بريدة ستي

بريدة ستي (http://www.buraydahcity.net/vb/index.php)
-   ســاحـة مــفــتــوحـــة (http://www.buraydahcity.net/vb/forumdisplay.php?f=2)
-   -   ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة .. (http://www.buraydahcity.net/vb/showthread.php?t=68334)

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:08 PM

إخفاقات السرد بين تجريب القص وغياب النقد 1-3
د. حسن الهويمل


(السرد) مصطلح بإزاء (الشعر) وبإزاء (الحوار) . و (السردية) نمط إبداعي يميزه شرطه وشكله ولغته وتقنية معماره. ولا تكون السرديات مجرد الكتابة الحاكية لحدث ما. إن هناك أركاناً تداولها النقاد ك (الحكاية) و (الحبكة) و (الشخصية) و (اللغة) و (التكنيك الفني) أو ما يسمى ب (الشكل) أو (البناء) و (الزمان) و (المكان) . وأي قول لا يحتكم ذووه عند الاختلاف إلى مرجعية، لا يكون فناً، وليس شرط المرجعية أن تكون مكتوبة، فكم من معهود ذهني يفعل فعل الشرط المكتوب، والتماس المرجعيات أو الإحالة إليها، لا يعني الحدَّ من التحرف الراشد للتجديد. ومن المثبطات أن محاولة الأخذ بحجز المتهافتين على التجريب، الرافضين لكل سلطان مغامرة محفوفة بالمخاطر. ومواجهة الروائيين والقصاص المخفقين بما هم عليه مؤذن بمناكفات مُسِفَّة على حد: (ما تركِ قولُ الحقِّ لي صديقاً) .
لقد كانت لي تجاربي غير السارة، فعندما تحدثت عن تاريخ السرديات المحلية فضَّلت ألا أكون حيادياً، يصف الواقع كما هو، بل غامرت في التقويم، وتحفظت على الاندفاع غير المحسوب وغير المتزن في التجريب، وأبنت نصحي لكل المغامرين الذين نكّبوا عن ذكر العواقب جانباً. هذه الرغبة المنطقية في الانْحياز الفني واللغوي والدلالي أثارت طائفة من السرديين والنقاد، بحيث حكموا بضعف إمكانياتي وبدائية تجربتي في النقد السردي، حتى قال قائلهم: (إن اشتغالي بالسرديات فضيحة نقدية) . ولما أحسست أن طائفة من ذوي الشأن لم يستبينوا النصح، ولم يقارعوا الحجة بمثلها، لم أعاقب بمثل ما عوقبت به، ولم أصبر، ولم أكن في ضيق مما يقولون، وإنما مارست الدراسة التطبيقية للنقد البنيوي للرواية، وتعمدت نشرها تباعاً، حتى نيفت على ثلاثين حلقة. ولست أدري عما إذا كان المعترضون يصرون على حنثهم، أم أنهم لاذوا بالصمت، فما عاد يعنيني قولٌ لا يهدي إليّ عيوبي.
والقارئ المتابع لكل مستجد، يكشف كل يوم عن جهل جديد بما يكتسبه من معارف لم يكن يعلمها من قبل. وكل معلومة يضيفها إلى رصيده المعرفي تعدل أو تلغي أو تضيف إلى ما قد قاله من قبل. ومن تصور أن قوله السالف قول فصل، وأنه لا معقب لرؤيته، فقد جمع بين الجهل والحمق، بل ربما زاد جهله، فصار كمن يجهل أنه يجهل. وهذا ما عرف بالجهل المركب، وما أكثر الذين يقترفون ذلك، ولا يدركون أنهم كذلك. لقد جئنا متأخرين إلى المشهد السردي، وكان مجيئاً متواضعاً يقعد به ضعف الرواد وهيمنة الشعر. فمحاولات (عبد القدوس الأنصاري) و (أحمد السباعي) و (محمد المغربي) لم تتوفر على أصول الفن، ولم يكن المشهد حفياً بالسرديات، كما لم يكن التأسيس من بعد على يد (حامد دمنهوري) مسنوداً بالقبول ولا بالنقد المعرفي المتمكن. ولما جاءت مرحلة الانطلاق، وكثر الموهوبون والمقتدرون والأدعياء واستخفهم نقد مساير أو مجامل، كانت المشاهد كلها تتخبط في لجج التجريب والحداثة وطوفان المستجدات والمترجمات. ومما زاد الأمر تعقيداً الإلحاح على حرية التعبير والتفكير، والتوسل بالواقعيات اللغوية والسلوكية، وطغيان أدب الاعتراف. ولما تزل حركة النقد السردي متواضعة وغير مطمئنة. فهي إما: انطباعية أو متشايلة أو مدارية. ولما يكن لدينا نقد روائي مضارع للنقد الشعري، ولا نقد روائي معرفي معياري، كما هو في بعض أنحاء الوطن العربي. والعائدون من البعثات، لم يكن رهانهم على السرديات، وإنما استزلهم سلطان الشعر، وألهاهم التنظير، واستهلكهم العمل الأكاديمي، فكان أن خلا الجو (لقبّرات) باضت وصفرت.
ولأني خبير - كبني لهب - بمشهدنا الأدبي وإيقاعاته المتسارعة، فقد تجرعت مرارة المزايدات، وإصرار البعض على جودة ما يفيض به على مشهده، واستكباره على الناصحين، ورفضه لكلمة الحق. وعلاقتي بالسرديات لم تكن حديثة عهد، كما يحلو للبعض إشاعته، للتقليل من رؤيتي، وإن كان تخصصي في الشعر المعاصر، وسلطانه قد بطأ بالحضور السردي: إبداعاً ونقداً، وفوت على المبدعين السرديين مثولهم أمام مرايا النقد بكل تشكلاتها: المسطحة والمقعرة والمحدبة والمتجاورة. لقد كانت متابعتي للإبداع السردي وتحولاته الفنية واللغوية والدلالية: محلياً وعربياً سبباً رئيساً للإلحاح في التساؤل المشروع. والمبدعون المبتدئون لا يروق لهم أن يُسألوا عما يفعلون، فهم يريدون الحرية المطلقة والشاملة:
الحرية المطلقة من سلطة الدين والسياسة والمجتمع.
والحرية الشاملة للأبعاد الفنية واللغوية والدلالية.
أو على الأقل الأخذ بنهم، والمطالبة بإلحاح. وليس من مصلحة المشاهد أن تكون بهذه الفوضوية لا سراة لها، ولا سراة إذا جهالها سادوا. وكم هو الفرق بين السلطة والتسلط، والحرية والفوضوية، والتجريب والتخريب. ومن قلّب لمشهده الأمور فقد أراهم ما يرى من زائف القول.
وهذا التفلت ضرب الفن السردي في الصميم، وأثار جدلاً (أيديولوجياً) وفنياً وأخلاقياً ولغوياً. وحق (الحرية) ومشروعية (التجريب) عول عليهما من لا يعرفون حدود الحرية وأمداء التجريب، ولحق بهم من لم تكتمل عندهم آليات الفن، ولم تنضج عندهم التجارب، ولم يتوفروا على الأجواء الملائمة، فكانت الإخفاقات الموجعة في ظل نقد غائب أو مداهن. والنقد حين لا يؤدي وظيفته، ولا يتوفر الناقد على ثقافة بمقتضياته المعرفية وبحسه الذوقي تكون الفوضى والتخريب، وهو ما لا يوده الحريصون على التوازن. والفوضى باسم الحرية، والتخريب باسم التجريب أبرز سمات الإخفاقات السردية: محلياً وعربياً، وهي التي شغلت المشهد، ولم يصل المتصارعون على حلبته إلى حل وسط، يفك الاشتباك، ويكفل الحرية المنضبطة والتجريب المشروع.
وفي خضم الصراع الذي لا تحكمه شرعة ولا منهاج، تحولت الظاهرة السردية إلى إشكالية مأزومة، أحس معها المؤصلون والمحررون لمسائلهم بالحرج. فالناقد المعرفي المعياري الأخلاقي لا يمكن أن يقيم وزناً للانفلات الفني واللغوي، ولا أن يسلم لفلتات العهر والكفر تحت أي اسم. وقدره الموجع أنه متى وجد نفسه ملزمةً بالتصدي لظواهر العبث والمجون والانحراف الفكري والسقوط الأخلاقي فإنه سيواجه بألسنة حداد، تتنادى بأنديتها، ثم لا تكون لديه زبانية تحميه من سلقها. وإشكالية الصراع الفكري والفني والأخلاقي تنتاب المشاهد العربية كافة، وتكاد تصدع الوحدة الفكرية. ولو عاد الأطراف المتشاكسون إلى كلمة سواء، لاقتربت الأزمة من الحل، فما استعصى على قوم منال إذا حكمتهم المرجعية، ونشدوا الحق. لقد تمرد روائيون على الثوابت، وكان أن لجت المشاهد وكان العتو وكان النفور، ورمّت الجروح على فساد، فما يدري ذوو الشأن متى تعود إلى الانفجار.
والإبداع بكل أنواعه القولية والفعلية تحكمه ضوابط وذوائق، وتسهم في تشكله بيئات وحضارات، وهو أشد وثوقاً بالأجناس البشرية، وقد تؤدي خلطة الحضارات إلى التجانس، ولكنها لا تغلي فناً على حساب الفن الآخر، ولا تهمش حضارة أو تزوي أخرى، فالتكافؤ والتكامل والتفاعل حق مشروع لكل الحضارات، وأي هاجس للهيمنة أو الإقصاء مُؤذِن بفساد الفن. وإذا كانت كل وجوه الحياة مضبوطة بسننها وأنظمتها ومعاييرها فإن (الفن القولي) وجه من وجوه الحياة، وهو الأحق بالانضباط. والقول بالنظام واحترام خصوصية كل نوع فني لا يعني الجمود والرتابة والنمطية، وفي الوقت نفسه فإن التكسير والمغايرة المطلقة والذوبان في الآخر والتحلل من كل الضوابط والأعراف والمسلمات لا يعني التجديد. إن هناك تقليداً معيباً، ومحافظة محترمة، وتجديداً مطلوباً، وحداثة محظورة، وتخريباً مرفوضاً. وكل متعالق مع وضع من هذه الأوضاع يرى أنه الأحق والأصح. والمتابع للأعمال السردية والدراسات النقدية تنتابه الحيرة في التعرف على أنواع (الفن القولي) ، حتى لا يدري ما القصة وما الرواية. والشعر الأكثر تميزاً مسه طائف من الفوضوية، فلم يعد متميزاً عن السرد بعد مجيء (قصيدة النثر) وتحولاتها الشكلية واللغوية والدلالية. وهذا الخلط العجيب حمل المتواطئين مع العابثين على إطلاق مصطلح (الكتابة) والاستغناء به عما سواه من أنواع الفن القولي، وكأن إطلاق هذا المصطلح منقذ من تمييع الفوارق بين فنون القول، وحاضر النقد وماضيه يفرق بين الأجناس وأنواعها.
والعمل الروائي حين يكون جنساً سردياً له أنواعه، يكون بجملته من نصيب مصطلح (أدبية النص) ، ويكون على المبدع أن يتوفر على مقتضيات (الأدبية) ، مثلما يتوفر الشاعر على متطلبات (الشعرية) ، و (أدبية النص) مصطلح تشعبت فيه الآراء، ولما يستقر النقاد معه على وصف جامع مانع. يقول (توفيق الزيدي) : (إن الأدبيّة مفهوم غامض إلى حد الحيرة مجرد إلى حد الاستعصاء) . ومع الغموض والتجريد فقد تقصاه في كتب التراث ووقف على رؤى متعددة تشكل بمجموعها مفهوماً واضح المعالم.
والتراث النقدي يلمح إلى مستويات النص السردي بالانطباعية، وقد يشير إلى ما هو داخل النص أو خارجه من تخييل أو إيقاع. فحين يكون هناك استحسان، يكون هناك مفاضلة، ثم يكون تعليل يتحول إلى شرط أسلوبي. وتحقق (الأدبية) يكون بالضوابط والانضباط، ضوابط اللغة والفن والانضباط الأخلاقي، وإن كانت الفنيات في معزل عن الأخلاق، تمشياً مع التوجيه الرباني {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون} فقد سماهم شعراء مع ثبوت الغواية والكذب. وتعويلاً على النماذج تدرج الأدباء في التأصيل لسائر فنون القول التراثية من الانفعالية إلى المفاضلة، ومنها إلى التأصيل. أما في السرديات المعاصرة فالأمر مختلف جداً، لأن القص وصل إلينا من الغرب ناضجاً، ولم تتح لنا فرصة الانفعال والمفاصلة والتأصيل الذاتي، كما لم نأخذ بما لدينا من أحسن القصص، هذه الصيرورة فوتت علينا لذة المبادرة.
وعلى الرغم من أننا كما الطاعم الكاسي، فقد قام الجدل حول هذا اللون الإبداعي المجلوب، ومتى أحس المبدع أن السمة والضابط عائقان للإبداع دخل النقد في تنازلات مخلة بالأهلية. والمشهد النقدي الحديث تنازعته البنيتان: (اللغوية) و (الدلالية) ، ولم تثره (الفنية) بالقدر الكافي. ولقد علت نبرة الجدل حول حرية المبدع ومفهوم الحرية، وألفت كتب كثيرة حول هذا المفهوم المستعصي.
وإشكالية الفن كامنة في التنازع حول مهمته بين الانفعالية والتوصيلية. فهل المبدع مصلح أو ممتع، موصل أو مثير؟ وهل من واجبه أن يفهم ضوابط الفن؟ بمعنى أن يكون على دراية تامة بأصول الفن أو لا يكون. الحق أن على المبدع أن يكون موهوباً بالدرجة الأولى، وأن يتوفر على الدراية والدربة، وأن يمر بتجربة ناضجة، وأن تظله أجواء كافية من الحرية. ولأنه جزء من المجتمع فإن عليه أن يحسن التعامل مع سلطاته الثلاث: الدين، والسياسة، والمجتمع. وفردية الفنان التي يلح عليها البعض، لا تعني تخويله الخروج المؤذي على المسلمات، إنه مطالب بالحفاظ على الفن من أن ينزلق في الفوضوية، ومسؤوليته فنية وأخلاقية، ومتى تعرض الفن للانحطاط أو للنمطية فإن الناقد مسؤول عن إقالة عثرته وذلك بصد المتهافتين، وتعليم الجاهلين، وحماية جناب القيم كافة.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:09 PM

إخفاقات السرد بين تجريب المبدع وغياب النقد « 2 - 3 »
د. حسن بن فهد الهويمل


وتفاقم الاختلاف حول المفاهيم السلبية للحرية: حرية التجريب الفني، وحرية التعبير الدلالي، يكاد يكون هو السائد المأزوم في أوساط السرديين، وإن تمخض عن شيء قليل من النفع فإن ضرر الممارسة أكبر، وحين يقوم التشريع على التغليب، فإنه لا مكان لهذه المفاهيم الخاطئة. وعوالم الفن تمنح المبدع حق الرصد لانفعاله، ولكن ليس من حقه أن يرصد أي انفعال، دون النظر إلى طبيعة المجتمع، وليس من حق النقاد أيضاً أن يطرحوا كل شيء للنقاش. وكل مسألة تأويلية فيها نظر؛ ذلك أن أي حضارة لها مقدسها الذي لا يجوز المساس به، ولها طرائق أدائها التي لا يباح العدول عنها، إلا إذا كان فيها عوج أو طول. والفن له حدود وقيود وشروط لا يسوغ تجاهلها. وكل هذه الضوابط لا تمنع من التجريب، ولا من التناغم مع سائر المستجدات، ولا مع استشراف المستقبل. ومشروعية التجريب والتناغم والاستشراف لا تعني الانسلاخ، ولا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وإذا كان الناس لا يصلحون مع الفوضى، فإن الفنّ هو الآخر لا يزدهر في ظل العبث بثوابته ومحقّقاته. وبعض الإطلاقات التراثية عن نكد الشعر، وعن عدم تألقه إلا في ظل الكذب، وعن كونه بمعزل عن الدين إطلاقات رهينة للمقتضى الإسلامي الذي لم يفرط في الكتاب من شيء.
والحرية التي يحيل عليها كل مستخف، لا بد أن تكون منضبطة، سواء على مستوى الفكر أو الإبداع أو الممارسة. وليس هناك أي تعارض بين ضوابط الحرية وهواجس التنوير والنهضة والتحيز العلمي. والمجتمع لا يكون مجتمعاً سليماً حتى تسود أعرافه ومسلماته وضوابطه؛ فكل تجمع إنساني لا يقوم إلا على (عقد اجتماعي)، ومخالفة مقتضيات العقد باسم الفن أو باسم الحرية الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية خروج على المعقول.
ومشكلة الحرية تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، وبخاصة بعد استفحال (الوجودية) بكل ما تعج به من غثائية وعبثية وتمرد فوضوي أشعل فتيله الإلزام (الماركسي) والهيمنة (الرأسمالية). إنّ هناك (وجودية) إزاء (الماركسية) و(ليبرالية) إزاء (البورجوازية)، وكلما تطرف قوم بآرائهم هيؤوا الأجواء لتطرف مضاد. ومع أن بعض المذاهب خبت نارها، وصارت رماداً بعد سطوع ثاقب، فقد توهم المستغربون أنهم باستعادتها يزيدونها سعيراً. لقد أعطت (الوجودية) الإنسان المتمرد لوجه الشيطان والنفس الأمارة بالسوء مساحة واسعة أفقدته إنسانيته وكرست حيوانيته، ولما يزل مرتبكاً يلح في تساؤله عن حدود الحرية؛ لأنها عشقه ومشكلته في آن؛ ولهذا لم يستطع تعريفها ولا معرفة حدودها. فهل هي انعدام السلطة، أم قمع التسلط؟، وهل هي المساواة، أم هي حرية التصرف؟، وهل هي موضوع نظري أم ممارسة واقعية؟. لقد تحدث (زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الحرية) عن معناها وضروبها ومجالاتها (النفسية، واللاهوتية)، وفرق بين (حرية الإرادة) و(إرادة الحرية) و(الحرية) و(التحرر) وعلاقتها بالوجود الإنساني، ولكنه في النهاية قطع باستحالة حل معضلاتها.
ومن بعده تناولها على مستويات متفاوتة، وعبر مجالات مختلفة (سرّي نسيبة) في كتابه (الحرية بين الحد والمطلق)، و(محمد العزب موسى) في (حرية الفكر)، و(رفيق حبيب) في (المقدس والحرية)، و(إيزيا برلين) في (حدود الحرية), و(حسن سليمان) في (حرية الفنان).. وكل أولئك تحدثوا عن حرية الفن والفكر، ولم يتعرضوا بشكل مفصل للحرية الأخلاقية في الإبداع السردي، ولا للحرية السياسية والدينية. والذي يهمنا هنا (حرية المبدع السردي) بوصفها من أهم عوامل الإخفاق. وتناول الحرية بمفهومها الواسع، يمس الجانب الأخلاقي والفني والشكلي واللغوي، وهذه الأبعاد هي مجال المعارك النقدية، وبخاصة بعد استشراء (الحداثة) واضطراب المفاهيم حول مقتضياتها الفكرية والأخلاقية والفنية، وتعالق الأغبياء والمتغابين معها تعويلاً على مدلولها اللغوي. وهذا التخبط حمل طائفة من النقاد على إعادة القول في النقد الأخلاقي: تنظيراً وتطبيقاً، وهو ما زاد حدة الخلاف بين فلول الحداثة ومن خالفهم.
لقد كان جديراً بالعمل الروائي بوصفه إبداعاً قولياً أن ينهض بمهمة التثقيف والتطهير والاستشراف والانطلاق في آفاق المعاصرة الواعية، وأن يعرف كم هو الفرق بين تجريب يحقق الأفضل، وعبث يمعن في إضاعة الجهد والمال والوقت، ويمكّن العاجزين والمقتدرين غير الموهوبين والموهوبين المتمردين على ضوابط الفن من تصدر المشاهد بكتابات فيها كل شيء إلا الفن السردي، وإذا تحقق الأفضل عند الموهوبين المجددين فإن طوفان التخريب أضاع لذة التجاوز إلى الأفضل.
إنّ دعوى التعصرن هدف الأكثرين اندفاعاً في مهاوي الانسلاخ. والفرق واضح بين مارق من قيمة كما يمرق السهم من الرمية، ومارق بقيمة لتكون حاضر المشهد المعاصر.. وكل خارج على الضوابط في مجال السرديات يدعي أنه الأحق بالنبوغ والأكثر صلة بالتجديد المشروع. والتجديد المعتبر لا يقبل بالتفلت من قيود الفن وضوابط الحرية. وما جناية النقاد المواطئين بأقل من جناية المبدعين المتمردين لوجه العبث المضاعف: عبث في القيم الأخلاقية، وعبث في القيم الفنية.
وإذا استقرت في الأذهان أصول الفن السردي، وتوارثها الأجيال بعد الانفتاح المبكر على الغرب، فإن ذلك لا يمنع من الإضافة والتعديل والمزج والابتكار. وحين يتمرد المبدع على المسلمات الفنية، فإن شرط القبول أن يأتي بما هو أحسن؛ ذلك أن التجديد لا يكون دركات، ولكنه يكون صعوداً في سلم الدرجات. والملتقي الواعي لا ينظر إلى الكم المنتج، ولا إلى المخالفة المطلقة، وإنما همه الكيف، وهدفه التحرف للأفضل، وهذا غير معتبر عند طائفة من هواة التجريب لذاته.
لقد شُغلت السرديات الحديثة بعدة خطابات، تتفاوت في سلم الأهمية والمشروعية:
- الخطاب الواقعي بشقيه: الاجتماعي والماركسي.
- الخطاب المادي.
- الخطاب السياسي بكل توجهاته.
- الخطاب العقلي.
- الخطاب (الوجودي)
وتنازع الروائيون والقصاص والنقاد هذه الخطابات، فكان الراصد والمؤرخ والناقد والمحلل والمتبني والرافض والمكسر، ودخلت هذه الخطابات في تنازع البقاء، وتبدى التنازع في تكريس المقتضى، بحيث طغت المادية على الروحية، والعقلية على النصوصية، والعبثية على الموضوعية. وكادت تستوي في المشاهد الأنوار والظلم، ومع تحكّم المادة النافية للما ورائي، والعقل النافي للنص، والشهوة النافية للحرمات بالمضمون فقد تحكمت الحرية الوجودية بالفن، وظلت عناصر الرواية وأركانها المجال الأوفر لرهان النقاد وتجريب المبدعين المتذرعين بالحرية والمتوسلين بحق التجريب. وطال التجريب كل العناصر، فكان (البطل) مرتكز التجليات والتخليات الخطابية. نلمس ذلك في دراسات رصدية وتحليلية متعاقبة عند (أحمد الهواري) في (البطل المعاصر في الرواية المصرية)، وعند (أحمد الحجاجي) في (مولد البطل في السيرة الشعبية) وعند (حسن حجاب الحازمي) في (البطل في الرواية السعودية)؛ ذلك أن (البطل) جماع التنازع الحسي والمعنوي، ومن خلاله يستبين المتابع مراد المبدع.
ولأن الشخصيات الثانوية بوصفها الصف الثاني وراء البطل تشكل العنصر الأهم في الإبداع السردي، فقد أصبحت هي الأخرى مجال التجريب. ومن متابعة البطل والشخصيات الروائية يتبين إخفاق عدد من الروائيين في إحكام صنعها. ولكونها كذلك فإن إحداث تحوّل في جلبها وتلبسها بالفعل، يتطلب مراعاة دقيقة لمختلف الرؤى الفنية، وليست العبثية في أدوار الشخصيات وسماتهم من التجديد المعتبر.
وللشخصية الروائية أبعاد وأنواع، قلّ أن يحفل بها الكتبة الذين يملكون موهبة غير مصقولة، أو قدرة غير موهوبة، وكم تجني رغبة التجريب على فئتي الموهبة والاقتدار، فتظل الشخصية بكل أنواعها: المسطحة والنامية والنموذجية، وبكل أبعادها: المادية والاجتماعية والنفسية والفكرية متاهة لا يعرف المتلقي موقعه منها. فالمبدع المبتدئ والمقتدر المتعثر، يخلطان بين الأنواع والأبعاد، ثم لا يحسنان أساليب رسم الشخصيات. وإذ تكون السرديات العربية محيلة إلى ضوابط السرد الغربي، فإن على الروائي والناقد إمعان النظر في تقنيات رسم الشخصية من خلال التصوير القائم على الحدث والحوار، ومن خلال الاستبطان القائم على المناجاة الداخلية والتذكر والحلم، ومن خلال التقريرية في رسم الشخصية. ومع استشعار هذه الضوابط المتداولة لدى النقاد التطبيقيين والمنظرين فإننا لا نجد مانعاً من التجريب الذي يحمل على الاستجابة لتغيير مفهوم الإنسان المعاصر. لقد نال الشخصية الروائية من التجريب ما أثار سخط النقاد الذين يعون متطلبات المرحلة، ويدركون تنوع الشخصيات الروائية.
وحتمية التعدد الشخصي تقتضي تصور كل شخصية كما هي في الواقع، ثم تحويلها من سياقها الوجودي إلى سياقها الفني، وهما سياقان مختلفان اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وهذا الوعي يقي من الوقوع في المسخ أو التضليل اللذين يحولانها إلى شخصية باهتة، بلا اسم ولا قدر ولا أعماق. والنقاد الغربيون تقصوا التحولات السردية إزاء الشخصية المقبول منها والمرفوض، وإن كان ثمة إضافة فلتكن خيراً مما أحدثوا أو يحدثون.
والخطابات المتعددة تنطلق من رؤية المبدع، وليس شرطاً أن تستجيب لتطلعات المتلقي، ولا أن تجمجم عما في نفسه؛ فالروائي ليس على المتلقي بوكيل. ولقد يكون من عوامل نجاح العمل الروائي أن يستفز قارئه بقدر يغير من تطلعاته ومسلماته، غير أن هذه المغايرة محكومة بمعايير قد لا تكون حاضرة المبدع، وقد يتعمد المبدع تغييبها ليمعن في الإثارة. ومشروعية أي تحرف لا تنجي الفعل من ضوابطه، وعوالم القيم لا مكان للعبث غير المسؤول فيها: فنياً وفكرياً ولغوياً.
وإذا تجاوزنا عنصر (الشخصية) في الرواية، نقف أمام (الشكل) الذي يعد من معضلات السرد. والمتابع للإبداعات يقف امام مفارقات أصبح معها (الشكل) إشكالية متنامية. وتفادياً للتشتت في الآراء سنصرف النظر عن الرؤى التنظيرية عند (هيجل) و(كولدمان) و(باختين) و(لوكاش) و(جوليا كرستينا) التي هالها صخب المنظرين، ومن ثم اعترضت على القول: ب(سيولة الرواية)، ورفضت انعدام الشكل، وأصرت على أن للرواية شكلها وقانونها وأسلوبها الخاص، وتحفظها على مقولة (روجي كابلوا) التي لخصها (حسن بحيري) في كتابه (بنية الشكل الروائي) ومفادها (أن الرواية ليست لها قواعد، فكل شيء مسموح به.. إنها تنمو كعشب متوحش في أرض بوار). ومثل هذه الاطلاقات غير المحددة تحولت إلى مهايع، تزاحم حولها كل من أعوزته الموهبة والثقافة، فكانت الفوضى في أبشع صورها. واتكاء على هذا الانفتاح عمد البعض إلى كتابة سطر أو سطرين، وعد ذلك بمواطأة مشتركة من النقاد إبداعاً قصصياً. ولقد استهوت تلك الظاهرة الشكلية عدداً من القصاص (السعوديين) فتسابقوا في كتابة خواطرهم التي تقبلها المغررون بالقبول الحسن. والمتابع لكتب (يمنى العيد) (الكتابة تحول في التحول) و(في معرفة النص) و(فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب) يقف على إرهاصات لهذه التحولات الجذرية، ولا أحسبها تقبل بهذا الاندفاع، ولا يرحب صدرها بهذا الحجم من القطيعة المتمثلة بالمعمار والإيقاع الدلالي، وهي بمجمل آرائها واكبت النقاد المغاربة الذين ألهتهم اللسانيات عما سواها، فكان ما هو معاش من انفلات فني ودلالي ولغوي وشكلي.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:10 PM

إخفاقات السرد بين تجريب القص وغياب النقد3 - 3
د. حسن بن فهد الهويمل


لقد تبدت الخلافات العميقة بين النقاد الغربيين حول علم اللغة وعلم الدلالة ومناحي الفن، واقتفى أثرهم كبار النقاد العرب بحيث تلقوا خلافاتهم وأمروها بوعي، أو بدون وعي على إبداعات المبدعين ودراسات الدارسين، الأمر الذي قاد المشهد النقدي إلى فوضوية مكَّنت المبتدئين من استغلال الموقف، والخلط بين القصة والأقصوصة، والرواية والخاطرة والمقالة والسيرة وسائر الفنون السردية.
ومهما عوَّل المنظِّرون على مقولة: إن الرواية عديمة الشكل، فإن المبدع الحق لا ينفك عن سمات الإبداع التي تميِّز الجنس الروائي، ومضمونه وفنياته عن سائر الأجناس السردية والأنواع الشعرية، ذلك أن مجرد القول معطى كل إنسان له لسان وشفتان، أمَّا الإبداع فصعب وطويل سلمه.
إن للقول الإبداعي سردياً كان أو نظمياً نظاماً مضمراً يعيه المبدع، ويتمثَّله دون عناء أو تعمُّل، وله جماليات يختزن مواصفاتها من خلال ما تتداوله المشاهد من نماذج متميزة، لقد تعقَّب النقاد البناء الإيقاعي، ليس فقط ما يتعلَّق منه باللغة، وإنما امتدت الرؤية إلى الإيقاع في بناء الرواية ومعمارها وموضوعاتها وشخصياتها، ونظروا إلى حركة الحدث والزمان والمكان، وإمكانية ضبط حركة ذلك كله.. ولم يكن الإيقاع وقفاً على التكرار كما يراه البعض، ومتى جاء التكرار لأغراض فنية أو نفسية أو فكرية توفرت الدلالة والإيقاع - أي إيقاع الحدث - وإذا اختلف النقاد حول تحديد عناصر الشكل الروائي، فإن هذا لا يخوِّل المبتدئين والمقتدرين العبث الكتابي باسم العمل الروائي، يقول (البحراوي): (وبالرغم من أن معظم النقاد متفقون على وجود شكل روائي ممكن فإنهم غالباً ما يختلفون بشأن أهميته).. ولست مع الذين يحصرون البناء الشكلي بالمكان والزمان والحدث والشخصية، ولا مع الذين يفاوتون بينها بالأهمية.. إن البناء الشكلي منظومة معقَّدة متساوية في الأهمية، وأي خلل بعنصر ينعكس أثره على بقية العناصر، كما يتداعى الجسم بالسهر والحمى لمجرد تعرُّض عضو فيه للمرض، والتجزيئية لا تحقق الشكل المتكامل.
ومسايرة المنظرين والمطبقين تجرنا إلى متاهة المفاهيم واختلاطها، وكل الذي نأخذه على (حداثة الانقطاع) إسقاطها لكل تصور فني سابق، يحيل إلى الأنموذج أو إلى الشرط.. وبذات القدر نأخذ على (جمود التقليد) تكريس النمطية والثبوت.. وبين الانقطاع والنمطية سبيل قاصد متى اهتدينا إليه استطعنا استباق التجديد واستصحاب الضابط.. إن قراءة النص الإبداعي يجب أن تتخذ مسارين: داخلي تفكيكي، وخارجي تصوُّري.
فالنص شكل يستشرفه القارىء من بُعد، فيرى تكوينه اللغوي والشكلي، وجمالياته، والنص بنية زمانية ومكانية وموضوعية وشخصية، ولا يتم اكتشافه إلا من خلال آليات نقدية مزودة بمعارف متعددة، تجلو الأشياء، ثم تقوِّمها.. والنص لا يتوفر على الفائدة والمتعة إلا إذا التزم بقدر كافٍ من الضوابط الفنية واللغوية.. إن هناك بناءً روائياً شمولياً وبناءً داخلياً لكل عنصر، كبناء الأحداث والشخصيات، ثم هناك بنية عميقة وبنية سطحية، تكون العميقة شمولية والسطحية جزئية، وتلك رؤية (توليدية) (تشومسكية).. لقد كانت محاولات التجديد الشكلي الواعي على يد (نجيب محفوظ) الذي جاء معماره الفني المتميز مواكباً لموضوعاته ومستجيباً لها، ولقد جسَّد هذا التميُّز (نبيل راغب) في كتابه (قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ).. ولقد أشرت من قبل إلى أن الحق الإبداعي لا ينتزعه الاختلاف حول البُعد الموضوعي، فالإبداع حق لصاحبه وإن أوغل في العهر والكفر.
والمسألة الأهم يتنازعها الحضور المجامل والغياب السلبي.. وغياب النقد أو حضوره المضلل يكون في المبالغات التي لا تحتمل، والإطلاقات التي لا تحد، فإذا تحدث ناقد عن عمل رضي عن صاحبه أضفى عليه من الثناء ما لا يمكن تصوُّره، وإذا انطلق القارىء من التقريظ إلى النص أصيب بخيبة أمل، وإخفاقات السرد في الخروج المتعمَّد على كل الضوابط الفنية واللغوية والاخلاقية تحت مكاء المضللين وتصديتهم.
ذلك بعض القول عن (الشكل) بكل ما يعج به من تناقضات لا يمكن توقع الجمع بينها.. وعند الحديث عن (المضمون) فحدِّث ولا حرج، لقد ملَّ الروائيون والنقاد المثاليات، وتملق العواطف في قصص المآسي والمغامرات، وأرادوا مواجهة المجتمع بكل ما يعج به من آلام، وما يعانيه من نكسات، فكانت (الواقعية الاجتماعية)، وهي واقعية تقترب من الفضائحية، وقد واكبها في بعض المجتمعات قلق فكري وتمرد سياسي وثورة اجتماعية أعنف من الثورة السياسية، فإذا مرَّت بنا مذابح بشرية اقترفها الثوريون تحت أي مسمى، فليست المذابح الأخلاقية بأقل منها، لقد تسرَّبت من الواقعيات (التسجيلية) بشكل اعتراف ومن (التحليلية) بمقاربة تبريرية.. والاعتراف والتبرير مناقضان للمقتضى الاخلاقي، وليس ذلك من تسجيل ما حدث لأنه حدث، وهو التبرير الذي يعوِّل عليه الخطاؤون غير التوابين، وليس هو كما في القرآن من قصص الأنبياء ك(يوسف) مع امرأة العزيز، و(موسى) مع اللتين سقى لهما، إنه المجاهرة بالإثم.. وفي الحديث (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) وحديث (إذا بليتم بهذه القاذورات فاستتروا)، ولن نشير إلى بعض الأعمال الواقعية التسجيلية التي تصوِّر الممارسات الجنسية دون حياء أو خجل، ولك أن تقرأ (الخبز الحافي) أو (وليمة لأعشاب البحر) أو ما شئت من أعمال أخرى أوغلت في الخطيئة.. ولك أن تقرأ (آيات شيطانية) أو (العار لا جا) ل(تسليمة نصرين)، والدراسات التحليلية لمثل هذه الأعمال، للدكتور (إبراهيم عوض) والدكتور (محمد عباس).
ومع تأكد المقترحات فقد ساند النقد هذا العهر بحيث أضافه إلى (صراع الحضارات) ليمنحه شرف المقاومة، تجد طرفاً من ذلك في كتاب (الصراع الحضاري في الرواية العربية رؤية تحليلية نقدية) لدكتور (عبد الفتاح عثمان). والمتابع للمشاهد يقف على إسفاف أخلاقي يصل حد العهر والتهتك، وبه يفقد النص شرف المعنى.. والظاهرة الروائية العربية مدانة بالهبوط المزدوج: هبوط في الأداء، وهبوط في الدلالة، فليس هناك شرف في اللفظ ولا شرف في المعنى، وقد يتوفر المبدع على جماليات فنية ولغوية، ولكنه يخفق في البُعد الدلالي، وذلك ديدن الكبار.. وحين ننحي باللائمة على الظاهرة الروائية، فإننا لا نغمط المستوفين لحقوقهم، الملتزمين بحقوق الآخرين، فحق المبدع في حرية التفكير والرأي والتعبير لا تلغي حق المتلقي في كف الأذى، ولا تخوِّل المبدع الإمعان في العهر والكفر وضرب اللغة والفن، فكل ذلك من الإيذاء الذي لا يحتمل.. ومع التأكيد على احترام القيم والثوابت فإن طائفة من النقاد لا تعرف تلك الحدود، ومن ثم تلزم المبدع ما لا يلزم، وتلك أذية تقع على المبدع، وهي أذية غير مبررة وغير مشروعة.. والمصداقية تتطلَّب الشهادة على النفس والأقربين.
والممتعضون من انهيارات الشكل والمضمون لو ينظرون إلى (لغة النص)، لهالتهم الركاكة والعامية والترهل والتسطح، و(البنيويون) يرون أن النص (لغة)، ومع ذلك لا يأطرون العابثين على لغة الفن، وإنما يسايرونهم باسم (الواقعية اللغوية)، والنظرة المعيارية للغة السرد تقوم على الإنجاز والمجاز والانزياح والخيال والفصاحة والحركة والتشخيص، غير أن المناهج اللغوية الجديدة حين اقتحمت عوالم النقد حوَّلت المفاهيم، وأصبح القول في اللغة وعن اللغة مخالفاً لما سلف، كنا نسمع بالتعبيرية والتصويرية، وكانت مفاهيم ذلك متفاوتة، واليوم بدأ الحديث عن الكلمة الشعرية، وعن دورها الجمالي، أو التوصيلي الحيادي، والمعذرون لوسطية اللغة الروائية يركنون إلى التنوع النمطي والصوتي نظراً لتعدد الشخصيات والمستويات.
وفي هذا الإطار نظر النقاد إلى اللغة بوصفها ظاهرة مستقلة تملك خصوصيتها، أو بوصفها وسيلة يحكمها النوع وتشكِّلها الغاية، فهناك وحدة أسلوبية ووحدة لغوية.. وإذا سلَّمنا بأن هناك وحدة نظام، يجب على كل مبدع أن يحترمها في القول والإبداع، فإن هناك لغة شاعرة وخصوصية ذاتية على حد (الرجل هو الأسلوب)، وإذا كانت للسرديات الإبداعية لغة معينة فإنها لا تتعارض مع وحدة النظام ولا مع لغة المبدع، والمبدع الواعي للغته وفنه يوائم بين التصوير والتعبير والتوتير، ويتقن اللحظة الحرجة الفاصلة بين الحكي الشفوي العامي والإبداع السردي.
لقد فرَّق (ميخائيل باختين) بين (غير الفني) و(شبه الفني) و(الفني) وجعل الفني متمثِّلاً للكلمة الشعرية، ومثلما اختلف النقاد حول (الشكل) اختلفوا حول اللغة، فبعض النقاد يرى أن الرواية شكل مختلط تلفيقي، أو هو تشكُّل هجين، وآخرون يؤكدون على الفروق وخصوصية اللغة.. والروائيون المخفقون لغوياً ليسوا على وعي بالجدل الدائر حول اللغة والأسلوب، ولغة إبداعهم مرتبطة بإمكانياتهم، بمعنى أنهم يجسِّدون قدراتهم، ولا يحققون مذهبهم اللغوي، وإمكانياتهم المتواضعة توحي بالضعف والجهل: ضعف المحصول اللغوي، والجهل بنظام اللغة النحوي والصرفي، مع العجز عن التوفر على جماليات اللغة، والأعمال الروائية لا تكاد تجد فيها ما يشدك بأسلوبه على حد: (الناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة).
لقد عوَّل العابثون باللغة، والعاجزون عن تطويعها على دعوى (النص المغلق)، والذي يعني في هذا المجال ارتباط اللغة والأسلوب بالعمل الأدبي الذي يمتلك الاكتفاء بذاته، والانكفاء على ذاته، وحقه في تشكيل نظامه اللغوي، بحيث لا تفرض عليه شروط مسبقة أو خارج ذاته.. وأحسب أن (البنيويين) انطلقوا من واقعية اللغة، وعوَّلوا عليها، وهم قد ربطوا اللغة بالمتكلم من حيث هو إنسان مغاير، فالمتكلم صاحب رؤية وموقف وقدرة ومستوى اجتماعي، وهو قد يكون في إطار (الثقافة الشعبية) بإزاء (الثقافة العالمة) كما تقول (يمنى العيد)، وكلمة الإنسان بهذا التفاوت معبِّرة عنه أولاً، وعن دلالتها ثانياً، إنها تصوِّر الإنسان، وبقدر ما يكون الإنسان تكون الكلمة، هذه الكينونة أبعدت الكلمة عن خصوصيتها، وربطتها بخصوصية الإنسان.. وانجراف الكاتب مع القول بأن اللغة مادة التفكير والكلام في آن، واضطرابه في فهم ذلك، وبخاصة حين يكون الحديث في المجال الأخلاقي أو الديني، أدى إلى مزيد من التبرير والتغرير، وهو في الحالين مكتنف بالاعتراف السلوكي أو التصور العقدي، وحين لا يحكم أمره يُلقيه الاضطراب في مكان سحيق.
وإشكالية اللغة من حيث نظامها وقوة أدائها تزداد تعقيداً، كلما أمعن الأسلوبيون المحدثون في التعامل معها، ذلك أنهم يستبعدون الحق الإلهي، ويتداولون الضوابط والأنظمة، وإشكالية الدال والمدلول والشكل متنامية في ظل تغييب الضوابط والمرجعية وشرعنة الحرية والتجريب وفق مفاهيم لا تقبل بالحد ولا بالضابط، كل هذه تعمِّق الخلاف، وتعرِّض الإبداع السردي إلى انهيارات مخيفة، ومهمة النقد ووظيفته في هذه الظروف تفهُّم القضايا والظواهر واستكناه المشاكل، والوقوف على الأسباب والدواعي، والبدء في رحلة العودة إلى جادة الصواب، فما عاد بالإمكان احتمال مزيد من الإخفاقات.. وإذا كنا نرى أعمالاً متفوِّقة، ومبدعين متألقين من شباب وكهول، فإن ذلك الحضور المشرف لا يشفع للإخفاقات الواضحة، ومن قدَّم هذه النماذج النادرة لإسقاط الدعوى فقد ضلَّ سواء السبيل.
إننا لكي نوقف الزحف نحو الهاوية فإن علينا أن نبحث عن المبدع الموهوب الذي تعهَّد موهبته بالدربة والدراية، ومكَّن الموقف من النضوج، وأن نبحث عن الناقد الملم بكل قواعد الفن، والمستوعب لكل نماذجه، والمسيطر على مناهج النقد الحديث وآلياته، وتحوُّلات الفن ومقوماته، وضوابط اللغة وانزياحاتها، وعلينا قبل ذلك وبعده أن نحترم المصداقية وألا نقول إلا الحق، ومن أمن المتابعة جاء بالعجائب.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:11 PM

الماء والفسائل وفوضى المضاربات والفرضيات..!« 1 - 2»
د.حسن بن فهد الهويمل


ما من مخاضات فكرية أو سياسية أو اقتصادية، إلا وتسبقها موجات من الآراء وزخات من التخرصات. وما الرعد والبرق إلا مبشرات أو محذرات. فقد يتحول الرعد إلى صواعق، وقد يخطف البرق أبصار المشرئبين. والمصيخون للشائعات، والمستطلعون للرأي العام، تتفرق بهم بنيات الطريق. وكم من قرارات مصيرية استعان متخذوها على قضائها بالكتمان، ولكن الذين يدركون ليلهم يسبقون إلى التنبؤ بها، قبل أن ترى النور. وكل معني بالشأن المحلي، يتيح لنفسه فرصة للفرضيات، ومجالاً للخطرات، وقد يبني من الأماني قصوراً، ثم يهدمها النهار. وقد تعلو موجات الآراء، وتنهمر زخات التعليقات بعد أن تضحى القرارات. وليس بمستبعد أن تكون الشائعات كما الحشرات النافعة التي تخصب لمواجهة الحشرات الضارة، وتوظيف الشائعة لاستطلاع الرأي العام بعض الأساليب الرصدية الحكيمة للتعديل أو للتبديل أو للإلغاء (ويأتيك بالأخبار من لم تزود). وما أضر بالأمة إلا الصمت السلبي، أو الرغاء الرخيص. وإذ يكون المواطن هو المستهدف بهذه المخاضات فإن من حقه أن يقول، ومن واجب المسؤول أن يسمع، ومن مصلحة البلاد والعباد الالتقاء على كلمة سواء.
والراصد للمخاضات الحاضر منها والباد، يرى أن البلاد قد مرت بتجارب متعددة، أفرزتها خطط التنمية التي سبقت ظلها، وخلفت انفجارات: تعليمية وسكانية وزراعية وعمرانية، لم تستوعبها شرائح المجتمع. وتفرقت بالناس الطرق، حتى لم يجد أحدٌ فضلة من جهد أو وقت، ليقول في الشأن العام كلمة عابرة، فالناس كلهم في شغل شاغلون. وكل من فتح فمه أو أطلق يده أو ركض برجله عاد بالخير العميم. ففي ذلك الزمن العجيب شرَّعت الدولة أبواب خزائنها عبر البنوك: العقارية والصناعية والاستثمارية، وأطلقت الأيدي في الإنفاق، واعتمدت كل ما بلغها من مشاريع، وواكب ذلك ازدياد في أسعار النفط وانفلات في إنتاجه. وفي تلك الأجواء المحمومة اندلقت أقتاب المشاريع في الوهاد والنجاد، حتى كادت تلد الأمة ربتها، ويتطاول الناس في البنيان. ولما كان التمام مؤذناً بالنقص على حد: (توقع زوالاً إذا قيل تم) أخذت بعض المشاريع بالتراجع، وذلك بعدما تبين للمسؤولين ضعف العائد، وتضخم الإنفاق، وهشاشة التأسيس. ومن تحت أنقاض التراجع المرتبك نسلت ظواهر الإفلاس والبطالة والعمالة السائبة، وانكمش كل شيء، وعاد النهمون إلى الاجترار. وفي ظل تلك الظروف أدرك الناس أنهم مضوا في التوسع بغير حساب. وما عاد أحد يحتمل تبعات هذا الاندفاع، ولا مصميات هذا التراجع، وفي هذا الوضع غير الطبيعي احتنك الناس الإحباطُ والخوف والترقب، فكانت النجاة بالأبدان دون ما تفرق من آليات وأصول عينية كالآبار والمعدات وأطلال المشاريع، ومهما تفرقت بنا طرق القول فإننا كسبنا التجربة، وخسرنا التمسك بما أنجز.
والخطأ المقدور على محاصرته، وحسر آثاره، ناتج طبعي للعمل، وإن كان كل مسؤول بما كسب رهين، إلا أن الخطيئة ألا نكترث مما بدر، أو حين تتكرر الاندفاعات والتراجعات دون مساءلة أو حساب، أو حين يستفحل الخطأ ويتجذر ويبقى كل نازح على بئره، أو حين تكون ردة الفعل مضرة بثروة الأمة وإنسانها. والأعمق استياء حين يمتعض المتصرفون بالشؤون من المساءلة، ويضيقون ذرعاً من تحسس الناس عن مصالحهم ومصائرهم وماذا يراد بهم ولهم. والمؤكد أنه قد مس الجميع طائف من مثل هذه الإخفاقات غير المقصودة، وبدت أطلال المعدات الزراعية خاوية، تتآكل مع الزمن، مؤكدة خطأ التجربة، قبل أن تعفيها الروامس والسماء، وأخشى أن نكون رهينة لتتابع الأخطاء المتشابهة. وهل تنتفع أمة من تجاربها إذا لم تكن أخطاؤها العارضة مواعظ تقيها الوقوع بمثلها.
ولما كانت التجارة حرة، والسيولة النقدية متدفقة، فقد تدافع الناس وراء المساهمات والأسهم، ولم يأتل أولو الفضل والسعة في محاصرة التصحر، وجاء الدعم بالقروض مغرياً لكل من نكب عن ذكر العواقب جانباً. لقد أغرت الدولة بعطائها السخي من لا يقدر على تصريف شأنه العادي، فيتحول بقدرة قادر إلى رجل أعمال تتخطفه الشركات والوكالات، ولم يلبث أن ثوى مع معداته، يعوزه قوت يومه وليلته، تخيفه الديون، وتمضه الهموم. والسنبلة والنخلة والأسهم والمساهمات وسائر المؤسسات والمضاربات حين لا تحكمها الأنظمة وتسددها المراقبة ويتداولها المسؤولون العليمون الأمناء الأقوياء، تكون عرضة للفشل. ومكمن الخطورة حين ترتبط المشاريع بالثروات القومية ك(الماء) و(الطاقة)، وبخاصة بعد ما أصبح (الماء) مشكلة عالمية، لا ينفك الإعلام العالمي من تداولها، وتكريس الخوف من الشح أو النضوب ومن (حروب المياه). وما اختلفت الدول النامية إلا من بعد ما أحكم المتسلطون الكبار لعبة الهلع والفزع من النضوب، الأمر الذي حفز الوجلين على تصعيد المراجعات من الجدل إلى الصراع والصدام حول حقوقهم من المياه المشتركة والأنهار العابرة، لقد ثارت قضايا السدود والتحويل التعسفي لمجاري الأنهار، واستنزاف المياه الجوفية، وتبع ذلك سيل من الدراسات والمؤتمرات والكتب. وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والتآمر لم يعد الماء قضية محلية، كما لم يعد قضية علمية، وإنما أصبح لعبة سياسية، تقف جنباً إلى جنب مع (السامية) و(سلاح الدمار الشامل) و(تخصيب الأورانيوم) وتصدير (المبادئ) و(الديمقراطيات). لقد أقبل الناس على هذه اللعب وقبلوها، ودخلوا فيها أفواجاً، والتقى المسلمان بسيفيهما أو كادا.
وفي الشأن المحلي، فإن هواجس الخيفة تلوح من خلال التكاثر في الغرس والتفاخر فيه، واللغط المعاد حول (الماء) و(النخلة) وتقصي ما تستهلكه التمرة من الماء لتصل إلى فم المستهلك، وما يتطلبه كوب اللبن من كميات المياه ليستقر على المائدة. وإذ نكون مع الترشيد والتوعية، ومع تطوير أساليب الري فإننا ضد التصحر والاستيراد. إننا بحاجة إلى خطاب متوازن يحفظ (الماء) ويحقق الاكتفاء. والتكاثر واللغط يمهد بهما المكاثرون والخراصون لبوادر التولي من الزحف. وما ينجي الأمة من تكرار العشرات، واستنزاف المياه، وإضاعة الأموال إلا مواجهة الذات بكل ما لها وما عليها، وتجافي التبرير والتعذير وتزكية النفس، وتبادل أنخاب الثناء. فالتكاثر غير المحسوب، كالتخوف غير المبرر.
ومما تطمئن إليه نفوس الذين شقوا في الشأن الوطني أن المسؤولين عن (الماء) و(الزراعة) ومتعلقاتهما مخلصون وصادقون. نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً. والصدق والإخلاص لا يعصمان من الوقوع في الخطأ، والوقوع فيه لا يقدح بالأمانة ولا بالمصداقية، ولكنه يشكك في القدرة على الحسم الإيجابي، ويستدعي الإيقاف والمساءلة، ومن أنيطت به مسؤولية وطنية مصيرية، فإن عليه أن يهيئ نفسه ويوطنها على تقبل ما يقال من نقد أو مساءلة، متى كان القصد منهما التوعية والتصحيح، والمعالجة والتسديد. فالخطأ أو التقصير عرض مرضي، والدواء ليس شراباً سائغاً، وإذاً لا بد في تجرعه من تحمل المذاق العلقمي. والاندفاع غير المحسوب في الأداء والدعم يستتبع تراجعاً سلبياً، وعلى مدرجة الذهاب والإياب تتساقط ثروة البلاد، وتخور عزمات أهل الدثور، وتضعف القوى، وتنعدم الثقة، وتعود الأمة إلى تصحرها، تأكل مما لا تزرع، وتلبس ما لا تنسج، وأضعف الإيمان تحقيق الاكتفاء الذاتي، فيما هو مقدور عليه. ولما لم يكن أصحاب الدثور ممن كانت لهم يد في الزراعة إبان الاندفاع غير المحسوب من القاعدين عن المكارم، فقد تدارك بعضهم الأمر بعد التراجع في زراعة القمح، وتوجه إلى غرس (النخيل) و(الزيتون) و(الأعناب) والتوسع في الفسائل إلى حد يقترب من الاندفاع الأول. وحين توضع العقبات في طريق المتحرفين للعمل أو المتحيزين لقطاع الزراعة، ينفض سامرهم، لتتحول الفسائل إلى أعجاز نخل خاوية، ثم تكون النكسة الثانية أدهى من الأولى وأمر. وغياب المسؤول أو حضوره السلبي سيان، فلا خير في غفلة تستفحل في ظلها الفوضى، ولا خير في حضور تغل فيه الأيدي، وتكثر فيه العقبات، كغلاء الأسمدة والمبيدات والطاقة وسائر المعدات.
والإشكالية ليست في فشل المشاريع الزراعية، وإنما هي في عقابيل الفشل، وبخاصة ما ستواجهه الطبقة الزراعية، التي اعتمدت في دخولها على الزراعة، وفي العمالة التي نهضت بها. ففي كل إقدام تتشكل الشرائح المهنية، وفي كل إدبار ينفرط عقدها، ثم تترك في العراء، لتأخذ طريقها مع من تعول إلى مدن مكتظة بالعمالة الرخيصة. ومع التحفظ على المواجهة نتحفظ على الاندفاع، و(مشاريع النخيل) كادت تقتفي أثر السنابل، وقد تواجه ذات المصير الذي واجهته زراعة القمح والشعير، والخطأ سيكرر نفسه في ظل غفلة مألوفة. وأحسب أن الطامة الكبرى حين تبدأ هذه المشاريع العملاقة بالإنتاج، وتكون من الغزارة والرداءة النوعية وبدائية التخزين، بحيث لا تستوعبها الأسواق المحلية، ولا تقبلها الأسواق العالمية، وحينئذ يصاب المزارعون بإحباط الكساد، مضافا إلى إحباط التخلي والتخذيل وارتفاع نسبة التكاليف. وقد لا يجد المزارعون وأصحاب المشاريع إذ ذاك بدا من التخلي الاضطراري عن مزارعهم ومشاريعهم التي أنفقوا عليها الأموال الطائلة، واعتمدوا عليها في معائشهم. والتولي سيسهم في ارتفاع البطالة والفقر والديون والمنازعات، ويفرض إشكاليات غير مقدور على احتوائها. وهذا الوضع مؤذن بخلل اقتصادي، يستتبع خللا سكانيا وأمنيا، ويفرض على الدولة التزامات مالية، لو أنفقتها في دعم تلك المشاريع، لسارت الأمور على ما يرام. وأحسب أن مرد ذلك كله ممارسة الفوضى باسم الحرية التجارية، وتحامي الدولة إرسال عينها ووضع يدها. وكم نسمع بين الحين والآخر على المستوى العالمي من يطالب بتدخل الدول في الأسواق لحفظ العمالة والأثرياء والمستهلكين وإقرار التوازن بين أطراف العمليات التجارية. فالحرية التجارية غير المنضبطة مدعاة إلى فساد كبير، ولو استعرضنا مشاكل الإفلاس، وصكوك الإعسار، والتحايل، ومضاربات الأسهم، ومساهمات العقار، والشيكات بدون أرصدة، والتزييف والتزوير، وما تلاقيه المحاكم والغرف التجارية، وما تفيض به السجون، لكان أن عرفنا أن الحرية الفوضوية أسوأ من الضوابط التعسفية، وطفرة الأسهم والمساهمات والتبذير المحموم في الدعاية مؤشر انكشاف وانحسار وبوار، فعلى حساب من تنفق الملايين للدعاية، وعلى من تقع مسؤولية الكشف عن مصداقيتها. وإذا كان القانون لا يحمي المغفلين فإن السلطة المتوازنة مسؤولة عن حماية المخدوعين بالدعاية.
وكل عمل لا تحكمه ضوابط وأنظمة ورقابة صارمة وتخطيط مستقبلي، ولا يراعى فيه حجم الإنتاج ولا طرائق التخزين والتصنيع والتسويق، يكون مآله الفشل، وما من مضاربات تجارية مرتجلة إلا ويكون أصحابها على كف عفريت، وما تحققه تلك الاضطرابات من مكتسبات غير مشروعة لا يعول عليها، ودروس الطفرة أعطتنا شواهد، لو وعيناها، لكنَّا أقرب إلى السلامة. ولما لم يكن الناس مطمئنين على سلامة المضاربات، فقد أصبح العقار هو الملاذ الآمن، ولكن قفزاته غير الطبيعية، جعلته معرَّضاً لنكسات موجعة. وليست مضاربات الأسهم عن ذلك ببعيدة. وكلُّ الخبراء والمحللين لا يثقون بهذا التضخم، ولا بتلك الزيادات غير المبررة وغير المشروعة. ودخول المضاربين غير المؤتمنين وغير المجربين، ستكون له عواقب سيئة، ولقد مس الزراعة طائف من الجهل والمغامرة.
ومن الخير للدولة، ولرجال الأعمال، ولصغار المضاربين والمساهمين والمندفعين وراء المشاريع أياً كان نوعها أن يفكروا، وأن يقدروا، وأن يقيسوا أمورهم قبل أن يجدوا ما وفروه من قوت يومهم هباءً منثوراً، ويجدوا المضاربين بأموالهم قد تنازعهم الفقر المدقع والديون المذلة، وتلقتهم مكاتب الشرطة والمحاكم والسجون. والمآلات التي قد لا يلتفت إليها المسؤول أن شطراً من هذه الانكسارات تتحمله خزينة الدولة، ويغالبه موظفوها، وينعكس أثره السيئ على أخلاقيات الأمة. لقد تحدث الناس عن معوقات الاستثمار التي نيفت على المائة، وسرهم ما تعهد به المسؤولون من وعد جازم لإزالتها، وتلك المعوقات (البيروقراطية) لم تحد من الفوضى، ولم تقمع المغامرات، وهذا مؤشر على حضور غير فاعل وغير سديد.
وحين نخوف ونحذر وننحي باللائمة على ضعف المتابعة وجماح المغامرين، فإننا لا نغمط ومضات مضيئة في سياق ذلك كله، ولا ننسى كفاءات متميزة، وظفت جهدها ومالها وخبراتها في سبيل الصناعة والزراعة، فكان حضورها مشرفاً ومفيداً، ولكن العتب كله والمؤاخذة جلها على نقص القادرين على التمام.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:12 PM

الماء والفسائل وفوضى المضاربات والفرضيات!
د. حسن بن فهد الهويمل


وحين نتجه بالحديث صوب التوسع المشهود في غرس (الفسائل) وتخويف المسؤول عن عقابيل الاندفاع غير المحسوب، وتلويحه بالحد من الإسراف في الغرس الذي يعد من ركائز الأمن الغذائي، بحجة المحافظة على المياه الجوفية، نجد أن التخويف من الجفاف والتصحر حين يبلغ ذروته، يضع الأمة تحت طائلة الخوف المبالغ فيه، وقد يعرضها لتراجع غير منظم، ربما يستتبع نكسات ما كان لها أن تكون في ظل ظروف مواتية وكنت أود من جهات الاختصاص أن يوجهوا شطراً من جهدهم إلى دراسة أساليب الري، والبدء من حيث انتهى الآخرون، وذلك بتقصي التجارب المحلية والعالمية، والتوفر على كل الدراسات، وخاصة ما أنجزه (البنك الدولي) و(معهد الموارد العالمية)، والعمل على إشاعة أحسنها في الوسط الزراعي، للتمكين من ثقافة زراعية، يفقدها كل المزارعين. ولما لم نكن من دعاة التلقي والقبول الفوري فإننا نود النظر في مدى علمية كل طرح، ومعقوليته، ومناسبته لأوضاع البلاد التي لها شيء من الخصوصية، وتثمين تجارب المشاريع الزراعية المحلية، وبالذات تجارب المتحملين لتبعات الفشل، والمصرين على التنقيب عن كل مفيد، ودعم الآخذين بها، وتمكين المزارعين من استعمالها، لتكون بديلاً لطريقتي الغمر الموحل أو الرش المبخر، كما يجب أن يفرق المسؤول بين المياه السطحية والعميقة في رصد النضوب أو الانخفاض، فالمجربون يؤكدون غزارة المياه الجوفية في بعض المناطق وسرعتها في استعادة وضعها وثباتها وتجددها في بعض المواقع والجهات المسؤولة لن تكون قادرة على بعث الثقة والاطمئنان في نفوس المواطنين الذين يجتاحهم هاجس الخوف من شبح النضوب الذي يشيعه الأباعد ويلوح به الأقارب إلا إذا توفرت على مراكز معلومات وفرق تحليل وتصنيف لما يرد من آفاق المعمورة ومن الداخل. ومن خاف من وقوع شيء لم يقع، تعجل الشيء قبل أوانه.
والمجربون يعرفون القدر المعقول من الاحتياط، فلا يجوز أن يصل حد الحرمان. ذلك أن القيم السلوكية حين لا تتوفر على الوسطية والتوازن تقع في المحذور، ولهذا قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.
فالوسطية هي القوام المأمور به، والمطلوب في كل شيء، حتى في العبادة، ولهذا نهي عن الغلو، وذم المنبت. ولقد جاء في الأثر ضرورة الاقتصاد في الوضوء، ولو كان أحدنا على نهر جار، ولا أحسب التوفر على الاكتفاء الذاتي في الأساسيات الغذائية مضر بالثروة المائية، فنحن مطالبون على الأقل بالتوفر على الاكتفاء الذاتي في الأساسيات، كالغذاء ومتعلقاته كالأعلاف، وبخاصة الشعير وسائر المطالب الضرورية للحياة الكريمة. ومن أهم الأساسيات: الحبوب والتمور، ولا سيما أن القمح مسيس، وله تأثيره على القرارات المصيرية في الدولة التي تعتمد على الاستيراد أو المساعدات. وسبيل الاكتفاء القاصد أن تكون عندنا مدن صناعية لكافة الصناعات الخفيفة، وبالذات الوسائل الزراعية، ومشاريع زراعية تنهض بها الشركات والجمعيات ورجال الأعمال، كي توفر الأمن الغذائي، وتستوعب الأيدي العاملة من المواطنين الذين إن لم تتح لهم مجالات العمل، اقتحموا المدن بحثاً عن عمل غير متوفر، وعندئذ تمنى الدولة بظواهر البطالة والفقر، وهما مصدر كل شر.
والمتابع للوقوعات، يدرك ارتفاع نسبة الجرائم بشكل غير طبيعي وغير متوقع، مع ما تتمتع به البلاد من قوة في الحق، وارتفاع في الدخول. وإشكالية البلاد التي لا يغمض فيها إلا القاعدون إنها دولة الشباب الذين تفيض بهم المدارس والجامعات وأسواق العمل، وتضايقهم العمالة السائبة الرخيصة، ولا يمكن استيعاب هذه النسب العالية إلا في قطاع الزراعة والصناعة، فإن لم يكن القطاعان في مستوى نسبة الشباب والعمالة، ارتدت الطاقات المهدرة إلى أمن البلاد واستقراره. وتشجيع الصناعة والزراعة وحمايتهما ودعمهما، ليست فقط للتوفر على الغذاء والكساء والآلة وحسب، وإنما هو أيضاً لاستيعاب القادرين على العمل من الشباب الذين يجدون أنفسهم في الحقل والمصنع، ومن الحصافة الإبقاء على هذه الشرائح في مواقعها المناسبة لها. وحين لا يكون حقل ولا مصنع تستفحل الهجرة إلى المدن، فيقضى على الريف، وتختنق المدن، وتضطر الدولة إلى معالجة البطالة ببطالة مقنعة، وليس هناك أخطر من اضطراب التركيبة السكانية. وإذا استفحلت البطالة بشقيها: المكشوفة والمقنعة، تحولت مؤسسات الدولة إلى مكاتب للضمان الاجتماعي. ومواجهة البطالة بأسلوب اتكالي، يضيع الطاقات، ويحرم البلاد منها. ودعم الزراعة بالقروض والمساعدات والشراء التشجيعي والتسهيلات، يحول دون الهجرة، ويحمي المجتمع الزراعي من الانقراض، ويخفف الأعباء على المدن المختنقة.
ولأن المملكة مترامية الأطراف، طويلة الحدود مختلفة الأجواء والتكوينات الجغرافية، فإنه من الضروري استغلال الحدود الجغرافية بالمشاريع الزراعية العملاقة وبخاصة (البسيطاء) في منطقة الجوف، وربط الشركات الزراعية بأجهزة حكومية شورية إشرافية داعمة: مادياً وفنياً، ويكون من بعض مهماتها تحديد الأنواع والمقادير المنتجة، بحيث لا يتجاوز الإنتاج طلب السوق، ومراوحة الاستيراد بين أنواع الفواكه والخضراوات، وعند الاستيراد يجب تحديد الأنواع المنتجة محلياً للحيلولة دون المنافسة غير المتكافئة، فيمنع استيراد المسموح بزراعته، وتمنع زراعة المسموح باستيراده.
وفي ظل هذه الظروف المضطربة عالمياً ونزوع العالم إلى التكتلات الاقتصادية والاستعداد الهيكلي والإجرائي (للعولمة) وشروط الدخول في المنظمات العالمية واختراقات الشركات العالمية، وتسييس كل شيء، لا بد من دعم المزارعين من خلال التسهيلات، وتوظيف الخبرات، وضمان استقرار الأسعار لكافة احتياجات المزارع من بذور وأسمدة وآلات وطاقة. وقبل هذا وبعده لا بد من إنقاذ المزارعين من السماسرة الجشعين، ومن فوضى الإنتاج، وعشوائية التسويق ومزاحمة الاستيراد. وسبيل ذلك إنشاء شركات استقبال وحفظ وتعبئة وتسويق، والرصد الدقيق للطاقة الاستيعابية، وتوجيه المزارعين إلى ذلك، فلا يترك التحري للمزارع. ولو ضربنا مثلاً ب(الطماطم) و(البطاطس) و(البصل) وهي السلع الرئيسة لتبدت لنا فوضوية الإنتاج والأسعار، فتارة تصاب تلك الأنواع بالكساد، فتترك لتذوي في منابتها، وتارة تشح حتى يتطلع المواطن إلى المعلبات أو الاستيراد، والمزارع والمواطن متضرران في الحالين. وإذا لزم تنظيم الإنتاج لزم كذلك تنظيم الاستيراد، فلا يفاجأ المزارع بمنافسة غير متكافئة، والواجب حفظ كافة الحقوق للمواطن بوصفه مستهلكاً وللمزارع بوصفه منتجاً، ولثروات الوطن بوصفها مستنزفة.
والتباكي على نضوب المياه الجوفية يقمع السواعد القوية، ويطفئ نصاعة الجباه السمراء المتفصدة عرقاً في وهج الظهيرة، وهي تنسج حلة الصحراء بجنات معروشات وغير معروشات والنخل والرمان مختلفاً ألوانه وأكله، وتدعها تقلب أيديها على ما أنفقت فيها، وتنظر إليها، وهي خاوية على عروشها، وعندئذ نكون كمن يداوي بالتي كانت هي الداء. إن ما يفعله البعض من التخويف إجهاض جنائي لأجنة العطاء، ودحو فضولي فهواجس الخوف من أشباح المستقبل، وإنما ذلكم كله أو بعضه من تخويف أعداء الأمة، كما الشيطان يخوف أولياءه. وزيادة الإشفاق والحرص على ثروات الأمة قد يدخل مرحلة التوجس والخوف غير المشروعين، وهناك ينقلب الأمر إلى ضده. ولسنا نشك أن القول في الغزارة كما القول في الشح وخوف النضوب. إنها رهانات يلز فيها العقلانيون والعاطفيون، وما من إثارة تحسم الخلاف، وتقر في جوف الأرض ما فيها. والمتخوفون يحيلون إلى محدودية المصادر، وانعدام مصبات الأنهار ومنابعها، وشح الأمطار، والإسراف في الاستنزاف. وإذا كان الفرقاء مجربون ودارسون يختصمون حول مسلماتهم، فإن من المصلحة أن يلتقوا وجهاً لوجه، ليطرح كل طرف حيثياته، والمواطن يسمع إلى براهين كل فريق، ويقرر مصيره على علم وبصيرة. واللقاء الذي أجري مع رجل الأعمال الشيخ (سليمان الراجحي) في (جامعة الملك سعود) مساء يوم الثلاثاء 13-1- 1426هـ أسلوب جميل وحضاري، ولا شك أنه وضع أقل النقاط على بعض الحروف، وزيارة معالي وزير المياه والكهرباء لمشروع الجوف ربما أنها مكنته من الوقوف المباشر على بعض الظواهر السارة. فما أحوجنا إلى المكاشفة والشفافية وكسر الحواجز وخلطة الآراء وتظافرها، لمعجمة كل الحروف. ومن الخير للبلاد والعباد أن تنهض وزارات: الزراعة والتجارة والمياه والصناعة والعمل لرسم (استراتيجية) موحدة شاملة تضع في اعتبارها التوعية والترشيد وإيجاد فرص العمل وحماية الأموال التائهة بين الأسهم والمساهمات، وأن تتخلى عن تجاذب الرداء الذي يحمل القضية، ثم لا تتمكن من النهوض بها إلى مكانها. إن الراصد للحراك يروعه اختلاف وجهات النظر، وتفاوت مستوى الحماس، وعدم إيمان المواطن بخطاب المؤسسات، وتصرفه بمعزل عن كل ضابط أو نظام.
ولأن قضاءنا وقدرنا الأزليين التصحر والجفاف والحرارة فإن رهاننا على (النخلة)، وعلينا أن نتميز في تجويد المهنة، وحماية الإنتاج، والتأكيد على الفنادق والمطاعم ومقاصف المدارس تقديم التمر غذاء وحلاوة، كما تفعل الخطوط السعودية. لقد تجسدت أهمية الفسائل في حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على غرسها في أحلك الظروف، ولا أحسب ظرفاً عصيباً يبلغ فجيعة قيام الساعة، فعندها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، في هذه اللحظات المذهلة يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
(إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها). والمعروف أن هذه اللحظة فوق التفكير وفوق التقدير، ومع ذلك نبه الرسول الرؤوف الرحيم بأمته إلى أهمية الأمن الغذائي. وإذا كانت (إسرائيل) في سباق مع الزراعة والصناعة، وما أحد خوفها من نضوب الماء، فإننا في المقابل نجد من يوجف بلسانه وقلمه، ويلوح بمسؤوليته، ليضع العصي في عجلات الزحف السليم. والغرب الذي يخوف من نضوب الماء، ويدس أنفه في خصوصيات الشعوب، يغري الدول النفطية على مزيد من الإنتاج، بل يمارس الضغط لرفع الإنتاج، وما سمعناه يوماً يحذر من نضوب البترول، ولأنه لم يقل في الشأن النفطي شيئاً فإن متلقي الأقاويل يلزمون الصمت، لأن القول ما قالت حذام.
وفي سياق أهمية (النخلة) فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم عشرين مرة جلها في التذكير بالقدرة والنعمة والجمال والأمن الغذائي، وما من جنة أو حديقة إلا وهي محفوفة بالنخل، وكيف يسوغ لبعضنا أن يلقي في روعنا الخوف من تكاليف النخلة، والشح عليها في منابتها. إنها شجرة طيبة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ولو أن (البلديات) اعتمدت النخلة والزيتونة في الحدائق والشوارع، لكان أن جمعت بين الجمال والمنفعة، وتخلصت من شجر يؤذي بخريفه ولقاحه وشوكه. ولكي نجسد الخسارة الفادحة فإن علينا أن نسأل: كم شجرة زينة في مدن المملكة؟ وكم ينفق عليها من مال وماء؟ وما الذي يضير لو أن هذه الأشجار التي تعد بمئات الآلاف بل بالملايين كانت من النخل والزيتون؟ وما الذي يضير لو أن هذه الحدائق والأشجار سقيت من آبار سطحية ومن مياه معالجة؟ وما الذي يضير لو أن البيوت مكنت من استعمال نوعين من المياه: مياه للطهو والشرب وأخرى للغسيل والسقي والطرد، أليس ذلك من الفرائض الغائبة؟ لماذا يشتغل المسؤولون بالتخويف السلبي؟ أليس من الأجدى أن نوعي الجاهلين، وأن نستبق كل جديد في عالم الزراعة والمياه؟ وحملة التوعية التي تقودها وزارة المياه والكهرباء بادرة طيبة، ولكنها تأتي على استحياء.
وعوداً إلى أهمية (النخلة) في بلد واسع المساحة شحيح المياه نقول:
إذا كانت المجاعة تهدد العالم، وتطل بشبحها المخيف على ملايين البشر فإن من بيده سبع تمرات لا يُخشى عليه الهلاك. ولقد مرت الأيام وما في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الأسودان: التمر والماء، وما شبع أهل بيته تمراً إلا حين فتحت (خيبر). لقد كانت النخلة أولى ركائز الاستقرار الاقتصادي، لطول عمرها، وقلة مؤونتها، وثبات أصلها، وحلاوة ثمرها، واحتوائه على مركبات رئيسة في الغذاء الصحي، وتحمله كل الأجواء، وطول صلاحيته. وإذا كانت الطفرة قد عدت بأيدينا وأعيننا عنها، فإن الزمن كفيل بإعادتنا إليها، وحين نعود، وقد ضيقنا عليها الخناق، ورضينا بالتصحر، لن نجد إلا التراب نسفه، كما المل.
فهل يعيد المشفقون حساباتهم، وينظرون إلى الغد المخيف؟
لقد آن لنا أن نحسم أمرنا، وأن نحاصر الفوضى والارتجال، فالعصر عصر العلم والمؤسسات والتخصصات، والتوقيت والتقدير وقبول النقد والتوجيه والشفافية والمساءلة واستشراف المستقبل. ومن بطأت به غفلته واتكاليته لم يسرع به تبذيره. لنكن في مستوى مرحلتنا معرفة وثقة وحسن أداء. لقد بدأت فكرة الغرس، وفسيلة السكري تباع بثلاثة آلاف ريال، وبعد التوسع أصبحت الفسيلة بمئتي ريال، وفي ظل هذا التوسع يجب أن يضع المسؤول يده لا للمنع ولكن للترشيد والدعم وتهيئة الأساليب المفيدة للري والمعالجة والإصلاح والتسويق والتخزين والتعبئة، وتعويد الناشئة على استعمال التمر كمادة غذائية.
وإذ لا نشك أن ثروة البلاد المائية تقوم على مصادر غير مأمونة وغير متيقنة وغير منضبطة، فهي إما جوفية لا نعلم حجمها إلا من خلال تحريات العلماء أو من خلال التجربة غير المعتمدة عند ذوي الشأن، أو هي مستمدة من الأمطار الموسمية غير المضمونة. يضاف إلى هذين المصدرين التقليديين مصدران مكلفان: (التحلية) و(المعالجة)، وهذه المصادر تقوم إلى جانبها معوقات، تتمثل بالجفاف والحرارة وضعف التعويض الجوفي. ومن عيوب البلاد وأهلها أنهم الأكثر استهلاكاً، والأكثر تحلية، والأرفع تكلفة، والأسرع في ارتفاع نسبة الطلب.
ومواجهة هذه المعوقات بتسليع الماء أو خصخصته، وتحديد استنزافه يجب ألا يمتد إلى الزراعة، وإذا امتد التسليع للاستهلاك السكاني يجب أن تراعى الدخول وألا ينظر إلى التكلفة. وآخر شكوانا التعويل على وزرائنا ذوي الشأن، فهم أهل الصدق والإخلاص، وأهل الطمأنة.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:13 PM

ليس كل ما يُثْقَفُ يلتقط..! (1-2)
د.حسن بن فهد الهويمل


أخشى ما نخشاه في ظل انفتاحنا على الآخر، وتدافعنا عند عتباته، واتساع هوامش حرية التفكير والتعبير أن نكون ك(آل فرعون) يوم التقطوا (موسى)، فكان لهم عدواً وحزنا، وكم هو مفيد لو كان ما نَثْقَف من الغرب بحجم ذلك الطفل التائه في اليم، ولكنه الزبد الذي يذهب جفاء وقدر أمتنا العصيب أن مشاهدها الفكرية والسياسية والاجتماعية والأدبية تموج بالظواهر والمذاهب والتيارات والسلوكيات، وكأنها نثار أعراس يتهافت عليها الدهماء والرعاع. واستقبال المغاير فكراً وحضارة ودنية حين لا يكون المتلقي واعياً بالفوارق، يكون كحاطب ليل، يهوي بيده على كل سواد، فيعود بخشاش الأرض وهوامها، ويخطئ جزل الحطب.
والراصد الحذر للحراك الثقافي والسياسي يفزعه الإعجاب المطلق والقبول المطلق، والتزكية المطلقة لكل ما هو متداول في المشاهد الغربية مما هو صالح لهم ومستجيب لحاجاتهم وإذا تهافتنا على أشيائهم غير المتسجيبة لحاجاتنا القائمة أخذناها بقوة وكأنها الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكأن قادة الفكر وأساطين السياسة في الغرب أبناء الله وأحباؤه، اصطفاهم لنفسه، وخصهم بفضائل الأعمال وروائع المنجزات، وأنهى بهم التاريخ، وعهد إليهم إنقاذ الإنسانية من براثن التخلف وقعر الانحطاط. وما الغرب في راهنه إلا متغطرس بقوته، مدل بمنجزه، نابذ لدينه المزور، مكب على شهواته، عالم بظاهر الحياة الدنيا. الأمر الذي مكنه من السيطرة على المادة التي محضها تفكيره وجهده، فيما أهمل الجانب الروحي، وغفل عما يُحييه {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}. والجانب الروحي معادل للجانب المادي، والحياة الأخرى معادلة للحياة الدنيا.
وقولنا هذا لا نزكي فيه واقعنا، ولا ندخل به مع الغرب لزز التفاضل، ولكننا نصف الواقع كما هو، وواقع العالم العربي والإسلامي واقع مؤلم لا يطاق، ولكن إنقاذه لا يكون بالتخلي عن الإسلام والارتماء في أحضان الغرب، إنه شيء آخر لم يهتد إليه الظلاميون ولا المتعلمنون. لقد ألَّه الغرب عقله وأحب شهواته، ونفى ما سوى المادة، وقال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثلما أوتي الغرب. وما الغرب في علمه البحت وجده وانضباطه واحترامه لإنسانه إلا استجابة لإعداد المستطاع من القوة التي أمر بها الإسلام، وندب إليها، وفقد محاسنه التي يدل بها ويتغنى بها الظلاميون ليست لفقد مذهبه في الحياة، بمعنى استحالة تحقيق ما حققه إلا باتباع ملته. والتحذير من التهافت على قيمه ومبادئه لا يعني الاستغناء عما سبق إليه من جلائل الأعمال. ونفيه على الإطلاق كاستقباله على الإطلاق، سواء بسواء. وإشكالية المشاهد العربية أنها موزعة بين هاتين الفئتين: فئة نافية لا تقبل من الغرب لا صرفاً ولا عدلاً، وفئة مستقبلة له لا تقبل به بديلاً، ولكل فئة حجج واهية، كرسها الفهم الخاطئ للإسلام أو التمسك الأعمى بالعادات على حد {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ}.
وإذ تفوق حضارة الغرب سائر المعهود من الحضارات في العلوم والصناعات والمكتشفات المثيرة للانتباه والمبهرة للعقول، وإذ تَحْكم العالم بقوة السلاح والمال والإعلام، وإذ تسومه سوء العذاب، وتقيمه على الضيم راضياً أو كارهاً فإن ذلك كله لا يعني إسقاط ما سلف أو ما هو قائم من حضارات خذلها أبناؤها، كما لا يعني تجاهل سنتي: (التداول) و(التدافع)، وإذا فاقت حضارة الغرب في فترة من الفترات، فليس معنى هذا أن يتخلى المسلمون عن حضارتهم، وبخاصة عندما تتسع حضارة الإسلام لما سبق إليه الغرب أو سبق به، ومعارف الغرب وعلومه البحتة ومنجزاته العلمية هَمُّ الحضارة الإسلامية ومبتغاها، وليس في الإسلام ما يمنع من تحقيق ما حققه الغرب من علوم وصناعات ومكتشفات، ودعاة العلمانية بالتولي والتهافت سيفقدون دينهم ودنياهم، فالحق ضالة المؤمن. وأي حق حسي أو معنوي أنجزه الغرب فنحن أحق به، وأقدر على تحقيقه، ومن ثم يجب أن نبادره مستصحبين كتابنا وسنة نبينا، لنأتي بمثله أو بأحسن منه، وليس هناك ما يمنع من الاستفادة عبر أي طريقة مشروعة، بل ليس هناك ما يمنع من التتلمذ على الغرب، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أناط تعليم أبناء المهاجرين والأنصار بالأسرى من المشركين. إن علينا أن نصالح، وأن نعايش، وأن نبعث الثقة فيمن حولنا من الحضارات والمدنيات، لنبلغ ولو آية، ولنستفيد من منجز الآخر. وإذا قبلنا من الغرب ما أنجز من علم بحت، أو وسيلة إجرائية، أو منهج معرفي، ثم اختلفنا في حكم شيء منه، وجب أن نرده إلى الله والرسول، بحيث لا نقع تحت طائلة المسخ، ولا نعرض أنفسنا لنواقض الإيمان. إن في ديننا فسحة، لو عرفناها لاستوعبنا كل جميل في حضارات الغير. إذ كل علم نافع أو عدل شامل أو حرية منضبطة، تنطلق من الإسلام وتعود إليه، والجهل والظلم والعبودية مقترفات لا يقرها الإسلام، ومن أراد العزة فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ومما يثير تخوفنا الاندفاع غير المحسوب، وتلقي ما لا حاجة لنا به من علوم نظرية، أو تبني مذاهب فكرية، لا يستقيم أمرها مع مبادئ الدين الإسلامي، وذلك ما نراه حاضر المشاهد كلها. فما استقبلنا من الغرب مصانعه ولا معامله ولا مختبراته وما حصلنا على شفرات علومه، وما أفاض علينا إلا ما يفسد أفكارنا وأخلاقنا، و(العولمة) التي ينفذ بها عبر كل وسائل الإعلام ووسائط الاتصال لا (تعولم) إلا الأفكار والفنون والآداب والألعاب والأخلاق، وتلك لا تصنع آلة ولا تقر نظرية، أما العلم فحق خاص لا تجوز الإفاضة به على أحد، وكأن الله حرم ذلك على المسلمين فأمسكوا به وأسروه بضاعة، وما نقمنا من دعاة التنوير إلا قبولهم بنفاية الحضارة وسقطها. والمتابع للطرح الإعلامي يروعه ما يرى وما يسمع من تحولات موجعة وانسلاخ معيب. وإذا قوبلت هذه الانهيارات بالموعظة الحسنة والدفع بالتي هي أحسن، لويت أعناق النصوص، وحُمِّل المستدرك ما لا يحتمل، وقُوِّل ما لم يقل، واشيع عنه أنه خائف متخلف، وأنه رجعي مثبط، وما هو كذلك. فالمسألة ليست في تقبل ما عند الغرب من حقائق علمية، وليست في العمل على إقالة عثرة الأمة الاسلامية والأخذ بيدها من قعر تخلفها، المسألة في التبعية المخلة بالأهلية، وفي الانسلاخ من القيم الفكرية والأخلاقية، وفي الوقوع تحت براثن الغرب، وممارسة الثقافة المتذيلة ثقافة الانبطاح وإذلال النفس.
وتلقي سائر الظواهر المتداولة في المشاهد الغربية على إطلاقها مظنة الفساد والضياع، والمتداول يؤكد ما دعى إليه أساطين الاستغراب ورؤوس الفتنة، فالتنوير الغربي يتبناه من لا علم عنده ولا نباهة، والصحوة الشرقية يضطلع بها من لا فقه عنده، والدهماء أشتات بين سراب القيعان فالقائلون عن (حقوق المراة) وعن (الديمقراطية) وعن (الليبرالية) وعن سائر القضايا والظواهر المتداولة دون تحديد قول زائف موغل في الضياع. وكيف يسوغ لمفكر مسلم محكوم بعقيدة، ومقيد بنص، ومخلوق للعبادة، ومستعمر في الأرض أن يسترفد المستجدات في مختلف المعارف النظرية، ثم لا يعرف أنه ينتمي إلى حضارة ذات شرعة ومنهاج. إننا مع (حقوق المرأة) التي كفلها الإسلام. والمعضلة ليست في المعية، بل هي في نوع الحقوق، ومدى تعارضها مع القوامة والطلاق والتعدد والإشهاد والإرث وسائر الأحوال الشخصية. فالمرأة في النهاية محكومة بما شرع الله لها، وتحفظنا على المختصمين حول المراة في غياب ما شرع الله، واستنكارنا لوضع المرأة في الغرب لا يعني حسم القضية لصالح الرجل، والمدافعون عن (حقوق المرأة) ممن يصفون أنفسهم بالتنويريين لا تقبل دعوتهم على إطلاقها، وإذاً فلا بد من تحديد المطلوب واستشعاركم هو الفرق بين المباح والمتاح، وفقه الأحكام، وفقه الواقع، فما هو مباح شرعاً قد لا يكون متاحاً واقعاً، وعند تنازع المباح والمتاح لا بد من الرجوع إلى المؤسسة الدينية لتمارس حقها في ذلك.
والقول في الشأن النسائي قول في الوقوعات، وليس قولاً في النظريات والمبادئ، وليس أدل على ذلك من استياء أحد المتحدثين عبر منابرنا من اتخاذ صالتين إحداهما للرجال والأخرى للنساء، وتصوره أن مثل ذلك إهانة للمرأة وشك في صلاحها وحماية نفسها. والدين الإسلامي يمنع الاختلاط وقاية، ويمنع الخلوة حماية، وقصة (يوسف) وحديث (الإفك) دروس حية، وما دام أن الفائدة بالفصل والتفريق حاصلة، وأن الطرفين يتبادلان الآراء حول مجمل القضايا دون اختلاط مثير للشبهات فإن المصير إلى تلك الدعوة مدعاة للهم أو للشك، وليس شرطاً أن يكون الإضرار في ذات الاجتماع. فالاختلاط المنضبط يجر إلى اختلاط غير منضبط. والعزل بين الرجال والنساء مطلب إسلامي، حتى لقد أوصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بين الأبناء والبنات في المضاجع، فهل هذا التفريق يعد اتهاماً للأبناء والبنات الأشقاء، أم هو درء للمفاسد؟ وكذلك حين قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن (الحمو) إنه النار، فهل كل شقيق يحتمل تعديه على زوجة شقيقه؟ إن الخلوة والاختلاط والتبرج بدايات الفتنة والمفسدة، والذين يلوحون بالمطالبة، لا يحددون المطلوب، ولا يعرضون للمفاسد القائمة، والإطلاقات المجردة في قضايا حساسة تثير الوحشة والتخوف، والعاقل من وعظ بغيره.
إن اتخاذ الاحتياطات لا يعني الاتهام، والأنظمة والضوابط والرقابة والمساءلة ليست مدعوة ولا داعية للاتهام، فمن أمن العقاب أساء الأدب، والمال السائب يعلم السرقة، والله يقول: (ولا تزكوا أنفسكم) والإنسان معرض للفتنة، وعليه ألا يعول على ثقته بنفسه، ويوسف قال لربه: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}. فالمفاسد الأخلاقية لم تنشأ إلا من التزكية التي ليست في محلها، ومن الثقة التي لا مكان لها. ولقد سئلت مذنبة عما حملها على التمكين من نفسها، فقالت: قرب الوساد وطول الرقاد.
وبصرف النظر عن (قضايا المرأة) فإن كثيراً من المتعاملين مع المصطلحات والقضايا يتقبلونها بقبول حسن، ولا يأخذون بأحسنها، وإنما يأخذونها بحذافيرها، دون أن يضربوا أدنى حساب لحضارتهم المغايرة، ولو أنهم حين تلقوا ركبان المصطلحات في مختلف حقول المعرفة الإنسانية استشعروا أنهم أهل حضارة عريقة مغايرة، تؤكد على الرد إلى نصوصها المقدسة كل ما اختلفت فيه، فيما لا ترد الحضارة الغربية المتعلمنة إلى نص مقدس. وكم هو الفرق بين حضارة لا تحيل وأخرى تحيل، وكان على الذين يدَّعون اعتزازهم بحضارتهم أن يعرفوا مقتضياتها، إنها حضارة العقل والنص، فمن غيب أحدهما فقد أخل بالمطلوب، ومن غلب العقل على النص وقع فيما وقع فيه أهل الاعتزال، ومن عطل العقل واكتفى بظاهر النص وقع فيما وقع فيه الظاهريون.
إن الحرية التي يتخذها المستغربون مناطاً لخطاباتهم ولآرائهم حريةٌ غير منضبطة، فيما تأتي الحرية الإسلامية محكومة بضوابط، وإذا عوَّل أحد على الحرية فإن واجبه أن يفرق بين الحرية كما يراها الإسلام والحرية كما تراها الحضارة الغربية، وإذا طالب أحد بحقوق المرأة فعليه أن يسبق بتحفظاته على ما هو قائم من تبرج واختلاط وخلوة لا يقرها الإسلام. وليس في ذلك القيد الإسلامي معوق عن الأخذ بما ينفع الناس من أمور دينهم ودنياهم. إذا لم نر الإسلام يمنع من علم ولا يحول دون عمل، لا في حق المرأة ولا في حق الرجل، وإذا تحفظ على شيء من ذلك فإنما هو من باب سد الذرائع ودرء المفاسد، وكيف يكون ذلك وهو الداعي إلى إعداد القوة والسعي في مناكب الأرض؟ ولمزيد من الحرية قال الرسول - صلى الله عليه وسلم-:
(أنتم أدرى بأمور دنياكم) وقال: (استفت قلبك). والدراية والاستفتاء رهينا المقتضيات والمقاصد الإسلامية، وليسا مطلقين، وعلى المسلم أن يستشعر القول الثقيل والمكاره التي حفت بها الجنة، فالإسلام ليس ادعاء يطلقه الإنسان، إنه اعتقاد وقول وعمل.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:14 PM

ليس كل ما يُثْقَفُ يلتقط..! 2 - 2
د.حسن بن فهد الهويمل


والتعالق مع المصطلحات الفكرية والأدبية والسياسية الخالصة، والمصطلحات التي يتنازعها أكثر من حقل معرفي يحتاج إلى معرفة تامة بظروف تشكلها، وجذورها الفلسفية والفكرية، والتحولات التي طرأت عليها عبر تحركها التاريخي والنوعي، واختلاف المفكرين في حضارة المنشأ حول الشمول والمحدودية والمفهوم، والإلمام التام بمقاصدها، ومدى توافقها أو تعارضها مع حضارة الجالب. فما كل مصطلح قابل للجلب، وما كل مصطلح مستحق للنفي. فكل حضارة ترث أو تقترض ما يناسبها من الحضارات السالفة أو المجايلة، وكل نص يعيش في ظلال نصوص حاضرة أو غابرة، وكل مفكر لا ينطلق من فراغ، إنه محصلة مقروءة، وابن بيئته الفكرية والسلوكية، وربيب حاضرة، وقد قيل: - (قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت). وما شقيت الأمة إلا برجلين: رجل يقول: كان أبي. ورجل يقول: كان الغربي. وكأننا بأمس الحاجة إلى القول: خلّ كان (فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس).
ومن تصور أنه بفكره أو بحضارته بريء، فقد وهم، وما بعث الرسول إلا ليتمم مكارم الأخلاق. والعقلاء الواعون يعرفون حواضن المصطلحات، فما من حضارة إلا هي آخذة بنواصي مصطلحاتها، وهو أخذ يدع بقية لمصطلحات أخرى، وقد يكون المصطلح ذا شقين: (أيديولوجي) لا يصلح إلا للحضارة المنتجة، و(إجرائي) صالح لكل حضارة. ولو ضربنا الأمثال ب(الديمقراطية) و(الليبرالية) لوجدناهما ينطويان على المبدئية والإجرائية، ومن ثم لا يجوز التبني المطلق، ولا النفي المطلق. ف(الديمقراطية) (أيديولوجيا) تحيل إلى الشعب لِسَنِّ أي شرعة أو منهاج، وهذا الجانب (الأيديولوجي) الذي لا يجوز القبول به، ذلك أن (الإسلام) يحيل إلى النص والعقل المؤول، و(الديمقراطية) بعد تشريع الشعب، لها آلياتها ووسائلها وأسلوبها الإجرائي ومؤسساتها (البرلمانية) و(النيابية) وطرائق الوصول إلى السلطات التشريعية والتنفيذية. وكل هذه لا أجد فيما قرأت محرماً على أحد الأخذ بشيء منها. أما (الليبرالية) فموقف وممارسة، وتلك قد لا تكون خاضعة للتفصيل، لأنها أشبه بالكل الذي لا يتجزأ، ولنا عودة مفصلة عن تذبذبها بين الفكر والإجراء. وما نراه من تعالق واستفادة لا يكون شيء منه ما يفعله دعاة التنوير الشاربون لطفح الغرب شرب الهيم.
والمتعالقون مع المصطلحات أوزاع: فالبعض يظن أنه بالإمكان التوفيق أو التلفيق بين سائر المصطلحات، دون استثناء، والبعض الآخر يرى أن ذلك ممكن مع المصطلحات المتناظرة، وهو ظن قد يردي صاحبه من حيث يدري أو لا يدري، وطائفة أخرى لم تكن على شيء من المعرفة ولا على شيء من التأصيل ممن بهرتهم المكتشفات والمنجزات، يستبقون القبول بالمصطلحات دون انضباط. وإذا قيل لهم: إن المصطلح لا يخلو من وضر الحضارة المنتجة. قالوا: إنه إجراء يأخذ حكم الوسيلة. أو قالوا: إنه بالإمكان إفراغ المحتوى وملؤه بما يناسب الحضارة المستعيرة، ولسان حالهم يقول: - (إنما نحن مصلحون) والحق أنهم مفسدون ولكن لا يشعرون. وحتى مع إمكان ذلك، فإنه ليس من الرشد قمع الذات عن المبادرات، متى كان بالإمكان سك المصطلحات العربية المستجيبة للنوازل. فما الذي يمنع أمة الإسلام بكل ما هي عليه من ثروة علمية وفقهية وفكرية وعراقة تاريخية أن تسك مصطلحاتها، وأن تنجز مفاهيمها ومقتضياتها. وإذا وجدت الفائدة في مصطلح غربي، ثم لم تكن هناك محاذير، فلا بأس من الترجمة ما أمكن ذلك أو التعريب أو النقل في أضيق نطاق، وإعطاء المصطلح مقتضيات لا تناقض الحضارة المسترفدة.
وإذ يدعي بعض المستغربين أن هناك مبادئ وإجراءات ووسائل لا يُحسن فهمها ولا التفريق فيما بينها إلا أولو الألباب، وأن المعترضين يجهلون الفروق بين المبادئ والإجراءات، وهي واضحة، كالمحجة البيضاء، فإن على المتهافتين على لعاعات الغرب والمتأبين عليه علواً واستكباراً أن يتخلصوا من المستغربين، وأن يستنوا لأنفسهم طريقاً قاصداً ينبذ إلى الآخر على سواء، ثم لا تكون مصائر الأمة على قادة الفكر غمة، واستمراء التنابز لا يدفع غوائل الفرقة، والتبصر بالأمور يحول دون التهالك الماسخ أو التمنع الحارم. ولن يكون التوفيق الحكيم إلا بالتأصيل والتأسيس لسائر المفاهيم، وتحرير المسائل، بحيث تكون ماثلة للعيان، لا يختلف في فهمها اثنان. وربط مصالح الأمة المصيرية بالمؤسسات العلمية المتخصصة، فما عادت المبادرات الشخصية مجدية، وعلى كل الأطراف أن يعززوا آرائهم بالبراهين القطعية الدلالة والثبوت. وليس من حق أحد الاكتفاء بالتسفيه والتجهيل لمن خالفهم. وما من متابع لجدل (الغربنة) و(العوربة) إلا ويدرك الفرق بين المبادئ والوسائل، والإحالة إلى عجز التفريق حجة أوهى من بيت العنكبوت، والمتمسكون بحق الكينونة السوية يؤكدون على أن المبادئ لا يجوز المساس بها، ولا الخروج عليها، أما الوسائل فإن من حق المتمسك بمبادئه أن يتخذ منها ما يراه مناسباً، لتمثل هذه المبادئ وتطبيقها. ولكن مثل هذا القول يحتاج إلى تفصيل وتحفظ وتحديد، ولا يجوز إطلاقه على عواهنه. فالوسيلة تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة. فلو ضربنا مثلاً بمصطلح (الليبرالية) الناسلة من رحم الاقتصاد، والممتدة إلى الدين والسياسة والاجتماع كما (العولمة) لوجدناه يقدس الفردية والحرية المطلقة ويتخذ العنف سبيلاً لتحقيق المراد كما (الوجودية) القائمة بكليتها على الحرية الفردية التي لا تحيل إلى ضابط نصي، فيما تقوم الحرية في الإسلام على ضوابط لا يجهلها إلا الأوباش، ومن ثم فليس هناك إمكانية للقبول بهذا المصطلح على إطلاقه، وإن عدّه البعض وسيلة لا مبدأ. والحق أن (الليبرالية) (أيديولوجية) في الأساس، وقد أحيطت بآليات تنفيذية، والرجوع إلى المعاجم والموسوعات المترجمة تؤكد ذلك. ويقال مثل ذلك عن (الديمقراطية) إذ لها جانبان: - مبدئي وهو الرد إلى الرأي العام، وإجرائي وهو تطبيق العدل والحرية والمساواة عبر مؤسسات وكيانات، وعلى ضوء ذلك يمكن الاستفادة من آليات الغرب ووسائله وإجراءاته، فهي من ظاهر الحياة الدنيا، ومن أمور دنيانا التي نحن أدرى بها.
ولسنا نشك أن الحضارة الإسلامية مرت بحالات خلط عجيب بين المبادئ والوسائل، وأن الخلافات تراكمت حول ذلك، الأمر الذي أدى إلى تخلف ذويها وابتعادهم عن كتابهم المحكم، وكلما ابتعدت الأمة أو تعرضت لتخلف وضعف وضلال تداركتها عناية الله، ولقد طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأنه على رأس كل مائة سنة يبعث الله من العلماء والمصلحين من يتعقب تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ويتصدى للجدل العقيم، وينفي ركام الخلاف البيزنطي. ومع الوعد بتعاقب المصلحين فإن هناك تطميناً آخر، يتمثل بالفئة المنصورة التي نرجو أن يكون كل من يشهد أن لا إله إلا الله، ويحيل إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم منها. وإذا سلمنا بوجود المماحكين المغالين في الدين، الذين يخلطون بين المبادئ والوسائل، ويحرمون ما أحل الله، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، فإننا لن نسلم لمن يتخلون عن المبادئ بإخضاعها لوسائل لا تناسبها. فحين يقول قوم ب(الاشتراكية) أو ب(الليبرالية) أو ب(العلمانية) السياسية بوصفها وسائل وتطبيقات فإن ذلك يعني التخلي عن مبادئ إسلامية قائمة، تغني عن مبادئ الغرب والشرق. كما أن هناك وسائل وإجراءات مغايرة ومغنية أيضاً، وليس من الحكمة أن تنسلخ الأمة من فكرها السياسي، وتحل فكراً آخر مع إمكان الاستفادة المحدودة، مع الاحتفاظ بجذور الفكر السياسي الإسلامي.
ولقد غُرِّر بعدد كبير من العلماء والمفكرين والأدباء إبان الحروب الباردة، فقيل عن اشتراكية (أبي ذر)، وقال (شوقي) يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: - (الاشتراكيون أنت زعيمهم)، وكلما اجتاحت المشاهد العربية لعبة سياسية، نهض السرعان من المتعالمين لاستقبالها، وتبنيها، وشرعنتها، حتى كادت تتحول مشاهدنا إلى أمكنة يكون العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان.
وإذا كان المفكرون قد آذوا وأوذوا في سبيل مبادئهم، فإن نقاد الأدب ومنظريه قد عانوا مثل ذلك لقد فرق شملهم، وشتت جمعهم ما جدّ من مصطلحات غربية، لم يفهمها الداعون إليها، ولم يحسنوا التعامل معها، والمشاهد الأدبية ملئت بالمترجم والمنقول والمعرب ك(البنيوية) و(التحويلية) و(التفكيكية) و(النقد الثقافي) وما درى المستغربون ما هي عليه من أفكار ومقاصد، لا تناسب القيم الحضارية للأمة العربية، وكلما خبت نارها في بلد المنشأ نفخنا رمادها التماساً لجذوة أو قبس، ثم لا يكون نصيبنا إلا الرماد الذي يعشي العيون، ويزكم الأنوف.
وأمام طوفان (الاشتراكية) يوم إقامتها، جاء من يحاول التوسط، فكتب البعض عن (التكافل الاجتماعي) وعن (العدالة في الإسلام). وعند طغيان أي مذهب ترانا نتزلف إليه، وندعي أن في ديننا ما يشابهه، وما كان أحرانا بالثبات والثقة بعقيدتنا، والاشتغال بهمومنا، والأخذ من الغير بعزة واقتدار، دون تملق أو اعتذار. وفي مجال الأدب استعيدت نظرية (النظم) الجرجانية، لتكون في مواجهة (البنيوية) والفرق بين الظاهرتين واضح. فنظرية (النظم) أسلوبية بيانية خالصة، فيما تأتي ل(البنوية) أمشاجاً بين الفلسفة واللغة ممتدة إلى النقد بعد أرذل العمر، والتهافت غير الواعي مظنة الضعف والتهالك، وتلك الممارسات رققت تلك المبادئ وطوعت الأذهان لها. وحين سقطت الشيوعية وانقض سامر (البنيوية) سقط معها ركام هائل من الكتب والدراسات والتوفيقات والتلفيقات التي نشأت في ظلها، وماتت معها، كما الأجنة في أحشاء الحيوانات الميتة. ولك أن تقول مثل ذلك عن (الوجودية)، لقد استخفت بعض أساطين الفكر الحديث أمثال (عبد الرحمن بدوي)، حيث نهض بها، وادعى أنه ابن بجدتها، وترجم لنفسه في موسوعة الفلاسفة على أنه زعيم الوجودية العربية. وحين خبت نارها، بقيت الكتب والدراسات تمثل مرحلة تاريخية، تدين الواقع العربي الذي يرقب القادم من الغرب، لينهض إليه، ويمنحه الشرعية. ولقد أحس (بدوي) باندفاعه، فراح يكتب عن القرآن والحديث والرسول، ليكفر عن ذنوبه، وإن قيل إنه بما يكتب عن الإسلام يتعرض لجائزة الملك فيصل.
والمستعرض للمشاهد السياسية والأدبية والفكرية تمر به مذاهب وتيارات استنفرت كل الجهود واستنزفت كل الطاقات، وفرقت بين الأخ وأخيه، ثم انقض سامرها، وخوت على عروشها، وأصبحت كأعجاز نخل خاوية، تحكي التفاهة والتسرع والتبعية. وكل الذين أفنوا زهرة شبابهم في ترويض الرأي العام لكل وافد، انقلبوا على أعقابهم، وأدى ذلك إلى اضطراب فكرهم، والتياث آرائهم، وفقد مصداقيتهم. لقد استقبلنا تلك المصطلحات بذات الجهد وبذات الإمكانيات، واستفدنا منها، وما سلمنا لها القياد، وحين ثوت في مشاهد الأدب، لم يضرنا ذلك شيئاً، لأننا لم نضع بيضنا في سلالها، كما فعل غيرنا.
وإذا احتملنا على مضض فلتات الألسنة من أبناء جلدتنا، وأحسسنا الظن بهم، وترقبنا أوبتهم إلى طريق الرشاد فإن من التفريط أن نحتمل فلتات من وافدين لا يدرون ما مقتضيات الكتاب وما نواقض الإيمان. وما أضر بنا إلا وافد حركي يؤز الشباب حتى يخرجهم عن مسارهم السليم، أو مقيم متفلت على الالتزام، يلتف حوله من لا يعرف حدود ما أنزل الله، فهذا وذاك، يتساوى ضررهم، لأن الحياة الفكرية قل أن تتخلص من الفعل ورد الفعل. فالمتشدد والمتفلت صنوان، وقولهما مدعاة إلى تمزيق الوحدة الفكرية للأمة. لقد تحولت مشاهدنا إلى ساحة للسمسرة، أفقدها الثبات والتأصيل، وفوت عليها فرصة التأمل وتلاقح الأفكار. فأين (الرومانسية) و(السريالية) و(الحداثة) و(البنيوية) وها نحن في أوج القول عن (العولمة) و(الليبرالية) و(حقوق المرأة) وفي المقابل القول في (الجهاد) و(البراء) و(الولاء) و(بلاد الكفر) و(الذمي) ولقد قيل عن دين (البحتري) الذي تحول من (القدرية) إلى (الاعتزال) ومنهما إلى (السلفية): - (هذا دين سوء يدول مع الدول) (أخبار البحتري) (للصولي) (ص123). ومصائبنا المصمية أننا لا نتعظ، ولا نعتبر، ولا نستفيد من الإخفاقات، ولا نلتفت إلى الوراء منذ أن عاد (الطهطاوي) خالعاً العمامة ومعتمراً القبعة، ومنذ أن تلقف الراية منه لفيف من العائدين من الغرب أو القارئين للمترجمات، والأمة مع هذه الأمواج البشرية الممسوخة في بوار، وليس فينا رجل رشيد، يستعرض اللعب والخدع، ويسائل الذات عن مقترفاتها، ويقوِّم المنجز، وكل حياتنا تهارش حول ملمات ليست في العير ولا في النفير. ومثلما يقال عن المستغربين يقال عن سائر الحركات الفكرية والدينية، فكل طائفة لا تحسن إلا تزكية نفسها، والله يقول: - {..فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
إن المفجوعين بتخلف الأمة العربية لم يدعوا فرصة للمراجعة والتأمل بل اهتاجوا كما المرتاع الأعزل، وما أرداهم إلا ظنهم السيئ بالإسلام، فلقد استحوذ عليهم المستشرقون بما يشيعونه من اتهامات جائرة ضد الإسلام، وما (العلمانية) و(التنوير) إلا بعض ما أسر به المبشرون والمستشرقون لمن تبعهم من المرتابين والجهلة والمتسرعين ومرضى القلوب. ومعالجة أوضاع الأمة لا تصلح بالإطلاقات والتعميمات، لابد من قانونية اللغة، وتحديد المراد، فالزمن لا يحتمل الإطلاقات، إنه زمن يملؤه دخن الفتن. وما علينا من بأس حين نوجه سؤالاً لأولئك المتحمسين ممن يعدون أنفسهم بالتنويريين وممن ينحون باللائمة على من سواهم لنقول لهم: - ما المبادرة الفكرية أو العلمية أو الأدبية أو السياسية التي قلتم بها ثم لم تكن بضاعة غربية ترد إليه؟. ثم ما الخطاب الفكري أو الأدبي أو السياسي الذي استقر في المشهد، وآتى أكله ووجد فيه العامة خلاصهم؟.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:15 PM

ويسألونك عن (الليبرالية) 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل


- أما قبل :-
فإن التناوش مع المصطلحات السابحة في سماء المشاهد العربية كما الجراد المنتشر، يستدعي التأكيد على حرية التفكير والتعبير، والأخذ بما جد من أمور الحياة الدنيا، وتفضيل حوار الحضارات على الصدام، وقبول السلطة، ورفض الاستبداد، والإذعان لحاكمية الدين، والتحفظ على تسلط المتدين، واستباق المنجز الإنساني الذي تقوى الأمة به وتستغني، والجنوح للسلام دون الاستسلام، والفصل بين العنف والدفاع المشروع، والإيمان بسنة التدافع والتداول، والنظر إلى الغرب بوصفه موضوع درس لا منجم استرفاد، وتفادي الخلط بين المبادئ والوسائل، والأفكار والعقائد.
وعلى ضوء ما سبق فإن رؤيتي ليست حدية حادة، ولا ثنائية صارمة، بحيث لا تقبل الوسطية ولا المنطقة الرمادية، وبهذا الانفتاح أرفض تمييع الإسلام، وتلميع الطغام، والانفلات والركون والمداهنة، وإعطاء الدنية في الدين، وأجتهد ما وسعني الاجتهاد لمعرفة حدود ما أنزل الله.
- وأما بعد:-
فكم يثار بين الحين والآخر جدل صاخب حول مقتضيات المصطلحات المنقولة أو المترجمة أو المعربة. وهو جدل يمس التفكير، ويؤثر على المواقف والمبادئ، وليس هو من باب الاختلاف المعتبر. وكل الذين يخوضون في مصائر الأمة، ثم لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، يثيرون اشمئزاز الرأي العام، ويشدون أعصابه، وقد يدفعون به إلى الاحتقان المخيف، ومن لم يتلطف في خطابه ويلن، ينفض الناس من حوله، حتى ولو كان رسولاً من أولي العزم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}. ومن لم يحسب للرأي العام حسابه، فإنه يعرض نفسه للإيذاء، (ومن هاب الرجال تهيبوه).
والمشاهد الفكرية والسياسية والاقتصادية والأدبية تموج بالنقائض والنقائص، وإشكالياتها أنها مشرعة الأبواب منتهكة الحمى، فكل من عن له أن يثير الزوابع، أطلق لسانه وأجرى قلمه. وقد لا يكون الرأي العام واعياً للأهداف والنوايا والمقاصد، فيصبح كموات الأرض يحييها السابق، وما من متعقب لفلتات الألسنة، مصيخ للحن القول إلا ويصاب بالإحباط. فالرأي العام كما الشعوب والقبائل: إما أن تتعارف وتتقارب. وإما أن ترتاب وتتنافر. وذهنيته مرتبكة وسط ضجة السمسرة. وهو: إما موغل في الدين بعنف، مارق منه كما السهم يمرق من الرمية، يرتاب من كل صوت، كمن يحسب كل صيحة عليه. أو مبرمج تمر به المواعظ كما قطر الماء على الصفا. أو متسرع تجمعه الطبلة، وتفرقه العصا، يوفض إلى كل بارق. والطامة الكبرى ان يتحكم الهوى في النخب، حتى لا يكون لصحيح المنقول ولا لصريح المعقول دور في تشكيل الوعي. وما أضل الناس إلا اتباع الهوى، حتى لقد اتخذه البعض إلهاً.
والذين يلتقطون المصطلحات من أفواه الإعلاميين، يظنون كل الظن أنها القول الفصل الذي يقطع قول كل خطيب، وبهذه المصدرية المدلِّسة تشكل مثقفو السماع، وبهم شُغلت المشاهد. ولو عاد المختصمون إلى المعاجم والموسوعات والدراسات: التاريخية والتحليلية والنقدية، لعرفوا أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يعقلون. وإذ تكون مشاهدنا حلالاً للطير من كل جنس باسم حرية التعبير، فإنها مشروع لفتنة عمياء، تؤدي إلى اختلال الوحدة الفكرية. ولو استأثر بالمشاهد أهل الذكر ممن نفروا للتفقه في الدين والسياسة والفكر والأدب لما اتسع الخرق على الرقع. ولو ان المبتدئين أعطوا القوس باريها، وأذعنوا للمؤسسات الكفيلة بتداول الآراء وحسم المواقف، لكان خيراً لهم. وليس من بأس أن تكون المشاهد مهيأة للاختلاف والتساؤل المشروع، ولكن البأس كله أن يجهل الناس ما هم عليه من فوضوية، ثم لا يبادرون إلى ايقاف التدهور. ومن جهل حاله استفحل به المجهول، حسياً كان أو معنوياً. فمريض الجسم ليس بأخطر من مريض القلب، ومن فاته التشخيص، أو جاء خاطئاً، فاتته فرص المبادرة لتلافي النقص.
إن هناك اختلافاً ظاهر العوج بين أساطين الفكر المنتج لهذه المصطلحات، حتى لقد نسبت (الليبرالية) إلى ثلاثة من أساطين الفكر، لكل واحد منهم رؤيته: (جون لوك) و(جان جاك رسو) و(جون مل) حتى قيل:- (الليبرالية اللوكية) أو (الروسوية) أو (الملية).
وهذا التنازع في حقل الفكر وبين أهلها، فكيف به في الحقول الأخرى، والحضارات المسترفدة، والقراء المختلفين، والمتعقب المقتدر يقف على آراء مجتثة، ما لها من مرجعية. ونظريات التلقي العربية غير بريئة، ذلك أن لها انتماءات متعددة، حتى داخل الفكر الواحد، وهذا الاضطراب يؤدي إلى اختلافات بعضها فوق بعض، كما الظلمات. وقضاء الأمة العربية أن مشاهدها مسرح للحرب الباردة بين الشرق والغرب. وهي اليوم مسرح اللعب التي تنفذ بالذخيرة الحية. والراصد للحراك الفكري والسياسي والثقافي يروعه ذلك الجدل المحتدم حول سائر المفاهيم. وجدلية المصطلح وإشكاليته كما القتيل الذي ضاع دمه بين القبائل. وطوفان المصطلحات النافذة إلينا بفوضوية، تحتاج إلى مؤسسات متخصصة تنقب في أحشاء المستجد، ثم تعمد إلى توحيد الترجمة أو النقل أو التعريب، تفادياً لوقوع الأمة في فوضوية المصطلحات، وهي بانغماسها إلى الأذقان في تلك الفوضى المستحكمة قد أصبح أمرها عليها غمة.
وإذ يكون المصطلح المجلوب ناتج حضارة مغايرة، فإن له دلالته ومقتضاه ومراحل تحولاته، والمؤصل العربي يجب أن يضع كل الاعتبار للجذور والمنابع، وإن كان عشاق (الليبرالية) قد تلمسوها لدى فلاسفة اليونان قبل الميلاد، وهو إغراق لا مبرر له. ومتى هيئت المؤسسات المتخصصة والمطاعة لتلقي المصطلحات ودمجها في الحضارة المستقبلة، كان من أوجب الواجبات أن يعرف أساطين الحضارة المتلقية المقتضى الأصلي والدلالة المحدثة. وليس في الاقتراض والتعالق الواعيين ما يعيب، فكل الحضارات تتفاعل مع بعضها، ويرث بعضها بعضاً، وتماس الحضارات عند تفاوت الإمكانيات قد يؤدي إلى التأثير السلبي، وذلك ما تعانيه الحضارة الإسلامية في راهنها بمواطأة من أساطين الفكر المستغرب. وواجب المتلقي أن يعرف القواسم المشتركة، بحيث لا يتجاوز المباح، ولا يقصر دونه.
ولقد أتيح لي الظفر بكتاب (مقدمة في علم الاستغراب) للدكتور (حسن حنفي)، الذي استهله بحديث (التبعية) وقال معلقاً بما يجب أن يكتب بماء الذهب:- (قد يعطي هذا الحديث الذي يقوم بديلاً عن الإهداء إيحاء بأنني رافض للغرب، متقوقع على الذات.. ولكني فقط أدعو إلى إبداع الأنا في مقابل تقليد الآخر، وإمكانية تحويل الآخر إلى موضوع للعلم بدلاً من أن يكون مصدراً للعلم). ونحن في زمن الانكسارات، لا نتطلع إلى موضعة الغرب، ولا نستنكف من أن يكون مصدراً للعلم، وإنما نتواضع إلى أبعد الحدود، ونعطي تنازلات لا مزيد عليها، ونرضى بأن نتلقى علومه، بدل أن نتلقى آدابه وفنونه ومعارفه الإنسانية وعاداته، فالحضارة الغربية ذات شقين: (علوم بحتة) و(معارف إنسانية)، وحاجتنا إلى الشق الأول دون الثاني. وإذا وجدنا في وسائل الشق الثاني ما يوفر الجهد والوقت والمال ويحقق أفضل الخدمات، فليس في ذلك ما يمنع من الاستفادة على أضيق نطاق، ودون تهافت أو انبهار.
وعيب المستغربين أنهم تركوا ما هم بحاجة ماسة إليه، وركضوا وراء سنن من عاصرهم يتبعونها حذو القذة بالقذة. وما أحوجنا إلى إعادة النظر في علاقتنا مع الغرب، فنحن في أمس الحاجة إلى أشياء كثيرة سبق إليها. وغباؤنا المعتق حملنا على ترك ما نحن بحاجة إليه، والإقبال على ما ليس لنا إليه حاجة، ولا أحسب الغرب غافلاً عن هذا التصرف الأرعن.
إن تغريره وتصديره لضريعه الاستهلاكي الذي يسمن الأجسام ولا يقني الأجيال جزء من اللعب والغزو والتآمر، وأعجب العجب تداول مصطلح (عقدة التآمر) بين المستغربين، لشرعنة الركون إلى الغرب وموالاته، حتى لقد أصبح البعض يرى الغزو والتآمر دعوى زائفة. والمستفيض إلى حد التواتر أن الغرب لا يريد لنا أن نتعلم صيد السمك، ولكنه يريد أن نتناولها عن يد ونحن صاغرون، إذ لا يريد الندية ولا التكافؤ ولا الاستغناء.
لقد أطلت التوطئة، لعلمي أن المصطرعين في المشهد السياسي، سيفترون الكذب، ويشيعون حرصنا على القطيعة والصدام وحجب الرؤية والانكفاء على الذات. وما كنا متحدثين عن المصطلح الضجة، حتى يتبين الموقف المعتدل من الآخر. ومصطلح (الليبرالية) كمصطلح (العولمة) بدأ اقتصادياً، ثم تحول إلى السياسة والاجتماع، وكل مصطلح يبدأ متواضعاً ومحدوداً، حتى إذا تداولته المشاهد، أصبح كما كرة الثلج، تكبر في كل دورة، حتى تبلغ العنان، ف(الليبرالية) الاقتصادية: مذهب يدعو إلى الحرية الكاملة سعياً وراء امتلاكه قوة المنافسة والمزاحمة. فدعاته يريدون من السلطات المعنية ترك المبادرات الشخصية تمارس حقها التجاري بحرية تامة، بحيث تحقق مصالح الفرد والجماعة في آن، بوصف الاقتصاد ملكاً للأمة، ودور الفرد تحريكه ليس غير. و(الليبراليون) الاقتصاديون ضد أي تدخل، يعكر صفو الحركة الاقتصادية، كان ذلك الهاجس مبدؤه ومبلغ دلالته، ومع الأيام تغير، وتعددت حقوله.
أما عن ظروف تشكله: فقد قام صراع أو تبادل مواقع بين ثلاثة مفاهيم متعلقة بالاقتصاد هي: (البرجوازية) و(البروليتارية) و(الليبرالية)، وذلك بعد الصراع المستميت بين (الماركسية) و(الرأسمالية) وفي ظل التنبؤ بإخفاقهما الذي تقصاه (حيدر غيبة) في كتابه (ماذا بعد إخفاق الرأسمالية والشيوعية) وهو طرح يحاول فيه استبدالهما بنظرية متوازنة، تتجاوز حتى (الليبرالية). وتعد (الليبرالية) زعزعة لما سبق، فهي تحمل أفكاراً جديدة متطورة، ذات طابع (راديكالي) وإذا قيل: (المذهب الاقتصادي الحر) فإنما يعنون (الليبرالية) الاقتصادية. وهذا المذهب لا يريد من المنظم تجاوز حد المراقبة من بُعد. ولقد حدث خلاف حاد حول مفهوم المراقبة لاستحالتها، فالمذهب (الليبرالي) ذو نزوع فردي، والمراقبة ذات انتماء جمعي، وظروف التشكل المتوترة مكنت المصطلح من الاتساع الدلالي والتحول المجالي، ومن ثم أصبحت (الليبرالية) ذات تحولات أفقدتها الموضوعية والمحدودية والثبات، حتى لقد كادت (الليبرالية) الاقتصادية تتحول إلى فلسفة في الاقتصاد، ولكل باحث فيها نظريته المغايرة، ولكنها مغايرة تبقي على المرتكزات (الديمقراطية) المتمثلة بتحكيم العقل، وتحرير الاقتصاد، وتفويض الأمر إلى الشعب. وأبرز العلماء الذين تبنوا هذا المذهب اقتصادياً وتشعبت آراؤهم:-
- (أ. سميث 723 - 1790)
- (بنتام 1748 - 1832)
- (مالتوس 1766 - 1834)
- ريكاردو 1772 - 1832)
- (جون ستيورات 1808 - 1873)
وكل واحد من أولئك يؤكد على الانسجام والتوافق. و(الليبرالية) في النهاية مواجهة للقوى التقليدية.
- الملكية.
- الكنسية.
- الإقطاع.
والسواد الأعظم من الحالمين بها أدركوها في خريف عمرها، ولم تمتد نظرتهم إلى جذورها ولا إلى حقولها، وما كان لديهم من الجهد والوقت ما يمكنهم من ذلك، وما كانوا يعرفون منها إلا ما تسمح به وسائل الإعلام وثقافة السماع، ولو ردوا خلافهم إلى الموسوعات والمعاجم والدراسات الراصدة والمحللة لعرفوا أن في حضارتهم ما يستجيب لمتطلبات العصر. وداء المشاهد الضحالة والتسطح والاندفاع الأهوج، وفوات التأصيل المعرفي والتأسيس الديني.
والمتحفظون العلمانيون من الغربيين على (الليبرالية) يشغلهم شيئان: المجتمع المدني، والسلطة المشروعة للدولة. فيما يشغل المتدينين منهم، إضافة إلى ما سبق (الحق الإلهي). وعندما تندلق أقتابها في المشهد العربي المسلم، وتؤخذ من أقطارها، تتضاعف الإشكاليات. والمتابع لنشوء الأحزاب والمنظمات في العالم الثالث، وتذبذبها بين (الديمقراطية) و(الليبرالية) و(الدكتاتورية) و(التعددية) و(الطائفية) و(الأيديولوجية) يصاب بالذهول، ولا سيما إذا علم أن خطابات المحافل أمنياتٌ سرابية، وأن في العالم أكثر من خمسمائة حزب أكثرها في العالم الثالث، وبين الأنواع والأعداد تكمن الكارثة، وإذا كانت مشاريعها أضغاث أحلام، فإن الواقع لا يعدو تكريس التخلف وتعطيل التنمية. وعجز الثوريين عن بناء تنظيم حزبي قادر على إقالة العثرة أدى إلى إحباط وخيبات أمل متأصلة. وبالرجوع إلى كتاب (الأحزاب السياسية في العالم الثالث) للدكتور (أسامة حرب) يتبين سوء التوقيت والتقدير والادعاء العريض، ولست بحاجة إلى قراءة النتائج الحزبية فهي ما يراه العربي لا ما يسمعه، وكل حزب يصفي سلفه: وجوداً وسمعة، يقدم بين يدي خطابه حتمية (الديمقراطية) و(الليبرالية).

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:16 PM

ويسألونك عن (الليبرالية) 2-2
د.حسن بن فهد الهويمل


وإذ تكون (الليبرالية) عصية التطويع والتحديد في المجال الاقتصادي بوصفه حقل المنشأ، فإنها في المجالات الأخرى أشد تأبياً، ولك أن تقول مثل ذلك عن مدعي الوصل بها، فكل واحد له رؤيته ومفهومه، ولا يكون منصفاً من يجعل المتبنين لها صنفاً واحداً، ولا من يتهمهم بالعمالة على الإطلاق والتعميم.
أما ظهور بوادرها كمصطلح سياسي، فقد شارف حدود الحزبية في القرن التاسع عشر، ولم تكن وقفاً على مفكر واحد، ولا على فكرة واحدة، و(من هنا تبدو بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم (الليبرالية) أمراً صعباً وربما عديم الجدوى) (الموسوعة الفلسفية العربية ص 1155-2). وقد تصورها الراصدون من المؤرخين والدارسين تياراً (أيديولوجياً) لإلحاحها القوي على الحرية المطلقة من قيود المرجعية والتصدي لسلطة النظام: الملكي والكنسي. لكونها مواجهة قوية لسلطتين: السلطة السياسية، والسلطة الدينية، بوصفها حريات مقيدة. وحين تكون ردة فعل للتحكم الكنسي، أو التسلط السياسي، و(البرجوازية) الاقتصادية، فإن استدعاءها للمشهد العربي اقتصادياً كان أو سياسياً أو اجتماعياً يفترض وجود أجواء مجانسة. والمؤكد أنها لم تكن مشروعاً انقدح في الذهن، وإنما هي ردة فعل عنيف، استكملت وضعها من خلال الصراع مع القيم السائدة، والبعض تصورها مبدأً حزبياً وأسلوب تصرف، جسد ذلك (لابولاي إدوار) في كتابه (الحزب الليبرالي)، وكان من بين أهدافها المحافظة على مكتسبات (الثورة الفرنسية). والمصطلح بعد مشارفته على النضوج التنظيري، واكب أيَّ تحرف للحرية. وإشكاليته أنه يتذبذب بين الدلالة اللغوية، والمقتضى المصطلحي. وبالرجوع إلى (المورد) للبحث عن مجمل الدلالة اللغوية نجد أن الكلمة تعني:
- تحرري.
- متسامح.
- متساهل.
وبتجاوزها الدلالة اللغوية، أصبحت تعني (مبادئ حزب الأحرار).
وتصريف الكلمة قد يؤدي دلالات أخرى. ولم تكن (الليبرالية) السياسية ببعيدة عن سالفتها الاقتصادية. فهي فلسفة سياسية تقوم على استقلال الفرد الذاتي، والمناداة بحماية الحريات السياسية والمدنية والدينية التي حدَّت منها مبادئ سالفة، ومع أنها ردة فعل، فقد أسست لنفسها، لتكون ذات قيم ثابتة. والهدف الأسمى لمفهومها السياسي أن يكون تدخل السلطة السياسية محصوراً في أضيق نطاق، وبخاصة فيما يتعلق بحياة المواطنين وشؤونهم الخاصة. وإشكالياتها في المجتمع الإسلامي أنها تتناقض مع الحرية الإسلامية المرتبطة بخصوصية الإسلام المحفوف بالمكاره، كما أن الحرية العلمانية لها خصوصية العلمانية، ومن الصعوبة بمكان الجمع بين المفاهيم المتناقضة، إلا إذا تنازل أحد الطرفين عن خصوصية حضارته، وذلك مكمن الخطورة.
ف(الليبراليون) يرون أن مصلحة البلاد تقوم على العفوية، وأن مهمة الدولة القيام على دعم حركات التحرر من أي سلطة. ومع التهافت عليها من المكتوين بنار الواقع العربي فقد جاءت تنبؤات المنظرين والمحللين على توقع تلاشيها، لأن (المجتع المدني) يذعن للمؤسسات السلطوية، ويؤمن بالتخطيط والتنظيم. والنفس (الليبرالي) يرى أن في مثل ذلك قمعاً للحرية المطلقة. فهل تموت كما ماتت (الماركسية) و(البنيوية) و(الحداثة)؟ وهل نظل معها كما (جن سليمان) لا يدلنا على موتها إلا دابة الأرض؟ لا أستبعد ذلك. ونشدان الحرية تحت مظلة المبادئ والأحزاب الوافدة يعني أن ما نحن عليه من مبادئ تنقصها الحرية، في حين أنه لا مزيد على ما أقره الإسلام من حريات، وعلى مستوى الحرية السياسية نجد أن الفكر السياسي الإسلامي قد أسس لذلك، متمثلاً بمقولات نصية وعملية، ولقد فاضت المكتبة العربية بعشرات الكتب التي تتحدث عن الحرية في الإسلام، وأكتفي بمقولتين: ( متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) و(لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها).
وفي ظل التذبذب واضطراب الآراء والتصورات، حاولت تقصي المفاهيم المتعددة بتعدد الحقول التي تتداول المصطلح، وبتعدد المتداولين له. إن هناك حقلاً فلسفياً له رؤيته، وحقلاً سياسياً له تصوره، وحقلاً اجتماعياً له توقعه، وحقلاً اقتصادياً له مفهومه، والفلاسفة والسياسيون والاجتماعيون والاقتصاديون لكل واحد تصوره. والراصد المعرفي لابد أن يستفتي كل الحقول، وليس من حقه، وهو المتلقي أن يستأثر بالتعريف، لكي يمرر المصطلح بكل أوضاره. وعلى افتراض إمكانية الجمع بين مفاهيم الحرية في سائر الحضارات، فما الداعي لتداول المصطلح المقنول بكل ما يحمله من مراوغة وتوهيم. والسؤال المفحم لكل الأطراف: هل الحرية في الإسلام تحتاج إلى فهم صحيح وتمثل صريح، أم هي بحاجة إلى استبدال؟.
إن خلل التطبيق لا يستدعي النفي والاستبدال، وإنما يستدعي المراجعة والنقد. والإمعان في مقولات ذوي الشأن تكشف المضمرات. ففي (موسوعة لالاند الفلسفية) استهلها بالتعريف السياسي، ونظر إلى مقاصدها القائمة على استقلالية السلطة، وإعطاء المواطنين ضمانات في مواجهة التعسف. وهي من الجانب الفلسفي ترى أن الإجماع الديني ليس شرطاً لازماً ولا ضرورياً لتنظيم اجتماعي جيد، ومن ثم يطالب بحرية الفكر. وهذا التعريف يؤكد (أيديولوجيتها) وتعذر الأخذ بها على ما هي عليه، ومتى أجري التعديل على شيء من مفاهيمها فإنها تفقد كينونتها. وفي مجال نقد النظرية أحال المؤلف إلى السجال الذي أجراه (جاكوب) بين ما يسميه (الليبرالية) التجريبية والعقلانية. ولقد نظر إليها البعض نظرة إجرائية، بحيث تقتصر مهمة الدولة على الشرطة والعدل والدفاع العسكري.
ومعضلتها أنها مصطلح منقول صيغة ودلالة، وأي محاولة للتهجين يجعلها تحصيل حاصل، وفوق ذلك فهي أوزاع بين التطور الدلالي والتنقل المعرفي، وكلما استدعاها حقل معرفي أمدها بدلالة جديدة، وهذا الذي حير كاتب مادتها في (الموسوعة الفلسفية العربية). ونقل المصطلح دون ترجمة أو تعريب أبقاه بكل متطلباته، بل عمق هذه الإشكاليات بشموليته، فهو في المشهد الغربي حر طليق، يتمتع بكل ما له عبر حقوله المعرفية الغربية، وتطوره التاريخي. ولو سألت محتضنيه عما يعنيه لقالوا: (الحرية). وفي ظل هذه الكلمة استباحوا كل شيء. والحرية ليست غائبة في الفكر السياسي الإسلامي، بحيث تضطر إلى التقاط (الليبرالية). وهي بمقتضياتها تتجاوز الحرية بمفهومها الإسلامي، ولو كانت قصراً على (الحرية) لكان نقلها من التزيد، إذاً هناك مقاصد مضمرة، تتجاوز الحرية المنضبطة إلى ممارسات ليست مكفولة في الإسلام، والاختلاف معها لا يحيل إلى شيء آخر يتجاوز القدر المباح من الحرية في الإسلام، فنحن مع الحرية المنضبطة، وضد الفوضوية باسم الحرية، وحين يسلم معنا المولعون بالمستجد، يكون الأخذ بها من الاستبدال المحظور.
وتقصي جذور (الليبرالية) الاقتصادية بوصفها الأصل لكل التنقلات والتحولات يقتضي الرصد التاريخي ل(البرجوازية) بوصفها المثير لحركات التحرر، ولو من خلال كتاب (أصل البرجوازية) ل(ريجين برنو). والتحسس التاريخي لطرفي الفكر الاقتصادي (البرجوازي) و(الليبرالي) الغربيين يؤدي إلى مفهومين:
- اقتصاد مقيد بضوابطه وطبقاته.
- اقتصاد حر في تحركه ومعاهداته.
ولقد كان مدار الصراع حول (القمح) من حيث نقله وتصديره، وهو السلعة المسيسة حتى الآن، ثم اتسع ليشمل المصنوعات والمنسوجات والتصدير والاستيراد الحر.
و(الليبرالية) الاقتصادية ضد كل تدخل للدولة في الميدان الاقتصادي، ودور الدولة يقتصر على ضمان الحرية المطلقة ليس غير. وبعد الفوضى ارتفعت صيحات استغاثة تطالب بتدخل الدولة، لفك الاشتباك بين أطراف الاقتصاد، وهو ما لم ينتبه له المولعون بالمصطلحات المهترئة. والقمع لسلطة الدولة امتد إلى عدد من السلطات المشروعة، وقد نشأ صراع بين الدولة بوصفها ذات سلطة قانونية وحرية الأفراد، ذلك أن طغيان الحرية الفردية جاء على حساب حريتها وإضعاف سلطتها المشروعة، ولك أن تقول مثل ذلك عن (الدين) بوصفه واجبات والتزامات. ولم تكن (الليبرالية) المتداولة في المشهد العربي ذات صلة بالاقتصاد، بل لا يعرف المتداولون العرب أنها تعني شيئاً من ذلك، ولأنها فلسفة و(أيديولوجية) وليست مجرد إجراء فإن صاحب (قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية) يرى استحالة المراقبة الموضوعية، لانطوائها على نزعة فردية وحرية مطلقة لكل فرد من أفراد المجتمع.
ولأنها قامت في وجه (البرجوازية) فقد تولدت عنها (البروليتاريا) وهكذا تتناسل المصطلحات بعضها من بعض على شكل ردود أفعال، ونحن ببلاهتنا ومحدودية وعينا وقصور معارفنا نتلقف المصطلحات المتلاحقة، دون وعي بجذورها الفلسفية، وظروفها السياسية والاقتصادية، وصراع العقل المعرفي مع السلطة الكنسية.
و(الليبرالية) بعد تقلبات مفهومية ونوعية أصبحت (أيديولوجية) مناقضة في مفاهيمها للحضارة المستعيرة، ومن تصورها وسيلة وحسب، فعليه أن ينسف ركام الدراسات التي أنشأها المفكرون الغربيون أنفسهم. يقول (بوريكو) صاحب (المعجم النقدي لعلم الاجتماع) ص466: - (فإن الليبرالية هي أيديولوجيا تحكم على نوعية التنظيم الاجتماعي)، وهي كما قلت اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكل حقل معرفي تعريف لا يناقض ما سواه، ولكنه يخالف مخالفة تنوع لا مخالفة تضاد. ولقد أطلق هذا المصطلح لمواجهة الاستبداد السياسي بعد التحكم الاقتصادي والرقابة الاجتماعية الصارمة، وحقيقتها (السلطة بوقف السلطة).
وإشكالية (الليبرالية) من خلال الموقف الإسلامي أن الفعل عند (الليبراليين) تبرره قيمته، ولا تبرره مرجعيته النصية، إذ لا مرجعية، بمعنى: هل يقبل المجتمع بشرعنة المحظورات الدينية؟ إن كان الجواب: بنعم، فهذا القبول كافٍ للتبرير. والعمل من خلال المنظور الإسلامي، يكتسب مشروعيته من النص القائم على جلب المصالح ودرء المفاسد وسد الذرائع.
وفوق ما سبق من إشكاليات فإن مصطلح (الليبرالية) تحكمه جغرافيات فكرية متعددة، ففي (انجلترا) تستعمل بالمعنى الاقتصادي، وفي (إيطاليا) تستعمل بالمعنى السياسي الديني. وفي ظل فوضوية المفاهيم، فقد وضعها (هبمون) بإزاء (النظرية الانفلاتية) لأنها لا تعترف بأي حد مألوف وقانوني للحرية الفردية. بمعنى أن تفعل ما تشاء بشرط ألا يمس أحداً ضرر حسي من فعلك. وهي ذات صلة وثيقة بمعركة (الحداثة) و(الأصولية) وقد وصفها (ايميل بولا) بأنها تعني (تحرير العقل من أي سلطة). ولقد عرفها (شارل موراس) بأنها: - (مذهب متعدد الأشكال قائم على تحرير الإنسان من سلطة الله وشرعه وتنزيله، وبالتالي فهو مذهب يحرر المجتمع المدني من أية تبعية للمجتمع الديني).
وفي ظل هذه المفاهيم تقع الدكتورة (زينب عبدالعزيز) في ردة الفعل العنيف، إذ تقول في كتابها (هدم الإسلام بالمصطلحات المستوردة): - (ومهما تنوعت أوصاف (الليبرالية) في حلبة صراعها المتعدد الأطراف والمستويات فهي تشير إجمالاً إلى صورة مجتمع بلا إيمان، وإلى حرية بلا ضوابط وبلا إله). وإذ لا نتهم أحداً بهذا المفهوم، إلا أنه مفهوم متداول، سواء قبلناه، أو لم نقبله، ونحن في تقصيها نحيل إلى المتداول بين أهلها، وما شهدنا إلا بما علمنا.
وإذا كان المناوئون للحضارة الغربية يتصورونها رهينة (البرجوازية) و(الرأسمالية) و(الإمبريالية)، فإن المتطلعين لها يرونها خلقاً آخر، يراوح بين (الديمقراطية) و(الليبرالية) وفي ظل الفعل العنيف ورده الأعنف، راهن المناوئون لأنماط (الرأسمالية) العالمية على تلك المعطيات المناقضة، وكتب (لينين) نفسه كتاباً تحت عنوان (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية)، شنع فيه على النظام الاقتصادي الغربي.
والعالم العربي بوصفه الصدى، فقد عاش رهين النقائض بين الشرق والغرب، ولم تكن له مبادرة تغنيه عن الطرفين، والذين يقيمون رهانهم على المتداول الإعلامي يحملون في أعماقهم قابلية التحول، متى انتصر خطاب على آخر. والغرب المستبد، سينشق على نفسه، وسيكون للحراك الأوروبي دور في تحول الخطاب، ولن يظل على مصطلحاته المتلاحقة، وبالتالي فإن عالم الصدى سيعيد الصوت كما هو بكل تحولاته، دون أن يحاسب نفسه عن (معلقاته) المادحة لما هو قائم قبل أفوله.
والتهافت على (الليبرالية) كما التهافت على (الاشتراكية) حذو القذة بالقذة، ولو أن النخب التفتوا إلى الوراء، وفتشوا صفحات التاريخ الحديث، لوجدوا أنهم يوفضون إلى نصب المبادئ، وأنهم لما يزالوا أصداء أصوات بعيدة، ولقد اعتز (المتنبي) بأنه (الصائح المحكي والآخر الصدى)، وما كنا بتهافتنا وتبعيتنا كذلك.
ولم تكن (الليبرالية) مخاض اللحظة، فما يتداول اليوم إن هو إلا اجترار لما سلف، فلقد صنف بعض الدارسين (النخب المصرية) إبان التأسيس للنهضة (الطهطاوية) متصوراً الحراك السياسي الأيديولوجي ذا أجنحة ثلاثة: - (العلمانية) و(الليبرالية) و(القومية)، وجعل من عمد الليبرالية: - (علي عبدالرزاق) و(طه حسين) و(أحمد أمين) و(محمد حسين هيكل) ولم يرَ (الليبرالية) مع هذا الجناح بصورتها الأصلية، فهي (ليبرالية) توفيقية. ولقد ادعتها أنظمة ثورية، كما ادعت (الديمقراطية)، ولأنها مجرد دعوى فرضية فإنها لم تكن مشروعاً عملياً، وإذ تصورها البعض ممارسة فعلية، فقد تلمسها في المشاهد، ولما لم يجد أثرها التمس أسباب فشلها، نجد ذلك عند (خلدون النقيب) في كتابه (الدولة التسلطية) في سبعة عشر موقعاً في كتابه وبخاصة (ص 62، 63) وهي لم تكن إلا ادعاء. وعند (محمد جابر الأنصاري) في كتابه (تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي).
والمتهافتون عليها استحوذ عليهم رهان (فرانسيس فوكو ياما) الذي أشاع نظرية (نهاية التاريخ) وهي مقولة سبقه إليها (هيجل) وقد سرقها منه، ف(الليبرالية) معوَّلهُ، لكونها ذروة سنام التفكير الإنساني ومطبقة في الغرب تطبيقاً عملياً. وعلى أية حال فإن سامرها سينفض يوم أن يطرح الغرب نظرية أخرى، وعيب النخب الاسترفاد الغبي من (الطهطاوي) إلى يومنا هذا، ويا ليت قومي يستبدون ولو مرة واحدة (إنما العاجز مَنْ لا يستبد).

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:16 PM

أيها الكُتَّاب ادخلوا مساكنكم ...لا يحطِّمنكم تتابع الأحداث..!
د. حسن بن فهد الهويمل


هل تكون نملة (سليمان) أحذر منا، وأحرص على جنسها، عندما صاحت بجماعاتها: { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}!.
وهل سيبتسم صُنَّاع اللعب السياسية القاتلة من تنادي الكُتَّاب وتحذير بعضهم بعضاً من طوفان الأحداث المتداعية، كما الصخر حطّه السيل من عل؟. وهل سيأوي المفجوعون من هول المصائب إلى جبل يعصمهم من طوفان الكوارث الجسام؟. ولا سيما أن الحطم يتم بشعور اللاعب وبسبق إصراره، وليس كما حطم سليمان الذي لا يشعر بوجود النمل في طريقه.. ولست بهذا التحذير مُبالغاً في تصوُّر الأحداث المتسارعة كما وقع الحوافر، ذلك أن محترفي السياسة قراءة وكتابة ورؤية لن يكونوا أحسن حالاً من ذلك النمل، الذي راعه زحف الجيوش القادمة، والسعداء من الكُتَّاب مَنْ يمتِّعون أنفسهم بتناول القضايا المحلية، يخيفون بها الذين إذا قاموا إلى أعمالهم قاموا كسالى.. وما أكثرهم، وما أكثر المتأذين من التسويفات والمحسوبيات و(البيروقراطيات) الإدارية.ومثل هؤلاء أقل توتراً ممن يجيلون أنظارهم في الآفاق السياسية المكفهرة، وممن يستشرفون المستقبل المخيف، وممن يتابعون الأحداث العالمية المأزومة.. إن هذه الطائفة المعنَّاة تكاد تسف المل، وتتجرّع مرارة الانكسارات.. ومن ذا الذي يستطيع أن ينقِّب في مسرح السياسة، ويقرأ ما تحت السطور، ثم لا يُصاب بالرعب.
وقدر المفكرين والكُتَّاب المفيد والمؤلم معاً، أنهم ينظرون إلى أحداث العالم رأي العين، ويتعقّبون لعب الأقوياء المهلكة حية على الهواء، ماثلة للعيان، عبر القنوات والمواقع والصحف والإذاعات، والأقل من المتابعين من يتقن قانون اللعبة، بحيث لا ينزلق في تأييد مطلق، أو يعتزل برفض صارم.. وقطع الأمر مع غياب الوثائق، أو حضورها مزوّرة لا يقل خطراً عن التردد، ورأس الابتلاء أن كل حدث مصيري يستبطن (شفراته) الخاصة به، بحيث يتطلَّب نظرية معرفية، ومستوى قرائياً خاصين بالحدث، مستدعياً ذلك كله تكسيراً للقناعات والمسلمات، وتجهيزاً لخطاب (دبلوماسي) مراوغ.. وفي ذلك تكليف بما لا يُطاق، وإيذاء للمشاعر المتبلِّدة، فضلاً عن الحساسية.. ومما يعمّق المأساة أن معايشة الأحداث حية كما خلقها الله، تُواجه بضعف وهوان، وقِلة حيلة، وتنازع بين الأخ وأخيه، وخوف الإنسان من أقرب الناس إليه، وتدخُّل فضولي ممن لا ينفك يفسد بين المرء وزوجه.. والكُتَّاب بما هم عليه من رهافة أحاسيس، ورقة عواطف، يستقبلون الأحداث المؤلمة طرية كما وقعت، ويتقرون آثارها ومخلفاتها بأيديهم، وهم كما أطباء الإسعاف في تلقّي حوادث السير، فقد يصل إليهم جزء من جسم المصاب، ويظل الباقي مختلطاً مع قطع الحديد في موقع الحادث.. ورحمة الله في هؤلاء وأولئك الإلف والأمل والنسيان، وإلا كيف يحتمل الكُتَّاب التعايش مع المغالطات والمتناقضات وتعدد المكاييل والمحو والإثبات في آن.. فاحتلال يُزكَّى، وآخر يجرم، وترسانة تفتش، وأخرى تبارك، وتقنية تُخفى، ومساعدات لا تسد رمقاً، تأتي بالتقتير والتكدير والإيذاء، وإصرار على تحويل المسرح السياسي إلى مسرح عرائس، تحركها أنامل فوقية، وضرب للمنظمات الإسلامية، ثم انتهاك للسيادة الوطنية، وذلك بإبداء الرغبة في التفاوض مع رموز تلك المنظمات، وتغرير للشعوب بحجة تصدير العدالة والحرية.
وأي كاتب يتلوى على سفود السياسة، يرى أن من واجبه أن يعيش حضوراً واعياً لكل ما يسمع ويرى، وأن يكتب رأيه بعد التقاط الحدث بكل ملابساته عبر أي وسيلة إعلامية، أو سياسية.. فالأوضاع بلغت حداً من التدهور والفوضى لا يمكن معه امتلاك الأعصاب، ولا التّوفر على رباطة الجأش.. وكيف يتوفر الكاتب الفولاذي على شيء من ذلك، والمهيمنون كما (بلفور)، الذي أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، ثم لا يجدون حرجاً من أن يتبعوا تعدياتهم تباكياً على المصداقية والعدالة والحرية؟ إنه زمن الهون والحزن، وكيف لا يخاف الكاتب وهو الأسفل، إنه زمن جسَّد مآسيه (المتنبي) بقوله:




(واحتمال الأذى ورؤية جانيه
غذاء تضوى به الأجسام)
(ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدواً له ما من صداقته بد)


وإشكالية الأحداث المؤلمة أنها تعشي العيون، وتصم الآذان، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول للمتحسِّر، أو للمتنصِّل: (يداك أوكتا، وفوك نفخ).. وكل لاعب في مقدرات الأمم ومصائرهم، يتفنن في صناعة الخطاب الإعلامي المضلل، شأنه في ذلك شأن الشركات العالمية التي تُمارس من خلال إعلاناتها الدعائية الخداع البصري والسمعي، كي تستحوذ على المستهلك.. والكاتب قد لا يجد فرصة للتأمل، ولا إمكانية لانتظار ما تسفر عنه الأحداث من حقائق، تختلف عما أفضى به اللاعبون الكبار.. فهو إما مغلوب، أو مخدوع، أو مجند.. وحين تتكشّف الأمور، وتتعرّى المقترفات، يكون قد فرغ من تحديد موقفه، وإشاعته بين الناس.. ومن الصعوبة بمكان التّراجع، أو المراجعة، فقد قِيل ما قِيل إن صدقاً وإن كذباً.. وفوق إشكالية التّلون الحرباوي، يأتي تلاحق الأحداث الذي لا يتيح فرصة للمراجعة، ولا إمكانية للتقويم.. وارتباط كل لعبة بقانونها الخاص بها، وتراكم الأحاديث الفجة المرتجلة تصنع الذهنيات المضطربة.. والمَشاهد السياسية من أسوأ المَشاهد وأكثرها اضطراباً، وألصقها بالكذب، وأوسعها لتعدد الاحتمالات المتناقضة، وكيف لا تكون، والسياسة فن الممكن؟.
والمصاب بداء السياسة يروِّض نفسه على قبول المتناقضات والتّعايش معها، ولا يعرّيها لوقتها، إلا المذكرات والسِير الذاتية، التي يكتبها صنَّاع القرار، حين تلفظهم مطابخ السياسة في مزابل التاريخ، يفعلون ذلك كي يتخلصوا من تأنيب الضمير، ويفروا من عار التاريخ.. وكل زعيم استمرأ القتل، والهدم، والسجن والتشريد، وإهلاك الحرث والنسل، ومسايرة اللعب، أو تنفيذها طوعاً أو كرهاً، حين يفارق سدة الحكم مغلوباً على أمره، أو منهياً دوره التمثيلي، تجر قدمه قناةٌ أو صحيفةٌ أو ناشرٌ، ليغسل الدم بالأحبار أو بالرغاء الرخيص.. وقد يفضي بمواجيز الأحداث، ليتولى المتخللون بألسنتهم صياغة المذكرات، مستميتين من أجل تخليصه من سبة الدهر.. وساعتها يبدو فيما يقول، أو يملي، أو ينيب كحمامة سلام، تتعثَّر بشراك الشائعات.. ولو سألته عما اقترف من خطيئات ماثلة للعيان، لما وجد بأساً من إلقاء اللوم على رفاق الدرب، وشركاء الذنب، وعصبة الحزب، أو أبناء القبيلة.
ومع تعرية الاعترافات والمذكرات والسِير، وتضاربها، وفضح بعضها لبعض، يأتي حق الإفراج عن الوثائق السرية كالعهود والمواثيق والاتفاقات الدولية، وذلك بعد مرور الزمن المحدد للإفراج عنها، وتلك من أكثر العمليات كشفاً لما خفي، وإن كان الكشف انتقائياً، وعلى أضيق نطاق، وقد يدخل الكشف عن الوثائق تغنص اللعب، فما يعرف المتابع الصادق من الكاذب.. وكم من كاتب راصد، أو محلل اكتشف أنه يتسكّع في أودية التيه، وأن كل ما قال ركام من الأوهام.. فما يُقال عبر وسائل الإعلام في أعقاب الأحداث، أو ما يرهص لها، قد لا يكون صادقاً.. والذين يعوِّلون على ذلك، يكتشفون أنهم شهدوا وقائع الحدث، ولم يكونوا لدى المخططين إذ يختصمون، وأنهم كما الشاهد الذي سمع ولم ير، وما راءٍ كمن سمع، وتلك مصيبة المشهد السياسي.. وكم من مؤتمرين بعثت بهم دولهم، ليتدارسوا القضايا مع نظرائهم، فوجئوا بأن قضيتهم حُسمت بليل، وأن الاتفاقيات قد أخذت طريقها إلى المسرح العملي، وهم في غفلة عن هذا، يجادلون ويجالدون، ويظنون أنهم يكتبون التاريخ بمداد مخلوط بعرقهم ودمهم.
ومع كل الأجواء الملبدة بالمكر والخديعة، فإن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات.. فالكاتب الذي يلامسُ القضايا، يختلف عن المنغمس في مستنقعاتها.. والمتابعون لملفات الأحداث المصيرية، وما كُتب فيها، وما أُجري حولها من لقاءات مع أطرافها، أو مع المراقبين، أو مع المهتمين، أو مع سائر الإعلاميين، يقفون على أشياء مذهلة.. والصامتون حين يفك أسرهم، ويأمنون على أنفسهم، ينطقون بما يقلب الأوضاع رأساً على عقب.. وسليم النية والطوية أمام هذه المتناقضات الصارخة ينتابه الشك، حتى في نفسه.وكيف لا يشك الإنسان في نفسه والخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) يسأل (حذيفة بن اليمان) رضي الله عنهما وأرضاهما عما إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عدّه من المنافقين.. لقد جاء جواب (حذيفة) بالنفي، ولكنه أتبع ذلك بنهي يُعمِّق الخوف والشك: (لا ولا تسألني عن غيرها)، أو كما قال.. إذ ربما ينكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تتابع الأسئلة، والصحابة قد نهوا عن السؤال خشية أن تفرض عليهم الإجابة، ولهذا يفرحون بالأعرابي حين يتفجَّر بالأسئلة غير هيّاب ولا وجِل.
إن واقعاً كهذا، قمين بأن يُخاف، جدير بأن يُعتزل.. لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفتن، وذكر منها ما هو كقطع الليل المظلم.. والحل لا يكون وقفاً على المواجهة، فقد يكون الاعتزال، وكسر السيف، ورفع القلم، وكف اللسان هو الخيار الأفضل، وبخاصة عندما تنعدم الرؤية، ولهذا ندب الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة إلى كسر السيف، والعض على جذع شجرة، حتى يأتي الموت.. ومشاهد الأمة العربية وأحداثها المرعبة، تكاد تفوق قطع الليل المظلم، وتكاد تقتضي كسر القلم وتكميم الأفواه.. والمفجع أن الدهماء من الناس تخوض في الحديث عن تلك الفتن، وكأنهم أطفال يلهون بيوم مطير، وما علموا أنهم فوق أرضة ملغَّمة.
لقد مرَّت الأمة العربية بنكسات مُوجعة، وحروب أهلية دامية، وتناوش حدودي مُخيف، وإخفاقات عِرقية وطائفية، وأثرة حزبية، وعنف ثوري دموي، وتسلط عنيف، ولما يزل الإنسان العربي صابراً محتسباً، يتحرّف للخروج من هذه المآزق الخانقة.. وأمله ألا يغلب عسر يسرين، وبوارق الأمل تلوح في أفق ملبد بالغيوم، وكل أمله أن يَصْدُقَه القول أرباب اللسان والقلم، فلا يزيفون وعيه، ولا يصعدون ارتيابه، ولا سيما إذا اجتالته اللعب الكونية، وامتطى صهواتها مغلوباً على أمره.. فكم من لعب خادعة تهافت في أُتونها الخليون، كما يتهافت الفراش على اللهب.. وكم من أحلاف جائرة، انصاع لها الخائفون، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.. وكم من تكتلات هشة ظاهرها الرحمة، وباطنها من قِبلها العذاب، وإن بدا أصحابها باسمين، فإن الهمَّ يطويهم كما يطوي الأعرابُ شنانهم الفارغة من الماء.. والشأن العربي إما مترمّد تذروه الرياح، أو رماد يُرى خلله وميض نار قابلة لأن يكون لها ضرام، والقلة الأقل من الكُتَّاب كما رجال الدفاع المدني، يتقحّمون الأُتون بالكمامات، والدروع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. والنفعيون رضوا بأن يكونوا من آليات اللعبة، فاستخفوا بمصلحة الوطن.. ولو أعاد هؤلاء وأولئك قراءة ما قالوه بالأمس القريب، لتمنوا أن يكون بينهم، وبين ما كتبوا أمدٌ بعيد، فواحدهم: إما متسرّع لم يُتح له تسارع الأحداث فرصة للتأمُّل.. أو جاهل يظن كل الظن أنه ابن بجدة السياسة.. أو أجير في سوق النخاسة الإعلامية، لا يبالي في أي وادٍ هلكت أمته.. والقلة القليلة من تتثبّت، وتقلّب الأمور، وتقدّر، وتستخير، وتستشير، قبل أن تضع السواد على البياض، فالكلمة عندها إما عمار، أو دمار، والإسلام يحث على القول السديد والكلم الطيب.
إن زمن التيه قائم على أشده، على الرغم من سقوط الأقنعة، وتعري اللعب، وافتضاح اللاعبين.. فماذا قِيل عن الحرب (الأفغانية)، التي أعادت ترتيب المسرح السياسي؟ وماذا يُقال اليوم عنها؟ وماذا قِيل عن الحرب (العراقية) و(الإيرانية) يوم أن كانت على أشدها؟. وماذا يُقال عنها اليوم؟ وماذا سيقول أزلام النظام العراقي البائد، لو تمت المحاكمة على وجهها الصحيح، ولم (تُفبرك)؟ وماذا قِيل ويُقال عن الحركات والأحزاب والمنظمات والرموز الأحياء منهم والأموات؟. وعلى المتابع أن يُمسك الأحداث حدثاً حدثاً، ثم ليقرأ ما قِيل فيه يوم أن كان مشتعلاً، وما يُقال عنه حين تحوَّل إلى هشيم مترمِّد، ليرى كم هو الفرق بين قول وقول.. ومع كل هذا فالكُتَّاب لا يعيدون قراءة ما كتبوا، فضلاً عما كتبه لداتهم، ليختطوا لأنفسهم طريقاً قاصداً، ينجيهم من معرَّة التناقض، وعذابات الضمائر.. وهل يكون التّحرف والتّحيز في الهروب من مدرجة الطريق والدخول في المساكن، كما فعلت النمل، أم تكون النجاة في ملاقاة الأحداث بصبر ومصابرة ومرابطة؟. ما زالت الخيارات غامضة، والمشاهد مكفهرة، والرؤية متدنية، ومن يعش من الكُتَّاب فسيرى اختلافاً كثيراً.
وفي كل يوم تطلع فيه الشمس، تتكشّف الأحداث عن زائف القول.. ولو عملت مجسات ومسابير فيما مضى، وفيما هو آتٍ، لكانت الأمور أكثر بشاعة، وفوق هذا فإن ثورة الاتصالات جعلت الحبكة تتفكك في مهدها، ولم يكن بإمكان منفذي الحدث، وحائكي خبره أن يطيلوا أمد الكذب والتغرير، لقد بثَّت وكالات الأنباء الطريقة المؤلمة التي قُبض فيها على (صدام حسين)، وجاء مجند أمريكي من أصل عربي، ليكشف كذب الحبكة، بتصويره طريقة القبض عليه، وليس مهماً أن يكون القبض عليه كما صوَّرته الوكالات، أو كما حكاه الضابط الأمريكي، ولكن الأهم أن الإعلام لا ينفك من الكذب والتّفنن في صناعة الخبر.. ويُقال مثل ذلك عن الطريقة التي اغتيل بها (الزعيم الشيشاني)، لقد صوَّرته وكالات الأنباء كما يريد منفذ الحدث، غير أن (زوجة) القتيل نفت ذلك، وذكرت تفاصيل الحدث.. وها نحن الآن مع صورة جديدة ل(صدام حسين)، قد يأتي اليوم الذي يكشف فيه عن أهداف تسربها، وقل مثل ذلك عن تسريب ممارسة تدنيس القرآن الكريم، إنها لعبة تجرُّ بها الأقدام والأقلام، وتلك أمثلة حية لاضطراب الأخبار وافتعال الأحداث، وليس ذلك الاضطراب داخلاً فيما يُقال: (آفة الأخبار رواتها).. ولكنه داخل ضمن مقولة: (كذب المنجمون وإن صدقوا).وبعد لقد كان المجرِّبون يقولون: آخر الطب الكي.. وكان يجب أن يقول المكتوون بنار التّقلبات السياسية: آخر الطب الصمت.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:17 PM

المسند من خلال إسهاماته الأدبية
د. حسن بن فهد الهويمل


الحديث عن شخصية موزعة الاهتمامات، وعبر زمن طويل، ولاسيما إذا كان المتحدث يعيش معها الخلطة، ويشاطرها المسؤولية حديث لا يمكن أن يكون بريئاً. إذ للعواطف سلطانها وحقها المشروع، متى أمكن ترويض جماحها. ولقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليها وسلم مع زوج ابنته من أسرى بدر، ولكنه لم يستبد، بل استشار الصحابة، فكان أن أطلقه ورد قلادتها التي ورثتها من أمها (خديجة)، فعل ذلك، وهو يعلم أن الأسير سيقضي ما التزم به لقريش، ثم يعود مسلماً. والحديث عن عالم وأديب وتربوي وإعلامي، لم تشغله عوارض المرض ولا تعدد المسؤوليات عن أن تكون له يد مع العلماء والأدباء والإعلاميين عبر التأليف والصحافة والإذاعة والتلفاز، إضافة إلى عمله في قطاعات خيرية وإعلامية متعددة حديث متشعب، وهذه الإسهامات المتنوعة، يتعذر تناولها في حديث مقتضب، ومن ثم لابد من التقاط زاوية من نشاطاته، ومحاولة تغطيتها وفق المتاح. ولأن التنازع بين المهمة والوقت يحسم دائماً لصالح الوقت دون النظر إلى المهمة فإن ذلك مؤذن بالتخلي عن جوانب مهمة في حياة المدروس، وتناول جهود الشيخ (عبدالعزيز المسند 1353هـ - ...) العلمية والعملية يستدعي تصور الحواضن المعرفية التي أسهمت في تشكل الذهنية والمعرفية، فما من مترجم أو مؤرخ لعالم إلا ويلم بشيوخ المدروس ومقروئه، ذلك أن مفاتيح الأديب ما يقرؤه.
و(المسند) يتوفر على إمكانيات أدبية تضارعها إمكانيات أخرى، ليست بأقل أهمية منها، وإمكانياته الأدبية، لم تبرح أرض المحافظة، والفرق بين المحافظة والتجديد كالفرق بين المحافظة والتقليد. وكل منشأ في التراث تشده أمراسها إلى شوامخ القيّم الفنية والدلالية، بكل ماهي عليه من جمال وجلال، وكثير من جيل التأسيس المعرفي يصعب عليهم التخلي عن انتمائهم ومكتسبهم. والراصدون للحياة الأدبية في المملكة يوزعونها بين أجيال ثلاثة.
- جيل الرواد.
- وجيل التأسيس.
- وجيل الانطلاق.
ولما كانت المملكة مجموعة مناطق متفاوتة، فقد تم توحيدها إقليمياً بعد معركة التكوين التي خاضها الملك عبدالعزيز رحمه الله وجاءت معركة البناء لتوحيد البلاد علمياً وأدبياً، وكل متحدث عن مرحلة ما بعد التكوين يجعل منطلقه أدباء الحجاز. وقد تكون هناك إيماءات إلى ماطق أخرى.. وجيل الرواد تتنازعهم سمتا: التقليد والمحافظة، مثلما تتنازعهم أنواع الإبداع. أما جيل المؤسسين فهم الذين تواصلوا مع أدباء مصر والشام ممن واكبوا النهضة التعليمية في الحجاز، وإذ كان (المسند) حاضر التواصل مع أدباء مصر والشام، لانتقاله بالقوة من نجد إلى الحجاز، حين عزم الملك عبدالعزيز على النابغين من أبناء نجد باستكمال دراستهم، وبهذا اللحاق المبكر تشكلت مشاربه من ينابيع التراث الإسلامي، ومما جد في الساحة الأدبية والتعليمية والإعلامية، ومن هذا الجيل ومعه تشكلت شخصية (المسند) العلمية والأدبية، وهو قد أدرك نهايات جيل الرواد وبدايات جيل التأسيس، ولما لم يكن جيل التأسيس على وتيرة واحدة، فقد تنازعتهم تيارات أدبية وثقافية. فطائفة منهم سارت باتجاه الانطلاق والتفاعل الواعي مع المستجد الأدبي والاجتماعي، فيما سار آخرون باتجاه الرواد، متمترسين وراء كتب التراث وأنماط الحياة السائدة، وبقيت طائفة أخرى في موقعها محققة ذاتها الواقعية. ولأن (المسند) ممن لم يضعوا كل بيضهم في المشهد الأدبي، فإنه مقل لا يقدر أحد على تصنيفه. لقد اشتغل في مواقع كثيرة، وكان عملياً أكثر منه تنظيرياً أو كتابياً، والمتحدث عن جوانبه العملية سيجد الشيء الكثير، ولاسيما في قطاع الجمعيات الخيرية والمجال التعليمي. وفوق تأثير المهمات العلمية والتعليمية، امتدت إليه الوسائل الإعلامية، فاستجاب لها. والعمل الإعلامي وإن كان يستمد نجاحاته من الخلفيات الأدبية والثقافية فإنه يبتعد بها عن الصياغة الأدبية والتأنق الأسلوبي، ليقربها إلى العامة أكثر من زلفى.
وإذ يكون العملُ الخيريُ والتوعيةُ الإعلاميةُ والعملُ الإداريُ ممارساتٍ عمليةً مهمةً، إلا أنها تأتي على حساب الأداء الأدبي إنشاءً ودراسة. ولقد قلت ذات مرة عن شاعر لم يأبه بالموهبة، ولم ينقطع للإبداع إنه (شاعر مع وقف التنفيذ)، فإنني أقول عن المسند: (إنه أديب مع وقف التنفيذ)، بمعنى أنه يملك الاستعداد، ويتوفر على الثقافة والإطلاع، ولكنه لم يشأ استغلال هذه الإمكانيات وحصرها في حقل معرفي واحد، بحيث يُعرف في الأوساط الأدبية كما عُرف غيره من نقاد: منظرين أو مطبقين، ومن شعراء أخرجوا للناس أعمالهم الشعرية، أو سرديين أخرجوا للناس أعمالهم السردية. لقد جعل الإمكانيات الأدبية مساندة للعمل الإعلامي والتأليف الاختياري، والمقالة الصحفية.
وحين نقول بأن ممارسة (المسند) للكتابة بشقيها التأليفي والمقالي تأتي حسب الفراغ والرغبة، نقول بأنها مرتبطة بلغة تراثية علمية، لا يشوبها لحن ولا عامية ولا عجمة. بل أكاد أجزم بأن تأسيسه وتأصيله لآليات اللغة العربية لم يكن عبر الدرس الأكاديمي المتخفف، وإنما كان تأصيلاً عبر حلقات الدرس التقليدي.
وهو تأصيل يعتمد على الاستظهار والتطبيق. وتراثية (المسند) تمس المكتسب وطرائق الأداء ومجالات التناول، وتلك الصفات الثلاث حين يقع الأديب تحت طائلتها، يكون ذا سمة محافظة وليست مقلدة.
والأدباء المؤسسون الذين بدأ معهم (المسند)، ثم فارقهم، يتنازعهم العمل التأليفي وممارسة التعليم والتعلم، إذ لم تكن عندهم مراحل فاصلة، فهم طلبة وطلاب في آن، على حد: (رهبان في الليل فرسان في النهار)، وقد لا يواكب ذلك تحول سريع، فالمؤسسون والرواد من أكثر الأدباء أناة، فمشيهم لا ريث ولا عجل، ووعي الآخر بهم وعنهم يتشكل على ضوء اهتمامهم، إذ هناك علماء برزوا من خلال مؤلفاتهم، وآخرون برزوا من خلال إسهاماتهم العلمية أو العملية. و(المسند) وإن أسهم في التأليف، إلا أنه لم يشأ أن يكون مرتهناً لهذا الجانب، ومن ثم تعددت حقول اهتماماته، وتعذر حصره في مجال من المجالات. وباستعراض إسهاماته التأليفية والمقالية والبرامجية الإعلامية، بوصفها وثائق إثبات لأدبية النص عنده، وبخاصة برنامجه التفسيري الممتد لعشرات السنين، نجد أنه يمتلك لغة توصيلية، تأخذ حظها من الأدبية، غير أن التأنق الجمالي والانزياح المغرق لا يشكل أولوية عنده، فيما تقوم سلامة اللغة ووضوحها وأدبيتها. والمتابع لمقالاته وكتبه لا يجد اختلافاً بيناً بينها، إنه يكتب كما يتحدث، ويتحدث كما يكتب. وهذا باستثناء برنامجه (منكم وإليكم) الذي يتخذ طابع المشورة والنصيحة لشريحة من المجتمع، مما يتطلب تفصيح العامي وتعميم الفصيح. والفرق بين الكتابة والشفاهية واضح، وكل كاتب للمقالة لا يرى نفسه محترفاً، لا يخضع للأسلوب الصحفي، ولا يجد حرجاً من توحيد كتابته التأليفية والصحفية.
وعنصر التنافس حين لا يشكل عاملاً رئيساً يظل الكاتب مشغولاً بتوصيل الرسالة وسلامة الوسيلة. وأياً ما كان الأمر فإن (المسند) بوصفه موضوعاً يتنازعُه العلماء والأدباء، فهو على شاكلة (الطنطاوي) الذي آلمه نفي الفقهاء والأدباء له معاً، فإذا خاض معترك الفقهاء قيل له: ليس هذا العش عشك فأدرج، وإذا خاض معترك الأدب شاح الأدباء بوجوههم عنه، وهو الأديب المتمكن والفقيه المتبحر. وتلك إشكالية المثقف، فهو يأخذ من كل شيء بطرف، وقد يعرف كل شيء عن شيء، ويعرف شيئاً عن كل شيء، ولكنه مع تعدد اهتماماته، وتنوع مجالاته، لا يقيد هواه في الحقول التي يلم بها، إذ لا يتلبث فيها إلا قليلاً.
واستعراض عموده الأسبوعي في جريدة (القصيم) سابقاً، وفي جريدة (الجزيرة) لاحقاً (ما قل ودل) يكشف عن كاتب يتوفر على لغة أدبية مشوبة بالعلمية، وعلى خلفية ثقافية ذات مصدرين قويين: الفقه والثقافة، والمصدر الثقافي يستمد لحمته وسداه من كتب التراث الأدبي والتاريخي. ولهذا يوصف مقاله بالنص الثقافي، وليس بالنص الإنشائي، والكتبة المحترفون تغلب عليهم الإنشائية، ومن ثم لا يصنعون ثقافة، ولقد عُرفت شخصيات كثيرة، تهتم بثقافة النص، نجد ذلك عند معالي الدكتور الخويطر، وعند الأستاذ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وعند الشيخ عبدالله بن خميس، وعند آخرين من شرق البلاد وغربها. لقد سبق لداته من نجد حين تشكل وعْيُه الصحفي من خلال صحافة الحجاز، يوم أن كان يدرس هناك، كما أتيح له العمل فيها مصححاً ومراجعاً، وهي بحق صحافة الأدب الحي، إذا لا يلي أمرها إلا الأدباء المؤصلون لمعارفهم، وصحافة الأمس بهذه الكوكبة أصبحت ذات صلة بالعلم والأدب، فيما جاءت صحافة اليوم ذات صلة بالفن الصحفي والخبر التسجيلي والتحليلي، حتى كادت تنفصل عن أدبية النص، ولم يعد النص الأدبي مطلب القارئ الذي يريد من الجريدة أن تكون إخبارية تتابع الحدث ساعة بساعة، ومادة النخبة ليست القضية الرئيسة في صحافة اليوم. وهي وإن توفرت فإنما هي لشريحة محدودة، ولسنا بصدد الموازنة بين صحافة الأمس واليوم، إذ البون شاسع، وعالم اليوم يكاد يختلف كلية عن عالم الأمس، وصحافة اليوم تشكل (إمبراطورية) متعددة الإمكانيات، فهي بما هي عليه من قدرات متنوعة تلاحق المتغيرات، وتستخدم أحدث الوسائل وأكثر الإمكانيات. وما نود الإشارة إليه التأكيد بأن صحافة الأمس تهتم بالمادة واللغة ودسامة الموضوعات ومحدوديتها، ومن فتحوا عيونهم عليها طبعتهم بطابعها الموضوعي الصرف، البعيد عن فنيات الصحافة من حيث الإثارة والاستمالة والإمتاع، إنها صحافة الفائدة وحسب، والشيخ (المسند) في مطلع شبابه عاش تلك العوالم، فكان الكاتب الموضوعي البعيد عن الإثارة.
وهو إذا كتب المقالة الأدبية والاجتماعية فقد كتب الشعر، وكم قلت بأن الشعر ملكةٌ واقتدار، فأصحاب الملكة شعراء يحتاجون إلى ثقافة وموفق، أما المقتدرون فهم أولئك الذين خالطوا الشعر وحفظوا الشعر ودرسوه وألفوه وألفوا عنه، ثم قالوه في أضيق نطاق، وما أفرج عنه من مقطوعات ظفرت بها ابنته (الدكتورة غادة)، تشي بأنه ناظم مقتدر، وليس بشاعر، وهو قد أراح الدارسين والنقاد فقال بالنص (أنا لست شاعراً بالملكة ولا أقرض الشعر وإن طلبته قلته)، وما أكثر الذين قالوه اقتداراً، ثم انصرفوا عنه، لإيمانهم بأنه ملكة قبل كل شيء، من أمثال (طه حسين) و(حمد الجاسر) و(المنفلوطي) وعشرات آخرين، لقد توقف عدد من الأدباء عن نظم الشعر، نجد ذلك عند (أحمد محمد جمال) و(أحمد عبدالغفور عطار) و(راشد بن خنين) وهؤلاء متفاوتون في الإمكانيات، وقد يكون لسان حالهم أن جيده لا يقدرون عليه ورديئه لا يقبلونه لأنفسهم، أو أنهم كما الشافعي الذي قال:




(ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد).


وفي مجال التأليف فإن له أكثر من عشرة كتب، تمثل التنوع الثقافي، وهي بالجانب الشرعي ألصق، وقد يكون الدافع إلى تأليفها الشعور بأهمية القضية، ويهمنا منها ماله مساس بالثقافة والأدب، ومن بينها (الأندلس تاريخ وعبرة) و(الصين ويأجوج ومأجوج) و(سفينة الصحراء)، وقد تحسب هذه المؤلفات الثلاثة على (أدب الرحلة) وإن كان المنهجُ وأسلوبُ العرض يختلفان شيئاً قليلاً عن ذلك. ففي الأول يعتمد على التاريخ الأندلسي، ويحاول إثارة المشاعر والبكاء على الأطلال، فالأندلس هو الفردوس المفقود. وفي الثاني يسجل مشاهداته فيما سماه العالم المجهول، ويميل مع من يرون أن يأجوج ومأجوج عالم إنساني حي. فيما يحكي الثالث رحلة العقيلات على ظهور الجمال، ولقد طبقها مع لداته من هواة الرحلة كما لو كانوا من العقيلات وسلكوا طريق العقيلات المتجه نحو الشمال، وقد دوَّن مراحلها، وجسد ما كان يفعله المسافرون على الإبل، ووثق كل ذلك بالوصف والصور، ويعد كتابه هذا من أدب الرحلة التسجيلي.
ولأنه يحمل هم استحضار القدوة الصالحة، فقد قدم الشخصيات الإسلامية والأحداث التاريخية، جاء ذلك في كتب ثلاثة: (المنهج المحمدي) و(إمام الصابرين) و(متى ينتصر المسلمون) والواقع المعاش بأمس الحاجة إلى قراءة الأحداث التاريخية وسير أعلام النبلاء للاقتداء ومعرفة رجالات الفكر والعلم، وفي نهاية المطاف: من يكون عبدالعزيز المسند العالم والأديب والكاتب والإعلامي والإداري والتربوي؟ إنه خليط من هذا وذاك وسيظل مادة حديث لكل من راقته الشخصيات المتعددة المواهب والاهتمامات نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:17 PM

النص الهادف تربيةُّ وتهذيبُّ..!(1 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل


كل عالم أو مفكر أو أديب، يجب أن يسأل نفسه، قبل أن يضع سواداً على بياض: من يكون؟
وتساؤله لا يكون - بالضرورة - عن انتمائه الإنساني، فتلك نزعة مادية نوعية، تدخل ضمن مدلول {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} والمسلم يعي الحق الإنساني في سياق الحق العقدي، وقد لا يترتب على ذلك كبير فائدة، وإن كان قاسماً مشتركاً، يحل كثيراً من الإشكاليات. ومدار الكينونة الأهم إنما يكون عن الانتماء العقدي والمذهب الفكري، ليتم على ضوء ذلك تحديد هم الإنسان ومساره وحراكه الثقافي. فهو إذ يكون إنساناً بإزاء أمم أخرى: طائرة أو سابحة أو زاحفة أو ماشية، فإنه يكون منتمياً إلى (عقيدة) تفرض عليه الاستجابة لأمرها والعمل على إشاعتها، وليست كذلك بقية الأمم غير البشرية التي عُرضت عليها الأمانة، فأبت حملها، وأشفقت منها، وحملها الإنسان، لظلمه وجهله، فكان أن حُمِّل مسؤولية التكليف. وكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه يكون ملتزماً بالانتماء، حتى (اللا منتمي) يعد منتمياً إلى عدمية الانتماء، لأنه بالتخلي وبالالتزام يصبح صاحب موقف مضاد للانتماء أو موافق له، والمسلم ينتمي إلى عقيدته المبلغة إليه بنص قائم محفوظ، وهو في عقيدته بإزاء أناسي آخرين: يهوداً كانوا أو نصارى، يحملهم ولاؤهم وعملهم على عدم الرضى إلا باتباع ملتهم، وتَمثُّل العقيدة يعني النهوض بمتطلباتها السلوكية: تلبساً ودعوة.
وحين يتحدد انتماء الإنسان بطوعه واختياره، أو بولادته، وأسلمة أبويه له، تتحدد مهماته: الإبداعية والعلمية والعملية، وتتراتب تلك المهمات في سلم الأهمية، وليس هناك أهم من إشاعة القيم السلوكية: قولاً وعملاً، إذ المسلم مطالب بالجمع بين الحسنيين: القول السديد والعمل النافع، ولهذا كبر مقتاً عند الله أن يقول المسلم ما لم يعمل، ويكون في الدرك الأسفل من النار حين يكون منافقاً يظهر الإسلام ويبطن الكفر. ومهمة المسلم في الحياة: ذاتيَّة وغيرية. ومن الغيرية الاهتمام بأمر الإسلام، وحب الخير للمسلمين، ومجالات الاهتمام والحب كثيرة من أهمها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والنصيحة لله ولرسوله ولِئولي الأمر، والحب في الله، وكف الأذى، وفي الحديث (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). وعلى ضوء ذلك يكون (تهذيب السلوك) جزءاً من مهمة المسلم المقتدر، وهو هم مشترك لكافة المؤسسات: التربوية والتعليمية والتثقيفية والأدبية.
و(الأدب الإسلامي) بكل أبعاده: الإبداعية والنقدية أدب هادف ملتزم، وليس ملزَماً، ولهذا فهو يحمل رسالة التوعية والتهذيب، وهو إذ يحمل هم التهذيب السلوكي، فإنه في الوقت نفسه يحمل هم تربية الأذواق وإمتاعها، وواجبه أن يحفظ التوازن بين أدبية النص السردي وشعرية النص الشعري والمضامين الأخلاقية. فلا تجعله مهمةُ يدعُ الأخرى كالمعلقة، ذلك أن مقاصد الأدب الرفيع تنمية الأذواق، وإمتاع العقول، وإشباع العواطف. والأذن تعشق قبل العين أحياناً، والصوت الجميل مطلب إسلامي وإنساني، وفي الحديث (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وإذا كان الشعر إنشاداً، فإن القرآن ترتيلاً وتغنياً، والله قد أمر بترتيل القرآن.
والمشركون تواصوا باللغو وبعدم السماع أملاً في الغلبة، وكل ذلك للحيلولة دون التأثير الجمالي للأصوات بوصفها تصدع بالنص الهادف، وجمال اللغة بحسن الصياغة، وسبيل ذلك الجرس والإيقاع والتقفية والسجع غير المتكلف والتوازي، والنص الهادف يحافظ على الجمال والجلال، حين يمّارس التهذيب والتربية.
ولا أحسبه بمبادرته للتهذيب السلوكي والتربية الذوقية يدّعي الاستئثار بهذه المهمة، ولا يعني الانقطاع لها، لأنه إبداع فني إمتاعي بالدرجة الأولى، وكم هو الفرق بين الفن وسائر المعارف الإنسانية. وهو إذ ينهض بالتربيتين: السلوكية والذوقية فإنما يتخذ طرقاً لا تعتمد الأسلوب الوعظي المباشر، ولا لغة العلم التوصيلية. فالأدب العربي منذ عصوره الأولى، حتى يومنا هذا، ينهض بعضُ شعرائه وأدبائه بهذه المهمات، ثم لا يكون ذلك على حساب اللغة الأدبية. ولقد قيل: (أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري) وذوائق النقاد تختلف، فحكيم المعرة وصف شعر (المتنبي) بالإعجاز ووصف شعر (البحتري) بالعبث، والنقد الأخلاقي الممتد منذ العصور اليونانية والمدن الفاضلة حتى العصر الإسلامي الذي فرق بين شعراء الغواية والهداية، وأسس للكلمة الطيبة جزءاً من مهمة (الأدب الإسلامي)، وشاهد على عمقه الزمني. وما تحرف الأدباء لإبداع النص الهادف، وتحيزوا لمفاهيم الأدب الملتزم ومقتضياته إلا من بعد ما اختُرقت أجواءُ الأدب العربي بتعديات على المقدس والمعصوم والأخلاق، ولوثت فضاءاته، ففي ظل هذه الظروف المتردية أخلاقياً وفكرياً، وفي ظل التمرد على القيم الفنية واللغوية لزم نهوض الخيرين لتدارك الأمر، والخلوص من لوثات الفكر وتردَّيات الأخلاق، وإذ تعمدت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة إفساد الأخلاق والأذواق فإن واجب الأدباء الإسلاميين إصلاحها، وما من عاقل رشيد يشك بأن إبداعات بعض الحداثيين وطائفة من الإعلاميين تضمر إفساد السلوك، ف(الحداثة) المنقطعة الفوضوية أدت إلى فساد الأذواق والأخلاق، وترديات النصوص تتطلب صحوة متوازنة، تعيد الأدب إلى مساره الصحيح، وتقيل عثرته.
وما تخلف (الأدب العربي) عبر عصوره عن النهوض بمهمة التهذيب والتربية، وإن واكب ذلك جنوح فردي تعهده النقاد الأخلاقيون بالتقويم، ولو نظر المتابع الواعي إلى موسوعات الشعر العربي القديم والحديث لتبين له أن ما يلتمسه في (النص الهادف) نثار في تلك الموسوعات، وكل الذي يمتاز به (الأدب الإسلامي) بوصفه وعاء ذلك النص أنه يحول دون اختراق أجوائه بما يسيء إلى السلوكيات المهذبة، والذوقيات السليمة، والأفكار المستقيمة. وما تفرق الذين غمرتهم النصوص المدانة إلا من بعد ما جاءهم مصطلح (الأدب الإسلامي) ببيانه وحذرهم من مغبة القبول بالكلمة السيئة، وما كان هدف الأدب والأديب إلا إشاعة الكلمة الطيبة والقول السديد، ومن تصور الأدب الإسلامي غير ذلك، فقد وهم وجار في حكمه. ولهذا يكون تهذيب السلوك جزءاً من رسالته، لا ينقطع لها، ولا ينقطع عنها، إذ هو في الحالين يخل بمهمته الأخلاقية وأدبيته الأصيلة، لكونه إبداعاً قولياً له رسالة إصلاحية، وبرَاعته في حفظ التوازن، إنه يعرف كيف يتناول المهمة الأخلاقية، دون أن يكون ذلك على حساب فنيات الإبداع الشعري والسردي. وكل الذي يفصله عن (الأدب العربي) شعوره بأهمية شرف المعنى، وهو فيما سوى ذلك أدب عربي بكل ما يعنيه ذلك المصطلح من دلالات ومقتضيات، نقول هذا لنثبت أن (الأدب العربي) يحمل هذا الهم الذي أدركه الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) حين ندب إلى حفظ الشعر، بوصفه ديوان العرب.
وإشكالية الأدب الإسلامي، أن الذين يتلقون مصطلحه، يتصورونه شيئاً آخر، وأنه مختلف جداً عن سائر الآداب، وأن إسلاميته على حساب شعريته وأدبية سرده. وما ساور أحداً من دعاة الأدب الإسلامي أيُّ شك بأهمية الشعرية على قواعدها والأدبية على أصولها. وما شهدت المشاهد الأدبية صراعاً خارج أطر القضية، مثلما نشهده حول ذلك المصطلح. ومعضلة المصطلحات الجديدة أنها تستقر في الأذان منذ أول يوم، ثم لا يكون من اليسير تغيير ما استقر، و(الأدب الإسلامي) استقر على غير مراد ذويه، ولما يزل يعاني من هذه المفاهيم الخاطئة، ومنشأ ذلك كله أزمة المصداقية، فلو أن خصومه تلقوا مفهومه من ذويه، ولم يفتروا مفهوماً غير مقبول، لكان ذلك مؤذن بقبوله والتفاعل معه، وعذر المتلقي أنه تلقاه من غير مصادره المشروعة، فكان الخوف من التصنيف والخوف على الأدب مرتبطاً بالمفاهيم الخاطئة، والمشفقون على وظائف الأدب وسماته من الأسلمة، كالذين يروجون تحفظاتهم وتخوفهم من أسلمة العلوم الإنسانية، كعلم النفس والاجتماع، وما دروا أن الأسلمة لا تمس قوانين العلوم ولا جوهر الأشياء، وإنما تطعِّمها بمقاصد الشريعة، وإذ يعتري الأدب سوءُ تعبيرٍ من الخصوم، فإن للمقصرين من الأنصار دوراً في غبش الرؤية، ولا أظن المقتضى المصطلحي مسؤول عن الجنايتين.
فالمصطلح ذو شقين:
- أدب يقتضي الأدبية والشعرية.
- وإسلام يقتضي الاستقامة على الحق.
ومن هنا يتبين لنا اضطراب المفاهيم فيما تتداوله المشاهد الأدبية.
ولو أراد المناوئون فهم (الأدب الإسلامي) على ما هو عليه، لأعدوا أذهانهم، واستعدوا لقبول الحق، ثم ما وسعهم إلا مناصرتُه، والعملُ من خلاله، ذلك أنه أدب بكل ما تعنيه كلمة الأدب، وإسلامي بكل ما تقتضيه كلمة الإسلام. وليس في طرح هذا المصطلح ما يثير التساؤل، وإنما التساؤل هو في تصوره شيئاً آخر، يغاير (الأدب العربي). وما هو إلا أدب كأي أدب هادف، يستمد لحمته من رسالة حضارته التي ينتمي إليها. والإسلام حضارة شمولية، لا تدع شيئاً أتت عليه إلا تركت فيه نصاً ظاهر الدلالة أو مضمرها، تُستلهم الأحكام من ظاهر النص القطعي أو من دلالته الاحتمالية، ونظرية التلقي والتأويل تحدد المفهوم المباشر أو المفهوم المحيل إلى المقاصد والمقتضيات بمساندة القياس أو الاستحسان، وعبر آليات الاجتهاد، وعلى ضوء الأصول والقواعد التي يحيل إليها فقهاء الأمة عند غياب النص بمفهومه الفقهي. ف(النص) عند الفقهاء ما لا يحتمل إلا دلالة واحدة، ولهذا يقولون: (لا اجتهاد مع النص)، وعند غياب النص أو احتماله لعدة دلالات، يتوسلون بالمقاصد والأنساق والسياقات والأحوال، ويأتي من علماء الأمة من يستنبط الأحكام على ضوء المقاصد، وأدب كل أمة يسبح في فضاءات حضارتها، بحيث يستمد لحمته وسداه من مقاصدها، ومع أنه جزء مكمل لتلك الحضارة فإنه لا يكون متماثلاً مع الأجزاء الأخرى. لقد جاء القصص القرآني متوفراً على أحسن الأداء ومتضمناً لأحسن المضامين، وفي ظلاله سار القصص النبوي. والكلمة الطيبة تضطلع بمهمة التهذيب والتربية وتحتفظ بجمالياتها الإبداعية، وليس على الإبداع غضاضة إذا توفرت مقوماته لدى المبدع حين ينهض بمهمة التهذيب السلوكي والتربية الذوقية والأخلاقية، ومع تداخل المهمات بين الفنون والمعارف يعرف كل قوم مشربهم.
فعلماء التفسير والحديث والفقه والتاريخ والفكر والأدب يعرفون رسالتهم وأبعاد فنهم، وشرط نصِّهم، ومع افتراقهم في الاستخدام اللغوي والمؤثرات الجمالية فإن للجميع غاية واحدة، تحددها آيات {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} و{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} و {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}ومع هذا التنصيص يجدون أنفسهم أمام حاجاتهم البشرية التي تجسدها آيات {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} و{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. إن الإسلام يقوم على الوسطية والتوازن، يعطي الجسم حقه، ويعطي الروح حقها، ولا يبخس من الحقين شيئاً، كما أنه بتوازنه لا يقبل الغلو ولا التطرف ولا الانقطاع للعبادة، ويؤكد على الرفق عند الإيغال في الدين. وليس في الإبداع نصٌ لا يحمل رسالة، وليست هناك حضارة تقبل نصاً ينقض عراها عروة، عروة ويفسد أخلاق ذويها. وما النص الهادف إلا بعض مطالب الأدب الإسلامي.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:18 PM

النص الهادف تربية وتهذيب..!! (2 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل


ومهمة (الأدب الإسلامي) ليست وقفاً على الفائدة الخالصة، وإنما هي خليط من الفائدة والمتعة، بل أكاد أجزم بأن الهدف الأسمى يقف حيث إشاعة الكلمة الطيبة، وتمكينها من النقاد عبر الكلمة الشاعرة أو النص الأدبي، وحين يحمل المبدع والناقد هذا الهم، يكون التهذيب السلوكي والتربية الذوقية عفويين يعبقُ بهما النص دون تعمُّل، وما من مبدعٍ متضلع من تراث حضارته، إلا ويكون إبداعه متعالقا مع مخرجات ذلك التراث، ذلك أنه تراث يعيش الخلطة مع النص المقدس والحكمة الموحاة، وهو نتاج ثقافة إسلامية مهيمنة، لا يحيد عنها إلا هالك، وأثرها بادٍ حتى على العرب من غير المسلمين. وما تفرق أدباء الأمة إلا من بعد ماجاءتهم حضارة الغرب، وهم فارغون من كنوز حضارتهم، إذ ما من محمدة في سائر مجالات الحياة إلا وهي ضالة المسلم، وكيف يفتقر الإسلام إلى قيم الغير؟ والله قد أكمله وأتم نعتمه ورضي الإسلام دينا. وعلماء التربية والنفس والاجتماع الفارغون من معارفهم، يجوسون خلال معارف الغرب، ويأخذون بأسوئها، وما في كتاب الله وسنة نبيه خير مما يجمعون، ومع ذلك فليس هناك ما يمنع من الاستفادة المشروعة من كل طارئ أياً كان مصدره.
إن مهمة المبدع أن يجعل من بيانه سحراً حلالاً، لا يقود إلى بنيات الطريق ومتاهاته، وإنما يسلك بالمتلقي الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وليس في ذلك ما يضير، فالقرآن الكريم الزاخر بالقيم الأخلاقية السلوكية والدعوية، جاء في ذروة البلاغة والفصاحة والبيان، وكان إعجازه البياني مسرح الأدباء، ومجال البلاغين، محتفظاً بمكانته التي لا تنازع، ومن تصور أن شرف المعنى محسوبٌ على شرف اللفظ، فقد تقوَّل على الأدب الأخلاقي كل الأقاويل.
وحين يؤكد الناقد الإسلامي على أهمية الاضطلاع بمهمة تربية السلوك، واستثمار آي الذكر الحكيم وصحيح السنة النبوية وسير السلف الصالح، فإنه لا يغمط الشعرية ولا الأدبية شيئاً من حقهما، ومناشدة التهذيب والدعوة إلى مكارم الأخلاق، لا يستجيب لها إلا الذين أشربوا في قلوبهم حبَّ القيم الأخلاقية السامية.
ومهمة تهذيب السلوك مهمة كل مقتدر، وهي لذلك بعض مهمات الأدب الإسلامي، ولكل فن مسؤولية خاصة، ومسؤوليات مشتركة، والنهوض بالمهمة المشتركة لا يَفْترض التجانس بين التخصصات، بحيث يكون الأديب على ألق الشعر وسديد القول. ونكد الشعر يروضه الصدق ولا يغني عن صدقه كذبه، كما يقول (البحتري).
إن باستطاعة القاص والروائي والشاعر أن يتوفروا على سائر القيم السلوكية، دون الإخلال بالشعرية والأدبية، ودون الخروج بالأدب عن خصوصيته الإبداعية وسمته الجمالية. ومن قعدت به إمكانياته الفنية والجمالية، لم تسبق به دلالته الدينية، وليس أضر على (الأدب الإسلامي) من ذلك المفهوم. لقد شاعت بين الطوائف والأحزاب والفئات أخلاقيات المداهنة وإعطاء الدنية، فكان أن هبطت الفنيات، وفقدت الضوابط، وأصبح كل مفرط محمي بمظلة الموالاة. ومن الخير للأدب الإسلامي ألا يقبل شرف المعنى دون أدبية النص أو شعريته. والمجاملة على حساب الثوابت إضاعة للقيم الباقية. والخائفون على خصوصية الأدب - وهو تخوف في محله - يجب أن يعرفوا أن المصطلح يسبق في تركيبه إلى الأدبية، فالفقيه والواعظ والنظَّام لا يكون أحدٌ منهم أديباً، ولا تصدُق على ما ينحتونه من القول سمةُ الأدب، وإن كانوا جميعاً يحملون هم تربية السلوك.
والأديب المسلم يدرك مسؤولية الكلمة ومهمة المبدع ورسالة المفكر، وطريق النفاذ إلى المتلقي عبر المحفزات الجمالية، فهو لا يطلق لقلمه ولا للسانه العنان، بحيث يقول الكلمة، ولا يلقي لها بالاً، وفي الحديث الصحيح (إن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في النار) وحديث (وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم). وهو إذ يعي خطورة الكلمة، فإنما ذلك امتدادٌ لاحترام الإنسان. وهو حين يحرص على شرف المعنى يعرف جيداً القيمة الجمالية للكلمة وأثرها في إمتاع المتلقي واستمالته وإقناعه، وقدوته في ذلك (القرآن الكريم) الذي اعتمد في تأثيره وإعجازه على الجلال والجمال، فالجلال جمال معنوي كامن في النص، والجمال مدرك حسي، يتمثل في روعة النظم وجمال الصياغة والانزياح اللغوي والمجاز والإيجاز والاستعارة والتشبيه وسائر المحسنات اللفظية والدلالية. وليس هناك ما يمنع من توفر الجمال والجلال في النص.. ومع ما يكتسبه المتلقي في عوائد يحملها جمال النص وجلاله فإن الكلمة الطيبة الرقيقة الجميلة تسهم في ترقيق الطباع ولينها، كما المناظر الجميلة، فكلما خشنت المناظر خشنت الطباع، وحياة الصحراء والجبال ولوافح الرياح تخشن معها الطباع، وقد تصل بتأثيرها إلى حد الفظاظة والغلظة، وكلما رقت المناظر رقت الطباع، ولقد أدرك (يوسف) عليه السلام خشونة البادية وأثرها على الطباع، وحمد الله على خروجه من السجن ومجيء أهله من البدو، وكذلك بحث الفقهاء الموقف من (التبدي).
وعلماء الاجتماع يرون أن هناك علاقةً بين طباع البشر وطبيعة الجغرافيا التي يعيشون فيها، وحتى التعامل مع المخلوقات له انعكاساته، وفي الأثر (ما من نبي إلا رعى الغنم)، ذلك أن طبيعة الغنم الهدوء والنظر إلى مواطن الأقدام، بينما رعاة الإبل الغالب عليهم الخشونة والغلظة، وإذا ألف الإنسان سماع الكلمات الرقيقة الجميلة الطيبة تركت في نفسه أثراً حسناً، ولهذا ندب الإسلام إلى القول السديد قال تعالى: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وقال: { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقال: { لاَ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ}، وفي الأثر: ليس المسلم بالطعان ولا باللعان ولا بالمتفحش. فالكلمة الطيبة تسهم في تهذيب الأخلاق، وإن لم يتعمد المبدع ذلك، وتربية السلوك تأتي باستشعار المبدع، وتأتي كامنة في النص كما العبق.
و(الأدب الإسلامي) الذي يأخذ على عاتقه مهمات تربوية لا ينسى أبداً دوره الأصيل بوصفه أدباً، يعتمد الجمال والإمتاع، فإذا كان المعلمون والخطباء والوعاظ يحملون هم التربية السلوكية، ويجعلون ذلك كل همهم فإن الأديب الإسلامي يعرف أنه مشاطر بهذه المهمة، ينهض بها عفوياً وقصداً، ولهذا استوفى الدكتور (شوقي ضيف) الجانب الأدبي في شعر الزهد والوعظ وعده ظاهرة أدبية في عصور الازدهار، مع أن طائفة منه مأخوذة بالنظم والمباشرة.. ولما كان إنتاج (الأدب الإسلامي) محسوباً على الأدب فقد يضع كلَّ الاعتبار لتقييد نفسه في محيط الأدب لا يبارحه، بحيث لا يكون الأديب واعظاً أو فقيهاً، والذين يبررون تخليهم عن الانضباط الأخلاقي بحجة أن مهمتهم ليست وعظية ولا تربوية، يرتكبون خطيئة التفريط في شرف المعنى المعادل لشرف اللفظ، ويصادرون شطراً مهماً من وظائف الأدب، وهي التأديب، وفي الأثر غير الصحيح (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فكلمة (أدب) قبل أن تكون مصطلحاً إبداعياً، هي ممارسة تقويمية، وتهذيب السلوك كامن في المصطلح ذاته. لقد تجاوز الأدب الظاهرة (الرومانسية)، وبقدر إغراقه السالف في الأحلام والأوهام أغرق في (الأدلجة) والتسييس، والأدباء والنقاد مسرفون في الحالين ف(المتأدلجون) و(الرومانسيون) لم يتوفرا على مطلب الوسطية التي ينشدها (الأدب الإسلامي).
ولأنه كأي أدب عالمي يحافظ على أدبية السرد وشعرية النظم، وما يتطلبان من جماليات ممتعة ومستميلة ومقنعة، فإن الخلوص للتهذيب السلوكي قد يأتي على حساب الجماليات الإبداعية، وتلافياً لذلك لا يكون (النص الهادف) منقطعاً لمهمات العلوم الإسلامية، وإنما يحمل منها ما لا يؤثر على خصوصيته بوصفه أدباً بالدرجة الأولى، كما أنه لا يطالب المبدع أن ينقطع لأي مؤثر على فنياته، ولكنه يؤكد على سلامة النص من أي إخلال بالقيم الأخلاقية. وإذا اضطر المبدع أن ينطلق من قعر الواقعية فإن (الأدب الإسلامي) يود منه ألا يمارس الوصف والتسجيل المباشرين، فيقع في الحديث عن القاذورات الواجب سترها، ولا يترفع عن سفاسف الأمور، وينصاع إلى أدب الاعتراف المخل بالقيم. وكل من جنح إلى النص الواقعي فعليه أن يكون قدوته في ذلك ما قصه القرآن الكريم عن (يوسف) عليه السلام مع امرأة العزيز، لقد عرض لآثار لخلوة وفتنة النساء، وجاءت النهاية محققة انتصار الفضيلة، وكل أدب يحكم الصراع بين الفضيلة والرذيلة، ثم يجعل الانتصار للحق يعد أدباً إسلامياً، ولو ضربنا الأمثال بروائيين عرفوا بالواقعية السلوكية ك(نجيب محفوظ) وآخرين حاولوا حفظ التوازن ك(نجيب الكيلاني) لأدركنا كم هو الفرق بين مشيع للفاحشة ومحذر منها، وكلاهما اتخذ شخصياته وأحداثه من الواقع الاجتماعي، وتشابهت عندهم الأحداث ولم تتشابه المصائر والمآلات، مع أننا نتحفظ على بعض إبداعات (الكيلاني).
وكل أداء تقبله الأذواق السليمة، ولا ينعكس أثره السيئ على الأخلاق، ولا يثير الغرائز الحيوانية، يعد من الأدب المقبول، وإن لم يكن في خدمة الإسلام المباشرة والمنقطعة. وفي الذكر الحكيم {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ذلك أن الإسلام يقدر النوازع البشرية، ومن ثم فإن مهمة المسلم عمارة الكون وعبادة الخالق وهداية البشرية والتمتع بالطيبات الحسية والمعنوية، لهذا يفسح المجال للمتعة واللهو البريء، وفي الحديث الصحيح: (إن الأنصار يعجبهم اللهو)، وحين نضع مثل هذه التحفظات وتلك الاستدراكات فإنا نود الحيلولة دون رغبات جامحة تريد من الكلمة الإبداعية أن تكون وعظية لا تبرح الوعظ إلى غيره أو لا توفر أدبية النص عند الإلمام بالوعظ. وكم هو الفرق بين الأدب الإسلامي والأدب الديني وأدب الزهد والرقائق والتصوف، إنه أدب لا يدعو إلى طائفية ولا إلى رهبانية، إنه أدب فكر وهم وإحساس إسلامي، يلتمس فيه القارئ نصاعة الإسلام ونقاءه وسمو أهدافه ونبل غاياته.
إنه أدب عالمي يتسع لكل من يشهد ألا إله إلا الله، ويعتمد لغة الأمة وأخلاقياتها السامية، ويرفض العهر والكفر والتنازع وإثارة الضغائن، وكيف يحتويه شيء من ذلك، وهو يتخذ من خُلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة ونبراساً، وكان خُلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن، وأسلوبه اللين، ولقد أشاد القرآن بصفاته { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}
إن (الأدب الإسلامي) وهو يحمل هم الإسلام الدعوي، يحتفظ بكل مقومات الأدب، فلا يساوم على شيء منها، ولا يقبل من الضعفاء أن يكونوا شواهد في سوح الأدب، إنه الأدب الرفيع فناً ودلالة، كل الذين يتوسلون إليه بالمعاني الجليلة لا يقبلهم، إلا إذا توفروا على جمال النص وشرطه الإبداعي.
وحين يستبطن المبدع الإسلامي هم التربية السلوكية، والذوقية، يهيئ لها مجالاتها، فالقصة والرواية والسيرة الذاتية وأدب الرحلة وسائر السرديات والأنشودة والقصيدة والمسرحية (الشعرية والسردية)، كلها مجالات صالحة للتهذيب، وحين لا يحمل المبدع ذلك الهم فلا أقل من أن يتحامى الإساءة إلى المتلقي. لقد حث الإسلام على القول السديد، فإن لم يكن، فلا أقل من الصمت، وحث على تجنب القاذورات، فإن لم يكن بد من ذلك، فلا أقل من الستر، وتجنب المجاهرة بالمعاصي، وفي الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) و(إذا بليتم بهذه القاذورات فاستتروا فإن من بدت لنا صفحته أقمنا عليه الحد) وفي الذكر الحكيم: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، إن الكلمة مسؤولية، والمسلم مرتبط بها ومحيل إليها.

عباس محمود العقاد 23-11-2006 09:18 PM

شاعرية مع وقف التنفيذ
د. حسن بن فهد الهويمل


لن أعيد مقولة: الشعراءُ أربعة، بحيث أضعُ شاعرنا في موقعه المناسب، فلربما تأخذني العاطفة، لأقول: إنه يجري ولا يُجرى معه. وهو فيما أعلم من أزهد الناس بالثناء، ولو كان الثناء شهادةً بما عُلم.
ولن أستذكر ما قلت من قبل، وكان مثار إعجاب البعض، وهو أن الشعر: موهبة أو اقتدار أو هما معاً. وكم من أدباء ألفوا الشعر: قراءة وتدريساً ومناقشةً وتحكيماً، فقالوه اقتداراً، ولم يقولوه موهبة، فجاء موزوناً مقفى، يحمل إيقاعاً ودلالة، ولكنه لا يحمل نبض الشعر.
ولقد مللت من تكرار القول: بأن الشعر: موهبةٌ، وثقافةٌ، وموقفٌ، وأجواء. فإذا تخلف عنصرٌ من هذه العناصر الأربعة لأي عارض تخلف الشعر. وإذا اكتملت العناصرُ اكتمل الشعر. و(المتنبي) الشاعر الفذ، الذي شغل الناس، ونام عن شوارد شعره، له شعرٌ رديءٌ، يود محبوه أن يدسوه في التراب، وإذا أمسكوه فإنما يمسكونه على هون، وسبب ذلك تخلف عنصرٍ من تلك العناصر التي قد تكون مفقودة عند الأكثرين من الشعراء.
ولما كان الشعر كالجمال والحب والسعادة لايُعرَّف، فإنه معهودٌ ذهني لا تكاد تخطئه العين. واختلافُ النقاد حول التجريب الشكلي أو الانزياح اللغوي، أو ما شئت أن تقولَه عن التحولات التي خَرجت بالكلام إلى مضائق الإبهام والانقطاع والانطفاء، كلُّ ذلك يصبُّ في اختلاف المفاهيم حول الشعر. ومن قال بأن الشعر وزنٌ وقافيةٌ واجهه المعارضون بالنظم العلمي. ومن لم يقلْ ذلك يواجه ب(القصيدة النثرية). ومثلما اختلف السلف والخلف حول مفهوم أدبية (النص الأدبي)، اختلفوا كذلك حول مفهوم شعرية (النص الشعري).
ولو رحتَ تسأل: ما الشعر؟ لتقطعت بك الأسباب، مع أن مفهومه أقرب إلى العربي من حبل الوريد، ولكن التمحل أبعد النجعة، وأخرج التجريب الشعري من دائرة الشعر إلى دوائر أخرى، فكان قولهم كما تفسير (الرازي) فيه كل شيء إلا التفسير.
أقول قولي هذا تمهيداً للوصول إلى نقطة لقاء، تؤجل المشكلة الشعرية، ولا تحسمُها، لأن في حسمها قطعاً متعمداً لأرزاق النقاد، وكما قيل: (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق). وحين نَقْدر على تأجيل المشكلة، نعود لنبحث عن موقع شاعرنا (عبدالله بن صالح العثيمين) في هذه المعمعة.
والشاعر أيُّ شاعر قد يقوَّم من خلال لغة الشعر، أو من خلال شكله، أو من خلال صوره وأخيلته، أو من خلال مضامينه. وكل ناقد يلقي بأدواته في زاوية من زوايا الشعر التي تتسع لكثرتها والتوائها وتنوعها لكل قائل، يود أن يقول ما يعقل وما لا يعقل، وما يفهم وما لا يفهم. ولأن الذوائق تختلف فقد يقال عن أي شاعر ما يصعد به فوق هام السحب، ويقال عنه من فئة أخرى ما يهوي به في مكان سحيق. وقضايا الأدب مفتوحة على كل الاحتمالات، لأنها ليست عملية رياضية، ولا حكماً شرعياً قطعي الدلالة والثبوت. ولهذا فالنقاد في حل مما يقولون، متى حاموا حول الحمى. والشعراء مع النقاد كما (كثير عزة) مع محبوبته، يودون أن يكون ما استحلوا: (هنيئاً مريئاً غير داء مخامر).
ومع أن مناسبات التكريم تستدعي ذكر محاسن المُكَرَّم كما الأموات إلا أن ما بيني وبين الشاعر يجعلني في حل من ذلك، والذين لايعرفون ما أنا عليه من الخلطة، يتصورون أنني جئت لأبني له قصوراً من الثناء. ومع أنه شاعر لا غبار على شاعريته، إلا أنه لم يشأ أن يكرِّس نفسه في مشاهد الأدب على أنه شاعر وحسب، وحين تتعدد إمكانيات الإنسان يصبح نهباً لها، وقدرُ الأدباءِ المتعددي المواهب والإمكانيات أن الناس يذودونهم عن الموارد. فالشعراء يقولون: إنه مؤرخ، والمؤرخون يقولون: إنه شاعر، والأدباء والنقاد والكتاب يفعلون مثل ذلك، ومن ليعيش كما الأعراف. غير أن شاعرنا ومؤرخنا وأديبنا (عبدالله العثيمين) لم يأبه بالمقولات، فهو لا يبحث عن المواقع، ولا يعنيه أن يذوده الآخرون، وكأني به يردد مقولة الأعرابي: (الصدر حيث أجلس).
ولقد قلت من قبل: إن سمة (الشاعرية) حين يجود بها من يحترم المصداقية لا تعني التسليم بأن كل ما أبدعه الشاعر يأتي في ذروة التألق، وكيف يكون ذلك والنقاد الأقدمون يختصمون حول (أبي تمام) و(المتنبي) ويطلقون مصطلحات (الحكيم) و(الشاعر)، وقد يتساءلون: هل جيد شعره أكثر من رديئه؟ لقد سلموا بالرداءة، ولكنهم لم يسلموا بالغلبة، ومع ذلك ظل (المتنبي) شاعراً لا يبارى، وظل من قبله (أبو تمام) شاعراً لا ينازع.
وبعد: أعيذها نظرات صائبة ممن يعنيهم أمر الشعر أن يحسبوا أن قولي هذا تمهيد لحملة نقدية جائرة ضد من يملؤني حباً وإكباراً. وأرجو - في الوقت نفسه - ألا يكون قولي من باب (وعين الرضى). فلقد عرفت الأستاذ الدكتور العثيمين منذ أمد طويل، وكنت من قبل أعده شاعراً لا يبرح رحابه، ذلك أن معرفتي به بدأت من كتاب (شعراء نجد المعاصرون) الذي صدر قبل نصف قرن، وكنت إذ ذاك شاباً أتوقد حماساً وثورة، وكانت موجة (الوحدة العربية) تعصف بالمشاهد، وكان شعره كما شعر (المتنبي) يجمجم عما في نفوسنا. إنه تعبير صادق عما ننطوي عليه من تطلع ملح إلى الوحدة العربية. وما كنا إذ ذاك ندري ما اللعب السياسية. ولما أن تبين لنا أنها (فن الممكن) تجرعنا مرارات الخطابات الثورية.
لقد كان شعره ملتهباً، يكاد يرتمي في أتون القومية وخطابها التشنجي، ولما يزل يعاني من تفكك الأمة وتناحرها، وعجزها عن النهوض من عثرتها. والراصد لإبداعاته التي استهلها ب(عودة الغائب) عام 1401ه، وختمها ب(دمشق وقصائد أخرى) عام 1424ه، وجاء فيما بين هذا وذاك (بوح الشباب) و(لا تسلني) و(صدى البهجة) وهو شعر خصه لتقديم الفائزين ب(جائزة الملك فيصل)، المتابع لهذه الأعمال يحس بتحولات شعُورية ونضوج فكري. ولعل تخوم شعره قصيدة (بقينا كما كنا) التي تعد أقوى تعبير عن خطاب المرحلة التي تألق من خلالها، وهذه القصيدة من أوائل القصائد، وهي بكائية تجسد خطاب الستينيات الميلادية:




(بقينا على مرِّ الليالي كما كنا
فلم نستفد منها ولا غيرت منَّا)


ولأنه قد اكتوى بالوعود الثورية الزائفة، وركض خلف سرابياتها فقد صاح في وجه اللاعبين بعواطف الشعوب:



(أتى بالمنى الخضراء حين مجيئه
وعوداً ولم يصدق بما كان قد منَّى)


وجيل الستينيات من شباب العالم العربي كافة، من المحيط إلى الخليج وضع كل بيضه في سلة الخطابات الثورية، ومن ثم فوجئوا بخيبات أمل، قتلت فيهم كل التطلعات، وعلمتهم أن الممارسة شيءٌ، والخطابَ الإعلامي شيءٌ آخر. و(العثيمين) من ذلك الجيل الذي عايش السرابيات، وتكشفت له الأمور عن خيبات أمل.
والشاعر لم يستحوذ عليه الخطاب السياسي، ولم يكن ممن يستمرئون جلد الذات، ولا مقاومة السلطة بالطريقة الانتهازية. لقد وجّه نقده اللاذع وسخريته المرة للأمة التي أسهمت في الانكسار، وفي مطولته (رسائل من الجبهة) ينحي باللائمة على الأمة التي غفلت عن ثغورها، وشغلتها المتع الزائلة عن معايشة الأحداث بروح جهادية. فهذا الفدائي المجاهد يسأل أمه:



(ألم تزل حفلات الرقص دائرة
والليلُ يقتلُه التهريجُ والزار؟)


والشاعر راصد أمين لأحداث أمته، وناقد بصير، يضع أصبعه على مفاصل القضية، وإذ ضاقت نفوس الخيرين من قرارات دولية، تصدر تباعاً، ثم لا يكون لها أثر في صد العدوان، فإنه يعبّر عن ذلك الضيق في قصيدة (الحل السليم):



(كلُّ القرارات التي صدرت
وتعاقبت من هيئة الأمم
بقيت كما كانت بلا أثرٍ
لا خففت بؤسي ولا ألمي
مفعُولها حبرٌ على ورقٍ
ووجودُها ما زال كالعدمِ)


إن شاعراً يحمل هم أمته، ويعاني من انكساراتها، ويسجل أحداثها، لابد أن يقترب منها، بحيث يطمئن على وصول رسالته واضحة، ومن ثم جاءت لغته سهلة ممتنعة. وظاهرة (السهل الممتنع) تمتد إلى المفردات والتراكيب، وذلك ما يمكن أن توصف به لغة الشاعر، فيها سماحةٌ وعفويةٌ وتلقائيةٌ، ولكنها تحتفظ بقدر وافر من الشعرية.
لقد عرضت للشاعر تحولات دلاليةُ، فيما لم أجد تحولاته الفنية بهذا القدر، وإن كانت قصيدته (الأساطير) خير مثال على مجمل التحولات: الشكلية والفنية والدلالية، إلا أن تحوله من الاجتماعيات إلى السياسيات أقوى وأوسع، فلقد كان متناغماً في اجتماعياته مع (الرصافي) وبخاصة في قصيدته (بائسة) وقصيدته (ماذا يريد المستغيث) وهي قصائد تستثير، وتلوم، وتجسد واقعاً اجتماعياً غفل عنه كثير من الشعراء.
ولقد اتخذ سبيله إلى الموعظة عن طريق الحديث على لسان غني بطرت معيشته:



(ما للفقير المستغيث وما لي؟
أنا قد نعمت بثروتي وبمالي
وترفعت عيني الكريمةُ أن ترى
كفَّاً معذبةً تُمدُّ حيالي)


وهي فيما أرى من أجمل القصائد التي تجسد واقع بعض الأثرياء، وفيها استدرار للعواطف بأسلوب جديد، تسامت فيه المعاني والتراكيب، فكانت القصيدة وثيقة إدانة للأثرياء الجشعين، وأسلوباً جديداً في معالجة الأدواء الاجتماعية.
ولأن الشاعر يحمل هم أمته اجتماعياً وسياسياً، فقد كان الراصد والمتابع، وكأن شعره قد تحول إلى وثيقة تاريخية للأحداث. فهو مع ثورة الجزائر، ومع المقاومة الفلسطينية، ومع مؤتمر وزراء الخارجية العرب في بغداد، ومع قضايا التحرير والمقاومة في جميع أنحاء الوطن العربي، يرصد، ويجسد، ويبدي استياءه من الصمت والتخاذل والتناحر، وكأنه موكل بقضايا أمته يذرعها جيئة وذهاباً.
هذا اللون من الشعر المثقل بالهموم، لا تتاح له فرصة التحليق في فضاءات الخيال. إنه شاعر ملتزم بقضايا أمته، ومثلما التزم (الرصافي) و(عمر أبوريشة) و(بدوي الجبل) و(الشابي) وآخرون، فقد وقف شعره على تلك القضايا. ولم يفرغ لنفسه كما فرغ لها (عمر بن أبي ربيعة)، وأحسب أنه خص نفسه بالشعر الشعبي الذي رضي أن يجعله للهو البريء، وكيف لا يأخذ حقه من اللهو والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الأنصار: (يعجبهم اللهو)، لقد حجب عن الناس ذاتيات ممتعة، وحجب نفسه عن مجالات الغزل والسخرية، وارتهن نفسه في ملاحاة أمته. لقد كان في مواجهته لقضايا أمته عنيفاً متسائلاً:



(قالوا: الخلافات القديمةُ سوِّيت
وتبددت ظُلَم وحُلَّ المشكل
ومضت دعايات الوفودِ قويةً
لمظاهر اللقيا تَبُثُّ وتنقل
أتوهموا أن الحقيقة تنطلي
ومكامن الزيف المقنع يُجهل
ما عاد سراً أمرُهم فليستحوا
أن يطمسو أسرارهم وليخجلوا)


نقد لاذع، وتحدٍّ سافر، ولوم عنيف، وكأنه في تساؤلاته ابن بجدة السياسة، يعرف خباياها، ويعي مغالطاتها، ويلوب (لوبياتها).
قلت إنني عرفت الشاعر من خلال كتاب (ابن إدريس) الذي ترجم له وذكر بعض خصائصه الشعرية، وقدّم نماذج من شعره، وهو في سن الطلب، ومع هذا فقد بدت بوادر شاعريته واتجاهاته الموضوعية. يقول عنه ابن إدريس: (شاعر تعتمل في نفسه من خلال شعره عواصف الثورة) و (هو من الشعراء الناقمين على المجتمع الذي تُقَدَّسُ فيه الماديات وتُحْتَقَرُ المثاليات الإنسانية). ولست معه حين عدّه من شعراء البؤس والحرمان، إنه شاعر مناضل ضد الظلم الاجتماعي، ومناضل ضد الظلم السياسي، وخطابه في الاجتماعيات لا يختلف عن خطابه في السياسيات: ثورة عارمة، وتحد سافر، ومساءلة ملحة.
وحين أقول بأنه: (شاعر مع وقف التنفيذ) فإن ذلك يعني أنه لم ينقطع للشعر، ولم يشأ أن يظل في ركاب الشعراء، فهو العالم المتخصص بالتاريخ الحديث، وبالتاريخ السعودي على وجه الخصوص، وهو الكاتب المتعدد الاهتمامات، وهو الأستاذ الجامعي المتألق، وهو المترجم لكتب الرحالة والمستشرقين، وهو المسؤول، والمستشار، وهو الإنسان المتواضع. وكثير من المفكرين والعلماء كانت لديهم مواهب فنية لم يتح لها النفاذ.
- كان العقاد شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا مفكراً.
- وكان الرافعي شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا أديباً.
- وكان المازني شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا كاتباً.
- وكان الشافعي من قبلهم موهوباً غلب الفقه على شاعريته، وقال في ذلك:



(ولولا الشعر في العلماء يزري
لكنت اليوم أشعرَ من لبيد)


وكان (عبدالله بن صالح العثيمين) شاعراً، ولكنه شغل عن الشعر بالعمل الأكاديمي، والعمل الإداري، والتخصص العلمي، فكان لا يلم بالشعر إلا حيث يخلص من كل هذه المهمات، وهو حين يلم به لا يراه القضية الأهم، فهو متحدث يعبر عن مواقفه، وكاتب يجسد رؤيته، وما الشعر إلا قناة من عدة قنوات شُغل عنها.


الساعة الآن +4: 01:57 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.