف ثقيل مملٌّ: بطبعه ومتطلباته. شبحه مخيف، وظله لا ظليل، ولا يغني من اللهب، ولما نزلْ بانتظار «الحكيم»، الذي إذا أورد الجهلة أصدر الورد بحكمة وروية. فلا كنا، ولا كان الصيف بهذه المواصفات، ولو تبصّرنا، وعقلنا، لكان صيفنا صيفاً سعيداً، لم يضيّع فيه ماء ولا لبن. |
الثروة الوطنية بين: الخنزرة والسرطنة..! 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل لمّا نزل نقرأ بين الحين والآخر نقداً ايجابياً او سلبياً، يوثق لشائعات مغرضة عن مشاريعنا الوطنية. تطلق عن مكيدة واعية، او عن غفلة معتقة. فتارة توصف المشاريع بالجشع والاستغلال والغلاء، واخرى يتهم ذووها بالتعدي على المراعي والشواطئ واستنزاف الثروة المائية، وثالثة يفترى عليهم الدخول في مزاد «منديل ام كلثوم» او «فستان سعاد حسني»، ورابعة ينال المغرضون من سلامة المنتجاة، فهي اما: مشتملة على مادة خنزيرية جريدة «الاتحاد الاماراتية» او مسببة للسرطان، او مدعومة بالهرمونات المضرة بالصحة. والكتبة المتعجلون يزلقون الصحافة المتأنية بانفعالهم، او بافتعالهم، وعدم ترويهم، فبعضهم كالراوي «الصدوق» الذي لا يفتعل الكذب، ولكنه لا يحترس من الرواية عن الكذابين، والعداوة المفتعلة، والشحناء المصطنعة بين طبقة الكادحين والاغنياء، بقية من بقايا الماركسية، التي افلحت بمساواة الناس في الفقر، وفي تعميق العداوة والبغضاء بين اصحاب رؤوس الاموال المستثمرين والعمال والمستهلكين، وذلك بتكريس مفهوم الطبقية، والاستغلال، والتسلط، وامتصاص جهود الكادحين، وحين ولت الماركسية الادبار، تركت في معاطنها بقية من اثر السوء. والتناوش بين مصادر الانتاج والمستهلكين يصاب بهذا الدخن، وكل من ناصب الاثرياء العداوة دونما سبب، فهو اما: حاسد غير كظيم، او منافس غير شريف، او مصاب بدخن الماركسية البغيضة، عن وعي مكتوم او جهل معلوم. والخائضون اللاعبون في اعراض الاثرياء المستقيمين على الطريقة، يحبطون، ويخذلون، ولا يزيدون الناصحين الا خبالا، يحرم الوطن من المال والخبرة. والاعمال الروائية والقصصية، زمن المد الشيوعي، تفيض بسخرية مرة، واستهزاء مسف، واستعداء سافر لا يصيب الذين ظلموا خاصة والذين تلمسوا شخصية «المتدين» او «الثري» من النقاد والدارسين في مثل هذه الاعمال، يصدمهم التجني الظالم، والوقيعة المرة، ولسنا نعدم بين الحين والآخر في المجالس وعلى صفحات الصحف ترويجاً للشائعات المغرضة، تحركها الاهواء والضغائن، وكأن الاغنياء لصوص، تسلقوا على الناس بيوتهم، او عصابات كسرت خزائنهم، وما عرفوا ان الحكمة الالهية قضت بتفضيل بعض الناس على بعض، وجعلت بعضهم لبعض سخريا، والجميع في النهاية خادم ومخدوم، كما يقول الشاعر: «الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم» والتفاضل سنة كونية ماضية، وسيبقى الاكرم عند الله الاتقى. والاسلام المؤاخي بين الاغنياء والفقراء، ينهى عن حسد ذوي الفضل. وفقراء الصحابة رضوان الله عليهم، لم يمتعضوا، لأنهم فقراء، وإنما استاؤوا لأن اهل الدثور ذهبوا بالاجور، يصلون كما يصلي الفقراء، ويصومون كما يصومون، ويتصدقون بفضول اموالهم، فيما لا يجد الفقراء ما يتصدقون به. وحينما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنظار الفقراء من الصحابة الى التسبيح والتهليل والتحميد، علم بذلك الاغنياء ففعلوا، وحين اعاد الفقراء شكايتهم، لم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم ان قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فالمال مال الله، يعطيه من يشاء: شاكراً او جاحداً لأنعم الله، محسناً او مسيئاً، كافراً او مسلماً. فالمال الوفير، والجاه العريض، والصحة في الاجسام، والامن في الاوطان، ليست دليل رضا، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة، لما سقى منها الكافر شربة ماء، ولا يقيد النعم الا الشكر، وكم من قرية ظالمة، استدرجها الله بالنعم، وأمهلها بالامن، ثم اخذها اخذ عزيز مقتدر. والذين بطرت معيشتهم، ولم يرعوا حق الله فيما اعطاهم، يفاجئهم الله بياتاً، وهم نائمون، او يأتيهم البأس ضحى، وهم يلعبون، ولا يأمن مكر الله الا الاخسرون. والسعيد من كان عبداً شاكراً لأنعم ربه، والشكر: قول وعمل {\عًمّلٍوا آلّ دّاوٍودّ شٍكًرْا وّقّلٌيلِ مٌَنً عٌبّادٌيّ پشَّكٍورٍ }. والاغنياء الذين يوظفون اموالهم، وجهودهم، وخبراتهم، لتوفير الامن الغذائي، وإتاحة فرص العمل لإخوانهم، واحياء موات الارض، وعمارتها، واستخراج اثقالها، لا شك انهم من الشاكرين لنعم الله، متى كان كسبهم حلالاً، واكتيالهم ليس فيه تطفيف، وبيعهم ليس فيه غش. ثم انهم بمشاريعهم التنموية يعدون ثروة وطنية، فالنفع لا يخصهم وحدهم، الا اذا كانت اموالهم ارقاماً في البنوك، او ارصدة ربوية في الخارج، وفي آخر تقرير تناقلته الصحف اشار الى حجم المدخرات الهاربة، بحيث تجاوزت «650» ملياراً «الرياض 19/3/1423هـ». والمستثمرون لأموالهم داخل اوطانهم، منعمون متفضلون، لهم حق الحماية والتشجيع، والذب عن سمعتهم، وعن مشاريعهم، وإشعارهم بأهميتهم، وحفظ ساقتهم، ليأمنوا على سمعتهم، واموالهم، ويوفروا طاقاتهم لمضاعفة العمل والانتاج، وذلك بعض شكرهم على افضالهم، وبعض حق الوطن علينا. واذا اشيعت عنهم او عن مشاريعهم قالة السوء، فالواجب التثبت، والتحري، والحيلولة دون تأثير الشائعة على سمعة مشاريعهم، فالقبول بالدعاية السيئة وترويجها، ينعكس اثرها السلبي على الانتاج الوطني، وحين تتعثر المشاريع الوطنية، تختفي رؤوس الاموال الخائفة المترقبة، وتهرب الاموال المترددة بين العمل والهجرة، وانكماش المشاريع القائمة، يخل بالامن الغذائي، وهل هناك اهم من الأمنين: الغذائي، والنفسي، وقد ذكر الله «قريشاً» بنعمتين توجبان العبادة:- الامن من الخوف، والامن الغذائي قال تعالى:{فّلًيّعًبٍدٍوا رّبَّ هّذّا پًبّيًتٌ (3) پَّذٌي أّطًعّمّهٍم مٌَن جٍوعُ وّآمّنّهٍم مٌَنً خّوًفُ }. والتعدي على سمعة المشاريع كالتعدي على ممتلكاتها، وتصفية السمعة لا تقل ضرراً عن تصفية الاجساد، وفوضوية التعامل يحمل اصحاب المشاريع افراداً او شركات على تسريب العاملين، وتصفية المشاريع، والبحث عن اجواء آمنة خارج البلاد، وناتج ذلك ارتفاع نسبة البطالة، والاعتماد على الاستيراد، وفي الهجرة دعم لمشاريع الدول الاجنبية، التي لا تود لنا الاستقلال الكريم، ولا الاستغناء الشريف. والدول التي تعتمد على الاستيراد، تظل محكومة بالحاجة. والاستقلال الحقيقي لا يكون الا بقوتين: - الاقتصاد القوي. - والعلم التجريبي. وحين امر الله الامة بإعداد القوة، اطلق وخصص. اطلق حين قال: {وّأّعٌدٍَوا لّهٍم مَّا \سًتّطّعًتٍم مٌَن قٍوَّةُ}، وخصص حين قال {وّمٌن رٌَبّاطٌ پًخّيًلٌ} ، وقول بعض المفسرين بأن «القوة» الرمي واحد من المعاني، وإلا فالقوة تشمل قوة «العلم» و «الاقتصاد» و«السلاح». والاقتصاد عصب الحياة، وبؤرة التوتر بين الشعوب، فالمصالح حين تتعارض تنشأ العداوة، وقد تتطور، لتصل الى حد الصدام المسلح، وكل هذا يؤكد على اهمية الثروة القومية، ولا تكون كذلك حتى تندلق اقتابها في النجاد والوهاد، في ظل الاجواء الآمنة، ولقد مرت بنا الآيات والنذر، فكم من دول انهارت عملتها، وكسد اقتصادها، دون حرب او تدخل، واخرى تعولمت عملتها وعوّقت وانتعش اقتصادها، فهذه «دبي» بعد الانفتاح، وأسلوب الجذب، وتلك دول شرق آسيا مما يسمى «بالنمور»، وتهافت المشاريع والانكماش الاقتصادي ناتج تحد سافر او سياسة مرتبكة، فالسياسة الحكيمة، والرأي العام الواعي حين يتفاعلان يصنعان العجائب، وليست الثروة ما تملكه الدولة، وليست الارصدة النقدية في الداخل او في الخارج، وانما الثروة ما يقوم على ارض الواقع، من مزارع، ومصانع، وما يتوفر من كفاءات مخلصة فاعلة، وسواعد مدربة، تجد في ارضها الدعم والتشجيع والتسهيلات. والمواطن المخلص الناصح، من يسعى لتنمية ماله، واستثماره في صحاري بلاده، يسد باستثماره حاجة الامة من مأكل ومشرب وملبس ومستعمل. والشعب الغني يعول الدولة، ويدعم اقتصادها، والامة الفقيرة تعولها الدولة، وليس هناك اسوأ من شعب فقير، تعوله دولته، استناداً الى امكانياتها المكتسبة دون تحرف، اوتعويلاً على مساعدات الدول الغنية، وما من دعم الا وله ثمن من الكرامة والحرية. واذا كان من اوجب الواجبات على المواطن مواصلة الدعم لمشاريعه الوطنية فإن على الدولة السعي الدؤوب، لجذب رؤوس الاموال الاجنبية، وتهيئة المناخات المغرية للاستثمار فضلاً عن رؤوس الاموال المحلية. وواجبنا التوفر على وعي حضاري، يرى ان المصانع والمزارع وكافة المشاريع الانمائية التي تعود ملكيتها للافراد او للشركات، هي ملك للامة، وردء لها، وضعها الله في ايدي الاثرياء او الشركات، وهو سائلهم عن وجوه الكسب، وطرائق الانفاق، ومجالات الاستثمار. والذين يناصبون ذوي الدثور العداوة، ويختلقون الاقاويل عن المشاريع الوطنية دون تثبت، بحجة حماية المستهلك، يقترفون جنايات كثيرة، وبخاصة حين تكون قالة السوء عن مشاريع انتاجية غذائية، كمزارع الحبوب، والنخيل، والفواكه، وكافة الثمار، ومشاريع الدواجن، والالبان، والاسماك، وتربية المواشي. والمشاريع الوطنية في ظل المنافسة الشرسة، وبوادر «العولمة»، والشركات متعددة الجنسيات، وعمليات الاغراق ومشاكل العمالة، وبدائية التسويق، بحاجة ماسة الى الدعم والتشجيع والحماية. ولا سيما ان المشاريع الاجنبية المنافسة، تعمد الى الاختلاق والكذب، للتشكيك في جودة المنتج الوطني، وكفاءة ذويه، وجعل البلاد تعتمد على الاستيراد، والاشد نكاية حين تكون المواجهة باسم الدين، بحيث ينبري الطيبون الورعون او الماكرون المأجورون لترويج فتاوى تحذر او تحرم بغير بصر ولا بصيرة، و لقد سمعنا وقرأنا الاشاعات المغرضة عن مشاريعنا الوطنية، يطلقها المنافسون غير الشرفاء، ويتلقفها الغافلون الابرياء ثم لا تجد من يتصدى لها، ويكشف عن دوافعها، بل ربما نجد من يتلقاها باليمين، وينشرها، عن حسن نية، والمواطنون المخلصون الصادقون حين يغامرون بأموالهم وذممهم وسمعتهم وجهودهم، ويسهمون في دعم الاقتصاد، يودون ان يجدوا المناخات المناسبة، المتمثلة بالتسهيلات الحكومية، والتشجيع الوطني، والحماية المستمرة. واذا لم نسهم في توفير المناخ المناسب، فشلت التجارب، وجبنت الاموال، وتسلل بها اصحابها الى الخارج، مكتفين بالمضاربات الربوية، مسهمين في دعم اقتصاد الاعداء. ومثلما يتهافت الخليون على الاثارة لذاتها، ويوغلون في النيل من شخصيات بأعيانهم، او من قضايا وظواهر في الفكر والسياسة والدين والأدب، ينالون من شوامخ المشاريع، وقلاع الانتاج، وعباقرة الفكر والاقتصاد، ظنا منهم ان ذلك يفيد المشروع، ويحمي المستهلك، وقد يكون تدافعهم تهالكاً على الاضواء، وذلك ينسيهم ما يترتب على تشكيكهم من اضرار جسيمة، تمس الثروة الوطنية، التي رضي اصحابها في بسطها للمنتفعين، وتوظيفها لتوفير الامن الغذائي، فالمصانع، والمزارع، وسائر المشاريع الانمائية، تعتمد في نجاحها على ثقة المستهلك واطمئنانه، وحماية الدول للمنتج الوطني، ومقاطعة المنتج المستورد. وحين تشاع قالة السوء عن اثر منتجنا الصحي او عن رداءة جودته، او عن غلاء ثمنه، بغير علم، ينعكس ذلك على علاقة تلك المشاريع بالمستهلك، ومتى اهتزت الثقة، تأثر المشروع، وهبط تسويقه، واحتاج الى زمن طويل لاستعادة الثقة، ورد الاعتبار، وقد تلجأ المشاريع الى قنوات اعلانية، تشاطرها كسبها، وتحملها على رفع الاسعار، لكي تمول الدعاية والاعلان، والثراء الذي يصب في جيوب القنوات الاعلانية مأخوذ من جيوب المستهلكين، ولو ان كافة الاعلاميين والكتاب تحروا الدقة، لأمن الجميع على اموالهم، وخرجت الملايين من خزائنها، ورجعت المليارات من الخارج، وعادت الكفاءات المهاجرة، تستنبط الماء، وتحرث الارض، تزرع وتغرس، وتستقطب الايدي العاملة، وفي ذلك خير كثير. |
الثروة الوطنية بين: الخنزرة والسرطنة!!(2/2)
د. حسن بن فهد الهويمل وحديثنا عن ثوابتنا الاقتصادية، لا يعد تصدياً لواقعة يتعرض لها ثري، أو شركة ثم لا تتكرر كما أن اللغو المتنامي ليس واقعة بعينها، يرافع ضدها من تعنيه، وإنما هو على شاكلة الظواهر المألوفة المتنامية، والظواهر تحتاج إلى مواجهة جماعية، تحد من استشرائها وتأثيرها. وحين نمتعض من مثل هذه الظواهر، نعرف جيداً أن الصحافة لسان الأمة، ورائدها الذي لا يكذب، ومتى غفل الرائد أو واطأ على الخطيئة فقدت الأمة مقومات البقاء الشريف. ولسنا نود من كتّابنا، ولا من صحافتنا التخلي عن الثنيات، ولا افتراض النقاء والملائكية، ولسنا نريد لكائن من كان أن يكون فوق النقد والمساءلة، وإنما نريد التحري، وعقلنة المواقف، والتفريق بين أثرياء يأخذون بحق، ويعطون عن رضا، وآخرين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ثم لا يكون لهم عمل مفيد، ولا صدقة جارية، ولا هم بأمر المسلمين، وكل الذي يعنيهم خُويصة أنفسهم. ودفاعنا عمن يوظفون أموالهم في أي مجال من مجالات التنمية والانتاج الوطني لكافة الأغذية من الدواجن والألبان والخضروات والفواكه واللحوم وسائر المواد الغذائية يمثل الأخذ والعطاء العائدين بالنفع العميم، ولا تقل عنه المصانع التي تستوعب الأيدي الوطنية، وتمكنها من التدريب والتأهيل والمزارع. والمصانع بهذا الشكل ليست خالصة لأصحاب رؤوس الأموال، ولا للشركات وليس أصحابها قابضين وحسب، إنها ثروة وطنية، لا مقطوعة، ولا ممنوعة، تُفعل المال، ليمتد نفعه إلى عدد من شرائح المجتمع، وذلك بعض موجبات المحافظة عليه، والمحافظة لا تعني كف الأذي، والتحري عند أي شائعة مغرضة وحسب، وإنما هي بالدعم: المادي والمعنوي، وبث الثقة في نفوس الأثرياء الأوفياء لأمتهم ووطنهم، ممن غامروا بأموالهم، وجهودهم، وراحتهم، فجروا الينابيع، وأحيوا موات الأرض، واستثمروا الشواطئ السبخة، وحولوا الصحراء القاحلة إلى مروج وأنهار، جلبوا أحدث الأجهزة، واستقدموا أمهر الخبرات، وأقاموا أدق المختبرات، وكان حقاً علينا في مقابل ذلك مؤازرتهم، وتشجيعهم، وإغراء المحجمين من لداتهم، ليفعلوا مثل فعلهم، إن هجرة الأموال والأدمغة وإحجام الكفاءات الوطنية مؤشر سلبي، فبلاد الجذب، والإغراء، وتهيئة الأجواء، والدعم المادي بلاد يستحق أهلها الحياة الكريمة، والبلد النكد من تتسرب أمواله، ويهاجر أهله، وتنطوي كفاءاته على نفسها، إنه بلد ينقص ذويه الوعي والأهلية، فالأثرياء يبحثون عن المناخات المناسبة، والمجالات الآمنة لاستثمار أموالهم، والدول الواعية تمنح التسهيلات، وتهيئ الأجواء وتوفر الضمانات: وتخفض الضرائب، وتيسر الاجراءات، وتمنح الأراضي والقروض، وتحمي سمعة المشاريع، لكي تظفر برؤوس الأموال والخبرات والتجارب، وتبعث الثقة والاطمئنان، وحين تكون الأنظمة احتراسية، و(البيروقراطية) مستفحلة، والرأي العام متذبذباً، والصحافة متسرعة، والكتاب سباقين إلى الإشاعات، والناس خائفين مترددين شاكّين، تنكمش الأموال، وتكف الكفاءات البشرية أيديها، وتحجم الشركات الأجنبية، وتتسلل الأموال بحثاً عن دول داعمة وشعوب واعية، وعلينا أن ننظر كم من المليارات وآلاف الكفاءات من العالم الثالث خارج أراضيها، وكم لدى العالم الثالث من أموال الغرب وكفاءاته. إن هجرة الأدمغة، وتسرب الأموال مؤشران على ضعف البنية المعرفية والاقتصادية، وارتباك الأوضاع السياسية، واستفحال الأنظمة المعقدة، وتنامي الغفلة الجماهيرية المتخلفة من عوامل الطرد. وكل دولة تتسرب أموالها، وتهاجريجب عليها النظر في كافة أوضاعها. ولقد شهدنا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كيف منيت الأسواق العالمية، وكيف بدأ الانهيار الاقتصادي لعدد من الشركات وكيف بدأت لعبة التضليل المحاسبي، الذي لم نكن أذكياء في استثماره، لإثبات أن التخلف ليس وقفاً على الشرق، ولست ممن يودون انهيار الاقتصاد العالمي، وإن كان لدول يمسنا منها أذى كثير، ذلك أن اقتصاديات العالم يؤثر بعضها على بعض، وبودي أن يكون اقتصادنا محلياً وعربياً وإسلامياً متيناً، قادراً على المنافسة، وتحمل الصدمات. ولن يكون كذلك، حتى يمتلك الرأي العام وعياً اقتصادياً، يقيه غوائل التضليل، وحين تكون الأوضاع طبيعية، فإن علينا أخذ حذرنا من المنافسات غير الشريفة، التي تقوم بين مصادر الثروة والانتاج، إذ هي مصدر الإشاعات والتشكيك، وحرب الأسعار، والإغراق، وليس أضر على مشاريعنا من تضليل الرأي العام، وتعبئته بالأوهام والأكاذيب. فتارة يشاع أن الدواجن الوطنية تعتمد في غذائها على (الهرمونات) وهذا يحِّول المستهلك إلى الدواجن المستوردة التي لا نعرف عن ظروفها الصحية والغذائية شيئاً، وأخرى يروج المغرضون أن أفراخها متخنزرة، الأمر الذي يحمل الدول المجاورة على اغلاق منافذها في وجه صادراتنا، وثالثة نسمع أنها متسرطنة، وذلك كاف لاصابة المواطن والمقيم والمستورد بالهلع. وحين اشتعلت حرب الشائعات حول (جنون البقر)، و(الكولسترول)و (الهرمونات) خرج رسامو (الكاريكاتير) برسوم تكشف عن مطاردة (الضبان)، تعبيراً عن تأثير الشائعات، فيما خرج حماة الحياة الفطرية في مواجهة أولئك، والشركات تواجه المروجين للشائعات مستعينة بالمختبرات العالمية، والشهود المحايدين، لاثبات الجودة والسلامة. ولكنها لا تضمن إعادة الثقة والخلوص من كساد منتجها، وما يقال عن المزارع يقال مثله عن المصانع، طعناً في الكفاءة أو تشكيكاً في الأمانة أو نفياً للجودة أو غلاء في الأسعار، وإذا كانت الشركات الوطنية تواجه الاشاعات بتقارير مخبرية عالمية، تثبت خلو منتجها من كل العوارض المضرة بالصحة، فإن وزارة التجارة تتابع المنتجات، وتراقب المصانع، وتضع علامة الجودة والسلامة دون محاباة أو مواطأة، ولكن أكثر الناس لا يفقهون، والمصانع والمزارع تثبت سلامة منتجها، وتطلب المواجهة الشريفة، وهي قد فعلت ذلك عبر صحافتنا المحلية، وطلبت من المقترفين الاعتذار، أو توثيق مقولاتهم، ولكنهم لاذوا بالصمت دون اكتراث، وكان عليهم أن يعتذروا عما بدر منهم، أو أن يثبتوا دعواهم. ومن الأجدى حين تشاع الأخبار الكاذبة، أن تتواصل وسائل الإعلام مع الشركة، ومع الجهات الحكومية المعنية بالأمر، للتحقق من صحة ما يقال، وليس هناك ما يمنع من نشر الشائعة والرد الحاسم عليها، لإحباط الادعاءات الكاذبة، وليس من المصلحة أن يكون الاتهام ناجزاً، والبراءة نسيئة، ومنتجاتنا الوطنية بجودتها وسلامتها وغزارتها غزت الأسواق العربية، ولنضرب مثلاً ب(الوطنية) و(بسابك) و(بالأدوية) و(الأسمنت) و(بمنتجات التجميع) اضافة إلى كافة المنتجات الزراعية، الأمر الذي حفز الشركات العالمية على المواجهة غير الشريفة معتمدة على تلفيق التهم، وإشاعة الأخبار الكاذبة، ولا شك أن أي إشاعة لها أثرها، وحرب الشائعات أسلوب خطير، متى لم يكن المتلقي على وعي تام بالصراع العالمي، وإذا كانت الدوائر السياسية تعتمد على حرب الشائعات، وصناعة الكذب، فإن الاقتصاد هو الآخر يعيش الصراع نفسه، ولن تكون الأمة في مستوى الأحداث، حتى تعرف أسلوب التصدي لهذه الأساليب الذكية. وتعريض المنشآت الاقتصادية العملاقة للإساءة، يطال الأثرياء المتفضلين، والعاملين المستفيدين، والعملاء المستهلكين، ويصب في صالح رؤوس الأموال الأجنبية، التي يحرص ذووها على أن نأكل من غير زراعتنا، وأن نلبس من غير نسيجنا وأن نحارب بغير سلاحنا، بحيث نظل كما أراد (الحطيئة) لمهجوه: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ولا مراء في أن للشائعات عوائدها السيئة على حد: (قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً) والمثل العامي المصري يقول: (الرصاصة التي لا تصيب تدوش)، وفن الدعاية يضع حيزاً لنزع الثقة من المنافس، وقطاع الدعاية والإعلام والعلاقات في المشاريع قد لا يكون قادراً وحده على التصدي لفيوض الإشاعات، وهنا يأتي دور المواطن، فهو في النهاية راع في موقعه، وكما أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فهو كذلك على ثغر من ثغور الوطن، وواجبه أخذ الحذر، وتقصّي الحقائق، وما راء كمن سمعا، والرؤية تطمئن القلوب، وتقوي الإيمان، وفي هذا السبيل شهدت بعيني مشاريع اقتصادية تشكل ثرورة للبلاد، كمشروعات (الوطنية) من (الدواجن) و(الروبيان) و(الأغنام) و(الزيتون) و(النخيل) و(الأعناب) وحرصت على معرفة وسائل الجودة والسلامة، وأسلوب التسميد، والمعالجة، فما زدت إلا ثقة واطمئناناً، وتأكد لي حرص المسؤولين على السلامة والكفاءة، والخلو من أي عارض صحي، وحمدت الله على ذلك، وتمنيت لو أن كل مواطن أتيحت له فرصة الوقوف على المختبرات، والمعامل، والمجسات، والتجارب،والنظافة، واستخدام الآلة في الجني، والتعقيم، والتغليف، لكي يكون أكثر اطمئناناً وثقة، كما سمعت عن مشاريع وطنية مماثلة في مواقع متعددة من بلادي، يملكها أفراد، أو تديرها شركات، ولم أشرف بالوقوف عليها. ومشاريع الشيخ سليمان الراجحي التي خبرتها عن قرب، تبعث على الإعجاب والإكبار والاطمئنان، إنها ثرورة وطنية، وظف في سبيلها آلاف الملايين، وشغلت صحاري شاسعة، وشواطئ طويلة، واستقطبت كفاءات وطنية، وهو كما وصفه الأستاذ إبراهيم البليهي من عباقرة الاقتصاد والثروة البشرية للبلاد (الرياض 21/3/1423هـ) وهو خير مما يقول: «صدقاً، وأمانة، واحساناً، وتواضعاً. نحسبه كذلك، والله حسيبه»، ولما يكن وحده في الميدان فبلادنا والحمد لله غنية برجالاتها وبأثريائها، ولكن «زامر الحي لا يطرب» و «أزهد الناس بالعالم أهله» وكم في البلاد من أثرياء ناجحين، محسنين، يدعمون مرافق الصحة والتعليم والسياحة والثقافة والجمعيات الخيرية، وكم فيها من المؤسسات الخيرية والثقافية التي يمولها الأثرياء لوجه الله، ولم نجد من بيننا من يبادر إلى الثناء أو ينبري للدفاع، حين يتعرض أولئك أو تتعرض مشاريعهم للتعدي، وإذا كان مشروع الوطنية للدواجن يدفع إلى سوق الاستهلاك صباح كل يوم نصف مليون دجاجة، وضعف ذلك من البيض، وألف مولود من الأنعام، ومئات الأطنان من الفواكه، والتمور، والخضروات، والعسل، والزيوت، والطيور، والأسماك، والألبان، وإلى جانبه مشاريع أخرى، تصنع مثلما يصنع، فإن واجب المواطن دعم مثل هذه المشاريع الوطنية، ولو بكف الأذى، ومتى بدر منها تقصير أو ضعف، وهو متوقع، فواجبه التثبت أولاً، ثم المناصحة بالتلميح لا بالتصريح، وإذ يكون الجالب مهدياً فإن بناة الاقتصاد محسنون. ومن لم يشكر المحسنين فليس جديراً بالاحسان، وما أكثر الكفاءات الوطنية التي لا نشعرها بقيمتها، فالأثرياء، والعلماء، والأطباء، والمهندسون، والمحسنون، وكبار المسؤولين حين يخلصون، ويصدقون، ويتألقون، ثم لا يسمعون كلمة شكر، تذبل حيويتهم، ويشعرون بالإحباط، فكيف إذا تنكرنا لهم، وبادرنا في تلقف الاشاعات عنهم. لقد قيل عن شركات (التقسيط) فما أكترثنا، لأن فيما يقال مساعدة للمحتاجين، وتوقف الشركات عن (التقسيط) لا يضر بالمصلحة العامة، ذلك أنه عمل مالي صرف، لا يترتب عليه أضرار تطال المواطن، وقيل عن (المشروبات الغازية)، فما امتعضنا، ذلك أن منتجها من الكماليات، وقيلت كلمات صادقة ناصحة، فسعدنا بما قيل، ولما نزلْ بانتظار مقولات تحترم المصداقية، وتستبعد المثالية والملائكية. وافتراء القول عن المصانع والمزارع وسائر الشركات ذات النفع العام ينعكس أثره على مصلحة الأمة، ونحن هنا لا ندعو إلى الغفلة، ولا نحبذ غض البصر عن الهفوات، ولا نميل إلى حمد من لم يفعلوا، ولا نستبعد مرضى القلوب، ومن لا يحلو لهم العمل إلا في ظل الغش والاختلاس، وهؤلاء قلة نادرة، وغثاء كغثاء السيل، يذهب جفاء، وليس أمامنا إلا أن نتربص بهم خاتمة السوء، وأخذ الله القوي الأليم، فالله من ورائهم، ومن غش الأمة فليس منها: تاجراً كان أو مسؤولاً، وكل جسم نبت على السحت فالنار أولى به، والكسب الحرام يمحق البركة، وهو حسرة وندامة على أصحابه، فلا يسعدهم في حياتهم، ولا يريحهم في شيخوختهم، وإنما يكون وبالاً عليهم، يحملون أوزاره، ويضاجعهم إثمه في قبورهم، وتعود ثمرته إلى وارث، لم يَشْقَ في جمعه، ولن يحاسب عليه، ولن يدعو لمورّثه، ولا عبرة في الشواذ الذين خانوا الله والرسول، وخانوا أماناتهم. لقد أحسست أن هناك فجوة مفتعلة، بين المنتجين والمستهلكين، ليس لها أي مبرر، وكل عامل على توسيع الهوة مقترف ذنباً في حق وطنه وأمته، وعلينا أن نكون عيوناً واعية على مشاريعنا، لا ندع لها فرصة اللعب، ولا ندع للآخرين فرصة العبث في منجزاتها، وبلادنا بحاجة إلى جهودنا، وخبراتنا، وحمايتنا، ووعينا، والتفافنا، واعتصامنا بحبل الله على كل الصعد، لقد استهدفنا في عقيدتنا، وفي مناهجنا، وفي أخلاقياتنا، وفي أمننا، وفي اقتصادنا، وفي وحدتنا، وعلى الذين يتصورون أنهم آمنون أن يطوفوا عبر القنوات والمواقع والاذاعات والصحافة العالمية ليعرفوا حجم المكائد، ولن يحمينا إلا الفرار إلى الله. |
العقل والنص وغوايتاهما! 1/2
د. حسن بن فهد الهويمل تمخض عصر المادة ووثنية العلم عن طوائف تطلق للعقل العنان، ليقول ما شاء عما شاء، مستدبرة وحي السماء، ناظرة إلى العلم والعقل على انهما مناط كل شيء، واصفة كل من سواها بالماضوية والنصوصية والسكونية والتسطح، ولأن كل تطرف يتولد عنه تطرف مضاد، فقد وهبت طوائف أخرى، تحارب العقلانية لا على مفهومها الغالي وحسب، وإنما بتجاوز ملغ لأهلية العقل، مصادر لحقه، تفعل ذلك نكاية في الذين يلغون النص في ظل العقل، والرصد التاريخي للتطور المعرفي، يمر بمصطلحات، يدور مدلولها حول آلية القراءة للأشياء ومنهجها: كالظاهرية، وأهل الرأي، والمؤولة، والسلفية.. وفي العصر الحديث نقف على مفاهيم أخرى، تشير إلى طرائق التعامل مع الأشياء ك«الجدلية» و«الشك الديكارتي» و«التفكيك»، والذين تدق نظرتهم، ويتزن موقفهم، يعطون ما للعقل للعقل، وما للنص للنص، ومع كل ذلك يظل الخلاف في المفاهيم والمقتضيات على أشده، لا في ذات الاطلاق وحده، وإنما يمتد إلى الحق والأهلية والمجال والتصور، وعلى كل الأحوال فالعقل والنص صنوان لا قيمة لأحدهما في غياب الآخر، بل لا وجود لأحدهما في غياب الآخر، ولا استقامة للحياة بدون نص محكم، وعقل حصيف متدبر، والعقل في النهاية طاقة ذهنية استرجاعية، في غالب أحواله، وليست طاقته انبثاقية إبداعية على اطلاقها، كما انها ليست كسبية محضة، إذ يضاف إلى الاسترجاع والكسبية الاختمار المعرفي، والاستنباط التفاعلي، وإذ لا يكون العقل هذا ولا ذاك، فهو تشكلٌ مزجي، من ذاتية التكون وكسبيته، وقدرة المتكون مرتبطة بأداة التكوين، ولما كان العقل مورد الحواس التقليدية، وتفاعل محصلاتها، ومجال توجيهها، كان مداة الإدراكي مرتبطاً بقدرة المكونات الخمس، والعلائق التي تنتج من معطياتها، وإذا كنا قادرين على تحديد إمكانات هذه الحواس، نكون في الوقت نفسه قادرين على تحديد قدرة العقل، أو تصورها على الأقل وتحديد القدرة، يحدد المهمة والمجال المتاح للتحرك، والعقول تختلف في مداها الإدراكي، من ذكاء وغباء، وكذلك الحواس تختلف قوة وضعفاً، وليس الحكم على الحواس مؤذناً بالحكم الطردي على العقل، بمعنى ان شخصاً ما يكون حاد البصر، قوي السمع، ولا يكون ذكياً في حين نرى الأصم والأعمى آية في الذكاء، وقد لا يكون كذلك، والمصطلح لا بد ان يكون حدياً، جامعاً مانعاً، والحواس توفي العقل ما كان، ولكن للعقل ذاتية مستقلة في الاستقبال، والتحويل، ورد الفعل المعرفي، والنص والعقل يقتسمان المهمة، ويتفاعل مؤداهما، لتأتي الحقيقة ناتج تلاقح العقول والنصوص، وبخاصة فيما يتعلق بقضايا الفكر والدين، وإذا حكّم العقل في غير مجاله، وأنزل النص في غير منازله، جاءت النتائج كما أشار المتنبي إلى «السيف» و«الندى» ووضع أحدهما موضع الآخر، ونظرية «التناص» تكاد تفوت على العقل فرصة البراءة في الطرح والخلوص إلى درجة الصفر في الكتابة. *، والعقلانيون الذين ينحون باللائمة على من سواهم، يحرفون الكلم عن مواضعه، فالسلفي المستنير المجتهد يبيح للعقل ما يستحق، ويأطره عند المقتضى النصي، والقرآن الكريم دائماً يربط بين العقل والحواس، ويخص السمع والبصر، لأنهما منافذ العقل الرئيسة {أّمً تّحًسّبٍ أّنَّ أّكًثّرّهٍمً يّسًمّعٍونّ أّوً يّعًقٌلٍونّ} الفرقان آية (44) {فّعّمٍوا وّصّمٍَوا} *المائدة آية( 71) {صٍمَِ بٍكًمِ عٍمًيِ فّهٍمً لا يّرًجٌعٍونّ} *البقرة آية (18) {أّفّأّنتّ تٍسًمٌعٍ پصٍَمَّ أّوً تّهًدٌي پًعٍمًيّ} الزخرف آية( 40)، والإسلام كرّم الإنسان بالعقل، وليس من المعقول ان يعطل مصدر الكرامة. وأمانة التكليف مرتبطة بالعقل، والقلم مرفوع عن الصغير والنائم والمجنون، لغياب العقل، ثم ان ربط العقل بالحواس دليل على تشكله منها، وهي في النهاية محدودة الإدراك، معرضة للخداع، والعقل بهذه الإمكانيات المحدودة أحوج ما يكون إلى النص، وأي فكر لا يخفق بجناحي العقل والنص فكر كسيح، نقول هذا، ونحن نعرف طاقاته الهائلة، وإمكانياته المذهلة، ومع ذلك لا نغفل جانب النص، وبخاصة عندما يكون قطعي الدلالة والثبوت، ولا نغفل دور العقل حين يكون النص احتمالي الدلالة والثبوت، فالفقهاء مجتهدون، والمفسرون توصيليون، والمحدثون موثقون، والكلاميون متأملون مؤولون، والفلاسفة محللون، وكل طائفة من أولئك تؤاخي بين «النص والعقل» والمؤاخاة تركيبة خلطية تحدد الخطأ والصواب، فالمفسر يختلف عن الفيلسوف في استغلال طاقات العقل، والمحدث يختلف عن الفقيه المجتهد في التعامل مع المتن النصي، وأهل الرأي من الفقهاء يختلفون عن الظاهريين، والمدرسة العقلية في التفسير تختلف عن المدرسة اللغوية أو أهل الأثر، وهكذا يتبادل النص والعقل الصدارة. وإطلاق العنان للعقل كما يريده الفلاسفة والعقلانيون من الوهم الجامح، الذي أضل كثيراً من أساطين الفلسفة والفكر، حتى بلغ الأمر بأكثرهم إلى الالحاد وحرية التفكير والتعبير حين لا تكون انضباطية، تفضي إلى الفوضوية والهلكة، ثم لا يكون إيمان، ولا مؤمن وقاف عند حد ما أنزل الله، والآخذون بعصم أولئك ينتهون إلى ما انتهوا إليه من الضلال، ذلك انهم اعطوا عقولهم ما لا قبل لها باحتماله، تقول بغير علم، وتحكم بغير سلطان، وتقلب الأمور. والعقل المستبد يفاجأ كل يوم بجديد، لم يكن له سابق عهد به، وهو تحت وابل هذه الظروف بحاجة إلى اعادة تشكيل واستشراف مستقبلي، ومنهجية دقيقة وابتعاد عن المواقف الانفعالية، التي تمكن للعواطف، وتهمش العقول، ولو ان العقلانيين قمعوا جماح عقولهم، وأطروها في مداها المتاح، لسلموا من تلك المزالق، ونجوا من هذه الموبقات، وخلصوا الإنسانية من متاهات الهلكة. فالمتزندقون يرددون: «اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا.. دين وآخر دين لا عقل له» فيما يقول النادمون: «نهاية إقدام العقول عقال».. ومن بوادر الصلف، وأمارات الغرور سخرية العقلانيين، واستهزاؤهم «بالسلفيين» الذين يقفون مع النص، ويؤمنون بالغيب، ويصرفون تفكيرهم عن الذات الإلهية إلى التفكير بآيات الله الواضحة المنبثة في الآفاق وفي الأنفس، ويعرفون انهم الأدرى بأمور دنياهم، وان الدين لا يمنع من التفكير، وان العقل مناط التكليف بل انهم يرون التفكير فريضة إسلامية، وقد ألف «العقاد» في ذلك كتاباً، ليقمع افتراء المفترين. ومعتزلة العصر المتهافتون على مناهج الغرب وآلياته بدون تأصيل معرفي إسلامي، يصفون الوقافين عند حدود ما أنزل الله بالنصوصيين المقلدين من باب السخرية وما تراهم يقولون إلا معاراً أو معاداً من قول الغرب في عملية تلفيقية بينة العوار، ولما يبرحوا رصيف الانتظار لكل قادم على مطايا الاستشراق ليكون استغراباً ليس لهم فيه إلا التكرار، والذي تتاح له قراءة الفلسفة منذ العصر اليوناني إلى العصر الحديث يدرك جنايتها المنفلتة من الضابط الشرعي على الإنسان، مع انها مصدر معرفي مهم، لا غنى لأي مفكر عن منجزها وآلياتها ومناهجها، وبخاصة فيما هو متعلق بعالم الشهادة، ولكن القول بغير علم مظنة الضياع والمروق، ومن تجاوز بنظره مسارحه الممكنة أتى بالعجائب، لأن مقولاته من رجم الغيب، والسلفية الواعية المستنيرة تعطي العقل ما له، ولا تعتدي على حق النص، والفرق الجوهري بين الطائفتين: ان العقلانيين يديرون النص في فلك العقل، فيما يدير السلفيون العقل في فلك النص، وحين تدلهم الأمور، لا يجدون بداً من القول: (لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك انت علام الغيوب) ومصطلح «النص» يتفاوت بين «الفقهاء» و«الفلاسفة» و«الأدباء» فهو عند الفقهاء: «ما لا يحتمل إلا معنى واحداً» ولهذا قيل: «لا اجتهاد مع النص»، ووجدها المغرضون فرصة للوقيعة، تعويلاً على اختلاف المفاهيم، إذ ان مصطلح «التناص» و«النصوصية» و«النص» عند الأدباء والنقاد مختلف جداً، فرؤيتهم له تنبع من رؤيتهم للكون والإنسان ومبدأ العلة، ف«الكلاسيكي» و«الرومانتيكي» و«الرمزي» و«الطبيعي» و«الماركسي» و«البنيوي» و«ما بعده» و«المقارن» لكل واحد من أولئك مفهومه المباين أو المناقض لمصطلح «النص»، وتحديد المفهوم يحدد نظرية التلقي والتأويل، وتلك معضلة يصعب تقحمها، وقراءة النص عند المفكرين والأدباء تختلف عن قراءته عند الفقهاء والمتكلمين والمفسرين، ذلك ان هؤلاء يحيلون إلى أصولهم وقواعدهم وآلياتهم ومناهجهم، فيما لا يكون لأولئك آلية ولا منهج، أو تكون آلياتهم ومناهجهم مفضية إلى الضلال.. ومستويات القراءة الحديثة، ونظريات التأويل والتلقي أضافت على المشاهد أعباء جديدة، أحلت القارئ محل المؤلف، ومن ثم أميت المؤلف، وتمركز القارئ، وأصبح سيد الموقف. |
الموت اليقين..!
د. حسن بن فهد الهويمل ليس هناك مولود اضحك بقدومه، الا وابكى عند فراقه، وليس لبشر الخلد، فكل نفس ذائقة الموت، وما من صرخة وضع الا وتعقبها انة نزع، تلك سنة الله في خلقه {وّلّن تّجٌدّ لٌسٍنَّةٌ الله تّبًدٌيلاْ}، {وّلّن تّجٌدّ لٌسٍنَة الله تّحًوٌيلاْ } الكون له نظام، وكل شيء بدونه عديم، وتلك هي سنن الله الثابتة، جعل الموت نهاية كل حي، يموت الانسان جنيناً او طفلاً او شاباً او كهلاً، او يظل حتى ارذل العمر، والعرب تقول:« ما رأيت علة كطول سلامة» فالموت غاية كل حي {وّكّانّ أّمًرٍ اللهٌ قّدّرْا مَّقًدٍورْا} والموت اليقين الذي لا يتقدم ساعة ولا يتأخر، قلَّ ان يكون مذكوراً، فنحن بين نعمتي: الامل والنسيان في غفلة عنه، حتى اذا لقيناه اخذتنا رجفته، واخذ بعضنا بعضاً بالاحضان في مواساة او تفجع، ومن لطائف الذكر الحكيم واعجازه البياني، ان الموت لا يلحق الهارب، ولكنه يلاقيه، والخوف ليس من الموت، فهو آت، ومعلوم بالضرورة، الخوف مما بعد الموت، {يّوًمّ تّرّوًنّهّا تّذًهّلٍ كٍلٍَ مٍرًضٌعّةُ عّمَّا أّرًضّعّتً وّتّضّعٍ كٍلٍَ ذّاتٌ حّمًلُ حّمًلّهّا وّتّرّى النَّاسّ سٍكّارّى" وّمّا هٍم بٌسٍكّارّى"} واذا كانت للموت هيبة فان لموت الاحبة في وقت غير متوقع رجفة، والمؤمن مطالب بالصبر والاحتساب، وهو بايمانه ممتثل لذلك، ساع الى ما يرضي ربه، وان بكت العين وحزن القلب فانه وقاف عند امر الله، صابر على قضائه وقدره، والبكاء والحزن رحمة جعلها الله في قلوب عباده «وانما يرحم الله من عباده الرحماء»، وامر المؤمن كله عجب: ان اصابته ضراء فصبر كتب له الاجر، وان اصابته نعماء فشكر كتب له الاجر. والله الذي اعطى فأوسع في العطاء، وانعم فأغدق في النعيم، واستعاد بعض ما اعطى له الحمد وله الشكر، و هو المنعم المتفضل في الحالين. وفاجعة الامير الشاب احمد بن بان يقف الجميع معه في مصابه، فكم وقف مع المصابين والمعوزين، وكم مسح ادمعاً، وضمد جراحاً، وادخل السرور على اسر فقدت اعز ما عندها، والفقيد الذي تبارى المؤبنون في ذكر محاسنه وافضاله حقيق بكل هذا، فهو الفارس الذي تصدر الرياضة الاسلامية كما يريدها الابطال. وهو الاعلامي الذي وقف في وجه الاعلام المناوئ، «والرياضة» و«الاعلام» حين يخترقان اجواء الآخر بهذه القوة وبذلك الاقتدار يكونان مؤشرين على كفاءة من ورائهما. والفقيد الذي رحل تاركاً اكثر من فراغ حقيق بهذا التأبين والتفجع في حدود ما يرضى الله، فلقد اثنى خلطاؤه ومعارفه والمتعاملون معه بما يعرفونه عنه، وما شهدوا الا بما علموا، وحين لا يكون لي شرف التعرف على مثله فان استفاضة الثناء من الخلطاء والمتعاملين والمصاحبين تزكية يغبط عليها، وبشارة خير، والله الاكرم يوجب الثناء للميت حين يستفيض على الالسن، وذكر محاسن الموتى من سنن الهدي، وتلاحم الامة مع قادتها يتجلى بأبهى صورة في الازمات والشدائد، وتلك نعمة ومنة من الله، وقد ذكر الله بها رسوله حين قال {لّوً أّنفّقًتّ مّا فٌي الأّرًضٌ جّمٌيعْا مَّا أّلَّفًتّ بّيًنّ قٍلٍوبٌهٌمً } ان مظاهر العزاء حين يشهدها المحرومون من الوفاق، يعرفون كم هو حجم التلاحم بين القادة والامة، وعزاؤنا الصادق ومواساتنا لصاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبدالعزيز ولوالدة الفقيد الصابرة المحتسبة التي لم تندمل جراح آلامها من ابنها السلف حتى واجهت المصاب الآخر بابنها الخلف، وعزاؤنا لزوجة الفقيد التي ستعيش مرارة الفراق متجدداً في ملامح ابنه وبناته ولاشقائه ولزملائه واصدقائه الذين فجعوا بفراقه غير المرتقب. |
قواعد للحوار مع أهل الكتاب
سلمان بن فهد العودة الحوار مع أهل الكتاب مقام يطول الحديث فيه، مع ضرورته والحاجة إليه، لكن هنا إشارة إلى بعض المعتبرات في قواعد ذلك على حرف مجمل: 1 الحوار مع أهل الكتاب يجب ان يكون لغة قادرة على التقويم والتعريف بالإسلام وأصوله وقضاياه، وموقف الإسلام العلمي من الديانة الكتابية (اليهودية النصرانية) أي: التقييم العلمي في الكتاب والسنة للديانة الكتابية، والفرق بينه وبين الموقف التطبيقي مع أهل الكتاب. وهذه قاعدة عقلية فاضلة في مقام جمع المختلف أو رد الاثنين إلى الواحد، فيعتبر المختلف بالمؤتلف، والثنائية بالأحدية، وهذا معتبر أيضاً بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما في الصحيحين، ويتبع هذا تصحيح الفهوم المنحرفة، وردها إلى الصدق الذي جاءت به النبوة الخاتمة. 3 يفترض عدم المبادرة بالتصريح بالمفهوم الإقصائي الإلغائي كمقدمة أولية. إن الإقصاء للديانة المحرفة وإن كان حقاً، لكنه في مقام الحوار يفترض ان يكون من المبادئ الثانية التي تكون نتيجة علمية لزومية، وليس مبدأ ولائياً مجرداً. ثمة فرق حين يحصل الإقصاء من نتاج النظر الصحيح مع التقرير العلمي فيكون ضرورة عقلية ملحة، أو يكون لغة ولائية مبدئية، هذا الثاني مقامه الخطاب الإسلامي، لا الحواري مع أهل الكتاب. 4 يفترض أن يكون تحصيل الإقناع معتبراً بالقضايا الأساسية في الإسلام، واستعمال المبادئ العقلية الكلية المصدقة لهذا. إن الحوار يجب ان يستعمل لغة واعية قادرة على الإلزام العقلي، ولهذا أيّد الرسل بالآيات والمعجزات المختلفة. 5 كما يفترض استغلال واقع الكتابيّين العلمي والخلاف في المفهوم الأساسي في كثير من القضايا داخل التجمعات الطائفية، اليهودية، والنصرانية، والتاريخية والواقعية. 6 من المهم ألا تكون القضايا التي هي موضوع الحوار قضايا حسمها الإسلام بمبدأ التسليم الإيماني، بل تكون موضوعات قبليَّة يمكن من ليس معه مبدأ التسليم وهذا حال الكتابي ان يجد له موقع تعامل مع موضوع الحوار. إن الحوار غير المطالبة، هذا قدر لا بد من إدراكه. 7 من المبادرات المهمة في مقدمة الحوار التعريف بمقام موسى بن عمران، وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام والأثر السماوي في دين أهل الكتاب، واعتراف الإسلام بهذا، حتى فرَّق في المعاملة بين الكتابيين وغيرهم. 8 محاولة فك المفهوم الولائي عن مادة الحوار، واستبعاد اللغة الولائية الخاصة. 9 الدخول على الكتابي من خلال الإشكاليات المعقدة في الديانة الكتابية، ولا سيما النصرانية، خاصة ان هذه الإشكاليات تحتل موقعاً أساسياً في الديانة. 10 فشل الديانة الكتابية المحرفة في التطبيق الاجتماعي والإنتاجي (تجارب الكنيسة مع العلم). 11 اعتبار الآثار العلمية في الوحي الإسلامي (القرآن والحديث) الإعجاز العلمي، والقدر الجاد منه، دع عنك ما هو من باب التظني والحشد. * إلى غير ذلك من آليات الحوار. وما أشرت إليه مناسب لمقام أهل الكتاب لا يناسب على هذا الوجه سائر الكفار أو من كان مخالفاً من المسلمين، بل لكل مقام مقال، وإن كان ثمة قواعد مشتركة في الحوار أياً كان موقعه، وحجة القرآن الكريم هي أعظم الحجج؛ لما فيها من الثبوت القطعي وقوة الدلالة، وترسيخ المبادئ والأصول والقواعد الكلية، التي يفضي التسليم بها إلى القبول بما وراءها. وأما المصادر في النصرانية، فقد صنف علماء الإسلام في هذا مثل: (الجواب الصحيح) للإمام ابن تيمية، و(هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) لابن القيم، وما ذكره أبو محمد بن حزم في (الفِصَل) والشهرستاني في (الملل والنحل)، والرازي في (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين) قدر كبير من القول، وفي التصنيف المعاصر والقول في النصرانية المعاصرة كتابات كثيرة شهيرة، ومن الكتب في هذا كتب الشيخ محمد أبو زهرة على بعض الملاحظات، والله يتولانا جميعاً، وهنا فإن أفضل اعتبار لحال النصارى وأقوالهم هو ما ذكره القرآن، وهذا مقامٌ معرفته متيسرة لسائر المسلمين، ومن تدبَّر القرآن في الآيات التي يذكر فيها النصارى وأهل الكتاب تحصل له علم كافٍ وتقدير لهذا الموضع. والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
فيلسوف الموت يموت..!
د. حسن بن فهد الهويمل ما رأيت مفكراً شغله الموت، وأخافه إلى حد الهلع، وأفرغ جهده الفكري والفلسفي في سبيل استكناهه، مثلما فعل (عبدالرحمن بدوي 1917 - 2002م) الذي عاش عذابات الغربة، ونكد العزوبية، ومرارة الحياة، ورهبة المطاردة من الساسة والمفكرين والأكاديميين، حتى قضى حياته حاقداً ومحقوداً عليه، متعاظماً بذاته وبمبْلغه من العلم. ومع ذلك الكيد الممض طاف جامعات العالم ومحافلها العلمية والفلسفية، وأسهم في التعليم والتأليف والتحقيق والترجمة، ووضع المناهج، وخلّف وراء ظهره مائة وخمسين مؤلفاً، تُرجم بعضها لأكثر من لغة، واعتمد البعض الآخر كأهم مرجع للدراسات العليا في جامعات العالم. وما ان علمت بموته المتوقع، هرعت إلى مكتبتي لأجد حقله فيها واحداً من أهم حقول الفلاسفة المعاصرين، من أمثال «زكي نجيب محمود»، «وفؤاد زكريا»، «والعقاد»، «ومحمد أركون»، «وحسن حنفي»، «والجابري» وحقول فلاسفة الغرب، أمثال «كانط» و«ديكارت» و«سبينوزا» و«كير كجرد»، و«سارتر» وكان آخر مشاويره التأليفية كتابيه الإسلاميين في الدفاع عن القرآن والرسول، وسيرته الذاتية التي ألهت الوسط الإعلامي والفكري ساعة من نهار، لكونها ملحمة هجائية مقذعة، في مجلدين، نيفا على سبعمائة صفحة، ولما تنته بعد، ولكن الموت سبق إليه، تاركاً بقايا الغضب يتجمد على شفتيه، ويخبو في صدره، كما البركان الخامد. وفي هذه السيرة عرض معرفي لبدايات حياته العلمية واهتماماته في «الأدب» و«اللغات»، «والفلسفة»، «وعلاقاته بأساتذته العرب والمستشرقين»، و«رحلاته في طلب العلم والتعليم»، و«حضور المؤتمرات»، وفيها إلى جانب ذلك تصفية لحسابات وثارات قديمة، آلت به إلى الغربة والحرمان، واضطرته إلى الشح والتقتير. لقد سعيت جهدي بحثاً عن تلك السيرة الضجة، وكنت يومها على وشك مناقشة رسالة أكاديمية عن «أدب السيرة الذاتية»، وفي صدد تحكيم آخر في «أدب السيرة»، وكنت من قبل ولمَّا أزل حفياً بسير أعلام النبلاء من علماء ومفكرين وفنيين وساسة، وبخاصة ذات الطابع الروائي، ممن يملكون موهبة قصصية، فكان ان بعثت بها إليَّ تلميذة وفية، نقبت عنها في مكتبات مصر، وحين حيزت لي، مع طائفة من المقالات والمقابلات التي جاءت في أعقابها من مقربين وأباعد، أصبت بخيبة أمل، وتمنيت أنه لم يفعل ما فعل، وكنت على وشك الفراغ من قراءة سيرة ذاتية متميزة «لادوارد سعيد»، «خارج المكان» بأسلوبها وحركتها الداخلية، وقد نقلها إلى العربية «فواز طرابلسي». والحق ان سيرة «بدوي» بهذا المستوى اللغوي والفني والموضوعي لم تكن من أدب السير الفنية المتميزة بأي مقياس، وإنما هي خواطر وأحداث ومعلومات وتاريخ لقضايا متنافرة، كتبها في خريف العمر والسمعة معاً، بحيث أومأ إلى التاريخ السياسي الحديث لمصر «ص46» ووعد بمزيد من التفصيل، وتحدث عن التاريخ الأكاديمي «ص55» ولما ينفك من الحديث عنه عبر أشواطها الدلالية، وعن «المؤتمرات» وبخاصة ما يتعلق منها بالمستشرقين، وتناولاتهم لفلاسفة الإسلام، جاعلاً نفسه الراوي والبطل والخصم والحكم. غير ان الشيخوخة والمرض أقعداه، ولما ينته من نفثاته الحرّى، والسيرة التي اشتعلت كما «نار الورق» خبت، وكأنها لم تكن، لفقدها مقومات البقاء، إذ لم تكن «كالأيام» لطه حسين أو «سبعون» لميخائيل نعيمة أو «غناء البجعة» لزكي محمود فهي الأقل جاذبية من بين عدد كبير من السير والذكريات والأيام، وأحسبها لا تطاول قاعة الفيلسوف الوجودي، الذي ترك بصمات واضحة في المشهد الفلسفي الحديث، وبخاصة فيما يتعلق بفلسفة الوجود، التي جذر لها في أقسام الفلسفة في الجامعات المصرية، وفي جامعات «الكويت» و«لبنان» و«ليبيا» التي عمل فيها ردحاً من الزمن. ومهما اختلفنا معه، فهو قامة شامخة، لا تطاول في مجال الفكر الفلسفي القديم والحديث، وأحسبه الأفضل في تحرير الفلسفة اليونانية، ويكفي أنه كتب عن «أفلاطون» و«أرسطو» أكثر من عشرة كتب. لقد حرصت على الظفر بسيرته مؤملاً حكايتها عن المسكوت عنه، وكشف ما غمض من تحولاته، علماً أنه الفيلسوف «السكوني» الذي توقف عند الوجودية ومستشرقي الخمسينيات الميلادية، ولم يتعمق في الظواهر الجديدة «كالبنيوية» التي أشار إليها بمستوى مثقفي السماع «ص26/2» واصفاً التحولات بالبدع الفكرية، وكنت أود لو أنه كتبها في الخمسينيات من عمره، ليبرز سيرته العلمية بوصفه منتجاً ثر العطاء، قادراً على تعرية التيارات الفلسفية القائمة على أشدها إذ ذاك، ولكنه لم يفعل، ومن ثم جاءت سيرته نفثة مصدور ورفسة ذبيح، فخصومه السياسيون والأكاديميون ذبحوه من الوريد إلى الوريد، مستغلين جنون العظمة عنده، بحيث ألجؤوه إلى الهجرة والانزواء في فندق «لوتيسيا» الشهير في فرنسا، يهيم على وجهه رابعة النهار دون هدى، ثم يأوي إلى غرفته كالخفاش في عتمات الليل دون أنيس، يجتر ماضيه الذي غيّر وجه الفلسفة، ويتحسر على أمجاده التي أضاعتها غطرسته، فلقد كانت أسرته من ذوي الأطيان والسيادة، ولكنه لم يصن هذه الأمجاد، وما نقم من الثورة والثوريين إلا لأنه أحد ضحاياها في عمليات الإصلاح الزراعي، بمراحلها الثلاث. والغريب ان كل أساطين «الإلحاد» عوقبوا بالتشرد والضياع والانطفاء، وعلينا استعراض حيوات «رسل» و«نيتشه» و«سبنسر» و«شوبنهور» و«سارتر» وبدوي فيما لقي من لداته، وفيما هو عليه من علم غزير يشبه «زكي مبارك» الذي مات مخموراً من القهر الذي تعرض له على الرغم من علمه الواسع وثقافته العميقة. والمؤسف ان خصومة الأنداد في مصر عنيفة وقاسية، وغير أخلاقية، حتى لقد ضاع عدد من المفكرين بسبب المكائد التي لا تليق بصفوة الفكر والأدب، وصراع العمالقة في مصر ليس من المعارك الأدبية والفكرية التي تسعى إلى تحرير المسائل، وإنما هي ضغائن ومكائد وتنافس غير شريف، تنتهي بتصفية إحدى الطائفتين، ولقد تولى «طه حسين» كبر هذه المعارك الدنيئة، ولربما أعود إليها متقصياً ضحاياها، وما تركته من سلبيات. لقد ضاع «عبدالرحمن بدوي» مع من ضاع من رواد الفكر والفلسفة، ولسنا آسفين على ضياعه، لأنه نتاج العمل الاستشراقي في الجامعات المصرية، ولأنه ممن مكَّن للفلسفة الوجودية الملحدة، مدعياً ان لها جذورها العربية، ضارباً المثل «بأبي حيان التوحيدي»، بوصفه رائد الوجودية العربية، وما هو منها بقريب. وما لقيه من الساسة والفلاسفة جعله يكتب سيرته بقلم يتميز من الغيظ لم يتورع، ولم يعف عن أعراض الأموات، فلقد نال من «جمال عبدالناصر» ومن «محمود فوزي» ومن زعماء مصر قبل الثورة، وبخاصة «سعد زغلول»، ونال من الأزهر وعلمائه، ولم يثن إلا على الأقل «كمصطفى عبدالرازق» ومما قاله عن «عبدالناصر»: - «هكذا كانت وستكون تصرفات جمال عبدالناصر خارجياً وداخلياً تصرفات حمقاء طائشة لا تحسب حساباً لأي شيء غير الدوي الأجوف العقيم حول شخصيته مهما ترتب عليها من خراب وويلات لمصر وشعب مصر ومكانة مصر في المجتمع الدولي «ص238/1» وقال عن «فوزي» ماهو أدهى وأمر، وقال عن علماء الأزهر: - «وشيوخ الأزهر بطبعهم طماعون حاقدون يأكل الحسد قلوبهم.. لا يتورعون عن استخدام أخس الوسائل: من وقيعة ودس ووشاية واختراع الأكاذيب» «ص62» وفي المقابل مجَّد المستشرقين أمثال «أندريه لالاند» وأوغل في النيْل من زملائه ولداته من أمثال «العقاد» «وفؤاد زكريا»، ومن الأقسام العلمية، وبعد الخمسينيات أسقط من حسابه أقسام الفلسفة في البلاد العربية والأوروبية مستخفاً بكل ماهو قائم. لقد استحر القتل في سيرته، وسالت دماء بريئة وأخرى مدانة، ومع ذلك لم يتوفر على لغة جميلة، ولا على تميُّز فني، ولا على تماسك موضوعي، على الرغم من جودة لغته وأدبيتها فيما كتب في غير السيرة. وتحت عجاجة الهجاء المقذع تحدث عن جوانب كثيرة من حياته العلمية والفكرية والعملية والسياسية، عرض للسياسة في «مصر» وفصل القول عن السياسة والدين في «إيران» وكأنه ألصق حديثه عن «إيران» إلصاقاً، ليختتم به سيرته. والغريب أنه لم يذكر شيئاً عن وجوده الأطول في الكويت، فيما أفاض بالحديث عن وجوده في «ليبيا» و«إيران» مما أثار حفيظة «محمد الرميحي» «الحياة 17/5/1423هـ»، لقد بدا في سيرته متغطرساً مدلاً بعلمه وعمله، وهو حقيق بأن يدل، لولا ان سمة العلماء التواضع، وخفض الجناح، ولكن أنى له هذا، وقد طورد في رزقه وعمله، وحيل بينه وبين أبسط حقوقه، وفي ركاب الهجاء، أشار إلى ظواهر فلسفية وطائفية ومذهبية إشارة عجلى، وأفاض بالحديث عن عمله في «ليبيا» وعن سجنه، وملابسات السجن، وتطورات الأحداث، ومتابعة «أنور السادات» لاخراجه من السجن، ولم يأت من يقول الحق عن أسباب سجنه، ولعل إجابة أخيه «ثروت بدوي» واحدة من تخمينات السبب. وهو قد كتب عن سيرته الذاتية، وعن مذهبه الفلسفي، حين ترجم لنفسه بوصفه فيلسوفاً وجودياً في «موسوعته الفلسفية» التي تقع في مجلدين كبيرين، وعدَّ نفسه الفيلسوف الوجودي الوحيد في الوطن العربي، «ص294ج1» وجعل مدار فلسفته: «الموت» و«الوجود» وهما موضوع رسالتيه للماجستير والدكتوراه، وقد لخصهما في موسوعته الجزء الأول «ص298 و306» والحديث عن الوجودية والوجوديين في الوطن العربي، وفي مصر بالذات حديث ذو شعب لايمكن استيعاب شفراته في كتاب، فضلاً عن مقال متخفف، لقد عرف عدد كبير من المفكرين ممن لهم اهتماماتهم الوجودية، ودخلت الوجودية في الأقسام الفلسفية في الجامعات المصرية، ونهض الأكاديميون للترجمة والتأليف والدراسة عن ظواهرها: الإيمانية والإلحادية، مثلما ألَّفوا وترجموا عن «الماركسية» ولكنه عمل غير صالح، «فتلك بيوتهم خاوية» وتلك أربابها يقلبون أكفهم على ما أنفقوا فيها «وهي خاوية على عروشها»، ولربما كان الاحتفاء بالوجودية حافزاً «لسارتر» على زيارة مصر والحديث عن قضية فلسطين، وبين التعالق والمفارقة اتهم البعض بالوجودية، «فالعقاد» عدَّ وجودياً، لقوله: إذا كانت الوجودية تعني الحرية والعدل والمساواة فإنني وجودي، على حد: إذا كان حب آل البيت تشيعاً فأنا متشيع، ومثلما أزلقت «الماسونية» طائفة من العلماء في سرابها، فقد فعلت «الوجودية» مثل ذلك، فالحرية والعدل والمساواة مطلب كل حي. وفي مجال التعلق بالفكر الوجودي ترجمت أعمال «جان بول سارتر» الذي نقم عليه «بدوي» وسخر من مقدرته، وإن ترجم أحد كتبه، ومما ترجم «لسارتر»: «الأبواب المقفلة» و«التخيل» و«المادية والثورة» و«تعالي الأنا موجود» و«الكلمات» و«ما الأدب» و«الوجود والعدم» «والوجود مذهب إنساني» وقد راد عبدالرحمن بدوي لهذه الحملة الوجودية، حين جاءت رسالتاه العلميتان عن الوجودية، ولمّا ينج من تعقب بعض المفكرين والراصدين للاتجاه الوجودي أمثال «الجابري» و«عبدالمنعم حنفي» و«فؤاد كامل» حتى لقد حكم عليه بعضهم «بالإلحاد» وماهو منه ببعيد. و«بدوي» الذي شغله الموت بوصفه مفردة من مفردات الوجودية اخترمته يد المنون أعزل من كل شيء، فلا زوجة، ولا ولد، ولا جاه، ولا مال، ثوي دون أي ضجيج. ولعل أقوى دراساته الأكاديمية وأمكنها في المذهب الوجودي رسالته «مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية» التي حورها بناء على رغبة أستاذه «لالاند» إلى «مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة» لأن «لالاند» يرى أن الوجودية «موضة» وبدعة لا قيمة لها، وتحول الإشراف إلى مستشرق آخر مكَّنه من العودة إلى وجوديته والرسالة لم تطبع بهذا الاسم، ويأتي كتابه «الزمان الوجودي» الأهم، وهو رسالته للدكتوراه، ومؤلفاته وتحقيقاته وترجماته، كلها تدور حول الفلسفة العالمية. منها المبتكرات، والدراسات الغربية، وخلاصات الفكر الأوروبي، والدراسات الإسلامية، والمترجمات. وله مؤلف مطبوع متداول تحت عنوان «الموت والعبقرية» يعد من بواكير مؤلفاته، ولم يشر في قوائم مؤلفاته إلى رسالة الماجستير «مشكلة الموت» فهل غيَّر في العنوان، إذ من المؤكد ان الرسالة كتابه المطبوع «الموت والعبقرية». و«بدوي» في النهاية فيلسوف وصولي نفعي، قسا في اتهامه، وكشف بخله وحقده أحد تلاميذه الدكتور «فؤاد زكريا» الذي زامله في «جامعة الكويت»، جاء ذلك في لقاء أجري معه، ونشر في كتاب «عبدالرحمن بدوي فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام» من تأليف الصحفي المقيم في فرنسا الدكتور «سعيد اللاوندي» الذي كانت له علاقات ومغامرات مع بدوي، وقد أشار إلى مواقف بدوي غير المقبولة من المفكر الكبير «عباس محمود العقاد»، ومن المفكر الجزائري «محمد أركون». وإذا كان بدوي علمانياً وجودياً اتهمه بعض دارسيه «بالإلحاد» فإن له عملين إسلاميين، صدرا قبل وفاته بسنتين، وترجمهما عن الفرنسية «كمال جادالله» أحدهما «دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره» والآخر «دفاع عن القرآن ضد منتقديه» وقد قصر دفاعه على القضايا العلمية الصرفة، والملفت للنظر ان «فؤاد زكريا» اتهمه في مقاصده نافياً إسلاميته قائلاً: «إنه يضع عينيه على جائزة خدمة الإسلام التي تحمل اسم الملك فيصل، وهذا جزء من حبه للمال، وهو مستعد ان يذبح نفسه في سبيل الحصول على هذه الجائزة» «ص115» من كتاب «اللاوندي»،ذلكم هو عبدالرحمن بدوي الفيلسوف الوجودي الشامخ شموخ الجبال، الذي خرج من مصر وأنفه في السماء، وعاد إليها وأنفه في الرغام. |
والمملكة بين: التخوين والتآمر..! (1/2)
د/ حسن بن فهد الهويمل لمَّا فرغتُ من الحديث عن (ثروتنا الوطنية بين: الخنزرة والسرطنة). تبدت فئات أخرى، تروج شائعات من الوزن الثقيل عن بلاد أذن اللّه أن تكون مثابة للناس وأمنا، بلاد يسبق أهلها قادتهم في الدعم المادي والمعنوي. والمؤلم أن الضالعين في الأذية ممن علمناهم (الرماية) ونظم (القوافي)، ولو أن ما يقال عن تلك البلاد وأهلها خطأ يحذر منه، أو تقصير يحث على تلافيه، لما كان في الأمر من بأس، فالسياق العربي -نحن جزء منه - بحاجة إلى من يرود له، ولايكذب، ويمحضهُ النصح، ولايشطط، وكم نودُّ ألا يكون بأسُنا بيننا شديداً، فنحن أحوج ما نكون إلى قطرة المداد وإلى كل العتاد، لمواجهة الحملات الشرسة: إعلامياً وعسكرياً، وليس هناك من بأس أن أكون مخطئاً أو مقصراً في نظر الآخر، لأن مثل ذلك من العوارض المتوقعة والمواقف المشروعة، وكل متحدث أو فاعل يؤخذ من كلامه أو من فعله ويرد، إلا المعصوم، وكل صغير أو كبير موقوف للمساءلة والنقد، فليس لأحد كائنا من كان أن يزكي نفسه، ولا أن يأنف من المساءلة، ورفضنا المشروع لإحالة الخطأ أو التقصير إلى الخيانة والتآمر وسوء النية. ولو سيق النقد والمؤاخذة لكل المشتغلين على مسرح الأحداث العربية لما كان هناك ما يلفت النظر. أما حين أكون وحدي مَثَلَ السوْء، ومادة التخوين والتجريم، فأمر لايحتمله إلا مهين و: من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام والأمة المتحضرة تقبل المراجعة، ولا تصعد حساسيتها من النقد، ولكنها تفرق بين الناقم الأجير والناصح الخبير، معرية الناقمين الأغبياء الذين يهتكون أستار حقدهم باستدبار الضالعين في الخطيئات والنيل من سمعة القائمين بالمهمات. وما من صادق ناصح إلا ويرحب صدره للنقد والمراجعة. ولا يخاف من كلمة الحق إلا الضعفاء، ولا يتأبى النظر في المرايا المقعرة أو المحدبة أو المسطحة إلا المرتابون، والمبصِّر بالعيوب كالمهدي، ولكن المتداول عبر الصحف المأجورة والقنوات الموتورة لا يمت إلى النقد البناء بصلة، والمسألة ليست (مرايا) ولا (إهداء عيوب)، المسألة حرب منظمة، وافتراء ما له من فواق، تتردد أصداؤهما بين الصهاينة المزروعين في المؤسسات الأمريكية والمأجورين المتسكعين في العواصم الأوروبية، يؤز هؤلاء وأولئك منتفعون من توهين الدور الرائد لهذه البلاد، وإيضاع الفتنة في جبهتها الداخلية، توقاً لخلخلة تماسكها، وشغلها بنفسها في زمن متفجر بكل الفتن. ومما أذكى الحساسية، وأثار الشك قيام من يزكي رؤوس الفتنة ومروجي الاتهامات، ومن يرى أن قالة السوء عنهم حسداً من عند أنفسنا، وصداً عما أفاء الله به عليهم من قول الصدق، ومن يسعى لحمايتهم ورد اعتبارهم، باسم الدفاع عن الحقوق، متهيئاً لجولة قضائية، تقطع دابر المدافعين عن حياضهم، وتكمم الأفواه المنتصرة لأنفسها. والمتعقب لخطابي المرافعة ضد جريدتي (الجزيرة) و(الوطن) يدرك ان صاحبهما لم يكن ملماً بأبجديات الأحداث السياسية، وليس على علم بفيوض الاتهامات التي تنهال من راجمات الترسانة البلاغية على قادة البلاد وأهلها، عبر صحف مهاجرة أو قنوات مناوئة، ولمَّا يعلم بعد أن من حق المعتدى عليه أن يرد بالمثل، وتصرف المحامي يحال إلى تسرعه وجهله بمجريات السياسة، وواجبنا ابتداءً مجادلته بالتي هي أحسن، وذلك: (أن الرفق بالجاني عتاب) حتى يتبين له الحق، فإن أصر واستكبر واستغشى حججه المسفسطة كان من حقنا التحرف لرد رادع. وإذا كان أعداء (الثروة الوطنية) يفترون الكذب بإشاعة الرداءة والغلاء فإن أعداء الأمة يمعنون في التشكيك بأمانتها وأهليتها، مؤكدين على خيانة العين وتآمر الفعل. ومع أن مثل هذه الهجائيات يتداولها من هم على شاكلة خطباء (الهايدبرك) إلا أنه وبعد أن أخذت الظاهرة بعداً قضائياً، أصبح لها شأن آخر. وعلى الرغم من كل هذه الحيثيات فإنني لست ممن يحبذ ملاحقة مثل هؤلاء، امتثالاً لثناء الله وأمره لعباده{الذٌينّ يّمًشٍونّ عّلّى الأّرًضٌ هّوًنْا وّإذّا خّاطّبّهٍمٍ الجّاهٌلٍونّ قّالٍوا سّلامْا} [الفرقان: 63] ولخاصته الذين {وّإذّا مّرٍَوا بٌاللَّغًوٌ مّرٍَوا كٌرّامْا} الفرقان: (72) ولكن التمادي في النيل، وتنويع قنواته ومواقعه، وتنظيم حملاته، والتركيز على القضايا المصيرية، وحصر الخيانة والعمالة فيمن أجمعت الأمة العربية ومعهم أهل الشأن على سلامة مقاصده ووفائه بالتزاماته، واختراق الجبهة الداخلية على مطايا المحاماة، لشرعنة النيل والتجريح وإدانة الدفاع عن النفس، كل ذلك يجعل الإنسان مكرهاً لا بطلاً، ويحمله على التفكير الجاد في الأمر، ولايكفي أن نرد بالمثل، بل لا بد من دراسة هذه الظاهرة العدائية، عبر مؤسسات تضطلع بهذا العبء الثقيل، وترسم أسلوب المواجهة. ومروجو الشائعات عن البلاد وأهلها، ليسوا من الناصحين الذين يحسنون الظن، ويتلطفون بالدعوة إلى الصواب، وليسوا ممن يفككون الخطأ حيث وجدوه دون مفاضلة أو انتقاء، وليست لهم مواقف تحمل على هيبتهم. والتصدي لهم أو المرور الكريم بلغوهم موقفان أحلاهما مر. والملفت للنظر، أننا نلاقي الشائعات المغرضة من (لوبيات) متناقضة ظاهرياً: من عرب يلعنون الصهيونية، ومن صهاينة يلعنون العرب، ومن ضالعين في العمالة، تعرفهم بسيماهم، ومن متشابهين كبقر بني اسرائيل، فيما نتلقى الثناء والشكور من زعماء العالم، ومن الصامدين تحت وطأة الاجتياح، ومن الصابرين المحتسبين في الأرض المحتلة، ومن زعماء المنظمات. فأي الفريقين أحق بالتصديق؟ ولماذا لا يلام أولئك على ثقتهم وثنائهم وتأييدهم لمواقفنا. وما كان لنا مجاراة ذوي هذا الخلق لولا أنه طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، وهمَّ بنا من لا يدفع عن نفسه، وحين مس أولئك شواظ التعرية، تحرفوا بغباء معتق، متسلقين محراب القضاء السعودي، معولين على نزاهته، راضين بحكمه على حد: -(فيك الخصام وأنت الخصم والحكم). وذلك التحرف المتذاكي يمثل تزكية للنفس، فاتهاماته المتتابعة صدق صريح ودفاعنا المتردد إفك مفترى، ولتأكيد الثقة اتخذ من المحاماة ونزاهة القضاء السعوديين برهاناً يخدع به السذج، معتمداً على ألوان الطيف في آفاق السياسة وعلى المحامي الذي نظر إلى الطعم ولم يع مزالق الطريق. ومع ان السياسة العالمية والعربية تقرأ على عدة مستويات، وفيها مغارات ومفازات كثيرة، إلا أن مواجهة الحق الصراح لا يبرره أي احتمال. وحتى لا نكون نشزاً، في سياقنا، ولا مثار تساؤل للفضوليين فإننا لن نقف عند تزكية النفس وتخوين الخصم، كما ان اعتراضنا ليس ضد النقد، ولا ضد المنافسة الشريفة، ولا على تنازع المصالح والأدوار، وإنما هو على التخوين والتشكيك بكل ما نأتي أو نذر من فعل أو قول أو صمت وعلى التغاضي عمن استدبروا القضايا أو عملوا ضدها. والغريب أننا في المؤتمرات نجلس حول مائدة مستديرة، حتى إذا خرجنا بموقف مشترك، سيئ الظن به، وأحيل التآمر علينا، دون شركائنا وإذا كان المتنصتون المحرفون للقول من بعد مواقعه صادقين مخلصين، فأين هم من أبناء جلدتهم المجندين لخدمة الصهيونية، أما كان من الأجدى والأهدى تعقب هذه العصابات العميلة التي سهلت اقتناص المجاهدين، وتوعية ضمائرها، أو تنبيه المجاهدين لأخذ حذرهم، وكيف يتأتى للصهيونية اقتناص القادة الناشطين الواحد تلو الآخر لولا خيانة المسكوت عنهم. وليس من شك أن متنفس الماكرين كون السياسة: (فن الممكن)، وممتهنوها أشد الناس عناء وتعباً وعرضة للنيل. وغنوصيتها جعلتها كالماء العكر، يكثر على شواطئها هواة الصيد. ومفاجآتها لا تمكن أبناء بجدتها من ترتيب أمورهم وأخذ حذرهم، فضلاً عن الفضوليين الذين يدرجون في عش ليس بعشهم. والمثاليون الذين يفترضون في السياسة الفضيلة والصدق والشفافية يصابون بخيبات الأمل، ويتعرضون للإحباطات الموجعة، فالحرب الباردة والساخنة خدعة. ومبدأ الكتمان يحمل قناصة المواقف على التخمين، وقراءة الكف، والضرب بالحصى، وزجر الطير. وكل أولئك لايدرون بما يدار خلف (الكواليس)، وما يتداول في (اللوبيات). والشفافية السياسية ضرب من الوهم، إذ لو شفَّت لما حصل المرتزقة على ما يسد الرمق، ولما نفذت اللعب الموجعة. والكتبة الذين يتعقبون ظواهرها وآثارها، لايقر لهم قرار، ففي كل يوم لهم معها شأن جديد، قد يكون مناقضاً تمام المناقضة لسالفه. وأصحاب المبادئ والمواقف يلعنون (ساس) و(يسوس) وما تصرف منها، لأنها تجر أقدامهم إلى مهاوي الانتهازية والتلون الحرباوي، ومع هذا فقدرهم أن يعيشوها بالطول والعرض. والخطاب السياسي خطاب مراوغ، كالمرآة في كف الأشل، بحيث تتعدد حوله الرؤى والتصورات، وهذه الظاهرة الحلزونية مكنت مسوقي التهريج من ترويج بضاعتهم، وتضليل الرأي العام، ومع تلك الإمكانيات لايقدر بعض اللاعبين على تزوير مفترياته، وكم من كذَبَةٍ استهلكوا كل الأقنعة، ولم يعد أحد منهم صالحاً للعمالة، وإذ تكون بعض اللعب كونية المجال فإن بعض اللاعبين يكون على مستوى الدولة، وكم من زعيم قضى حياته وهو يرقص على خشبة المسرح. والدول الحصيفة الواعية الحريصة على مصلحتها تتكلم وفق إمكانياتها، وتعمل على قدر أعماقها الاقتصادية والبشرية والسياسية والجغرافية، ولا تلقي بيدها إلى التهلكة، ولا تتردد في ارتكاب أهون الضررين، غير عابئة بالمحرضين ولا بالمخذلين ومن يدوكون ليلهم في رسم المثاليات حتى إذا أشرقت الشمس عرضوا على تصوراتهم فعل الشجيين، ثم راحوا يجرمون بالجملة، يفسدون ولا يصلحون ويزلقون ولايثبتون الأقدام. والمتورطون في اللعب الخطيرة من ينسون حجمهم وإمكانياتهم، ويدفعون بأنفسهم وسط تيارات جارفة، تطوح بهم بعيداً عن مصالحهم، وإن وفرت لهم هالة وقتية، لاتتجاوز مدة قضاء حاجة الكبار منهم، حتى إذا انتهى دورهم تركوا في العراء (كالعرنيين) يستطعمون فلا يطعمون، ويستسقون فلا يسقون، لأن عار اللعبة تلصق بهم سبة الدهر. واللاعبون الأغبياء يكونون أفراداً وجماعات ودولاً لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، ومثل هذه الممارسات تفوت على ذويها فرصاً ثمينة، وتلجئهم إلى الإفك والبهتان واستقطاب بائعي الكلام، المتسكعين على أرصفة الضياع، في زمن لايحتمل المزيد من الفرقة. ولأن السياسة تميل حيث تميل الرياح فإن المتطلعين إلى الثبوتية في العلاقات والمواقف تحبطهم التحولات المستمرة، ولهذا لا بد من ترويض النفس على معايشة الشيء ونقيضه، سواء جاء زعيقاً من الحناجر، أو دوياً من المدافع، دسيسة أو منابذة، من ذوي القربى أو من الأباعد. ومتى أكره الإنسان على المواجهة فليحاول الدفع بالتي هي أحسن. فالأمة مثخنة الجراح، وعلى موعد مع مزيد من الانهيارات المضرة، والحروب المدمّرة. والمحترف النابه من لا يسرف في الحب ولا في البغض، فصديق اليوم قد يتحول إلى عدو لدود في ذات اليوم، وعدو الأمس يصير في لمحة البصر وبدون أي مقدمات صديقاً غير صدوق، والطيبون يعيشون لحظة أبدية من الذهول والتعجب، فيما يملك المرتزقة أكثر من قناع، يمكنهم من إتقان الإضحاك في الأفراح والإبكاء في الأتراح، وعيونهم على جيوب الدافعين لثمن المسرحيات (الهزلية) أو (المأساوية)، غير عابئين بما يتركونه من خيال. وحين نقطع بأنه لا يدوم في السياسة إلا المصالح فإن علينا التكيف مع التقلبات، لمواجهة قدرنا العصيب. وتقلب الصداقات واستمرار المصالح قالت به حذام (التاتشرية) وهي امرأة حديدية، وإن بكت مرتين: -عند ضياع ابنها. وعند غرق إحدى فرقاطاتها الحربية في حرب (فوكلاند). ومع تقلبات الطقس السياسي، يكون الحاذق وسطياً، يعطي بقدر، ويأخذ بقدر، ويتقي بقدر، ويعادي ويصادق بقدر، ويبادل الطرف الآخر حديثاً (دبلوماسياً) يمتلك معه أكثر من مخرج، ويحتمل أكثر من تفسير، فالسياسي بحاجة إلى أن يقلب المدح إلى هجاء والهجاء إلى مدح، على شاكلة أبي الطيب مع (كافور الأخشيدي). وأنا هنا لا أريد من السياسة، ولا من الساسة أن يكونوا (ميكافيليين) لا أخلاقيين، في ظل ما يأتون، وما يذرون، ولست من دعاة الكذب وعدم الوفاء بالعهد، ولكنني لا أريد للطيبين أن يكونوا لقمة سائغة للمكائد، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه استعاذ بالله من ضعف التقي وجلد الفاجر. وعلى ضوء ذلك فإنه ليس من مصلحة الجادين ان يزعجهم كل ناعق، ولا أن يفت في عضدهم كل حاقد، وإن كانوا مضطرين في بعض المواقف لإسراج جياد الجهل لمواجهة مثلها، كي يحموا صفو أعمالهم ان تكدرا. وما لا أريده جر أقدامنا إلى الفعل العاطفي المفوت لفرص التأمل والتروي والتقدير والتوقيت، وإذا بليت بشخص لا خلاق له فليس شرطاً ان تكون كأنك لم تسمع ولم يقل، إنك بحاجة في كثير من الحالات إلى أن تستمع، وإلى أن ترد الصاع صاعين، (وإذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب): ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يتق الشتم يشتم و(لايسلم الشرف الرفيعُ من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم) وفي المقابل: ومن لم يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم وبين (الذود) و(المصانعة) معادلة صعبة، لا يضبط إيقاعها إلا العالمون بخبايا السياسة. فكم من مهرج سادي، يود ان يتلقى الصفعات أمام النظارة، ليجعل من نفسه بطلاً قومياً، ومن ثم يكون المرور به دون سمع أو نظر تفويتاً لفرصته. والمتتبع للمشاهد كافة يرى عجباً، فالروائيون الذين لايُدهشون ب (اللغة) و(الفن) و(الموقف) يثيرون ب(المجون) و(الإلحاد) و(التمرد) والكتبة الذين لايشدون المتلقي ب (الموضوعية) و(الثقافة) و(الوعي)، يستفزون ب(الوقاحة) و(الادعاء) و(الافتراء) ولك ان تقول مثل ذلك عمن يتماسون مع السياسة تحت أي مسمى، حتى إذا استُهلكت كل الأقنعة، عاد كل مفتعل إلى فعله، ومنطلق إلى قواعده: سالماً أو معيباً، والطبع يغلب التطبع: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم |
والمملكة بين: التخوين والتآمر..! (2/2)
د. حسن بن فهد الهويمل وكلما زادت موضعة الأشياء، أعطت مؤشرات عن اتساع الاختلاف، وأهمية الذات المموضعة، سواء كانت ذاتاً حقيقية أو اعتبارية. والدولة الفاعلة المؤثرة مثيرة للتساؤل، مغرية بالدخول في خصوصيتها، وعليها رفع قدرتها على احتمال الفضول، والتمكن من التصدي والصمود. وبالمناسبة تذكرت تذمر مسؤول من الشائعات، وقولي له: وهلاّ قرأت ما قاله «العقاد» عن مؤشرات «العبقرية»، وما يتداول عن طلب موسى عليه السلام من ربه، أن يكف ألسنة الناس عنه، وقول ربه له: ما كففتها عن نفسي، وقول اليهود: «يد الله مغلولة». وهلاّ وقفت على مكائد «المنافقين» والرسول بين أظهرهم، ينزل عليه الوحي المحذر من إنزال سورة «تنبئهم بما في قلوبهم». والواعون لسنن الله في خلقه، لايعبؤون بأحاديث الإفك، ولايعطونها أكثر مما تستحق، ولايصنعون من المغمورين أبطالاً، وإن كان من حقهم رد الاعتداء بمثله، مع تحامي ردود الفعل، وقبول الاختلاف بوصفه من السنن الكونية، ومن لوازم الاجتماع الإنساني. والصراع اكسير الحياة، ولو لم يكن هناك عداوات وحزازات لسعى الإنسان لخلقها، وإن كان مراد النفوس أهون من التعادي والتفاني. و«حرب الشائعات» أسلوب معرفي، وسلاح نافذ، له أساطينه، وصانعو مفاجآته، والمخططون له. ومكاتب «صناعة الكذب» تعتمد في إحكام فعلها على العلماء والخبراء «النفسيين» و«الانثروبولوجيين» و«المفكرين» و«الساسة» ولهذا تأتي الإشاعة محكمة، لا تنضح الماء، ولايساورها الشك. وصناعة الكذب جزء من «الحرب النفسية» التي يمهد بها الأعداء لضرباتهم الحاسمة، وهي وسيلة قائمة على أشدها، لاينفك منها أي مجتمع، والدول ذات المصالح، تتخذ مختلف الأساليب، لتوهين الأطراف المؤثرة على مصالحها، أو المقللة من فرص الكسب السياسي والإعلامي والاقتصادي. ومن مؤشرات التميز والتأثير في الأحداث المصيرية ان تكون الذات الحقيقية أو الاعتبارية مادة حديث، ومصدر خلاف واختلاف، وهدفاً للحرب الباردة أو الساخنة. وإذا كان البعض منا يضيق ذرعاً بملفقي الاتهامات، ويرى فعلهم خروجاً على المألوف، فإنني أرى ما لا يرون. فيما أرى ضرورة ان تكون المواجهة بمستوى إمكانيات الطرف المضاد، وأهميته، وحجم أثره، وموقعه من الأحداث. ولكل من صناعة «البطل» و«العدو» و«الصديق» أسلوبها الذي لا يعيه إلا القلة. والذين لايكون لهم وزن في المشاهد، ولا يؤبه بحضورهم، ولا يحس بغيابهم، يستميتون من أجل أن يصنع الآخرون منهم أبطالاً، ويمارسون الممكن لخلخلة الصفوف، والنفاذ إلى دائرة الضوء، وقد لا يكون من المصلحة الالتفات إليهم، لتفويت فرصة الحضور عليهم، ومعاملتهم بنقيض قصدهم. ولا شك أن جر القدم للمواجهة، وتحديد نوعها وزمانها ومكانها جزء من التماكر. ووضع الطين والعجين في الأذن أسلوب من أساليب المواجهة. وحين يهب كتّابنا لمنازلة كل ناعق، يمكنون له في مطارح السياسة، ويهيئون له هالة ليس من أهلها. والهجاء حين لايلتفت إليه ثقة بالنفس واعتزازاً بالفعل، يتضاءل، ويضمحل أهله. وكم كان بودي لو بادرنا إلى ما يتداوله أولئك، فأعدنا نشره في صحافتنا، ودعوناهم ليقولوا ما بأنفسهم، فذلك العلاج الناجع لقطع دابرهم. وليس غريباً استهداف المملكة، لأنها شريك مؤثر، على كل الأصعدة، وصداقاتها التاريخية لها وزنها، والأطراف الضالعة تثمِّن أعماقها الاقتصادية والجغرافية والبشرية، وتحسب لمكانتها عربياً وإسلامياً، وفعلها قامع لكثير من ذوي السيقان الخشبية، والأقزام الذين يتمنون ان يحمدوا بما لم يفعلوا، وأن يذكروا ولو في التوقيع على بياض، يؤذيهم الانطفاء وسط الوهج، ويؤلمهم قضاء الأمور في غيابهم، وصرف النظر عنهم، وهم حضور، وثمن التميُّز باهظ التكاليف: «لولا المشقة ساد الناس كلهم... الجود يفقر والإقدام قتَّال» ويبدو لي أن مشكلتنا أكبر من صحفي لاينفك من صنع الأكاذيب، وأكبر من محامٍ يتصيد غرائب القضايا، وبخاصة أن قدرنا وضعنا بحجم إمكانياتنا ومكانتنا وإذ يكون أمام إعلامنا وكتّابنا مسؤوليات بحجم دولتهم ومهماتها فإن مهمات الجميع فوق التنابز بالألقاب، والعالم اليوم غيره بالأمس، والمشاهد مليئة بقضايا يشيب من هولها الوليد، ومخاضات الأحداث الجسام سيكون لها ما بعدها، والأفضل أن نكون بمستوى دورنا الفاعل، فالأمة العربية والإسلامية مقبلة على واقع عصيب، والذين يجدفون في المستنقعات الآسنة كهفيون، يظنون أن ورقهم متداول، وأن بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً ذا بال، والمملكة بما تضطلع به من مهمات، وما تنهض به من مسؤوليات، ليست قادرة على توسيع الجبهات وتعددها، إنها أمام أدوار قيادية، وعليها ان تمضي في طريقها، فإعراضها عن الجاهلين أنكى وأمر، والخطورة ليست فيمن يعلن عداءه، ولا يملك إلا عنتريات «الستينيات» العجاف، ولا فيمن يقبض الثمن البخس للوقيعة الكلامية، الخطورة فيمن يكيد في الخفاء، وفيمن يدفعون ثمناً باهظاً لتزييف الرأي العام. وبائع الكلام المتاجر بالإمكانيات البلاغية بوصفه ظاهرة صوتية، لا يشكل جبهة المواجهة، ولا يجب ان يقف إعلامنا بإزائه، فهو أهون من أن تراق الأحبار من أجله، وخير من ملاحاته إبلاغ صوتنا، وطرح ذاتنا، بكل ماهي عليه، وحين يضطر أحدنا لقراءة مثله، فالأفضل استدعاؤه بسياقه وأنساقه. وليست حالته بأسوأ من حالة الدال على مواقع الفدائيين، لتمكين العدو من اقتناصهم أو أخذهم أسارى. ولو أن المهرجين يحملون هم أمتهم، لوظفوا إمكانياتهم البلاغية للتعبئة العامة، والرفع من معنويات الصامدين، وحث المقصرين على الدعم المادي والمعنوي، والتخفيف من عَدْوِ المهرولين صوب العدو، والتودد إلى الداعمين للقضية، وشد أزرهم، ومؤازرة المطالبين بالمقاطعة بكل أشكالها، لكي يتقدم المخذلون والخارجون عن الصف خطوة واحدة صوب ما أخذت به المملكة طائعة مختارة من مقاطعة شاملة للعدو، وهو ما لم يتوفر عليه المسكوت عنهم. ومواقف المملكة من القضية التي تقاعس عنها الأدعياء المدّعون عرّضها لمواقف محرجة، وفوت عليها فرصاً ثمينة، وليس أدل على ذلك مما يتداوله الإعلام الأمريكي، وبعض المؤسسات الشورية والمعلوماتية في أمريكا من تحريض سافر ضد أمن المملكة ووحدتها واستقرارها. وما نيل منها إلا بسبب مواقفها المتصلبة من أجل القضية، ودعمها السخي ولم تكن المملكة في يوم من الأيام أشد ثباتاً والتزاماً بالقرارات الشرعية منها في هذه الأيام العصيبة. وعلى الباحثين عن الحق تتبع الحملات ضد المملكة في أنحاء العالم، والتعرف على دوافعها، والموازنة بين ما يروجه الصهاينة، وما يجتره العققة من أبناء جلدتنا، أفلا يكون هؤلاء وأولئك في خندق واحد لإثارة المملكة، وحملها على التخلي عن القضية؟ وها نحن نسمع من يدعو الدولة من المواطنين إلى التخلي عن القضية، حسماً للمشاكل، وإيقافاً لمثل هذه الحملات التي آذت البلاد وأهلها. وكنت أتمنى ممن جردوا أقلامهم لمواجهة «المحامي» و«المدعي» ألا يجاروا في تبادل الاتهامات، وألا يقطعوا الطريق أمام المحامي الموغل في الخطيئة، فإتاحة الفرصة لمثله، تكشف عن تسرعه. فلو تركنا له فرصة المراجعة بوصفه مواطناً له حق الملاطفة، ومخطئاً له حق النصيحة، ومتسرعاً له حق التهدئة، وجاهلاً لخبايا السياسة له حق التعليم، لكان خيراً لنا وله. فجهله بالأحداث السياسية، وانحصار همه في الكسب والدعاية أنسياه أشياء كثيرة، لو تأملها حق التأمل، لما أقدم على فعلته. وحين أقدم تحت أي دافع، كان عليه ان يتساءل عما جرى، وعن مشروعيته، لا أن يزكي موكله، ويدين قومه، وواجبه سرد التعديات على موكله، مقرونة بالوثائق، ثم ان المحامي الذكي لايقبل القضية الخاسرة، ولا يستمرئ ظلم ذوي القربى، وإفلاس الدعوى ألجأه إلى الخطاب الإنشائي الوعظي الذي لاينطوي على أي حقيقة ولا يتسم بلغة حقوقية. وإذ يكون من واجبنا نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، كان الأجدى رده عن ظلمه بالتوعية لا بالمواجهة، فالمجاراة مضيعة للحق، وبخاصة ان أمام صحافتنا وكتّابنا قضايا محلية وعربية وإسلامية وعالمية هم أحوج إلى الجهد والوقت والرزانة لمغالبتها. وفي سياق التدافع، أود الإشارة إلى أنه ليس شرطاً أن يكون المتنازعون معنا أعداء للقضية العربية بالتواطؤ والإصرار، وإن كانوا ضدها بالمآل، بحيث لا يواجهون، ولايدانون، ولايتهمون إلا بقدر موقفهم الخفي أو المعلن منها. وليس من الحصافة أن نحيل كل خصوماتنا مع الآخر إلى القضية الفلسطينية، ذلك أنها جزء من مهماتنا واهتماماتنا، وإن كانت في الصدارة، ولايعنينا أن يكون المتصدي لنا عبر الصحافة أو القنوات عميلاً للموساد، أو لا يكون، المهم أنه أجير جنَّد كل إمكانياته للإساءة إلينا، والتقليل من شأننا، والتشكيك في موقفنا من القضية، ولسنا بحاجة إلى شرعنة التصدي لخصومنا بالبحث عن مصادر تمويلهم، والأفضل من كل ذلك إبلاغ فعلنا بالوثائق والأرقام، وعدم ربط حضورنا بعوارض الأحداث، فنحن أمة تمر بنا الأحداث، ولا نمر بها، وتعرف بنا، ولا نعرف بها، ثم إن صيانة أعراضنا، وحفظ حقوقنا، والذود عن حياضنا، وتحقيق وجودنا الكريم بكل متطلباته الحضارية بالطريقة التي نراها حق لنا وعلينا. ولنا وحدنا تحديد أسلوب حمايتها، والأهم من كل ذلك أننا الأولى بالأمن والمعروف، بحيث لانجود إلا بما فضل عن حاجتنا، وبما هو وفق طاقتنا، وليس لأحد تحميلنا مايريد، ولا أن يسائلنا عن تراكمات الأخطاء العربية، ولا ان يحاسبنا عن تخلف الأمة وعجزها عن رد التعديات، ولا أن يربط مصيرنا بمصيره، فالأخطاء مشتركة، والضعف عام والعنتريات والمثاليات فوتت علينا كل الفرص. وليس مهماً ان يكون أعداؤنا وخصومنا مع القضية أو ضدها. فالذي يكيد لنا عدو مبين، سواء أساء للقضية أم لم يسئ، وبعدائه لنا على موقفنا منها، يكون مسيئاً لها، شاء أم أبى. وعند احتدام المشاعر لابد أن نفرق بين من يختلف معنا في الإجراء، وممن يناقضنا في المواقف والمبادئ، فالاختلاف حول الاجراء حق مشروع وفرصة للمراجعة، إذا تمَّ دون تخوين أو تجريم أو اتهام بالنوايا والمقاصد وجاء ممن يماثلنا بالدعم والمؤازرة. ومن حق الأباعد والأقارب أن يقولوا رأيهم، ومن حق الفلسطينيين بالذات أن يبدوا وجهة نظرهم، فنحن لانملك حق الوصاية عليهم، ودورنا يقتصر على الدعم والمناصحة، وعلينا مطالبتهم بالتدخل متى جاءت الأذية من فلسطيني يدعي مناصرة القضية والمثير للارتياب أن ماتواجهه المملكة ليس نقداً مشروعاً، ولا اختلافاً حول الإجراءات، إنه تدخل سافر في أخص خصوصياتنا، ووصاية فوقية، واتهام جائر، يطعن في مصداقيتنا. والمجندون لقلب الحقائق نسوا أنهم تحت أضواء الإعلام العالمي، وتحت قنوات الاتصال، ومراكز المعلومات. ونسوا أن نيلهم ممن رفض الاعتراف والتطبيع والتبادل بكل أشكاله إلا بعد التزام العدو بالقرارات الشرعية يُعد ضرباً للقيم العربية، سواء امتلأ حقداً وضغينة علينا، أو امتلأت جيوبه ثمناً لهذا الافتراء. ومصلحتنا تقتضي ألا نقف عند حد الدفاع والتكذيب وتبادل الاتهامات ما دمنا نملك الوثائق الدامغة. والذين يتهمون خصومهم بالعمالة «للموساد» أو لغيره يقفون عند حد الدفاع، والدفاع لايغني عن الحق شيئاً، ثم إنه لايعنينا أن يكون بعض خصومنا عميلاً لإسرائيل، أو لغيرها، إذ ليس غريباً ان يكون كذلك، متى علمنا أن شبكات التجسس والعمالة المتعددة المهمات ظاهرة لا مجال للاختلاف حولها، وكشف العملاء ليس قصراً على اعترافهم، أو ضبطهم متلبسين بالخيانة، إن الاستمرار في مواجهة الحق، والعمل على تخذيل الناصحين المخلصين، مؤشر قوي، ومشروع اتهام صريح. والذين يجندون أنفسهم لمواجهتنا في كل موقف، ويغضون الطرف عمن حولهم، يحملون الريبة، وتحوم حولهم الشكوك. وإشكاليتنا معهم ليست قصراً على الاختلاف في وجهات النظر، ولا في تعددية الرؤى والتصورات، الإشكالية في ضلوعهم في بيع الإمكانيات لتوفير النفقات الباذخة، فالحياة في بلاد الضباب، والسكن في القصور الفارهة، يتطلبان التزامات كثيرة، ومن ثم تكون الأفضلية لمن يدفع أكثر. والصحفي النزيه لايتجاوز دخله الكفاف. وحين لا يقبل المتولون يوم الزحف البقاء بين أهلهم وعشيرتهم فإنهم بحاجة إلى نزيف بلاغي لدعم متطلباتهم «الارستقراطية»، وليس مهماً عندنا أن يكون دافع الثمن «شارون» الصهيوني أو «سعيد» العربي المسلم، متى كان العائد لصالح أعداء القضية، ولكي نرد الكيد إلى النحور، ونميت الأعداء في غيظهم، لم ينالوا شيئاً، يكون الأولى بنا المضي في طريقنا القاصد، نطرح المبادرات، ونثني الأصدقاء عن دعم العدو، ونمد الصامدين بالغذاء والدواء، نرمم الجسور، ولاننسفها، ونتقي ولا نكابر، ونعرف قدر أنفسنا، وحجم إمكانياتنا، ونقول ما نفعل، نقاطع العدو، ونصيخ للناصحين، ونقبل الاختلاف في الطرائق لا في المقاصد، ولا نتردد في مطاردة الممولين للمسيئين لقضايا الأمة، نمسك الخيط من لسان العميل إلى أصابع المحرك، لنعري مسرح العرائس، ونفضح غباء اللاعبين الذين يكشفون أوراقهم بطرحهم إياها جملة عند كل إشارة من دافع الثمن. واللاعبون الأذكياء من يمتد معهم زمن اللعب، دون تعرية فاضحة أمام شرائح المتلقين الذين لا يعرف أكثرهم تمويه اللاعبين، وليس من الأفضل تصيد اللاعبين، إذ ان تجاوز طنين البعوض إلى المستنقعات أفضل من مطاردتها، فتجفيف المنابع يوفر أشياء كثيرة، والكتبة المرتزقة، والقنوات المجندة عوارض لمرض يختفي بفيروساته وجراثيمه، والطبيب الحاذق لا تلهيه الأعراض عن جذور المرض، وحين تحتدم مشاعرنا، وتشغلنا الأعراض، تكون الأصابع الخفية قد حققت أكثر من مكتسب، إذ تأكد لها تأثير فعلها بما حصل من استفزاز لنا، واستنزاف لطاقاتنا. وبهذه الغفلة تتمكن الحواضن من الاستمرار في تفريخ المرتزقة، بما يملكونه من طنين ولسع، وأذناب الأفاعي لاتغني عن أنيابها. وبفواتها يفوتنا شيء كثير، فلعلنا نستبد، ونلاحق المضلين إلى جحورهم، لكي نعريهم بكل تشوهاتهم. ثم إنه لا بد من كسب المناعة ورباطة الجأش، فالمشاهد العربية مقبلة على مزيد من القنوات الموجهة، لغسيل الأدمغة، وتضليل الرأي العام، يقدم المتحرفون للحرب الكلامية أمريكا وإسرائيل، والحرب الكلامية سيكون لها شأن خطير. والحديث عن ظاهرة «المناوئين» يمتد بنا إلى ظاهرة أخرى، تبدت من جديد، هي ظاهرة الدعاوى الحقوقية، ومحاولة الانتصار للجناة من مكاتب المحاماة. وقد سمعنا بأكثر من دعوى ضد صحف وصحفيين. وليس في الأمر من بأس، فطلب مكاتب المحاماة هنا أو هناك مقاضاة الصحافة وكتّابها تحقيق «لمحاكم الآداب» التي طولب بها من قبل، ولكن لابد من النظر في الحجج قبل العمل على اقتياد الخصوم إلى أقرب محكمة. واحسب أنه من حق الأمة كلها ان تنفر جميعاً لمحاكمة «المدعي» عما لقيته من اتهامات متواصلة. ولأن الأقربين أولى بالمعروف فإن على «المحامي» ان يقلب المعادلة، بحيث يقتاد «موكله» إلى المحاكمة، فإذا أنصفها، وكف الأذى عنها، كان من حقه أن يقاضي كاتباً أو أكثر فيما أشاعه عن «موكله». والمحاماة المتوفرة على القضايا والوثائق لا تعتمد في مرافعتها على الرقائق، والسعي لتصفية الخلافات بالدعوة إلى التنازلات، والمحامي المحترم للمهنة لايبادر إلى التزكية. ومرافعة المحامي داحضة لأنه ألح في تبرئة الموكل وتزكيته، وإدانة الخصم. وكنت أود من صحافتنا وكتَّابنا قراءة خطابي المحامي، ومساءلته عن وثائق البراءة للموكل، ووثائق الإدانة للخصم. ومثل هذا الإجراء سيسقط الوكيل والموكل. فالموكل وظف كل إمكانياته لتشويه سمعة المملكة: حكومة وشعباً، متصوراً أننا بقرة حلوب تحاسب على التقصير ولا تشكر على العطاء وعليها أن تقطع كل لسان بالدرهم والدولار والمحامي وظف كل إمكانياته لحماية الجاني وتبرئته، وكان عليه ابتداء مساءلة موكله عما قال بحق خصمه، وعما لديه من وثائق، وهل كان موقفه من الكافة واحداً، ومكياله واحداً، وحماسه واحداً؟ وساعتها ستنكشف اللعبة واللاعب، وتتهافت القلاع الورقية. |
أيها النخبويون إنكم لمسروقون..!
د. حسن بن فهد الهويمل كلما جمعت اللقاءات والمهرجانات المفكرين، والأدباء، والأكاديميين، في أبهاء الفنادق، أو في «ردهات» المؤسسات، بعد جد العمل، وضوابط المجاملات، وحدود المسؤوليات، اندلقت فيما بينهم أقتاب المشاكل، وشكا بعضهم إلى بعض ما يتعرضون له من نهب متعمد لجهودهم الفكرية، ونزف مسرف لمعارفهم، وما من أحد منهم إلا يشكو تعديات المؤسسات العلمية والإعلامية على حقوقه وأثمان جهده، فكل شيء عند غيرهم، ومن غيرهم بثمن ناجز، لا يتبعه منٌّ ولا أذى، أما أشياؤهم فهي مبذولة كما الأوقاف المعرّفة: ب«تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة». ولو أن أحدهم سأل أبخس الأثمان لجهده، لقيل عنه: وصولي مرتزق. وإذا كانت أقدام الرياضيين توزن بالذهب، فلا أقل من أن توزن أدمغة المفكرين بالفضة، وذلك أضعف الإيمان. ولما لم أكن متعرضاً لكل هذا النزيف المجاني، الذي تشكو منه الأغلبية، ولا ممن يقتات من قلمه، وتلك من النعم التي يمن الله بها على من يشاء من عباده، وليس عيباً أن يكون القوت من شباة القلم، ولكن من النعمة ألا يكون، فإن من واجبي والحالة تلك أن أعرض على المستنزفين لطاقات الكفاءات الفكرية ما يعانيه البعض منهم من مصادرات لوقتهم وجهدهم، وأخص منهم المقتاتين لا المتكسبين، إذ يُدْعَوْن للحضور أو للمحاضرات، وكأن الداعي منعم متفضل، يدل بدعوته، فيأتون رجالاً وركباناً بُجْر الحقائب، يسعون بجهودهم التي ترمدت عيونهم في سبيل التنقيب عنها في بطون الكتب، وحفيت أقلامهم في مطاردة شوارد الأفكار ونوادر المعارف التي عقلوها، وأنهكت أدمغتهم من أجل الظفر بأحدث ما توصلت إليه الإنسانية وما شُغلت به من قضايا وظواهر في مختلف المجالات، فإذا عرضوا أنفسهم بالقول، وعرَّضوها للمساءلة، عادوا خفافاً عيابهم، ونصيبهم في الأعمال الأكاديمية من إشراف ومناقشة وتحكيم دون ما يبذلون من جهد ووقت. يُستكتبون في الأفراح والأتراح وسائر المناسبات، والويل لهم إن لم يرتجلوا آراءهم عبر الهاتف أو يبعثوا بها عبر الناسوخ. وتُستطلع آراؤهم فيما يريدون وما لا يريدون، وفيما يفقهون، وما لا يفقهون. ويستدرجون إلى حوارات غير متكافئة، تتحول إلى مناكفات مخلة بالأخلاق، وقد يُصعدها الخليون إلى معارك مسفة، تلجئهم إلى طي الكشح، والنجاة بما بقي من سمعتهم. ودعك من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الذين تتخطفهم عضويات المجالس، وتنهكهم البحوث والرسائل: إشرافاً ومناقشة وتحكيماً، وترهقهم القاعات: تدريساً وامتحاناً. وتأتي الطامة الكبرى على هؤلاء وأولئك حين يقترفون خطيئة التأليف، حتى إذا لم يجدوا ناشراً، غامروا بطباعتها على حسابهم، ثم تكون عليهم «ندامة كسعية»، وقد تضطر أحدهم الظروف إلى طرق أبواب المشترين تشجيعاً، فلا يجد من يأسوه، أو يواسيه، أو يتوجع. وحين يبحث عن مسوِّق، يخلصه من ركامها المؤذي له، والمضايق لأهله، يطلب منه المسوِّق دفع مبلغ من المال لدعم عملية التسويق، إلى جانب الكتب المسوَّقة، وساعتها لا يجد بداً من أن يُتْبع نفقة الطبع دعماً للتسويق، وقد تعاد إليه الكتب بعد أمة، ولا يعاد معها دعم التسويق، بحجة إنفاقها للنقل أو للأرضية، ويعلَّق المبيعُ إلى التصفية التي لن تتم، فيكون كمن عاد «بخفي حنين». وتزيد المرارة حين يرى المخفين من المعلومات والأفكار، وقد طارت بأعمالهم خفتها، فحصدوا المال والشهرة. والصحف التي تستنزف جهد من أدركتهم «حرفة الأدب»، لا تنظر إلى أكثرهم ليلة القبض على الأرباح، واقتسام المغانم، وقد يكون المسكين ممن حضر القسمة، ومن حضرها من أولي القربى واليتامى والمساكين فواجب المقتسمين أن يرزقوهم منها، وإن لم يفعلوا فإن قسمتهم ضيزى، وليس الاقتسام إرثاً فرضه الله، لنقبل بنسخ الارزاق بحديث «لا وصية لوارث». و «حرفة الأدب» آتية من دسِّ الأديب نفسه بين كتب ضيَّق ثمنُها قوتَ معوليه، وضيقت كثرتها عليهم سكنهم، فيما انطلق غيره، كما الطير، تغدو خماصاً وتعود بطاناً. لقد كنا عند فورة الشباب، وطوفان المثاليات، والتهالك على الأضواء، وفي زمن صحافة الأفراد المتطوعين بجهدهم ومالهم ووقتهم، نتندر، ونسخر من طلاب العوض على ما يكتبون، وحين قيل عن أحد المفكرين بأنه طلب التعويض عن مقابلة أجريت معه، ثارت الأقلام المثالية، تنال منه، ومن تهالكه على المال، مستنكرة متاجرته بفكره، حتى لقد كنا نستعيذ بالله من هذا الطمع، الذي بلغه هذا الإنسان الجشع، وكأن ثمن الفكر محرم كما «حلوان الكاهن» أو «ثمن الكلب». وفاتتنا أشياء ما كنا قد مررنا بها، كانت رؤيتنا منحصرة في أن المفكر ك«الكلأ» و «الماء» و «النار» الناس فيها شركاء، وأن على المفكر ألا يمنع شيئاً من معلوماته، محيلين التمنع إلى كتمان العلم، وللجام من النار، حتى إذا وقعنا تحت طائلة المهمات الأكاديمية والملاحقات الصحفية، وأمطرتنا وسائل الإعلام بالأسئلة المتعاقبة، والاستكتاب المتواصل، لتسد خلتها، وتسوِّد صفحاتها من جهدنا المكرور بدون فائدة، وبدون ثمن، وبدون اقتصاد، تبين لنا وجه الصواب. وفي نقدنا الموجع لهذا المفكر المسكين فاتنا ما يترتب على الملاحقة من إضاعة مضاعفة، تطال الحسي والمعنوي، من مال وسمعة. وأنهر الصحف كما «نار المجوس»، لا تعف ساعة عن جهد المحتطبين، وكيف تعف الصحف والقنوات؟ وهي تنافس على عدد الصفحات، وتنوع المعلومات وطرائق الإثارة. وتبين لنا ألا علاقة بين «التمنع» و «الكتمان». ومما يضاعف عناء الأكاديمي تدفق آلاف الطلاب على الجامعات، وتسرُّبُ مئات الأساتذة خارج أروقتها. ولقد أشرت إلى هذا الاستنزاف من قبل، وناشدت تخفيف القضاء، ولم أتطلع إلى رده، ولما تكن الأوضاع إذ ذاك كما هي الآن على المستويين الجامعي والإعلامي. إذ في الراهن تعددت منافذ الإعلام، واستفحلت المنافسة، واستشاط النزف المجاني، أما عن التعليم الجامعي فإن علينا استنطاق الأرقام للمقارنة بين الأعضاء والطلاب. وحين أعيد القول، وأبديه، فإنما أريد كفالة حق الفكر المهدر، ليكون الحق دون مستوى قدم الرياضي، ولسان الممثل، وأنامل العازف، وبخاصة بعدما تحولت الصحافة إلى شركات تجارية، وتحولت وسائل الإعلام كافة إلى مصدر كسب مادي مشروع، وأفسح المجال للجامعات الأهلية. فالصحفيون المتعاونون والمحترفون والمبتدئون، يتأبطون أجهزة التسجيل، وأوراق الكتابة، وكمرات التصوير، ولاقطات الصوت، يطاردون من يعرفون ومن لا يعرفون، ومن ينطوي على فائدة، ومن هو خالي الوفاض. ومما فاقم الأمور، وضاعف الأعباء ظهور الناسوخ «الفاكس»، ففي كل يوم يفاجأ الأديب أو المفكر بصفحة أو أكثر من الأسئلة في الأدب، أو الدين، أو السياسة، أو سائر المناسبات الاجتماعية، تقتحم عليه خلوته، وتعكر صفوه، وقد يسبق الناسوخ مكالمة هاتفية، يسمع فيها الثناء والرجاء والاستعجال. وأذكر أن الكاتب المثير الأستاذ «داود الشريان» قال: إن الأدباء والكتاب مثلهم مع الإعلام مثل «الطقاقات» لا يذكرون إلا في المآتم، يدعون إلى إحيائها: ترحاً أو فرحاً، وتصور البعض أن ذكرهن مذمَّة، وفات الممتعضين أنهن بانتظار المناسبات، ليأتينها سعياً بثمن، فيما ينتظرها الأديب والمفكر فيأتيانها مجاملة. وفوق هذا فإن اقتراب النخب من وسائل الإعلام - مع ضرورته تعب يرهق الأعصاب، ويحول دون استكمال متطلبات التحصيل، ذلك أن المفكر والأديب والمبدع كالنحلة، لا بد أن يطوفوا ويمتصوا نسغ الكتب، وإن لم يفعلوا ضوت أفكارهم، كما تضوي الأجسام الجائعة. والمفكر المسكين الذي أكلنا لحمه وشحمه، ووصفناه بأقذع الأوصاف، مر بهذا المشوار الشاق الذي نقطعه جيئة وذهاباً، ونحن ما زلنا صغاراً إلى جانبه، وهو حين وضع هذا الكابح، لم يكن همه في الدرجة الأولى كم يستلم؟ ولكنه أراد أن يدفع عن نفسه وطأة الملاحقة، فلم تسعفه الحيلة بحل مناسب، فكانت وسيلته لصرف الصحفي مظنة الاتهام. ولو أنه كان سمحاً، لتحولت حياته كلها إلى تحبير متواصل، مجيباً أو مستجيباً لما يبلغه عبر الهاتف أو «الفاكس» أو التسجيل أو الرسائل. وويل له ولنا إذا وعدنا وأخلفنا، أو سوَّفنا، أو اعتذرنا، أو حتى عدلنا في الأسئلة، أو ألغينا شيئاً منها، أو كانت إجاباتنا قليلة لا تغطي المساحة المكلف بتغطيتها ذلك المحرر، والمتروكة له ليملأها، بما يملكه من شطارة وعلاقات طيبة، مع الذين يقولون، ويكررون القول، ثم لا يقولون شيئاً. ولما كان الأديب مطالباً بمتابعة ما يحدث في المشاهد، وتقصّي التليد والطريف في الفكر والأدب والسياسة والثقافة، فإن ملاحقتها تتطلب مزيداً من الجهد والوقت والمال، وهو في ظل هذه المهمات لا يقدر على تلبية كل الدعوات، ولا الإجابة على كل الاستفتاءات، ومن الضروري أن ينتج عملاً باقياً، يرفع من قيمته، ويحافظ على مستواه، وبعض هذه الحوارات المكررة والاستكتاب المتواصل مضيعة لوقت كل الأطراف: السائل والمجيب والقارئ. والحوارات والندوات والاستطلاعات تأتي وليدة حاجة خاصة بالصفحة لا بالصحيفة، وهي قد تعد بشكل رديء، لأنها في الغالب لا تمس اهتمامات القارئ، أو لا تقع ضمن تخصص المشارك ورغبته، ومع هذا فالنخبوي ملزم أدبياً أن يجيب، وأن يبعث بإجابته، وليس من حقه الاحتفاظ بأقل الحقوق. والبارعون من الصحفيين يتحرفون لمواجهة الأديب بأسئلة «بوليسية» أو قل «إبليسية»، بحيث يجرون أقداماً بعيدة ويوقظون فتناً نائمة، حتى إذا اشتبك الأطراف بالمحابر والأقلام، رقصوا على أشلاء سمعتهم، وفي التنابذ والتنابز ملء للفراغ، وتسويق للعمل، وذلك أقصى ما يحلم به البعض. وإذا صرفنا النظر عما يستحقه من مكافأة مادية، بوصف الجمع في انتظار أثمان الجهد الشريف والمضاربة النقية. وجب أن أشير إلى حقوق أخرى غير مستوفاة، كان بودي أن تراعى من قبل كل الأطراف. فالوجوه حين تتكرر تمل، كما أنه ليس من اللائق أن يُسأل المثقف عن كل شيء، حتى في الأمور التي لا يعرفها، فتارة يسأل عن قضايا المجتمع، وأخرى يحشر في قضايا: الدين والسياسة والفكر والاقتصاد، وثالثة يتداول مع غيره أموراً ليست في العير ولا في النفير، يمدح من لا يفعل، ويزكي من لا يعرف، ويحمد على المكروه، ويحشر مع غير جنسه، المهم أن يكون رقم هاتفه موجوداً عند المحررين والمراسلين وأصحاب الخبطات الصحفية، كما يقول قاموس الصحافة، وهو حين يتحدث راغباً أو راهباً، يختلف أداؤه، وتتباين تصوراته، لأنه يقول ما قالت «حذام». هذا المسكين المستهلك إلى حد الإنهاك له حق، ليس شرطاً أن يكون مادياً، إنه مشرد بلا خطيئة، وملاحق بلا ذنب، ومستَغَل بلا ثمن، ولا أقل من مراعاة حقه الأدبي على الأقل، ومن حقه الأدبي ألا يسأل إلا في مجال اختصاصه، وفي محيط اهتمامه، وألا يكثر طرحه حتى لا يمل. وأن ينشر رأيه كاملاً، وبدون ابتسار أو استفزاز. وأن يوضع في المكان المناسب لمستواه المعرفي والوظيفي ومكانته الاجتماعية، فقد يواجه المسكين بوضع إجابته في زاوية منطفئة، وبحرف دقيق لا يُقرأ، وبدون أي إشادة، وقد يحشر مع العامة والسوقة الذين سئلوا عن انطباعهم عن شيء ما، وقد يأتي في ذيل إجابات أخرى، أعطيت من الأهمية فوق ما تستحق، وإذا لام أو عاتب، قيل له: الأمور محكومة بظروف الطبع والإخراج، وليس للتقديم أو التأخير أي اعتبار، ومع الرد الجاف، والتصرف الجارح، يفاجأ بعد ساعة أو أكثر ب«الفاكس» ينقل إليه رغبة أخرى للمشاركة، أو مهاتفة من طرف لم يشهد عذاباته. ومما هو مثير ومسيء اتصال بعض المراسلين هاتفياً، ومحادثته في أمور شتى، وطرح قضايا متعددة، وجر قدمه للحديث عن قضايا أو أشخاص لا يريد أن تكون للنشر، فيفاجأ بأن هذا المحاور يسجل حديثه الأخوي، ثم يصدم بنشره مستهلاً ب«مانشتات» مثيرة، وإذا أنكر أو استنكر، قيل له: لدينا الوثائق الدامغة التي تدينك، لقد قلت ما نشر. نعم، قال هذا بصفته حديثاً أخوياً، ولم يقله كي ينشر على الملأ، وكل إنسان له حديث مجالس، لا يرى إشاعتها، ومن أدبيات المحاورة أن يشعره المحاور بمقاصده، وأنه سوف ينشر ما دار بينهما. وكل إنسان سوي له حديث مجالس، فيها الهزل، وفيها الجد، وفيها ما لا يريد إشاعته بين الناس، فما تقوله في مجالسك الخاصة، وعند زملائك وخاصتك، لا يمكن أن ترضى به حديثاً صحفياً ينشر على الملأ. والرسول صلى الله عليه وسلم قال عن قادم إليه: «بئس رجل العشيرة هو»، ثم لقيه وأكرمه، وعلل ذلك حين سئل باتقاء الشر. وكل صحفي يلتقط مثل هذه الأحاديث، ثم ينشرها، يقع في دائرة النمامين الذين يفسدون في ساعة ما يفسده الساحر في سنة، والأسوأ من هذا أن يذهب الصحفي إلى الطرف الآخر، ويعرض عليه ما سمعه، ليأخذ رداً قاسياً، وقد يكون الطرف الآخر مسناً له حق التقدير، أو مريضاً له حق الرأفة. ومثل هذه «القفشات» الصحفية، تسيء أكثر مما تحسن، والذين يجرُّون أقدام المفكرين والأدباء عن طريق الاحتيال تتساقط سمعتهم كما ورق الخريف، ويتواصى الناس بالبعد عنهم، والأنكى حين يكونون متمرسين، أما إذا كانوا حديثي السن والتجربة، فإنهم لا يقدِّرون المواقف قدرها، وقد يرون ذلك من البراعة الصحفية، ومن ثم لا يهمهم ما يترتب على ذلك من قطيعة أو شحناء، وقد لا يأبهون بما يترتب على هذا الفعل من إساءات، ومثل هؤلاء لا ينزلون الناس من منازلهم. ومما لا يختلف فيه اثنان أن طرق أبواب الأدباء والمفكرين، وإجراء الحوارات واللقاءات معهم تقدير لهم، واهتمام بآرائهم، وأنَّ صرف النظر عنهم، وعدم الاستعانة بهم في مثل هذه الأمور تهميش لهم. ولكن يجب أن يكون هناك ضوابط، ولابد أن يكون هناك أخلاقيات، تدرأ عن الجميع المساءلة الأدبية، وتحفظ للنخب شيئاً من حقوقهم. إن على المفكر والأديب ضريبة وطنية، يجب أن يقدمها راضية بها نفسه، سواء كان أستاذاً جامعياً أو مفكراً أو أديباً، ولا يمكن إشاعة الفائدة إلا عبر وسائل الإعلام، وإذا تمنع الأدباء والمفكرون والأكاديميون عن إشاعة الفائدة، جمدت الحياة، وصوح نبتها، ثم رعي الهشيم. النخبة مطالبة بخدمة المجتمع، وتوظيف خبراتها وامكانياتها لترشيد مساره، وتهذيب أخلاقه. هذه قضية مفروغ منها، ولكن من حق النخبة على هذا المجتمع أن تراعي حقوقهم المادية والأدبية، وألا يساء إليهم باستغلال يضيع معه الجه دوالوقت والسمعة، أو بتكرار يغثي القراء، أو بابتسار لا يسمن ولا يغني من جوع، أو بافتراء وتحريف يضع المسكين تحت طائلة المساءلة، وعلى النخب أن يفكروا، ويقدروا، قبل أن يُقْدموا أو يحجموا. تلك خواطر تراكمت مع الزمن، وسمعت بعضها من السنة المتأذين، وأصابني شيء من دخنها، وهي ظاهرة قائمة ما أقام عسيب، ولكن علينا أن نحدَّ من استشرائها، وعلى الكتبة المبتدئين أن يسترشدوا بمن سبقهم، فلا يبنوا مجدهم على سمعة الآخرين، ولا يفرغوا لاستغلالهم. وسوف أوفي الموضوع حقه، حين أكتب عن «حكايتي مع الصحافة» في سلسلة الحكايات التي تشكل جزءاً من السيرة الذاتية. |
ظواهر النقد الحديث وجذورها في التراث..! 1/3
د.حسن بن فهد الهويمل قبل عشر سنوات أو تزيد «نظم نادي جدة الثقافي» لقاء أدبياً لقراءة جديدة للتراث النقدي، وصلته بالمستجدات، أو إغنائه عنها، ولما لم يكن المشاركون متناغمين، فقد جئت نشزاً في بعض السياق والأنساق، وليس شرطاً ان أكون الأحق بالفضل منهم، ولكنني أروي ما حصل. وفوق ذلك فقد كنت ممن غامر في مقاربة مثيرة، بحيث التمست ملامح الموروث في الظواهر النقدية الحديثة، ومما يسوء الحداثيين والمستغربين استدعاء التراث أو ذكره بخير. ولما كانت «البنيوية» إذ ذاك «صاحبة الجلالة وسيدة العلم والفلسفة» كما يقول «زكريا ابراهيم»، فقد وقفت عندها «وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه»، ولم أتردد يومها في ممارسة المؤاخاة بين ظواهر النقد الحديث، وقضايا النقد العربي القديم، مثلما آخيت بين البنيوية ونظرية «النظم» عند الجرجاني. وكان ممن حضر اللقاء «عز الدين اسماعيل»، و«كمال أبوديب» و«جابر عصفور» و«مصلوح» و«فضل» و«مرتاض» و«برادة» وآخرون لا يقلون عن بعض من ذكرت حماساً في التهوين من شأن التراث واندفاعاً في الرفع من شأن الظواهر الحديثة، وفيما بين هؤلاء وأولئك دهماء، يقولون ما قالت «حذام» دون أن يفقهوا شيئاً من التراث، أو يعوا شيئاً من الجديد، وفي كل حقل من حقول الثقافة والأدب لا نعدم «المتأمركين» أو «المتمركسين» أو «المستغربين» ممن يشطُّون على أنفسهم وعلى قبيلهم، ويمسُّون ثوابتهم بسوء. والذين يقرؤون بعض المداخلات في ملف اللقاء الذي طبعه «نادي جدة الثقافي»، يلفت نظرهم حدة الاعتراض وصلف السخرية. ولأني أقول قولي وأمضي مستقبلاً مايجد من مناهج وآليات وأفكار غير عابئ بما يقال، ما لم يكن حقاً، فقد طويت كشحي متلقياً ركبان الطوارئ، وإن بخعتُ نفسي على آثار من لم يتأمل مآلات ما أقول. على أني لو أعدت قراءة ما كتبت بالأمس لاتخذت السبيل إلى إبراز قيمة التراث وأهمية استعادته لا العودة إليه، دون الحاجة إلى البحث عن العلائق والإرهاصات، ولربَعْتُ على نفسي، ولأوغلت برفق، فالحضارة الإسلامية محفوظة ما حفظ كتابها، والمناوئون لها أمواج على سفح جبل، وليس من شك ان احتدام الأجواء تحفز على الاعتداء بالمثل، ولكن الصدع بالحق والإعراض عن الجاهلين أجدى وأهدى. على أن تحرفي لن يجعلني معهم في ضرب السوائد والثوابت، وطبعي أن يكون في كل قول يقال اختلافُ كثير، وما تم إلا كتابُ الله المحفوظ «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً» والتراجع والمراجعة يأتيان في غياب العجب بالرأي، وعند الوعي السياقي للتحولات السريعة في المشاهد الفكرية. و«التحول والثبات» قضية عويصة محفوفة بالمخاطر، خاضها عدد كبير من المفكرين، ووقعوا في المحاذير، فمسالكها شائكة، تجر أقلام المفكرين إلى مزلاّت الأقدام ومُضلاّت الأفهام. ذلك ان حدود «الثابت والمتحول» ومشمولاتها ومفهوماتها تختلف من فئة لأخرى، فما هو ثابت عند «أدونيس» مثلاً يختلف عما هو ثابت عند «الجابري» أو «أركون» أو «فؤاد زكريا» ممن يلتقون معه في كثير من الأمور، وممن لايُحَدُّ تسامحهم، بحيث يصل في بعض الأحيان إلى مشارف تعدد طرق الخلاص، كما يراها «روجيه جارودي»، وهؤلاء مجتمعون يختلفون عما هو ثابت أو متحول عند من يحملون هم الفكر الإسلامي المستنير. وعوار «أدونيس» في كتابه المريب «الثابت والمتحول» بأجزائه الثلاثة ليس في الاختلاف المعتبر، فهو لا يرى الثبات فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وليس لديه ضابط للثابت أو المتحول، ورؤيته عقلية مادية غربية، وإن شدت بأمراس كتان إلى باطنيته، التي جذرها بقوله: «قال لي تاريخي الغارس في (الرفض) جذوره... كلما غبت عن العالم أدركت حضوره» ومن ثم فإن فكره رهين ظلمتين: ظلمة الاستغراب، وظلمة الباطنية. وكل مشروع ثقافي له موقفه من «الثبات والتحول»، واختلافي مع هذه الفئات قد يكون في بعضه اختلافاً في المفهوم، أو في المقاصد، أو في الإجراء، وبين الاختلافات أمور كثيرة. واختلاف المفاهيم عرَّض كثيراً من المفكرين إلى تهم موجعة، ليسوا من أهلها. ولو استعرضنا تاريخ «الماسونية» و«العلمانية» و«الوجودية» و«الحداثة» لوجدناه يفيض بالضحايا، الذين وقعوا في متاهات المفاهيم وتباينها من مفكر لآخر، والمصطرخون في أتونها لايتداعون لكلمة سواء، وإنما يتراجمون بالاتهامات المصفية للسمعة. ولقد كانت لي إلمامات متفاوتة حول تراتبية التحولات، وحين استعيد هذا الموضوع فإنما لأتناول من خلاله قضية واحدة، ربما كانت جزئية في سياق البحث الذي فرغت منه، وتركته خلف ظهري، بسبب تكاثر المستجدات وتدفق المعلومات عبر كل الوسائط. ولربما كانت ندوة «قراءة النص» التي نفذت «بنادي جدة الثقافي»، ولم تطلب مني المشاركة، ولم أدع للحضور سبباً في تذكر ما مضى، ولست عاتباً، ولا مؤاخذاً على ذلك، ولا قائلاً: - «وإذا يحاس الحيس يدعى جندب» لكون الأمر طبعياً. فالمدعوون سدوا الخلال، وهم حقيقون بالدعوة، كما أنني لست مهمشاً ولا خلياً فأستشرف، ومع ذلك فلو دعيت لاستجبت حباً في الاستزادة ورغبة في لقاء الأحبة. ولما كان عنوان المنتدى عائماً، لايلوي على هدف واضح، فقد شكل ثنية أخلاها الرماة. ف«قراءة النص» لفظ عائم، لا ضابط له، وليست له غاية محددة، والعناوين سواء كانت على أغلفة الكتب، أو على صدور المقالات، أو كانت مسميات للمؤتمرات أو الندوات بمثابة سؤال محدد، وحين تعوَّم الأسئلة، يعوَّم معها الأداء، بحيث لا يملك خصوصية، ولا يحقق هدفاً، إلا إذا كان المعنى دُوْلةٌ بين المنتدين، أو كان في بطن المستفيدين من هذه التظاهرة الحميدة في بعض أحوالها. ف «القراءة» ذات مستويات وطرائق وآليات ومناهج ومقاصد، ولست أعرف أي المستويات القرائية قصدها المنتدون. ويقال عن «النص» مثل ذلك، فأي نص تتجه إليه القراءة؟ والمعروف أن من شرط العنوان أن يكون جامعاً مانعاً، شأنه شأن المصطلح، ومثل هذا الإطلاق، لا يجمع ولا يمنع، ولعل المنتدين يريدون مجرد اللقاء، فحاولوا التجديد في العناوين. و«النص» مصطلح مراوغ، ومغرٍ، في كل أحواله الإفرادية أو الإضافية أو الوصفية أو التركيبية، وله مستوياته بين الغياب والانغلاق والانفتاح، والمتهافتون عليه قد يجهلون الكثير من خلفياته ومقاصده، ولربما أعود إليه لأجلّي تصوره عند كل مذهب، منذ الرؤية الإغريقية واللاتينية حتى العربية قديماً والغربية حديثاً وعن تصوره في كل فلسفة أو نظرية معرفية. وعلى أية حال فقد خلَّفت لنا تلك الندوة ملفاً تنوء بحمله العصبة أولو القوة، وإن شكل أشتاتاً لم يؤلف المؤتمر ولا ملفه بين هموم المؤتمرين ومعارفهم وما يعتلج في صدورهم، ومايزال بانتظار قراءة على القراءة، أو مايسمى ب «نقد النقد» لاستجلاء نوع القراءة ومنطويات المقروء، وأهداف القراءة، ومستويات البحوث، التي أجزم أن بعضها لم يستحضر متطلبات الندوة، ومن ثم اكتفى البعض من المشاركين بتلخيص همومه ومواقفه من الأشياء أو قام باختصار بحوث أو كتب سلفت. والوقوف على النتائج التي توصل إليها القارئون وإنصافهم يحتاج إلى تجاوز القراءة الاستعراضية التي تعاملت من خلالها مع الملف، ولم أجد الجهد والوقت لمبارحتها إلى قراءات معمقة تبحث عما خفي، وعما سُكت عنه، والبحوث وإن ند بعضها عن القضية المرتبطة بالنص وبالقراءة، فهي قد تناولت قضايا وظواهر نقدية، ليست بأقل أهمية مما تُرك. ولما كان من ألصق الأشياء ب «القراءة» وب «النص» ظاهرة تراثية جَلَتْ عن طلولها سيول التذكر بعد اشتغال النقد الحديث ب «لغة النص» الذي حركته تعالقات اللغوي بالنقدي، ودخول مصطلحات نقدية ولغوية متميزة ومهيمنة، ك«البنيوية» و«التحويلية» و«التفكيكية» وسائر المصطلحات المترادفة أو المتباينة ك«النصوصية» و«الألسنية» و«الأسلوبية» و«التقويضية» و«التشريحية» مما يدور في فلك الأسلوبية واللسانية من مترادفات فرضتها فوضوية الترجمة، فقد كان لزاماً استدعاؤها. ومصطلح «النص» كرس وجوده بعد انحسار سائر الرؤى النقدية وانحصارها في اللغة الموضوعية واللغة الشارحة. ولأن المتعالقين مع الظواهر والقضايا النقدية الغربية لايستبدون، ولأن النقاد العرب المعاصرين يجيلون نظرهم في المفاهيم الغربية لمصطلحات تضمنها التراث وأوسعها درساً، فقد نسوا «مفهوم النص» في تراثهم، قانعين بما أفاء الغرب به من مفاهيم معقدة ومتعددة، تظهر من خلالها عمليات تبادلية في مراكز الاهتمام بين النص والذات المنتجة، وبين اللغة والدلالة، ذلك ان للنص في التراث شأناً لا يقل عن شأنه في الغرب، ولقد اكتنفه الأدباء والنقاد وعلماء الكلام والبلاغة والمناهج والآليات والمصطلحات. ولعل ألصق المصطلحات التراثية بنظرية النص وأهمها مصطلح «النظم» كما يراه عبدالقاهر الجرجاني، لما ينطوي عليه من قيم فنية ودلالية ولغوية، وهو معطى «أيديولوجي» بالدرجة الأولى، والدخول به في معمعة المستجدات يحفظ للنقد العربي خصوصيته المستباحة وحضوره غير المستأمر. وليس هذا المصطلح بأقل استيعاباً من «البنيوية» كما يراها «سوسير» الذي ألصقت به الكلمة، وهو لم يقلها بالنص. و«الجرجاني» إمام من أئمة النقد الأسلوبي، وإن تحفظ المبهورون بالمستجد على مثل هذا الإطلاق، ومواهبه تتجلى في مجال ما أحدثه من جديد في عالم اللغويات. وقد رَبَطْتُ من قبل تبعاً لعدد من النقاد نظرية «سوسير» بنظرية «النظم» عند الجرجاني، وكنت بصدد الربط بين «التفكيكية» عند «جاك دريدا» والقراءة «التذوقية» عند «ابن عربي» و«النفَّري» وسائر المتصوفة، ذلك أن «المفككين» يقَوضون النص بحثا عن المسكوت عنه، والمتصوفة يفترضون في النص ظاهراً وباطناً، ليس على شاكلة «معنى المعنى»، إلا أنني الآن أتردد كثيراً في ذلك الربط المطلق، معتبراً نظرية «عبدالقاهر» نظرية مستقلة، ومثلها «التذوقية» إذ ليست لهما علاقة قوية بما جد من نظريات لاختلاف المرجعيات والمحفزات. ومع تحفظي فإنني أومئ إلى عدد من كبار النقاد الذين عرضوا لهذا التعالق، وعدوا «نظرية النظم» نظرية رائدة لكل ما جد من النظريات في «علم الأسلوب» فهذا «محمد مندور/ت1964م» وهو رائد من رواد النقد الحديث، له وزنه وأثره في آن، يقول: «إن منهج عبدالقاهر هو المنهج المعتبر اليوم في العالم الغربي» مع أن مندور شدته الاتجاهات النقدية الواقعية، وحملته على تبنيها وعاش التجربة النقدية الغربية بوعي تام. وكذلك يذهب بعض الدارسين إلى أن اللمسات البلاغية عند «ريتشاردز» وبخاصة في قضية «معنى المعنى» تلتقي مع إنجاز الجرجاني. يقول الدكتور «فتحي عامر»: «يحق لنا أن نقرر في زهو وخيلاء استمرارية هذه النظرية التي تنسب إلى عالم جرجان في فلسفتها وشرحها والتدليل عليها وتعليلها وتطبيقها»، «وريتشاردز» يلتقي مع «عبدالقاهر» في كتابه «فلسفة البلاغة» وليس شرطاً ان يكون نقل منه بالنص، ولا أن يكون قد قرأ له، فالحوافر يقع بعضها على بعض، و«المثاقفة» وفق رؤية «المقارن الأمريكي» أسقطت الشرط الأوروبي، كما ان مصطلح «التناص» ترك لعوامل التأثر فسحاً واسعة. وحين نعتز بمبادرات التراث، فليس معنى هذا إلغاء الآتي أو الاستغناء عنه، وليس رغبة في التقليل من شأن المستجدات، والذين يقولون عنا مثل هذا يفترون الكذب، والذي يُدِلُّون بفهم النظريات، متصورين أن إدراك معناها القاموسي كافٍ للأخذ بها أو الحديث عنها كلابسي ثياب الزور، فالمسألة أعمق وأشمل، ومن لم يُحِطْ بالمرجعية والتاريخية والإجرائية والتحوُّلية فليس له حق الاجتهاد ولا الإفتاء، ونحن بما نقول نلح على الإثبات المتواضع لأهلية التراث، وحقه في العودة والتفاعل في زمن العقوق والتنكر، وهذا بعض ما أذهب إليه حين أدافع عن حوزة التراث، ولما كنت من قبل أَعُدُّ نظرية «النظم» مصدراً من مصادر «البنيوية» فقد ترددت فيما بعد في تعميق هذه الرؤية، مع الاعتزاز بما وصل إليه علماؤنا في زمن لم يكن هناك شرق ولا غرب. لقد قُدِّرَ لي بعد ذلك بزمن التفرغ لدراسة النظرية عند «عبدالقاهر» دراسة منفصلة عن البحث في التعالق بعد أن ساورتني الرغبة في الوقوف على حقيقة تأثير «الجرجاني» في النظريات الغربية الحديثة، ومصطلح «التناص» الذي تهافت عليه الدارسون كعادتهم مع كل طارئ، يؤكد أنه لايوجد «نص» بريء، ولا حضارة بريئة، وكل شيء عبارة عن توارث وإضافة، فالحضارة الغربية ليست انبثاقية، ولا أحسبها منهية للتاريخ ولا للإنسان، كما يراها المدَّعون بدون برهان، والقول بالتأثير والتأثر قول مشروع وممكن، ونفات تأثير الحضارة الإسلامية فيما لحق من حضارات مؤشر انهزام ودونية واحتقار للذات، وقد اعترف المنصفون من مفكري الغرب بذلك، وسجلوا رؤيتهم المنصفة في كتب يتداولها الناس، فيما نالت طوائف من أبناء الحضارة الإسلامية من حضارتهم، إرضاء للرجل الأبيض الذي لم يفض عليهم إلا بالحشف وسوء الكيل. |
على هامش الحادي عشر من سبتمبر
أمريكا الأمس.. وأمريكا اليوم.. والدفع بالتي هي أحسن..! د. حسن بن فهد الهويمل مثلما ان العالم العربي دخل مرحلة جديدة بعد نكسة 67م، ولم تتغير شفرته، ولا أسلوب الدخول على مواقعه، فإن أمريكا دخلت مرحلة أجدّ، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتغيرت كل الطرق إليها. بل أكاد أجزم ان العالم بأسره ينقاد راغباً أو راهباً الى حياة خائفة مخيفة، حياة طلسمية، يحتاج معها الى تعامل مغاير، وستكون لهذه الحياة حساباتها العسيرة، وتصوراتها الأعسر، وطبعي توقع ما حصل، فكل دولة تشرعن لنفسها حق التدخل في شؤون الغير، تكون معرضة لمثل ما تعرضت له امريكا، وهذه الأحداث جعلتها في شغل غير فاكه، لرسم المسار وأخذ الحذار، وما من مشهد سياسي إلا هو في تحرف جاد، لتجاوز الظروف العصيبة، وتجهيز خطاب جديد، قد لا يكون الأفضل، ولكنه الحاصل الذي لا مناص منه، ولا ينكر حتمية التغيير الجذري إلا من ليست لديه القدرة على متابعة الاحداث الموجعة والذين يظنون امريكا كما هي بالأمس، يصدمهم تصرفها التحفظي الاحترازي التعسفي، ومن ثم فلن يتمكنوا من معايشتها بأساليبهم القديمة، ولن يكونوا على معرفة تامة بمتطلبات حاضرها المضطرب، وواجب المرتبطين معها بصداقات أو أحلاف أو مصالح قديمة أو حديثة ان يعيدوا النظر في صياغة خطابهم، ورسم أسلوب تعاملهم، وعلى الطلبة والمهاجرين والمستثمرين في امريكا تقبل شكلها وارتيابها واحتمال مضايقتها ومجازفتها، فلم تعد امريكا اليوم تثق بذاتها، فضلاً عن ان تثق بأصدقائها، فأمريكا اليوم غيرها بالأمس، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر قلبت الموازين، وغيرت المفاهيم، وأعادت ترتيب الأصدقاء والأعداء، وتحديد مواصفات كل منها، والخطورة في الأمر ان تصرفها جاء اعتباطياً ومرتجلاً وفورياً، كما لو كانت دولة نامية، لقد نبذت وراء ظهرها مسلمات ومواضعات، وتحولت الى دولة أفراد، وإدارة «بيروقراطية» معقدة، بعد أن كانت دولة مؤسسات، مشرعة الأبواب، مرنة الإجراءات، انسيابية الحركة، مغرية وجذابة، يألفها القريب، ويحن إليها البعيد. وإذا كان العالم العربي لم يستفد من نكسة 67م لوجود معوقات ذاتية وغيرية فإن أمريكا لم تستفد من أحداث سبتمبر على الرغم من غياب المعوقات. بل أكاد أجزم انها باهتياجها وتخبطها أضافت نتائج عكسية، وخدمت خصومها الذين لم تعرفهم بعد، وهم أقرب اليها من حبل الوريد، لقد حققت لهم بهذا التخبط أكثر مما يتطلعون اليه، كان تطلعهم لعزلها، وضرب اقتصادها، والتشكيك بمصداقيتها، إعادة رسم خريطتها التوسعية، وقمع هيمنتها، والحد من غطرستها، والتطلع الى تفكيكها كما «الدب الروسي»، وها هم الأصدقاء يتسللون من عباءتها، وها هي الأموال تتسرب من بنوكها، وها هي «اللاءات» والتساؤلات يطلقها أقرب الناس اليها، عبر الشكوى والتذمر من اعتراضها ورفضها وانسحابها من كثير من الأحلاف والاتفاقات، من مثل «اتفاق كيوتو» و«اتفاق ريو» و«حظر الصواريخ» و«حظر الألغام» و«المحكمة الجنائية» و«اختلاف المواقف والمكاييل» وها هي تقول ما لا تفعل، وتفعل ما لا تقول، تنال من الإسلام ثم تمجده، تصهل ثم تموء، وتُقدم ثم تحجم، وتمدح وتهجو في آن، وتعد وتتوعد، وها هي ظاهرة الصقور والحمائم، ولا شك ان الكارثة المذهلة التي تعرضت لها فوق التصور والاحتمال، وهي بهذه الفداحة تتطلب بصراً وبصيرة، وحكمة وأناة، وطول نفس، وتحرّياً وتخطيطاً، وتهدئة للشارع العام، ذلك انها لم تفاجأ بحرب معلنة، ولم تواجه جيوشاً جرارة زاحفة على أراضيها، بحيث تهب لايقاف الزحف، إنها تواجه عملا خفيا يدب في اوصالها، كما حمى «المتنبي»، وعليها ألا تخادع نفسها، فعمليات التفجير التي تعرضت لها، لا يقوم بها فرد، ولا يخطط لها مقاتلون يمتطون الجياد، ويسكنون الكهوف والمغارات، ويرتدون أسمال الثياب، إنه عمل محكم، وضربة معلم، لا يجوّد صنعه إلا المهرة المتمكنون من الآلة والمعرفة، إلا اذا كان حلقة في سلسلة اللعب، كما يشأ الراجمون بالغيب، والناس في قراءاتهم المتنافرة لهذا الحدث «أسطروا» الفعل والفاعلين والأبراج، فمن يا ترى جعل الأبراج جذاذاً، أهو كبير القوم أم مشرد يقال له «ابن لادن»؟ لقد فوت المتنبؤون على المتابعين فرصة التقصي ولملمة أطراف الحدث، والإمساك بالخيط من أوله، وإذ غمّ الأمر ونكس القوم على رؤسهم فليس من مصلحة امريكا ان تبادر في تسمية المتهمين، وخلق الأبطال من لا شيء ، وليس من مصلحتها مباشرة الرد، وليس من مصلحتها ان تضيّق فسحة الاحتمالات، بحيث يكون الأمر عندها محصوراً في اللونين: «الأبيض» و«الأسود» والناس عندها إما: أعداء أو أصدقاء، ليس إلا. ودولة القطب الواحد يجب ان تمارس مهمات «كبير الأسرة»، بحيث لا تسبق يدها الى المغانم، دون المغارم، والزعامة لها مواصفاتها ومتطلباتها، «وكبير القوم» لا يحمل الحقد ولا الضغينة ولا الأثرة، والظلم مرتعه وخيم. لقد رجتها الأحداث رجا، وبست آراءهاً بسّاً وارتكبت حماقات بحجم التفجيرات التي تعرضت لها، وفوتت على نفسها سياسة الاحتواء بالحروب الوقائية والاستباقية وغسل العار ومواجهة محور الشر، وكان بإمكانها ان تمتص الانفعال، وان ترتد الى الداخل ، لتسأل نفسها: لماذا غزيت في عقر دارها، وهي حامية الحمى؟ ولماذا يكرهها الناس بهذا القدر، ويكيدون لها بهذا الحجم، ولماذا ينتحر المستاؤون منها بطوعهم واختيارهم في سبيل تعريض مصالحها للدمار وسمعتها للعار؟ وعليها قبل هذا وبعده ان تسأل نفسها عمن اسهمت في صناعتهم، وعلمتهم الكر والفر والرماية، وقضت منهم وبهم أوطاراً متعددة، أليس هذا كله بمباركتها ودعمها؟ لقد تنكرت، وأنكرت، وأحالت الخطيئة على المتأذين من الإرهاب، وعلى المطالبين بتخليها عن الارهابيين يوم كانت تأوي الى جبل يعصمها من الماء، وحين ادركها الغرق آمنت بخطرهم، ولو أنها قرأت الرسائل في زمن الرخاء، وفكت الشفرات واستبانت الرشد قبل ضحى الغد، لتوقت الضربة القاضية والعار الأبدي، ان الذين حاربوا الاتحاد السوفييتي من الأفغان او من العرب هم من الضالعين معها، واللاعبين البارعين في تنفيذ لعبها، او المتفقين معها في الأهداف والمصالح، المختلفين في المقاصد والنوايا، وكم من مجاهد قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، حقق لها من المصالح ما لم يحقق أيسره لمهمته، والسؤال التوبيخي الاستنكاري: لماذا جهلت هؤلاء وأولئك؟ ولماذا انكرتهم، وتنكرت للتعبئة الروحية والمادية التي زادت عن حاجتها، فارتدت عليها؟ ولماذا غيّرت أسماءهم؟ لقد كانوا بالأمس مجاهدين شرفاء، وهم اليوم ارهابيون سفاحون، ولماذا أحالت المواجهة الى مناهج الدراسة في الدول الإسلامية وحصرته في الجنس العربي؟ وهي تعلم علم اليقين ان «يديها او كتافوها نفخ» ولماذا فوتت على نفسها فرصة التفكيك السلمي للبنية الجهادية التي احكمت تركيبها، ولم تحسن تقويضها؟ تاركة المقاتلين في العراء، يأكل القوي منهم الضعيف، حتى إذا لم يجدوا ما يأكلونه امتدت أيديهم اليها، كما النار تأكل بعضها ان لم تجد ما تأكله، لقد كان بإمكانها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي سد الفراغ بالدعم والمشورة، وزرع الثقة، وتحويل الأفغان من مجتمع حرب وعصابات وقبلية الى مجتمع سلمي منتج، وتجفيف مستنقعات الفتن، وردم بؤر التوتر. سؤال مشروع وحضاري وممكن، إذا أردنا قطع دابر الفتنة وإعادة الأمور الى طبيعتها. إن حدثاً كهذا يتطلب استنفار علماء السياسة والنفس والاجتماع والدين والقانون لدراسة الواقع الذي خلفته «اللعب الكونية»، ووضع الحلول. غير انها استبدت بالأمر والنهي والإقدام والإحجام، وهمشت الشركاء، وتنكرت للأصدقاء، ومن ثم فوتت على نفسها مكاسب كثيرة، خسرت معه تعاطف العالم، ونسيت أو تناست ان سياسة «اللعب الكونية» لا يمكن أن تقف حيث يريد الصانع، لقد كانت وراء حركات ثورية، ومع تنظيمات اسلامية، وفي أتون حروب دامية: حدودية وطائفية وعرقية، تؤيد وتدعم، ولا تحسم، فكل حرب تُرمُّها على فساد. صنعت أشياء كثيرة، وغيّرت خرائط متعددة، وأعادت تركيبات سكانية، ضربت الطوائف ببعضها، وأشعلت حروباً مجانية، وأمدت مقاومات متعددة، واعطت الضوء الأخضر لأصدقائها وحلفائها للدعم والتشكيل الذهني، تعضد وتخذل، وحين تحقق ما تريد، تحمل الغنائم، وتدع المغارم، تاركة مخلفات اللعب وشراسة اللاعبين وراء ظهرها، ظناً منها أن جميع اللاعبين واعين للأهداف، أو أنهم غير قادرين على اللحاق بها. لقد قاتل المقاتلون لوجه الحق، ولم يعرفوا من وراء ذلك، ولكن خروجها من اللعب بهذه الطريقة المكشوفة، ملأ القلوب حقداً وضغينة. وأمريكا قبل أن تصحو من ذهول الصدمة، اشتغلت بالنتائج، ونظرت الى حجم الأضرار الحسية والمعنوية، ولم تنظر الى الأسباب. وحاولت أن تخلط الأوراق، لتشغل الناس بفعلها عن فعل خصومها، لقد فضلت غسل العار أولاً، ثم حرب الاستباق والوقائية ثانياً، ثم تشكيل محاور الشر ثالثاً، ولن تزيدها هذه الخطوات إلا ارتكاساً في حمأة الفتن، ولسنا بما نالها أو بما تفعل شامتين، ولكننا محذرون ناصحون، فنحن أصدقاء وحُلفاء، ومن مصلحتنا ألا نؤتى من قبلها، كما نود لهذا العالم أن يستقبل «ألفيته الثالثة» بالوفاق والسلام، فأوضاع العالم لا تتطلب المزيد من الفتن والحروب، وأمريكا بتصديها للإرهاب، وبتخطيها لمؤسسات هيئة الأمم المتحدة، تخلق إرهابا من نوع آخر، وتشرعن لردود فعل ادهى وأمرّ، ونصرها الحسي والمعنوي قد يتحقق لو ان الحرب نظامية، والأطراف يمارسون الدفاع عن أنفسهم بذات السلاح، وبذات التخطيط، وبذات المواجهة، أما وقد كانت المواجهة بين قوة مرعبة وأشباح مخيفين مختفين، فإن الدك سيكون للجبال الشاهقة، وبطون الأودية السحيقة، ومنابت الشجر، وكلما هدأت الراجمات والقاذفات نسل الأشباح يمسحون عن عيونهم غبار الأتربة المتصاعدة من المفازات المخيفة، يطلبون الموت كما تطلب أمريكا الحياة، وسيجدون من يبارك خطواتهم، ويسهل تنقلاتهم، فكل متضرر يقول: «عليّ وعلى أعدائي». ومع أن الحدث الموجع الذي تعرضت له أمريكا ليست خسارته مادية وحسب، وإنما هو صدمة نفسية وخسارة معنوية، هزت المصداقية والثقة والقدرة معاً فإن المبادرة في المواجهة ليست من مكيدة الحرب الحاذقة، ودولة بحجم أمريكا وبإمكانياتها تتعرض لأسوء كارثة إرهابية، تطال مرفقين هامين كأهمية حدقة العين: المرفق العسكري. والمرفق الاقتصادي. ليس مستبعداً أن يجن جنونها، إنها كما يقول أحد الساسة الغربيين: أسد جريح من الخير ألا تواجهه. والأشد نكاية، والأمر مذاقاً، أن الاطراف المتهمين والمطلوبين ما يزالون خارج السيطرة الأمريكية، إنهم أشباح يتراءون لها في الكهوف والمغارات. وكأنها معهم أعداء «ابن عم محمد» الذي يقول عنه الشاعر: وعلى عدوك يا بن عم محمد رصدان ضوءُ الصبح والإظلامُ فإذا تنبه رعته وإذا غفا سلّت عليه سيوفك الأحلامُ فهي خائفة منهم في اليقظة وفي النوم، لأنهم يأتونها من حيث لا تحتسب، وعمليتا التفجير والاغتيال للرئيس الأفغاني قبل أيام رسائل مخيفة. وجر قدمها الى افغانستان ليس ببعيد عن جر قدم الاتحاد السوفييتي الذي تداعى تحت ضربات التأمر والجهاد، وإذا كان «الروس» قد وقعوا في المصيدة نتيجة مغامرة غير مسبوقة في الزمن المعاش، فإن أمريكا تسلك ذات الطريق متعثرة بأشلاء من سبقها، وكان الأجدر بها أن تتمتع بالنتائج المذهلة التي حققها المجاهدون، لا أن تنزلق كالاتحاد السوفييتي، الذي يتربص بها الدوائر، وقد يصنع جهاداً إسلامياً ومقاومة وطنية تعيد الى أمريكا الصاع صاعين. والقول بأنها وجدت المبرر لتحقيق تطلعات كانت تحلم بها، وهو الوجود العسكري في أفغانستان، ثم في العراق للخنق والعزل والسيطرة والاستغلال قول مجازف، ولا أحسب الفرضيات تحملها على مواجهة العالم بأسره، فالأفغان الذين دحورا الاتحاد السوفييتي سيجدون من يدعمهم لدحر أمريكا، والوجود العسكري الأمريكي في أي موقع لن يريح الأطراف الأخرى: عربياً وإسلامياً وعالمياً، وليس من مصلحة أمريكا التي تدعي حماية العدالة والمساواة والحرية والديموقراطية أن تركن الى الحكومات متجاهلة الشعوب والعقائد والأعراف، ولا أن تفرض وجودها بالسلاح الفتاك، فالقوة أشبه بعصا المربي من الافضل ان يكون معلقا على الجدار، بحيث يراه الآخرون ، ولا يكون كعصا الراعي الذي يهش به على غنمه، لأن ذلك يشعر الآخرين بأنهم قطيع مسلوب الإرادة، وكم هو الفرق بين «عصا المربي» و«عصا الراعي»، لقد أرادت امريكا بمباشرة التأديب ان تكون راعية قطعان، وهو ما لا يمكن قبوله، ولا احتماله، ولا تحقيقه، وسيكون الثمن باهظاً عليها، وعلى حلفائها، ومحرجاً لأصدقائها، ومخلاً بأمنها واستقرارها واقتصادها. فالحرب لا تستقيم معها الحياة السوية، وقديماً قيل: «وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم». لقد واجهت الأمة العربية أحداث حزيران بألم ومرارة، وعاشت عقابيلها بحالة نفسية متردية، وكانت امريكا مهندسة الحرب، وصانعة النصر، وجانية الغنائم، لقد ارتمى العالم العربي في احضانها، وعاد اليها بحالة استسلامية، أدت الى الاعتراف والتطبيع. وكان عليها وعلى الغرب كافة ان يحسنوا التصرف، وان يبعثوا الثقة، وان يتيحوا للمغلوب فرصة لصناعة إنسانه، وإحياء مواته، واستغلال طاقاته، لإنعاش البلاد، وتوفير فرص العمل والعيش الكريم، ومن ثم توفير الخامات وتهيئة الأسواق لصناعات الغرب وشركاته متعددة الجنسيات، فحالة الفقر والاضطراب تشكل عبئاً على المتسلط، وامريكا التي تمر بضربة موجعة، تصرفت مع احداثها وكأنها دولة نامية، فلم تقدّر ولم تفكر، وإنما نظرت الى من حولها، ثم عبست، وبسرت، ثم اقبلت لتأخذ المقيم بالظاعن، والبرئ بالمتهم، ولا أشك أنها ستخسر الجولة، فالعالم لا يرضى الظلم، ولا يقبل الأثرة: ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عيرُ الحيّ والوتدُ والضعيف المعدم قد لا يجد قدرة على المواجهة، ولكنه سيعمل على تفويت الفرص، وإضاعة المكتسبات. لقد أمعن الغرب في التدخلات غير المشروعة في خصوصيات دول العالم الثالث، أخذ منها ولم يعطها، وحولها الى مسرح لعب سياسية، تجرعت مرارتها، وها هو شرقنا المشتعل يخرج من مكيدة الى أخرى، ومن حرب الى حرب، ومن مؤامرة الى مؤامرة، و«لو ترك القطا لنام» وها هي دول الغرب التي لم يتدخل احد بشؤونها تنام ملء جفونها، إن اضطرابات العالم الثالث صنعتها الأصابع الخفية التي تبحث عن بؤر التوتر، لتبقي على مصالحها. وأمريكا بفعلها عسكرياً وإعلامياً واقتصادياً تقترب كثيراً من اهتياجات العالم الثالث أمام أحداثه التي يصنعها بنفسه، ويتجرع مرارتها بسوء تصرفه، وعلينا إزاء المتغير الجذري في السياسة السلمية والحربية والاقتصادية والأمنية التي تمارسها الإدارة الامريكية ان نعيد النظر في رؤيتنا، وفي مواقفنا، وفي أسلوب تعاملنا، وان نعرف قدر أنفسنا، وان نتحرك وفق إمكاناتنا، نعايش أمريكا اليوم بكل صلفها واهتياجها وارتيابها وتشتت رؤاها بين ثالوثها الغريب: «الإعلام، والإدارة، والشعب» بطريقة مغايرة تماماً تفوت عليها الفرصة، وتهدئ من روعها وتمكنها من مراجعة الدروس القاسية. وإذا كان الإعلام الأمريكي الموجه بفعل التآمر الصهيوني قد هيج الشارع الامريكي، ومنح الإدارة الأمريكية مشروعية التصرف العسكري فإن المآلات ستكون لصالح المهدئين المبتعدين عن طريق الاهتياج المدمر، ومن الخير للأمة العربية والإسلامية الهدوء والسكينة حتى تعي أمريكا نفسها، وتعرف انها تلعب وحدها، وحتى يتأكد لها، ان هناك فرقاً واضحاً بين لعبة تصنعها، وينفذها غيرها، ولعبة تصنعها، وتمارسها بنفسها، وعلينا ان نرقب بحذر شديد صراع الصقور والحمائم، فالمواجهة باهظة التكاليف، لقد حانت لحظة الدفع بالتي هي أحسن، ليكون الذي بيننا وبينه عداوة كأنه ولي حميم، فلنكن من ذوي الحظوظ العظيمة، ولنكن من الصابرين المصابرين، والعاقبة للمتقين. |
ظواهر النقد الحديث وجذورها في التراث..! 2/3
د.حسن بن فهد الهويمل وما أن ساورتني الريبة في أمر التقارب بين ما فات من نظريات، وماهو قائم في المشاهد الأدبية والفكرية، رجعت إلى النظرية الجرجانية في كتاب «دلائل الإعجاز» قراءة وتعليق العلامة «محمود محمد شاكر» رحمه الله، وشاكر من ألدِّ خصوم المتهافتين على نظريات الغرب، وكانت له صولات وجولات مع المستشرقين والمستغربين، دون استثناء أو تحفظ، فلقد عرَّى أستاذه «طه حسين» الذي اضطره إلى قطع دراسته، بما أضافه إلى كتابه «المتنبي» الذي نال به فيما بعد جائزة «الملك فيصل»، كما أرهق «لويس عوض» في كتابه «أباطيل وأسمار» وله إلى جانب ذلك «رسالة في طريق مستقبل الثقافة»، أصْلى بها المستشرقين سقر الكلام. واتضح لي بعد استقراء ما كتب عن نظرية الجرجاني، ان هناك فرقاً واضحاً بين «البنيوية» كما هي عند الغربيين و«نظرية النظم» كما هي عند «الجرجاني»، ذلك أن «البنيوية» وإن تشابهت من بعض الوجوه مع «نظرية النظم» فإنها تنطوي على فروق جذرية، مع أن مرجعية النظريتين «أيديولوجية» وتبقى «نظرية النظم» مؤشر عبقرية عربية، وآلية نقد أسلوبي. وإذ نسلِّم بأن «نظرية النظم» وليدة همٍّ «أيديولوجي» فإن نظريات الغرب كافة تنسلُّ من رؤى فلسفية مادية خالصة، لا تحيل إلى وحي، ولا تؤمن بغيب، وقد لا تستشعر مبدأ العلة المباينة، وبخاصة عند طائفة الملحدين الغربيين، وعلينا أن نعرف الجذور الفلسفية لكل مصطلح يطرحه الغرب، وإن لم نفعل خلطنا العذب الفرات بالملح الأجاج، والمتهافتون عليها من أبناء جلدتنا تجذبهم بروقها الخُلّبْ، دونما وعي بحواضنها. وإن كان ثمة تشابه أو التقاء فإنه واضح كل الوضوح بين النظرية النحوية عند «سيبويه» ومن بعده عند «الجرجاني»، والنظرية «التوليدية» ل«أفرام نعوم تشومسكي» الذي درس علم اللغة والرياضيات والفلسفة، وعمل عضواً في عدة جمعيات علمية ولغوية، وارتفعت أسهمه عربياً نتيجة مواقفه الإنسانية على الرغم من يهوديته، ولما يزل قائماً في المشهد المعرفي والسياسي، يعالج نظريته التي لم يسلِّم لها الجميع، وإن أذعن له السرعان والخليون، وأراقوا ما في أوعيتهم احتفاءً بها، ولسنا ننكر أهميتها، وإمكان الاستفادة منها، دون إلغاء لما سواها. ولقد حاول بعض الدارسين تقصي مصادر «تشومسكي» ومرجعياته، لمعرفة تأثير «النحو العربي» ومنجزات العلماء العرب على نظريته. فالدكتور «حلمي خليل» الذي ترجم كتاب «نظرية تشومسكي» من تأليف «جون ليونز» يقول: (ولكن من الغريب حقاً أن كل الذين كتبوا عن حياة «تشومسكي» أو نظريته، يجهلون هذه الفترة من حياته العلمية، ولايتوقفون أمامها، فاللغة العبرية- كما نعلم- هي إحدى اللغات السامية، ومن المعروف أن نحاة العبرية الذين عاشوا في كنف المسلمين في الأندلس، مثل «سعديا الفيومي»، و«مروان الجناح» قد أقاموا درسهم النحوي للغة العبرية على طريقة العرب ومنهجهم في درس العربية). وهذا بعض ما أشار إليه المرحوم «حسن ظاظا» في كتابه «الساميون ولغاتهم» ولقد تساءل الدكتور «حلمي خليل» عما إذا كان «تشومسكي» قد اطلع على النحو العربي ودرسه، وأقام نظريته على ضوء ما توصل إليه من معلومات نحوية عربية. وفي رسالة تلقاها أحد المغرمين به، قال «تشومسكي»: -«وحين التحقت بجامعة بنسلفانيا في سنة 1945م بدأت مباشرة بدراسة اللغة العربية مع «جورجيوليفي ديلافيدا» الذي كان من أبرز المتخصصين في اللغة العربية ثم أومأ إلى أنه قرأ كتاب «سيبويه» وأكد في النهاية باعترافه احتمال وجود تأثيرات كبيرة. وتعرف نظرية «تشومسكي» بالنظرية «التحويلية» أو «التوليدية» وخلاصتها: افتراض جملة عميقة يتولد منها جمل كثيرة، لاحصر لها، وقد قدمها في كتابه «التراكيب النحوية» أو «البُنى النحوية» كما هي ترجمة «يوئيل يوسف عزيز» وهو قد عاصر مدارس فقه اللغة، التي عوَّلت على فرضية «الكسبية» فيما نظر هو إلى «الملكة» وعول عليها، استناداً إلى ما في العملية التوليدية من جمل ليست بمكتسبة، و«الكسبية» في نظر خصومها تحصيل وإعادة، فيما تنفرد «الملكة» بالتوليد على غير مثال محصل. والذين يتهافتون على نظرية «تشومسكي» يأنسون بفرضيات «دارون»، فهناك نوع من المعاضدة والشواهد، فتحولات المخلوق وتولده قد تشبه إلى حد كبير تحولات اللغة وتولدها. والمتضلعون من تراثهم المتمكنون من المستجدات يأنسون بالفرضيات، ولايعولون عليها، لأنها غير ثبوتية، والغرب دأبة البحث والتنقيب والتحول، وفي ذلك بعض المحمدة، وإذ يكون تحوُّلنا مضبوط الإيقاع بضوابط القيم، يكون من واجبنا التحرك وفق مقتضيات القيم، وضوابط اللغة ترتبط بالقيم الحسية، والإخلال بها إخلال بالتراث كافة، ولو تعقبنا التحولات في النظريات اللغوية على كل مستوياتها، لوجدنا كل حزب يراهن على رؤيته، وما من أحد سلم لأي نظرية، فيما نجد من بيننا من يقطع بموت نظريته، التي واكبت حضارته منذ القرون الأولى، ولما تزل قائمة على أشدها، وحين يخنع أحدنا، ويلغي نفسه في الآخر، يلتغي بسقوط فرضيته، وهذا ما نراه رأي العين في الذين اندفعوا وراء المبادئ والمذاهب. فأين «الماركسيون» و«الوجوديون» الذين أصبحوا أثراً بعد عين؟. وتحفظنا على التبني والفرادة والتخلية، وليس على الاستيعاب، ولا على الاستفادة أو التواصل أو التفاعل. والإسلام حين منع التبني شرع الأخوة الإسلامية. (وتشومسكي» كرس نظريته بالانفتاح والتلقي والاستجابة لكل تساؤل، ومن ثم فإنها لما تستقر بعد، والمعولون عليها حين يميتون «النحو العربي» تظل رؤيتهم كالمعلقة، ذلك أن «النحو العربي» معياري توصيفي لتراث قائم، فيما تأتي النظرية «التشومسكية» فرضية احتمالية بإزاء نظريات غربية قائمة، وليس بإزاء «النحو العربي» نظريات عربية مضادة، ثم إن «النحو العربي» ناتج رصد وتحليل ووصف وضبط ومعيار وإجراء، وخلاف النحاة إجرائي، وليس استبدالياً، وجزئي لا كلي، نجد ذلك عن «الجرجاني» و«ابن مضاء» ونجده بين «الكوفيين» و«البصريين» وبين «مدارس النحو» في الشام ومصر وبغداد، والتعدد والتنوع في الإجراء، والتأسيس لا يقوم على الفرضيات، إذ هي مرحلة تسبق النظرية، وإذا كانت نظريات الغرب تساعد على الإجراء أو التوصيل المعرفي، فهي منهج له وعليه، وليس من حق أي نظرية أن تنفرد بالمشهد، وليس من حق المتذيلين لها القول بموت ما سواها، وكيف يتأتى «موت النحو» وهو داخل في نسيج النظرية باعتراف صاحبها؟ ونظرية «الجرجاني» محاولة جادة لصياغة «النحو العربي» على شكل جديد، يخفف من المعيارية، ويتخطى النمطية، ويربط بين مقاصد النحو ووظائفه الوصفية والمعيارية، ولايلغي الأصول. وكان علينا نصر نظرياتنا التراثية، متى كانت قابلة للوجود الفاعل، ناهضة بمتطلبات البحث العلمي، متمكنة من مواجهة ما يجدُّ من نظريات، وداخلة في بنية الحضارة وثوابتها. والتحسس عن مفهوم النظريات التراثية ومقاصدها يكاد يؤاخي بين التليد والطريف. ولقد أحسست بعد التوغل في «التفكيكية» ان هناك اقتراباً وافتراقاً بينها وبين مقاصد «التذوقية» كما يراها متصوفة الاعتقاد في النص، ويلتمسونها بالحدس. فالحسية التفكيكية والحدسية التذوقية، تبحثان عما لم يقل، والمتصوفة لكي يحققوا المقاصد يركنون إلى نظرية معرفية خاصة وطريقة مغايرة للتلقي والتأويل. ولما كنت بصدد استكمال هذا الموضوع، فسوف أصرف النظر عنه إلى حين التفرغ لقراءة النظريتين القرائيتين. والقول في مستجدات الدرس النحوي يسقط مفهوم «الإحراق» و«الموت» المتداول عند بعض المتقدمين والمتأخرين، فلقد بدت الآراء حول مستجدات الدرس اللغوي متشابهة، أو ربما متناسخة، فكثير من الدارسين يرى أن «البنيوية» امتداد لنظرية «عبدالقاهر»، وأن التحويلية أو التوليدية تحوُّل طبعي للبنيوية مشكلة تعالقاً بيِّناً مع «النحو العربي»، وأن النقد الألسني أو الأسلوبي أو النصوصي أو ما شئت من هذه المسميات بكل تحولاتها خطوات متراتبة، أو قل سيراً وئيداً على حلقة مفرغة، يبتعد عن اللغة، ثم يعود إليها، يستدعي الدلالة في عملية إئتلاف مع الشكل، ثم يستدعيها عبر ظاهرية الدلالة أو عمقها، ثم يتعالق مع ناتج العلاقات والأسلوب والعبارة والجملة والكلمة بين التحليل والتحويل، ف «سيبويه» يعرب و«الصوفي» يحدس، ويتذوق، و«سوسير» يحلل، و«تشومسكي» يحوّل و«دريدا» يفكك، ولكل من: المعرب، والمتذوق، والمحلل، والمفكك، مقاصده الدلالية والشكلية، ثم إن «سكنر» يحيل إلى «الكسب» و«تشومسكي» يحيل إلى «الملكة» وآخرين يحيلون إليهما معاً، مسنودتين بالدربة والمقصدية، ومادة الجميع «اللغة» بوصفها نظاماً و«الكلام» بوصفه تطبيقاً، وليس من حقنا ممارسة التنافي أو الأثرة، إذ من المصلحة التفسح في المجالس، متى أمكن الجمع. ويأتي «الشكل» في هذه المعمعة منقسماً على نفسه، بحيث يعني الشكل اللغوي تارة، كما هو عند «مدرسة براغ» التي هي امتداد طبعي «للشكلانيين الروس» الذين انصبَّ اهتمامهم على الايقاع الشعري، ويعني التركيب الهيكلي للنص الناظر للإيقاع لا للبنية اللغوية أو الدلالية، مستمداً بعض مشروعيته من «عمود الشعر» بوصفه مصطلحاً استيعابياً للشرط الشعري، وليس خاصاً بالوزن كما يتصوره من قصرت هممهم، وأنا ممن قال ذلك، وأنس به، في طفرة الانفعال، وحاول جهده تقصي طائفة من النظريات القديمة والحديثة مثل «عمود الشعر» و«النظم» و«البنيوية» و«التحويلية» و«التفكيكية» و«التشكيلية» أو «الشكلانية» أو «شكل القصيدة» ولكن تبيَّن لي أن فيما نذهب إليه شيئاً من الخلط والتسرع والمبالغة، وأحسب ان الذين يفكرون برد الظواهر الحديثة إلى الأصول التراثية بشكل قطعي وشمولي، يحمِّلون النظريات ما لا تحتمل، وقد يبلغون بالمبالغة حد التقوُّل على التراث كل الأقاويل. ولو أننا تعاملنا مع الموقف بروية وأناة، واستبعدنا الشعور بالنقص، لكان لدراساتنا «المقارنة» شأن كبير، وما نفعله تحت ظل هذا الشعور فيه شيء من الخلط والتجاوز. ومشكلة الطرح النقدي عندنا أنه لايصدر عن قراءة مباشرة للنظريات من مصادرها، ولا يستكمل المعلومات عن أي مصطلح، وليس أدل على ذلك من عقد ندوة «لقراءة النص» والنص نظرية شائكة، تستدعي أشياء مسكوت عنها في بحوث المنتدى مثل: «المفهوم، والتكوين، والأبعاد، والإنتاج، والسياق، والنحو، والوظيفة، والجنس، والاستعمال، والتشكيل، والتأويل، والتعالق، والأفق، والترميز، ومستويات البنية، والصوتيات، والتداولية، والدلالة، والنمطية». وما لا نهاية له من متعلقات النص، وعلى المخفِّين الرجوع إلى نظريات النص، ومتعلقاته، ومسارد المصطلحات النصوصية، لكي يقولوا عن علم، ذلك أن بعض المتعالقين مع النظريات يكتفي بالقراءة عنها، أو التعويل على ترجمات غير أمينة، أو قد تكون لغة بعضنا الإضافية غير قادرة على تفكيك الرؤى والمقاصد، وما أكثر الذين ذهبوا إلى الغرب، ولم يستطيعوا تجويد لغته العلمية والثقافية، ولا السيطرة على ماتنطوي عليه تلك اللغة من فكر، ومن ثم لم يعولوا إلا على المترجمات التي تتنازعها الترجمة الحرفية المعجمية أو الترجمة بالمعنى ممن لم يستوعب المعارف المصطلحية، وكلتاهما غير دقيقة، وغير أمينة، ثم إن بعض القراءات يحجبها «الانبهار» بما يجدُّ من مصطلحات مترجمة أو معربة أو منقولة. والدهماء المحجوبة بعجزها عن استيعاب معطيات الثورة العلمية توجف وراء المتسطحين على الظواهر، فتخدعهم بأنفسهم، وتقترب بهم من ِسدَةِ التصنيم، وقد شغل اتهامي بالانبهار طائفة من المتعالقين مع المستجدات، ممن ليسوا على شيء من فهم المقاصد، ولا على شيء من اتقان الاجراء، وهم الذين طفح بهم الكيل، حتى أدى انفعالهم إلى خروجهم من سمتهم، وفقد صوابهم، وعندما يشتغل المحاور بالذات المحاورة تضيع القضايا، وذلك بعض مالقيته من ذوي النزعات الاستغرابية. والمذاهب والنظريات التي يتلقاها المبهورون صاغراً عن صاغر، لم تستقر عند ذويها، ولم تصل إلى مراحلها النهائية، ونحن نتلقاها على أنها قضايا مسلمة. ف«البنيوية» قبل ان تدخل عالم اللغويات، وقبل ان تستخدم في الدرس اللغوي، ثم في النقد، وفي سائر المعارف تعد نظرية قائمة بذاتها، لا علاقة لها بالأسلوب، ولا باللغة، ولا بالدرس النحوي. وعندما نظر «سوسير» في السياقات والأنساق والعلاقات، وهو نظر حصيف ولا شك، وتلقف رؤيته طلبة بررة، تحولت محاضراته المحررة بأقلامهم إلى نظرية صاخبة أطلقوا عليها «البنيوية» ولو ان من جاء بعدهم أخذ بتواضع «سوسير» ومعقوليته، لما منيت النظرية بما منيت به، وفي طفرة التعاطي بها ومعها جاء التفريق الدقيق بين اللغة المبدعة واللغة الشارحة، وجيء بالوفيات، ومثلما بولغ بالتعلق، بولغ في الرد إلى التراث، فالمميت مسرف في تعظيم الجديد، وملتمس الجذور في التراث مبالغ في الادعاء. ومثلما ردت «الوجودية» و«الماركسية» إلى الجذور العربية، ردت «البنيوية» إلى التراث وهكذا تقلبت المشاهد بين القطع بموت ما سلف والقطع بعودته متقنعاً وراء الجديد، والبنيوية التي خوت على عروشها هنا وهناك، وأصبحت أثراً بعد عين، بعد أن فرقت الكلمة، وأشاعت العداوة والبغضاء، كانت المنهج الأكثر صخباً وادعاءً في الدراسات اللغوية، وكانت من قبل ومن بعد المنهج الأكثر شيوعاً عند علماء الاجتماع والنقاد والفلاسفة، وحتى الواقعية الاشتراكية حاولت أن تستفيد من هذا المنهج، وأصبحت البنيوية ك «علم النفس» تدس أنفها في كل شيء، فجاءت «البنيوية التكوينية» وتهافت النقاد الماركسيون عليها، لاستجابتها لهم. وأعد الدكتور «حميد لحمدائي» رسالة علمية عن ذلك، قرأتها بتمعن مع ما قرأت من دراسات نقدية سردية، وكتبت عنها بوصفها منهجاً من مناهج نقد الرواية، وأثارت دراستي فضول البعض، حتى قال قائلهم: بأن ما كتبته في هذا الشأن «فضيحة» بوصفه قول من يجهل إبجديات النقد، ولما أزل أسمع من فلول المتذيلين الغمز واللمز، وما من أحد منهم واجه برأيه متوخياً الحق، ولم أجد بدّاً من ملاحقة فلولهم إلى جحورهم على غير ما اعتدت من المرور بمثلهم، وكأنني لم أسمع ولم يقل، وقصدت بذلك كشف تبعيتهم وإمعيتهم. وتهالك بعض المعاصرين على المنهج البنيوي فوّت على المشاهد النقدية فرصاً ثمينة، وحمل بعضهم على ممارسات نقدية لا تمت إلى الفن بصلة، وخير شاهد على تخشب «اللغة الثانية» الشارحة استفاضة «النقد الإحصائي» الذي أوغل فيه بعض النقاد، من مثل «سعد مصلوح» وحين وجدوا أنفسهم في متاهات لا نهاية لها، نبذوا تلك المناهج - تبعية لا استقلالية- وراء ظهورهم، ولم يتعرفوا على أنفسهم، ولا على حضارتهم، وإنما استشرفوا الآتي من المشارق والمغارب. |
ظواهر النقد الحديث وجذورها في التراث..! 3/3
د. حسن بن فهد الهويمل والذين نفضوا أيديهم من التراث، واستقبلوا فيوض المشاهد الغربية، ستكون لهم تحولات مرتبطة بتحولات من يفيض عليهم كدره وطينه، فيما يشرب المفيض الصفو في الورد والصدور، وما من أحد من أولئك المتلقين للمياه العكرة توخى حاجة الأمة، وبادر إلى ذلك، دون أن يكون رجعاً كرجع الصوت لخطاب الآخر. والمستلهمون لهذا الخطاب منهم مقلٌ ومكثر، ومسيء ومستوعب، ومتسطح ومتعمق. فتبعية (طه حسين) واستئناس (عباس محمود العقاد) وتعالق (محمد مندور) ليست على شاكلة من جاء بعدهم، ممن انسلخوا فكراً. ويقيني أن المشهد النقدي بانتظار ما سيأتي به المستغربون، مما فرغ منه الغرب، ونبذه وراء ظهره. وإذ لا أكون ضد الاقتراض والاستزادة والمثاقفة الواعية مع ما هو مستجيب لحاجاتنا، ولست ضد سنّة الحياة القائمة على التحول المستمر، فإنني أعرف كم هو الفرق بين التفاعل الواعي والتلقي العقيم. ومثلما أن النظريات تنسل تباعاً في مشاهد الغرب ، فإنها كانت من قبل تنسل من مشاهدنا، يوم كنا مستبدين مبتدرين منقبين عن حاجاتنا بأنفسنا وبإمكانياتنا وبمحض إرادتنا. وليس أدل على ذلك من (نظرية النظم) إذ المعروف أن (عبدالقاهر) طرح نظريته في مواجهة نظريات (المعتزلة) حول الإعجاز القرآني، ولم يرقب الآتي، ولم يعول على أحد، بل أعمل فكره ليواجه نظرية معرفية حادت بالنص عن جادة الصواب. لقد حاول من خلال طرحه هذا ان يلغي كثيراً من إنجازات المعتزلة في مجال الإعجاز القرآني. والمعتزلة أداروا النص في فلك العقل، وابتكروا مخارج لقطعيات الدلالة، وأحكموا صنع آلية البلاغة، ولما يكن الجرجاني ولا السلفيون كذلك. ومن ثم فإنه تعامل مع اللغة وأصاخ لها. وتراث المعتزلة له وعليه، ومفسروهم وشُرَّاحهم نقبوا في خبايا اللغة، وكشفوا عن جمالياتها، ولكنهم أخذوا بسلطان العقل المطلق، ولم يعولوا على النص إلا من حيث كونه مجالاً لبراعة العقل، وإن كانت لهم لطائف مبهرة ومثيرة. وكل قراءة واعية ترتبط بنظرية معرفية، نجد ذلك عند (السلفيين) و(الأشاعرة) و(المعتزلة) و(المتصوفة) و(الشيعة) و(الباطنية) ذلك أن النص هو النص، ولكن النظرية قد تميل بصاحبها عن جادة الصواب، وتنطق النص بما لا يريده المرسل. ونظرية (موت المؤلف) تهميش لمقاصده من الرسالة، وتفويض مطلق للقارئ. و(نظرية المعرفة) عند الطوائف الإسلامية أسهمت في انفتاح النص، ومكنت ذوي الملل والنحل من تحميله ما لا يحتمل. (والمركزية) في عملية (القراءة) تبادلها: النص والمؤلف والقارئ. وكل محتل للمركزية من الثلاثة يقوم بين مكوناته صراع على المركزية من داخله، ف (النص) على سبيل المثال حين همش المؤلف والمتلقي، اصطرعت في داخله على مركزية الأولوية: (اللغة) و(الدلالة) و(الفن)، والنقاد يتنقلون بين هذه المكونات المصطرعة، والمقلدون منهم لا يعون المحاذير، ولا يدركون المقاصد، وإنما سمعوا الناس يقولون شيئاً فقالوه. والتحرف الواعي يمكِّن العلماء والمفكرين والنقاد من إنتاج مناهج وآليات توجه النصوص وفق رؤيتهم، وقراءة معاجم المصطلحات النقدية القديمة تؤكد ثراء التراث بالمناهج والآليات وتشير إلى تعدد الاهتمامات، وما على المترددين إلا ان يقرؤوا ما أعده د(أحمد مطلوب) و/د(محمود الربداوي) و/د(الشاهد البوشيخي) وآخرون تقصوا التراث النقدي، وكتبوا عن مصطلحاته منفردة أو مجتمعة. وقد يستهلك المصطلح الواحد رسالة علمية كاملة، كما في كتاب (مفهوم الأدبية) للدكتور (محمد الزيدي)، ومن قبل أولئك (محمد مندور) الذي تعقب المنهج النقدي العربي وحرره. ولكل نحلة طريقتها في التلقي ولم تفترق الأمة إلا بسبب تعدد نظريات المعرفة. والمذاهب والنحل والملل ناتج قراءة واعية، تجاوزت التراتب والنمطية، ورسمت لنفسها نظرية في القراءة، وإشكاليات التأويل فرقت كلمة الأمة وحققت خبر الصادق (وستفترق هذه الأمة...) ومع ان عوائد تلك النظريات أضر بنقاء التصور الإسلامي للأشياء، إلا أنه أسس للفكر الإسلامي. ومثلما جنح الفلاسفة إلى (علم المنطق)، فقد تحرف الإسلاميون (لأصول الفقه) وقواعده، وركنت طائفة منهم إلى (المنطق اليوناني). و(الجرجاني) فيما يرى البعض انطلق في نظريته من النحو، ولم يبرحه، وقد يطلق على مشروعه (نظرية نحوية) وهذا يفتح أبواب الاحتمالات، ويحدو بالنقاد المقارنين إلى افتراض التقائها مع نظرية (تشومسكي) في المرجعية على الأقل، أكثر من دعوى التقائها (بالبنيوية) ذلك أن (البنيوية) استدعيت من حقل مغاير على افتراض أن اللغة بناء وتفكيك وإعادة بناء. حتى أن الدكتور (عبدالله بن حمد الخثران) في كتابه (الاتجاهات التجديدية في الدرس النحوي) جعل هذه النظرية عند (عبدالقاهر) منهجاً جديداً في الدرس النحوي، نائياً بها عن المنهج البلاغي الصرف، وماهو حقيق حين ذاد عنها حقولاً كثيرة، كالبلاغة والأسلوب والإعجاز. وكأنه أراد أن يعزلها عن البلاغة والأدب، بدافع التعصب للنحو، لكونه أحد فرسانه، ولربما حفزه إلى ذلك أنه رأى فيما يذهب إليه الدارسون ميلاً إلى جعلها في سياق تاريخ النقد الأدبي وتاريخ علوم البلاغة، ومنشوء ذلك كله الافتعال والانفعال. ول (الخثران) بعض الحق فيما ذهب إليه، لأن الهمَّ الذي يحمله الجرجاني همٌ نحوي يخالطه شيء من البلاغة، فالنحو طريق قاصد للدلالة، والبلاغة طريق قاصد للجمالية، والطريقان قد يتبادلان المهمات، أو يصطحبانها، وإن كان أعد مشروعه ليكون برهانا على الإعجاز البياني للقرآن الكريم، ورداً على (المعتزلة) وعالمهم الكبير (القاضي عبدالجبار)، وهذا ما كشفه العلامة (محمود محمد شاكر) في مقدمته . ومن العجيب أن الدكتور (عبده راجحي) في كتابه (النحو العربي والدرس الحديث) لم يعرض لهذه النظرية، ولم يشر إليها، ولم يعدَّها إرهاصاً للدرس النحوي الجديد، وهي نظرية نحوية واضحة، وإن اتسعت للبلاغة والأسلوب. أما الدكتور (أحمد مطلوب) في كتابه (عبدالقاهر الجرجاني بلاغته ونقده) فيعتبر بحق رائد الدارسين لهذه النظرية واكتشاف منحاها النحوي حيث يقول: (مرَّ النحو قبل عبدالقاهر بتطور كبير بعد أن وضع سيبويه كتابه الشهير وصنف المبرد كتاب المقتضب).... إلى أن قال: (ويختلف منهجه عن منهج النحاة في بحثها... وكان النحو عنده البيان الذي يحلل النصوص ويوازن بينها) (ص57). وكأنه بهذا يحاول الربط بين النحو والنقد من جهة، وبينه وبين البلاغة من جهة أخرى، ملغياً الفواصل الحدية. ونحن هنا لا نغمط الدكتور (أحمد أحمد بدوي) حقه في حديثه عن النظم، وربطه في المنهج النحوي، ولكن تجريد القضية وتحديد مسائلها، كانت بالفعل على يد (أحمد مطلوب) ومن بعده الدكتور (الخثران). و(بدوي) الذي أدرك فكرة النظم، لم يشأ جعلها تطورا في الدرس النحوي، بل رآها أسلوباً من أساليب البيان الذي استخدم النحو في سبيل ظهورها وتحريرها. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول بأن هناك فرقاً واضحاً بين (البنيوية) باعتبارها فلسفة مجردة من الاستخدام المعرفي لعلم النحو والاجتماع والأدب ونظريات (عبدالقاهر) و(تشومسكي). وكان بودي لو وجدت الجهد والوقت والمرجعيات الموسعة لأتعقب جذور البنيوية الفلسفية، والوقوف على طرائق المفرغين لمحتويات المصطلحات، وتجلية الغفلة والجهل عند أدعياء البنيوية، ولست أشك أن جذورها مادية جدلية، وأن إمكانية التفريغ التام عصية، وجذور البنيوية الفلسفية تعول على المادة والحركة والطاقة وناتج العلاقة، التي تزول بزوال العلاقة وتفاعلاتها، ولا تؤمن بمبدأ العلة المباينة. ولأنني لم استكمل هذا الجانب فانني أغري المقتدرين من طلائع شبابنا الجادين في الدراسات العليا في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ليتلقفوا الخيط، ويمضوا مستكملين ما بدأه (فؤاد زكريا) في كتابه (آفاق فلسفية) و(زكريا ابراهيم) في كتابه (مشكلة البنية) الذي تحدث عنها من خلال (الماهية) محيلاً إلى قانون التحولات والأنساق، وبعد أقل من خمسين صفحة قفز إلى البنية في ميدان اللسانيات، و(الانثروبولوجيا) و(الابستمولوجيا) و(السيكولوجيا) وانتهاء ب (الماركسية). وإذا كان النقاد استخدموا المنهج البنيوي كأسلوب نقدي جديد، فإنهم يتناولون هذا المنهج كما يتناوله (سوسير) و(تشومسكي) وغيرهما، وكما ذهب من قبل كل أولئك عبدالقاهر. وعلينا لكي تدق رؤيتنا في تصور الأشياء أن نقتفي أثر المصطلح في عملية رصدية استكناهية، فالفلاسفة واللغويون و(الانثربولوجيون) و(الماركسيون) والنقاد كل أولئك قالوا من خلال (البنيوية) وهي معهم في تقلب مستمر، مفاهيمها داخل الحقل المعرفي الواحد تختلف من مرحلة لأخرى، ومن مفكر لآخر، فكيف بها حين تبرح حقلها إلى حقل مغاير، ولهذا فإننا لن نستطيع ان نقول إن (النقد البنيوي) امتداد (لنظرية النظم) عند (عبدالقاهر)، وإن كان هناك بعض التشابه، لأننا حين نغوص في أعماق هذه النظريات يتضح لنا الفرق الدقيق بينها، وهذا ما لم يكلف بعض الدارسين نفسه فيه، الأمر الذي أوقعنا في شيء من الخلط العجيب. وفلول الدارسين الذين يرددون مصطلح (النص) ويتهافتون على القراءة من خلال مفاهيمه التي لم يستوعبها بعضهم، ويربطون بينه وبين المنهج والآلية مكتفين بالقراءة التلفيقية أو الاعتباطية يتجاوزون مقتضيات تلك المصطلحات، أو يقصرون دونها، (فالنص) قد يحيل إلى البناء اللغوي، وقد يكتفي باستحضار سلطانه بوصفه بديلاً لسلطان المؤلف أو الموضوع، وقد يحيل إلى أشياء غائية. وقراءته عند بعض الاتجاهات تعني تقويض اللغة بآليات تمتلك القدرة على تفكيك البنية بطريقة دقيقة لانتاج دلالة تتعدد بتعدد القراء، وهذه الفرضية أفقدت رسالة النص مهمتها التوصيلية، بحجة (التوتر) و(الانقطاع) و(الانفتاح)، وأتاحت الفرصة للتأويل المتمرد على كل قيد. حتى لقد أدان بعض المتعقلنين فقهاء الإسلام بما توصلوا إليه من استنباطات مرتبطة بقواعدهم وأصولهم، محيلاً إلى ثبات الحكم بشأن الدلالة دون النظر إلى تغير الأحوال. وحين نسمع ب (قراءة النص) كما فعل (نادي جدة الثقافي) تشرئب أعناقنا إلى مقاصد المصطلح ومفاهيمه، ويتبادر إلى الذهن (البناء اللغوي) الذي لا يمتد إلى الدلالة، وإن كان (الماركسيون) دسوا أنوفهم، وطوعوا المنهج البنيوي ليكون قادراً على استيعاب البعد الموضوعي و(البنيوية التكوينية) اشتغال بالدلالة بوصفها (بنيوية موضوعية)، وقد يأتي من يفكر بمقاصد (الأنساق الثقافية) بوصفها تخطياً من جماليات النص إلى معطياته. و(النقد الإسلامي) له وقفات مع النص، تصطحب معها البنية ومفاهيم الجماليات متخطية إلى الدلالة وانعكاسها على الممارسة، وهذا المقصد لايتحقق إلا من خلال الاشتغال بالنسق الثقافي المستذكر بعد آمة. والنقاد الذين لا يستبدون، ولا يبادرون، ولا يفكرون، يظلون مرتهنين لتفكير الآخر. وقد تؤول بهم الاتكالية إلى غبش الرؤية، وارتباك التصور، ولهذا لابد من تأسيس حركة نقدية عربية، تآخي بين التراث والمعاصرة، وتضع كل الاعتبار للقيم الحضارية، وتتفادى الذوبان، وتتمكن من هضم الجديد، ليمكث منه في الذاكرة ما ينفع الأمة، تاركة الزبد يذهب جفاء. ولا يُحْسِن المؤاخاة إلا الذين تضلعوا من التراث، وعرفوا إشاراته الذكية، واستوعبوا المستجد دون انبهار. وعلى الذين أسرفوا على أنفسهم باستدعاء النص، أن يعرفوا تداعياته، لا من حيث مداخله التاريخية وأشكاله ونظرياته المتعددة بتعدد المتحدثين، وبتعدد الأزمنة والأمكنة، ولكن من حيث ما ذكر، وما لم يذكر، مما هو مرتبط بمفهوم النص في الماضي والحاضر، وفوق كل ذلك لابد من السيطرة على مفاهيمه التي تسهم في تناسل النظريات. والذين يعولون على النص بوصفه المصطلح الأكثر حضوراً في الراهن النقدي لابد أن يلموا بأبنيته التي لا يمكن تفكيكها والغوص في أعماقها إلا من خلال تجويد (نحو النص) والحد من (نحو المعيار). والذين أسهموا في قراءة النص، عبر ملتقاه وجاءت دراساتهم ضمن الملف الذي أصدره (نادي جدة الثقافي)، لم يستوعب أكثرهم مقاصد المصطلح ، ولم يستشعروا رؤى أساطين (نظرية النص) من أمثال (ماينريش) و(مندايك) و(بتوني) ولم يعَّولوا على منجز المفكرين والأدباء، وبخاصة المغاربة منهم مثل د(محمد مفتاح) و(حمادي صمود) و(سعيد يقطين) والمصريين مثل د(جابر عصفور) و(نصر حامد أبوزيد) الذي أضلته نظريات (قراءة النص) فجاء بما لايحتمل، حتى اضطر إلى النجاة بجلده والهروب خارج وطنه، إضافة إلى إسهامات (يمني العبد) و(علي حرب) و(جوليا)، على أن مصطلح (الكتابة) بدأ يؤتي ثماره مهمشاً نظرية (النص). إننا سعداء باستدعاء النظريات والمصطلحات والمناهج، وما من سبيل إلى التلاقح الحضاري إلا من خلال الجسارة، ولكننا أخوف ما نخاف على راهننا من الاهتياج الأعزل، وتقحم المفازات سعياً وراء سراب القيعان، ومآل ذلك كله تشكيل ذهنيات مزيفة، تحرف الكلم من بعد مواضعه. وتداول المصطلحات، دون فهم دقيق، ووعي عميق، يكشف عن تسرع يربك العملية الاستيعابية، ومتى قصرت أيدينا عن أخذ المستجد بقوة فإن الأجدى تمثل تراثنا استعداداً لتلقي ما يفد. والذين استدبروا تراثهم، وأخذوا بعصم المناهج الجديدة لا يقدر أكثرهم على المؤاخاة المطلوبة، ولايقدرون على الحوار المتكافئ، ولا يحتملون متطلبات التأسيس والتأصيل. ومع كل ما ينتابنا من الخوف فإن مشاهدنا المحلية والعربية لا تخلو من كفاءات استوعبت التراث والمعاصرة، واختطت لنفسها منهجاً متوازناً، يستجيب لمتطلبات المرحلة. والخوف كل الخوف من دهماء تحسب الشحم ممن شحمه ورم. |
تكريم الرواد
بقلم د. حسن بن فهد الهويمل* الأديب العالم الداعية معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، لي اليه أكثر من مدخل، وحديثي عنه تتنازعه عدة قضايا. فلقد عرفته تربوياً يمتلك قوة الشخصية وقوة المعرفة. وعرفته إدارياً محنّكاً يمارس العمل الاداري وفق أدق الطرق وأشملها وأقدرها على الأداء السليم. وعرفته قارئاً نهماً يرشدنا الى الكتب والمجلات والدوريات؛ ويغرينا بالقراءة لكتب التراث وأمّهات الكتب. في الثالثة عشرة من عمري، تقدمت لمعهد بريدة العلمي، وكان إذ ذاك يقبل طلبة «الرابع الابتدائي» فما فوق، وكنت في الصف الخامس الابتدائي، وحين دخلت مكتبه، أحسست بهيبته وجلاله وهو رجل مهيب وحازم وهو أميل الى القوة مع الطلبة فلا ينبس أحد عنده ببنت شفه، ومن بعد ادارة المعهد تلتقطه مواقع علمية ودعوية، وكان ان سهم في تأسيس الجامعة الاسلامية في المدينة ثم عمل وما يزال في رابطة العالم الاسلامي، وكل المسؤوليات التي واكبها منذ أكثر من نصف قرن لم تقفه عن التأليف في مختلف العلوم والمعارف، وبرز كاتبا لأدب الرحلات، حيث أتاح له عمله في الرابطة أن يكون كما وصفه «المتنبي»: «ما حطَّ من سفر إلا الى سفر» أو كما وصفه «الشنفرى»: «تَهاداهُ التنائف أطحل» لقد طاف العالم ولم يدع بقعة من بقاع الأرض إلا وحطت فيها رحاله. وألّف عن كل دولة، أو بلد، أو مقاطعة كتاباً أو أكثر تحدث فيه عن حضارتهم، وعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم وآدابهم وأديانهم وكل ما يهم القارىء، وخلّف وراء ظهره أكثر من مائة كتاب في «أدب الرحلة» وهي ثروة تاريخية جغرافية فكرية تهم كل مثقف ومسؤول. وفي العام الماضي كرمه «نادي القصيم الأدبي ببريدة» تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز أمير منطقة القصيم، ويومها تفضّل صاحب السمو بالأمر بتسمية أحد الشوارع ببريدة باسمه، وتسمية إحدى المدارس الثانوية باسمه وقد تم ذلك وهذا جزء مما يستحقه أمثاله فهو العالم الجليل الذي قضى شبابه وكهولته في خدمة الدين والوطن وأسهم في التأسيس لحركة علمية ودعوية. وتكريم المنتديات والمؤسسات لأمثاله بادرة طيبة ووفاء لرجالات البلاد وأملنا في أن تحذوا كل مؤسسة أو ندوة أو جامعة حذو الذين بادروا في التكريم و«ثلاثية المشوح» التي أنشأها الأخ الكريم الشيخ محمد بن عبدالله المشوح أسهمت في تكريم عدد من الكفاءات الوطنية من رجال العلم والتربية والأدب، وهو اسهام مشكور وسلوك حضاري وبلادنا والحمد لله تعي مسؤولياتها إزاء علمائها وأدبائها وكافة العاملين من أجل خير المجموعة. نسأل الله السداد والعون والتوفيق. * رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي رئيس نادي القصيم الأدبي ببريدة أستاذ غير متفرغ للأدب بجامعة الإمام |
النجومية بين: التألق، والانطفاء..!
د.حسن بن فهد الهويمل ليست كل النجومية كاذبة خاطئة، وليست كلها مليئة بالإيجابيات والطهر الملائكي، والممحصون لعوارض التألق والانطفاء يربطونها بأحوال الأناسي وشهواتهم وبالظروف وتقلباتها. والأناسي منهم الصالحون والطالحون، والسابقون في الخيرات والظالمون لأنفسهم. والواقعون فيها ليسوا جميعاً بلُّوريين يشعون النور من الذات، ولايعكسونه من الآخر. ومَن تصور النجومية مليئة أو جوفاء، دون حفرية معرفية وخبرة استكناهية، فقد ظلم نفسه وقبيله، وهي مع هذا التفاوت تعد إشكالية العصر، وبخاصة بعد ثورة الاتصالات، وتدفق المعلومات، وانتشار القنوات، وتعدد وسائل الإعلام الجذابة المغرية. والنجوم الجوف كالعملات المزيفة، لايكشف زيفها إلا التداول بين أيدي الخبراء، وإذا كان الإيمان يُحكُّ بالدرهم والدينار، ليبدو صدقه من كذبه، فإن النجومية تعريها المواقف والأزمات والمواجهات، وتكشف عن أصوليتها أو وصوليتها سنة الله المتمثلة بالامتحان {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ }. وقد فتن مؤمنون ومدَّعون، فعلم الله الصادق من الكاذب. وقد تسهم الأضواء التي صنعت النجوم في تعريتها، كما السحر ينقلب على الساحر. والمواجهة بكل صورها آلية مهمة من آليات الجس والسبر، وهي بلاشك إحدى السبل التي تكشف عن الأصالة أو الزيف. هذه الخواطر انقدحت في ذهني، وأنا أمتري أخلاف الذاكرة، لأجيب على سؤال بدهني به أحد الزائرين الذين يودون الإجابة على كل ما يعن لهم، أو هكذا يتصورون إمكانياتي، وكأني ابن بجدة المعارف والمواقف. وما درى الزائر أن نصف العلم (لاأدري)، وأن من قالها فقد أجاب. والملائكة الكرام لا علم لهم إلا ما علمهم ربهم، وموسى عليه السلام، قال لعبد من عباد الله: {هّلً أّتَّبٌعٍكّ عّلّّى" أّن تٍعّلٌَمّنٌ مٌمَّا عٍلٌَمًتّ رٍشًدْا}. فمن نكون إلى جانب الملائكة الأبرار والرسل الأخيار؟ قال ذلك السائل: -لماذا تقترف وسائل الإعلام إحراق النجومية بمحاصرة الضيف بالأسئلة التي لايحير لها جواباً؟ ولماذا يكون جوابه متسطحاً لا يلوي على كبير فائدة؟. ولماذا ينكص النجم على عقبيه، ويقول ما لا يعتقد، أو يعتقد ما لايقول؟. وبعد أسئلته تابع القول: إننا نعيش حالة من الانبهار والإكبار لمن كنا نعدهم من الأخيار، حتى إذا سمعنا أو قرأنا لبعضهم، تساقطت الانطباعات، وتعرت الحقيقة المرة. وسؤاله هذا لملم لي أطراف النجوم في كل مجال، وأنكا جراحات دفينة. قلت للسائل: -ليس من شرط النجومية الامتلاء المعرفي، ولا الطهر الملائكي، ولا الثبات المبدئي، النجومية قد تكون ناتج ضربة حظ، أو افتقار مشهد، أو غفلة مُشاهد. وفي الأساطير مقولة المتألّه: - (قيل: من أمرك؟ قال: من نهاني؟) ومن ثم فإن هناك فرقاً بين من يزحف في القارعة إليها (كما زحفت فوق الصعيد الأراقم)، ومن تأتيه منقادة تجر إليه أذيالها، كما الخلافة مع الممدوح، بحيث لا تصلح إلا له، ولا يصلح إلا لها. إذاً هناك (متناجمون) و(نجوم) وساعون إليها، وساعية إليهم. والأقل الأقل من المتابعين من يملك القدرة على الفرز بين نجم تهاوت النجومية تحت قدمه، وآخر استمات في سبيل التشبث بأذيالها، يدعي وصلها، وتدعي بُعْدَه و(المتناجمون) نفذوا إليها في غفلة من الرقباء، فكانوا كمن تسلق المحراب، وأتى البيوت من غير أبوابها، ومن فرغ لامتحان الظواهر تكشفت له عن تفاهات مخيبة للظن، وقديماً قيل: -(أزهد الناس بالعالم أهله) ذلك أنهم يرون منه ما لا يراه الأباعد. والنجومية تكون في (الدين) بكل مذاهبه وتياراته واتجاهاته، وفي (الفن) بكل أنواعه: القولية والفعلية، وفي (العلم) بمختلف فروعه، وفي (السياسة) عند إقبالها وإدبارها، وفي سائر الأوضاع الاجتماعية، ودعك من نجوم (كرة القدم) وما أفاء الإعلام به عليهم من مكرمات يتطامن أمامها كل النجوم. ولكل حقل معرفي نجومه المزيفون والحقيقيون، ولكل مؤسسة دينية أو سياسية أو أدبية أو علمية أو فكرية أو اجتماعية نجومها الراغبون في النجومية والمكرهون عليها. ومن علماء الأمة الورعين من يضيق ذرعاً بالراكضين خلف أعقابه في غدوه ورواحه، بحيث يراهم من الفتنة والافتتان، ويجتهد في صرفهم عن ملاحقته، حتى أن من الزاهدين في الأضواء من يغلق عليه بابه. والمستخف منهم من تستدرجه المظهرية، وتخدعه الشهرة، وتعميه الأبهة، فينسى رسالته في غمرة الأشياع والأتباع، وتتحول عنده المظهرية إلى خمرة مسكرة، تشله ضراوتها، ويضطره تملق الجماهير إلى استقراء رغباتهم، ولو الجأه ذلك إلى النكوص عن جادة الصواب، على سنن (هكذا يريد الجمهور). وتألق النجم قد يأتي بالصدفة، أو يأتي نتيجة الخطأ، فبعض الإجراءات المتسرعة، وغير الحصيفة، تصنع النجم. والأذكياء من يفوتون الفرصة على المتماسين مع الثوابت، فلا يعارون اهتماماً، ولا يقام لهم وزن، والخصوم أسرع من الأنصار في صناعة النجومية، ولهذا يبرع بعض الخاملين في ضرب السوائد والمسلمات، أو تعمد الإثارة، سواء كانت عن طريق التهتك الأخلاقي، أو الانحراف العقدي، أو التمرد السياسي، أو الإغراق في الإغراب. ولكل متناجم آليات لعبته التي قد تخفى على الدهماء وغير المجربين، مثلما تلتبس خفة الحركة في الألعاب البلهوانية. وكل ذلك لمجرد الإثارة ولفت الأنظار. وحين تضج المشاهد مستنكرة السفاهات والتفاهات، تنهض الرويبضات لتقول عن (حق الحرية) في القول والفعل، ومن هذا اللغط تشع النجومية الزائفة، وأقرب مثل على ذلك ظاهرة (الروائيين) الذين تهتكوا أخلاقياً، أو انحرفوا عقدياً، أو تمردوا سياسياً، أو تحللوا فنياً، فكانوا حديث المجالس، ومادة النقد، وسبيل الجذب لمواقع المعلومات. ومثلهم (النقاد) و(المفكرون) و(العلماء) فمنهم من قضت عليه لعبته الخطيرة، ومنهم من شردته خطيئته، فتكفلت المؤسسات المشبوهة بحمايته، وتعهدت بتلميعه من جديد. وقد يكون النجم مفردة من مفردات اللعب السياسية، والذين يقرؤون بعض مذكرات الزعماء الغربيين، يمرون بإشارات ذكية، تكشف عن حذق التدبير في صناعة النجم لأغراض سياسية. فالذي يعول عليه في تمرير لعبة مصيرية، لابد أن يكون لامعاً وجذاباً وشعبياً، وليس بمقدور أي صانع للألعاب واللاعبين أن يخطف أي شخص، ويجعل منه نجماً بين عشية وضحاها، بل لابد ان تكون لدى المختار استعدادات شخصية، تمكنه من الاستجابة، واتقان التمثيل، وقد يمر بمثل ما يمر به رواد الفضاء من تدريب مكثف. وهذه الطائفة من النجوم ينتهي وجودها بانتهاء اللعبة، فإما أن يُقضى عليهم فيموتوا، ويطمروا مع لعبهم كما النفايات النووية، وإما أن ينطفئوا، ويختفوا كالأموات. والأنظمة والأعراف والمسلمات الاجتماعية تسهم في خلق النجوم، كما أن الظروف قد تخدم طائفة منهم، وتخذل أخرى، والوسائل والوسائط تصل بالنجم إلى سِدَة النجومية، ولكنها لا تحميه، ولاتوفر له مقومات البقاء. فكم من متناجم عرف تركيبة النجومية، ولكنه لم يعرف متطلبات البقاء على عروشها، فكان كالقارئ في كتب الشعوذة والبهلوانية، يدخل بها دوائر الضوء، ومجود آلية النجومية الذي لايحمل مؤهلاتها، يتشظى كالجرم الخارج عن فلكه. والوصول المزيف يفضح صاحبه، ويسقطه إلى الأبد. ولعلنا نضرب الأمثال بنجوميات خادعة، كشفت عن زيف وجهل وعجز. نراهم يشعون بسرعة النجم إذا هوى، ثم يغيبون في كهوف النسيان. والمجتمع البدائي يبهره كل شيء، وتكون فرص النجومية فيه سهلة المرتقى، ومن ثم يعتمد عشاق الأضواء على المخالفة لكسب الذكر على حد المثل القائل: - (خالف تذكر). ومجالات النجومية كثيرة: فالمعارضة السياسية سبيل من سبل النجومية، وهي الأسرع في صناعة النجم، يعمد إليها البعض عن قناعة وموقف ومبدأ ومشروعية، ويتخذها آخرون سلماً سهل المرتقى، دون أن تكون لهم قضايا، وتكثر المعارضة في الدول النامية، لقيام دواعيها، ولوجود الداعمين لها، وقد تقوم في الدول الديمقراطية، فهذا (تشومسكي) في أمريكا -على سبيل المثال- معارض لسياسة ديمقراطية مؤسساتية، عارض حروباً وأحلافاً وتدخلات، وكسب النجومية، ومعارضته ليست رغبة فيها، ولكنه يؤمن بمبادئ، تختلف مع (ميكافيلية) المؤسسات الأمريكية، وليس شرطاً ان تتفق رؤيته مع العدالة والحق، وليس شرطاً أن يكون نجماً في المنظور العربي أو الإسلامي، المهم أنه تألق بمعارضته، وأصبح علماً من أعلام المعارضة، ونجماً من نجوم السياسة، وعلى شاكلته كُتَّاب ومفكرون وساسة. وفي الدول النامية آلاف المعارضين، الذين يسلكون مختلف الطرق، ويثيرون مختلف القضايا، ويتبنون مختلف الاتجاهات، ويتخذون مختلف الأساليب. منهم الصادق الناصح، ومنهم الوصولي، ومنهم المتهور المنكّبُ عن ذكر العواقب جانباً. ولو استعرضنا الثورات العربية، وخطاب كل طائفة، لتبدت لنا فداحة المصائب التي جرها الثوريون على أهلهم وعشيرتهم، وبلغت بالأمة الدرك الأسفل من الهوان، ومع ذلك تجد من يقول عنهم ما لو تحقق أيسره، لكانوا من أولي العزم من الرسل، وتاريخهم الدموي التدميري التبعي لاينكره إلا مغالط أو مدخول. ولاشك أن التَّماس مع المؤسسات السياسية طريق سريع للوصول إلى النجومية. والمعارضة قد تكون بدواع سياسية أو اقتصادية أو دينية أو اجتماعية أو عرقية أو إقليمية أو طائفية صادقة أو كاذبة، وحين تكون صادقة، تكون موفقة أو غيرَ موفقة، مقدِّرة للموقف ومؤقّتة له، أو غير مقدِّرة وغير مؤقتة. فليس كل نجم يحالفه الحظ، وهذا مصداق التساؤل: - {أحسب الناس...}. والناس دائماً بحاجة إلى من يثير كوامنهم، ويشبع فضولهم، ويستجيب لمتطلباتهم، وينوب عنهم في النبش عن المسكوت عنه. ومجال الدين واختلاف علمائه من فقهاء ومتكلمين ومفسرين وشراح كمجال السياسة والمعارضة، لهذا نجد من ينقب عن شواذ الآراء في (الفقه)، ويتخذ الفتاوى الراجحة أو المرجوحة سبيلاً للتألق، فيفجرها وسط أمة خالية الذهن موحدة الفكر، غير مكترث بما تتعرض له وحدة الأمة الدينية، ثم يلحق به السرعان، حتى إذا عذُبت في فمه، وحسنت في عينه النجومية تصدر للفتيا، واستمرأ المخالفة، وربك المشاهد، وما علم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذ بالمفضول دون الفاضل احتراماً للمشاعر، وحرصاً على اجتماع الكلمة. وإذا كان (الإجماع) من الظواهر النادرة، حتى لقد قال بعض العلماء: (من ادعى الإجماع فقد كذب) فإن التنقيب عن مسائل الخلاف، ومنازعة العلماء فيها إخلال بالمروءة العلمية، مع أن كل مسائل الخلاف معلومة متداولة بين العلماء، وفيها مؤلفات في متناول أيدي المتابعين، تختص باختلاف المذاهب فيما بينها، وأخرى تختص باختلاف علماء المذهب الواحد، وماترانا نقول إلا معاراً أو معاداً من قولنا مكروراً. ولن يستقيم أمر الأمة إلا بمرجعية دينية يذعن لها الجميع، وتطمئن إليها النفوس، ويرجع إليها الكافة عند التنازع. والعلماء الأفذاذ يحترمون الرأي متى كان على حق مفضول، وبعض العلماء أخذ برأي فقيه البلد، حين يمر بها احتراماً له ولأشياعه. ولو أن الجمهور لم يندفع وراء المتناجمين ومثيري الشغب العلمي، ولم ينخدع بالبروق الخلّب، ولو أنه تأمل في كل خطاب، وفكك كل رؤية، واهتم بالقضايا، ولم يهتم بالأشخاص، لقطع دابر النجومية المزيفة، ومكن القطا من أن ينام ملء جفونه، فالمتلقي يتحمل شطراً من المسؤولية، لأن الانبهار يُعدُّ من الحواضن المساعدة على تناسل النجوم المزيفين. والمشاهد المتعددة حين يكون نظَّارتها عاطفيين انفعاليين تحجب الرؤية السليمة فيها، وتتاح الفرصة لكل وصولي لا يؤمن بحق الحياة الكريمة للأمة، واحسب أن للتربية دوراً مهماً في هذا، ولكنه من الفرائض الغائبة، ذلك أن التعليم يقف عند الممارسة التلقينية الحشوية، ولا يأبه ذووه بالتحليل والتقويم، وتربية الأذواق وتهذيب الأخلاق وتصفية الدين مما علق به. وشباب الأمة حين تستنزف طاقاتهم بالهتاف الأجوف، تستدرجهم الانتماءات المتصارعة، وتفوت عليهم الفرص الثمينة. والذين يتهافتون على الأضواء، ويحرصون على أن يظلوا في الذاكرة الشعبية، تتولد عندهم الطرائق، وتتناسل القضايا، بحيث لايستقر لهم قرار، فكلما انطفأت قضية، وعجزت عن تكريس حضورهم، قفزوا كالقردة إلى قضية ثانية، فهم لايريدون أن يغفل الناس عنهم ساعة واحدة. والنجومية الزائفة مرض نفسي، يحمل صاحبه على المغامرات، والتنقل من ظاهرة لأخرى، والمقوون يخدعهم التورم، وشر الإقواء مايعرض لذوي الصدارة. وعشق النجومية يهبط بالعالم والمفكر والسياسي والممثل، ذلك أنه يجس نبض الشارع، ولا يقوِّم الفكرة، ولا يثمن الحاجة، ولا يجد بداً من التعديل والتبديل في صياغة خطابه، كي يناسب الجمهور، متناسياً ما يجب. والمتمادي في تملق الجمهور يجد نفسه في حالة استسلامية لايملك معها الاستقلالية، فالجمهور هو الذي يصوغ الخطاب، ومتى حاول النجم المتصنع مواجهة الرأي العام قعدت به مثمناته الذاتية ومكتسباته الآنية، مثلما يقعد بالمعيل عياله، وقد قيل: الأولاد (مجبنة) (مبخلة) (مجهلة)، وإذا صنع الجمهور النجومية، تدخل في صناعة الخطاب، فكان النجم ك(عجل) بني إسرائيل، جسداً له خوار. وسؤال الزائر المثير ينصب على أولئك الذين يلحون بالحضور عبر وسائل الإعلام، ثم لايكونون مثيرين، ولا جذابين، ولا وقافين عند مبادئهم التي تعملقوا في ظلها، ولما لم أكن متابعاً لكثير من تحولات النجوم ولمَّا لم أكن قادراً على شق الصدور ومعرفة النوايا فإنني لست أعني أشخاصاً بأعيانهم، وعلى كل من حيزت له النجومية بحذافيرها أن يحاسب نفسه، فالمفتعلون للمواقف يسارعون في السيئات، ولا يسارعون في الخيرات. علماً أن تعدد المواقف يؤدي إلى التناقض وخلط الأوراق، ويقيني أن سوء الفهم ناشئ من خطأ التصور، فالعلماء والأدباء والمفكرون والساسة الحقيقيون يقولون ما يعتقدون، دون تفكير استدراجي للمتلقي. ومثلما نقطع بزيوف النجومية، نقطع بأن المجتمع ودود ولود، يدفع إلى مشاهدنا بالنجوم الحقيقيين الذين لايشك في صدقهم وإخلاصهم واقتدارهم إلا مدخول في فكره. وعلى الجميع من النجوم والأشياع أن يتذكروا ابتلاء السرائر، وتحصيل ما في الصدور، وختم الأفواه، وإنطاق الجلود، وقول المالك ليوم الدين: - (وقفوهم إنهم مسؤولون). |
جذور التنازع المعرفي ومحفزاته..! (1/2)
د.حسن بن فهد الهويمل الاختلاف والتدافع والتداول سنة ماضية، لا تتأتى عمارة الكون إلا بها، والبراعة والتوفيق يبدوان في تحويل ذلك كله إلى اختلاف إيجابي، يتسع للتعاذر، والدفع بالتي هي أحسن، ويحول دون التنافي والأثرة والعداوة والبغضاء، متى كان الاختلاف في إطار التنوع لا التضاد، وبحيث لا يؤدي التعاذر إلى الإيمان بمبدأ تعدد طرق الخلاص، كما يراه المفكر الفرنسي المتأسلم (روجيه جارودي)، ذلك ان قيم الدين ومتطلباته من تغيير المنكر بمستويات التغيير الثلاثة، والأطر على الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة، وإبلاغ الآية، وإسماع كلام الله ليس وجوبها مجال اجتهاد أو اختلاف، وإنما الاختلاف معها يكون حول مؤهلات الناهض، وأسلوب النهوض، والقدر الكافي من التبليغ، ومستويات التكليف. وحديثنا عن التنازع وجذوره ومحفزاته حديث شمولي، يطال الفروع من الدين ولأصول من الفن والفكر والسياسة والاجتماع، وماهو داخل ضمن المعرفة الإنسانية. ومهما حاول الإنسان توقي محفزات الاختلاف، فهو واقع فيها، لارتباطها بالعقول المختلفة والمكتسبات المتفاوتة والتصورات المتعددة والأحوال المتباينة، وحين لا يكون بدّ من الاختلاف فإن تطلعنا ألا يرقى إلى الثوابت وأصول العقائد وألا يصل الاختلاف إلى الخلاف، ويبلغا معاً مشارف الفتنة، والإسلام قد عالج أساليب التعامل مع المخالفين، ورسم طريق النجاة حين يبلغ الصدام ذروته، ويتحول إلى فتنة يكثر فيها الهرج. وحين يصل الاختلاف حد الفرقة، ويوشك على التقاء المسلمين بسيفيهما، يكون الاعتزال هو الحل الأمثل، وقد عالج الفقهاء اتقاء الفتن، وجاءت النصوص قطعية الدلالة والثبوت، ترسم للمسلم طريق النجاة، حتى ولو لم يبق إلا أن يعض المتعرض للفتنة على أصل شجرة بانتظار أمر الله. وتنازع الأنام الذي يساورني همه في هذا المبحث لا يمتد إلى تنازع العقائد والحضارات، مما يعد (خلافاً)، وإنما هو عن (الاختلاف) داخل المنظومة الفكرية الواحدة. والفرق بين (الخلاف) و(الاختلاف) أن الأول اختلاف في الطريق والمقصود، والثاني اختلاف في الطريق دون المقصود. وحين يكون (الاختلاف) ناتج الاجتهاد، ويكون الاجتهاد مشروعاً في ثلاثة من مستويات النص الأربعة، (الدلالة والثبوت) بين (القطعية والاحتمالية) يكون الاختلاف حتميا، ويكون العمل على توفير (الاجماع) من إضاعة الجهد والوقت والمال. والتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية مر بمراحل مضيئة، استطاع علماؤه ومفكروه تلافي المواجهات التدميرية، بحيث ارتدوا إلى دواخل القضايا، واشتغلوا بها، الأمر الذي مكنهم من إنجاز المعارف، والأنظمة، والقوانين، والعقود، وصياغة الفكر السياسي، والأساليب الاقتصادية، وتحرير ضوابط الفن والفكر والسلوك. ولقد استوعبوا فيوض الحضارات القديمة، وأسَّسوا بمجموع إنجازهم للحضارة الإنسانية، وسطعت شمسهم على الغرب. ونشوء العلوم والمعارف والمذاهب والآليات والآراء والمصطلحات ناتج حوار فكري إيجابي، يبحث عن الحق، ولا يفكر بالانتصار. فهذه مذاهب الفقهاء، واتجاهات المفسرين، وضوابط المحدثين، ونظريات المعرفة، وأصول المذاهب، وقواعد العلوم، شاهد عدل على حصافة الرأي ودقة الملاحظة وعمق المعرفة والدأب والمثابرة والرحلة في طلب العلم مع سلامة المقاصد وحسن النوايا والمنعطف السلبي الذي أشعل النعرات، وأذكى التعصب، وقدَّس الشخصيات، وأهمل القضايا، ودفع إلى التلاسن البذئ، ناتج ضعف معرفي واجترار عقيم لمنجز الأفذاذ من العلماء، وانقباض متخوّف، وعجز عن الاكتشاف والاختراق. وقد أفرزت بعض المراحل المنطفئة في التاريخ الإسلامي خطابا تنازعياً، أذهب الريح، واستفحل معه الفشل. ووجد فيه المتماكر الاستشراقي مجالاً للنيل من الحضارة الإسلامية، وإغراء للمستضعفين، لإعادة المناكفات جذعة، والفرح الحزبي ينصب دائماً على مفردات الاختلاف، ولا يتجه صوب بوادر الإضافات. ومع أن تعدد المناهج والآليات والرؤى والتصورات سبيل إثراء، وطريق تأصيل وتحرير، إلا أن التعصب المسنود بالعرقية، والإقليمية، والأثرة، والعقم، وخلل الفهم، وانعدام الورع وضعف الإدراك، والوقوع في مأزق المفاضلة، وصرامة الحدّيّة، وحب الهيمنة والتصدير والعجب بالرأي، حوَّل الإيجابيات إلى سلبيات، وعطل القدرات التي أفاء الله بها على عباده. والتعقب الحصيف لأشلاء المثمنات، يتجاوز الأثر إلى الجذور، والناتج إلى المحفزات، فما فات من جدل عقيم مات، ونحن أبناء لحظتنا الأبدية، والمؤمل من عقلاء الأمة السعي الحثيث لتجفيف مستنقعات الخلاف، وردم بؤر التوتر فنحن في زمن لايحتمل مزيداً من المناكفات، وفي وضع رديء لايطلب مزيداً من الاخفاقات. وعلى أهل الحل والعقد تجاوز البحث عن المسيء إلى الإساءة لتلافيها، فالأخطاء ناتج تراكم من المشاكل الممتدة مع الزمن، وليس لمتصور سليم أن يُحمِّل اللحظة الزمنية الراهنة ولا إنسانها مجمل الإخفاقات والإحباطات التي نتجرع نتائجها. فنحن ضحايا ركام من المقترفات المذهبية والسياسية والعرفية وسائر المسلمات التي شارفت على التقديس والتصنيم لما هو قائم من الأشياء والأناسي. وحين لايكون بد من الاعتراف بالتقصير والعجز، فإن علينا ألا نتخفف من المعاناة بالمشاجب التي نلقي عليها بالمعاطف الملوثة، متى كان بإمكاننا غسلُها وإعادتُها إلى طهرها ونقائها وجدتها، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بمواجهة الهزيمة بروح واثقة، وعزيمة صادقة، ومعرفة مناسبة، لكي ننهض من عثرتنا قبل إلفها واستساغتها، على شاكلة المهين الذي يسهل الهوان عليه، ومتى قبلنا الذل تحولنا إلى جرح ميت لا يحس بالألم. وفقد الإحساس موت معنوي، لا قيمة للحياة معه، والنهوض التطوعي للمتداخل مع المخالف يتطلب التوفر على (فقه الاختلاف) و(آداب الحوار) و(مسوغات الاجتهاد) ومعرفة طرائق التعامل الحضاري مع المخالفين، مع تصور الأشياء تصوراً سليماً، والتعرف على أصولها وقواعدها وضوابطها، والتمكن من آليات الحوار ومقوماته المعرفية، ورباطة الجأش. وبين أيدي المتابعين عدد كبير من الكتب التعليمية والتوعوية حول (أدب الحوار) و(فقه الاختلاف) و(شرط الأطراف) و(ضوابط الأهلية) و(أسباب الاختلاف) و(آداب الجدل والمناظرة) ومن جهل الأصول والأسباب والآداب والشروط فليس له أن يخوض معترك الجدل. وإذ نفترض أن مرد التنازع وجذوره ومحفزاته إلى نواقص عامة وخاصة: معرفية وأهلية، فإن علينا أن نلمح إليها، وأن نعمل على تلافيها، وكل من خاض مع خصومه معترك الجدل وسعى جهده للوفاق عرف ماينقص المتجادلين. ولقد وجدت من المناسب أن اتخذ مما لقيت في سفري المعرفي من أتعاب شاهداً على ما تمس الحاجة إليه، ولعل أولى الفواقر وإكسيرها فقد (المصداقية)، واختلاف (المفاهيم) وتفاوت (الأفهام) و(الضعف المعرفي) وما تستتبع هذه الجذور من جهل للواقع، ولطبيعة الأشياء، ومن غياب للمشروع، وانعدم للورع، وسوء في الأدب، وواجبنا ان نقف عند متطلبات الجدل الإيجابي، وأولها (المصداقية) وضوابط (المفاهيم) وتفاوت (الأفهام) وعلينا وقد شهدنا تدنيات في أخلاقيات الحوار أن نسعى للأطر على قول الحق، وتقريب وجهات النظر، وتربية (الأفهام) وصقلها وتدريبها وتوسيع مداركها. والمتابع للعراك في كافة المشاهد الدينية والعلمية والفكرية والأدبية يقف على خلل واضح في (المصداقية) عند كافة المختلفين، إلا من رحم ربك، وقليل ماهم. فبعض الخصوم حين تعييهم الحجة يفترون على خصومهم الكذب، وهم يعلمون، وما على المردد إلا أن يستعرض مدونات المعارك، وبخاصة (المعارك الأدبية والفكرية) التي عشناها قولاً وعملاً ومتابعة، ومتى تقراها المتابع بحيادية وعدل وإنصاف تبين له افتقار المشاهد إلى (المصداقية) وقد يتعمد البعض تحريف الكلم عن مواضعه، وتقويل الطرف الآخر ما لم يقل، أو المصير إلى التأويل الكاذب، وبخاصة حين يسعف المناوئين الابتسارُ النصي أوالانفتاحُ الدلالي. ومتى استمرأ المتجادلون الكذب، طُمست الحقائق، وتحول المتحاورون إلى هجَّائين، لايرقبون في خصومهم إلاّ ولا ذمة. ولقد لقيت في مراجعاتي وحواراتي نصباً، وفوجئت من بعض من أتوسم فيهم المصداقية والبحث عن الحق بقول كذب، أرجو ألا يكون ديدنهم، وإن كشف بعضه غيري، ولزم الكذبة الصمت، وهذا الإلباس المتعمد، يمنع المقتدر من الدخول مع مثل أولئك، مما يوفر للأدعياء أجواء مناسبة تمكنهم من تفريخ آرائهم وتصوراتهم الكاذبة الخاطئة. وحين يستمرئ النخبويون الكذب، ولايجدون في ذلك غضاضة يُنشّأ ناشئ العلماء والمفكرين على ما كان عودهم سلفهم، وحين تشيع خليقة الكذب، وتكون ممن يتوقع منهم الصدق، تصاب المشاهد العلمية والفكرية والأدبية في الصميم، وتكون الأمة كمن غص بالماء الزلال، فالذين يتوقع منهم الإسهام في تربية الأخلاق بالتعليم وبالقدوة الحسنة، ينقلبون على أعقابهم، ويكونون قدوة سيئة. وكيف يتعمد النخبويون الكذب؟ وهم يعلمون أن المسلم يكون بخيلاً، ويكون جباناً، ولكنه لايكون كذّاباً. إننا أحوج ما نكون إلى (المصداقية) في مواجهاتنا، ومتى صدقنا مع أنفسنا، ومع قبيلنا في سرنا وفي علننا، في منشطنا وفي مكرهنا، أشعنا الفضيلة، وضيقنا الخناق على دواعي التفرق، وإذا كان الحقُّ ضالةَ المؤمن فإن الغاية لاتبرر الوسيلة، والإسلام حث على العدل والصدق، والمفترون المحرفون ظالمون ومزورون، وفقد المصداقية ليست وقفاً على زمان أو مكان، وليست سمة خاصة بالأدباء وحدهم، وليست واقعة من كل الخصوم، وسأضرب مثلاً على فقد (المصداقية) بموقفي من (الحداثة) أو من (الشعر العامي) ولو شئت ضربها من خلال مواقف أخرى عند الكافة من الأدباء والمفكرين لتبدت لنا بأبشع صورها، وحين أضرب المثل بما لقيت فإنما أريد كتابة ماحدث لا من أجل المباهاة أو الادعاء، وإنما القصد الإبانة عن الموقف والدفاع عن النفس. فبعض الذين يختلفون معي حول هذه القضايا، يعرفون من خلال ما أقول لهم في كل مواجهة: انني لا أختلف حول التجديد، ولا أعترض على قراءة الآخر، ولا أرفض (المثاقفة) ولا الاستفادة من أي فكر أو فن لايصادم الثوابت، وانني أقبل المنهج والآلية متى أمكن تفريغها وعوربتها، وانني أفرق بين التحديد في الشرط الفني والبناء اللغوي والشكل الابداعي وبين مقتضيات الحداثة الفكرية، وان موقفي من الحداثة لايتجاوز انحرافها الفكري، وسقوطها الأخلاقي، وانقطاعها المعرفي، وضربها لثوابت الحضارة الإسلامية التي لاتتحقق إسلامية المسلم إلا بها، وبهذا فأنا مجدد أكثر من المجددين، وعصري أكثر من المعاصرين. ومع هذا يقول قائلهم: إنني ضد التجديد، وانني أريد الارتداد بالأمة إلى الخيمة والجمل، وبعض من لاذوا بالفرار من وضر الحداثة التي تلبسوا بها فترة من الزمن، حاولوا الالتفاف الغبي، وعادوا يقولون: - بأن حداثتهم تتسع للتجديد وحسب، وكأنهم يريدون وضع الطرف الآخر ضمن دائرة التقليد. والوثائق والمواقف والهموم والخلطة والمولاة تكشف عن المغالطة، والإحالة إلى التجديد والتقليد تحرف ضعيف. ومع علمهم بما هم عليه يظلون يكررون هذه المفاهيم الزائفة، دون أن يثنيهم إرشاد، أو يخوفهم |
جذور التنازع المعرفي ومحفزاته..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل ومصائب المشاهد المصمية ليست بمن يَلْبَسون لكل موقف لبوسه، ويقولون لنا ما يرضي حتى إذا خلوا إلى من يودون قالوا: إنا معكم. مصيبتنا في المتلقي الذي تشابهت عليه بقرات الحداثة، وخدعته الأقاويل، والتبست عليه الألاعيب، وأتاحت غفلته المعتقة لمثل أولئك التصرف البهلواني: وما انتفاع أخ الدنيا بناظرة إذا استوت عنده الأنوار والظلم لقد وقفت على تصورات ورؤى، اخذتها الدهماء بوصفها قضايا مسلمة، فالأمر عندها تقليد او تجديد، وليس حداثة فكرية منحرفة وتجديدا متزنا، ثم ان المتحدث عن «الفكر الإسلامي» والمتبني «للأدب الإسلامي» في نظرهم مدعٍ للطهر الملائكي متقمصاً الفوقية والوصاية، فيما يكون غيره في نظر ذلك المفكر المظلوم ضالاً مضلاً تابعاً. وعلم الله انني ما عهدت احداً ممن يحملون هم الدعوة، ويضطلعون بقضية الأدب الإسلامي قال بذلك، وما تصور أحد منهم أن الآخر رجس من عمل الشيطان. المفكر الإسلامي والأديب الإسلامي يشعر كلٌ منهما بواجبه حيال أمته، وحيال قضيته، وحيال عقيدته، وهو يمد غيره بما يراه حقاً وصواباً، ولا يرى فيمن حوله دونية في مكان، ولا ضعفاً في علم، ولا خللاً في فكر، ولا سوءاً في أخلاق، إلا إذا كان عنده مما هم عليه من الله برهان، والتناصح لا يشترط فيه ان يكون بين مؤمن وكافر، ولا بين ضال بيّن الضلال ومؤمن قوي الإيمان، التناصح تبادل خير بين طرفين متماثلين، ومن تصور دعاةالفكر الإسلامي سلطويين فوقيين متهمين للآخر، وعمم، ولم يخصص، فقد افترى عليهم الكذب، وفقد المصداقية التي يحب توفرها كحد ادنى للاستقامة على الحق. ومثلما احيلت الحداثة الى التجديد، ووصف مناوئوها بالماضوية والتسلطية، احيل الوقوف في وجه «العامية» ومظهرها الأهم «الشعر الشعبي» بانه منع للإبداع، وتجريم للشعراء العاميين، واستهجان بالمتذوقين له من خاصة القوم وعامتهم، وعلم الله موقفي من «الإبداع الأمي» يقف عند حد الحيلولة دون تقعيده ودراسته بآليات الفصحى والتخطي به الى محافل التعليم. ومن فعل ذلك فقد أصَّل للعامية، وشرعن للازدواج اللغوي، وأحيا النعرات اللهجية، ومكن للتزاحم بالعاميات المتعددة عند أبواب المدارس والجامعات. وحري بنا وقد انفقت الدولة الأموال الطائلة لتعليم اللغة العربية ان نساعد على حضورها في كل محفل، وان نحاصر العامية وظواهرها الإبداعية في محيطها الشفوي، وفي اوساطها العامية، بعيداً عن التدوين والدرس، وان علينا ان نتمثل ما علمنا قولاً وسلوكاً، فالعلم لا يكون حتى يتمثله المتعلم، وإذا تعلمنا لغتنا، ثم لم نستعملها في القول والكتابة كنا مبذرين مقصرين، ولغتنا ليست كاللغات، انها مرتبطة بكتابنا الذي تعبدنا الله بتلاوته وفهمه وتدبره والعمل بما فيه، ولن يتأتى ذلك مع استفحال العامية. هذا ملخص موقفي من الحداثة والعامية، غير ان الخصوم الذين لا يحترمون المصداقية يتقولون على خصومهم كل الأقاويل، وينسبون اليهم ما لم يقولوه، وعلينا ان نحمد الله على ما انعم به علينا من وحدة اللغة والعقيدة والأرض، فلسنا شيعاً يضرب بعضنا رقاب بعض، ومن واجبنا ان نتحامى الوقوع في أي فرقة: فكرية أو دينية أو عرقية او اقليمية او لهجية، وفقد المصداقية قد يتجاوز كتم العلم او تحريفه الى الافتراء والاختلاف، وذلك الدرك الأسفل من سوء الخلق وخيانة الأمانة، ولقد تعرضت طائفة من العلماء والمفكرين والأدباء الى الكذب والافتراء، ونسب اليهم ما لم يقولوا، ومع نفيهم وتكذيبهم فإن المشاهد قد لا يصل إليها قولهم بمستوى الإشاعات الكاذبة عنهم، ومن ثم يأخذ السماعون بتلك الإشاعات بوصفها حقائق ثابتة. ولو أن المتجادلين توفروا على الصدق فيما يقولونه ابتداء، وفيما يروونه عن غيرهم اتباعاً، لما بلغ بهم الجدل إلى حد التنابز بالألقاب، ولعلنا نستعيد دروس (الإفك)، وما تركه من عظات وآية (التبيُّن) وما شرعته من أسلوب في التلقي. ومثلما يقال عن (المصداقية) بوصفها خليقة طبْعِيَّة أو تطبعيَّة يقال عن اختلاف (المفاهيم) إلا أن (المصداقية) تحال إلى القيم الأخلاقية، فيما تحال (المفاهيم) إلى التصورات والرؤى المعرفية، ودواء الأولى في التربية السليمة، ودواء الثانية في التعليم الجاد. و(مفهوم) المصطلحات والظواهر والقضايا حين لا يكون كما أراده المنشئ يوقع في اللبس، وإشكالية (المفهوم) من أعقد الإشكاليات، وهي مبعث الاختلاف، وجذرُ التنازع ومحفزُه. والمصطلحات المتنامية عبر الترجمة أو التعريب أو النقل هي التي توقع في اللبس، فهي تتشكل عبر تصورات المترجمين أو المعربين أو الناقلين، الذين يلتمسون ما يقابلها في العربية، من كلمة تحمل ذات الدلالة، أو صيغة صرفية تستوعب بعض المقاصد، أو نقل يرادفه تعريف، قد لايطابق مراد المنشئ. وفوضى الترجمة والتعريب يواكبها متلقٍ يعطي مفهوماً زائداً أو ناقصاً أو مناقضاً، ويشتغل على ضوئه. ومكمن الخطورة في المصطلح الحمَّال للمتناقضات. فالجذر العربي (حدث) تعني دلالتُه الوضعية مجردَ التحديد أو جدَّةَ الحدوث، ولكن الدلالة الاصطلاحية كما يراها المنشئ الغربي، تعني أشياء أخرى، ليست من الجدة، ولا من التجديد في شيء، والمتبنون للمصطلح أوزاع، منهم الواعون لمقاصد الحداثة، كما يراها الغربيون، ومنهم الغافلون الذين لايتجاوزن بالمفهوم حد الجديد. والمفكرون الإسلاميون المتصدون للحداثة قد لايتثبتون، ومن ثم يصيبون الذين لاتتجاوز المعارف تراقيهم بجهالة، وتعدد المفاهيم يطال الجميع، وإذا اختلطت المفاهيم حول (مصطلح الحداثة) وتعدد مقتضياته فإن إشكالية مصطلح (الأدب الإسلامي) عددت مستويات الخصوم بين رافضين ومتحفظين ومتسائلين، ولم يختلف أحد منهم حول مصطلح (الأدب الجاهلي) ولا (الأدب الوجودي) ولا (الأدب الماركسي) وقد يجمع بعض الإسلاميين خصومه في سلة واحدة، وفي ذلك ظلم عظيم، فالمتحفظ والمتسائل يختلف عن الرافض الذي يستمد رفضه من رفض الحاكمية الإسلامية وإظهار الدين. واضطراب الرؤى حواضن مخصبة للتنازع المورث للعداوة والبغضاء. والحداثة الفكرية المنحرفة تخادع الخليين بتعدد المفاهيم، وأساطينها كما المنافقين، إذا واجههم النقاد الناصحون قالوا: - إننا مجددون، وإذا خلوا إلى أساطين الحداثة المنحرفة قالوا:- إنا معكم حداثيون. وقد يكون المدَّعون للحداثة لايتجاوزن بها حد التجديد، ومن ثم فإنه من الظلم ان نجعل المجددين كالمنحرفين، ومن حق المحكوم ان يقول: - ما لكم كيف تحكمون؟ ودافع الحكم الجائر مرده إلى اختلاف المفهوم باتساع الجذر لعدة دلالات، على أنه من الخطأ ان يعاند المجدد، ويصر على ان الحداثة لا تعني إلا التجديد، والقرآن الكريم منع أن نقول:- (راعنا) من الرعاية، لأنها قد تحمل بالتنوين مفهوم (الرعونة)، وإذا كان المفهوم المتعدد يوقع في اللبس، ويعرض الأبرياء للغيبة، فإن الضائعين في خطيئة الحداثة الفكرية يتقون بالتعددية سهام الحق. والناقد المنصف من يتجاوز المصطلح، ومن تبناه عن مواطأة أو عن جهل، إلى الوثائق النقدية والإبداعية، وإلى المواقف من أساطين الحداثة من مبدعين ونقاد، فالوثائق والولاء والبراء لا مجال فيها للمغالطة أو الإدعاء، والالتفاف الغبي على تعدد المفاهيم لا يغني من الحق شيئا. ولو أننا تحرينا الدقة في تحرير المفاهيم، وربطنا شاهد الوثائق بغائب المفهوم، ولم نبادر بالاتهام لكنا عادلين منصفين. ومتى فُقد العدل والإنصاف مع المخالف وقعنا في التنازع الجالب للفشل وذهاب الريح. ومتى توفرت (المصداقية) وتحرر (المفهوم) تراءت لنا جذورٌ ومحفزات أشد وأعتى، نجد ذلك في تعدد (نظريات المعرفة). وإشكالية التلقي والتأويل مع النص المفتوح أو النص الحمَّال من الإشكاليات التي لا يقل أثرها السلبي عن فقد المصداقية وتعدد المفاهيم. والحضارة الإسلامية تعرضت لهذه الإشكالية، وتولدت الملل والنحل والمذاهب من تعدد (نظريات التلقي)، ولسنا نتطلع إلى حسم هذه الإشكالية، ولكننا نود التقريب بين وجهات النظر، ومتى استوعبناها، خفت حدة التوتر، واستطعنا توقع ما سيقوله المختلفون معنا، وقد تكون الاستبانة سبيلا من سبل التقارب أو التعاذر أو الاعتزال، والمتابع للعلوم والفنون يجد ان مرد الاختلاف فيها إلى اختلاف (نظرية التلقي)، ومع مشروعية التعدد فإن بعض المذاهب بلغت بها نظرياتها المعرفية إلى حد تحريف الكلم عن مواضعه، والأشد خطورة حين يجتمع مع اختلاف (نظرية المعرفة) اختلاف (المرجعية) أو اختلاف (أصول العلم) فالمذاهب الكلامية والفقهية والفلسفية لها نظرياتها المتعددة ومرجعياتها المتنوعة وأصول معارفها المتباينة. فبعض المذاهب يركن ذووها في التلقي إلى الحدس والتذوق والكشف والرمز والإشارة، والبعض الآخر يأخذ بظاهر النص، ومن الطوائف الإسلامية من يدعي الظاهر والباطن، ويصنع تصوراً مغايراً لمعنى المعنى أو الدلالة العميقة أو الدلالة المجازية، بحيث يعطل دور اللغة، ويركن إلى دعوى العلم اللَّدنِّي، ومن المذاهب من يفوض للنص معطلاً العقل، ومنهم من يفوض للعقل معطلاً النص، ومنهم من يفوض للمصدر معطلاً العقل والنص معاً ك (للاأدرية) و(المفوضة)، وكل مذهب له آليته ومنهجه ونظرية تلقيه ومرجعيته وأصول علمه، وليست كل نظرية صادقة كل الصدق، ولا كاذبة كل الكذب، وإنما مرد الأمور إلى التغليب، وهكذا كان التشريع، وعلينا أن نستفيد من كل نظرية معرفية ونتوقى مزالقها وشطحاتها، وبخاصة حين يصاحب ذلك اختلاف المرجعية. والتنازع الناتج من تعدد نظريات التلقي، واختلاف المرجعية تنازع عقدي، قد يبلغ بالأمة حد القطيعة، وقد لا تتيح تلك النظريات فرصة الحوار المعتدل، الحوار الباحث عن الحق دون الانتصار والغلبة. والحق الخالص ضالة المؤمن، وحوار الطوائف المتناقضة قد يبرر للوسيلة المنحرفة بالغاية المدَّعى سلامتها، والإسلام لا يجعل سبيلا لتبرير الوسيلة الجائرة. وإذا تجاوزنا، (المصداقية) و(المفاهيم) و(التأويل) و(المرجعية) واجهتنا إشكالية دون ذلك، وهي تفاوت (الأفهام)، وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ندب أصحابه إلى التبليغ قائلاً: (فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع) وحين شبه ما نزل عليه بالمطر، واصفاً المتلقي بالأرض وتفاوتها في تقبل الماء، فالوعي خاصية إنسانية، يهبها الله لمن شاء من خلقه مؤمناً كان أو كافراً. وقد يؤدي الفهم السقيم إلى إذكاء حدة التنازع، فالمرسل قد لا يراعي مقتضى الحال، والمتلقي قد لا يعرف قدر نفسه، ومن ثم يتقحم على المعضلات، مثلما يهتاج المرتاع، وهو أعزل، ونزع العلم الشرعي وكثرة الجهل من أشراط الساعة، والأدعياء الذين لا يستحون يصنعون ما يشاؤون، وكم نسمع كلمة:- (نحن رجال وهم رجال) يتفوه بها غلام لايهز القناة، ولا يثنيها، وارتباك المشاهد واللغط الذي لايُبين يتأتى من هذه النوعيات المتسرعة في القول وفي الحكم، ولو قام الجدل بين العلماء المجربين لكان الاختلاف مقدوراً عليه:- (ومن البلية عذل من لا يرعوي.... عن غيه وخطاب من لا يفهم)، ومما تفتقر الساحة الثقافية والأدبية والفكرية إليه تجويد آليات المعارف وضوابطها وأصولها ومناهجها وأسبابها وآداها، فالكم المعرفي وحده غير كافٍ للتوفر على الحوار الحضاري والجدل المتزن، ومثقفو السماع، وسائر الكتبة، ينقصهم التأصيل والتحرير والتأسيس. ومتى لم يكن هناك تأصيل معرفي، وتحرير للمسائل والمصطلحات، وتأسيس قوي فإن الحالة تزيد سوءاً. إننا لكي نُحاصر التنازع، ونضّيق الخناق على الاختلاف المؤثر على وحدة الأمة وسلامتها، يجب علينا أن نأتي المشاكل من قواعدها، نَصْدُق، ونَعْدِل، ونُحرر المفاهيم، ونؤلف بين نظريات التلقي، ونوحد المرجعية، ونعي أصول العلم ومناهجه وآلياته، ونبادر إلى معالجة الضعف والهوى والاستبداد والعقم والتقليد، نربي أذواقنا، ونَصَّفي نصنا، ونرسم مناهجنا، ونحدد مشروعنا، وأهدافنا، ومكمن اختلافنا، ونثري نقدنا، ونؤدب حوارنا، ونعرف قدر أنفسنا ومبلغنا من العلم، فذلك طريق السلامة وسبيل النجاة. |
الشاعر المقل الذي صمت..!
د.حسن بن فهد الهويمل 1/ لم تكن القلة أو الكثرة في الإبداع مقياس جودة، ولا مؤشر ضعف، والشعراء المكثرون في التاريخ الأدبي قد لا يحفل بهم النقد بمثل ما يحفل بغيرهم، وحين يمر بهم الدارسون قد لايجدون في شعرهم ما يثير، وليس ضعف المكثرين قاعدة طردية، ولقد عرف من المكثرين في القديم (أبو العتاهية) و(ابن الرومي)، ومن المعاصرين (محمد حسن فقي) و(بهاء الدين الأميري) وإذ تدور حول جودة المكثرين الشكوك، فإن المقلين في معزل عن ذلك. وشعراء القصيدة الواحدة أكثر حضوراً، ومع هذا فليس للمقلين أو المكثرين ارتباط لازب في الجودة أو في الرداءة، بمعنى ان النقاد لايربطون بين الجودة والكثرة أو القلة، ولكن أصحاب القصيدة الواحدة يملؤون النقاد إعجاباً، ولقد عرفت المشاهد النقدية (الشنفرى) بلاميته و(مالك بن الريب) برثاء نفسه، ولقد شغلت (اللامية) النقاد، فيما شغلت رثائية (ابن الريب) لنفسه كافة الدارسين، والشعر يكون تزيداً أو موقفياً. وهو حين يرتبط بالمواقف يظل في انتظارها، وقد لاتأتي المواقف والتجارب بالقوة الكافية لتفجير الموهبة، ولهذا يتمنع الشاعر، أو يتمنع الشعر على الشاعر، ويروى عن بعض الشعراء الفحول قوله: - لخلع ضرس أهون عليَّ من نظم بيت. يكون ذلك في حالة التمنع. والعملية الإبداعية، أو لحظة المخاض تدخل بالراصدين لها عالم الأسطورة والخرافة. وظاهرة (شياطين الشعر) يحال إليها ما لا يمكن توقعه من روائع الإبداع، فالمتلقي حين يستمع الشعر المتميز، ينتابه شعور غريب، لايستطيع السيطرة عليه، ومن ثم يحيل إلى الشياطين وتنزلاتها، وقد فعل مشركو مكة مثل ذلك، حين سمعوا القرآن، لتصورهم ان الرسول شاعر موهوب، تتنزل عليه الشياطين. والمتذوق للشعر المتمكن من لغته وشرطه الفني ينتابه ما ينتاب العربي السليقي من إعجاب، لايعرف مصدره، ومن ثم تنطلق منه كلمة الإعجاب والإكبار ولقد سمعنا بسجدة الشعر، ومقولة أحد الخبثاء: إن للشعر مثلما للقرآن سجدة، نسب هذا القول (للفرزدق) حين أعجبه الوصف في جلاء السيول للطلول. والذوقية والانطباعية حواضن النقد، والانطباعية الجارفة تحدو إلى التفضيل الملح، حتى إذا تنازع القوم حول أفضلية شاعر على شاعر، رجعوا إلى مدركاتهم، ليلتمسوا الحجة والشاهد، ومن هنا انبثق نقد المعيار والعمود، وظهرت المناهج، وعرفت المصطلحات، ووضع للشعر نظامه وضابطه وأسباب تميزه. وكل ناقد لابد أن تكون لديه حجته حين يفضل شاعراً على شاعر، والنقاد في عناء من هذا التفضيل. فالمفضول وأنصاره يكيدون لمن فضَّل عليهم، وقد وصف (عبدالواحد لؤلؤة) وضع النقاد المحرج، فهم كالنافخين في الرماد بحثاً عن جذوة أو قبس، ومن ثم فإن نصيب الناقد ما يتطاير من ذرات تغشى العيون، وتزكم الأنوف، وغيره المستفيد. وكلما أريد مني أن أتحدث عن شاعر أو أديب أو ناقد أو مفكر في ساعة تكريم أو تأبين، تذكرت الرماد والجذوة، وقبلت قدري صابراً محتسباً، فأنا بين أشياع يودون مني المجاملة، ومستعلمين يودون مني المعرفة، وخصوم يودون مني التحامل والتجريح. وليس بمقدوري أن أكسب إلا فئة واحدة، ولن تعذرني الفئتان الباقيتان، وحتى الذين يرضون مني اليوم، سوف يسخطون مني غداً، وهكذا مصير الناقد يخلق العداوات في جيئته وذهابه، وقول الحق لايترك لصاحبه صديقاً، والناقد كالقاضي بين الخصوم، ولقد قيل لأحد القضاة بعد أن ترك القضاء: -كيف أصبحت؟ قال: - توليت القضاء وليس لي عدو، وتركته وليس لي صديق. غير أن الناقد المتمكن المحترم للمصداقية حين يقول كلمة الحق، ويمتلك آليات النقد، ويعرف جيد الشعر ورديئه، وتكون لديه ذائقة سليمة ودربة مستمرة، ينام قرير العين جذلانا. لأنه يقول كلمته ويمضي، ولايعنيه أن يرضي زيداً أو عمراً، فالمسألة تسجيل للرؤية والموقف. ومن ملك ناصية القول أو آلية النقد فإن عليه أن يقول مايريد لا مايريده الآخرون، ومن أصاخ لرغبات الآخرين، كان كالطبل، يرقب من يضربه، ليحدث صوتاً. لقد كان قدري دائماً ان أُدعى للحديث عن شاعر أو مفكر أو أديب في مناسبة التكريم أو التأبين، وقد يمثل الشاعر أو المفكر أو الأديب أمامي، ثم لا يحس أحد منهم أنه انتقل من الذاتية إلى الموضوعية، وأنه حين (يتموضع) ينفصل من ذاته ومشاعره، ويكون ازدواجياً: ذاتاً يقرؤها الآخرون بوصفها موضوعاً، وأخرى تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق. ولو أن الشعراء والأدباء والمفكرين (المتموضعين) أحسوا أنهم بالتموضع لم يعودوا كالأناسي، لأراحوا واستراحوا، ووفروا على الدارسين كلمات المجاملة والثناء الزائف، وسائر القضايا لاتتحرر بالمجاملة وتبادل الأنخاب. *** 2/ (وحديثي) عن الشاعر المجدد إلى حد التمرد والانقطاع والنثرية (عبدالرحمن بن محمد المنصور) المولود في مدينة الزلفي عام 1345 والمبارح لأرضه ودياره في زمن الطفولة سعياً وراء طلب العلم في الحجاز ثم في مصر حديث يعود بلبوس آخر. فلقد درسته قبل ربع قرن في رسالة أكاديمية، تقدمت بها إلى (كلية اللغة العربية) في (جامعة الأزهر)، وكان عنوان الرسالة (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد)، وكنت يومها صارم الحدية، لا أرى إلا الأنموذج العربي الخالص العروبة، وشاباً يتوقد حماساً وإصراراً وعناداً، ومبتدءاً ينقصه الشيء الكثير، وقلت ما قلت، ثم دفعت بالرسالة إلى المطابع على ماهي عليه من قطعيات، لا تقبل الخيارات، وخرجت إلى الناس بكل ما فيها، ووجدها المكتوون من مواقفي الأدبية فرصة للنيل من إمكانياتي والسخرية بي انتصاراً لأنفسهم، ولو أنني فعلت مع نفسي مايفعلونه معي لوقفت على ثغرات كثيرة في الرسالة لم يقفوا عليها، فالطالب المبتدئ حين يقول كلمته تظل وثيقة رصدية لمرحلة من حياته، تقف حيث هي، ولكنه لايقف، ولقد أشفقت على بؤس هؤلاء لتصورهم انني لما أزل حيث كنت قبل ثلاثين سنة، وها أنذا أعود إلى الشاعر بعد ما نلت منه ومن لداته أمثال (محمد عامر الرميح) وتأتي عودتي بعد ما تغيرت البلاد ومن عليها، وتبدلت الرؤى والتصورات، وأصبحنا غيرنا بالأمس، والذين يقرؤون رأيي فيه اليوم ورأيي فيه بالأمس سيجدون التغير والتبدل. وقد لايحسنون الظن، ولكن عليهم ان يعرفوا ان الإنسان الطلعة يعيش حيوات تتبدل ساعة بعد أخرى، ولكنه يظل على مبادئه الثابتة، ومواقفه العامة التي تحفظ قيمه وخصوصيته وهاجسه. والشاعر (عبدالرحمن المنصور) كما قلت شع نجمه شاعراً ملء السمع والبصر، ثم خبت أنواره، وطوى كشحه، واستدبر الكلمة المبدعة الجميلة، ولم أسمع منه ولا عنه إلا الأقل. وكم كنا نود لو أنه واصل عطاءه، فلقد كان من النوابغ، وممن سبقوا زمنهم في رمزيتهم وواقعيتهم وتمردهم ويأسهم وقنوطهم وضجرهم ومللهم من الحياة: (دربُنا مظلمٌ وشحته الأماني بثوب الرياء. فبدى مشرقا وهو ليل دجى. وبدا داجيا وهو شمس الضحى. دربنا مظلم). خرج من نجد طلباً للعلم، وقد تركت أحوالها المتردية إذ ذاك آثاراً مؤلمة جسدها في تأوهات شاكية باكية:- (العيشُ والمحراث والفأسُ الثليم والأرض نزرعها ويحصدها الغريم. وكآبة خرساء.. تقضمنا على مر السنين). وقصد الحجاز وتخرج في معاهدها ثم قصد مصر وتخرج في جامعاتها، ولم يعد إلى نجد يوم أن عاد يحمل المؤهل الجامعي، بل جذبته منابع النفط واستهوته مسارح الكسب والعمل، ولعله لم يشهد ما حفلت به (نجد) من رخاء واستقرار، وما أفاء الله به عليها من علم ومدنية وحضارة. وتوقفه عن الإبداع حال دون تسجيل التحولات التي مرت بها بلاده. وهو كما قلت شاعر مقل، ومجدد بادر إلى حالة من الانقطاع، بحيث تجاوز المرحلة التي عاشها، فكان كما (المتنبي) غريب الوجه واليد واللسان، فلم يحفل به المشهد الأدبي، ولم تصخ له الأذن التي ألفت الإنشاد، عاش في مصر شاباً يتلهف إلى المعرفة أدرك عصر العمالقة والمدارس الأدبية، ووعى زمن التحولات الفنية والدلالية وشهد المعارك الأدبية، وأصاخ بوعي لكل المستجدات، وسايرها بثقة واقتدار، وامتلك الجرأة على كسر عمودية الشعر متجاوزاً سوائد الفن واللغة والدلالة، وقد يكون تجاوزه الجريء الذي لانمضي معه فيه إلى نهايته سبباً مهماً من أسباب عزوفه. فالمشهد الأدبي حين لايحفل بالنوابغ تنطفئ في أعماقهم شعلة الإبداع، والذين تتاح لهم فرصة استعراض النماذج الشعرية والدراسات الأدبية التي واكبت انطلاقته المبكرة سيخرجون بانطباع جديد، قد يختلفون مع بعضهم، والاختلاف حول الشاعر أو المفكر من الظواهر الصحية، وحسناً ان يكون الشاعر مثار خلاف، فالمشاهد لاتحيا إلا بالجدل والمعارك الأدبية، والمبدعون لايكرسهم إلا الاختلاف حول اهليتهم. والأمل كبير أن يحدث هذا الكتاب التوثيقي ضجة حول الشاعر وشاعريته، فنحن أحوج ما نكون إلى استعادة شعرائنا الهاربين، وأحوج مانكون إلى المراجعات المعرفية التي تبحث عن الحق، ولا تهتم بالانتصار. لن أتحدث عن شاعرية الشاعر، ولا عن قضاياه الفنية والدلالية واللغوية فمجال ذلك متن الكتاب، والدارسون والنقاد اكتنفوه من كل جانب، وتحدثوا عن شاعريته المبكرة ومذهبه الشعري، وتأثره بشعراء مصر والشام وإضافته للتحولات الفكرية والسياسية، وتعالقه الواعي بالمستجدات، ومع اكتفائي بما يقال فإنني أود الإشارة إلى ظاهرة يمتلكها الشاعر، وهي جديرة بأن تستعاد، تلكم هي تجديده الشكلي للقصيدة، وانفتاح النص عنده، فهو قد ناهز النثرية، وأوغل في الرمزية، الأمر الذي سيجعل الناس في خلاف شديد حول مشروعية المناهزة والإيغال. وشوارد الشعراء هي التي تذكي الخلاف. قيل عنه إنه واقعي والواقعية في زمن المد الاشتراكي تحال إليه، وهي من قبل تحال إلى الواقعية الاجتماعية، وتداول الواقعية في ذلك الوقت حساس ومثير، وأحسب أن واقعيته اجتماعية، وقيل عنه أنه رمزي ورمزيته كما رمزية (محمد عامر الرميح) تتعالق مع المدرسة الرمزية الألمانية التي وجدت ملاذها في بيروت عند (البيير أديب) ومجلته (الأديب)، وقيل عنه إنه يستلهم شعر (نازك الملائكة) صاحبة المشروع العروضي الذي استبدل العمودية بالتفعيلة، مع عدم التزامه بشرطها العروضي الذي أثار حفيظة (محمد النويهي) وسيقال عنه أشياء كثيرة بعد صدور هذا الكتاب، ولكنه سيبقى شاعراً لاغبار على شاعريته. والمؤسف أنه حين عاد من بعثته أخذ بلسانه يجره إلى الصمت، مثلما أخذ موسى بلحية أخيه وبرأسه يجرهما إليه. وليته أطلق للسانه العنان، ليصدع بروائع الشعر وجميل القول. إنه شاعر خسرته المشاهد المحلية والعربية، وخسر نفسه، حين جمد الكلمة على شفتيه وهي بعد لم تأخذ وضعها الطبيعي، وما كان له أن يقسو على موهبته، فيعطلها، ولا على المشهد الشعري فيحرمه من خير كثير، وما حصل حصل، والتاريخ وحده كفيل بأن يقول الحق، فهو الحكم العدل. بقي أن نشكر الذين ذكروه بعد ما نسيه الأقربون، واستعادوه بعد ان طواه النسيان. واستعادة الرواد على أي شكل تمكين للدارسين والنقاد، كي يجربوا آلياتهم، ويعيدوا قراءة من صمت المشاهد عنهم بعدما اقترفوا جريرة الصمت الاختياري. |
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..! ( 1 )
د.حسن بن فهد الهويمل * أولاً - الحواضن: 1/1 عَهدَتْ مشاهدُ الأدب والنقد في كل العصور تناولَ الحركة الأدبية على مستوى الأشخاص أو القضايا أو الأقاليم أو الأزمنة، في سبيل الرصد التاريخي أو الفني أو الموضوعي. وممارسةُ الوصف أو التفكيك الجزئي أو المرحلي لقصد المعرفة أو التقويم تُمكّنُ من شد أواصر الأجزاء، والتوجه صوب تشكيل وحدة كلية، بعد استيعابها واحدة واحدة. وإذا كان بعض الدارسين يحبذ الشمولية، ويَحْذرُ التجزيئية، ويرى أن الأدب العربي لاتفرقه الأقاليم، ولا تشرذمه السياسة فإن البعض الآخر لايرى بأساً من الاتجاه صوب المقاطع الزمانية أو المكانية أو اللفظية أو الدلالية أو الفنية، لاستكناه جانب من جوانبه، متى كان السبرُ والجسُّ لتعميق المعرفة، والتخطي المرحلي إلى الشمولية، فدراسة المقاطع الأدبية على أي شكل، يكمل بعضها بعضا، ومن لم يستكنه الأجزاء لايتصور الكليات. وحديثي عن مقطعِ زمني في سياق الأدب العربي في المملكة العربية السعودية، ومقطعِ مكاني في سياق الأدب العربي المعاصر كافة، يُقصد منه تعميق الرؤية لجانب من جوانب الأدب العربي، ولا تُراد من وراء ذلك المفاضلةُ، ولا المفاخرةُ، ولا التجزيئيةُ، ولا التصدير. ذلك أن الأدب العربي منظومة واحدة في لغته وهمِّه وأعماقه وثقافته. وهو في المملكة حلقةٌ في سلسلة الأدب العربي المعاصر، من المحيط إلى الخليج. لا نفرق بين أحدٍ من أجزائه، وهو في المملكة لا يختلف عن أدب الأقطار العربية إلا بقدر ما تختلف مسارحه في الأوضاع السياسية والاقتصادية والدينية، وهي مختلفة ولاشك، وليس الأدب في المملكة بمعزل عن بقية الأدب العربي، وإنما هو متواصل متفاعل، ينهض بمهمته المشتركة، ويقف على ثنيته بكل اقتدار، ولا تحول بعض سماته دون الاندماج والتعالق. وحوافز هذا اللقاء ترتبط بمناسبة وطنية، أحياها الأدباء والعلماء والمفكرون في المملكة، فلقد مرَّ من عهد خادم الحرمين الشريفين عشرون عاما، حفلت بعدد من المنجزات، على مختلف الصعد، ولم يجد النخبويون من الأدباء بداً من مواكبتها بقراءة نقدية لأدب تلك الحقبة: للتصور والتقويم ورسم الخطط المستقبلية وبَعْد الفراغ من القراءة ورصد المعطيات الأدبية، ايصال النتائج إلى الإنسان العربي، ليكون على معرفة كافية بأدب جزء من الوطن العربي. و(الحركة الأدبية) في المملكة جزء من معطيات هذه الفترة. وتجسيدُ الحركة: كماً ونوعاً، ومعرفةُ توجهاتها وتحولاتها، ومدى تفاعلها مع المستجدات، لطرح ذلك كله في المشاهد العربية للتواصل والتفاعل مطلبٌ ملح. فالمشاهد العربية هي المجال الطبيعي لمنجز الأدباء. والتقدم بأدب الأقاليم يحفزه الحرص على تشكيل وحدة أدبية تجمع الشتات، وتوحد الهم، وتجانس بين الأنواع. فالوحدة المرتقبة لاتتم إلا بعد تهيئة الأجواء، وتجنيس الوحدات، لأن ذلك بعض ماتود المؤسسات السياسية تحقيقه. وأدباء العالم العربي بحاجة ماسة إلى التواصل والتعارف، وتبادل المعارف، لأن همهم مشترك، وقضيتهم واحدة. والمخلصون منهم يلتمسون أدنى الأسباب لفتح القنوات وتجسير الفجوات. ولأن أيَّ مَشهد عربي يعد جماع المشاهد ومنطلقها وعمقها الثقافي، فقد رغبت في تصوري عن مقطع من الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية عبر عقدين من ذلك العهد، وهو حقيق بالقراءة الاستكناهية، لما توفر له من ظروف مواتية. فالأمن والاستقرار والإمكانيات الاقتصادية، والخطط التنموية، والتحولات المؤسساتية، والمبادرات الإيجابية، كل ذلك أسهم في تحقيق جانب من تطلعات الأمة في ظروف عالمية عصيبة، يمس عالمنا كلُّ دخنها. ويأتي الأدب بكل فنونه في الصدارة، فلقد استطاع الأدباء في المملكة تحقيق قفزة كميّة ونوعية. 1/2 وتناول الحركة الأدبية على مدى عشرين عاماً من 1402هـ - 1422هـ لا يتأتى إلا عبر تقص للظروف والبيئات التي توفرت لهذه الحركة، ومكنتها من الأداء المتعدد والمتنوع، وحواضن الأدب تشي بملامحه، وتقصي المكونات يُسّهل طريق التصورات السليمة عن أدب أية أُمّة. والفترة المدروسة امتدادٌ لعهود سلفت، ولكل عهد سياقاته وأنساقه الخاصة التي فرضتها المتغيرات المحلية والعربية والعالمية. والأدب صدى للظروف المحيطة: محلياً وعربياً وعالمياً، والشعراء والروائيون والنقاد ضمير الأمة ولسانها ورائدها الذي لايكذب. ومع أنه من اليسير استبانة الحواضن فإنه من الصعوبة بمكان تلمس الملامح الخاصة في السياق المحلي، ومن الأصعب تلمُّسها في السياق العربي المعاصر. فالأدب العربي: زماناً ومكاناً ولغة وثقافة وحضارة من التجانس والتواشج والتداخل، بحيث يعسر تفكيك تماسكه، وأحسب أننا نبالغ لو قطعنا بإمكان الوقوف على الفوارق الجذرية، ولكننا مع هذا لا نعدم بعض الخصوصيات الحسية أو المعنوية، التي يتوفر عليها إقليمٌ دون إقليم، أو فترة دون فترة، أو مبدعٌ دون مبدع. فالخصوصيات لاتلغي وحدة الأدب العربي، كما أن الوحدة الشاملة لاتحول دون تداخل الألوان والأشكال المتناغمة، فالروضة المربعة الغنَّاء، تختلف فيها الأشكال والألوان والطعوم والروائح، وذلك سر جمالها، كما أن الإنسان القارئ يتغيربتغير المقروء، وأناسيُّ المنظومة الفكرية الواحدة يختلفون باختلاف مقروئهم، والظروف الخاصة لها دور الظروف العامة، والمتابع المدقق في حياة شاعر أو أديب، يجد أنه يتشكل من مراحل فيها بعض المتغيرات، وهذه المتغيرات لا تُخِلٌ بالوحدة الكلية لأدب الأمة، وليس من شك أن لكل مرحلة خطابها، فالمتغيرات السياسة، والتحولات الاجتماعية، والتنوعات المعرفية، تغير نبرة الخطاب واهتماماته وترتيب أولوياته. وليس هناك ثبات لازب في التناظر لا يريم، ولكن هناك أُطر عامة، وخصوصيات مندرجة تحت هذه الأطر. وتغير الاهتمامات، وتعدد الكيانات السياسية، وما تمر به الأقاليم من نجاحات أو إخفاقات، ينعكس أثر كلُ ذلك على آداب الأقاليم. والظروف الخاصة تفعل فعل الظروف العامة، ولكل أديب بيئات ثلاث: - عامة، وخاصة، وأخص، ولكل واحدة دورها الفاعل وقد يكون للبيئة الأممية الأعم دورها المضارع لما دونها من بيئات، والأمة تنتظمها بيئتان: عامة وأعم، وكلما دقت النظرة تبدت الخيوط الخفية، وهمُّنا مقتصر على الكشف والتوصيف والتعريف وقد يكون من نافلة القول الإيماء إلى بعض الملامح والخصوصيات. وقدر العالم العربي أنه كيانات سياسية، لكل كيان همومه وخياراته ومشاكله وإمكانياته وتركيبته السكانية، وله تحولاته وظروفه الخاصة والعامة، والراصدون لتحولاته سيجدون مادتهم في الإبداع القولي، فهو صدى الأحداث، يعطي أدق الملامح، ويشكل جزئيات التصور. ولما لم يكن التواصل بين أدباء العالم العربي، ولا بين آداب الأقاليم العربية قائماً على المستوى المطلوب، فإننا أحوج ما نكون إلى من يجدد هذا التواصل على أي شكل، ويلتمس الأسباب الداعية له. ومناسبات التواصل ترسخ العلاقات، وتنمي المعلومات، وتصحح المفاهيم الناقصة أو الخاطئة، وتلك بعض الحوافز التي حدت بنا إلى استغلال هذه المناسبة. 1/3 والظروف السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية في المملكة هي التي رسمت مسار الأدب، وحددت مطارح الأدباء، واستقبلت فيوض الأدب العربي والعالمي، وتفاعلت معها، واستفادت منها، واصطبغت ببعض صبغتها، ولما تكن سائر الأوضاع في معزل عن رياح التغيير العالمي، وبخاصة في الفنون والآداب. والأدب العربي في المملكة مع هذا الانفتاح والاستقبال يملك القدرة الكافية للتحكم. فالضوابط العامة قادرة على الاستقبال الواعي والانتخاب المحسوب، ولا عبرة بمن جرفته تيارات التغيير، فانسلخ من حضارته، ولا بمن غَلَّ يده، وغض بصره عن استشراف الآتي، وانكفأ على نفسه، وصار ابن تاريخه لا ابن حاضره، ذلك أن لكل وضع طرفين ووسطاً، ومع هذا لم تكن الغلبة للأطراف وإنما هي للوسطية الواعية، فالضوابط الدينيةُ والسياسيةُ والاجتماعيةُ تحول دون الاندفاع غير المحسوب، ولكنها لاتعيد القاصية إلى الجماعة، ومع الضوابط فإن الإمكانيات التواصلية قادرة على تجسير الفجوات، وتوسيع القنوات، واستدعاء المستجدات على كل الصعد العربية والعالمية. فالمشهد الثقافي في المملكة يعج بمختلف التيارات، الأمر الذي عدد الخطابات، ولأن سياسة المملكة ذات عمق تاريخي، فإن نظامها السياسي يتوارثُ ضوابطه وسماته وخصائصَه منذ الدور الأول على يد (محمد بن سعود) قبل ثلاثة قرون. وأدوار الحكم السعودي، وإن واكبت متغيرات محلية وعالمية تصطحب ذات الضوابط المستمدة من الشريعة الإسلامية والقيم العربية: تحكيماً وامتثالاً وإظهاراً. والأدب العربي في المملكة في ظل هذه الظروف، نشأ نشأة عربية خالصة، إذ لم يتواصل في بدايات تشكله بالآداب العربية، ولم ينفتح على الآداب الغربية، لعدم وجود الاستعمار التقليدي، فالظروف الدينية المعززة بالمقدسات، وبضوابط الدعوة الإصلاحية، والوضع الاقتصادي الضعيف، والموانع الجغرافية المتمثلة بالتصحر والجفاف، وتقلبات الأحوال، وتموجات التركيبة السكانية القائمة على التبدَّي والقبليةَ والترحُّل، والإمارات الإقليمية والعشائرية، كل ذلك مكَّن الأدب العربي في المملكة إبَّان بداياته من التشكل العربي التقليدي الخالص. وظل عربياً خالص العروبة، وسلفياً خالص السلفية، وضعيفاً بيّن الضعف وملتفا حول نفسه، حتى جاء الدور الثالث من أدوار الحكم السعودي على يد المغفور له (الملك عبدالعزيز) الذي أخذ بأسباب الحضارة، فكان أن مكَّن للأدب من الانفتاح. وبعد توحيد البلاد، وما تبع ذلك من استقرار سياسي، وثراء اقتصادي، وتوطين إلزامي للبادية، وتحول مؤسساتي ألغى الولاءات القبلية والإقليمية، بدأ التواصل بين الأقاليم ومع الأقطار العربية، وأسهمت الكفاءات العربية في صناعة الأدب العربي في المملكة، الأمر الذي هيأ للتلاحم الأدبي والتفاعل الايجابي في وقت مبكر. ولقد عزز الاندماج الإقليمي ومشروع التوحيد الشامل الإسراع في تعميم التعليم النظامي والتوسعُ في عمليات الابتعاث إلى مصر، واستقدام المدرسين، والعلماء والكفاءات: الإعلامية والصحفية والسياسية، وسد الحاجة من المقتدرين من أبناء مصر والشام والعراق، وفي ظل هذه الظروف أعاد الأدب تشكيل نفسه مصطحباً ضوابطه العربية والإسلامية. وفي العشرينية كانت المؤسسات العلمية والأدبية والإعلامية في أوج نضجها وأدائها واستكمال آلياتها، فكانت تلك الفترة بما هيئ لها من ظروف مواتية فترة استثنائية على كل المستويات. ولعل الأحداث الجسام التي مرت بالوطن العربي أسهمت في تنوع الأداء وأصالته، فالمواقف الحساسة الضاغطة، والأحداث المصيرية، تفجر المواهب، وتهيئ المتلقي للتفاعل الإيجابي. والأدب العربي في المملكة لم يكن في معزل عن المشاهد العربية، منذ التوحيد إلى الانطلاق، ولكن تواصله عفوي غير منتظم وغير متصل. وإذا كان عمر الأدب العربي في المملكة قصيراً إلى جانب أعمار الآداب العربية المعاصرة في حواضر العالم الإسلامي: دمشق والقاهرة وبغداد فإن إمكانياته في إقليم الحجاز وظروفه المواتية فيما بعد مكنته من اللحاق بتلك الآداب، والوقوف إلى جانبها، والنهوض بما نهضت به، من إمتاع واستمالة وإقناع وإفادة ودفاع عن قضايا الأمة العربية والإسلامية، مع استكمال واع لمقومات الآداب الحية. وهذا التميز والحضور الفاعل، والتنوع، والأخذ بالمستجدات، حفز كبار الأدباء والنقاد في الوطن العربي على استدعائه والحديث عنه، في وقت مبكر، يقدم هؤلاء عميد الأدب العربي الدكتور (طه حسين)، ومن بعده (محمد حسين هيكل)، و(العقاد) و(مندور) وسائرُ الدارسين الأكاديميين، الذين موضعوا مفرداته وشخصياته، لتكون مادة ثرة للرسائل العلمية وبحوث الترقية. ولقد نفله الأدباء والنقاد من كافة أرجاء الوطن العربي بكتب وبحوث ومقالات، تقصَّيْتُ عناوينها ومسمياتها مع اثنين من زملائي في كتاب (الأدب السعودي بأقلام الدارسين العرب). |
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..!« 2»
د. حسن بن فهد الهويمل 1/2 ولأن حديثنا عن (الأدب العربي في المملكة) مقتصر على (العشرينية). فإنني سأضرب صفحاً عن تقصي البدايات، وعن مرحلتي الريادة والتأسيس، تمهيداً للدخول في صلب الموضوع، وسوف يكون تركيزي على (مرحلة الانطلاق)، التي بدأت بوادرها في العقدين الأول والثاني من القرن الخامس عشر، إذ هما مشمول (العشرينية)، على أن ذلك يستدعي بعض الاستطرادات والنظر في الظروف المحيطة. والناقد التكويني يتقصى مخرّجات الأدب ومشكّلاته وحواضنه، ليسهل تفهُّمُ بنيته الداخلية واستكناهُ خصوصيته، وتصورُ حجم وجوده. فالأدب تنسجُ لحمتُه وسداه المعطياتُ البيئيةُ والظروف الآنية: المؤثرة والمحركة والموجهة. و(العشرينية) استقبلت نتائج الخطط التنموية الأولى، وعاشت ذروة الطفرة الاقتصادية، التي اجتاحت المملكة بفيوضٍ من الإمكانات التي قلبت كل الموازين، وغيرت كل التوقعات. وكان أن تمخضت الطفرة عن مؤسسات علمية وأدبية وإعلامية، أسهمت في تنشيط الحركة الأدبية، وفي إحداث متغيرات جذرية في توجهاتها. ففي تلك الفترة عادت طائفة من المبتعثين إلى أوروبا وأمريكا، تحمل المؤهلات العالية في الأدب والنقد ومناهج اللغة، وكان لانتشار هؤلاء في الجامعات والمؤسسات أثره البالغ في إشاعة المذاهب والآليات النقدية والأدبية الجديدة، بحيث راوحت بين السلب والإيجاب، إضافة إلى ما أحدثته من ارتباك واضح، وهي إلى الإيجاب أقرب. وليس أدل على ذلك من تتابع التيارات والتيارات المضادة، ك (الحداثة) بكل اتجاهاتها وبعدياتها، والمناهج (الألسنية) بكل تحولاتها وتنوعاتها و(الأدب الإسلامي ونقده) و(المحافظة والتجديد)، وإثارة المعارك الأدبية، وقيام حوار متعدد الاهتمامات بين أنصار الجديد والقديم، وبين المجددين والحداثيين، وبين الآخذين بآليات النقد البنيوي المعُلِي لشأن اللغة، والآخذين بآليات ومناهج نقدية تعلي من شأن الجماليات أو الدلالات، والمستعيدين لجذور النظريات التراثية، والنافين لها، وفيما بين هؤلاء وأولئك نسلت شرذمة قليلة استخفت بالموروث وامتعضت منه. وهذه المعارك الأدبية والنقدية التي تبدت بكل وضوح في هذين العقدين تطلبت خلفية ثقافية ورصيداً معرفياً، لتحفظ التوازن، وتحققَ سنة التدافع والتداول، وتُمكن كل طائفة من حماية ما تنتمي إليه من مذاهب وأفكار. واحتدام المشاعر والمشاهد مؤشر إيجابي، أسهم في تحريك الركود، وحفز ذوي المذاهب على الارتداد إلى مذاهبهم لتطوير آلياتها، وتحرير مسائلها، وتكريس حضورها في المشهد الأدبي. والجدل الذي أحدثه الانفتاح، تجاوز بالأدب وفنونه قاعات الدرس وأروقة الجامعات إلى مشاهد الأدب وقنوات الإعلام ومنافذ التأليف والنشر والمؤسسات الثقافية، وأتاح فرص التواصل مع الأشباه والنظائر من الأناسي والظواهر والقضايا والمذاهب في كافة المشاهد العربية. 2/2 هذه المخاضات تطلبت مؤسسات إضافية لاستيعاب هذه المعارك، كان من بينها فكرة (الأندية الأدبية) التي بدت في وقت سابق، ولكنها كانت إذ ذاك محدودة ومتواضعة. وفي (العشرينية)، أخذت وضعها المتميز، ووعت رسالتها، وتوسعت اهتماماتها، وتقاطر تأسيسها في حواضر المدن، ودُعمت من الدولة بمساعدات سخية، مكنتها من طبع الكتب، وتنفيذ المحاضرات، وعقد الندوات، وتنويع الأمسيات، وإقامة معارض الكتاب، وحضور المهرجانات، واحتضان الناشئة، وتشجيع الموهوبين منهم. ولقد هيئت في كل ناد مكتبةٌ عامرةٌ بالكتب مكتظةٌ بالرواد، فيها صالات للمطالعة، إضافة إلى أن لكل ناد دورية أو أكثر، محكمة وغيرَ محكمة، منها ما يختص بالتراث، ومنها ما يهتم بترجمة الأعمال الإبداعية والنقدية العالمية، ومنها ما هو مُعتن بالأعمال النقدية الحديثة: تنظيراً وتطبيقاً. ويأتي (نادي جدة الثقافي) في مقدمة الأندية في إصدار الدوريات المتنوعة والاحتفاء بالمستجدات المصطلحية: كالنصوصية، والتناص، والبنيوية والتفكيكية وتحولات ذلك كله. وسلبياتُ هذا الاحتفاء -إن كان ثمة سلبيات - متمثلةٌ بالمندفعين دون تأصيل معرفي وبالمندسين دون فهمٍ للمقاصد والمقتضيات، وبالمستبدلين دون انتقاء، وبالمستخفين بالتراث دون تبرير أو تحديد. ولا تخلص أيُّ حركةٍ بهذه القوة والشمولية من سلبيات، والمشاهد العربية كافة لاتخلو من فئات رضيت بأن تكون صدى لما يدور في المشاهد العالمية. 3/2 وفي العشرينية تقاطرت مبادرات أهل الدثور من رجال الأعمال وكبار الشخصيات ممن لهم روابطهم بالفكر والأدب بافتتاح (الصوالين الأدبية) واستقطاب الأدباء والمفكرين والمحاضرين لإحياء الأمسيات والمحاضرات، وتكريم الرواد والمتميزين من الأدباء والمبدعين، وتداول الرأي حول الظواهر الأدبية والفكرية، ففي حواضر المملكة (أحاديات) و(اثنينيات) و(ثلوثيات) و(أربعائيات) و(خميسيات) تغطي أيام الأسبوع، وتُذكّر بصالونات (العقاد)، و(مي زيادة) في الحصر الحديث، ومجالس (سكينة بنتِ الحسين) ودواوين الأمراء والكبراءِ ومجالس العلماء و(مجالس الأدب العربي في الأندلس) ومن قبل هذا (أسواق العرب) وما أنجزته من علم وأدب. ففي هذه (الصالونات) يُكرَّمُ الأدباءُ، وتنفذُ الندوات والأمسيات والمحاضرات. وتقوم (اثنينية الخوجة) في (جدة) - على سبيل المثال - بطباعة الأعمال الأدبية والإبداعية، ورصد ما ينفذ في كل لقاء، وطباعته وتوزيعه، وقد صدر عن (الاثنينية) أعمالٌ شعرية وروائية ودراسية. وبعد وفاة العلامة (حمد الجاسر) تحولت مشاريعه العلمية وندوته (يوم الخميس) بدعم من الدولة إلى (مؤسسة ثقافية) لها مشاريعها العلمية، ومجلتها المتخصصة بجغرافية الجزيرة وتاريخها، وقد شُكل للمؤسسة مجلسٌ إداري من العلماء والأدباء، ودعمت مادياً ومعنوياً من الدولة ومن ذوي اليسار، ولما تزل تمارس عملها العلمي والأدبي. وفي ذلك إثراء للحركة الأدبية في البلاد. وفي تلك الفترة اتجهت الجامعات الثماني في المملكة إلى تأسيس جمعيات جغرافية وأدبية ولغوية وفقهية، وشُكلت لكل جمعية مجالس إدارة، ووضعت لها لوائح تنظيمية، ومصادرُ تمويل، وباشرت عملها تأليفاً وتحقيقاً وطباعة، مع ممارسة الأنشطة المنبرية. كما منح بعض الأدباء والعلماء امتياز إصدار مجلات محكمة تختص بجغرافية المناطق وتاريخها وآدابها، ومعتمدة فيما تنشر على التخصصية والتحكيم. ولكل مؤسسة أو وزارة إصداراتها: البحثية والدعائية. 4/2 وإلى جانب (الأندية) و(الصالونات) و(الجمعيات) و(الدوريات) قامت مكتبات علمية وأدبية، تمارس أنشطة ثقافية، وتصدر مجلات أدبية محكمة. تقْدمُ ذلك (مكتبة الملك فهد الوطنية) بما هيئ لها من إمكانات، وبما أنيط فيها من مسؤوليات، وبما أنجزته من أعمال و(مكتبة الملك عبدالعزيز) التي أنشأها ولي العهد، وتعهد بتمويلها، والتي نفذت على أحدث الطرق، وزودت بأحدث الأجهزة، ومكنت من التوسع في المهمات، فكانت بحق مؤسسة ثقافية، تعج بفنون القول. وهذه المكتبة المؤسساتية تصدر (مجلة أدبية)، وتنفذ ندوات عالمية، تستضيف لها مئات الأدباء والمفكرين من أنحاء العالم، وتطبع كتباً وملفات، وتنتج برامج (تلفازية)، وتتوفر على آخر الإصدارات من الكتب، تجهز قاعات المطالعة، وتوفر الأجهزة الحديثة، إضافة إلى ماحظيت به المؤسسات القائمة من قبل من تطوير ودعم وتحديث وسائل، ف (دارة الملك عبدالعزيز) من معالم البلاد العلمية والثقافية لها مجلتها ومطبوعاتها وإسهاماتها المتعددة. و(مؤسسة الملك فيصل الخيرية) وما يتبعها من (مركز ثقافي) و(جائزة عالمية) و(مجلة محكمة) و(مكتبة حديثة) و(مركز معلومات) وما ينفذ فيها من ندوات ومحاضرات. و(المهرجان الوطني للتراث والثقافة) وهو تظاهرة ثقافية تراثية، يقام كل عام، وتنفذ على متنه وفي هوامشه ندوات رئيسة، تكون لها محاورها، وبحوثها، وأخرى ثانوية، إضافة إلى محاضرات وأماسٍ متعددة الاهتمامات، وطبع كتب، واستضافة رجالات الفكر والأدب و(جمعية الثقافة والفنون) و(مؤسسة سلطان الخيرية) وما تقوم به من مبادرات علمية وثقافية، و(المكتبات) و(دور النشر) و(المؤسسات الخيرية) لكبار الأثرياء، كل ذلك يشكل حواضن أدبية. هذه المؤسسات حظيت بدعم مادي ومعنوي من قبل الدولة، مكنتها من تنويع اهتماماتها. وفي سبيل تنشيط الحركة الأدبية اتيحت فرص (لعقد مؤتمر الأدباء) السعوديين، بعد توقف دام ربع قرن، وجاءت نتائجه لصالح الحركة الأدبية، فعلى هامشه نفذت (ندوة أدبية) متخصصة، وطبعت أعمالها من دراسات وبُحوث في (أربعة مجلدات)، كذلك أعيدت صياغة علمية (لمؤتمر رؤساء الأندية الأدبية)،بحيث يكون على هامش كل مؤتمر (ندوة أدبية)، حول قضية أدبية، تنفذ أعمالها، وتطبع فعالياتها. والاحتفالية المتعددة الاهتمامات التي جاءت (بمناسبة مرور مئة عام) على تأسيس المملكة العربية السعودية، نفذ على هامشها ندوة كبرى قدمت فيها مئات البحوث، ودعي لها آلاف الأدباء والمفكرين من أنحاء الوطن العربي والإسلامي والعالمي، وطبعت أعمالها، وقامت كافة المؤسسات العلمية والأدبية والثقافية والإعلامية بتنفيذ الندوات والأمسيات وطباعة عشرات الكتب: ابتداء أو إعادة، وكان النصيب الأوفى للدراسات الأدبية والإبداعات، وتلتها (العشرينية) التي تأتي هذه المحاضرة من مفرداتها، وفي سبيل دعم الروابط والمؤسسات وافق المقام السامي على فتح (مكتب إقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية) وخصص له إعانة سنوية، وأمر بشراء مقر مناسب له، ومن مهمات هذا المكتب تنفيذ لقاء شهري، وإصدار مجلة شهرية، وطبع الكتب الأدبية. ولما تزل إسهامات كبار الشخصيات في المملكة تنقب عن مجالات العطاء الفكري والأدبي والثقافي. ولعل آخر مشروع عالمي (مؤسسة الفكر العربي) التي شملت العالم العربي، وسوف تنهض بمهمات فكرية وأدبية، وتقدم مشروعاً عربياً متزناً، يمتلك آلية الحوار الحضاري. وتميز عهد خادم الحرمين الشريفين بتعزيز مشروع الموسوعات العلمية والثقافية والأدبية، وقد أُنجز في عهده ثلاثة مشروعات موسوعية: أ - الموسوعة العربية العالمية. التي صدرت عن (مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز الخيرية). التي استقطب لإنجازها آلاف المفكرين، ونيفت على سبعة عشر ألف صفحة، وثلاثة وعشرين ألف عنوان، ومائة وثلاثين ألف مادة بحثية، وجاءت في (ثلاثين مجلداً). ب - موسوعة مكارم الأخلاق التي مولها الأمير مشعل بن عبدالعزيز، وأنجزها فريق أكاديمي، وجاءت في أكثر من (ثلاثة وخمسين مجلداً) شملت مكارم الأخلاق في الشعر والتراث العربي. ج - موسوعة الأدب السعودي في (ثمانية مجلدات) ممولة من سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز. تلك بعض حواضن الأدب العربي في المملكة العربية السعودية، وبعض المنجزات التجهيزية، فماذا عن ملامح الأدب العربي في المملكة؟ |
موسوعة الأدب السعودي وتداعيات الصدور..!
د. حسن بن فهد الهويمل من إشكاليات المشهد الأدبي: محلياً وغربياً عقدة الملائكية الخالصة الخيرية، أو الشيطانية الخالصة الشرية، فيما يقوم الفراغ الهوائي بين القطبين بحيث لا ينوس فيه إنس ولا جان. والحدية الصارمة تعد إشكالية المشاكل في كل المشاهد: ا لسياسية والفكرية والأدبية، وعليها وعلى الثنائية تُحْمل دواعي الصراع والصدام، والمتحسس عن الوسطية، والمتلمس للمخارج يعيش غربة الوجه واليد واللسان. والمسدِّدون والمقاربون كالغرباء الذين يُصْلِحون ما أفسد الناس، وحاجتنا إلى أخلاقيات الحوار أشد من جاجتنا إلى مراجعة المنجزات وتسديدها. والجدل المحتدم المتداعي إثر صدور الموسوعة ينذر بسوء، ولا يبشر بخير، وأحسب أن الأطراف تمارس تصعيد التنافي في حين أنه بالإمكان الخلوص من وهدة الاتهامات إلى صعيد المراجعات، والمؤلم أن ذروة الصعود إلى الهاوية تولى كبرها أستاذان جامعيان، ما كان لأحدهما أن يبلغ به الغضب مبلغه، ولا أن ينزلق في مهاوي الاتهام الشخصي. وإذا كان العمل الموسوعي مبادرة حضارية وحاجة ضرورية فإن حماية المشروع ونقده لا يكون سوقياً، إذ لابد من تكافؤ الفعل ورد الفعل. والموسوعة كالمولود امتلك حتمية الوجود بمجرد ولادته الطبيعية أو المبتسرة، ولم يعد بالإمكان دسه في التراب، لقد قضي الأمر الذي فيه يتجادل المتجادلون، وسبق السيف العذل، و أصبحت الموسوعة بين أيدي القراء في الداخل والخارج رضي من رضي وسخط من سخط. وحين لا يكون بالإمكان رد الدر إلى الضرع ولا إيلاج الجمل في سم الخياط فإن من اللجاجة الاشتغال بالمحال والعزوف عن الممكن، ولم يبق إلا قراءة المشروع قراءة علمية منهجية حيادية متزنة مدعومة بالأدلة والشواهد، دون اتهام أو تخوين، فالفريق الذي أنجز العمل حريص على ألا يقول إلا الحق، ولكن الحرص لا ينجي من الأخطاء، والمسألة في النهاية تعود إلى التغليب، فإذا غلبت الإخفاقات النجاحات فشل المشروع، وإذا فاقت النجاحات الإخفاقات ملك العمل مشروعيته، ومهما اختلفنا أو تحفظنا على المنهج أو الآلية أو المادة أو المنفذين فإن النجاحات تفوق الإخفاقات. ومن حق الفريق العلمي علينا أن نسدده ونبادله النصيحة، وعليه ألا تأخذه العزة بالإثم، وألا يتمترس خلف أي سمة. ويبقى الخلاف والحالة تلك حول هنات لا يخلو منها أي مشروع فكل قول أو فعل لغير المعصوم يؤخذ منه ويرد، ولا يمكن التسليم المطلق لأي منجز، وإذا لم يجعل الله لأحد من قبل رسوله ولا من بعده الخلد فإنه لا يكون لأحد التسامي فوق المساءلة والنقد، وليس لأحد أن يمنح نفسه أو قبيله العصمة أو العظمة، ومصائب المشاهد التسامي بالبعض إلى سدة العصمة، بحيث يكون المساس بهذا البعض مساساً بالمقدس، ولو عرف كل واحد منا قدر نفسه لما هدِّمت شوامخ ولا شمخت عوائل، وداء المشهد التشايل والتمظهر وتعالي القتام والشللية. وتأتي الموسوعة ذِبْح المشهد، يقول فيها وعنها محق ومبطل، وناقم وعالم، ومجتهد ومصيب، ومخطئ ومتقحم لا في العير ولا في النفير، ومن ألف فقد استهدف. وعلينا توطين الأنفس، وتقبل أقدارنا بالتسليم والرضى، وكنا نتوقع أن تستقبل الموسوعة بممارسة نقدية متمكنة، هادئة مطمئنة، تحسن الظن، وتلتمس الأعذار، وتشير إلى مواطن النقص، ولا تتهم، وتقف حيث تكون القضايا، ولا تمتد إلى الأشخاص، ولا إلى النوايا، وتتعاظم المصيبة حين لا يتمخض القدح والمدح عن إيجابيات، وذلك ما أخشاه وما نعانيه، فالمشهد يعيش حالة من التوتر وتبادل الاتهامات، وحاجتنا إلى حكيم حليم يورد القضية موارد النجاة لا موارد الهلكة، والذين استقبلوا المشروع نقموا من ذويه: سريتهم وقلَّتهم ونوعيتهم وأثرتهم ومنهجيتهم وعدم تقصيهم مع ترهل الموسوعة. والمعتورون تختلف نوازعهم ومقاصدهم ومستوياتهم المعرفية، ويتراوحون بين معمم ومخصص، ومُهْمَل له حق المساءلة ومبخوس له حق المطالبة، ومُبْتًسرٌ له حق المناشدة. وطبعي وقد امتدت الموسوعة إلى الشاهد والغائب والمقيم والظاعن والشاعر والناثر و الناقد والكاتب أن يكون لكل واحد رأيه فيما قيل عنه أو نقل منه، وجميل لو أن المشتغلين بالموسوعة استشاروا واستخاروا واستعانوا، ولم تكن استعانتهم على قضاء حوائجهم بالكتمان، وأجمل من هذا لو أنها استقبلت بنقد موضوعي معرفي لا يمس الأهلية ولا الكفاءة ولا الأمانة، فالذين أُهْملوا ولهم حق الحضور، من حقهم العتب حتى يرضوا، والذين بُخِسوا لهم حق المساءلة حتى يستوفوا حقهم، ومن ليس لهم ولا عليهم أمثالي ولكنهم يودون منهجية أحكم وآلية أسلم وفريق عمل أكثر دربة وتخصصاً يجب أن يُسمع قولهم، ويؤخذ بأحسنه، فما نريد إلا الإصلاح ولا عاصم إلا الله. ومن المقت الكبير أن نطالب بسماع الحق ثم لا نسمعه، أو ننفي العصمة عن الغير وندعيها لأنفسنا، فما نقوله عُرضة للأخذ والرد، وما نحن إلا من غزية، وفريق العمل الذي نهض بالمهمة أهل لها ولا شك، ولكن الأهلية لا تعصم من الخطأ، ولا تعني الأفضلية، وفوق كل ذي علم عليم. والموسوعة في طبعتها الأولى بحاجة إلى خطوات إيجابية ومبادرة واثقة: الخطوة الأولى: إصدار ملحق تُستدرك فيه الأخطاء الواضحة، ويضم فيه من فات على الفريق من مبدعين ونقاد وكتاب. الخطوة الثانية: تشكيل فريق عمل جديد ممن سبق اشتراكهم ومن غيرهم تراعى فيه المؤهلات التالية: أ. التخصصية العامة: بحيث يكون الفريق من المتخصصين في الأدب الحديث. ب. التخصصية الخاصة: بحيث يكون الفريق من المتخصصين في الأدب العربي في المملكة العربية السعودية. ج. الممارسة: بحيث يكون فريق العمل ممن يعيش حضوراً فاعلاً ومتميزاً في الدراسات والموسوعات. د. التنوع: بحيث يكون الفريق متوفراً على متخصصين في النقد ومناهجه القديمة والحديثة، والتاريخ الأدبي والدراسات. هـ. التحكيم: بحيث يكون هناك فريق محكمين لمراجعة المواد من حيث الموضوع والخطة والمنهج والآلة والشمول والتركيز. و. الإشراف: بحيث يكون هناك فريق إشراف متخصص بالمنهج، والمادة. ز. التصحيح: بحيث يكون هناك فريق عمل لتصحيح المادة لغوياً ونحوياً وصرفياً وأسلوبياً وشكلياً، وقبل ذلك لابد من وضع خطة عمل، فالمشروع نسل إلينا على حين غفلة. ذلك أن العمل الموسوعي عمل معرفي توثيقي مرجعي جماعي نيابي، وليس جهداً فردياً، والمتلقي العربي يعد الموسوعة وثيقة لا معقب لها، لأن الموسوعية كالمعجمية عمل مسؤول ومؤسساتي، ومن ثم فإن احتمال الخطأ فيه نادر، وفي أضيق نطاق. ومع كل ما سبق فإن الموسوعة مبادرة جيدة تستحق منا الاحتفاء والنقد الإيجابي وقراءة الإنجاز بمنهجية وعلمية تحمل على التسديد والمقاربة، ولا يجوز التعميم ولا التقليل من قيمتها، ومهما اختلفنا مع المنهج أو الآلية أو المادة أو أهلية أحد أفراد الفريق العلمي فإن الود باقٍ، وبإمكان المشروع في طبعته الثانية أن يستدرك الفوات، وكل الموسوعات والمعاجم مرت بمثل ما ستمر به الموسوعة، وعلينا أن نوازن بين الطبعة الأولى «لأعلام الزركلي» مثلاً وما لحق من طبعات، وأن ننظر إلى «دليل الناقد الأدبي» للأخوين «الرويلي والبازعي» في طبعته الأولى والثالثة، وأن نستدعي أي مشروع معجمي أو موسوعي في طبعته الأولى وطبعاته اللاحقة. وأحسب أن مشروع الموسوعة عمل حضاري، يجب أن نعضده، وأن يوضع له مركز معلومات، ويؤلف له فريق عمل مساند لفريقه الأصلي، يتلقى الملاحظات والإضافات، وأن تحال أجزاؤه العشرة إلى طائفة من المتخصصين في الأدب الحديث ونقده، وفي الأدب السعودي وأنواعه، لإبداء ملاحظاتهم على كافة الجوانب تمهيداً لطبعة جديدة منقحة، وإذ بادر «نادي الرياض الأدبي» مشكوراً بالاحتفاء بالموسوعة وذويها فإن عليه أن يكون مثابة لفريق العمل وللمستدركات والإضافات، وليس من مصلحة الحركة الأدبية في المملكة أن يجهض المشروع، ولا أن تنزع الثقة منه، ولا أن يظل كما هو، وفي الإمكان تلافي التقصير، وليس من المصلحة أن يظل دُوْلةً بين ذويه الساخطين أو الراضين لا يتجاوز تراقي البلاد. يجب أن يكون رسولنا إلى آفاق الوطن العربي، فكم تجرعنا مرارة العزلة وجهل الآخرين بنا. والموسوعة بطبعتها المنقحة المرضية لكل الأطراف خير من يصلنا بالمشاهد العربية، وعلى المتخصصين المبادرة إلى قراءة الموسوعة، وتدوين الملاحظات المتعلقة بالمنهج أو بالموضوع بأسلوب علمي بعيد عن التهوين أو الاتهام، وعلى الفريق أن يتقبل النقد برحابة صدر الواثق وثقة العالم، فذلك طريق النجاح. |
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..!
د. حسن بن فهد الهويمل 2/2 الملامح: 1/3 أوجزنا الحديث عن «الحواضن» بوصفها مؤشرات ايجابية، على المستويين الكمي والكيفي، وعلى التحول المستمر، اما عن «الملامح» فإن شأن الأدب العربي كشأن الآداب العالمية، لا يستقر شيء منها على حال، ولا يمتلك لون من ألوان الأدب مكان الصدارة، بحيث يبقى في مركز الأهمية، ثم لا يبادله مكانه لون آخر، وتحولات الادب العربي الحديث: محلياً وعربياً كسرت كل الضوابط، وغيرت كل المعايير، ولما تكن تحولاته في العصر العباسي على يد «بشار» و«أبي نواس» و«أبي تمام» مثل تحولاته على يد «أدونيس» و«أمل دنقل» و«أنس الحاج»، ذلك أن التحولات العباسية لا يستبينها الا الخبراء المتمرسون، وتحولات الابداع السردي والرؤى النقدية، ليست بأقل من التحولات الشعرية، حتى لقد بلغ الأدب بسائر فنونه حد الانقطاع او كاد، وهو ما يدعو له نقاد الحداثة ومبدعوها، ثم ان الابداع القولي في العصر الحديث لم يكن خالصا للشعر، وانما كان مجاله: السردية والشعرية. وسرديات العصر الحديث تختلف عن سرديات ما سلف، ولما كانت الصدارة منذ القرون الأولى حتى العصر الحديث للشعر، فقد همش سلطانه كل فنون القول، وبطأ بها، وبقي على ما كان عليه من «بناء» و«شكل» و«صور» و«أغراض» منذ «امرىء القيس» ومن لحق به الى العصر الحديث، مما استطاع معه الراصدون والمنظرون ضبط ايقاعه، فكان اكتشاف بحوره ومعياره وعموديته دليلاً على الثبات والنمطية. ولما ان جاء البشير بطلائع الاستغراب، وسع العصر الحديث كل الخطابات، واتصل العالم العربي بحضارة الغرب، ينهل ويعل من رفدها المحمول على أجنحة الاستعمار ومناديبه، والمستشرقين وعضدهم، والمبشرين والمبتعثين والمترجمين. وبلغت الهيمنة والاستغواء بين المستغربين حد التدافع والاستماتة، حتى لقد نهضوا بالنيابة عن كل أولئك في «غربنة» الآداب: القولية والسلوكية وظلت بقية من خيرة القوم، تتفاعل مع المستجدات بندية، تأخذ ما يفيد، وتنفي ما لا يستجيب للحاجة، ومالا ينسجم مع الذائقة، وما لا يوائم فطرة الأمة التي فطرها الله عليها، ووقعت طائفة من ناشئة الفتيان والفتيات في النثرية والغموض والانقطاع، باسم التجديد وحرية التعبير، وبقيت طوائف اخرى على ما كان عودهم السلف: مقلدين او محافظين، واوغل فئام من المتعلمنين في بوادر المدنية الغربية والشرقية من دون رفق، ولم يمن الأدب في مرحلة الانطلاق في معزل عن دخن ذلك. وعلى كل مستويات التلقي تغيرت دولة الشعر، وقامت دولة السرد، تقرض سلطان الشعر، ونهضت الى جانب السرديات المستجدات: الشكلية والدلالية واللغوية، تبدل لحمة الشعر، حتى لكأنه غير الشعر الذي عرفه الأقدمون، والتحولات: الفنية والدلالية واللغوية، ومجيء الابداع السردي بهذه القوة، كاد ذلك كله يفصل الادب العربي عن جذوره، وبخاصة حين علا كعب السرديات، الى الحد الذي أطلقت معه مقولة: «زمن الرواية» وتحول نقاد الشعر الى النثر، فكان الزمن: زمن الناقد الروائي، والمبدع الروائي، والقارىء السردي، وفوق ذلك كله جاء «الابداع الأمي» يسد خلالا كان يسدها الشعر الفصيح، ولو كانت المنافسة للشعر قصرا على الرواية لقاسمها المواقع، وشاطرها الاهمية، ولكنها منافسات متعددة، قلبت موازين الشكل الشعري، وأحلت السرديات والعاميات محله، ونهضت وسائل الاعلام بما كان ينهض به الشعر. هذه البدائل والمتغيرات طالت الظاعن والمقيم من أدباء العالم العربي وآدابه، واعادت رسم ملامح الأدب العربي في كل بقاعه، بما فيه الأدب العربي في المملكة، وبخاصة في «مرحلة الانطلاق» التي وسعتها «العشرينية» بوصفها ناتج التجارب السابقة، ومثلما فعلت المستجدات فعلها في سائر الآداب العربية من متغيرات في: اللغة والشكل والدلالة والانواع، هبت رياحها على شعراء المملكة وروائييها ونقادها، فكانت لهم اشكالياتهم ومشاكلهم واهتماماتهم، وتحولت معاركهم من سوح القديم والجديد الى مسارح المعاصرة والحداثة. وإذا كانت الخصوصية من قبل تُلتمس في الفن والشكل واللغة والدلالة وسائر الأنواع فإنها الآن لا تكاد ترى الا في بعض الجوانب الدلالية. ذلك ان الخلطة والمرجعية الغربية وتعدد قنوات الاتصال جعلت الأدب العربي ذا لحمة متشابهة، وما نريد الحديث عنه مجرد التعريف الكمي والكيفي والنوعي غير مفصولة عن السياقات والانساق العربية، وحين نستذكر ما اشرنا اليه في شأن الحواضن تتبدى لنا الملامح والسمات التي تتشكل في ظل الخصوصيات السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، وهي خصوصيات مخترقة بعامل الانفتاح. 2/3 والأدب العربي في المملكة مر بثلاث مراحل، لا احسبها قسمة رياضية لا تُخلِفُ التوقع، ولكنها فرضية بادية للعيان: «ريادة» و«تأسيس« و«انطلاق». وتأتي «العشرينية» ضمن «مرحلة الانطلاق»، وأهم التجليات تتمثل بانطلاقة السرديات: القصة، والرواية، والسيرة الذاتية، وأدب الرحلات وب«النقد» بمذاهبه وآلياته واهتماماته وتحولاته السريعة التي كادت تقلب موازينه وبخاصة النقد اللغوي على ضوء المناهج الحديثة. وبالتحولات الفنية للشعر متمثلة في «الثنائيات» و«الرباعيات» و«مجمع البحور» وفي «شعر التفعيلة» و«قصيدة النثر» و«الصورة الحديثة» و«النص المفتوح»، وفي «الاغراض الشعرية»: «ميتافيزيقيا» و«صوفيا» و«تأمليا» و«أسطوريا» و«خرافيا» حتى لقد زهد الشعراء والنقاد على حد سواء بشعر «المناسبات» و«المديح»، والخطابية و«المباشرة»، ولما أن جاءت الحداثة المراوحة بين الفنيات والدلاليات والشكليات واللغويات، تغير كل شيء أتت عليه، وواكبت ذلك كله حركة نقدية يتنازعها: «النقاد المذهبيون» و«النقاد الاكاديميون» و«النقاد الصحفيون»، وكان الخلاف على اشده بين الفئات الثلاث، وبين افراد كل فئة، ووسعت «العشرينية» هذه التحولات وتلك الصراعات التي لم تكن على شاكلة ما سبق، ولو نظرنا الى سائر المتغيرات، والى تبادل المواقع بين السردية والشعرية في «مرحلة الانطلاق» لكدنا نتصور حالة من المتغيرات الجذرية ولو ألحقنا «الحركة النقدية» بالحركتين الابداعيتين: الشعرية والسردية لاتضحت لنا حالة الأدب في تلك الفترة الاستثنائية وهي حالة تنبىء عن تواصل مع القديم والحديث والأحداث، فالشعراء والنقاد المحافظون على أشدهم، ونظراؤهم من المجددين والمتحدثين على قدم وساق، وكل فئة تظن كل الظن انها المسيطرة على المشهد، وانها القادمة اليه على قدر، وما من شك ان «مرحلة الانطلاق» التي وسعتها «العشرينية» من اخضب المراحل، واكثرها فعلا وتفاعلا واذ تكون المملكة في دورها الثالث على يد المؤسس قد مرت بمعركتين مهمتين: «معركة التكوين» و«معركة البناء» بحيث امتدت «معركة التكوين» قرابة الثلاثين عاماً من عام 1319هـ حتى 1351هـ ثم تلتها «معركة البناء» من لحظة الاعلان عن اسم «المملكة العربية السعودية» فإن المعركتين أرهصتا لنهضة ادبية ذات صبغة مغايرة لما سلف، فالمملكة تشكلت من اربعة اقاليم، لكل اقليم ظروفه وخصوصياته. يقدم الجميع علما وأدبا وثقافة «اقليم الحجاز»، لأنه الامكن علما وتحضراً، والأقوى تواصلاً مع أدباء مصر والشام، وبخاصة مع جيل العمالقة. وامكانية الدمج الفوري مع هذه الفوارق لا تتم بجرة قلم، بل لابد من رحلة مرحلية شاقة، توظف لها كل الامكانيات، لتكون المملكة الموحدة اقليمياً متوحدة علمياً وادبياً واجتماعياً وذلك ما أراده المؤسس، يوم ان اعلن قيام المملكة، فلقد وحد المناهج والمؤسسات: الدستورية والتشريعية والقضائية والتنفيذية واهتم بالتوطين والتحول من الرعوية الى الزراعة والصناعة والمدنية وسائر متطلبات الاندماج. وبتجاوز هذه الصعوبات ونجاح الملك عبد العزيز في اقامة وحدة شاملة اقتربت من اذابة كل الفوارق، توافر ابناؤه من بعده على اجواء ملائمة لمواصلة الانطلاقة التعليمية والادبية، وهو الذي يعنينا في هذا الحديث. واتساع الحركة الأدبية: الشعرية والسردية بشقيها: الابداعي والنقدي، زاد من الاهتمام بالنقد، وبالذات الجانب التنظيري، وكان هَمُّ التوفيقيين منصباً على تسوية النزاع بين المجددين والمحافظين، والمجددين والحداثيين، وتسوية الخلاف مع نفسه في سرعة التبادل بين مراكز الاهتمام بين: اللغويات والفنيات والدلاليات. واشتعال الصراع بين الفرقاء وسائر التحولات منحت الحركة الأدبية حيوية لم تكن لها من قبل ومع استياء المحافظين وتذمر المجددين فإن العاقبة ايجابية لأن كل طائفة عرفت المسيء من المحسن، وان التبس الامر على البعض، مع انه لا يخلو تيار من فائدة. |
حواضن الأدب السعودي وملامحه في العشرينية..!
د. حسن الهويمل 1/4 و«العشرينية» شهدت متغيرات فرضتها التحولات العالمية والعربية والمحلية فالشعر أصبح غير الشعر والسرديات غير السرديات والنقد غير النقد. وما أبدع من نظم وسرد، وما كتب حولهما من نقد، زوحم بمستجدات استأثرت بالعناية والأهمية، وكادت تربك المشهد الادبي والمتابع لفيوض المطبوعات من كتب وصحف ومجلات، والمستمع للمحاضرات والندوات والأماسي، والمتابع للقنوات والاذاعات، يدرك ان المشهد غير المشهد، وان هناك مخاضات سيكون لها ما بعدها، ولأن فترة «العشرينية» واقعة في «مرحلة الانطلاق»، فقد وسعت المبدعين حقاً والمقتدرين ثقافة ودربة والمقلدين والمحافظين والمجددين والحداثيين، وكانت الكثرة والغلبة فيها للمثقفين من الشباب ولذوي الدراسات العليا المبتعثين والمقيمين ولمن هم دون ذلك من مثقفي السماع. ولقد استطاع «النقد الصحفي» المشايع لبعض التيارات والمشيّع لابداعات بعض الناشئة المغامرة ان يغير كثيرا من الاولويات والاهتمامات، وان يحاول اكراه الناس على ان يكونوا كما يريد، فبعض من يمسكون بأزمة الاعلام المقروء، يديرون المعارك، ويختارون التوقيت والتقدير المناسبين للعمل الصحفي، وقد لا يتأتى لهم ذلك، وبخاصة حين يجد الجد، ويبدو الحيف او التحامل. ومع ما يقترفه «النقد الصحفي» من تجاوزات، فانه الأقدر على تحريك الركود وجر الأقلام، وبدون التناوش لا تكون حركة أدبية نشطة، ومع تذمر البعض من تجاوزات «النقد الصحفي» إلا أنه اسهم في تحفيز المقتدرين لحماية مقدراتهم. والمفاهيم الخاطئة تتمثل في حصر الحركة الادبية بمن يلمون بالوسائل الاعلامية وتناسي كفاءات متميزة، تقف حيث قاعات الدرس وممارسة التأليف والتحقيق. ومن الخطأ تقويم الحركة الأدبية من خلال التداول الاعلامي، وذلك بعض ما نسمع به. والحضور الاعلاميُّ وحده مؤشر لا غير، يحفز على التنقيب في الوثائق. والنقاد الذين يلاحقون المستجدات من مناهج وآليات، وبخاصة ما يتعلق بالنقد الحداثي أو البنيوي خلفوا ضجة من مشاهد الأدب في البلاد، وحملوا المناوئين والمتحفظين على استرجاع الأصول وتمحيصها، والتأسيس لنظريات نقدية ذات جذور تراثية، وهذا الاحتدام لم يكن خاصا بالمملكة، ولم يكن وقفا على الفترة المدروسة، ولكنه كان الأكثر حضورا، والأقوى جدلا وتحفيزا للأطراف، والدفع بهم الى أتون الجدل. وما اعترى هذه الفترة اعترى كافة المشاهد العربية. واحسب ان الانفتاح المتاح، والتواصل المتعدد القنوات، والامكانيات المادية جعلت المملكة طرفا فاعلا ومتفاعلا وسوقا مغرية لترويج الكتب والصحف والدوريات واستضافة المؤتمرات والندوات والمهرجانات ومعارض الكتاب العالمية. وتلك الفعاليات حولت العملية الأدبية الى خلق آخر، أثار انتباه الراصدين والمؤرخين. ولقد كان الشعراء والروائيون والنقاد الشباب وراء هذه التحولات، يكرسونها ابداعاً: سردياً وشعرياً، ونقداً: تنظيرياً وتطبيقياً. والحركة النقدية حول الشعر تنازع صدارتها : نقاد المشهد الادبي غير المؤسساتي، وكانوا شعبتين : شعبة المثقفين المتضلعين من المستجدات، وشعبة الصحفيين المشايعين، ونقاد أكاديميون عبر الدراسات والمحاضرات. فكان نقاد المشهد أسرع الى التعديل والتبديل والهيمنة، فيما كان الأكاديميون أقرب الى العلمية والمنهجية والنمطية ومثلما تفرقت السبل بنقاد المشهد الأدبي اختلفت مواقف الأكاديمين من المتغيرات، فنجد طائفة من أعضاء هيئة التدريس في «كلية الآداب» ب«جامعة الملك سعود» و«جامعة الملك عبد العزيز» أكثر مرونة وتقبلاً للتجديد وايغالاً في المنتج الغربي الذي قد لا تقوم الحاجة الى اكثره، فيما نجد نظراءهم في كلية «اللغة العربية» «بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية» ومثلهم اعضاء هيئة التدريس ب«جامعة أم القرى» أميل الى التريث والثبات، وأحفل بالتراث، ولا تخلو الجامعات الأربع من عناصر تحالف لسمة الأمة، ولكن شواذ القاعدة تكرسها ولا تلغيها. ونستطيع القول بأن النزعة التاريخية والدرس الأدبي سمة بارزة لدى المحافظين، فيما تكون النزعة التنظيرية والتطبيق الألسني بكل تحولاته «العلائقية» و«السيميائية» و«التفكيكية» سمة بارزة لدى المجددين، واحتدام الجدل بين تلك الطوائف مؤشر ايجابي. والتباين في المشهد الأدبي، وفي أروقة الجامعات أسرع في تشكل المذاهب والتيارات، وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية تبدت حركة نقدية تمخضت عن عدد من القضايا والظواهر التي حفزت كل طائفة على تكريس نفسها، واشاعة مذهبها، وفي ذلك اثراء واغراء. 2/4 وجاء من بين هؤلاء وأولئك ناشئة متسرعة استدرجها تعدد المشاهد وتنوع المذاهب وامكانية القول، واستهوتها تلك الظواهر، وغرها في فنها الترخص، بحيث تقحمت المشاهد الأدبية بامكانيات ضعيفة وتصورات مهزوزة، فكان ابداعها تصنعاً، وتجديدها تقليداً، ولم ينهض احد من النقاد لمساعدتهم على معرفة انفسهم وصقل مواهبهم، بل استطيع القول بأن البعض اوهمهم وغرر بهم. لأن «مرحلة الانطلاق» تتسم بالكثرة والتنوع والتسارع في التغيير والاستبدال فقد كثر الأدعياء والمقتدرون الذين يكتبون من خلال امكانيات ثقافية لا من خلال مواهب ومواقف، ولا يستبين الفروق الدقيقة بين كتابة المقتدر وابداع المجرب الا الناقد الخبير. هذه الظواهر السلبية عمت الأدب العربي، وكان للحركة الأدبية في المملكة منها أوفى نصيب. والمصداقية تتطلب منا وصف الواقع الأدبي كما هو، اذ لسنا بدعاً من سائر المشاهد العربية. ولو صوبنا النظر الى العمليات الكتابية والابداعية، ونظرنا اليها من خلال أبعادها: الفنية والدلالية، وأنواعها: السردية والشعرية، ومبدعيها: الشباب والمخضرمين من النساء والرجال لوقفنا على مستويات متباينة واتجاهات متعددة، ف«مرحلة الانطلاق» خضعت لمفاهيم ورؤى وتصورات، دارت حول «حرية التعبير» و«حرية التفكير» وامكانية خلط الانواع الابداعية، والتلويح بمصطلح «الكتابة» الذي يلغي ضوابط الفن وشروط الابداع، وقد مارس هذه الحرية الفنية والدلالية طائفة من الشباب الذين استلهموا فسح الحداثة المؤكدة على الانقطاع والاغتراب والاعتراف والخلوص من الضوابط والشروط والحدود والقيود. ولم تكن معطيات هذه الطائفة هي السمة البارزة في الابداع والنقد، ولكنها قائمة ومعاشة، ولا يمكن إغفالها. واختلاف المفاهيم حول سائر المصطلحات الجديدة التي لم تحرر مفاهيمها كادت تربك العمليات الابداعية والنقدية وتؤزم الصراع، ومع تدفق المستجدات فقد ظلت هناك طوائف من الشعراء والسرديين متمسكة بالأنموذج القديم، محتفية بكافة القيم، أو مجددة بمقدار، ولكن المشاهد لم تكن حفية بمثل اولئك، الامر الذي جعل البعض منهم يتخلى عما هو عليه، ليتوفر على موقع مناسب من المشاهد. وشعراء مرحلة الانطلاق خليط من شعراء المراحل الثلاث، اذ ليست هناك حدود جامعة مانعة، ولكننا سنشير الى من كان حضورهم في تلك المرحلة اكثر تميزاً واقرب الى التجديد بمفهومه الصحيح، ذلك ان كلمة «التجديد» اطلقت بتوسع حتى شملت من قلد الآداب الغربية دون وعي ودون اقتدار. فمن المجددين من الشعراء المحتفظين بالخصوصية وبمرتكزات القيم الفنية والدلالية الشاعر «محمد بن فهد العيسى». والشاعر «غازي القصيبي». والشاعر «محمد العيد الخطراوي». وعشرات آخرون تتوازعهم المذاهب وتتنازعهم التيارات، وبعض هؤلاء الشعراء مخضرمون، سبقوا بإبداعاتهم، ولكنها كانت محاولات لم تقل الشعر الا في «مرحلة الانطلاق»، وقد قصرنا الاشارة على الأمكن منهم، أما المتمكنون فبالمئات، ومثلهم الذين استوت ملكاتهم، وطبعت أعمالهم في مرحلة التأسيس ك«القرشي» و«الفيصل» و«سرحان» و«عرب» و«ابن خميس» و«العقيلي» ذلك ان حديثنا مقصور على حركة الأدب في العشرين سنة الاولى من قرننا الهجري، وليس بمقدور بحث محدود ان يأتي على الأسماء المشمولة بالفترة فضلا عن ذكر الخصائص والسمات والشواهد. والتحول من المحافظة الى التجديد، او الايغال في الحداثة الفنية عمد اليهما البعض تطبعا لا طبعا، والأقل الاقل من كان تحوله طبعا، فممن أوغل في الحداثة وتبدى اقتداره «محمد العلي» و«الثبيتي»، ولو نظر المتابع الى ما سلف وما خلف من اعمال لأحس ان النقلة عند بعض اولئك ليست طبيعية، وليست عفوية. والاشكالية فيمن لم يحسن الأداء في الحالين، وتلك الظواهر تتطلب نقداً واعياً لطبيعة التحول وامكانيات الشاعر في المرحلة الانتقالية، وهي مرحلة حرجة وأحسب ان الشاعر «محمد عيد الخطراوي» خير شاهد على التحول المتمكن من التجديد الى التحديث، وهو خير من يمثل الخضرمة: زماناً وفناً. وتلاحم المخضرمين مع ناشئة تلك الفترة أذاب الفوارق، ومكن من الاندماج. ومن الذين راحوا بين التجديد المتزن، والايغال بغير رفق في حداثة الفن «عبد الله بن عبد الرحمن الزيد» «وسعد الحميدين» و«عبد الله الصيخان» ويحلو لهؤلاء ان يوصفوا بأنهم من طلائع الحداثيين، ولاشك انهم في بعض ابداعاتهم يتعمدون النثرية والغموض، مما يشي بالتطبع. ومن دونهم طائفة من الشباب الذين يتعلمون، ويكرهون انفسهم على ان يكونوا كما كان أساطين الحداثة، الأمر الذي أوقعهم في النثرية والاحالة وخلق الأسطورة، فالكلمات المنثورة على غير نظام، لا تحمل دلالة، ولا تجسد صورة، ولا تشد قارئا، ولا تؤدي مهمة. والنقاد الحداثيون غير المؤتمنين يعدرون او يصمتون، والعارفون من النقاد قد لا يعبؤون بما يصيب المشهد من اولئك، وفي ذلك تمكين لمن لا يستحق التمكين، وقد يكون عند بعض اولئك موهبة، ولكنها تفتقر الى ثقافة ودربة وموقف وناقد يقول الحق، ويهدي الى الفن الأصيل بالصدق والمكاشفة. أما عن المجددين والمحافظين والمقلدين في هذه المرحلة المتميزة بالكثرة والتنوع فحدث ولا حرج: كثرة وتنوعا وتفاوتا في المستويات، نجد من هؤلاء الشاعر «عبد الرحمن العشماوي» و«أحمد الصالح» و«عبد العزيز العجلان». و«مرحلة الانطلاق» يتنازع الصدارة فيها المجددون والمحافظون، والحداثيون: المعتدلون والموغلون، ولاشك ان الغلبة والشيوع للمجددين. والتجديد والمحافظة يمتدان الى الشكل والموسيقى واللغة والاسطرة والرمز والصور والأغراض، وليست هناك مرحلة وسعت المتناقضات مثلما وسعتها «مرحلة الانطلاق» ولهذا حفل المشهد بالشيء ونقيضه، ولم تعدم اي ظاهرة شكلية او فنية او دلالية مريدا متفانيا لا يرى لغيره حق الوجود. والدارس لظواهر هذه الفترة تربكه الأشكال والألوان. وفي تلك المرحلة علا كعب «الشواعر»، حيث آتى تعليم المرأة ثماره وعرفت الساحة الأدبية مئات المبدعات في الشعر والقصة والرواية والدراسات والنقد، وهن أقل من الرجال اندفاعا وراء بوارق التجديد والأكثر حضورا في الابداع السردي. |
خسره المنصب وكسب نفسه..!
د. حسن بن فهد الهويمل أذكر جيداً النصيحة التي تلقيتها من محبِّ عالم مجرِّب، وذلك حين أسندت لي في مطلع شبابي مسؤولية ادارية، تمس حياة شريحة معوزة من المجتمع. وكنت يومها في عنفوان الشباب وميعة الصبا، مقبلا بكليَّتي على الدنيا، ولمَّا تكن لديَّ حسابات المجربين، ولا خوف الورعين، ولا تحفظ الخائفين. والطاقة العارمة حين لا تعقلها التجربة، ولا توجهها المعرفة، ولا يسددها التوقيت والتقدير، تقود الى مهاوي الهلكة. قال لي ذلك المجرب العارف المخلص: - يا بني هذا الكرسي الذي تجلس عليه، جلس عليه سلفك، وسيعقبك عليه خلفك، وأنت بين يومين: - يوم الجلوس وهالاته وأفواج المهنئين،ويوم التحول وعتمة التهميش وتفرُّق المودعين، ومن الخير لك ان تحسب ليوم التحول حسابه، ولا تُصاب بزهو اليوم الأول، ومهما امتدَّ بك الزمن، فإنك مفارق: ميِّتاً، أو متقاعداً، أو صاعداً لما هو أرفع، فلا تكن الرابعة فتهلك، وبعد المبارحة لن يبقى لك إلا الذكر، فليكن ذكراً جميلاً «فالذكر للإنسان عمر ثان». فالشهادة أو الواسطة تصل بك الى الكرسي، ولكنها لا تضمن لك النجاح ولا النجاة. ومرت الأيام بحلوها ومرها وإقبالها وإدبارها، وتلك الكلمات تأكل معي وتشرب، وجاء يوم التحول، وتركت الكرسي صُعداً، وخلفني عليه أكثر من واحد، وما ندمت على شيء ندمي على تقصير القادرين على التمام، لقد فعلت ما يطمئن إليه قلبي، ولكن كان بودي لو تزودت من الخير، وما من محسن بعد الفوات إلا تمنى مضاعفة الإحسان، وندم على ما فرط في جنب الله، لقد خرجت راضياً بما قسمه الله لي، شاكراً لأنعمه عليَّ، وما أردت فيما أقدمت عليه أو أحجمت عنه إلا الاصلاح. وأزلية المفارقة تحفز على استباق الخيرات، قبل الفوات، وكيف يغفل من إذا فرَّ من الموت لاقاه. ومن لم يبارح عمله بالرقي أو بالانحدار، بالاضطرار أو بالاختيار بارحه «بالتقاعد». ففي كل عام تخرج أفواج الموظفين بقوة النظام التقاعدي، تترك الأضواء، وتفرغ من السلطة، وينفض من حولها سامر القوم. وتعود الى ديارها وأهلها خالية الوفاض، إلا من الذكر الجميل، أو القبيح، وشيء من مال قليل أو كثير، طيِّب الكسب أو مشوب بالشبهات. ومن لم يطب مطعمه لن تُجاب دعوته، وكل لحم نبت على السحت فالنار أولى به. وهذه الأفواج المتدفقة خارج المسؤولية متفاوتة الأحوال والمآلات: فمنها من خسره المنصب وكسب نفسه، أو خسرها، ومنها من تخلص منه المنصب، وتخلص من أذيته الناس، إذ كان عقبة كأداء أزيلت عن طريق المارة، فكل من سمع بذهابه بادر الى القول:-«مع الذين لا يستطيعون توصية ولا الى أهلهم يرجعون». وفي ذلك اليوم الحاسم تجد كل نفس ما عملت محضراً، فإن كان خيراً تمنت لو أنها تزودت منه، وإن كان غير ذلك تمنت لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً. ولا شك ان طائفة من المبارحين خرجوا من مناصبهم، وهم يضربون كفَّاً بكف، ويتمنون لو أُرجعوا إليها ليعملوا غير الذي كانوا يعملون. ولكن أنَّى لهم ذلك، وقد رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وآخرون خرجوا، وهم يحمدون الله على أداء الأمانة، والنصح للأمة، وكسب ما بقي من أرذل العمر، وهؤلاء ولدوا يوم أن تركوا أعمالهم بقوة النظام. وصديقنا الأستاذ أبوعبدالرحمن ابراهيم البليهي مدير عام الشؤون البلدية والقروية نحسبه من هذه الفئة والله حسيبه، لقد تقلب في عدة مناصب حساسة ومغرية لكسب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والسيارات الفارهة والأنعام والحرث والضياع والجاه والأصدقاء، ولكنه زهد بكل ذلك، وولاها ظهره، واتجه صوب الأمانة والنزاهة والاخلاص، فخرج ثرياً بسمعته، نقياً في ملبسه، طيباً في مطعمه، وما شهدنا إلا بما علمنا. وإذا كان قد كسب الأقل من الأصدقاء فإن القالين له سيراجعون أنفسهم ويذكرونه بخير. لقد شغل رئاسة البلدية في أكثر من موقع، «وختم أعماله بادارة الشؤون البلدية والقروية في القصيم» وكان في كل المواقع مثال الصدق والاخلاص والنزاهة والمثالية والتفاني، وحين خسره المنصب كسب نفسه: قارئاً ومفكراً وكاتباً، تختلف معه أو تتفق، ولكنك لا تجد بداً من أن تجله وتحترمه:- لعمق ثقافته، وثبات موقفه، ونبل غاياته. وحين نؤكد على انه كسب نفسه فإنما نومىء الى انه قارىء خبير، ومفكر عميق التفكير، ومثقف واسع الثقافة، وجاد صارم الجد، لا يفرغ لنفسه، ولا لجيبه، وقد لا يفرغ لأهله ولا لأحد من أصدقائه إلا لكاتب هذا التأبين، وإذ برح مكتبه الصاخب، فإنه سيعود الى مكتبته الهادئة المليئة بآلاف الكتب، والتقاعد الذي يشكل فراغاً قاتلاً للفارغين، حتى قيل:«مُت.. قاعداً» لن يحس به، لأن سعادته تكمن بين دفتي الكتاب، فهو قرينه، ونعم القرين، يخلو به بعيداً عن الأضواء والضوضاء والمتع الزائلة «وخير جليس في الزمان كتاب»، ولقد كلَّت السنتنا وحفيت أقلامنا في سبيل مناصحة طلابنا لجعل القراءة هواية، يسدون بها فراغ التقاعد إذا امتدت بهم الحياة، وهي بلاشك مسؤولية خطيرة. والأستاذ البليهي الذي وضعت مسؤوليته أوزارها، كان وراء كثير من النجاحات واللمسات الجمالية، وتجلي صدقه وأمانته مكَّن له من قلوب المسؤولين وأصحاب القرارات، فكانت حقائبه تغدو خماصاً وتعود بطاناً لمصلحة العمل، ومع أنه يحمل هم المسؤولية، فقد لقي في سفره المخلص نصباً، انعكس على رؤيته الفكرية، وكاد يصيبه بالإحباط، وكنت ممن يحاول تثبيت فؤاده، كلما اقتربت صمامات الأمان عنده من الانفجار، لقد خرج وفي نفسه غصص من فئات تحارب الخضرة، وتستعدي على التشجير، ولأنه باخع نفسه على آثارهم، فقد استغاث بالمؤسسات وبحملة الأقلام لإنقاذ مشروعه من القتل. ومع تلك التحديات ظل وثيق الصلة بالكتاب، يهوِّن به على نفسه مصائب العمل، فكان قارئاً وكاتبا وراصداً واعياً لكل التحولات، استطاع أن يوائم بين تبعات المسؤولية وأهمية الثقافة. ولم يحرم الادارة من ثقافته وتجاربه، وكتابه «النبع الذي لا ينضب» الذي طبعه «نادي القصيم الأدبي ببريدة» يعد من أهم مراجع قسم الادارة في بعض المراحل الجامعية، فلقد جمع فيه عشرات المقالات التي كتبها متخصصون ومجربون ومخلصون عن الأداء الوظيفي والكفاءة الادارية والعمل المخلص، ولما يزل من خلال مقالاته الصحفية من أبرز الكتاب الذين يعتصرون الأفكار ويختصرون التجارب، ويجوبون مسارح الفكر ومطارح الفلسفة، ولا يتورعون من حز اللحم الى العظم، وجلد الذات حتى الموت والعويل على الواقع المرير. ولو لم يكتب محذراً من «الجهل» و«التخلف» لكانت سيرته الصارمة الحميدة خير مرشد ومفيد، والمجتمع بأمس الحاجة الى القدوة الصالحة والى الفعل الايجابي، فلقد مللنا التنظير والمثالية الورقية، ولأنه لا يقول إلا ما يعتقد وما يفعل فقد كانت كلماته مؤثرة ومثيرة، لأنها تنكأ الجراح. المسؤولية الرسمية إذ تودعه الى حين فإن المسؤولية الوطنية تأخذه بالأحضان بوصفه من أبرز الكتاب الذين يصدعون بما يعتقدون، وإن لم يتفق معهم أحد، فهو من الذين لا يصانعون في أمور كثيرة، وإذا كنا نودع كفاءة وطنية، فإننا نستقبل كفاءة أخرى، أخذت الراية عن تخصص وخبرة وسمعة طيبة، نستقبل المهندس القدير «أحمد الصالح السلطان» الذي كانت فرحتنا به بحجم فجيعتنا على سلفه، والخيرية قائمة، ومجتمعنا والحمد لله ودود ولود، وعلى الذين من حولهم من أعراب الوظائف ممن لم يكونوا أمثالهم أن يتشبهوا بهم. وفي كل مناسبة أقول، وأتحمل مسؤولية ما أقول: إن المسؤول الأول في المنطقة إذا كان قوياً في أدائه، أمينا في مسؤوليته حفيظاً لمثمنات الأمة، عليما بشؤونها، وكان مع المسؤولية كما وصفه المتنبي: فكأنها نُتِجَت قياماً تحتهم وكأنهم ولدوا على صهواتها نامت الأمة قريرة العين، وذلك ما يبدو لنا، نحسب من نحسن الظن بهم كذلك، ولا نزكي على الله أحداً، فالله حسيبهم. وفيمن قضى مسؤوليته موعظة أو قدوة لمن ينتظر، وما يُلقَّى الاتعاظ بالمقصرين والاقتداء بالمجلّين إلا ذوو الحظوظ العظيمة. |
ضربة معلم نود أن تتبعها ضربات..!
د.حسن الهويمل الهامش الدعائي لأي مسؤول قضية ليس فيها نظر، والخطأ الأكبر ان يتسع الهامش، أو ان تتسع الإحالة إليه، بحيث تحال كل أفعال الزعماء المتميزة إلى ذلك الهامش الدعائي. ومثلما ان الخبطات الصحفية تحرك الركود، وتشد الانتباه وتؤتي أكلها، متى كانت متقنة ومحسوبة فإن ابتكار الإجراءات وأساليب المعالجة تفعل فعل الخبطات الصحفية المسددة. وبعض القادة النابهين يعولون على المبادرات المفاجئة غير عابئين بما تحدثه من ارتباك في تلقيها واستكناهها، وجل اهتمامهم ان تعطي عائداً أفضل وأسرع. فالمواطن حين لا يخطر على باله أي فعل استثنائي له مقاصده النبيلة وغاياته الحميدة، ثم يفاجأ به، ترتبك آلياته، وقد تأخذه الاتكالية، فلا يكلف نفسه عناء القراءة وفق قوانين الحدث، متخذاً إحالة كل جديد من الأفعال أو الإجراءات إلى الهامش الدعائي ديدنه، وبهذه الإحالة يفرغ من ملاحقة الأحداث وتقويمها. ولأننا لسنا بدعاً في مجمل سياقاتنا فإن تعدد القراءات لأي حدث مثير متوقع ومشروع، ومن واجبنا امتلاك الثقة وتوقع أي قراءة. فالمتميزون هم الذين يشغلون الرأي العام، ويربكون المشاهد، ولكن القارئ الذي يفصل الحدث عن سياقه وأنساقه يقع في الابتسار المخل بالمصداقية. والمبادرة الذكية تتطلب قراءة ذكية، ليحصل التكافؤ ولن تستدرجني قراءات المبادرات والأحداث وقوانين اللعب الكبيرة والصغيرة وضرب الأمثال، فالأمر من الوضوح بحيث لايتطلب مزيداً من التمحك. وما حداني إلى تلك المداخل إلا طغيان القراءات المتسطحة أو المشبوهة، والتهافت عليها. ومما لا شك فيه أن القادة لهم حساباتهم وتطلعاتهم ونواياهم وأهدافهم، فليس هناك عمل لا تكون وراءه أهداف خاصة أو عامة، وليس هناك لعبة إلا ولها قانونها، ومن تصور الأمور بمعزل عن مقاصدها وقوانيها فوَّت على نفسه أشياء كثيرة، والقراءات الخاطئة والإشاعات المغرضة سمة المشهد السياسي. لقد اشتعلت في كافة الأوساط المحلية المبادرة الإنسانية للأمير (عبدالله بن عبدالعزيز)، ولما يزل الناس يدوكون ليلهم في تقويم هذا الحدث، فالأمير عبدالله اخترق وبدون سابقة معاصرة فضاءات المعوزين من فقراء وعجزة ومعوقين وأيتام، على سنن العسس الإسلامي، ولم يتسلل إليها على حين غفلة من الرقباء وإن باغت ذويها وفاجأ حاشيته، بل أعلنها على أوسع نطاق، ولم يتردد في طرحها أمام الملأ. ولقد حرصت كغيري على مشاهدة الحدث، وتمنيت لو أن الإعلام عرض الجولة بكل تفاصيلها، ولم يكتف باللمحة الإخبارية. وبعد المتابعة انتصبت أمامي عدة قراءات يحتملها تأويل الحدث، ولكن الحق لايتعدد، واستمعت إلى عدة رؤى. وأبحت لنفسي استعراضها، فمن حق كل مواطن أن يموضع قادته، وأن يقرأهم وفق سياقاتهم وسوابقهم، إذ هم في النهاية بشر، يجتهدون، وقد لايحققون ما يريدون من خير. وتساءلت في تلك الأجواء المشحونة بالتساؤلات: لماذا اختار الأمير عبدالله لجولته الوقت والمكان والشريحة؟ ولماذا أعطى لوسائل الإعلام كامل الحرية في المتابعة والتركيز على المناظر المؤلمة؟ ولماذا ذرع الأزقة جيئة وذهابا، واستمع إلى التأوهات والتذمرات، وأذن لمن حوله ان يتأمل تلك الأوضاع؟ أيريد الحسم أم المحاصرة أم تجديد الآلية أم إدانة الطرف الآخر من مسؤولين واثرياء؟ كل ذلك وارد ومحتمل.ويقيني ان الإعلام لو فعلها وحده لكان موضع تقدير الجميع، ولكن أما وقد فعلها الرجل الثاني في الدولة وبمباركة من الرجل الأول في سياق (الشفافية) و(الباب المفتوح) الذي يدعو إليهما فإن الأمر له ما بعده، وإن قضية الفقر خرجت من إطار الممارسة الروتينية إلى فعل آخر، ومن حق أي متابع ان يتساءل، وأن يلح في التساؤل. ماذا يريد من هذه الخبطة الإعلامية؟ ولماذا أراد لنفسه ان يكون شاهداً عدلاً، يسبق أصحابه في اقتحام المغارات، متلطفاً للفقراء والمقعدين والأطفال، يخرج من بيت إلى بيت، ومن حي إلى حي، إن حدثاً كهذا يمتلك من فضاءات الدلالة مايجعل لكل قارئ رؤيته، ولأنني مواطن، أحس بمسؤوليتي إزاء الإجراءات التي يبادر إليها رجل مثل عبدالله بن عبدالعزيز، فإنني سأترك لنفسي كامل الحرية في قراءة الحدث وفق رؤيتي، وليس شرطاً ان تصيب المحز، وسوف لاأتردد في سماع القراءات الأخرى حسنة النوايا أوسيئتها، إذ كل مجتهد له حظه من الإخفاق، ومتى حسنت النوايا وسمت المقاصد احتملت الأخطاء الاجتهادية، فالقادة والزعماء تجاوزوا ذواتهم وخصوصياتهم، وتحولوا إلى موضوعات قابلة لأكثر من قراءة، وأكثر من إحالة. والرجل الذي ترك القصور الشاهقة وراء ظهره، وكسر طوق الحجَّاب، وأطفأ أبهة الملك، وجاء إلى أكواخ الفقراء، يخوض المستنقعات مع الخائضين، ويركل النفايات بقدميه، ويرفع ثوبه لكيلا يتبلل بالوحل، ويتطامن أمام الأسقف التي لا تتسع لقامته الفارهة، يقبِّل الأطفال بكل ما يعلوهم من غبرة وأسمال، ويصيخ للشاكر والشاكي، ويقف عند رأس امرأة مريضة متدثرة، يعد بالخير ويبشر بالفرج. ومن ورائه كبار المسؤولين عن تلك الشريحة، الرجل الذي يفعل ذلك بمحض إرادته، لا يضيره أن يحال تصرفه إلى أي تفسير، فهو لا يريد جزاء ولا شكوراً، لقد قالها بلسان حاله ومقاله. ومن مصلحة الفقراء أن نمسك طرف الخيط، وأن نمضي معه إلى النهاية، فنجاح الجولة سيكون لها أثرها على كل المستويات، كيف لا والفقر مصدر كل شر، حتى كاد يكون كفراً.ويقيني أن مثل هذا الفعل يُعدُّ (ضربة معلم) لأنه تنقيب في أحياء الفقراء المهمشة، وتقليب لقضاياهم المؤجلة، واستثارة لكل فئات المجتمع من مسؤولين وأثرياء، ومحاولة لكشف المخبأ. فالآخرون يظنون أن كل سعودي في بيته (بئر بترول)، وأن كل سعودي يعيش حالة من الرفاهية، وأن كل سعودي ملزم بأن يكون حمالاً لهموم الأبعدين. (ضربة المعلم).. تريد أن تقول (الأقربون أولى بالمعروف). ( ضربة المعلم).. تريد أن توثق الفقر بوصفه ظاهرة أزلية. (ضربة المعلم).. تريد ان تستدر العطف وتؤنب الجشعين. (ضربة المعلم).. تريد أن تقول: الناس سواسية في خيرات بلادهم. (ضربة المعلم).. تريد أن تدع الحقائق تعبر عن نفسها. ( ضربة معلم) تريد ان تؤكد ان (صنائع المعروف تقي مصارع السوء). لقد كان بإمكان سموه أن يخرج على الناس عبر كلمة أو تصريح، يدعو فيه للمساعدة، ويذكر الناس بالفقراء، يسجل فيها موقفاً عديم الجدوى، ويسقط فيها مسؤولية. غير ان الناس كسبوا مناعة ضد المواعظ. وخطاب الأمير خطاب عملي قاطع مفحم، خطاب وثائقي، لايدع مجالاً للتأويل، أو للتملص. لقد ضبط الواقع بالصوت والصورة، وقال للأثرياء وللمسؤولين وللعالم بأسره: هؤموا أشهدوا معي المأساة، وتحملوا معي كافة المسؤولية، فنحن جميعاً قادرون على تلافيها، ولكننا لم نفعل بكل ما نملك من طاقات، وكأنه يردد في أعماقه مقولة الشاعر: (ولم أر في عيوب الناس عيباً... كنقص القادرين على التمام) ولم تكن هذه الضربة المسددة هي الأولى، ولا أحسبها ستكون الأخيرة، لقد عايشنا ضربات مسددة، أعقبتها مؤسسات تربوية لرعاية الموهوبين واقتصادية استقطبت الأثرياء والعلماء والتربويين، ولا شك أن استعداده الذاتي لفعل الخير مع جهود البطانة الصالحة ومن يسرون النصيحة، حفزه لمثل هذا العمل الإنساني، لقد ألقوا في روعه أشياء كثيرة، وذكروه بمشروع (العسس الإسلامي) الذي بادر إليه الإمام العادل (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، ولا شك أن الرجل يحس بثقل المسؤولية، ويحمل هموماً كثيرة، ولا شك أنه أحس بأن هذه الفئة الصابرة المحتسبة خَفَت صوتها وسط ضجيج الفئات. إن كشفه لأحوال المعدمين المتعففين تحويل طوعي للطوق الذي يلتف حول عنقه إلى أعناق الأثرياء، الذين يبذّرون أموالهم في آفاق المعمورة على ملذاتهم الزائلة ولا ينفقون إلا وهم كارهون، وإلى المسؤولين الذين يتباطؤون في محاصرة الفقر والعوز، ويتعثرون بمخلفات (البيروقراطية) أما الذين يؤثرون على أنفسهم والذين يطورون آلياتهم فهم مع قادتهم في خندق واحد. ومن التوفيق والسداد أن بدت بوادر الاستجابة الإيجابية والفورية بشكل لم يتخيله أحد، ولو لم يكن من نتائج هذه المبادرة إلا هذا التبرع السخي من أصحاب السمو الملكي الأمراء مشعل بن عبدالعزيز وسلطان بن عبدالعزيز والوليد بن طلال بن عبدالعزيز لقلنا إن هذه الجولة قد أدت كل ثمارها، فكيف بها وهذه التبرعات السخية خطوة أولى ستعقبها خطوات من ذوي الدثور.المؤكد ان الفقر لن يحسم، لأنه ظاهرة أزلية وقضاء رباني، ولكنه سيحدد وسيحاصر، وسوف لا يهبط إلى درك المجاعة، ومتى سيطرنا عليه، وقللنا من أثره، حققنا الشيء الكثير.إن مبادرة الأمير عبدالله لن تقف عند حد الإنفاق والإعالة السلبية، وإنما ستمتد إلى التأهيل والتشغيل وتحويل الأسر المعولة إلى عائلة، بحيث ترحل آلاف الأسر من حد الفقر إلى حد الكفاف. وتلك مواجهة حضارية، ومصاحبة معالي وزير العمل المتألق الاستاذ الدكتور علي النملة لسموه في هذه الجولة الموفقة مؤشر على أن المقصود منها وضع خطة مؤسساتية حضارية لمواجهة الفقر والروتين معاً، ووضع حد معقول له في بلد أنعم الله عليه بالأمن والرخاء وفجر لأهله كنوز الأرض، لقد كانت لسمو الأمير مبادرات متعددة، جرَّت أقدام الأثرياء، وأرْخت جيوبهم، وبسطت أيديهم بالعطاء السخي، وما أحوجنا إلى ضربات متلاحقة تطال (العمالة) و(البطالة) المقنعة والمكشوفة و(التسيب الوظيفي) و(الفساد الإداري) و(الديون المخيفة) و(حوادث السيارات) و(أزمات التعليم) و(البيروقراطية) المتعفنة و(الأنظمة) المهترئة و(المحسوبيات) وسائر وجوه الحياة، فالزمان غير الزمان، والأمة مقبلة على نوازل تزلزل العقول، وليس لها بعد الله إلا من مكن الله لهم في الأرض. |
«الإرهاب» بين: الكبيسي.. ومشعل السديري..!
د.حسن بن فهد الهويمل الكاتب المثير الأستاذ«مشعل السديري»، يتعرض في بعض تناولاته إلى كبوات غير موجعة، وغير مفقدة للثقة به، مما يضطره في بعض الأحيان إلى الاعتذار الساخر حتى من نفسه، بحيث يزين صمته على نطقه، وتلك محمدة وشجاعة، لا مذمة ولا مجبنة. وواجب المحبين له - حين لا يتدارك الخطأ- أن يبادروا إلى تسديده، والصديق من صدق لا من صدق. وإذ يكون من الكتاب المقروئين والمؤثرين، وممن يحتلون الصدارة، يكون من حقه على قرائه أن يأخذوا على يده، متى أحسوا بحيدته، ولا يضيره التسديد حين يجتهد، بعد توفر آليات الاجتهاد وشروطه، ثم لا يصيب.. ورده إلى الطريق القاصد مع الاحتفاظ بمكانته والثقة بنواياه وبأمانته من الإرشاد المأمور به. والمستبرئ لدينه وعرضه من يتوقى إحالة الكبوات إلى سوء النوايا والمقاصد، مما هو ديدن بعض الغيورين المتسرعين في معالجة الخطأ بخطأ أسوء الكبوات إلى سوء النوايا والمقاصد، مما هو ديدن بعض الغيورين المتسرعين في معالجة الخطأ بخطأ أسوأ منه، وكأنهم قادرون على شق الصدور. ومما أود تسديده فيه رده على المفكر الإسلامي«أحمد الكبيسي» حول مفهوم «الإرهاب» «جريدة عكاظ 21/9/1423هـ » ولست في ردي مدافعا عن ذات «الكبيسي» ولا عن مجمل رؤاه وآرائه، فكم له من الأخطاء التي يجب تعقبه فيها، وإنما أدافع عن الاختلاف حول مفهوم «الإرهاب» بينهما، وتداركي ذو ثلاث نقاط:- الأولى: حول مفهوم «الإرهاب» ف «الكبيسي» في «عكاظ 19/9/1423ه» عوّل على آية{تٍرًهٌبٍونّ بٌهٌ عّدٍوَّ اللّهٌ وّعّدٍوَّكٍمً}، فيما عوّل«السديري» على المفهوم الشائع عند وسائل الإعلام كافة، المتمثل بالتفجير، والقتل العشوائي، والإخلال بالأمن، ونسف المصالح والاتفاقات، والخروج على السلطة الشرعية، وخفر ذمتها بالغدر بالآمنين والمستأمنين وأهل الذمة، ومن هم في حكم رسل الحكومات، وربط ذلك بوقوعات معينة كحادث«الحادي عشر من سبتمبر». وكلاهما مسدد في إحالته وتعويله، والخلاف بين الاثنين ناشىء من تعدد المفاهيم والتصورات، فالأمة الإسلامية مطالبة بإعداد القوة: قوة العلم وقوة الاقتصاد وقوة السلاح، وقوة الأمة المتمثل بتماسك الجبهة الداخلية وشرعية المؤسسات السلطوية، لكي تخيف أعداءها، وترهب المتربصين بها الدوائر، وهذا ما سعى إليه، وقال به«الكبيسي»، يقول: - «وكان على المسلمين أن يرهبوا هؤلاء الأعداء لأن الإرهاب هو أول خطوات الدفاع عن الحق باتجاه الظالم الغاصب، وهذه هي الحالة الوحيدة التي يصبح الإرهاب فيها مقدساً، من حيث كونه جهداً عسكرياً مشروعاً»، وانتبه إلى قوله: - «من حيث كونه جهداً عسكرياً مشروعاً»، ولا أحسبه بهذا القول يحرض على الإرهاب المرفوض، ولا أحسبه يبرر الأحداث المستنكرة عالمياً، وقوله يتساوق مع قوله تعالى: {تٍرًهٌبٍونّ بٌهٌ عّدٍوَّ اللّهٌ وّعّدٍوَّكٍمً}. و«السديري» الحريص على تجاوز الأمة الإسلامية محنة التحدي غير المتكافىء، حين فاته المفهوم الذي عوّل عليه«الكبيسي» انجر وراء مفهوم الإرهاب المرفوض إسلامياً، وأحال إليه مقولة الكبيسي، واختلاف المفاهيم لا يقتضي منا إسقاط المفهوم الذي يقتضيه الإسلام، ذلك أنه مشروع لكل مضطهد مسلوب الحق والحرية. وعلينا بوصفنا أمة ذات حضارة لها مصطلحاتها ومفاهيمها وتصوراتها الربانية: للكون والحياة والإنسان، ألا نرقب الرؤية الغربية للأشياء، فالإرهاب كما يراه الغربيون يعني أي مواجهة ضده، وإن كانت دفاعاً مشروعاً عن النفس والمال والعرض والوطن والدين. والغرب وراء مغريات«العولمة» بوصفها وجهاً جديداً للاستعمار، لايريد للعالم الإسلامي أن يمتلك من القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية ما يبلغ به حد التكافؤ وحماية الحقوق. وحين يريد إحكام السيطرة على العالم، يشرعن لنفسه التدخل العسكري، وينفرد بتحديد المفاهيم، والناتج الطبعي لهذا الاستبداد: أنه لايرى بأساً من امتلاك السلاح النووي لدولة صغيرة، لا يبلغ سكانها سكان حي من أحياء القاهرة . ف «إسرائيل» تمتلك رؤوساً نووية رادعة، وقادرة على تدمير العالم الإسلامي، والغرب حفي بهذه القدرة الرادعة، داعم لها، فيما لايرى من حق أي دولة إسلامية امتلاك الأقل من القوة غير التقليدية. يتجلى ذلك في موقفه المعلن من«العراق»، ومن «باكستان» وفي مواقف سرية ضاغطة، يمارسها لتحجيم القوة التقليدية: آلياً وبشرياً عند دول المواجهة لإسرائيل. ومع ما يقترفه«العراق» من تجاوزات لانقره عليها، إلا أننا نستغرب إلحاح الغرب في نزع القوة بكل أشكالها، وإلحاحه في تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، مع وجود دولة مغتصبة، رفضت عشرات القرارات، ولم يكن منه أدنى موقف، بل أتيحت ل «إسرائيل» فرصة التمتع المطلق بحق«الفيتو» فيما لم يستخدم هذا الحق ولو لمرة واحدة لصالح العرب. أفلا يكون هذا الفعل إرهاباً منظماً؟ تمارسه دول مسؤولة عن العدل والحرية والديمقراطية والاستقرار كما تزعم. وإذ لا نقدر على المواجهة وحمل الغرب على الإذعان للحق والعدل فإن علينا- ونحن نطالب العراق بالامتثال لقرارات الأمم المتحدة- أن نلح على الدول المتحكمة كي تنصاع للحق، وتنظر إلى فظائع الصهيونية وإلى الإرهاب الممارس عالمياً على يد منظمات غربية. و«الكبيسي» الذي يدعو إلى تكوين القوة المرهبة، يعي تماماً كم هو الفرق بين الإرهاب غير المشروع، حتى في المنظور الإسلامي والإرهاب المشروع الذي تمتلكه أصغر دولة في الشرق الأوسط هي«دولة إسرائيل»، إن قوتها النووية مرهبة ومخيفة للعالمين العربي والإسلامي، وهي في ذاتها دولة إرهابية مغتصبة، تمارس تحت سمع العالم وبصره ودعمه أبشع عملية إبادة للإنسان وإفساد في الأرض«والله لا يحب الفساد»، ومع ذلك لا نبرح الحديث عن الإرهاب العالمي كما يراه الغرب منسوباً إلى الإسلام، ونحاول استرضاءه بشكل مذل، إن الدفع بالتي هي أحسن، واتقاء الأعداء مطلب إسلامي، غير أن ما نمارسه عين المذلة والهوان، والضعة لا التواضع، وإذ يكون من مصلحتنا مشاطرة العالم في محاربة الإرهاب، يكون من حقنا بل من واجبنا الإلحاح في طرح الممارسة الصهيونية، لكونها عين الإرهاب، ووضع أمريكا أمام مسؤوليتها، لأنها راعية السلام. إن الإرهاب الذي يدعو إليه«الكبيسي» يعني إخافة الاعداء وحفظ التوازن، فالأمة الإسلامية لايمكن أن تحمي مشروعها الرباني إلا بالقوة، والله أمرها بإعداد القوة، لإرهاب عدوالله وعدوها، والجنوح للسلم والتصالح والتعاذر والتُّقاة لا تقتضي أن نكون أذلة، لانملك ما ندفع به عن أنفسنا، ومن أراد السلام فليستعد للحرب. وسلام الشجعان لا يتحقق إلا بعد أن نصنع السلاح الذي يحمينا، ونزرع الطعام الذي يغذينا، وننسج اللباس الذي يكسونا، ونتقن العلم الذي يغنينا، فذلك سبيل السلام والعزة التي أرادها الله لأوليائه، ولا يتم شيء من ذلك إلا بالعدل والمساواة والحرية، لأنها أركان الحياة الكريمة في الدنيا، مثلما أن الصلاة والزكاة والحج أركان الحياة السعيدة في الآخرة.ومشاطرة العالم في محاربة الإرهاب الحقيقي الإرهاب الذي تتفق كل الحضارات على مفهومه لا يعني الكف عن إعداد القوة المرهبة: حسياً ومعنوياً وإجرائياً، وحين تغل أيدينا عن صناعة السلاح وإنتاج المطعم والملبس وإشاعة العدل والحرية، وحين يحل الظلم محل العدل والعبودية محل الحرية، والفقر محل الغنى بفعل الآخر ومباركته فإن من حقنا ألا نذعن، فكل خطوة في سبيل إهانتنا ستتبعها خطوات أدهى وأمر، و«من يهن يسهل الهوان عليه»، وإذا سايرنا الغرب على مفهومه للإرهاب، عشنا أذلة، والله لايريد لعباده الذلة والمهانة. ومن حق المجتمع الإنساني المتمدين أن نشاطره في المفاهيم المشتركة، وأن نسهم معه في صناعة المدنية والحضارة ومطاردة الإرهاب الحقيقي، الذي يسيء العلاقات، وينسف الاتفاقات، ويؤثر على المصالح المشتركة،. ويشرعن للقوى الكبرى حق التدخل، ومتى أريد منا أن نكون: أذلة لا نملك السلاح، فقراء لا نملك الإنتاج، مستعبدين لا نملك حق تقرير المصير كان حقاً علينا ممارسة ما يعيد لنا إنسانيتنا بالأسلوب الذي نريد وبالطريقة التي نمتلك. ومن أبسط حقوقنا تعريف الإرهاب، وتحديد مفهومه، وتحديد النوع الذي نحاربه ونشاطر الغرب في محاربته. أما التوفر على القوة المرهبة لعدونا، وأما الدفاع المشروع عن حقوقنا، فليس من حق أحد أن يسلبنا إياه، باسم محاربة الإرهاب، وإذا تسلط الغرب على مصالحنا وعلى إخواننا العزل وعلى قضايانا المصيرية، فليس من الحكمة أن نسترضيه بالتنازلات، ولا أن نسايره باسم الوفاق العالمي، وفي سبيل الحصول على حقوقنا المشروعة يجب علينا فقه الواقع والتقدير والتوقيت، فالله قد خفف عنا، وعلم أن فينا ضعفاً، ولهذا فليس علينا تكليف أنفسنا فوق وسعها، ولنا- والحالة تلك- أن نجادل بالتي هي أحسن، وأن نتعمد أهون الضررين:- وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جباناً وكيف تليق بنا المسايرة والغرب يصف الفدائيين الذين يختارون الموت الشريف على الحياة المهينة بالإرهابيين، وما هم إرهابيون، إنهم يدافعون عن أرضهم وعن حرياتهم وعن أعراضهم. والغرب الديمقراطي الحامي للحرية ولحقوق الإنسان، كما يدعي، لا يتردد في وصفهم بالإرهابيين، فهل خرجوا من ديارهم لممارسة المقاومة، أم انهم أخرجوا منها، إنهم يقاومون على أرضهم المغتصبة، ويدافعون عن أعراضهم المنتهكة، ومع ذلك فالعدو بعدده وعتاده يمارس مع الأطفال والشيوخ والعجائز أبشع صور الإذلال، والغرب يشايعه، ويبارك خطواته، فيما يوظف البعض منا طاقاته البلاغية لاسترضائه وترسيخ مفاهيمه. أما الثانية: فقد وقع في خطأ آخر، ما كان له أن يفوت عليه، وهو العنوان«العنز التي تناطح الجبل» فالأمة الإسلامية وإن كانت في وضع موجع، ليست عنزاً إلى جانب جبل، ولو أن العالم الإسلامي لملم أطرافه، وسحب يداً واحدة من الغرب، وصفّى خلافاته الوهمية، وارتد إلى الداخل: يصنع إنسانه، ويحرث أرضه، ويكف شره عن جاره، ولم يكن مسرحاً للعب السياسة، ولم يختلف حكامه مع شعوبه، ولم يبذر مقدراته، ولم ينازع الغرب مصالحه المشروعة، ولم يستعن به على الأقربين، لكان مع وضعه مهيب الجانب، ولا تجوز الاستهانة بالأمة، مهما بلغت من الضعف، ذلك أنه ضعف من صنع أيدينا، وضعف عارض، وليس سمة ملازمة، وكيف يكون الضعف طبيعة، والإسلام سبق الحضارات في البحث والعلم والصناعة والفكر الاقتصادي والسياسي والعدل والمساواة والحرية وسائر القيم، وما من عمل أو نظام أسعد به الغرب إنسانه إلا أبانه الإسلام وسبق إليه، والإحباط واليأس والمرارة تزيد في الارتكاس، وتعطي للآخر فرصة الإيغال في الإذلال والإهانة، إن الغرب يزرع فينا اليأس والإحباط، ويمارس حرباً نفسية منظمة، أدت ثمارها. أما الثالثة: فأسلوب المعالجة الهزلي الموغل في الهزلية، فالقضية التي ندب الأستاذ«مشعل السديري» نفسه لمواجهتها مسألة فكرية عقدية مصيرية، وليس من الحصافة أن تعالج بهذا الأسلوب الهزلي، وبخاصة أن الكاتب يواجه مفكراً إسلامياً جاداً، ومع احتفائنا بسخرية الكاتب إلا أن لكل مقام مقالاً. |
منخنقات: المعية.. والضدية وتفخيخ الأسئلة..!
د. حسن بن فهد الهويمل عندما تتأزم الأمور، وتزلق المشاهد، يرتبك خطاب النخب والمتنخوبين والعلماء والمتعالمين، وتدخل الأمة في نفق الشك وجنون الارتياب، وتستفحل ظاهرة الأسئلة المريبة، أسئلة الاستكشاف والتصنيف، لا أسئلة الاستعلام والتعلم، ومثل ذلك عرض لمرض، ومؤشر على خلل في البنية الفكرية واستفحال للمراء العقيم باسم الجدل والمنطق. والخلي من هذه الريب تنتابه غفلة المؤمن، فلا يقيم وزنا للتحفظات ولا للمراجعات، قبل التفوه بأي اجابة، ومن ثم يبادر السائل بالجواب. والجواب الآمن يتعرض لأكثر من علامة استفهام، ويؤخذ بأكثر من مدخل، ويخضع لأكثر من تفسير. ومثلما يختل الأمن النفسي، يختل الأمن الفكري، مما يدفع بالمفكر الى كتم تفكيره ومسايرة الآخرين حبا للسلامة وايثارا للعافية، اذ هناك فتن يجسدها «الهرج» وأخرى تتبدى في «التهريج» واللسان آلية الحرب الباردة المحفزة والمنشطة لخلايا الحرب الساخنة. والمشاهد العربية تتصدع عن أسئلة مفخخة، تستدرج الشجي والخلي. وحين يعيش العالم والأديب والمفكر في حالة من الخوف والترقب، يتصوح نبت المعارف، ثم لا يكون عالم بصير، ولا ناصح خبير، ولا قدوة حسنة. ووابل الأسئلة التربصية تعمق الخيفة والتردد، وتحبس القول السديد في الحناجر. والرقابة غير المشروعة، وغير المؤسساتية، وغير المنظورة رقابة غوغائية، وهي أخطر على الفكر من أي رقابة، يتحرك ذووها وفق أصول وضوابط وصلاحيات مستمدة من شرعية السلطة، ومتطلبات الحرية المنضبطة. وحماية الأجواء الفكرية من التلوث أهم من حماية البيئة. وكم يتعرض المثقفون وأنصافهم والفارغون لأسئلة لا تخطر على بال، يبده احدهم بها متوتر او متربص او متعصب، لا يطلب علما، وانما يسبر حالا، ويكشف عن انتماء، وقد لا تتاح للمكره على الاجابة فرصة التأمل، ولا مندوحة التعويل على مقولة العالم المتضلع: «فيها قولان»، ولا الركون الى نصف العلم «لا أدري»، فالسائل يريد صريح العبارة، ومحدودية الموقف، ليشكل رؤيته عن المسؤول، ويصوغ اسلوب التعامل معه وسمة الموقف منه. فعندما يقول لك قائل: هل أنت مع امريكا او ضدها؟. أو يقول لك آخر: هل أنت مع الارهاب أو ضده؟ وهل أنت مع ضرب القاعدة او ضرب العراق؟ وحين يستوضح ثالث عن موقفك من الحزب القائم في الاذهان، او الحرب المتدخلة في الأوطان، أو المذهب الشائع على كل لسان، أو التيار السياسي الثائر على كل سائد، أو المعتقد الديني الخارج عن الاجماع والاجتماع، او المنحى الفكري العابث بكل مسلمة، او العالم الناقم البرم، او المعارض المتشنج، او التصريح السياسي، أو الفتوى القنواتية، او التغيير في المناهج، او حتى عن الكتاب الذي لم يقرأه، أو المقولة التي لم يفهمها، أو الفتيا المتداولة في الأوراق، او الموقع المعلوماتي الزاخر بالبهتان، أو ما شئت من فيوض القلم واللسان. ويتقاطر آخرون بطرح ثنائي يدور حول «المعية أؤ الضدية» تحس أمام كل ذلك بأنك مستهدف، وانك تقترب من مأسدة مخيفة، تتحول معها سمعتك الى حديث مجالس ومادة مواقع، واستنطاقك يلوي على مشروع تصنيفي تصفوي، يدخل بك الى الفئوية لتكون مع السائل أو ضده، محرما عليك الوسطية، او الحيادية، او التوقف، حتى الاستبانة والتثبت، وهما منهج اسلامي {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا إن جّاءّكٍمً فّاسٌقِ بٌنّبّأُ فّّتّبّيَّنٍوا}. وهناك تكون عدوا لدودا لمن يكره الحزبي المعين أو المعارض المعروف او يحبه، أو يكره «أمريكا» أو يعذّر لها، أؤ يأخذ بتلك المقولة، أو بتلك الفتيا، أو يتبع ذلك العالم أو ذاك الحركي، او يخالفهما. واشكاليتك تتضاعف حينما لا تكون مهتما بهذه المواقف المتشنجة، أو حينما تكون ممن خاف الفتنة فاعتزل المشاهد وما فيها من أشياء وأناسي، واهتم بخويصة نفسه. والتصنيف واستمراء الأعراض لا يصدران الا من مبتدىء او عاطفي لا يؤمن بالتعددية المعتبرة، أو من متسطح لا يعرف دواخل الامور وقوانين اللعب، او ممن تحقر صلاتك الى صلاته وصيامك الى صيامه، ولكنه يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ودم المسلم المعصوم عنده أهون من اراقة الماء العكر. ومن شاء ان يطمئن قلبه فليدخل على «المواقع الانترنتية» ليرى ماهو أسوأ من مذبحة «قانا» أو «حلبجة» مما يبعث على الاستياء والخوف، فمثل هذا الصنيع ناتج أخلاقيات خطيرة نُشىء عليها خليون، كانوا من قبل شبابا على فطرة الله التي فطر الناس عليها يكتظ بهم الشارع العربي من المحيط الى الخليج. واشكالية المشاهد في فترات التوتر والاهتياج انها تعيش صرعة التصنيف، فكل متكلم أو كاتب لابد أن يكون منتميا لطائفة فكرية أو دينية أو سياسية، سبقت تسميتها، وفرغ الفضوليون من تصنيفها، وليس لأحد بعد هذا حق الاجتهاد أو الاختيار. والمسألة اما ان تكون: معي او تكون ضدي على الطريقة «البوشية». ولكن ان تستعرض المسميات الفكرية والسياسية والدينية في سائر المشاهد العربية، من مثل «القومية» و«العلمانية» و«القطبية» و«الاخوانية» و«السرورية» و«العقلانية» و«الحداثية» و«الليبرالية» و«الحبشية» و«الجامية» و«الراديكالية» وما لا نهاية له من تلك المسميات التي فرقت كلمة الأمة، وجعلت أهلها شيعا يضرب بعضهم سمعة بعض، وقد يتطور الخلاف ليكون الضرب في الرقاب. وما عرفنا ذلك في طفولتنا، ولا في شبابنا، ولا في كهولتنا، ولما فوجئنا وفجعنا به، لم يكن في مقدورنا، وقد وهن العظم واشتعل الرأس شيبا ان نأخذ بحجز المتدافعين، ونردهم الى جادة الصواب. ولو نظرنا في صراعات تلك الطوائف، وتصفياتها للسمعة، وتراشقها ببذيء الكلام، وساقط القول، لهالنا الامر. وما من احد من هؤلاء واولئك الا هو هارب من النار، ولكنه ركب رأسه، واعجب برأيه، وجعل اصابعه في أذنيه، واستغشى ثيابه، وأصر، واستكبر استكبارا، فوقع في الهلكة. والذين يرسخون مفهوم «الحدية» و«الثنائية» يقترفون خطيئة كبرى، لانهم يضيقون واسعا، ويوسعون رقعة الخلاف والتنازع والشحناء. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتفادى دائما الحدية، وفي «حجة الوداع» ما سئل عن شيء الا قال: افعل ولا حرج. أو كما قال. والصحابة يختلفون، ولا يعادي بعضهم بعضا، واذا احتدم الخلاف بينهم، انتهوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصوب آراءهم، او سكت عن الاجابة، فعل ذلك عند امره بصلاة العصر في بني قريظة، وعند اختلاف عمر مع قارىء القرآن. وقد يحسم الموقف، كما في قوله: «أفتَّان أنت يا معاذ؟»، وقد يتولى الله فض المنازعات، كما في اقتتال «الطائفتين». وما من مخطىء بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بحق الاسلام أو بحق نفسه الا ويسمع من يقول بحضرة الرسول: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، والرسول الحريص على جمع الكلمة والرؤوف الرحيم بأمته، يؤلف القلوب، ويؤاخي بين المؤمنين، ولا يرضى ان يتحدث الناس بأنه يقتل أصحابه، وتلك نظرة ثاقبة لآثار حرب الشائعات. وحين لحق بالرفيق الأعلى، وتوقف وحي السماء، واندس «السبئيون» لتمزيق وحدة الأمة، وقعت الواقعة، ونال الأمة ما حذرها منه، وأخبر به بقوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقوله : «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فاذا اختلفتم فقوموا عنه». وحين اختلفوا عنده في مرض وفاته، صاح بهم: «قوموا عني»، فهو يكره الاختلاف والتنازع، ويعرف أثرهما على قوة الأمة وهيبتها، ولهذا أمر بالسمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر والأثرة، ونهى عن منازعة الأمر أهله، الا ان يرى المؤمن كفرا بواحا عنده من الله فيه برهان، وصدق الله: {وّالًفٌتًنّةٍ أّّشّدٍَ مٌنّ القّتًلٌ} وما نشاهده اليوم تدافع مستميت للفتنة، وعشق متيم للصراع، وكل من أراد استقطاب الغوغاء اقترب من المسكوت عنه، وكل من عشق الأضواء لغم كلماته، ثم أرسلها لتصنع له العجائب. |
منخنقات: المعية.. والضدية.. وتفخيخ الأسئلة..! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل وتفخيخ الأسئلة، والاستدراج عبر تلاحقها الملح، يشيع في الأمة الريبة والخوف، ويوطئ الأكناف للفتن العمياء، ويجمد على الشفاه تطلعات المفكرين والعلماء. وغياب مبدأ التعاذر، وافتقاد حسن النية والرأفة والرحمة مؤذن بفساد كبير. وأي سؤال تربصي وغير بريء يتخلل لحمته وسداه مشروعُ جواب استدراجي توريطي، وعند كل نحلة أو طائفة أسئلتها المزيفة، وقد تعرض كبار العلماء لمثل ذلك، ولعلنا نضرب المثل «بأبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري» صاحب الصحيح وبموقفه من قضية «خلق القرآن» فكلما دخل مدينة لطلب الحديث وروايته، دبرت له أسئلة تربصية مفخخة، فكان أن لقي الأذى والمضايقة والطرد. والأسئلة التربصية ينشئها غير مستعلم، ويتلقاها غير حصيف، ومن ثم لا تحيل إلى أزمة قائمة، وإنما تخلق أزمتها، أو تصعد أزمتها القائمة. وأحسب أن من المسلمات كمون الأزمات في زمن التحولات السياسية والفكرية، وتساؤلات الخيفة أو التخويف تحققية لا استعلامية. وتثوير ما لم ير صانع المشروع الوصول إليه يتيح فرصة التخلق للأمة، وفي زمن التخطيط لأي مشروع تتلاحق الأسئلة الاستشكافية أو الاسترشادية أو التعجيزية أو التوريطية. وعندما تمارس مثل هذه الرغبات مع الرسل يتولى المرسل حسم الموقف {لا تّسًأّّلٍوا عّنً أّّشًيّاءّ إن تٍبًدّ لّكٍمً تّسٍؤًكٍمً} وفي الصحيح عن أنس: أن ر جلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: «في النار» وفي الصحيحين «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته» وفيهما «فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم». وحين صعَّد السائلون أزمة الأسئلة، وأحفوا الرسول بالمسألة صعد المنبر قائلاً: «لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم». الأمر الذي حمل كبار الصحابة على الندم والبكاء، وتجديد الإيمان، والرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، مستعيذين من سوء الفتن، وكأن الأسئلة غير السوية طلائع للفتن. والإمام مالك رحمه الله فيما أعلم سئل عن مسألة، فقال للسائل، هل وقعت؟ قال: لا. قال: إذا وقعت فاسأل عنها من قِبَلك. أو كما قال. ولهذا فإن كثرة الأسئلة مؤشر حالة غير سوية، والمشاهد السياسية والدينية تعج بأسئلة افتراضية يتراشق بها المرتابون، ويفخخها المتربصون، ويغذيها الحزبيون والفئويون والمذهبيون المتعصبون والفضوليون، أسئلة لا تُستمد من الواقع، ولكنها تنسل من أفكار مرتابة متخوفة أو متربصة، تفترض أسوء الاحتمالات، وتشك حتى في اليقينيات، مقتربة من الشك الديكارتي، غير أنها لا تبحث عن الحقيقة. والتسيس الثوري لكل شيء أخطر من عسكرة الأمة، وفي كل منهما سلبياته القاتلة، وتلاحق الأسئلة عن الموقف من الأشياء والأناسي لقصد الاكتشاف والتصنيف مردهُ إلى ما تعيشه كافة المشاهد من ضغوط وتوتر، وما ترقبه من مخاضات، وما تتوقعه من تصرفات غير مأمونة العواقب، إضافة إلى صرعة التسييس والعصبية المقيتة. ولو أن السؤال منتج موقف ضاغط لتجاوز زيفه وتأزيمه، وأصبح قابلاً لجواب مفعم بالإيجابية. وحتى الفتيا التي تجيء في أعقاب سؤال ماكر ترفع نبض المشهد، وتعمق الخلاف، وتحشر الناس إلى ولاءات إقليمية أو فئوية. ومما أدركنا من تجارب سلفت استدراج المفكر إلى مصيدة المتماكر، ووضعه في موقف حرج أمام فخ السؤال المريب. والذين تتهاداهم قاعات التدريس أو منصات المحاضرات والندوات يحسون بالملاحقة المريبة، والاستدراج من حيث لا يحتسبون. والأسوء من كل ذلك أن تستدرج من حيث تعلم أو لا تعلم إلى وسيلة إعلامية ليتمتع بك الخليون، وتشفى بك صدور الحاقدين، ويملأ بك فراغ الفضوليين، ثم تنبذ بعد ذلك كسقط المتاع، لقد اشتركت القنوات والمستجيبون لها في إحراق السمعة، وليس من شك أن ملء الفراغات مهم ولكن بمقدار. والسؤال حين يتضلع من الافتعال والانفعال، ويفتقر إلى الضرورة والفعل، يتحول بذاته إلى إشكالية تتصدع عن نوابت سوء، تستفحل معها الإشكالية، ويستعصي تفادي أثرها السلبي. وكلما أتحنا فرصة لهذه النوعيات التي قد تحقر فعلنا إلى جانب فعلها أعطينا الدنية في ثوابتنا، وماذا علينا لو ملكنا الشجاعة، ووثقنا بأنفسنا وبمواقفنا، ولم نتح فرصة للمتخللين بأسئلتهم في نسجينا المتلاحم، وأعدنا السؤال إلى نحور أصحابه، بحيث لا ينالوا شيئاً، معتمدين على مشروعية «لا أدري» وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم أسئلة استعلام وأسئلة تحدٍ، سئل عن: «الروح والساعة والأنفال والإنفاق والقتال والخمر والميسر واليتامى والمحيض وذي القرنين والجبال» فلم يجب على الفور، بل انتظر وحي السماء، ومن حقنا انتظار ناتج التأمل والمراجعة وتقويم المواقف، ومن حقنا التفصيل في الإجابة والتعددية والاحتمالية. والمشاهد الفكرية والدينية والسياسية حين تقع تحت طائلة هوس الأسئلة المفتعلة تصاب بدخن الفتنة، وتتحول متونها وهوامشها البشرية إلى متربصين تصفويين. وحين يبدهك إنسان من هذه النوعية بسؤال مصيري تكون حسب المفاهيم السائدة ملزماً بالإجابة الفورية، وكأنك في مسابقة تحسب زمن التأمل، وحين تتردد أو تتلعثم أو تتخلص كما «أسلوب الحكيم» تقع تحت طائلة الاتهام. ولأن السؤال يحمل ثنائية صارمة فإنك محصور بين «لا» أو «نعم»، وليس من حقك «قد يكون». وهذه الظواهر غير السوية ناتج تربية سيئة، من واجبنا أن نعيد النظر فيها، وأن نواجهها بقوة وثقة، لا نخشى فيها لومة لائم. والمسألة الدينية التعبدية وغير التعبدية والرؤى السياسية وسط أعاصير التحولات هي المجال الأرحب لصناعة السؤال المزيف من العامة والدهماء التي يتحاماها الجميع، لأنها تعيش تحت وطأة التجييش العاطفي الأهوج، ومتى تشكل وعيها من أسئلة الزيف تحولت إلى تيار جارف، يفرض الفوضوية وسيادة الجهل، وكيف لا يكون والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بنزول الجهل ورفع العلم وكثرة القتل. وتشكيل الوعي الجمعي من السؤال والجواب والشريط والمنشور والمواقع المتسربة من محدودي الفهم والعلم والتجربة يحول الرؤى والتعددية والفسح والاحتمالات إلى مواقف حدية صارمة كحد السيف. واحتدام العامة، وتدخلهم في اختصاص المؤسسات لا يكون ملفتاً للنظر إلا في الظروف المتوترة، وقد مر التاريخ الإسلامي بمثل هذه الحالات، والدراسات المثيرة عن أحوال العامة في بغداد في القرن الرابع والخامس انطوت على تصرفات غريبة. و«الحدية» تفوت على الأمة فرص التفكير، إذ المسألة عندها إما أبيض فاقع اللون، أو أسود قاتم اللون. وعندما لا يكون طرفان ووسط، ومواقع رمادية، تتعطل لغة العقل، وتنعدم فرصة الخيارات، وتلك قاصمة الظهر. ولست أشك أن الخطورة المترتبة على استمرار الأسئلة لا تقل عن الجرأة على الفتيا، ذلك أنها ناتج سؤال متوتر، وفي الأثر «أجرؤ الناس على الفتيا أجرؤهم على النار». إن افتراض إشكالية دينية لم تقم، تعني تعطيل الفعالية أمام إشكاليات قائمة. وهلوسة الأسئلة تستدعي كثرة المجيبين، ومن ثم يكثر المتعالمون والجهلة، ذلك أن مثل هذه الحالة غير السوية تدخل بالأمة نفق العرض والطلب، فإذا كان السؤال طلباً فإنه يفوق العرض، ومن ثم يختل التوازن، ويكثر الطلب على المهيئين للإجابة على الأسئلة، وإذا استشرت ظاهرة التعالم لسد الثغرات هلكت الأمة. وصرعة الأسئلة الاستدراجية حملت الكفاءات العلمية والفكرية على التراجع، وعرضت آخرين للمساءلة، ومتى أصاخ العالم و المفكر، وأوجس خيفة من القول والصمت تشكلت الذهنيات المرتابة، وأصبحت المشاهد مساحة ملغومة، ومما ضاعف الإشكالية هوس المواقع على «الانترنت» فكل من ضاقت به الحيل، وأرهقه الفراغ، تمطى على موقعه، واستقبل فيوض القول في الجرح والتعديل والتزكية والتخوين والوعد والوعيد، وكل داخل على الموقع للاستخبار يقول: اللهم سلم سلم. وسؤال الأسئلة: من المسؤول عن اندلاق أقتاب الأسئلة المريبة، ومن المسؤول عن إيقاف النزيف؟ التربية أم السلطة أم النخبة؟. |
الحمدلله
وصلنا إلى نهاية تراث الدكتور حسن في 2002م بقي 2001م و2000م و1999م و1989م إن شاء الله |
موفق أخي ..
|
الساعة الآن +4: 08:05 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.