![]() |
( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..
السلام عليكم ورحمة الله ..
هنا .. سنؤلف كتابا من دون إذن المؤلف ! سنجمع الحروف من هنا وهناك .. ليعلم الجمع ممن ضم مجلسنا عن البدايات والتجليات والتحولات .. والمؤلفات .. ستقرأ هنا المقالات العديدة .. واللقاءات المتنوعة .. والردود في المعارك الطويلة .. ماحداني لذلك هو تشتت تراث الدكتور حسن الهويمل في كل واد من هذا العالم الثقافي .. فأحببت جمعه في كتاب مني ومنكم .. وهو لي ولكم .. فهل تنشطون معي ؟ أتمنى ذلك .. وعلى بركة الله .. |
الحديث مع الدكتور حسن بن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي بالقصيم، ورئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي والناقد السعودي المعروف، يذكرني بروادنا الكبار، فالهويمل فيه نفس الرواد كما قال أحد محبيه العارفين، كما أن الحديث معه يوحي لصاحبه بالثقة المطلقة، فهو ناقد أحب النقد وبذل في سبيله الكثير والكثير من العناء وخاض من أجله ولأجله العديد من المعارك النقدية التي بدأها قبل أربعين سنة مع الشاعر الكبير محمد السنوسي رحمه الله.
الدكتور حسن الهويمل بدأ من الكتاتيب إلى الابتدائية ومنها إلى مايليها في سلّم التعليم، غير أنه أكمل دراسته بالانتساب وارتبط بالقراءة غير الصفيّة، وكان الكتاب فقط عشقه الأول والأخير. النشأة، الزواج، النقد، الجامعة، النادي الأدبي.. بعض المحطات سيتوقف عندها القارىء عبر هذا الحوار بالإضافة إلى هموم أخرى في المشهد الثقافي العربي بشكل عام والسعودي على وجه الخصوص. \\ لك قصة عجيبة مع الدراسة والشهادات الدراسية، فأنت مثقف بنى نفسه ذاتياً، مدرسته الأولى «الكتّاب» وجامعته الكبرى «القراءة الجادة». فما قصة د. حسن مع الدراسة، وكيف حصل على شهاداته بدءاً من الدراسة الابتدائية وانتهاءً بالجامعة؟ \ قصتي مع الدراسة لا تختلف عن قصص لداتي ليس فيها ما يثير، وليس فيها ما يفيد، من الكتّاب إلى الابتدائية، ومن الابتدائية إلى ما يليها في سلّم التعليم. غير أنني عملت في التدريس منذ الابتدائية وأكملت دراستي بالانتساب وارتبطت بالقراءة (غير المنهجية) منذ الصغر، وكان الكتاب عشقي الأول والأخير، لا أرى الحياة إلا من خلاله، ولا أجد الراحة إلا في أفيائه، ومن ثم تحولت القراءة من الهواية إلى الإدمان، وتلك وصيتي لأبنائي وطلابي القراءة ليس غير. \\ أيضاً لك فلسفة رائعة حول الزواج المبكر فهل حدثتنا عن حياتك الخاصة.. أبناؤك، بناتك، وحظهم من التعليم، وهل منهم من التقى بك اهتماماً وميولاً أدبياً وفكرياً؟ \ ما كانت لأحد من لداتي في زمننا الخيرة في أمورنا كافة، وفي أمر الزواج على وجه الخصوص، فالآباء لهم الكلمة الأولى والأخيرة، ومن ثم فقد نبئت برغبة الوالد في أن أتزوج في سن الثامنة عشرة وعلى ابنة صديقه التي لا أعرفها ولا تعرفني ولم أرها، ولم ترني، وتزوجت وكانت الخيرة فيما اختاره الله، فأبنائي وبناتي تطاولني هاماتهم والأحفاد والأسباط يملؤونني سعادة، والأصهار وزوجات الأبناء بمنزلة الأبناء والبنات، وحياة الإنسان حين تمتلىء بهذا الشكل لا تترك له فراغاً فهو يعيش سعادات متواصلة قد تعتريها بعض المنغصات ولكن الإنسان سعيد حين يرى له في كل بقعة ولد أو بنت أو حفيد أو سبط، هذا طبيب، وذلك مهندس، وهذا أستاذ، وذلك رجل أعمال، فالزواج المبكر نعمة لم يسعد بها جيل الطفرة التعليمية، فالبنت تود إكمال دراستها والابن يود تأمين مستقبله، وهكذا فوت الشباب والشابات على أنفسهم أسعد فترات حياتهم. \\ عرفك القارىء من خلال آرائك الجريئة ومعاركك الهادفة إلى «الحق» كما عرفك صاحب مبدأ وموقف في زمن كثر فيه «التلون» وساد فيه نهج الثللية وليس (الشللية).. فما هي المعركة الأدبية الأولى في حياة ناقدنا الكبير الهويمل التي مازالت ذكراها ترن في ذاكرته، وما «أم المعارك» في حياتك الأدبية ـ إن صحّ التعبير؟ \ أحسبك بالغت كثيراً في الثناء ولك الأجر بإدخال السرور على نفسي، ولن تُصدِّق حين أقول لك إن المعركة الأولى كانت قبل أربعين سنة مع الشاعر الكبير محمد بن علي السنوسي، كنتُ يومها في عنفوان الشباب وفي بدايات القراءة ومن ثم قسوت عليه وقامت بيني وبين المرحوم عبدالقدوس الأنصاري جفوة بسبب الحدة في نقد السنوسي وكان ـ رحمه الله ـ قد أهداني ديوان (القلائد) لقراءته وكتابة دراسة عنه ولما لم ترق له اعتذر بلطف عن نشرها فبعثت بها لجريدة «الرائد» فنشرت بكل ما فيها من تحامل كان ذلك عام واحد وثمانين على ما أذكر. أما أم المعارك وأسميها «أم الهزائم» فمع الذين يخرجون من الموضوعي إلى الشخصي، ومن الجدل إلى الهجاء، ومن الحكمة والموعظة الحسنة إلى الغضاضة والغلظة، وبإمكان القارىء معرفة تلك المعارك فهي من الشيوع بحيث لا تحتاج إلى ذكر، وما أعول عليه في مثل ذلك أن ما قلت وما قاله الآخرون محفوظ في مراكز المعلومات وسيأتي من يستعيد ذلك في غيابنا جميعاً ويقف على الحقائق والدراسات الأكاديمية كشفت عن تجاوزات من سبقنا من النقاد. \\ هذه المعارك أثرت المشهد الثقافي السعودي بشهادة المنصفين، سؤالي عن هؤلاء الذين حاورتهم وحاوروك، وقدمتهم إلى الآخرين مَن أبرزهم؟ وماذا عساك قائل عنهم بعد أن هدأت تلك المعارك أو كادت؟ \ عشرات الأدباء والشعراء والمفكرين والعلماء، ولعل من أفضلهم وأكثرهم تسديداً الأستاذ الدكتور محمد محمد أبو شهبة ـ رحمه الله ـ حين دخلت معه جدلاً حول الإسرائيليات في التفسير في مجلة رابطة العالم الإسلامي. وآخرهم الأستاذ الدكتور سعيد ياقطين الناقد المغربي. وفيما بين هذا وذاك عشرات تعرف منهم وتنكر. ولأن المعارك لم تهدأ ولا أحسبها ستهدأ ولكن لا بأس أن نقول لكل الذين دخلت معهم في معارك: إن يدي مبسوطة، وقلبي مفتوح، والصفحات الجديدة جاهزة، والهدف من كل المعارك إحقاق الحق وإعلاء كلمة الله فقد أوفق في الهم وقد يعتريني التقصير، فما وفقت فيه فاذكروه وما أخفقت به فاعذروني فيه وأرشدوني إلى الصواب بالحكمة والموعظة الحسنة. وعفوّا عن الشخصي، واقتصروا على الموضوعي فما يحسم الأمر إتهامي بالجهل والسرقة وسوء الفهم وسوء الظن وضعف الملكة وما أشبه ذلك من الجنايات التي لا تخدم الأدب ولا تشرف الأدباء حتى لقد قال بعضهم إني من الأذى المأجور على إماطته! \\ الجامعة.. النادي الأدبي.. المنزل، بين هذه الساحات، كيف يقضي الدكتور حسن يومه لكي يعطي أكاديمياً في الجامعة، ويلتزم أدبياً في النادي والكتابة والصحافة، وينضبط أسرياً في المنزل؟ \ أبنائي وأهل بيتي يعرفون التزاماتي ومشاغلي وعشقي للقراءة ومن ثم يتسابقون في توفير أقصى حد من الأجواء الملائمة، مع أن إمكاناتي المنزلية والمالية قادرة على تهيئة الأجواء الملائمة لاستغلال الدقائق والثواني لمواجهة متطلبات العمل الأكاديمي والعمل بالنادي والإسهامات المتعددة من مقالات ودراسات ومحاضرات ومناقشات وغيرها، والتغلب على المشاغل يتطلب تنظيم الوقت والإمكانات المتعددة وبخاصة توفر الكتب في حوزة الأديب وقدرته على الوصول إلى المعلومة بأقل جهد وأقل وقت. \\ رابطة الأدب الإسلامي العالمية لك دور تجاهها التزمت به، حدثنا عن علاقتك بهذه الرابطة منهجاً وانتماءً؟ \ أستاذنا الدكتور عبدالقدوس أبوصالح توسم بي خيراً فألحقني بالعضوية ثم اختارني عضواً في مجلس الأمناء ثم عضواً في المكتب الإقليمي والآن رشحني رئيساً لهذا المكتب بالمملكة، ولا أحسبني قدمت للرابطة ما يتكافأ مع هذا التكريم، والإخوة في الرابطة يعرفون ذلك ويرضون مني باليسير فلهم مني الشكر والدعاء الخالص، والرابطة التي أفرزت أو أفرزها (الأدب الإسلامي) ضرورة ملحة في زمن أدلج فيه الأدب وسيس فيه الإبداع. وواجب النخب المسلمة أن تقدم مشروعها الإسلامي في زمن لوثت فيه الكلمة، وأجهض الفن الرفيع، واجتاح العبث والمجون، وأدب الاعتراف كل فنون القول وتفشت العامية، وليس في الانضواء تحت مسمى الأدب الإسلامي ما يضير بالأدب العربي. \\ مجمع اللغة العربية المزمع إقامته في بلادنا ـ إن شاء الله ـ كيف تستشرف مهامه ودوره في حياتنا الثقافية، وهل ترسم ملامحه للقارىء كما تود أن يكون؟ \ المملكة العربية السعودية بلد المبادرات الإيجابية والحمّالة وهي حكومة وشعباً تشعر بمسؤوليتها الإسلامية والعربية وتؤدي دورها بكل صدق وخدمة اللغة من أوجب الواجبات فهي وعاء الدين وسعت كتاب الله لفظاً وغاية. والمملكة التي نهضت بخدمة كتاب الله تعليماً وطباعة تشعر أنها مسؤولة عن خدمة اللغة، ومن ثم فإن مجمع اللغة العربية من أولى مهمات الدولة، وأملي أن يولد ذلك المشروع سوياً مكتملاً متلافياً لكل ما ينقص المجامع السابقة، وأنا متفائل بنجاح المشروع وسده للثغرات المهمة. وأحسب أن ملامحه ستكون سوية لأن المملكة لم تجازف ولم ترتجل، وتداوله في مجلس الشورى من بوادر النجاح إن شاء الله. \\ التزمت مؤخراً بالكتابة بصحيفة «الجزيرة» كيف تنظر إلى الكتابة الصحفية كوسيلة عطاء للمثقف، وماذا عن الكاتب حسن الهويمل، هل سنجد فيه الكاتب الشمولي.. أم لا؟ \ اسألوا أبا بشار، فهو الآمر الذي لا أعصي له طلباً. والجزيرة هي الصحيفة التي أجدني من كتابها. والكتابة الصحفية مهمة شاقة ورسالة خطيرة، ومن لم يحسب لها حساباً يسقط في نظر القراء. وعما إذا كنت شمولياً أو تخصصياً في كتاباتي أحسب أنني سأكون شمولياً إن شاء الله. \\ أيضاً في مجال الكتابة الصحفية لك علاقة مميزة بـ«ملحق الأربعاء» الأدبي، لماذا هذا الملحق بالذات؟ \ جريدة المدينة وملاحقها صحيفة رزينة وموضوعية، وتقدر كتابها وتتابعهم وتهتم بهم، ومن ثم وجدت الملحق من أفضل المجالات. والأمور غالباً ترتبط بطلب الكتابة من القائمين وإلحاحهم وتقديرهم للكاتب والمشرف الأخ فهد الشريف شاب لطيف ومتابع ولديه حس إسلامي وإمكانات صحفية، ومن ثم استطاع أن يغريني بالكتابة في ملحقه. غير أن الجزيرة خطفتني من الكل وهي جديرة، وأرجو أن أكون عند حسن ظن الجميع. \\ لك مكتبة كبيرة تربو على عشرين ألف كتاب أو يزيد.. حدثنا عن علاقتك المبكرة بالكتاب قراءة واقتناء، وكيف جمعت هذه الثروة الفكرية؟ \ منذ أن كنت في المرحلة الابتدائية قبل خمسين عاماً وأنا أحس بميل للكتاب ورغبة ملحة في اقتنائه حتى ولو لم أقرؤه، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتابع الكتب.. أشتري وأستهدي وأستعير وحين وسّع الله عليّ وتمكنت من تواصل الأسفار لتمثيل بلادي وحضور المؤتمرات كان شغلي الشاغل المكتبات ودور النشر.. أشتري وأصوّر وأتابع ولديّ علاقات شخصية مع أهم دور النشر في الوطن العربي من المغرب إلى العراق.. ومازلت أحس بنهم ورغبة في المتابعة والكتاب الذي لا أحصل عليه أقوم بتصويره. وهكذا تكونت عندي مكتبة متنوعة في الدين والفلسفة والآداب وسائر المعارف وفي سكني الجديد هيأت موقعاً مناسباً، وقد لقيت العنت في سبيل تكوينها ولكنني أنسى كل شيء حين تضطرني المعارك الأدبية استكمال موضوع فأجده عندي وفي متناول يدي. \\ سور الأزبكية في مصر لك قصة معه سطرتها في إحدى مقالاتك الرائعة، ماذا عن ذلك المكان وما بقي من أريجه الثقافي في ذاكرتك؟ \ «سور الأزبكية» تتكىء عليه «أكشاك» لباعة الكتب القديمة وكنا نمر به مصبحين حين نذهب إلى الأزهر، وممسين حين نعود منه، وحين نجد الوقت ننقب عن كتب قديمة باعها الوارثون لهؤلاء ونشتريها بثمن بخس، ثم نرحل بها إلى المملكة، وفيما بعد كتبت مقالاً عن ذكرياتي مع هذا «السور» الذي لم يعد بضخامة ما كان عليه قبل ثلاثين عاماً أو تزيد، وقد أثار هذا المقال كوامن العلامة المرحوم أحمد عبدالغفور عطار فكتب عن ذكرياته مع هذا «السور» وما اشتراه من كتب نادرة، ومما حصلت عليه من هذا السور كتب طبعت قبل مئة وخمسين سنة وقبل مئة سنة، ومازالت مصدر اعتزاز في مكتبتي. |
في هذه الحلقة الثانية من حوارنا الشامل مع د. حسن بن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي في القصيم والناقد المعروف، نواصل الغوص في أعماقه لاكتشاف الجديد من مواقفه وآرائه الجريئة في عدد من قضايا المشهد الثقافي في الوطن العربي.
\\ حمد الجاسر رائد من روادنا الكبار فقدته ساحتنا الثقافية، متى بدأت علاقتك به؟ وما موقفه من معاركك الأدبية؟ \ أما عن موقفه ـ رحمه الله ـ من معاركي فكان ينبغي أن يسأل عنها، غير أنني أسمع منه ثناءً عاطراً كلما زرته في بيته، وهو علم من أعلام الأدب والفكر في الوطن العربي، وعلاقتي به تتسم بالاحترام المتبادل وتلك سجيته، فهو دائماً هاش باش وبخاصة حين تقدمت به السن وكان أول لقاء معه حين عزمت على تحضير شهادة الماجستير، زرته في بيته واستفدت من آرائه وحين تلقيت منه خطاباً وقعه معه الشيخ عبدالله بن خميس لطلب الانضمام معهم في تأسيس نادٍ أدبي في الرياض، وكان هذا تكريماً منهما لشاب مبتدىء مثلي آنذاك، ومازلت أحتفظ بهذا الخطاب لما أحدثه في نفسي من ارتياح. \\ في ظل ازدياد الندوات الأدبية الخاصة.. ألم يأن للدكتور حسن أن يفتتح ندوة أدبية بمنزله تأخذ من شخصه ونقده تميزها وتسد فراغاً كبيراً في منطقة القصيم، وتلبي حاجة الكثيرين من ناشئة الأدب ومحبي الثقافة الأصيلة؟ \ بعد انتقالي إلى المسكن الجديد سوف أجعل هناك ندوة وقد أقمت لها خيمة واسعة في ساحة البيت ومازلت في طور الإعداد لها بحيث تكون ـ إن شاء الله ـ ظهيراً لنشاطات النادي الأدبي الذي أرأسه. \\ يتصدر مكتبك بالنادي الأدبي عبارة «خير جليس في الزمان كتاب» أما زلت تؤمن بدور الكتاب وأهميته في عصر «الإنترنت» وعولمة الفضاء؟ \ بالطبع، فالكتاب من أهم المصادر العلمية والثقافية ولن يزيحه عن أهميته ما جدّ من أوعية ثقافية متعددة وهي التي أطلق عليها نائب الرئيس الأمريكي (آل جور) (جادة المعلومات). \\ لك تجربة مع شعر الدكتور إبراهيم العواجي ونقده، ماذا عن رؤيتك النقدية تجاهه شاعراً؟ \ الدكتور إبراهيم العواجي شاعر له نكهته الخاصة ولم أسعد بدراسة شعره ولكنني أشرت إليه في مواضع كثيرة في رسالتي للماجستير «اتجاهات الشعر المعاصر في نجد» وفي رسالتي للدكتوراه «النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر» وقد أعود إليه بشكل أوسع وهو يستحق أن يخص بدراسات متعددة تتناول ظواهره الفنية والدلالية. \\ د. أسامة عبدالرحمن تحترمه شاعراً وتقدره مثقفاً، هل تناولته نقداً؟ \ لديّ الآن دراسة من حلقتين عن آخر ديوان أصدره د. أسامة نشرتها في صحيفة الجزيرة، وسبق أن درست شعره، واستاء من دراستي ولم أشأ تصعيد الخلاف، فالدكتور أسامة يملؤني احتراماً وتقديراً ورأيي في شاعريته حق لي وليس نهائياً بالنسبة له فما لا أراه في شعره متميزاً يراه غيري متميزاً ومؤشراً لأهلية اختلاف الرأي. \\ قلت الشعر وكتبته ـ أيضاً ـ ماذا عن الشاعر د. حسن الهويمل وما قصته مع الشعر؟ وهل ترى نفسك شاعراً كما أنت ناقد؟ \ أنا لست بشاعر، وإن قلت الشعر، فالشعر موهبة وليس كسباً، والذين يخادعون الناس باقتدارهم أناس مجازفون، هناك موهبة، وهناك اقتدار، والمقتدرون يقولون الشعر وينشرون القصائد ويصدرون الدواوين وكلهم ليسوا بشعراء. إذن فأنا لست بشاعر وأرجو ألا تزلقوني بادعائكم. \\ مشهدنا الثقافي السعودي ما حظه من «النقد» وما حظ ذلك «النقد» من الحياة والتجدد؟ \ المشهد الثقافي في المملكة لا يختلف عن المشاهد العربية له وعليه، ولا يجوز أن نصفه بالضعف أو بالتميز إنه في سياقه العربي في مستوى أي مشهد إقليمي. لدينا النقاد المنظرون والنقاد المطبقون، ولدينا العلماء في فنون الأدب من أكاديميين وطلاب، وإذا كان لنا موقف من بعض النقاد فإن هذا لا يمتد إلى المشهد جملة ولا يمتد إلى جملة إمكاناتهم، هم نقاد وإن اختلفنا معهم. \\ ما جديدك القادم.. دراسة أو بحثاً أو إبداعاً؟ \ أنا أعيش مع الكلمة: تأليفاً، مقالة، ومحاضرة، ومناقشة رسائل، وإشراف، وتحكيم، ومن ثم فإن هناك كماً هائلاً من الأعمال التي لم أتمكن من تجهيزها للطباعة، ومع ذلك فقد طبع لي أكثر من ثلاثة كتب خلال العام المنصرم. \\ لك علاقة بجائزة الملك فيصل العالمية، ماذا حققت هذه الجائزة العالمية العملاقة؟ \ علاقتي مع الجائزة كأي علاقة أديب مع مؤسسة أدبية عالمية، والعاملون فيها تربطني بهم زمالة وصداقة وأعرف ما تنطوي عليه من طموحات وتطلعات لخدمة الأدب والفكر والعقيدة والعلم في الوطن العربي والإسلامي والعالمي. وهي مؤشر حضاري وقيمة عالمية تحسب للمملكة العربية السعودية والمؤسف أنها لا تحتل في وسائلنا الإعلامية المكانة التي تستحقها وإن كان لي من كلمة فهي الدعاء الصادق لأبناء الملك فيصل ـ رحمه الله ـ الذين مكنوا لهذا الزعيم الإسلامي الكبير من أن يعيش حضوراً عالمياً مشرفاً. \\ لك علاقة فاعلة بالمهرجان الوطني للتراث والثقافة من خلال لجنة «المشورة»، ولك موقف واضح من الشعر العامي الذي فعّلته الجنادرية حضوراً ونقداً من خلال الأطروحات السنوية المتكررة.. هل هذا تنازل من د. حسن أم «تكتيك» أم ماذا؟ \ المهرجان الوطني للثقافة والتراث «الجنادرية» متعددة الاهتمامات، وأنا أعمل معهم بما أميل إليه، أشترك في اللجنة الفكرية والأدبية، وليس لي أدنى علاقة فيما تمارسه «الجنادرية» من أعمال شعبية، ومن حقها أن تعدد اهتماماتها وأن تبرز كل الجوانب الشعبية والأخوة في الجنادرية هم الذين يكرمونني بالاستشارة والإشراك وأنا سعيد بهذا التشريف وآخر إسهاماتي ما قدمته لهم من مشورة مطولة أرجو أن يكون لها نصيب من القبول. \\ رحلتك الطويلة مع «الكلمة» الصادقة، وتجربتك الفكرية، والمراحل التي مررت بها. متى نراها مدونة على شكل «سيرة ذاتية» لتصبح مشعل هداية تنير الطريق لشداة الأدب ممن يدرس الأدب السعودي؟ \ مازلت متردداً في كتابة السيرة الذاتية وإن كنت حريصاً على قراءة السير الذاتية، وناقشت رسالة علمية أبرزت فنيات هذا الفن في الأدب السعودي المعاصر. ومع أنني مع هذا الفن إلا أنني أتحفظ على سخافات تجيء في بعض السير الذاتية وبخاصة الروايات التي يبدعها أصحابها بوصفها سيراً ذاتية. \\ عباس محمود العقاد، ذلك العملاق والمفكر المعروف متهم أنت بحبه لدرجة «الإعجاب» لاشك أن لذلك أسباب فما هي؟ وما نصيبه من مؤلفاتك ومقالاتك ودراساتك؟ \ محمود عباس العقاد عملاق الفكر والأدب العربي المعاصر وإعجابي به مازال قائماً، وإن اختلفت معه في أمور كثيرة. وقد عرفت العقاد ـ رحمه الله ـ في زمن مبكر وبالتحديد عام 1960م قبل وفاته بأربع سنوات وما كنت يومها أفهم كل كتاباته، وإن ادعيت ذلك، ومن ثم فقد توافرت على جميع مؤلفاته وأعماله الشعرية عدد كبير من الدراسات التي كتبت عنه. والعقاد مفكر متزن وذو حس إسلامي، ورؤيته عقلية متمكنة، وهو بلاشك مدرسة فكرية حرم من الاستفادة منها خلق كثير لما مُني به من تصديات جائرة من مصطفى صادق الرافعي ـ رحمه الله ـ، والغريب أن الذين يتصدون لفكر العقاد يقرأون عنه ولا يقرأونه ويعولون على ما يقوله خصومه ولو قرىء العقاد بتجرد لأخذ مكانته اللائقة به. وقد كتبت عنه مقالات ودراسات ورددت على بعض الجنايات التي ارتكبها المنتفعون من إرثه العلمي والأدبي من مثل عامر أحمد العقاد الذي أساء إلى عمه حين كتب عن جوانب من حياته. \\ قلت ذلك مرة، إننا بحاجة إلى موسوعة الأديب السعودي لتسد الحاجة القائمة وتعيد أدباءنا ومفكرينا إلى ذاكرة الناشئة وتعرِّف بهم أدباء العالم العربي الذين تنقصهم المعرفة الشاملة لحركتنا الأدبية في المملكة. ماذا عن هذه الموسوعة؟ وماذا تم بخصوصها؟ \ نوقش هذا الموضوع في أحد المؤتمرات التي يعقدها رؤساء الأندية الأدبية، ووضعت توصية بأن يقوم كل نادٍ بوضع تراجم مفصلة لأدباء المنطقة التابع لها النادي وبادر بعضهم وتردد آخرون ولكن المنجز لم يكن على ما يرام ومازالت الرغبة قائمة والحاجة ملحة، فالمملكة بحاجة ماسة لتقديم نفسها إلى المشاهد الأدبية من خلال التعريف بأدبائها ومبدعيها. \\ تلاميذ الدكتور حسن متميزون في تعاملهم مع منجزه الفكري وحواراته الأدبية، كيف استطعت أن تطبعهم بهذا «التميّز» وماذا قدم لك هؤلاء التلاميذ؟ \ لا أستطيع أن أسايرك فيما تذهب إليه، تلاميذي في الجامعة هم الذين أقبل تسميتهم بالتلاميذ، أما القراء فزملاء يغمرونني بالتقدير وتواضعهم يصفني بالأستاذية، وما أفعله من قول أو كتابة إنما هو جهد مقل يود أن يقول رأيه مع ما فيه من هنات. \\ مهتم أنت بالشاعر الكبير محمد حسن فقي، ماذا عن تناولك لهذا الشاعر نقداً ودراسة، ولماذا هذا الشاعر بالذات. وما موقفه من تلك الدراسات التي كتبتها منه؟ \ قصتي مع الشاعر الكبير محمد حسن فقي طويلة وممتعة، فلقد أراد نادي جدة الثقافي تكريمه، فاختارني للحديث عنه في يوم التكريم، وحين علم الفقي لم يرُقه هذا الاختيار واعتذر عن التكريم، فما كان مني إلا أن عزمت على دراسة شعره على أي وجه ومن خلال أي وسيلة إعلانية وأعلنت ذلك. ولأن الفقي رجل لطيف المعشر، طيب القلب، فقد أسف على اعتذاره، وقبل دراستي، وقبل التكريم، وزودني بمجموعته الشعرية، وبما يتوافر لديه من الدراسات، وتم التكريم في نادي جدة، وألقيت الدراسة فأعجب بها وأثنى عليها وعدها الدراسة المنصفة له. ثم أضفت إليها وعدلت فيها وألقيتها في دار الأوبرا في القاهرة في ندوة نقدية حول شاعريته، وطبعت الدراسة في ملف المؤتمر. وبعد سنواتأكرمته الجنادرية وكنت المتحدث الرسمي في هذا التكريم فأعددت قراءته وأضفت ما أراه مناسباً فكانت الدراسة بصيغتها النهائية. تلك هي قصة دراستي للفقي أمد الله في عمره. \\ ألا تعتقد أن واقعنا الأدبي والنقدي السعودي بحاجة إلى مجلة نقدية علمية ليست لسان حال نادي واحد وإنما تجمع الأندية الأدبية وتخدم الأدب والنقد السعودي؟ \ نحن بحاجة ماسة إلى جمع الشتات فهناك مجلات كثيرة وعلى مستوى من الجودة والموضوعية، مجلات علمية وأخرى أدبية ولكنها جميعاً لا تملك الانتشار المناسب وليست لها الخطة والمنهج المرسومان بإتقان. وفي الوطن العربي مجلات لها سمعة وانتشار وما لدينا ليس بأقل قيمة ولكننا لا نحسن التسويق واحتراق مشاهد الآخرين.. لهذا فالحركة الأدبية في المملكة بحاجة إلى مؤسسة أدبية تصدر مجلة محكمة وقوية وواسعة الانتشار والمؤسف أننا نمتلك الإمكانات ولكننا لم نفعل بعد. \\ ماذا تقول لهؤلاء؟ عبدالعزيز السالم، محمد عبدالله المليباري، عبدالله الصالح العثيمين، د. أحمد الضبيب، د. محمد الربيع. \ عبدالعزيز السالم: أود لو جمع مقالاته في كتاب بعد صدور المجموعة الأولى ضمن كتاب (الرياض). ــ محمد عبدالله المليباري: مازال ورثته مقصرين في حق المشهد الثقافي بعدم جمعهم لمعاركه الفكرية والأدبية وإصدارها في كتاب. ــ عبدالله الصالح العثيمين: إذا قال في تاريخ المملكة فصدقوه فإنه حذامه. ــ د. أحمد الضبيب: التراثي المتعصرن. ــ د. محمد الربيع: العلم والإدارة. \\ المعارك الحادة بينك وبين الدكتور الغذامي لم تنته إلى حل وسط، فكلا موقفيكما متباعدان، فما السبب وراء ذلك؟ وإلى متى تبقيان على هذه الحال، أليس هناك مجالاً للتواصل البناء؟ \ ليس من مصلحة المشهد الثقافي أن تصفى الخلافات بالتنازلات، بل باستبانة الحق والرجوع إليه |
إلى الظلاميين في زمن الادعاء التنويري..!
د.حسن بن فهد الهويمل تظل الأيام معي كما هي مع (المتنبي) أشكو إليها ضيق الوقت، وتشتت الفكر، وجور الجشع القرائي، وهي جند ذلك كله، تحرمني من قراءة من يفرحني، ومن يترحني، ومن يجمجم عما في نفسي، ومن يتحدى مشاعري، ومن هو فوق هام السحب، شرفاً في اللفظ، وتألقاً في المعنى، ومن هو مترب مقو، لا يغني ولايقني، ومن يؤذي كما العقرب التي يقول ملسوعها (حب الأذية من طباع العقرب) ومن هو برُّ رحيم، يحمل هم أمته، ويرود لها موارد النجاة، ومن هو فظ غليظ القلب، لايحمي ساقه، ولايرود لمقدمة. وفي هذا الزمن المتلفت كتبته الأحداث والمتصابئون على كل الضوابط، أمرٌّ بمقترفات كتابية لطائفة من مدعي التنوير والطلائعية، ولمن خلا لهم الجو من مبتدئين، ويسترفدون مقروءهم الآتي، فيأتون به كما (طيلسان ابن حرب). ومع طوفان التعاضد مع المضل، واسترفاده، منَّيتُ نفسي بقراءة ذلك كله، لأتمكن من نصر الأخ الظالم أو المظلوم، استجابة لحديث: - (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). حتى إذا توارت تلك المقالات بالحجاب، بكل ما تحمله من خطأ وخطل ومناصرة وتخذيل، رأيت الناس منها في برم وضيق وتذمر، فقلت مكرهاً: ردوها عليَّ، لتظل في حقيبتي أياماً، وحين لايجود الوقت بساعة من نهار لقراءتها، ألقيها جانباً، وفي النفس ما فيها من الحسرات. غير أن امتعاض الخيرين واستياء الغيورين يضطراني لإرجاع البصر، ولو لمرة واحدة، لأرى أكثر من فطور. وكلما هممت باستخدام المجسات والمسابير، ونقض الأنساق الثقافية التي تصدر منها تلك الآراء الفجة والتصورات الخاطئة، وتحيل إليها، شُغلت بنوازل يرقق بعضها بعضاً. ولما أن بلغ السيل الزبى، وتجرأ على الثوابت من لايزن الأمور، عقدت العزم على مكاشفة أولئك الموغلين في الإثارة والتجديف ضد التيار. ولقد تذكرت وأنا في حمأة الاستياء قول الله لرسوله {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} ولمحت في هذه الآية معطى دلالياً، في غاية الأهمية، وهو أن عظمة المبدأ لاتكفي وحدها لاستمالة الآخرين وإقناعهم، بل لابد من وسيلة تُمتِّع وتستميل وتقنع، وهي (اللين والتودد) ومن قبل هذا قال الله لموسى وهارون، حين أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} وما أصحابنا الذين أوذينا باستفزازهم ومزايداتهم إلا مسلمون جنحوا للغرب، وأُشربوا في قلوبهم عجله، وقليل منهم مجتهدون، لم يحالفهم التوفيق في كثير مما يقولون. وما هم ونحن إلا طلاب حق، وحقهم علينا ألا نسيء الظن بهم ابتداء، وفي الوقت نفسه لايخدعنا الخبُّ ولا المتماكر، ومن غايته الحق فواجبه ألا تأخذه العزة بالإثم، فإذا قيل له: اتق الله، لزمه الإذعان ومحاسبة النفس قبل أن يحاسب، والكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. والذي أتوقعه في سائر الكتبة في صحفنا - على الأقل- وفي المشاركين في حوار القنوات من أبناء البلاد أنهم لايتعمدون المخالفة. وأن أحدهم يكتب ما يكتب، ويقول ما يقول عن حسن نية وسلامة قصد وحرص على الموافقة لمقتضيات الدين ومقاصده، وإذا اندس فيهم من لايحمل همهم، أو حاد أحد منهم عن جادة الصواب، لزمهم التنبه له، والبراءة مما يصنع. ولنا في (نوح) عليه السلام وابنه قدوة، ولنا في أبي الأنبياء (ابراهيم) عليه السلام وأبيه أسوة. وأملنا أن يكون المثيرون قولا وعملاً واعتقاداً من أهلنا، فأبناء الفطرة رجاعون إلى الحق، ولو ثبت أن أحداً ممن نحسن الظن به يتعمد مناقضة الأحكام، ويصر عليها، لما وسعنا إلا مواجهته بما هو عليه، ولا كرامة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وهناك فرق بين الخطأ ابتداء، والخطأ إصراراً وعناداً، فمن بان له وجه الصواب، ولم يرعوِ، فهو مصر معاند، وعلى من يملك تغيير المنكر باليد أن يأطره على الحق، متى تبين له العناد والإصرار وتعمد المخالفة. ومصائب الأمة في مفهوم الثوريين للحرية، وفي إيمانهم بحتمية العداء لكل أشكال السلطة، وتخوين الموالين لها، وهو مفهوم خاطئ، مخالف لآليات الحضارة الإسلامية وأساليبها في الحكم وإنكار المنكر. ولأن طائفة من الظلاميين باسم التنوير يخلطون بين الشرائع والمناهج والإجراءات، ويدعون أنهم وقَّافون عند الكتاب والسنة، وأنهم يسلمون لهما، وأن ليست لهم الخيرة من أمرهم، متى قضى الله ورسوله أمراً، فإن واجب العلماء أن يرشدوا ضالهم، وأن يعلموا جاهلهم. وإذا لم يقيض الله لهم من يواجههم بالحقائق فإن واجب كل واحد منهم أن يسأل نفسه: لماذا أصادم الرأي العام؟ ولماذا الناس يختلفون معي؟ ولماذا يتعرضون لي بالسب والشتم والمضايقة عبر قنوات الاتصال والمواقع؟ هل الناس جميعاً على ضلال، وأنا وحدي على الحق؟ وهل سألت نفسي يوماً ما: عماإذا كان ما يقوله الناس حقاً؟ وهل تواضعت لحظة من نهار، وحملت مجموعة من مقالاتي أو كتبي المثيرة للاشمئزاز لمن شهد له الناس بالعلم الشرعي والتقوى والوسطية، وطلبت منه عرضها على مقاصد الشريعة ومقتضيات نصوصها القطعية، ؟ وهل اختلافي مع المفكرين الإسلاميين وفقهاء الأمة من الاختلاف المعتبر؟ ولماذا هذه الجفوة بيني وبين حملة العلم الشرعي والفكر الإسلامي المستنير وركوني لمن هم موضع الشبه؟ إن الكلمة مسؤولية، وهي دمار أو عمار، وحملتها ممن يسنون سنناً حسنة أو سيئة، وهم شركاء بالأجر أو بالوزر إلى يوم القيامة، وما قامت الملل والمذاهب والنحل والأحزاب والدول (الدكتاتورية) من (ماركسية) و(فاشية) و(نازية) إلا على اللسان والسنان ({وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}. والمؤسف أن كثيراً من الكتبة والمحاورين يطلقون الكلمات المدانة أو الاتهامات المعمَّمة، لايلقون لها بالاً، تهوي بسمعتهم، وتشكك في نواياهم، فيما يتقحم المشاهد مبتدئين بثقافة سمعية، لاتؤهلهم للقيادة الفكرية، ومع ذلك لايراجعون، ولايتراجعون، ولاينفكون من العناد، ومعول نكراتهم وأحداثهم أنهم لايلوون على مثمنات، ولايخشون استعداء الناس، وكأني بسراتهم وجهالهم يردد كل واحد منهم: - (أنا الغريق فما خوفي من البلل)، وطائفة منهم متمكنون في علمهم غير أنهم فهموا الاصلاح والتجديد على غير مراد الحق، فكان أن عولوا على حضارة الغرب لتنقذهم من التخلف. ولما أن كانت حركات الاصلاح الغربي قائمة على (العلمنة الشاملة) فإن البعض من هؤلاء لايجد حرجاً من مقاربة ذات التوجه، ولايخفي تذمره من نفاذ (التيار الديني) في كبريات المؤسسات، وليس من الكياسة أن نداهن هؤلاء، ولا أن ندعهم وشأنهم، ذلك أنهم معنا في السفينة، وخلخلة الوحدة الفكرية من أخطر الظواهر، وما نعايشه عبر وسائل الإعلام الصحفية والقنواتية ومراكز المعلومات وبعض المواقع نذير شؤم، فالمفكرون ومن دونهم يصطرعون حول الثوابت والمسلمات، وليس الخلاف فيما بينهم معتبراً. وما أكثر السامريين المصرِّين على أن المناوئين لهم ما ضويون، وأكثر المصدقين لهم، ومتى أطلقوا (الماضوية) ظنوا أنهم حسموا الموقف لصالحهم، وما عرفوا أن أكثر الوقافين عند حدود الله أمضى منهم في التجديد، وهل من التجديد، ما يكتبه نكرات متعالمون، أومثقفون مستغربون؟ يتناولون فيه قضايا (المرأة) و(المناهج) وسائر الأوضاع بطريقة مؤذية، وكأن من حولنا من الدول العربية ممن أتاحوا للمرأة التبرج والاختلاط والخلوة ومزاحمة الرجال، وملأوا مشاهدنا بالمغنيات والممثلات والراقصات قد حققوا من وراء ذلك غزو الفضاء، وصناعة الإنسان، وسلاح الردع، وكانوا أعزة أغنياء، وأننا بالتزامنا ومحافظتنا تخلفنا عنهم، وفاتنا الركب. ومع ما غمرنا من طفح القول ومشبوه الكلم فإنني لا أجد الوقت الكافي لقراءة كل ما يدور من دعوات مغثية، تثير الاشمئزاز ، وتبعث على الخوف. لقد زودني البعض بقصاصات وكتب، وزودني آخرون بنقاط مستوحاة مما ينقمون به على مثل هؤلاء. وإذا لم تكن تلك النقاط مبتسرة من سياقها فإنهم محقون في تذمرهم. وأحب في غمرة التمرد مناصحة من أتوسم فيهم الخير من شركائنا في مهنة الكتابة، وهي مهنة معتقة أو موبقة، وكلي ثقة برحابة صدورهم وثقتهم بأنفسهم، ومفاتحتي إياهم دافعها الحب لعقيدتي ولوطني وحرصي على سلامة المجتمع الذي أنتمي إليه، وأنعم بأمنه واستقراره وتلاحم أبنائه، وحبي للكتبة أنفسهم، امتثالاً لحديث (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وإذا كنت أحب لنفسي أن يستعملني الله في طاعته، وفي خدمة عباده، وأن أمتلك الشجاعة في محاسبة النفس، والقدرة على كف اللسان، وعدم قفو ما ليس لي به علم، وتحامي افتراء الكذب على الآخرين، وإذا كنت حريصاً على أن تظل الفتن نائمة، والأمة متلاحمة، ولو على المفضول، اقتداء بالرسول الرحيم، يوم فتح مكة، حيث لم يعد بناء الكعبة على قواعد ابراهيم، جمعاً للكلمة، وتفادياً للشقاق والتفرق، إذا كنت في ذلك كله كذلك. فإنني أحب لكل عالم أو مفكر أو كاتب أن يكون كما أريد. ولعل أصحابنا الذين يقترفون ما هم مقترفون من مخالفات لا تحتمل التأويل ولا التبرير على علم بأنني أحرص الناس على أن يأخذ كل مقتدر حيزه، وأنني أبعد الناس عن مصادرة الحقوق والإقصاء، ولست ممن تأسره المذهبية، ولا ممن لا يرى إلا واحدية الرأي، ولست حدياً صارم الحدية. وحين لا تجمعني بأحد منهم إلا اخوة الإسلام، ونعمّا هي من علاقة، إذا أخذناها بحقها، فإن من أولويات حقها أن أصدقهم القول، وأن أنصح لهم، وأرجو ألا يكونوا ممن لايحبون الناصحين. والصدق والنصيحة لا تتحققان إلا إذا كان كل واحد مرآة صافية، ينظر فيها الآخر ذاته المعنوية بكل ماهي عليه. وإذا بدت من أحدنا غلطة فمن حقه على كل متلق أن يبادر إلى إهدائها إليه، ورحم الله من أهدى عيوبنا إلينا، وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه. وكم أود من بعض أولئك الذين يخوضون في مصائر الأمة بغير علم، ويبغون حكم الجاهلية في قضايا المرأة والمناهج والاجتماع، أن يكونوا على علم بفقه الأحكام، وفقه الواقع، وفقه الأولويات، وأن يعرفوا قواعد المذاهب وأصولها وشروط الاجتهاد عندها، وحدود الحرية ومجالات الاختلاف، ومقاصد الشريعة، وسد الذرائع، ودرء المفاسد، والمحرم لذاته، والمحرم لغيره، ومدى حق السلطان في الحظر والإباحة والطاعة، ومقصد الأصوليين من مقولة (لا اجتهاد مع النص) ذلك أن جهل مثل هذه القاعدة بالذات أردت علماء وفقهاء ومفكرين، ف (النص) هنا: هو ما لايحتمل إلا دلالة واحدة، وليس المقصود به مطلق القول. وحين لايحتمل النص إلا دلالة واحدة، لايكون للاجتهاد فيه مكان. وكثير من المتعالمين: إما أن يخوضوا في كل نص، أو يحجموا عن الخوض في كل نص، ولايفرقون بين القطعي والاحتمالي، محققين معجزة من معجزات الرسول الغيبية في (رفع العلم) في آخر الزمان، وذلك ما تعانيه كافة المشاهد في راهنها. فلقد شارفنا على نزع العلم الشرعي أو كدنا، وعلى نزع الورع والحياء أو كدنا. وأين المتسرعون اليوم من (أبي بكر الصديق) الذي سئل عن (الأب) في قوله تعالى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم؟ وأين هم من (الفاروق) الذي يجمع الصحابة عندما تنتاب الأمة نازلة؟ ويطلب من رواة الأحاديث من يشهد لهم، بل أين هم من (لا أدري) وهي نصف العلم، ومن قالها فقد أفتى. لقد سمعنا أغيلمة أحداثاً يتشامخون، ويتعملقون، ويقولون بكل جرأة في قضايا الأمة: الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية. وارتيابنا من الاحتفاء بهم، وتمكينهم من وسائل الإعلام، مع ما هم عليه من ضحالة في التفكير وسوء في التعبير، ورأينا أشيمطين متصابين يوغلون في النيل من حراس الفضيلة، ويبسطون أيديهم لناشئة ليست على شيء من العلم، ولا على شيء من التجربة. وإذا قيل لهم: اتقوا الله، وقولوا قولاً سديداً. قال قائلهم: -نحن رجال وهم رجال، وقال آخرون: -إن ما نقوله من حرية الرأي والتعبير المكفولة لكل إنسان. وحسبك من هؤلاء ما تشاهده من قتل للأبرياء، وهدم للمتلكات، وإخلال في الأمن وخلل في الفكر، وتمردعلى السلطة، وخوض جريء في آيات الله. ولو أنهم لم يؤلهوا الهوى، ولم تعجبهم آراؤهم، ولم يتزببوا في زمن الحصرمة، ولو أنهم عرفوا قدر أنفسهم، لكانوا قد سألوا أهل الذكر، وردوا خلافهم إلى الله والرسول وأولي الأمر منهم. وإذ تكون حجتهم في التغيير ضعف الأمة وتخلفها، تكون حجتنا ذات حجتهم، ولكننا نختلف في الحل، فهم يودون اللحاق بحضارة الغرب والانسلاخ من حضارتهم، فيما نود فهم الإسلام ومقتضياته والانطلاق منه والرد إليه، بحيث يكون النور الذي نهتدي به موقداً من شجرة زيتونة لاشرقية ولاغربية. وإذ مسنا الضر من تطرف الموغلين في الدين بغير رفق وبغير علم فإننا على وجل من المتطرفين في الفكر، الخارجين على رأي الجماعة، المستمرئين للنيل من كفاءات الأمة العلمية والفكرية، ومن القائلين في القضايا الفكرية والتربوية والاجتماعية دون تثبت، ودون تسليم للمرجعيات المعتمدة، وكيف يقبل عاقل رشيد الخوض في (قضايا المرأة) دون استصحاب الموقف الإسلامي، ودون تحفظ او استثناء في زمن نرى فيه تسليع المرأة واستغلال جمالها في الإعلام والتمثيل والدعاية والتجارة، وقبولها تلك النخاسة، واستمراء الرجل لذلك وما من عاقل رشيد غيور يقبل على محارمه أن يكن كاسيات عاريات مائلات مميلات، ولقد خصم الرسول صلى الله عليه وسلم الشاب الذي طلب منه ان يحل له الزنا، فكان أن سأله عما إذا كان يرضاه لأمه أو لأخته أو لزوجته أو ابنته. وفي الوقت نفسه لن يمانع اي عاقل رشيد أن تأخذ المرأة وضعها الطبيعي في المجتمع، وأن تكون عضواً عاملاً، متى دعت الحاجة الى خروجها من المنزل. وحين يتحدث مدعو الإصلاح عن (حقوق المرأة) فعلى اية شاكلة يرونها وما التجربة المثلى التي يحيلون إليها؟ إن التجارب القائمة في سائر أنحاء العالم تقتضى المصير الى التحديد والتوصيف ووضع الضوابط، وهذا ما اختلف فيه مع الظلاميين، ولأنني لا اريد نسف الجسور، ولا تعطيل قنوات الاتصال بيني وبين أي محرض على التمرد والسفور والاختلاط وعلمنة المناهج فإنني أحاول أن اضع كل واحد أمام ضميره، ولن أقابل مجازفات اولئك بمجازفات مماثلة، تحيد بكل الأطراف عن جادة الصواب، وتؤدي الى المجاراة في المنهي عنه، ولن أبحث عن شواهد الإدانة، ولن أصعد الخلاف، فأنا طالب حق، ولست طالب انتصار، ومبدي نصح، ولست باحثاً عن إدانة، وكم أود أن يجري الله الحق على لسان من أخاصم. وإذ لا اقطع بضلال أحد، فإنني لا أريد لهذا البلد الذي قام على العقيدة السلفية الوسطية، الرادة عند الاختلاف الى الله والرسول ان تعصف به الأهواء، ولا أن تؤول أموره وأحواله الى ما آلت إليه أحوال الدول التي شط أبناؤها في آرائهم ومواقفهم وتصرفاتهم، فكان ما نراه من تصدع في التلاحم، واختلال في الأمن، ونقص في كل وجوه الحياة، وما ذلك إلا بسبب صدام الأفكار، وتنازع السلطة والخروج على شرعة الله ومنهاجه. وما نقم مني البعض تصريحاً أو تلميحاً إلا لأنني ادعو الى أخذ الحذر من دعاة السوء، والتزود من المعارف قبل التصدي والتصدر، امتثالاً لأمر عمر: (تفقهوا قبل أن تسودوا) والرد عند الاختلاف الى الله والرسول وأولي الأمر. فإذا قلت: إن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت، فليس معنى هذا انني اعارض التعليم والعمل ومشاركة المرأة بما هي أهل له، ثم إنني بهذا القول أرد الى الله، والله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } فلماذا يحيل الناقمون القول عليّ، ولا يحيلونه الى مصارده. وإذا كان الوضع الطبيعي أن تقرّ المرأة في البيت، فإن الوضع الاضطراري ان تبرحه، وحين تكون المبارحة اضطراراً كان لابد من ضوابط، وليس من متقضيات القرار تحريم الخروج والعمل، ونساء الصحابة خرجن وعملن، والرسول عمل أجيراً عند (خديجة) والتحفظ الذي نقول به حملنا عليه ما آلت اليه أوضاع المرأة من تبذل وامتهان وإخلاء للبيت لتحلته امرأة اجنبية. وإذا قلت: إن عمل المرأة مشروط بشرطين (قيام الحاجة وعدم الاختلاط) فإنما أرد الى الله، والله يقول على لسان ابنتي شعيب: { لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (23) سورة القصص فصدور الرعاة من الموارد خشية الاختلاط، وشيخوخة الأب لتأكيد قيام الحاجة لعمل المرأة، وإذا قلت: إن عمل المرأة خارج المنزل ضرورة تقدر بقدرها، فإنما أرد الى الله، والله يقول لآدم: { فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (117) سورة طه ولم يقل (فتشقيان)، لأن العمل الشاق من مسؤوليات الرجل. ولأن الرجل هو الكادح والمنفق فقد كفي الحمل والرضاعة، وحّمل القوامة والسعي في مناكب الأرض، فيما أعطيت المرأة ما لم يعط الرجل من الحنان والعطف والنعومة،وأعطي الرجل ما لم تعطه المرأة من القوة والخشونة الجسدية، فما عيبت امرأة في بكاء، وما حمد رجل عليه ولأن لكل من الرجل والمرأة خصائصه الجسمية والنفسية، وله مجاله الاختياري الملائم لخصائصه فإن القول بمطلق المساواة، أو القول بتوحيد المناهج قول مخالف للسنن الكونية التي رتبت عليها السنن الشرعية، وإذا قام الاختلاف العضوي والنفسي بين الرجل والمرأة فإنه يلزم من ذلك قيام الاختلاف في المهمات والاحتياجات، وإلا أصبح التنوع من العبث، ولأن الله رتب الكون على ثنائية الازدواج، فقد فضل احدهما على الآخر، ليجعل له سلطة التدبير المتخلية عن التسلط والاستبداد، ومن ثم كان جل الخطاب للمفضل، ولم يكن خطاباً ذكورياً كما يعتقد البعض، ومع ان الغرب أوغل في المساواة الا أن المرأة الغربية تظل دون الرجل في كثير من المسؤوليات بما فيها رئاسة الدولة، ذلك ان الطبيعة تغلب التطبع، فالمرأة الغربية لها مطلق الحرية في الفعل والترك والمشاركة، ومع هذا تظل مسبوقة بمسافات كبيرة من قبل الرجل، لا بقوة القانون، وإنما بتفاوت التكوين والمصير العفوي للطبيعة البشرية، والقائلون بغلبة الخطاب الذكوري العربي لا يفكرون بغلبة الرجل الغربي على المرأة مع غياب الخطاب الذكوري. وحين أقول بمنع السفور والاختلاط فإنما ارد الى الله، والله يقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} ويقول {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وإيما امرأة خضعت أو اختلطت أو خلت أصبحت عرضة للريبة والطمع، ولنا في أم المؤمنين (عائشة) رضي الله عنها موعظة، لقد تعرضت لخلوة اضطرارية، فكان (حديث الإفك)، وفي الأثر أن نفراً مروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يكلم ابنته، فقال: إنها فاطمة، ولما عجبوا قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، أو كما في الأثر فأين نحن من (عائشة ومحمد وفاطمة)، ولما حصلت الخلوة بين (يوسف) عليه السلام وامرأة العزيز{غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } (23) سورة يوسف ولما كان حديث البعض من دعاة التفرنج عن المرأة يتجاوز المشروع كان لزاماً علينا أن نرد قولهم الى الله والرسول، وعليهم أن ترحب صدورهم إذا قلنا: هاتوا برهانكم ولا برهان إلا من آية أو حديث، نذعن لهما ونسلم، ونحن طلاب حق وبلادنا محكومة بالكتاب والسنة. وتجربة (المنتدى الاقتصادي) خير دليل على أن الناس بحاجة الى وزاع سلطاني، وأطر على الحق، وفي الأثر: أن الله ليزع بالسطان ما لا يزع بالقرآن. وحين لا نتناهى عن منكر فعله المتسرعون طالنا ما يطال اليهود الذين أخبر الباري عن عدم تناهيهم عن المنكرات، ومشروعية اشتراك المرأة في المنتديات والمؤتمرات لا يستدعي السفور ولا الاختلاط، وما أضاع الأمة وحرمها من سماحة الإسلام إلا الافراط في المنع او التفريط في الإباحة، ولو أن النسوة اللائي اشتركن في الملتقى عرفن ما لهن وما عليهن لكان أن تمتعن بحقهن المشروع الذي يوفر كل الحقوق ويمنع كل التعديات. والذين يدعون فيما يكتبون أنهم مصلحون، وان المرأة محرومة من حقوقها المشروعة، ثم يسوقون شواهد من وقوعات أو من تعامل جائر مع المرأة يحيلون ذلك الى الكافة، والكافة منه براء، وعليهم حين يحكمون على جور أملته العادات أن يربطوا الأسباب بالمسببات، وان يقارعوا تلك الظواهر بما درج عليه سلف الأمة، فالمرأة لها مثل الذي عليها بالمعروف، واشكاليتنا في تحديد هذا المعروف، فهو واقع بين افراط المتشددين وتفريط المتسيبين، أقول قولي هذا وأنا اعرف حق المرأة في (العلم) و(العمل) و(التجارة) والخروج المنضبط، وانها نصف المجتمع، وشقيقة الرجل، وأن قوامة الرجل الشرعية لا تسلب حقاً، ولا تعطل قدرة، ولا تمنع من الاستجابة لخدمة المجتمع في المجال الذي لا تسده إلا المرأة، أو أن من الخير ألا تسده إلا المرأة، وتقرير ذلك كله لذوي الاختصاص والمسؤولية، فمثل ذلك النوازل، و(فقه النوازل) لابد له من اجتهاد جماعي ورؤية مؤسساتية، فحين لا يكون على المرأة (جهاد) ولا (نفقة) وحين تلزمها الشريعة الإسلامية بالمحرمية في السفر، فمن ذا الذي يقرر خروجها وجهادها وانفاقها وسفرها في حالات الضرورة؟ وحين تقتضي الحياة خروج المرأة من البيت للدراسة او للتجارة او للعمل، فمن ذا الذي يحدد ذلك ويرسم طريقه ومجالاته، أهل الذكر والحل والعقد أم المستغربون المتعلمنون؟ أقول ما تقرأون، ولي تجاربي التي تحميني من الاتهام بالشدة والإمعان في منع المرأة من حقوقها المشروعة، فأنا اب لاثنتي عشرة بنتاً هن عندي زينة الحياة وبهجتها، ثمان منهن جامعيات، واربع منهن عشن في أمريكا مع ازواجهن ودرس بعضهن هناك، وواحدة منهن اعطت محاضرات في الكمبيوتر في الجامعة، وهن زوجات موفقات، منهن العاملات، وأكثرهن ربات بيوت، عملن ثم فضلن التفرغ للزوج والأولاد وشؤون البيت بالطوع والاختيار والاستغناء، ولم ازل اشرف على ثلاث رسائل دكتوراه لثلاث طالبات، فهل سيكون موقفي من المرأة القائم على القرار في البيت والتزام الحجاب وتفادي الاختلاط والخلوة والتبرج سبباً في ضياعهن أو جهلهن او تعطيل نصف المجتمع، كما يحلو لدعاة السوء أن يقولوا عني؟ دعك من قضايا المرأة، وخذ بيدي الى قضايا (المناهج)، و(السياسة)، ولما كنت ابني بجدة (المناهج) تعلماً وتعليماً وممارسة منذ نصف قرن فإنني حقيق بالقول، ولا فخر، لقد درست في ثلاث جامعات عربية، وتخصصت في التربية وعلم النفس، ومارست التعليم على مدى خمسين سنة، وحاضرت في المناهج، وألفت في ذلك، وخبرت التعليم من الكتاتيب حتى الدراسات العليا، وأشرفت على رسائل الدكتوراه وناقشتها، ولم أزال اتقلب في التعليم منذ السادسة عشرة من عمري، ومع ذلك لم اسلم من الغمز واللمز والسخرية، وكأنني كهفي أبعث بورقي الى المدينة. وحين أقول: أن مناهجنا لا تصنع ارهاباً، ولا تكفر أعياناً، فإنني أقول: إنها في الغالب لا تخرج إلا كتبه، وانها لا تساير خطط التنمية، ولكنها مع هذا ليست سيئة بالقدر الذي يشيعه المستغربون والمتسرعون، ويكفي أنها خرجت الأطباء والمهندسين والعلماء، وعشرات الآلاف من المتخصصين في مختلف العلوم الإنسانية والعلمية، وربما كانت بلادنا من أكثر دول العالم في الابتعاث للدراسة الى الخارج، وما كان احدهم بدعاً في تربيته وتعليمه، وما كانت مناهجنا من قبل مثل جدل ولا استنكار ولا استغراب. والذين عادوا متأثرين بالأفكار الغربية شكلوا طوائف (ليبرالية) و(فرانكوفونية) ان هم إلا سليل تلك المناهج التي تتهم من الداخل والخارج، ومع إصرارنا على التطوير فإننا نفرق بين الاتهام السافر والملاحظات المتزنة، وإذا لم نطور مناهجنا يوماً بعد يوم، ونأخذ من مناهج الغير أحسنها وأقدرها على مواكبة الحياة المعاصرة سبقنا العالم. وأسلمة المناهج لا تشكل عقبة في طريق الإصلاح ومواكبة الحياة، ومن فهم الأسلمة على غير ذلك ففهمه مرورد عليه، وعمليات التطوير شيء والاتهام والاستعداء شيء آخر، والذين يسايرون الأعداء في اتهام مناهجنا بالارهاب أو بالتكفير، ويحتمون بمراوغة اللغة، يجهلون او يتجاهلون (سبعين عاماً) من عمر التعليم، ويتجاهلون الملايين من مخرجاته ممن يختلطون مع مختلف الجنسيات والأديان، ويجوبون آفاق المعمورة، دون ان يمسوا أحداً بأذى، ولقد كان (الأمريكيون)، بالذات يذرعون فضاء أرضنا جيئة وذهاباً، منذ عهد الملك (عبدالعزيز) الأشد تمسكاً بالسلفية، ينقبون عن المعادن، لا يرافقهم إلا أعرابي طارت شهرته في الآفاق، ولهم اسهامهم في تعليم أبناء البلاد، مما هم بحاجة إليه في القطاعات العسكرية والتخصصات العلمية، كما أنهم يمارسون مختلف الأعمال في المستشفيات والمصانع والمؤسسات، وما قيل عن احدهم انه قتل غيلة، ولم تكتشف اللعبة، وهمت كل طائفة بأختها وصفيت الثارات، ولكيلا ترد الأحداث الى مصادرها فتتعرى اللعبة، وينفضح اللاعبون، حملت المناهج وزر غيرها، واستخدم طغام الظلاميين لترويج الفرية. أما السياسة فلست ابن بجدتها، ولكنني قارئ نهم، بدأت قراءتها فيما كتب عن (لعبة الأمم)، وصدام المصالح، وصراع الحضارات، ودسائس الاستشراق، ومكر التبشير، ومكائد الاستعمارو وسير الزعماء ومذكراتهم، والاستخبارات ومغامراتها وقصص الثورات وعمالتها، ومتابعة الوثائق التي يفرج عنها كل حين وملفات القضايا المصيرية، وما تعانيه الشعوب من ويلات، وعايشت احداثاً مؤلمة من نكسات واحتلال وتطبيع ومواطآت وتراجعات مؤلمة، فتبين لي ان العالم العربي والإسلامي يعيش تحت وطأة لعبة سياسية كونية، أتت على مقدارته وأمنه، وأذهبت ريحه، ولما يزل يخرج من لعبة قذرة، ويدخل في أخرى، ومن تعاطى السياسة كما يتداولها الاكاديميون او كما تبثها وسائل الإعلام فقد يضر بمصالح أمته السياسية، فن الممكن، ولقد عايشها عقلاء مجربون، فخرجوا من مستنقعاتها، وهم يلعنون ساس ويسوس وما تصرف منها وعجبي من مفكرين وكتاب يظنون ان ما يقوله الإعلام الغربي حق لا مراء فيه، ومن ثم يرتبون أمورهم ومواقفهم على ما ينتهي إليهم منه وصدق الله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46) سورة الحج وبعد: كل الذي أرجوه من اولئك الذين آذوا البلاد والعباد ان ينظروا في مسلماتهم، وان يتزودوا من العلم الشرعي، فهو مرجعية حضارتهم، وان يؤصلوا لمعارفهم، وان يمحصوا مواقفهم بالمراجعة والمحاسبة والمساءلة، وحين تلتبس عليهم الأمور، عليهم ألا يجدوا حرجاً في أن يسألوا أهل الذكر، فدواء العي السؤال، وفوق كل ذي علم عليم، وإذا كان بعض اولئك غاضباً على الذين يؤذونه بالاتصالات، ويسبونه من خلال المواقع المعلوماتية، ومن خلال الردود والرسائل فليعلم ان البادئ أظلم، ولو ترك القطا لنام، وما بعد البعد نقول: (انج سعد فقد هلك سعيد).] |
لماذا المساس بالعلماء والتشكيك بالثوابت؟
د. حسن بن فهد الهويمل ما من عصر أو مصر إلا ويخلو فيهما من يربك المسيرة، ويصدِّع التلاحم، ويضع الأمة على مفترق الطرق، حتى لا تدري أين المفر. وما تفرقت الأمة إلا من بعد ما جاءتها قوافل المستغربين، تحمل رايات التزهيد بتراث الأمة، والتشكيك بقطعيات الدلالة والثبوت، وحتى التاث أمرها بأنصاف المتعلمين، ممن احتلوا وسائل الإعلام للقول في سائر الشؤون، فكان أن ضيق عليها المتنطعون، حتى التقت أضلاعها، ووسع لها المتعلمنون، حتى فقدت ضوابطها، وأضلها الجاهلون حتى حارت بعد الكور. وضاع الوسطيون في ضجة الإفراط والتفريط، ولقد ظاهرت دعاة الاستغراب موجات الغزو والتآمر المتدفقة من كل حدب وصوب، مؤدية دورها المرسوم وتدبيرها المحكم. ومما صعد الإشكاليات فهم الأشياء على غير وجهها وذهاب كل مفكر بما يرى، دون بصر أو بصيرة. واشتغال غير أولي التخصص والتأصيل المعرفي بما سلف من علم شرعي أو بما خلا من علماء أجلاء، أقيمت على جهودهم حضارة أمة، قبست منها كل الحضارات. والحائمون حول الحمى: إما جهلة يفتقرون إلى معلمين، أو ضالون يتطلبون مرشدين، أو مواطئون يحتاجون إلى محذرين أو إلى متعقبين، يتجاوزون لحن القول إلى ما تخفي الصدور. ومما يعكر صفو الحيوات الفكرية والحضارية، ويذكي أوار الارتياب والشك ما يتعمده ذوو القامات القصيرة والمحصول السمعي المضطرب من استدعاء غير مبرر لأساطين الفكر وجهابذة العلم، ممن جددوا لهذه الأمة أمر دينها، وتعاملوا مع النوازل بعلم غزير، وفقه دقيق وإلمام بمتطلبات المرحلة التي عاشوها بكل ظروفها وملابساتها، وخلوا بما كسبوا واكتسبوا. واستدعاء العلماء الأفذاذ، لا يكون بابتسار مفردة من مفرداتهم التي خالفوا بها الإجماع، وأجمع خلفهم على انفرادهم بها، وكانت في النهاية من خطأ الاجتهاد، الذي لا ينفك منه عالم نذر نفسه لمواجهة النوازل وعالم أتقن العلوم وأصولها ونازل أساطين الملل والنحل، وفند أقوالهم، لا تسقطه مخالفة في الفروع، فلكل مجتهد مطلق أو مقيد، ولكل مذهب يحيل إلى الأصول والقواعد الخاصة به مفردات لا يعضدها إجماع، ولكنها تظل شاهداً على الحراك السليم للاجتهاد المشروع. وكيف نتأفف من خطأ الاجتهاد، والصحابة رد بعضهم على بعض، وخالف بعضهم بعضاً. وكم كنت أتمنى من أولئك المغرمين بإيقاظ النوم، وإزعاج الآمنين، أن يدعوا من ودعهم من سلف الأمة، ممن لم تكن لهم مواقف أو آراء تناقض ما علم من الدين بالضرورة، وإن كان ثمة فضلة من جهد أو وقت، فإن عليهم إنفاقها في البحث عن منقذ للأمة، مما هي فيه من تخل عما يحييها، وتقاصر متعمد عما في أيدي الناس من مهارات، وما في أدمغتهم من معلومات عن ظاهر الحياة الدنيا. وعلماء السلف الذين يستمرئ الجهلة المغامرون النيل منهم، لا يمنعون من علم، ولا يحولون دون اجتهاد، ولا يضيقون واسعاً، ولا يدعون إلى رهبانية، ولا يحبذون انكفاء على الذات، ولا يصدون عن إعداد أي قوة: حسية كانت أو معنوية. وإذا كان قدرهم قد ألقاهم في آتون الفتن، وجاء بهم في زمن التداعي على الأمة، مما شغلهم بالتصدي والتحدي والصمود، فإن ذلك لا يعني عنفهم ولا صلفهم، وإنما يعني الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة الأمة، وأين الناقمون من حملات الصليبيين، وعنف التتار وجور المقتسمين لتركة الرجل المريض التي تمخضت عنها اتفاقية (سايكس بيكو)؟.. وأين هم من غطرسة القوة ووحشية المحتل؟ فأي فترة من فترات الإسلام فعل فيها الحكام والعلماء ما يفعل بالمسلمين القابعين في ديارهم؟.. والناقمون على علماء الأمة تمتد نقمتهم إلى تراثها، وكان عليهم إذا اتجهوا صوب الموروث العلمي أو الفكري أو الأدبي أو إلى أحد من رجالات هذه المعارف أن يكون ذلك لاستيعابه أولاً، وفهم أنساقه وسياقاته وظروف تشكله، ثم استصحاب ما تقوم الحاجة إليه، وما لا يتحقق الوجود الكريم إلا به. فما من حضارة إلا ولها كتابها المنزل، وشرعها المستنبط، ومنهجها المحكم، وحملة تلك الأمانة. وليس منتمياً من لا يتمثل الثوابت، ويظهر الدين: سلوكاً وشعائر ومنهج حياة. وبخاصة أن الدين الإسلامي: شرعة ومنهاج وشمول. ولن تأخذ الحضارة الإسلامية حقها المشروع حتى تكون بادية للعيان: بشعائرها ومشاعرها وأوامرها ونواهيها وأنظمتها ورؤيتها للكون والإنسان والحياة. وليس بمسلم من يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض وإذا استحر الهجوم على الإسلام ومؤسساته وعلمائه من الإعلام الغربي، فالواجب أن نكون ردءاً له، ندفع بالتي هي أحسن، ومتى استقاموا لنا استقمنا لهم، وابتدرنا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا نشايع معتدياً، ولا نسكت على باطل، ولا نقع تحت طائلة الانفعال والافتعال، نصدق القول الجائر، ونقبل الدنية في الدين. وإذا فهم المتنطعون والمتطرفون قضايا الدين على غير وجهها فإن ذلك لا يحمل الوسطيين والميسِّرين على إسقاطها أو الامتعاض منها، ف(التكفير) و(الولاء) و(البراء) و(الردة) و(الجهاد) قضايا إسلامية، يعد المساس بها كالفهم الخاطئ لها. وإذا كان قدرنا - وهو قدر حميد - أن ولدنا على الفطرة، وأن آباءنا أسلمونا، مثلما هود غيرنا أبناءه أو نصروهم، فواجبنا أن نكون كما أراد الله لنا متمثلين للإسلام، كما أراده الله، محتملين تبعاته في المنشط والمكره، مقتفين أثر السلف الصالح في تقدير الأشياء قدرها، كافين عن الخوض بما لا نعلم، عافين عن أعراض العلماء، فالعلم قبل القول والعمل. ووسط ضجة المتعالمين والمتعالقين مع الآخر لابد من احترام التخصص، والتضلع من العلم، والتزود بالخبرة، والتعامل مع المستجد وفق المقاصد والمقتضيات الإسلامية، وعلى ضوء المناهج والأصول والقواعد إذ ما كان بمقدور سلفنا إنجاز تلك المعارف والفنون، لولا ما توفروا عليه من علم غزير، وفهم دقيق، وخبرة واسعة، ومنهج واضح، وآلية مرنة، ومعرفة كل شيء عن مجال الاجتهاد وآليته ومنهجه. والمؤذي أن طائفة من الأحداث استدبروا النوازل، وأنشبوا أظفارهم بما كفوا مؤونته من كليات ناضجة، وبما خلا من علماء أفذاذ. وهذا التحرش بالثوابت وبالعلماء أخلى الثغور لمن مالوا على الأمة بأفتك الأسلحة، وأحد الألسنة، فأهلكوا الحرث والنسل، وأيقظوا الفتن، وفرقوا الشمل. وكلما نهض الغيورون لفك الاشتباك، وإيقاف التدهور، وصفوا بضيق العطن، واتهموا بالحد من الحرية. وما علموا أنه من حق كل مقتدر مساءلة أي مشتغل بحيازات الأمة، فكان منه الإفراط أو التفريط وليس هناك ما يمنع من تلقي التراث، وقراءته بعيون العصر وإرادته، ولكن دون تنقص أو إسقاط. ولن تكون القراءة لحضارة الذات سليمة، ما لم يتزود القارئ بالمعرفة والخبرة والصدق والتقوى، ولن تستوي الحضارة ما لم تتزود بما ينقصها من حضارات الغير، مما لا يتعارض مع المقاصد والمقتضيات. والصفقات الخاسرة في اشتغال الخلي بالتشكيك في بناة الحضارة، من علماء متمكنين، ومفكرين مقتدرين، ومصلحين ورعين. وهو بعد لم يسد المكان الذي سده أولئك، ممن أصبحوا مجالاً للاتهام والتجريح والسخرية والاستهزاء. ولو أن علماء السلف الذين شيدوا صرح هذه الحضارة، كان ما تركوه من تراث عقبة في طريق التحضر والتمدن، لباركنا لهؤلاء مساسهم بهم. ولو كانت المراجعة لموطن خلاف معتبر، ما كان منا امتعاض، ولا تذمر، ولا ارتياب. ولو أن أخذ العالم بالمسألة على رأي يترتب عليه اضطراب في المفاهيم، لكان لزاماً على من خلف تدارك ما سلف. ولو أن مقاصد المراجعة لرأب الصدع وإعادة الوفاق بين أطياف المذاهب، لكان مثل ذلك داخلاً في إصلاح ذات البين، وتنقية الدين مما علق به من دواعي الفرقة والتنازع. ولو أن المراجعة تمت دون المساس بأهلية العالم أو التشكيك بقدرته أو الطعن في أمانته، لكان ذلك داخلاً في الاختلاف المشروع. ولو كانت المراجعة لتخليص الأمة من حرج، أوقعها فيه العالم، لكان في ذلك تفريج لكربة الأمة، وتيسير عليها. وما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر. ولو كانت المراجعة من عالم متخصص، يشتغل في مجاله، ويستكمل رؤيته، وفق النوازل والمعاصرة، لما كان في ذلك محذور، فباب الاجتهاد مفتوح. لكن الأمر غير ذلك كله، وكل الذين يتجرؤون على علماء الأمة ما هم منهم، لا في علمهم، ولا في ورعهم، ولا في حملهم لهم الدين والدنيا، ولا في صدعهم بالحق. وما تلك الزوبعة إلا من اللغط الإعلامي الذي يسد فيه الكاتب أو المتحدث فراغاً، أو يكسب فيه شهرة، أو يحصل به على ثمن بخس من لعاعات الدنيا. وقراءة التراث قراءة مريبة، تقاطر عليها مستشرقون ومستغربون، كانوا خليطاً من متمكنين ومتسطحين، وباحثين عن الحق، ومضلين عنه. وتعشق الحديث عن المسكوت عنه عفة أو تفويضاً مؤذن بفساد كبير، وقد يكون المسكوت عنه من المتشابه، والراسخون في العلم لا يزيدون على الإيمان أو التفويض. والمريب أننا لا ننفك من طلعات موجعة، تشكك في اليقينيات والثوابت، وتستدعي المتشابه والمسكوت عنه، وتقدح بثقات أجمعت الأمة على عدالتهم وأهليتهم. وكيف تسلم الأمة عبر حقبها التاريخية لمتكلم، أو محدث، أو فقيه، أو مصلح. ثم يأتي نكرة لجوج يخرج على الإجماع، فيطعن في الأمانة، أو يقلل من المعرفة، أو يصف بالسفاهة. والمتابع لفيوض الإعلام، ينتابه الخوف مما يعتري قضايا الأمة ورجالاتها من سهام أبنائها. ومصميات الأمة أن كل انتهاك لقطعيات أو تجريح لعلماء يسوغه المنتهكون بدعوى الحرية وحق الاجتهاد، وتلك شنشنة لا ننفك نسمعها من كل أفاك أثيم. وإذا كان تراثنا مليئاً بالقول والقول المناقض فإن بإمكاننا أن نتخول الزمن المواتي والأسلوب المحكم، فالوضع المعاش مثقل بكل العوائق. وإذا استطاعت الأمة احتمال المواجهة فإن علينا أن نستعرض مفردات الحضارة على مهل، ثم نأخذ بأحسن النتائج فليس كل ما خلفه علماؤنا مما تقوم الحاجة إليه، وليست العصمة لأحد غير الرسل، فكل عالم راد ومردود عليه، ولكن المواجهة مركب صعب، لا يؤتاها إلا الأفذاذ، وليس من الاقتداء السليم أن نأخذ كل ما توصلوا إليه بحذافيره، ولا أن نتمثله كما لو كنا معهم في زمانهم. وكيف يتأتى ذلك و(عمر بن الخطاب) قد استحضر تغير الزمان، وأكد على أن أبناء معاصريه خلقوا لزمان غير زمانهم، و(الشافعي) قد استحضر تغير المكان، فكان له مذهبه القديم والجديد، وما تحفظنا إلا على ما نراه من نسف للتراث، وإدانة للعلماء، أما أن نعيد قراءة التراث بعيون العصر وإمكانيات الحاضر، فذلك عين الصواب، غير أن ما نسمعه، وما نراه، يختلف عن ذلك كل الاختلاف. وكيف يحتمل (الرأي العام) من يتكئ على أريكته باسترخاء، ثم يصدر أحكامه بكل برودة أعصاب وسوء قصد، فيحكم بكفر عالم أجمعت الأمة على جلال قدره، وحفل التاريخ ببطولاته، وماذا يضيف منكر القول إلى أمة مثخنة الجراح مهيضة الجناح. ومتى كثر لغط المبتدئين، وتعالى صخب المتعصبين، فإن من حق الشركاء في السفينة الأخذ على يد السفهاء والمجازفين، الذين يهزون الثوابت والمسلمات، ويشككون لداتهم في يقينيات الأمة. والأدهى والأمر أن ذلك كله يتم دونما حاجة قائمة، وفي ظل ظروف غير ملائمة. فالأمة متوترة، والأعداء متحفزون، والقول في حق العلماء لا يحل إشكالاً، ولا يزيل عقبة، ولا يؤلف قلوباً، ولا يقيل عثرة، وما أتيت الأمة إلا من جهلة يتعالمون بقول معار أو معاد، وكل ما يقال لا يعدو كونه اجتراراً لما فرغ منه المستشرقون والمستغربون والمتعصبون لمذاهبهم وما تلقفه المستشرقون، وبنوا من ذراته قباباً، لا ينخدع به إلا الفارغون من المعرفة أو الغافلون عن مكائد الأعداء. والمتعقب للطرح المستفز، لا يجد فيه إلا طبيخاً مغباً أعيد تسخينه. فما ترك المستشرقون والظلاميون قولاً لقائل، لقد قالوا عن الله وفي الله ما يتعالى الله عنه علواً كبيراً، وقالوا عن رسوله، وعن مصدري التشريع، وعن سلف الأمة ما لا تحتمله الجبال الراسيات. وما أضر بالمسيرة الفكرية للأمة إلا الذين تصوروا أن كل قول يقال يمتلك الشرعية، وتحميه حرية القول، وإلا الذين لا يقرؤون أطروحات العصر وتقلباته الفكرية، وإلا الذين لا يفقهون المتغيرات، ولا يحسبون للواقع حسابه. إذ ما يقال في زمن القوة والتماسك لا تحتمله الأمة في زمن الضعف والتهالك. وأحوال الأمم كأحوال الأجسام، تتعرض للأمراض، ثم لا تقدر على الحركة ولا على الاحتمال، ومن عرض الجسم المريض لما لا يقدر على احتماله، فقد حمله ما لا طاقة له به. والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها. وهل من عاقل رفيق يرى أن أمته بوضعها الحالي قادرة على الإمعان في بلبلة فكرها وإثارة شكوكها بآراء وتصورات ومواقف ليست من متطلبات المرحلة؟ وإذ نؤمن بأن بعض العلماء قد يتعرضون لإشكالية الخلط بين الثوابت والمتغيرات، وقد لا تدق رؤيتهم، بحيث لا يفرقون بين الشرائع والأعراف والسوائد والمسلمات فإن معالجة تلك الإشكاليات لا تكون بالنيل منهم والسخرية بهم، وإسقاط عدالتهم، والتشكيك بأمانتهم، وإنما هي بإرشاد ضالهم، وتعليم جاهلهم، والتماس العذر لمخطئهم، ذلك أنهم اجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد، وحين لم يحالف بعضهم الصواب فإن من واجبنا أن نستدرك إخفاقاتهم، مع الترحم عليهم، والاستغفار لهم، وحسن الظن بهم، وعدم الجزم بصواب ما نرى وخطأ ما يرون. فقضايا الاجتهاد مجال للأخذ والرد، ومن خلط بين اليقين والاحتمال، وقع في تأليه الهوى. وليس من الحصافة أن نتبع سنن الأعداء، ولا أن نسلم لكل دعاويهم. لقد نالوا من مرجعيات الأمة: الكتاب والسنة، وطعنوا في حملة الرسالة وورثة الأنبياء، وكرسوا الطائفية والمذهبية، وعززوا جانب التعصب، وباركوا تنازع العلماء، ونقبوا في تراث الأمة بحثاً عن المتشابه، وكل من في قلبه زيغ يتبع ما تشابه منه. ولقد تلقت طائفة من أبناء هذه الأمة راية الطعن والتشكيك، واستمرؤوا الخوض في آيات الله بغير علم، واستحلوا تجريح علماء الأمة، وأحلوا قومهم دار البوار، فكان أن هددت حصون الأمة من الداخل |
مسوغات الأدب الإسلامي..!
د. حسن بن فهد الهويمل ما من مصطلح جديد إلا ويواجه بالتساؤلات والتحفظات، ويطلب من ذويه البرهنة عن مشروعيته ومرجعيته وتخطيه من الفرضية إلى النظرية، ومراد الأفكار أهم من مراد المعدات والشهوات، ذلك أن الأفكار تشكل المواقف والتصورات، وتنقب في السوائد والمسلمات، وتنشئ الملل والنحل، وتوقظ الفتن، وتدفع إلى الحروب، ومن ثم أصبحت قضايا الفكر هي القضايا الأهم. لأنها تجمع الأشتات، أو تفرق الجماعات، ولأن الأدب عامة و«الأدب الإسلامي» خاصة بعد موجة «الأدلجة» والتسييس قضية من أهم القضايا الفكرية والأدبية التي تتداولها المشاهد الفكرية، فقد كان لزاماً على المصدقين بمشروعيته إبداء الأسباب والمؤيدات، سعياً وراء الإقناع والاستمالة، أو الدفع بالتي هي أحسن، ولن يتأتى الإقناع إلا بتقصي حيثيات المشروعية ومسوغات الطرح، والتناوش من مكان قريب، وعقلنة التداول، والمصطلح المثير ثنائي التركيب ثنائي المقاصد، فالأدبية لها شرطها، والإسلامية لها مقتضاها، ولابد و- الحالة تلك- من النظر في كل وجوه المصطلح المركب ومقتضياته ومشروعية قيامه، وبخاصة بعد الخلطة المستحكمة بين الفن والفكر، ومثل ذلك يتطلب تلقي التساؤلات والتحفظات بصدر رحب، ومجادلة بالتي هي أحسن، في سبيل تبرير مشروعيته، وسط أطياف المذاهب والتيارات والقضايا والمبادئ التي تملأ الرحب، ومشروعيته تتحقق بحشد المسوغات والتماس المبررات، ولاسيما أن هذا المصطلح لم يقم إلا بعد قرون من قيام «الأدب العربي» الذي تحمل مهام الإمتاع والإقناع، ولأن الفن عامة والفن القولي خاصة سابق على التشريع، ومختلف بلغته وغاياته عن سائر المعارف، فإن النظر إليه بعد التشريع يختلف عما كانت عليه النظرات من قبل. و«الأدب الإسلامي» يواجه تحديات متعددة، فخصوم الإسلام خصوم الداء، والمتفلتون على القيم الأخلاقية، ممن لم يجتنبوا كبائر الإثم والفواحش خصوم متفاوتون بين متحفظ ومتخوف، أو متردد بجهله أو بوقوعه تحت تأثير المفاهيم الخاطئة، ممن يرى أن الفن القولي بمعزل عن الدين، ثم لا يعرف قدر الاعتزال وأمداء التداخل، وأمام تلك المواجهات لابد من أن يقدم المعنيون بالمشروع مسوغات مشروعهم، وأحسبها إن لم تكن معهوداً معرفياً فإنها معهود ذهني، إذ ما من متلق واع إلا ويعرف لماذا طرح المشروع، وما هي دواعيه ومقاصده، ولعل من أهم المسوغات:- - هيمنة الإسلام، وشموليته وحاكميته وحقه الإلهي في أن يكون كل شيء على مراد الله، ومن جعل الفن خارج أمر الله أعوزه الدليل، وحق الفن في التشريع كحق سائر الممارسات القولية والفعلية، ودراية الأمة بأمور دنياها مرتبطة بوعي المقاصد الإسلامية. - مشروعية تكافؤ الفرص، وتساوي الحقوق، فالقبول ب «أدب حداثي» أو «وجودي »أو «ماركسي» يلزم بقبول «أدب إسلامي » وبخاصة بعد أن وسع «الأدب العربي» كل هذه الاتجاهات وأصبح نهباً لها. - تصحيح العلاقة بين «الادب» و «العقيدة» ولما كان واجب الأدب- أي أدب- أن يكون في خدمة عقيدة الأمة التي ينتمي إليها الأدب، كان لابد من تصحيح العلاقة بينهما، لتتم الخدمة على أقوم طريق، فالأدب وثيق الصلة بالحياة، ولن تتحقق العقيدة منفصلة عن الحياة، ولن يكون الأدب بمعزل عن تواشج الحياة بالعقيدة. فالأدب تعبير عن موقف، وإبداع المنتمي مصطبغ بالانتماء، فالأدب إذاً بطبيعته تعبير غير مباشر عن العقيدة، ولكي يكون التعبير سليما مطابقاً لمراد المشرع، كان لابد من وعي المقتضى، وما لا تقوم العقيدة إلا به فهو عقيدة أو جزء منها، ولأن العقيدة هدف أسمى، كان لابد أن يكون قول المعتقد في خدمة هذا الهدف، ولعلنا نلمح للدلالة اللغوية لجذر «عقد» إذ يوحي بعقد مبرم بين طرفين يلزم بالوفاء، فهي من تعقيد الأيمان، وعقدها غير اللغو فيها، ومن لم يلتزم بمقتضيات العقيدة فهو يلغو فيها، والخصائص الايمانية لا تتحقق إلا بالتمثل قولاً وعملاً واعتقاداً، فمن قال ولم يعمل كبر مقت الله له، ومن اعتقد بقلبه وناقض الاعتقاد بالقول أو بالفعل أخل بالمقتضى الايماني، ولهذا جاء «الادب الإسلامي» ليصحح العلاقة بين ثلاثي التحمل: الاعتقاد، والقول، والعمل، ولا يمكن أن يكون الأدب بمعزل عن العقيدة، كما لا يمكن أن تكون الحياة بمعزل عنها، وفي الوقت نفسه لا يكون الأدب خالصاً لها، ولكنه يكون مخلصا لها، والفرق دقيق بين الخالص والمخلص، هذه القطعيات الطردية تؤدي إلى حتمية ارتباط الادب بالعقيدة ارتباطاً يعي الفرق بين «الأدب» و«علم الكلام»، إذ ما من أدب أمة إلا ويكون مصبوغاً بعقيدتها، و«تولستوي» يربط عظمة الفن بقدر ما يعكسه من إدراك ديني، ولعل شهرة «الإلياذة» مرتبطة بما تعكسه من وثنية معتبرة في لحظة الإبداع، ويقال مثل ذلك عن «الكوميديا الإلهية» «لدانتي» حيث تجسد العقيدة «الكاثوليكية»، وكذلك «الفردوس المفقود» «لملتون» إذ فيها تصوير لموقف االمسيح من الله والعالم. وحتى الآداب ذات البعد العاطفي لا يمكن أن تثير الكوامن النفسية إلا من خلال العواطف الدينية، فالعقيدة سدى الفن ولحمته ومدده، وبدونها لا يكون الأدب أدباً خالداً، والقول ب «اللامنتمي» يعني الانتماء لعدم الانتماء، فما من قول إلا وله مضمون وهدف وانتماء، وإذا تبدت عقائد النصارى واليهود والبوذيين في آدابهم فإن العقيدة الإسلامية أولى في الظهور والتمثل، ومع هذا يجب أن نفرق بين «الأدب الديني» و«الأدب الإسلامي»، فالأول يشتغل بالموضوع الديني، والآخر يشتغل وفق المقتضى الإسلامي. - وإذا تجاوزنا المقتضى العقدي بوصفه الركيزة الأساسية تبدى لنا مسوغ آخر، يتعلق بالسلوكيات، وحفظ القيم الأخلاقية مطلب إنساني، قبل أن يكون مطلباً إسلامياً أو مطلباً أدبياً يهتم بقيم الإسلام، والجذر اللغوي لكلمة «أدب» في كل دلالاته وثيق الصلة بالقيم الأخلاقية ف «الأدب» - بسكون الدال- هو الدعوة للزاد، وهو عين الكرم، والكرم مفردة أخلاقية، والتأديب تهيئة نفسية وسلوكية لتمثل المكارم الأخلاقية، وإطلاق كلمة «أدب» مسمى لتدارس الشعر والنثر إطلاق مولد، نظر فيه إلى التأديب والدعوة، ولقد قيل للمعلم مؤدب، لأنه يحمل طلابه على مكارم الأخلاق، فالأدب دعوة وتطويع، ومن ثم تصبح كلمة «أدب» مرتبطة بالقيم الأخلاقية على كل دلالاتها، والتمرد على الآداب السلوكية خروج على مقتضى الدلالة، والشاذ يفقد مسوغه، وأدب الرذيلة لا يعد أدباً بالمفهوم الأخلاقي، وإن كان أدباً بالمفهوم الفني، والدول التي تعتمد الحرية الدينية والسلوكية، يروعها الانحراف الخلقي، ومن ثم تحاول محاصرة الأخلاقيات المسفة، وإن حماها قانون الحريات الشخصية، وحين أصبح دور الأدب المتهتك في الانحرافات السلوكية دوراً فاعلاً، تحرف المسؤولون عن الأخلاقيات لترشيده والحد من تهتكه. ولقد ارتفعت نبرة الجدل حول أولوية الجمال أو الجلال، وإذ يسلم الجميع بأن الجمال الحسي مرتبط بالغرائز، فإنهم يسلمون بأن الجلال المعنوي مرتبط بالقيم المعنوية، والإنسان في النهاية مجموعة قيم، وليس مجموعة غرائز وحسب، ذلك أنه بالقيم يمتاز عن سائر الأمم، فالغرائز قاسم مشترك بين الإنسان والحيوان، بينما القيم الأخلاقية خاصة بالإنسان. وتبعاً لذلك يكون الجلال المعنوي شرط الجمال الحسي وأسُّه، وجمال القيم والأخلاق أهم من الجمال الحسي، وشرف اللفظ والمعنى أزكى من شرف اللفظ وحده، وقد نبه المشرع حين حذر من «خضراء الدمن» وأكد على مكارم الأخلاق في أكثر من آية وحديث، والأخلاقيات المطلوبة في الأداء الإبداعي امتداد لاهتمام الإسلام بالأخلاق، وحرصه على عدم الجهر بالمعاصي، وحديث «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» يؤكد أهمية التستر، وعدم إبداء الصفحة، فمن بدت صفحة خطيئته لزم ردعه وأطره، وإشاعة الرذيلة عبر الكلمة الجميلة عين التهتك، وعين المجاهرة وبدو الصفحة، والعملية الإبداعية طاقة موجهة، فلابد أن تكون بناءة. - ومن مسوغات «الأدب الإسلامي » ما عليه الآداب العالمية والعربية من سقوط وانحراف وهبوط في المستويات الفنية واللغوية، ف «الأدب الإسلامي» هدفه إقالة عثرة الأدب العربي، والنهوض به من كبواته المتعددة، والمتابعون لفيوض الإبداعات والدراسات والكتابات: التنظيرية والتطبيقية، يدركون الانحرافات الواضحة عن جادة الصواب، انحراف فكري، وسقوط أخلاقي، وتمرد على الشرط الفني، وإلغاء لخصوصيات الأنواع الإبداعية، وتفلت على ضوابط اللغة، وترد في مهاوي العامية، ونسف لقنوات التواصل، بافتعال التغامض، وخلق الأسطورة، وتعمد التغنص. «والأدب الإسلامي» يسعى لتلافي ذلك كله، ويتعمد إشاعة القيم الفنية واللغوية والأخلاقية على حد سواء، ويحرص على حمل الناس عليها طواعية لا إكراهاً، وهدفه أن يقدم مشروعه بالتي هي أحسن، لا يكره الناس على أن يكونوا أدباء إسلاميين، إنه دعوة سلمية، تحاول إغراء المتعطشين إلى الكلمة الطيبة والقول السديد بالنهوض بهذه المهمة قولاً وتلقياً، ولما كانت طائفة من دعاة «الأدب الحديث» تعيش عالة على كل القيم الفنية والدلالية الغربية، ولما كان مشاهير الأدباء المعاصرين في لهاث وراء سرابيات المذاهب والتيارات الوافدة، كان لابد من التماس قيم عربية وأخلاقيات إسلامية تميز الأدب العربي عن غيره من الآداب، والمتابع للمشاهد الأدبية لا يسمع إلا بمذهب غربي، ولا يعايش إلا ظاهرة غربية، والأدباء العرب يصطرعون حول قضايا ومذاهب لا تمت إلى الحضارة الإسلامية بصلة. لهذا كان لابد من استشعار الواقع المتردي للأدب العربي، والعمل على تلافي نقاط الضعف سعياً وراء إقالة العثرة. و«الأدب العربي» جزء من مفردات الحضارة الإسلامية، منها ينطلق وإليها يعود، وارتماؤه في أحضان الحضارات الوافدة مسخ له وإذابة لخصوصيته، ولاشك أن طائفة من عمالقته تولت كبر الارتماء في أحضان الغير، ونافحت عمن تعجل إلى الحضارات، دون تضلع من التراث، يمكن من التمثل، ووسط هذا التهافت على المستجد دون وعي ودون حاجة اقتدار وتمثل، كان لابد أن يكون لنا أدبنا المتميز الذي يستصحب التراث، ويتفاعل مع المستجد، لا ينسلخ من قيمه الفنية والأخلاقية، ولا يعتزل المعاصرة، فالناس أبناء حاضرهم، وليسوا أبناء تاريخهم، والتفاعل الإيجابي مطلب حضاري، ومؤشر قوة واقتدار، وكم هو الفرق بين أن يحتويك الطارئ أو تحتويه، والنزعة التقليدية هي احتواء التراث للمبدع والناقد، وليس تقليد الغرب بأحسن حال من تقليد التراث، والمحافظة غير التقليد، ومحاكاة الغرب ليست تجديداً، ان مهمة «الأدب الإسلامي» أن يحتوي التراث والمعاصرة معاً، ويستن لنفسه طريقاً قاصداً، يستجيب فيه لحاجة الأمة، ويشبع رغباتها المشروعة، ولن يتحقق التميز إلا إذا انطلق أدباؤنا من التصور الإسلامي لله والكون والحياة والإنسان، والتصور الإسلامي لا يناقض أدبية النص ولا شعريته ومن قال بذلك حمل « الأدب الاسلامي » ما لا يحتمل ، وإذا تحققت أدبية النص في الإبداع الوجودي والماركسي فإن تحققها في «الأدب الإسلامي» أولى، وما القرآن إلا معجزة بيانية في الدرجة الأولى، مع أنه وعاء التشريع والتوحيد والقيم الأخلاقية. - ولما لم يكن الأدب في سالف عهوده مؤدلجاً ولا مسيساً لم تقم الحاجة إلى أسلمته، إذ هو إسلامي لتوفر الحاكمية والتزام الناس بالمقتضى الإسلامي وقوة الوازع الديني، وما مرت به عصور الأدب من نزوع صوفي أو شعوبي أو طائفي أو سياسي يعد مبادرات شخصية، وليست مذاهب مقصودة، نجد في أدبنا العربي القديم شعر «الخوارج» و«الهاشميين» وشعر «الشعوبيين» و«المتصوفة» و«الشكوكيين» و«الماجنين»، ولكنها عوارض مقموعة بالغلبة، وليس لها ثبات المذهبية. أما في العصر الحديث فقد تجلى الالتزام، وقامت المذهبية، ودخل الأدب في ضوائق السياسة و«الأيديولوجيات» وحين تعي المذاهب الفكرية أهمية الأدب ومهمته، وتسعى لتوظيفه في خدمة المبادئ والمذاهب يكون من حق المفكرين الإسلاميين استنهاض الأدباء للقيام بواجبهم الإسلامي. ومقاصد «الأدب الإسلامي» لا تقف حيث يكون شعر المواعظ والزهد والتصوف والشعر الديني والابتهالات والأناشيد الإسلامية، إنها مقاصد تستوعب الطارف والتليد، وترمي إلى غايات أبعد مما يتصوره المتحفظون. إن أمامنا أدباً ماركسياً، وأدباً حداثياً، وأدباً وجودياً، تشيع المبادئ والأفكار والقيم بطرائق لا تكون فيها مباشرة الدعوة، إنها تمثل للمبادئ والأفكار، وتحرك وفق مقتضياتها، وذلك ما تسعى إليه نظرية «الأدب الإسلامي»، ولو كان هناك توظيف واع وقاصد للأدب العربي لما كان هناك تفكير في الأسلمة، ذلك أن الأدب إسلامي بطبيعته، وذلك ما يجنح إليه البعض ممن يتحفظون على التسمية، ولا يعترضون على الممارسة، ولكن «الأدلجة» حين حادت بالأدب العربي عن طرائق العفوية، أصبح من الضروري طرح مشروع «الأدب الإسلامي». - وفوق هذا وذاك فإن الأدب «كلمة» وللكلمة رسالة تواكب رسالة المسلم في الحياة، فما رسالة المسلم في الحياة، قبل أن يكون مبدعاً، وبعد أن كان؟ إن «الكلمة» مسؤولية {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ } { وّقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا} {وّهٍدٍوا إلّى الطَّيٌَبٌ مٌنّ القّوًلٌ } {إلّيًهٌ يّصًعّدٍ الكّلٌمٍ الطَّيٌَبٍ } {لا يٍحٌبٍَ اللهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ پًقّوًلٌ إلاَّ مّن ظٍلٌمّ } وإذا كان الإنسان محاسباً على ما يقول، وإن تصور أنه في قوله يخوض ويلعب، فإن من واجبه ألا يقول إلا حسنا، أحسب أن الواقع المعاش يستدعي مثل هذا المشروع، فالواقع العالمي وواقع الأدب العربي يقتضيان التحرف السليم لصناعة الكلم الطيب والقول السديد، مع الاحتفاظ بحرية الأديب وأدبية النص، فالأدب غير الفقه وغير التفسير وغير التاريخ، ولكنه يستمد منهما ما يحقق انتماءه لحضارته، وما حضارته إلا الإسلام، وما الإسلام إلا أمر ونهي وحرام وحلال وأطر على الحق، يقع على القول مثلما يقع على الفعل، والحرية لا تكون إلا بضوابطها. |
مكة المكرمة في عيون المثقفين والأُدباء..!!
د. حسن بن فهد الهويمل الحديث عن وادٍ غير ذي زرع في عيون المبدعين والمثقفين كافة يصرف الأنظار إلى ما تمتاز به تلك البقاع، وهو امتياز لا يضارعه امتياز، وأيّ مبدع أو متحدِّث أو متعقِّب لفيوض العطاء لا ينفك من ذلك الامتياز، لأنّه المهيمن، ولأنّه ثر العطاء، يجم على المتلقِّي حتى يكاد يغرق بالمعلومات. وكيف لا يكون الأمر كذلك؟ وأفئدة الناس تهوي إليها، ويأتيها الرجال والرّكبان من كلِّ فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، وما من متعقِّب إلاّ ويسْتَشْعِرُ تلك الخصوصية، ويستذكر لحظة اللقاء بين السماء والأرض، آمراً بالقراءة مشيداً بالقلم الذي يتعلّم منه الإنسان ما لم يعلم. وفي المستهل أود أن أتقرى ولو بلمس مفاهيم: (المكان) و(المثقف) و(الأديب)، ومدى ارتباط الرؤية بالبصر والبصيرة، وانطلاق البصائر من الخلفية المعرفية والروحية. إذ ما من مبصر أو متبصِّر إلاّ وتعدو حواسه مجتمعة أو متفرِّقة إلى ما وراء المشاهد من قيم: روحية وتاريخية، خافقة بأجنحة الدراية والرواية والمواقف. وما الحديث عن الأطلال إلاّ لما تثيره من ذكريات، وحبُّ الديار مرتبط بكوامنها من الأناسي والأحداث، على حد: (وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار) ومكة حين نقرؤها بهذه الرؤية، في ضجّة الاحتفاء، تتكشّف عن قضايا وأحداث ومواقف أحسبها بعدد المتحدِّثين عبر مختلف القرون. أمّا (المثقف) فهو ذلك الإنسان القارئ بنهم لكلِّ ما تصل إليه يده أو عينه، متفاعلاً مع المقروء، مستثمراً له، في ظل فهم دقيق، وتمثُّل واعٍ. أمّا (الأديب) هنا فهو الموهوب الذي يبدع النَّص الشِّعري أو السَّردي مسجِّلاً لتجربة، أو محدِّداً لموقف. ولما أن فُرض عليَّ الحديث عن تلك الرؤى، لم أجد بدّاً من الرجوع إلى حقل (مكة المكرمة) في مكتبتي، مسترفداً من سبق، وتلك سنّة الله في خلقه. فما من كاتب أو متحدِّث إلاّ هو آخذٌ بنواصي مقروئة يحلب أشطره، ومن ادّعى نقاء نصِّه فقد وهم وأوهم. ولقد أحسست وأنا أتصيّد شوارد المقروء أنّني كما (خراش) الذي تكاثرت عليه الضباء، فما يدري ما يصيد وما يدع. ولأضرب بعض الأمثال، لتجسيد الصعوبة في أطر الموضوع والسيطرة عليه، أشير إلى مفردة واحدة في حقل واحد في زمن محدود، فلو تقصَّينا (أدب الرحلة الحجازية) في العهد السعودي فقط، وهو عهد لم يبلغ القرن، لوجدناه زاخراً بالأعمال الثقافية والأدبية من عرب وعجم: أُدباء وساسة وعلماء ومؤرِّخين واقتصاديين وجغرافيين. وكلُّ راصد لرحلته إلى تلك البقاع يسلِّط الضوء على جانب من جوانب الحيوات الحجازية التي تتنازعها الحاضرة والبادية والأمن والخوف، والرَّخاء والشدّة. والرّاصد الأدبي لهذه الظواهر يتوخَّى أدبيّة النص وثقافته، والراحلون إلى مكة، إمّا أن يكونوا حجّاجاً أو عُمّاراً متعلّمين أو مجاورين، وقد يطلبون على هامش ذلك فضلاً من الله عبر البيع أو الشراء. ولكلِّ قادم خلفّيته الثقافية التي تحمله على تسجيل أحداث وقضايا تختلف عمّا يسجِّله الآخرون، والقارئ لا يستغني بشيء، ولا يستغني عن شيء. فالأديب المصري (إبراهيم عبد القادر المازني) - على سبيل المثال - بوصفه كاتباً صحفيّاً يسلِّط الضوء على العادات والأزياء، ويصف المَشَاهِد والمشاعر وطرق الحج، فيما يهتم (عبد الغني شهبندر) بالجوانب الاقتصادية. والراحلان متقاربان زماناً، مختلفان ثقافة وهمّا. فيما تأتي رحلة (محمد بهجت البيطار) مركِّزة على حياة البادية. ولو تجاوزنا في (أدب الرحلة) خاصة إلى ما قبل العهد السعودي، لوجدنا العجب العجاب، وللقارئ أن يستعرض (مرآة الحرمين) أو (الرحلات الحجازية والحج ومشاعره الدينية) للواء (إبراهيم رفعت باشا) في السنوات من 1318 إلى 1325هـ ليقف على صور الحياة البائسة واختلال الأمن ومعاناة الحجاج في حلِّهم وترحالهم، واستعدادهم كما لو كانوا محاربين. فأيّ عيون نقتفي أثرها؟ وأيّ رؤية نأخذ بعصمها، وأيّ قول نكتفي به؟ ولك أن تقول أكثر من هذا عن الإبداع السّردي. أمّا الشعر فخلق آخر، لا يحيط ببعضه أولو العزم من الدارسين، ولو استمدّ الكاتب مداد الأرض ما كان له أن يستوفيه. ولربما كان مشروع الدكتور (عبد العزيز راشد السنيدي) المعجمي الحصري عمّا ألّف عن (مكة) قبل العهد السعودي وبعده، وعن (الحج)، ومشروع الدكتور (منصور بن إبراهيم الحازمي) المعجمي عمّا اشتملت عليه جريدتا: (صوت الحجاز) و(أم القرى) من مقالات ودراسات وإبداعات، ومشروع (دارة الملك عبد العزيز) عن (الملك عبد العزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى)، ومشاريع أخرى لا نعلمها، هذه المشاريع إطلالة متواضعة ومحدودة على الكم الثقافي والأدبي الذي صوّر أرض القداسات في عيون الأُدباء والمثقفين وهي بمجموعها كما الكوّة النافذة إلى عوالم شاسعة، لا تحيط بها الأبصار. وما أحد بقادر على أن يحدد الرؤى والتصوُّرات لو أنّه فرغ لجمع العناوين فضلاً عن الحديث الموجز أو المفصّل عن أنواع النصوص. والقارئ لعناوين الكتب يكتشف أنّ مكة تثير كوامن النفوس، وتثوِّر ما تراكم فيها، ليكون تعبيراً عن الذوات من خلال المثير، وذلك مؤشّر لعبقرية المكان، ومتى عرف أن من فرض في الأشهر الحرم الحج شدته انتماءاته الفكرية والعقدية والمذهبية وخلفيّاته الثقافية، وقال قولاً له خصوصية الذات المثارة بفعل خصوصية المكان. وفيما يتعلَّق بالرؤية الأدبية الحديثة نجد أنّ موسوعة (مكة المكرمة الجلال والجمال) تمثِّل إطلالة دراسية، سجَّل الباحثون فيها رؤيتهم لهذه البقاع الطاهرة من خلال الأدب العربي في المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص. ومكة تحتلُّ في ذاكرة الشِّعر القديم والحديث أعلى المراتب وأوسع المساحات، وهي الأكثر حضوراً في الشِّعر العربي كافة والشِّعر السعودي خاصة. وكيف لا تكون، وهي مهبط الوحي، ومصدر الإسلام، ومن ربوعها انطلقت قوافل الجهاد والدعوة والتعليم، وعند بيتها المحرّم التطمت أمواج المعارف، وعلى أديمها وُلد الهدى ودرج، وتحت كلِّ صخرة فيها حدث غيّر وجه التاريخ. ومنذ أن قصدها (أبو الأنبياء) ورفع القواعد من البيت حتى اليوم وهي مادة الحديث ومداده، ومن مغارات جبالها انبثق النور، وأشرقت الدنيا بنور ربها، ولجبالها وشعابها حضور في التاريخ القديم والحديث فضلاً عن مشاعرها وبطاحها، وكلُّ وافد إلى مكة يرى في شواخصها الجلال والجمال. وكلُّ مستعرض للتاريخ يحس بدورها في إلهام الشعراء ونجدة المؤرّخين. والشعراء يفعمهم الحب والوله، ويحدوهم الإيمان إلى تمجيد الجبال والشِّعاب والضراب والآكام: (أيا قمة فوق هام الخلود سمت بسناها الشذي العطر) ... (هناك حيث شعاب الله مجدبة وإنما خصبها عَفْوٌ وغفران) وإذ لا يكون الإحساس إزاء (مكة) مادياً فإنّ الشعراء رأوها كما لو كانت قنينة عطر أو جدول ماء، حتى لكأنّك تعصر الحجر ميثج الماء الفرات، يقول حسين عرب: (ترابك أندى من فتيت معطر وصخرك أجدى من كريم الزمرد) ويقول: (والمحاريب والمشاعر كون ناطق بالتقى وبالإيمان) ولأنّ ربوع مكة لم تكن مجرَّد مكان تطرقه الأقدام، ويجوس خلاله ذوو المآرب الدنيا، فإنّها ألهمت الشعراء، وأثرت الأُدباء، وفجَّرت المواهب. إنّها أكوان من المعارف والثقافات والأحداث، تموج بها ربوع مكة في الغدوِّ والآصال. إنّها سجلاّت منشورة، لم ترفع أقلامها، ولم تجف صحفها، وكيف يرفع التاريخ ريشته ويريق محابره وأفئدة الناس تهفو إليها من كلِّ الفجاج، وعمّار المساجد يطهِّرون بيت الله للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السُّجود. لقد هبّت طائفة من أصحاب الدراسات العليا لتقصِّي هذا اللون من الإبداع، فكان أن أغنوا المكتبة العربية برسائل التطمت فيها الإبداعات الأدبية والدراسات الأدبية والاجتماعية، بحيث تجسَّدت من خلالها رؤية الأُدباء والمثقفين لتلك البقاع الطاهرة، فكتبوا عن الشِّعر في الحج وعن سائر الحيوات الأدبية والاجتماعية وعن عدد من الأُدباء والعلماء، وعن الزعماء في عيون المبدعين، وكلُّ متحدِّث تفرض مكة نفسها عليه لتحتلّ المكان الأوفى. |
ريادة أم القرى في معركة البناء
د. حسن بن فهد الهويمل من فضول القول الحديث عن تصدر (مكة المكرمة) للأحداث الجسام في التاريخ الإسلامي. والحديث عنها لا يبرح نطاق القول المعاد أو المعار، غير أن الاحتفاء يفرضه، وإن كان مكروراً. وأمجاد (أم القرى) محفورة في كل ذاكرة تقدر مكة حق قدرها، وكأن المتحدث عنها لا يريد من حديثه إلا بركة القول السديد ومثوبة الكلم الطيب. وقرَّاء المعاجم والفهارس عما أُلِّفَ عنها أو قيل فيها يقفون على ما يتوقعونه من هذا الكم المعرفي بكل تشعباته وتنوعاته. إذ ما حظيت مدينة في التاريخ الإنساني بقدر ما حظيت به (مكة المكرمة)، وستظل في الذورة ما بقي الذكر الذي تعهد الله بحفظه. وإذ بهر (البغدادي) المشهد التاريخي ب(تاريخ بغداد)، واستثار (ابن عساكر) دهشة المؤرخين ب (تاريخ دمشق)، فإن ما اشتملت عليه صفحات مؤلفيهما بعض ما لِ (أم القرى). وتاريخ المدن يتسع لكل شؤونها، أما التاريخ ل (أم القرى) فلا يتسع إلا لبعض مفرداتها. واتخاذ (مكة المكرمة) عاصمة للثقافة الإسلامية في مستهل الربع الثاني من القرن الخامس عشر محاولة للتذكير بمدينة ينتمي لها كل مسلم، ويستقبلها كل مؤمن، والشوق إليها عريق:- وذو الشوق القديم وإن تعزى مشوق حين يلقى العاشقينا وكلما أعيدت قراءتها تجلت عن جلائل الأعمال وجميل السمات. وكأني بهذه المناسبة تتماهى مع أيام: الأم والصحة والطفل، إنها مجرد محطة، للتأمل والتفكر، واستذكار ما يجب استذكاره. و (مكة المكرمة) حين يحتفي بها المسلمون، ويتناولون مفردات من تاريخها المجيد، لا يقدرون على استيفاء مفردة واحدة، فضلاً عما سلف، وعما هو قائم، وعما يعد به عصرهما الذهبي. ووسط دوائر الضوء المنداحة اتخذتُ مقطعاً زمنياً، لا يتجاوز ثلاثة عقود، وهي المدة الزمنية الممتدة من دخول المؤسس إلى وفاته، أي من عام 1343هـ إلى 1373هـ، فالبداية من العام الذي استعاد فيه الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - (مكة المكرمة)، والنهاية هي العام الذي قضى فيه نحبه، بعد عمر حافل بجلائل الأعمال. وفي خضم هذه المدة القصيرة في عمر المدن التاريخية اتخذت مفردة واحدة هي (ريادتها في معركة البناء) التي خاضها المؤسس. ومع الضوابط والحدود فإن أشياء كثيرة ستند عن الذاكرة، إذ كل مهتم بتاريخ تلك البقاع تفيض ذاكرته بأشياء غائبة عن ذاكرة من سواه. والمتقصي للتاريخ الحديث لقلب الجزيرة العربية، لا يعزب عن علمه الدور الإيجابي الذي نهض به المؤسس في معركة البناء الذي كان منطلقه (مكة المكرمة). وحياة المؤسس أوزاع بين معركتين: - معركة التكوين. - ومعركة البناء. وأحسب أن كل الصيد في جوف المعركة الحضارية: معركة بناء هذا الكيان على هدي من الشريعة وتجارب الإنسان السوي، وقراءة هذه المعركة تضع (مكة المكرمة) فوق الذرى، بوصفها المنطلق لكل الحراك الحضاري، ففيها ومنها انطلقت مشاريع المؤسس الحضارية، لقد استوفت متطلبات المجتمع المدني من قبل. وما إن استعادها المؤسس حتى بدأت حركة التأسيس الحضاري لهذا الكيان. ولا شك أن حكمة المؤسس وعبقريته أعادتا الثقة للشبيبة الحجازية، وحفزتهم على مواكبة مشروعه الحضاري. واندفاع رجالات العلم والفكر والأدب والإدارة في الحجاز للعمل الصادق المخلص في ظل قيادة المؤسس أتاح لها أن تكون رائدة المدن. ولو استعرضنا أوليات التحديث لوجدناها تنطلق من فجاج (مكة المكرمة)، فالصحافة والطباعة والتعليم النظامي وسائر المؤسسات المالية والصحية والبريدية والبرقية والضريبية وغيرها، كلها انطلقت من ربوع الحجاز. ومنذ أن دخل المؤسس (مكة المكرمة) والحراك الحضاري على أشده، لا يند عن ذلك شيء، ولوصْل الحبل السري بين مكة وبقية المناطق أقام المؤسس أنجب أولاده وأقدرهم على الفعل الحضاري نائباً له في الحجاز، ولم يفعل ذلك في أي منطقة أخرى، وفي ذلك إشارة قوية على أهمية الحجاز وتوفره على متطلبات الحضارة. لقد دخل الملك عبدالعزيز الحجاز و(الثورة العربية) التي يقودها (الحسين بن علي) رحمه الله على أشدها، وهي ثورة فرضتها حملة التتريك، ولا أشك أن هذه الحملة العنصرية دسيسة استعمارية، أضافت إلى مصائب (الرجل المريض) أفدحَ المتاعب، وهي دعوة قومية عنصرية منحت الأمة العربية مشروعية الانفصال والنضال. ولم تئن مكائد الأعداء عن إذكاء حماس الطرفين: الشبيبة التركية الساعية لتتريك العالم الإسلامي، والشبيبة العربية المحافظة على عروبتها. ولأن (الثورة العربية) في وجه التتريك بحاجة إلى مزيد الإمكانيات فقد توفرت للحسين بن علي - رحمه الله - كل الإمكانيات المادية والبشرية، حيث وفد عليه الهاربون من مطاردة الأتراك في الهلال الخصيب. والمعروف أن الأتراك ضيقوا الخناق على القوميين العرب، وعلى العروبيين، وعلى نصارى الشام ولبنان، الأمر الذي فتح باب الهجرة إلى آفاق المعمورة. فكان أن نشأ (الأدب المهجري) في أمريكا الجنوبية والشمالية، فيما اتجه العلماء والإعلاميون والأدباء الإسلاميون من الهلال الخصيب إلى (مكة المكرمة) يحدوهم الأمل بالثورة العربية التي يقودها الحسين بن علي ضد التتريك. هذا الحراك الذي واجهته تركيا بالمطاردة أسهم في توجه عدد من علماء الشام وأدبائه إلى الحجاز والانضمام إلى الثورة العربية. ولما أن استعاد المؤسس البقاع الطاهرة، تلاقح مشروعه بهمِّ العروبة والإسلام، واستمرت تلك الجهود في الأداء، مما جهز الأرضية المناسبة لريادة (مكة المكرمة) في مشروع التحضر والمدنية الذي باشره المؤسس. ولأن دخول الملك عبدالعزيز للحجاز كان في أعقاب معركة التكوين فإن استفادته أكبر، لأنه ترك التناوش خلف ظهره، واتجه صوب البناء. لقد عاد المؤسس من منفاه في (الكويت) عام 1319هـ والبلاد ترزح تحت نير الفرقة: القبلية والإقليمية، في ظل تركيبة سكانية رعوية متموجة، فكان أن تتبع أقصى دائها فشفاها بالوحدة والعلم والعمل والتحضر. والمستفيض انطلاق هيكلة الحكم ونظامه ومؤسساته وإعلامه وسائر شؤونه من الحجاز. ف (مكة المكرمة) التي كانت مهبط الرسالة ومنطلق الإسلام، كانت ولمَّا تزل مصدر إشاعة لكل مقتضيات الحضارة الإسلامية، وليس بغريب أن تنطلق منها بوادر المجتمع المدني إلى آفاق المملكة. - فعلى مستوى التعليم سبق الحجاز مناطق المملكة في استحداث التعليم النظامي، وما إن بدأ التوسع فيه، كان لأبناء الحجاز دور في النهوض به، ولما أزل أذكر ما يتناقله أبناء (بريدة) من أخبار عن أول شاب حجازي جاء إلى (القصيم) يدعى (موسى عطار) لفتح أول مدرسة ابتدائية نظامية عام 1356هـ، ولما أن استقامت، واستقطبت الطلاب والمعلمين، لم يطل مقامه فيها، بل أخذ طريقه إلى (المجمعة) لفتح مدرسة أخرى. ولا تخلو منطقة من مناطق المملكة من رجالات الحجاز. وحين احتاجت البلاد إلى مؤهلات عليا، كانت (مكة المكرمة) موئل المعاهد ومدارس تحضير البعثات والكليات. ولحرص المؤسس على إشاعة العلم وتعميم المدارس وجه بأخذ النابهين والمتفوقين من شباب البلاد بالقوة لمواصلة دراستهم في (مكة المكرمة) فكان أن عادوا بعد استكمال دراساتهم الشرعية واللغوية إلى مراكز القيادة في أنحاء البلاد، ولمَّا تزل مكة مثابة لطلاب العلم والدراسات العليا على الرغم من تعميم التعليم وتعدد الجامعات والكليات، وستظل رائدة التعليم، وستظل أفئدة طلاب العلم تهفو إليها. - وإذا تخطينا الريادة التعليمية إلى الريادة الأدبية، تجلت لنا إبداعات ومبدعون، ونقاد ودارسون، تجاوزت سمعتهم أنحاء البلاد إلى آفاق العالم العربي، وكانت ريادتهم للحركة الأدبية في المملكة موطن إجماع عند كل المؤرخين للأدب العربي في المملكة، وليس بالإمكان استعراض الشعر والشعراء، ولا الأدب والأدباء، ولا الروائيين والقصاص، ولا كتاب السير الذاتية وأدب الرحلات، وإذ لا نقدر على التقصي فلا أقل من الإلماح. - ففي مجال الأدب بمفهومه الشامل إبداعاً ودراسةً ونقداً وتأريخاً نجد الأديب (محمد سرور الصبان) الذي يعده الدارسون رائد الحركة الأدبية، فهو إلى جانب إبداعاته الشعرية المتألقة ناقد حصيف ودارس متقصٍ ومؤرخ دقيق، ومؤلفاته على قلتها إذا أخذت بسياقها تنبئ عن وعي مبكر بمهمة الأدب في الحياة. هذه البدايات المتألقة مؤشر ريادة أدبية مبكرة. لقد أرخ (الصبان) للأدب في الحجاز، وحاول تعريف الوفود العربية بأدب الحجاز، كما دافع عن اللغة العربية حين نال منها المهجري (ميخائيل نعيمة) وكان بمجموع أعماله رائد الدراسات الأدبية. كما زامنه، وخلف من بعده من اقتفى أثره في دراسة (الأدب الحجازي)، يقدم أولئك الخلف (عبدالمقصود خوجه) و (عبدالله بلخير) و (عبدالسلام الساسي) وآخرون تفرقت بهم السبل، ولكنهم يلتقون جميعاً في هم التواصل مع الآداب العربية المعاصرة. - وإذا تجاوزنا الدراسات الأدبية والحركة النقدية، وجدنا فجاج مكة وشعابَها مسرحاً للشعر والشعراء الذين شكلوا فيما بعد ما يشبه المدارس الشعرية، كما ألمح إلى ذلك بعض الدارسين، بحيث قسم الشعر الحجازي الحديث إلى مدرستين:- - مدرسة الصبان. - ومدرسة الغزاوي. فجعل مدرسة (الصبان) أميل إلى التجديد، ومدرسة (الغزاوي) أميل إلى المحافظة. ومن مدرسة الصبان:( العربي) و (الزمخشري) و (عرب) و (قنديل). ومن مدرسة الغزاوي:( شاكر) و (النقشبندي) و (ضياء). ولن ندخل في التفاصيل ولا في الاستقصاء، فالشعر في الحجاز أكبر من أن يُحاط به، ولكنها إشارات تغني عن الوقفات، إذ القصد إثبات الريادة لهذا البلد الأمين. - وإذا عدونا الحركة النقدية والشعرية استوقفتنا الحركة السردية، و (مكة المكرمة) رائدة الإبداع القصصي بدون منازع. وكل المؤرخين للحركة الأدبية في أنحاء البلاد لا يجدون بداً من الحديث المستفيض عن عدد من الرواد في الإبداع الروائي والقصصي، وفي مقدمتهم:- - عبدالقدوس الأنصاي بروايته (التوأمان) التي كانت مثار جدل عنيف بين الكاتب ومن معه من المناصرين من جهة، وبين من لم يرَ قيمةً فنيةً في هذه الرواية، من أمثال (محمد حسن عواد) و (عزيز ضياء) وهي تمثل الصراع الحضاري. - أحمد السباعي في روايته (فكرة) وهي رواية غارقة في الخيال، ومن بعدها تلاحقت أعمال السباعي الإبداعية والأدبية والتاريخية، وهي تمثل الصراع الاجتماعي. - محمد المغربي في روايته (البعث) وتمثل الصراع الثقافي. وإذا كانت الريادة السردية لشبيبة الحجاز، فإن التأسس السردي جاء على يد (حامد دمنهوري). ومع أولئك ومن بعدهم جاء عدد من شبيبة الحجاز الذين أزَّهم الحماس وحداهم إثبات الذات للتفاعل مع المشاهد الأدبية العربية من أمثال (عزيز ضياء) و (محمد حسن فقي) و (محمد حسن عواد). ولقد واكب ذلك رصد تاريخي ودراسي للحركة الأدبية، تمثَّل في موسوعة (الساسي) وكتاباته عن شعراء الحجاز، وفي كتاب (وحي الصحراء)، ومن قبلهم كتاب (الصبان) عن أدب الشبيبة الحجازية، ولقد كانت للمنتديات والصالونات الأدبية أثرها في الثراء الأدبي والاقتداء، و(للبغدادي) رصد للمسامرات والمقاهي الأدبية. - أما على مستوى الإعلام المقروء والمسموع ف (مكة المكرمة) رائدة ذلك كله، ولا ينازعها فيه أي إقليم في المملكة، ولمَّا تزل لها الصدارة في ذلك، ففيها أعلام الصحافة والإعلام، ولقد جاءت (ندوة صحيفة أم القرى) التي نفذتها (وزارة الثقافة والإعلام) بالتعاون مع (دارة الملك عبدالعزيز) مجلية لمنجزات ثقافية وأدبية وإعلامية، وجريدة (أم القرى) ثالث صحيفة تصدر في الحجاز. والفن الصحفي لا يشيع إلا في ظل حركة علمية وثقافية ووجود كتَّاب وقراء، وذلك ما تجلت عنه ندوة الجريدة، فالريادة الصحفية مؤشر عمق ثقافي وشيوع معرفي. ولو تقصى المتابع صناعة الكتاب، واقتنائه، وعراقة المكتبات وكثرة الوراقين، وبداية الطباعة، وتعدد الناشرين، والموزعين، لما وسعه إلا التسليم بأن (مكة المكرمة) تقدم سائر المدن وترود لها. وهي بفضل الحرم المكي الشريف تعد مثابة العلم ومنطلق الثقافة، كما هي مثابة للناس وأمناً، والمتقصي لتاريخها القديم والحديث يرى أنها تقدم المدن والقرى. والحديث عن أي مجال حضاري يكون لها فيه قصب السبق، وريادتها في مختلف مجالات الحياة تبع لريادتها الدينية، فمنها وفيها شع نور الحياة، وولد الهدى، ومنها انطلقت قوافل الدعاة والمجاهدين وحملة مشاعل الرسالة، وستظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها. |
مواجهة المفاجآت المؤلمة في الحج..!
د. حسن بن فهد الهويمل من تصور أنه حين يفرض الحج على نفسه أو على من يلي أمره يكون الحج بالنسبة لهما سياحة ممتعة فقد نسي أو تناسى البلد الذي لا يبلغه الراجلون والركبان إلا بشق الأنفس، والحتم المقضي أنه ليس في وسع أحد كائنا من كان أن يتوفر على كامل الراحة له، أو أن يوفرها كما يريد لقاصدي الحج والعمرة. وحين نسلم كرها بالمشقة بكل تصوراتها وتنوعاتها تكون أمامنا احتمالات الكوارث والأوبئة والحوادث والاختناقات المجهدة، وليس بيد المسؤول عن الأمن والراحة إلا وقف الأزمات عند الحد المعقول، ومحاصرة المشاكل في مهدها، بحيث تكون تحت السيطرة. والسفر بوصفه قطعة من نار، أو هو النار كلها - كما تقول عائشة- رضي الله عنها - جزء من مشقات الحج، بل أكاد أعده الجزء الأسهل في سياق تبعاته، وبخاصة حين أمَّنت السبل وعبدت الطرق، وتعددت وسائل النقل. والخبيرون باستعدادات الدولة للحج يستبعدون كافة الاحتمالات السيئة، ولكن المفاجآت تأتي بما لا يشتهي المسؤول، ولكل موسم مفاجآته غير المتوقعة وغير السارة. ومن تلك المفاجآت غير الحميدة سقوط العمارة القائمة في موقع حساس ومهم، لا يمكن معه تصور بقاء مبان آيلة للسقوط في موقع كهذا، ولكنه قضاء لا مرد له، ومن ذا الذي يتصور حدوث مثل ذلك في ظل الإمكانيات المذهلة التي تملكها الدولة وتسخرها، ولا أشك أن حدثا كهذا ناتج ثغرة تركها حراسها مثلما ترك الرماة الثنية في (غزوة أحد)، ولقد تداولت المشاهد الإعلامية هذا الحدث الأليم، وتلمست الأسباب، وضربت في متاهات الاحتمالات، وفي زحمة الأقاويل، وتعدد الآراء، وتدفق المعلومات، وقفت على خبرين يجب أن يكونا بداية الخيط الموصل إلى مكمن الداء: الخبر الأول: ما جاء على لسان العمدة قوله: إن المبنى معروف من ثلاثين عاما، وقد أضيف إليه قبل أربع سنوات طابقان. والخبر الثاني: قول المالك: إن لجنة الكشف على المساكن أعطت شهادة بالصلاحية. وأمامهما تكون الكرة في سلة (الأمانة) أو (اللجنة)، وليس الهدف من تحديد المسؤولية التمهيد للقتل، أو الاستعداد لقطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو ممارسة النفي من الأرض لمقترف الخطيئة، وإنما الهدف وضع الأمور في مواضعها، ومساءلة الجهات المهملة أو المواطئة: أفرادا كانوا أو مؤسسات، وإيقاع الجزاء المناسب ليشهده من سيخلفهم، فإذا كان الخطأ ناتج تحميل أدوار على أساسات لا تحتمل، فهذه مسؤولية (أمانة العاصمة المقدسة)، فمن أعطى الفسح؟ وعلى أي أساس أعطاه؟ وهل تم ذلك عن جهل أو إهمال أو محسوبية؟ وإذا كان الخطأ ناتج استهلاك للعمر الافتراضي، فمن منح المبنى حق الاستثمار؟ والخبران مع أهميتهما يحتملان الصدق والكذب، إذ ليس من حق أحد أن يكون الخصم والحكما، وإذا أتى المحاسبون يجادلون عن أنفسهم يوم الدين فإن من حق المتهم أن يجادل عن نفسه، وليس من حقه استبعاد المحاكمة والمعاقبة، والمالك والمسؤول سواء أمام العدالة. إن تحديد المسؤولية لن يعيد الحياة لمن مات، ولكنه كما القصاص {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}. وعندما جاء الإسلام شرعة ومنهاجا، قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} وكان حقا على السلطة التشريعية محاسبة السلطة التنفيذية أمام السلطة القضائية عن كل تقصير أو تهاون أو تحايل. والذين يجملون القول، ويلقونه على عواهنه، ويتولون كِبر الإفك يلمزون الدولة بتقصير المنفذين، واحتيال المتلاعبين، ولا يكلفون أنفسهم التفريق بين السلطة المشرعة والسلطة المنفذة، ولا معرفة ما يبذل من أموال وجهود وطاقات بشرية، ولا يقفون على ما يجود به أهل الدثور من مأكل ومشرب ومأوى لأبناء السبيل. وما علموا أن الدولة تنفق بسخاء، وتجند كل الطاقات، وتضع أدق التعليمات، وترسم أشمل الخطط، وتشكل فرق العمل، وإذ لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم فإنه إذا جهل فرد، أو ضعفت نفسه، وأفسد جمال الموقف وجلاله وجب أن يحاسب حسابا عسيرا. و(رئيس لجنة الحج العليا) وعد بأنه لن يدع الأمور تمر بسلام، وحسنا فعل، ذلك أن الدولة حين لا تقصر ولا تبخل يحق لها أن تحافظ على سمعتها، وليس من العفو المحمود الإغماض فيه. وبعد أن تجرعنا مرارة السقوط غير المتوقع، فوجئنا بما هو أكبر، وهو حادث الجمرات المتوقع، وهذا الحدث تكرر أكثر من مرة، وما كان له أن يكون بهذا الحجم في ظل الإمكانيات المادية والبشرية المبذولة بسخاء، ولكنه وقع، ولقد ردت الأسباب للازدحام ولحمل المتاع في ساعات الذروة، ولجهل الحجاج، وعدم تقيدهم بالتعليمات، أو عدم معرفتهم بها، وهذه الساعة العصيبة تمر بالمنظمين في كل عام، وكم نود أن تكون حاضرة المشرفين، لقد حصل التدافع، ووقعت الواقعة، وكل حاضر يشهد بما علم، والإعلام المرجف يلتقط ما يسمع، وقد يضيف أو يحذف، وما فات لا يرد، ولكننا بصدد ما هو آت، لكيلا تتكرر المأساة. أعرف جيدا أن الدولة لم تدخر وسعا، ولم تتوان في تطهير بيت الله للطائفين والعاكفين والركع السجود، وأنها ستبذل المزيد في سبيل العتق من هذه المنخنقات، والتطوير الذي باركه (خادم الحرمين الشريفين) سيحل كثيرا من إشكاليات الجمرات، ومع كل الاحتياطات تبدو ثغرات وثنيات لابد من استحضارها في كل موسم. لقد تحدثت مع عدد من الحجاج العائدين واستطلعت آراءهم حول ما كان، وما يجب أن يكون، ولا أستبعد أن يمارس المسؤولون ذات الاستفتاء، وأن يجمعوا كل ما يمكن جمعه من المعلومات، وأن يحللوها، ويخرجوا بنتائج إيجابية، ولا أشك أن (مركز أبحاث الحج) يستبطن الشيء الكثير من الخبرات والتوصيات، وما سنقوله نقطة في بحر لجٍّي، ولكننا سنقول، وعلى المعني بأمر الحج أن يرحب صدره، وأن يلقي السمع وهو شهيد. ولا مفر، ولات حين مناص من ازدياد عدد الحجاج، وتذليل وسائل النقل البري والبحري، ولا خلاص من المخالفين لأنظمة الإقامة، والجاهلين بتعليمات الحج، والمسنين، والمفترشين، والضعفاء، والمغامرين طلبا للشهادة، والمتشددين في الأنساك، وتلك عوائق لا يمكن حسمها بسهولة، ومهما كانت التعليمات صارمة فإن هناك أكثر من ثغرة ينفذ منها المفسدون لروعة الحج وروحانياته، وأمام تلك الحتميات لابد من أخذ الاحتياطات اللازمة، ومواجهة القدر المأزوم بكل قوة، واختيار الأيسر من الأنساك، واعتماد قول رسول الرحمة للمستفتين: (افعل ولا حرج)، واستبعاد الوقافين عند المقدم في المذهب، وعلى مستوى الكثافة فإن التقديرات المرتبطة بإحصائيات المنافذ البرية والبحرية والجوية وقوائم المصرح لهم من الداخل من الموهمات، إن العدد الحقيقي أكثر من هذا بكثير، فهناك المقيمون بمكة، والمتسللون إليها، والمتخلفون، والمخالفون للتعليمات من حجاج الداخل: مواطنين ومقيمين الذين ينفذون إلى المشاعر مشيا على الأقدام، وترتيب الأمور على ضوء الإحصاءات الرسمية من المضلات، وأقوى المحرضات ما يمارسه الخطباء في المساجد والواعظون المتطوعون في التجمعات من حث على موالاة الحج والعمرة، مع ما في ذلك من مخالفة صريحة وآثمة لأمر ولي الأمر الذي لا تتم مقتضيات البيعة الشرعية إلا بطاعته، متى لم يأمر بمعصية، وحيث إنه ربط الحج بالرخصة تفاديا للاختناقات المهلكة، وقرر عدم التكرار إلا بعد خمس سنوات فإن المتحايل آثم، والمواطئ آثم، والمفتي آثم، وما يتعرض له الحجاج من اختناقات يمس الإثم المخالف والمفتي والمحرض، ولا يستخف بالتعليمات والضوابط المؤيدة من هيئة كبار العلماء إلا من فيه خصلة من الثوريين أو الخوارج. والحياة بكل وجوهها لا يستقيم أمرها بدون سلطة مطاعة تزن الأمور، وتعرف المباح الممكن والمباح غير الممكن، بل لا تكفي الطاعة وحدها، إذ لا بد من إشاعة الأمر والتأكيد على تنفيذه، وواجب العلماء والفقهاء والمفتين وسائر المتنفذين إعلاما وتعليما أن يؤكدوا على إثم المخالف، وأن يحذروا العامة من مغبة عدم السمع والطاعة. والقادرون على الإنفاق والراغبون في التزود من التقوى لديهم مجالات واسعة، والأفضل من الحج المخالف للضوابط الملزمة شرعا أن يدفع المقتدر الممنوع بقوة المصلحة العامة نفقة حاج فقير، لم يؤد فريضة الحج، أو أن يسهم في أي عمل خيري، حتى ولو كانت نفقة الحج الممنوع. ومشكلتنا المستعصية أننا لم نعِ بعد الفكر السياسي الإسلامي، ولو فهمناه حق الفهم لكان من أوجب الواجبات الاستجابة لله والرسول وولي الأمر، فالمخالفة مضرة بالحجاج الذي يستهمون في بلادهم لأداء فريضة الحج، وإذا تجاوزنا هذه الإشكاليات التي من الممكن تلافيها، أفضى بنا الحديث إلى ما يمكن تلافيه للتخفيف من توقعات الكوارث والأوبئة والحوادث، والدولة ساعية جهدها لاستكمال البنيتين: التحتية والفوقية للمشاعر، ولكنها بحاجة ماسة إلى مساندة الصفوة من العلماء والمفكرين والإعلاميين للتوعية والإرشاد. وتلافيا لمفاجآت الجمرات الموجعة لابد من تفادي صد الأمواج أو حبسها وعدم التمكين من التكتلات البشرية، فالأمواج البشرية حين تقدم وهي متماسكة لا تفكر إلا بالوصول إلى حوض الرمي، وحين تصدر لا تفكر إلا بالخلاص، وعامة حجاج الآفاق من الضعفاء والمسنين والعجم، ونظرا لأن الرمي محاط بعقبات زمانية ومكانية محدودة، لا يمكن تفاديها فإن هناك ما يمكن تفاديه، وهو التفويج، وعدم التكتل، وعدم حبس الأمواج البشرية، ولابد والحالة تلك من الأخذ بالفتيا التي تفتح زمن الرمي، وتجيز التأخير والتوكيل، وتوسيع دوائر الرمي قدر المستطاع، حتى تكون بسعة الملعب الرياضي، وتعدد الأدوار والمداخل، بحيث يكون لكل دور مدخل ومخرج مغاير، والتمكن من إقفال أي مدخل يحصل فيه الزحام، وتحويل الأفواج إلى المداخل الأخرى، ولتفادي عقبات الافتراش الاستعجال في استخدام الجبال على شكل طوابق خرسانية مفتوحة ومدرجة تؤدي إليها أنفاق متعددة المداخل والمخارج، وهذا الاستخدام الجانبي يجعل الوادي فضاء رحبا. وأحسب أنه حان الوقت لاستخدام القطارات التي تحت الأرض لمنع الشاحنات والحافلات وسيارات الأفراد، ولأن الافتراش والتدفق العشوائي مشكلة مستعصية، لا يمكن القضاء عليها بسهولة، ولأن الأثاث المحمول على الظهور من معوقات الانسيابية في العبور والتحرك فإنه لابد من إيجاد آلية تقلص هذه الإشكاليات، وليس هناك ما يمنع من استخدام باطن الأرض في وادي منى كأقبية واسعة للمفترشين، وليس هناك ما يمنع من تسليم قطع من أرض منى للمطوفين والشركات والأثرياء: المحسنين أو المستثمرين لتحويل باطن الوادي إلى أقبية واسعة للافتراش، والامتداد الرأسي على شكل طوابق مكشوفة لكي يخلو وجه الأرض في منى لمن سبق. إن هناك إشكالية المتخلفين، وهم بمئات الآلاف، وإشكالية العمالة وهم بالملايين، وهؤلاء يفدون إلى مكة راجلين أو مهربين من شهر رجب للعمل في هذا الموسم، ولأداء فريضة الحج بثمن بخس، وهذه الكتل البشرية تشكل عوائق كثيرة، وقد يمارسون أعمالا مخلة بالأمن والصحة، ولا سيما أن الأثرياء يوزعون المشرب والمطعم بشكل يكفي للملايين. ولكيلا يكون التسابق في إنشاء المبرات مظنة التكاثر فإنه لابد من وضع آليات تفيد المعوزين ولا تغري على المخالفة. إن حجاج الداخل المدفوعين على التطوع والمتخلفين والمتسللين هم مكمن الخطورة، ولابد من التصرف معهم بحكمة وقوة، ووضع آليات تكفل للدولة نفاذ تعليماتها، وإذا تساهل المسؤول أضاع فرص النجاح، والشاعر يقول: قسا ليزدجروا ومن يك راحما فليقس أحيانا على من يرحم ولابد من وضع الأمور في موضعها الصحيح والسليم: ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى وأمام هذه الكوارث المؤلمة لابد من القوة، ولابد من فرض النظام، وفرض احترامه، ومتى أحس أي متلاعب أن النظام نافذ، وأن مبدأ الثواب والعقاب قائم، وأن الجزاء من جنس العمل تردد كثيرا قبل أن يقدم على التحايل. إن هناك إزهاق أرواح، والدولة معذورة حين تأخذ الأمر بقوة، وتحاسب المخالفين للتعليمات، والمساعدين، والمشجعين، والمفتين، حتى الخطباء والوعاظ الذين يضربون بالتعليمات عرض الحائط، يجب أن يحاسبوا على مخالفتهم، وأن يمكنوا من التفقه في السياسة الشرعية ولا سيما أن (هيئة كبار العلماء) بوصفها المؤسسة الدينية العليا منحت التعليمات والأنظمة الشرعية والنفاذ. ولو أن (وزارة الشؤون الإسلامية) عقدت دورات قبل الموسم، وأبانت لأكثر من عشرة آلاف خطيب أن طاعة ولي الأمر واجبة، وأن التحايل على الأنظمة يعد مخالفة شرعية يأثم الفاعل والآمر، وأن إزهاق الأرواح بسبب الازدحام مرده إلى الموالاة بين الحج والعمرة، ومساعدة المتخلفين والمتسللين، وأن الحجاج الوافدين من المسنين والعجزة، وأن من حقهم علينا توفير الراحة لهم، وأن مكة وشعابها ومشاعرها محدودة المساحة، ولا يمكن أن تستوعب تلك الأعداد الهائلة، وأن حجة الإسلام للفقراء والمستضعفين أهم من حج التطوع من الأقوياء والموسرين، ومن بدر منه خلاف ما تقتضيه مصلحة الأمة وجبت مناصحته أولا فإن امتثل وإلا ردع. إننا في زمن أحوج ما نكون فيه إلى (درة عمر). لقد روعيت مصلحة العامة في التاريخ الإسلامي، والرسول- صلى الله عليه وسلم- ينهى الأقوياء عن المزاحمة في الحج مع أن المزاحمة في سبيل الخير، وينثني عن فعل الفاضل مراعاة لمشاعر العامة. إن الإسلام يقوم على الوسطية والتيسير، ولهذا ربط الحج بالاستطاعة، والرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يحج إلا مرة واحدة طوال حياته مع مرور أكثر من عشر سنوات وهو في المدينة. إن على الإعلام أن ينقل بالصورة والصوت ما يعانيه الحجاج، وما تغالبه أجهزة الدولة، ومتى تمادى المواطن والمقيم في الغي وجبت مساءلة كل متهاون، ومحاسبة كل مخالف، وإن لم نفعل استفحل الخطر، وظل الحج مظنة الكوارث والأوبئة والحوادث والاختناقات، وعلى الدول الإسلامية توعية حجاجها، وتزويدهم بأساليب الأداء الصحيح للشعائر تفاديا للخطر، وعلى حملة الأقلام والمتفقهين في الدين أن ينذروا قومهم في كل موسم لنكون من مطهري بيت الله لقصاده، وما لم يتعاون المواطن مع الدولة فإن ذلك مؤذن لإجهاض أي نظام يخدم الحجاج ويحفظ سمعتها. |
الوأد عند العرب.. بين الوهم والحقيقة (1 - 2)
د.حسن بن فهد الهويمل هذا عنوان كتاب أُهدي إليَّ من مؤلفه الزميل الأستاذ الدكتور مرزوق بن تنباك، حيث ذكَّرني بكتاب سلف لي بعنوان: (حاتم الطائي بين أصالة الشعر وأسطورة الكرم)، ولمَّا أعد إليه إلا بعد أمة، وما كان لي أن أدعه كما سلف من الإهداءات لمكانة صاحبه، ولأهمية موضوعه.. وأنا حفي بالمبادرين للقضايا الأبكار، وبالمتقحمين لغرائب الأفكار، وبالمختلفين معي حول القضايا المحتملة للاختلاف، والمتّسعة لمزيد من الاجتهاد، ولا سيما إذا كان الباحث ذا باع طويل، وطول مكث في غيابة التراث، وإذا كان ذا مصداقية وموقف، وإن نقض غزل الحقائق أنكاثاً، وبخاصة حين لا يبخس متعلّقات الموضوع شيئاً.. فلقد كانت نُقوله وإحالاته واستشهاداته متّسمة بالعدل والثقة بالنفس، وهو إذ ساق ما له وما عليه، فإن المخالفَ له لا يحتاج إلى تجاوز ما جمع، وتلك ثقة وأمانة، قلَّ توفرها في عدد من الباحثين.. والباحث يُقدِّم عصارة المقروء، ولا يعيده كما بضاعة الأسباط.. ومع كل هذه الاحتفالية بما صنع، فإني عازم على نسف رؤيته من قواعدها، إن كنت لها من المقرنين، وإذ منح نفسه حق الْمحو لكل ما قِيل حول (الوأد) فإنَّ من حقنا تدارُّك الأمر، وجمع الأشلاء المبعثَّرة من تحت سنابك خيله ورجله. ولما كانت النتائج التي توصل إليها من الغرابة، بحيث لا يَحْسُن السكوتُ عليها، ولما كانت آراؤه من الجرأة، بحيث تثير أكثر من تساؤل، فقد فرغت لقراءة الكتاب المثير، وحرصت الحرص كله على الكتاب المثير، وحرصت الحرص كله على الوقوف ملياً على الجهد المضني الذي أنفقه في البحث والتنقيب والتجهيز، وأسفي المضوي أن جهده الجهيد سيذهب سُدى، لقيامه على شفا جرف هارٍ. ومرد ذلك أن المفسرين والمحدثين والفقهاء واللغويين المؤرخين المتقدمين منهم والمتأخرين في وجهة، والباحث وحده في وجهة مخالفة.. ومع إصراره على رؤيته الغرائبية وثقته في تقريرها فإنه لا يملك دليلاً علمياً واحداً يعضد به اعتزاله، وما أدري، ولست إخال أدري، أهو يُدافع عن كرامة المرأة، أم يُنافح عن الجاهلية الأولى.. وإذ عوّل على ثلاث حكايات خرافية، وجعل منها مركز القضية، وتصوّر أن نسفها مؤذن بنسف ظاهرة الوأد، فإن الخلوص من مقتضيات النص القطعي الدلالة والثبوت إلى تداعياته مخل بمنهج البحث وآلياته.. وطرائق الباحثين وغرائبية النتائج لن تنسينا براعة التحليل لكافة النصوص المباشرة والمساعدة.. والأمور العشرة التي أجهز بها على الحكايات، أبدت براعة الكاتب، فيما لم تكن الحكايات الثلاث بحاجة لمثل هذا التفكيك، لأنها متهافتة من أساسها، ولمَّا تكن معوّل الباحثين، بحيث تنتهي بنهايتها كل متعلّقات (الوأد) الذي أخرجه المؤسطرون من مستقر المعقولية إلى هلامية العواطف، كما أخرج المفسرون قصص الأنبياء، وكما أُسْطرت الشخصيات الاستثنائية ك(حاتم) و(عنترة)، ولم تكن الأسطرة الطارئة مؤذنة بإنكار القصص أو الشخصيات، وذلك بعض ما فعلته في كتابي عن (حاتم الطائي). وإذ نسلّم بأن الحكايات الثلاث التي قلَّبها الباحث، وقلب من حولها الأمور، لا تصمد أمام البحث، فإن سقوطها البدهي لن يؤثر على ثبات الظاهرة، كما يراها الكافة، لا كما يراها الباحث.. ولأنها أقرب إلى الحكاية الخرافية، فقد رددها كثيراً، وجاء بها مبسوطة وموجزة، وأشار إليها أكثر من مرة، واحتفى بأبطالها وسائر شخصياتها.. وإذ يكون احتمال الكذب والاختلاق في هذه الحكايات الثلاث متوقعاً، بل مقطوعاً به، فإن تأثيرها على الظاهرة لا يقول به إلا متسرعٌ أو مجازفٌ، لا يُكلِّف نفسه مشقة التثبُّت والتبيُّن الحقيقين لكل باحث يخشى يوم المساءلة. وأحب أن أشير إلى أن (عالم الجن) و(عالم الملائكة) وكل العوالم الغيبية التي ذُكِرت في القرآن الكريم لا يُمكن التشكيك بوجودها لمجرد الاستجابة للخرافات والأساطير والوقوعات التي يتداولها المنتفعون حولها، كالقول بالتّزاوج بين الإنس والجن، أو رؤيتهم أو محادثتهم أو إجرائهم للعمليات الجراحية لمن يحبون، مما هو داخل في الوقوعات المحتملة للصدق والكذب، مع أنها إلى الكذب والافتراء أقرب.. ف(الجن) و(الملائكة) أمم أمثالنا، لهم وجودهم الذي لا نعلم كنهه، ولهم مهماتهم في الحياة، وهذا الوجود العقدي لا يعضد الخرافيين ولا البسطاء ولا المتنفعين فيما يدعونه من وقوعات. ولنا أن نقول عن ظاهرة (الوأد) مثل ذلك، فهي حقيقة، لا كما يراها الباحث من أنها (النفس) وإنما كما يراها المفسرون.. وربطها بقبيلة أو بإنسان أو بمرحلة، يخضع للصدق والكذب، ومن حقنا أن نتردد في قبول الوقوعات، لكن ليس من حقنا التّردد في وجود الظاهرة.. ف(الوأد) للبنات حقيقة ذكرها القرآن الكريم بالنص، وأشار إليها في آيات كثيرة، وجاءت أحاديث وقصائد وإجماع على ارتباطها بالمرأة، وليس من واجبنا، ولا من حقنا تحديدها بالصوت والصورة والزمان والمكان والإنسان والعدد والكيفية، والإيغال في الأسطرة والتفصيل لا يلغي حقائق التاريخ. وإذا استساغ المفسرون والمؤرخون والموسوعيون اختلاق الحكايات، وتلقي الإسرائيليات، وإلصاقها بالقصص القرآني، فإن هذا الاختلاق لا يمتد إلى الظواهر الثابتة بالنص القطعي الدلالة والثبوت. ولقد كان للإسرائيليات في تفسير القرآن الكريم أثرها السلبي على التفسير، وكانت مدخلاً ل(المستشرقين) الذين سمَّوا التفسير بالنص الثاني، وتصوّروا قطعية الدلالة والثبوت له، فشككوا في مصداقية القرآن تعويلاً على أسطورية التفسير، والتفسير لم يخل من أساطير بني إسرائيل ومن الخرافة عند القصّاص والمذكرين، وتعويل الجانحين إلى الأسطرة حديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، ولقد دُرس أثر القصّاص والمذكرين السيئ على الحديث النبوي). والباحث في بحثه خلط بين رد الوقوعات المحتملة للرد وتأويل الظاهرة الثابتة وغير المحتملة للشك وفق رؤية المفسرين والمحدثين، ولو أنه تأمّل ما ذهب إليه (العقاد) و(محمد بيومي مهران) و(الحوفي) و(عبد العزيز صالح) لوجد أنهم تحفظوا على الوقوعات وعلى بعض الروايات، لكنهم لم يتعرّضوا لظاهرة (الوأد)، فهم يعرفون جيداً أصول البحث ومتعلقاته.. ودليل مجازفة الباحث قوله عن المفكر الإسلامي الكبير (عباس العقاد) إنه: (ينافح عنه بلغة إنشائية) ويعني بذلك حديثه عن قضية (الوأد) في سيرة الخليفة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه.. والعقاد مفكر وليس منشئاً. والباحث الذي لم يتهيَّب من تخطِئة الكافة لا يجد حرجاً من وصف العقاد بما لا يليق به.. (العقاد) مفكر شهدت له كل الأوساط بعلمية الأسلوب ومتانته، وهو حين يتناول قضاياه، يتناولها بموضوعية وعلمية ولغة راقية، ولم يكن في يوم من الأيام إنشائياً.. ولو أن (العقاد) خرج لينافح عن نفسه، لما احتاج إلا للمثل الشائع (رمتني بدائها وانسلَّت). والباحث المقتدر حقاً تحت تأثير الأنفة العربية والاندفاع العاطفي خالف كل من سلف من المفسرين من (ابن عباس) إلى (سيد قطب)، وخالف الموسوعيين من (الأصفهاني) إلى (الآلوسي)، وخالف اللغويين الذين عوّل على متكآتهم ك(السياق)، ولم يتهيَّب ردود الفعل، وكأن ما سبق من جهابذة العلماء وما لحق شعره في مفرقه، ولست أدري عن حجم الثقة بالنفس حين خالف الإجماع، وأنحى باللائمة على المتقدمين والمتأخرين، وطرح رؤية لم يسبقه أحد إلى مثلها.. ومن المؤكد في زمن العجائب أن يقول المعذِّرون: إن من حق كل مجتهد أن يعيد قراءة النص، وأن يبدي رأيه فيه، وإن خالف الإجماع. وإشكالية القراء المحدثين أنهم ينكبون عن ذكر العواقب جانباً، ويحسبون أن آليات التفكيكية والتحويلية والسياق والأنساق والعلاقات والعلامات قادرة على تبرير الرؤية المناقضة.. ومع الفارق الفكري والانتمائي فإن تقحُّم الباحث لمثل هذه المسلّمات المتواترة، يشبه إلى حد كبير تقحُّمات مماثلة ل(محمود أبو رية) و(نصر حامد أبو زيد) و(عبد الكريم خليل) و(محمد شحرور) و(محمد سعيد العشماوي)، والفرق بين جرأته وجرأة هؤلاء، أن صاحبنا سليم الطوية، ورؤيته ذاتية غير منتمية، أما رؤية أولئك فهي منتمية لتيارات تدور حولها الشبهات. وعلى شاكلة الذين يقدّمون بين يدي غرائبهم ما يرضون به المتلقي، استهل بحثه بإعلان إيمانه (بما جاء في كتاب الله على مراد الله، وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله).. وكان بإمكانه وهو طالب حق ولا شك، أن يسعه ما وسع علماء الأمة من القرن الأول إلى القرن الخامس عشر، وليس من المعقول أن يظل الأعلام من العلماء على جهل بمراد الله ورسوله، فيما يكون الباحث وحده الذي فهم مراد الله ورسوله، وتحقيق مراد الله ومراد رسوله بالرد إليهما، وبسؤال أهل الذكر. والباحث في تغريده خارج السرب عوّل على مشروعية الاجتهاد وحقه فيه، والاجتهاد المأجور في حال الخطأ والصواب لا بد فيه من توفر المادة والإمكانية واتساع الحدث أو الظاهرة لمزيد من الرؤى، إذ ليس كل مجتهد مأجوراً.. والباحث حين أتى المسلّمات كلها من قواعدها، لم يكن له عضد محق أو مبطل.. والمتلقي لن يسلِّم له، ما لم يكن له سلف أو خلف، وما لم يكن معه نص بقوة نصوص علماء الأمة، وليس هو من ذوي الاجتهاد المطلق أو المقيّد، بحيث يكون من ذوي المفردات ك(ابن تيمية) مثلاً.. وإذ تكون القضية مرتبطة ب(علم التفسير) فإن لها أصولها وآلياتها ومناهجها، التي لم يعوّل عليها الباحث بالقدر الكافي، فقوله مثلاً: (أما ما صنعته الروايات غير الموثّقة... فأمر سنناقشه في ثنايا هذا البحث).. والمناقشة لا يكفي فيها ابتدار الرؤية والموقف، بل لا بد من مواجهة الروايات بآليات الجرح والتعديل والتخريج، ومواجهة الرواية بما هو أقوى منها، أو التماس ناسخ أو مخصص، مما هو معروف في علم (مصطلح الحديث).. أما تقليب الرواية خارج هذه الآليات والمناهج والأُطر، فإجراء لا مجال له في مثل هذه الأمور، وكل خائض في قضايا التفسير والحديث والفقه بوصفها مصادر التشريع لا بد أن يكون على علم بأصول تلك العلوم نفسها، ملماً بأسباب الاختلاف ومعوَّل المخالف، وليته يخلط ثقافته بشيء من (الفقه المقارن) كما هو عند (ابن رشد) و(ابن قدامه). وليس يعيب مفسري العصر الحديث عدم خروجهم عن فهم الأقدمين، متى لم تتوفر لديهم قناعة مدعومة بالشواهد والأدلة، فالخروج على الإجماع والتواتر، لا يكون رغبة يبتدرها المفسر أو الباحث، ذلك أن قضايا العلم والفكر لا تخضع للرغبات والفرضيات ونزغات الأنفس الأمَّارة. ولو أن المفسرين المعاصرين بدت لهم ثغرات لنفذوا منها، وهم قد فعلوا ذلك في كثير من القضايا، ولم تأخذهم بالحق لومة لائم.. والتعويل على الوقوعات لنسف الثوابت تعويل غير معرفي، وفوق ذلك فالبحث حشد من الانفعالات أدى إلى خلط القضايا والتقديم والتأخير والتكرير وجرجرة الحكايات الخرافية بوصفها قابلة للنسف. وحين أشير إلى الهنات واللمم في المنهج والمنتج أعوِّل على تعدد المصدرية وتفاوت أصولها ومناهجها، في حين بدت وحدة التّعامل، فالظاهرة تستمد وجودها من كتب التفسير والحديث والتاريخ والأدب، ولكل مصدر منهجه وأصوله وطرائقه.. والباحث لم يستعن بأصول هذه العلوم في نقض القضية، فعلى سبيل المثال وردت أحاديث في الصحاح والمسانيد والسنن. ودراسة الظاهرة من خلال علم الحديث تتطلَّب استعمال آليات المحدثين ورجال الجرح والتعديل وأساليب الشرّاح وطرق استنباطهم، ويُقال في علم التفسير والتاريخ مثل ذلك.. لقد تجلت مواهب الباحث وتجاربه في (النقد الأدبي) وذلك حين تحدث عن دور الشعر في تكريس الظاهرة، وكانت موازناته ولفتاته في غاية الدقة والموضوعية، وإن كان قد عوّل على آليات الانتحال وأسبابه، وهو تعويل في غير محله.. ومن الأخطاء الفادحة التي يقع فيها المثقفون وكُتَّاب السياسة والفكر أنهم يستجيبون لعواطفهم، ويطلقون العنان لعقولهم لتعلو فوق النص القطعي الدلالة والثبوت، ولا يضعون قيمة للنصوص ومقتضياتها، ولا لأصول المعارف التي يشتغلون فيها، فإذا استفحش أحدٌ منهم مدلول حديث أنكره، ولم يتأوّل، والمفكرون المعاصرون أكثر جناية على الحديث النبوي الشريف. ولقد جاءت أحاديث مشكلة، تسرّع البعض في ردّها أو تأويلها، وتصدى لهم من أرشدهم وردّ تعدياتهم منذ (ابن قتيبة) حتى (القصيمي) الذي ألّف قبل انحرافه كتاباً قيماً في تأويل مشكل الحديث.. والحديث النبوي الشريف له مستويات في احتمال الثبوت، كما أن له مستويات في احتمال الدلالة، وله قطعياته ومتشابهاته، ولهذا قال الأصوليون: (لا اجتهاد مع النص)، والنص هنا يعني قطعية الدلالة والثبوت.. ولقد أدرك العلماء خطورة الخوض في العلوم التي لها أصولها وقواعدها دون علم بالأصول والقواعد وطرائق تطبيقها، حتى لقد قالوا: (من تحدّث بغير فنه جاء بالعجائب)، والباحث علمٌ من أعلام الأدب، لكنه دون ذلك بكثير فيما سوى الأدب والتراث، ولا يعيبه ذلك، لكن الذي يعيب تقحُّم سائر التخصصات، ومزاحمة عمالقتها بالمنكب الغض والجناح القصير. |
الوأد عند العرب.. بين الوهم والحقيقة 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل والباحث لا ينكر (الوأد)، ولا يرد نصاً في القرآن الكريم ولا في الحديث النبوي الشريف، ولكنه يحمل ذلك كله على غير الظاهر والمتواتر، ويغرق في التأول. والمفسرون - حسبما أعلم - وفوق كل ذي علم عليم - مجمعون على أن المقصود ب (الوأد) إزهاق حياة البنات؛ خشية العار أو الإملاق، وقد يدخل الذكور من الأولاد في خشية الإملاق، وذلك شائع ومتداول في كتب التفسير والحديث والتاريخ والموسوعات الأدبية، حتى لكأنه عند الجميع قطعي الدلالة والثبوت. وهناك ما يعضد المقصود في قوله تعالى: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}. وقوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ}أي يبقى الجارية على قيد الحياة، مع احتمال الهوان، أو أنه لا يحتمل الهوان؛ فيدس الجارية في التراب، وهذا كناية عن (الوأد) ولسنا معنيين بطريقة الدس وأسلوب الوأد، وإنما المهم ثبوت الظاهرة، كما يراها علماء الأمة، وأوضح من ذلك كله قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} وهذا سؤال استنكاري؛ إذ لا ذنب لها، ولو كان ل (الوأد) دلالة أخرى لما كان السؤال عن سبب القتل، ولا حاجة للقول: بأنه العزل، ذلك أنه قول مرجوح، ولو صح ألغى ما تواترت عليه الأقوال. ولربما يكون الباحث مأخوذاً بالتفسير الأسطوري والتحليل الرمزي للنص، وهذه الطائفة من القراء لا تجد حرجاً من تصور (الدَّس في التراب) كناية عن عزل المرأة عن الحياة العامة. والحكايات الخرافية التي يسوقها الموسوعيون عن (الوأد) و (الإحياء) لا ينعكس أثرها على صحة الظاهرة، وإنما تكون قصصاً خرافية، نسجها القصاص والمذكرون، وجاءت في المراسيل للإمتاع. ونسف الخرافة لا يقتضي نسف الظاهرة، فالمفسرون توسعوا في الإسرائيليات، ولم يقل أحد بعدم صحة أحسن القصص. والذين درسوا الإسرائيليات في التفسير ردوها، وأبقوا على الظواهر التي تدور حولها تلك الأساطير. ولقد كانت لي إلمامات مبكرة بظاهرة الإسرائيليات في التفسير، حين تعقبت الدارسين لهذه الظاهرة؛ الأمر الذي حمل الأستاذ المرحوم (محمد محمد أبو شهبة) على الثناء على تناولي، ومؤاخذتي بإهمال جهوده في هذا المجال، ولقد وجدها مناسبة لمواصلة الحديث عن الإسرائيليات في التفسير، جاء ذلك كله في (مجلة رابطة العالم الإسلامي). و (الوأد) كما يراه المفسرون لم يتعرض له الذكر الحكيم إلا لأنه ظاهرة سلوكية، وليس حدثاً فردياً، والمفسرون التمسوا دوافعه من آي الذكر الحكيم، وحصروها في الدافع الاقتصادي وفي الغيرة والأنفة والحميّة. والقرآن الكريم ردَّ السبب الأول بقوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ..} (31) سورة الإسراء. وقوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ ..}(151) سورة الأنعام. ولقد ربط بعضهم بين ظاهرة (الوأد) وظاهرة تحديد النسل بالعزل أو على ضوء قانون (مالتوس) للسكان، القائم على (الكابح الإرادي) وذلك قبل التقدم الطبي. ولقد كان للصحابة موقف من العزل، حتى قال بعضهم: (كنا نعزل والقرآن ينزل). وسماها آخرون ب(الوأد الخفي) أما العامل الثاني وهو الأنَفَة والحميّة والغيرة فقد شايعته الحكايات الخرافية والشعر العربي، وأشار له القرآن الكريم بقوله تعالى{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ..} (137) سورة الأنعام. وقوله تعالى: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ..} (140) سورة الأنعام، وقوله تعالى: {. وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ.. } (12) سورة الممتحنة، وفي هذه الآية ملمح لنفي ارتباط الوأد بالعزل؛ ذلك أن العزل من الرجال. ونزوع الباحث العقلي المتكئ على التأويل كاد يقصي المدلول النصي، وذلك منهج غير مسبوق بهذا الحجم، والشرح والتفسير يتنازعهما علماء الدراية والرواية، والتأويل من علم الدراية، وهو محسوب على التفسير بالرأي. وثقة الباحث بنفسه، وتنقصه من المفسرين كافة، جرأة لا يقره أحد عليها، يقول في سياق تخطئته للمفسرين: (ولما احتاجوا إلى العدول بالقرآن عن سياقه إلى المعنى البعيد الذي اتخذه المفسرون وأسرفوا في تأويله وعدلوا بالقرآن ومعناه عما تقوله اللغة وتسمه به). وهل أحد يقبل بهذا التوجيه الغرائبي؟ وكيف يجرؤ علماء الأمة من العصر الأول إلى العصر الحديث على العدول بالقرآن ومعناه عما تقوله اللغة وتسمح به؟ وهل الباحث بوصفه نحوياً يلوك لسانه أعلم باللغة من آلاف المفسرين السليقيين الذين يقولون ويعربون؟ وهل يظل مفهوم (الوأد) مختلطاً على الكافة حتى جاء الباحث؛ ليثبت الأقدام، ويربط على القلوب؟ وهل مسألة (الوأد) مسألة خلافية تفرقت فيها أقوال العلماء، بحيث جنح الباحث إلى طائفة منهم؟ أحسب أن الباحث بهذه المغامرة الخاسرة قد شط على نفسه وعلى قرائه، وحمَّل النص ما لا يحتمل، وعوَّل على (العدول اللغوي) ولم يذعن ل (السياق)، وكان بهذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر كقاصية الغنم أو كضالتها. واتكاؤه على ظاهرة (العدول) في اللغة حجة عليه لا له؛ فهو الذي عوَّل على العدول؛ إذ الأخذ بظاهر الدلالة لا يكون من العدول في شيء. وقوله: (اتخذه المفسرون) دليل على أن كل المفسرين مخطئون؛ إذ لم ينص على طائفة منهم، وهذا الإجمال مظنة المجازفة والتعميم، ومثل هذه القضايا لا يقوم أمرها على مثل هذا الإجماع. لقد طوف في آفاق معرفية، تعرف منها وتنكر، وفي النهاية خلص إلى القول بأن (الموؤودة) هي (النفس) وليست (المرأة) وحدها، وكيف يحتاج إلى السياق والعدول والتأويل والرأي وإدارة النص في فلك العقل والمسألة محسومة عند (البخاري) و(مسلم) وأصحاب السنن والمسانيد، وعند كل المفسرين المتقدمين منهم والمتأخرين، ولم يوافقه على ما ذهب إليه - فيما أعلم - أحد من علماء التفسير أو الحديث أو اللغة أو غيرهم، ولم ينكر (الوأد) العرب الذين وصموا به، وعنوا بالتأنيب والنهي، ولم يشكك فيها أي عالم عربي أو أعجمي مسلم أو مستشرق. لقد كانت ل (طه حسين) شطحات، وكانت ل (مصطفى محمود) شطحات، وكانت ل (شحرور) شطحات، وكانت ل (عبدالصبور شاهين) في كتابه (أبونا آدم) شطحات، ولكن كان لكل واحد سلف فيما شذ فيه. أما شطحة الباحث فلا سابقة لها، وهو فرد فيها، ولا يعيبه ذلك لو عضده نص أو قاعدة أصولية أو دلالية لغوية: حقيقية أو مجازية أو سياقية أو عدولية. وأغرب شيء أن يقول عن المفسرين كافة دون استثناء: (لم يتدبروا النصوص التي أشارت إلى قتل الولد) (ص 155). وذلك عين التكلف والتعسف الذي برأ نفسه منه (ص 157). والمفسرون استكملوا كل الاتجاهات اللغوية والفكرية والعقلية والمذهبية، وربطوا قتل البنت بالعار وقتل الولد بالإملاق، ولمَّا يزل الأبوان على مر التاريخ يفضلان الذكور على الإناث، ولكنهم لا يكرهون البنت حين تكون من قَسْمِهم، وإن تمنوا الولد. والباحث عول على قضية (السياق) اللغوي الذي اتخذه النقاد مناطاً لاستقراءات مخالفة، والعلماء لم يغفلوا (السياق) ولا (الأنساق) ولا (العدول) ولا (التأويل) ولا (المجاز)، فالتعويل على السياق أخذ به المفسرون، ولكنهم في النهاية يعودون إلى ما وقر في نفوسهم من ثقافات، وما استقروا عليه من مذاهب، وما كل نسق مدان. والباحث ربما وقع - من حيث لم يحتسب - في مأزق التفسير بالرأي، وذلك مذهب المدرسة العقلية الحديثة، كما هي عند (الأفغاني) و (عبده) و (رضا) و(المراغي) وغيرهم. ولست ضد الاتجاه العقلي في التفسير، ولكنني ضد إدارة النص في فلك العقل، وهو المنزع الاعتزالي، وكم هو الفرق بين إدارة العقل في فلك النص وإدارة النص في فلك العقل. والباحث اتخذ سبيله العاطفي الأعزل، بحيث صرف نظره عن أقوال العلماء كافة، ولم يكن له معول على أحد منهم، ولم ينظر في قوانين العلوم ومناهجها، مما يحتاج إليه المفسرون والشارحون والمستنْبطون، وإن عول على (السياق) وهو تعويل لم يسعفه؛ فالسياق ضد فكرته، والتعويل على السياق تعويلا علمياً أسس له وأصَّله العلامة (محمد الأمين محمد مختار الجكني الشنقيطي) - رحمه الله - في تفسيره القيّم (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) وإن كانت المنية قد اخترمته قبل أن يصل في تفسيره إلى سورة (التكوير)، وقد أكمله تلميذه الشيخ (عطية محمد سالم) - رحمه الله -، مثلما أكمل (السبكي) المجموع بعد وفاة (النووي)، وشتان بين المبتدئ والمكمل في المؤلفين. ومنهج الشنقيطي في التفسير يراعي السياق؛ لأن الآية تستدعي نظائرها في المعنى، ولم يكن الشنقيطي وحده في هذا المهيع، ولكنه الأميز. والمفسرون يختلفون باختلاف خلفياتهم المعرفية والمذهبية، ولكن الأوَّابين منهم لا يفسقون عن مقاصد النص، وإن استعرضوا وعرضوا سائر الأقاويل الراجح والمرجوح منها. والباحث الذي استصحب السياق كآلية نافذة ومشروعة أسرف في التعويل على التأويل، وهو في اصطلاح الأصوليين: - (صرف اللفظ عن ظاهرة المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل يدل على ذلك). وإشكالية الباحث أنه عول على (التأويل) دون دليل ولا سند ولا تأييد من عالم سابق أو لاحق. وصرف اللفظ عن ظاهرة بدليل كآية: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ.. } يتحقق معه التأويل الصحيح، أما صرفه لأمر ظني، أو لنزوع مذهبي كآية: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..} فإنه في هذه الحالة يكون من التأويل الفاسد. والباحث قد عول على أمر ظني لا حجة معه، ومثل هذا الفعل يوصف عند الأصوليين ب (اللعب)، ولقد وصف صاحب (مراقي السعود) مثل هذا بقوله: (وغيره الفاسد والبعيد... وما خلا فلعباً يفيد) ولمزيد من عناية المفسرين، أحيل الباحث إلى مقدمة تفسير (أضواء البيان..)، وإلى مبحث (دور السياق في بيان الدلالة) في كتاب (التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن)، وإلى كتاب (العدول اللغوي). ولو أنه وطَّن نفسه على تعقب لطائف التفسير واستنباطات المفسرين وبخاصة اللغويين منهم مثل كتاب (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) ل (الفيروز آبادي)، وتقصى الاتجاه العقلي واللغوي في التفسير؛ لكان أن تطامن أمام منجز العلماء الأوائل والأواخر، ولكي أضرب مثلاً بسيطاً من لطائفهم، أحيله إلى تحديد (المشترك اللفظي) وبراعة المفسرين في اقتناص المعنى المراد من بين تنازع الدلالات. ف (القُراء) لفظ مشترك بين (الطهر) و (الحيض)، عول فيه اللغويون على قرينة زيادة (التاء) في قوله تعالى: {ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ..}والدالة على تذكير المعدود، وهي (الأطهار)، فلو أراد (الحيضات) لقال: (ثلاث قروء) بلا (هاء)؛ لأن العرب تقول: ثلاثة أطهار وثلاث حيضات. واختلاف الفقهاء حول ذلك مرجعه إلى غياب المؤشر النحوي، أما التقصير في فهم السياق اللغوي فيبدو عند بعض الفقهاء في الاختلاف حول حرمة لحوم الخيل والبغال والحمير. وإن كان ثمة حجة يعول عليها فهي تأنيث (الموؤودة)، و (النفس) مؤنثة، ومن ثم فإن المرأة وحدها ليست هي المقصودة، وإنما المقصود مطلق النفس، وهو إذ أطلق هذه الرؤية، لم يحل إشكالية النصوص الدافعة لرؤيته. ومع الإغراق في المماحكات فإن الباحث بارع في دقة التأويل، حتى لكأنك تقرأ للزمخشري في كشافه، فالباحث وهو يحاول تفسير الموؤودة ب(النفس) يجاري الزمخشري في تفسيره (ناظرة) بمنتظرة، أو يجاري الشنقيطي في تفسير (القرء)، وإذ يصطدم الزمخشري بتعاضد النصوص ضده، لا يواجه الشنقيطي بشيء من ذلك. والباحث كما الزمخشري منهك بقوة النصوص. وأمام محجتها البيضاء لم يفسر آية الوأد، ولكنه تأوَّل فيها، ذلك أن التفسير يعتمد على الرواية فيما يعتمد التأويل على الدراية، ولست أشك أنه اجتهد ما وسعه الاجتهاد لتأويل كلمة (الموؤودة)، وأحسبه سيخرج من (المولد) بدون (حمصة) - كما يقولون -. وقد يكون تمحكه من اللطائف، فالنفس في النهاية جماع الذكر والأنثى، ويكون في قوله كله كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء. ومن لطائف هذا البحث الغرائبي براعة الباحث في نقد الحكايات الثلاث، وذهابه بعيداً في التحسس عن المطاعن. واختياره الوقائع والأخبار اللاحقة مؤشر ذكاء وبراعة، ولست أشك أنه ابن بجدة البحث الأدبي وخبيره. ولو أنه اقتصر على نسف الحكايات الخرافية، ولم يعقب على الظاهرة التي أقرها الذكر الحكيم والحديث النبوي الشريف والشعر العربي القديم وتداولها العلماء، وهم الأدرى بتخصصاتهم؛ لكان خيراً له وللمشهد العلمي، ولو لم تكن ظاهرة (الوأد) كما تتابع السلف والخلف عليها لأنكرها العرب منذ اللحظات الأولى. والباحث وهو يستعرض روايات الأحاديث في الصحاح والمسانيد والسنن عول على (الزيادة) و (الإدراج)، وذكر (الوأد) في موقع وعدم ذكره في موقع آخر، وعد ذلك من الاضطراب الذي قد يفتح باباً على الروايات، وهو قد أومأ من طرف خفي ل(حديث الآحاد) و (حجيته). ولو أنه رجع إلى كتب الأئمة وعلماء الحديث لعرف أن مثل ذلك لا يؤثر على صحة الحديث ف (المدرج) ألف فيه (ابن حجر) و (السيوطي)، وحددوا ذلك، وأوضحوا الفرق بين (الإدراج) و (الزيادة) في النص، وأما (حديث الآحاد) والقبول به في العقائد والعبادات فالخلاف فيه لا يمتد إلى قضية (الوأد)، واختلاف روايات (البخاري) مرتبط بالأبواب التي يعقدها، وليست اضطراباً في الرواية، فهو يأخذ من الحديث ما يناسب الباب، ولا حجة في ذلك. ولأن الباحث غير متخصص في علم الحديث فقد عول على ما لا يعول عليه. وخلاصة القول أن الباحث مارس رياضة فكرية ممتعة، استطاع أن ينسف الحكايات الخرافية بعشر حجج في غاية الدقة والشمول والعمق، ولكنه لم يستطع تحويل (الوأد) من (المرأة) إلى (النفس) بكل شموليتها، وعتبي عليه أنه أنفق جهداً ووقتاً ثميناً في قضية محسومة. وتساؤلي في النهاية: أي الحزبين أحق بالتصديق والمتابعة، علماء الأمة كافة، أم صاحبنا الذي جاء في الوقت الضائع؟. |
... بل هو خيرٌ لكم..!
د. حسن بن فهد الهويمل طُعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصميم، حين اتهمت أحبّ النساء إليه، ولما سُئِلتْ كان جوابها: (فصبر جميل...). ولما كان الله المستعان على ما يصفون فوجئ الكون الإنساني بما لم يكن في حسبان الجميع: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}وقبل هذا وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنون والسحر والشاعرية، وأدمي عقبه، ووضعت القاذورات على ظهره، وشنأه الأبتر، وكسرت ثنيته، وسُحر، ووصفه رأس المنافقين بالأذل، ولمَّا تزل فوهات المدافع تقذف الحمم، وأفواه المنافقين تفيض بالبهتان الذي يحير سامعيه لفظاعته. ولما كان التاريخ يكرر نفسه، فقد انبعث أشقاها، ليؤذي الحبيب الأحبّ من النفس والمال والأهل على مسمع ومرأى من مليار ونيف من المسلمين. وحين لا يبادر القادرون بردّ فعل رادع، كلٌ حسب طاقته، لكي يحفظ جنابه، ويسعد أحبابه، تبلغ الأمة درك الذلة والمهانة، وتستفحل فيها الغثائية، وتكون عرضة لمزيد من الإيذاء في الدين، ومن الاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال، ثم لا تقدر على ردّ يد لامس. والتعدي على جنابه الطاهر أثار مشاعر المسلمين على مختلف المستويات، وأثبت للعالم أجمع أن الأمة الإسلامية، وإن وهنت وحزنت ستظل دون ثوابتها ومقدساتها. وواجب صفوة الصفوة من علماء ومفكرين وساسة وإعلاميين عند مثل هذه النوازل التدبر والتفكر، ووضع الأمور حيث يجب أن توضع؛ إذ المواجهة ستطول وتمتد، وقد يمكر الشانئون بجرّ المنافحين إلى مواجهات غير متكافئة، ليستفيد مَن لا يقاتلون إلا من وراء جدر. وعلينا أمام هذه التحديات الممسك بعضها برقاب بعض ألا نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، بحيث تكون المحاسبة مقدَّرة بقدرها، لا يكون فيها تعدّ ولا ظلم ولا مجازفات خاسرة، كما يجب ألا تكون الغيرة والتصدي والصمود سحابة صيف، تعصف، ثم تخبو؛ إذ كل اهتياج غير موزون يحور رماداً بعد إذ هو ساطع. وأخوف ما أخاف على أمتنا ذاكرتها المخروقة، ونسيانها المعتق، فما تواجهه من تعديات متلاحقة ينسي بعضها بعضاً؛ فأين نحن من آلاف المقترفات السافرة، والانتهاكات المتواصلة عبر التاريخ؟ وتفادياً لأيّ مواجهة غير محسوبة علينا أن نتساءل: هل جاء المساس في سياق الحرب النفسية، أم جاء بادرة شخصية، تجهل مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفوس المسلمين، أم أن ذلك في سياق الصدام الحضاري؟ فلكل دافع أسلوب في المواجهة، ونحن أحوج ما نكون إلى (استراتيجية) محكمة؛ لمواجهة مثل هذه النوازل؛ فالحرب الفكرية ليست بأقل شأناً من الحرب العسكرية، وقضايا المسلمين العامة لا بدّ لها من مؤسسات ترصد وتحلل وتحكم المواجهة. وطبعي أننا لا نملك القدرة على المواجهة العسكرية، ولا نميل إليها لو توفرت إمكانياتها، وعندئذ فإن المواجهة الفكرية والاقتصادية والسياسية أجدى وأهدى وأعمق تأثيراً. وبرهان ذلك تراجعات المؤسسات (الدانمركية) واستباقها لمحاصرة القضية، والحيلولة دون امتدادها، بيد أن لملمة ذيولها جاء في غير وقته. ولو أن عقلاء القوم إذ أحسوا بفداحة الخطيئة تداركوا الأمر، وقدموا اعتذارهم، لما بلغت الأمور ما بلغت. وتبرير الفعلة النكرى بحق التفكير والتعبير مجانب للصواب؛ فالحرية الإنسانية لا بدّ أن تكون منضبطة، وكرامات الشعوب لا بدّ أن تكون مستحضرة مصونة، وبقدر محافظة الإنسان على قيمه المادية تكون محافظته على قيمه المعنوية. والمؤسسة السياسية في (الدانمرك) ارتكبت خطأً فادحاً بتعويلها على (حرية الصحافة) و(حرية الكلمة)؛ فذلك تعويل لا تعضده الأعراف السياسية، فضلاً عن حدود الحريات الأخرى. ولقد أشار (الأمين العام) (كوفي أنان) إلى خطأ الفهم، وحث على تجنب بؤر التوتر، ومن بعد ذلك تلاحقت التصريحات التنصلية من بعض زعماء العالم، وكان حقاً على الدول الأوربية التي عاضدت بعضُ صحفها (الدانمرك) أن تعينها بردّها عن الظلم، على حدّ (أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً)؛ فالمملكة العربية السعودية التي قادت حملة الاستياء، حالت دون تصرفات غاضبة، يقودها الشارع الإسلامي، ثم تكون فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا خاصة. ومثل هذا التصعيد العاطفي لن يكون في صالح العالم بأسره، ومشاعر الشعوب لا يمكن حسمها بقرار سياسيّ، إنها كالطوفان تدمّر كل شيء أتت عليه، وما كان من أهداف المؤسسات الإسلامية زجّ العالم في بؤر التوتر؛ إن موقفهم غيرة على سمعة رسولهم وطهره، ومحاولة لتراجع المعتدي عن اعتدائه، وما كان ضرّ الصحيفة لو اعتذرت عما بدر منها، وحمَّلت الخطأ رسَّامها (الكاريكاتيري). والإسلام الذي قطع بكفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وإن يد الله مغلولة، ولقي منهم أذىً كبيراً، لا يودّ من المسلمين تصعيد الخلاف، ومن ثم نهاهم عن سبّ معبودات المشركين، ونهى عن قطيعة المخالف في الدين، وحصر المواجهة مع الذين يقاتلون على الدين، ويخرجون من الديار، والذين اقترفوا خطيئة النيل من الرسول لم يعرفوا أن إيمان المؤمن لا يتم حتى يكون الرسول أحبّ إليه من كل شيء حتى من نفسه. ولم يتحقق إيمان (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه - حتى كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحبّ إليه من كل شيء، حتى في نفسه، وحين قالها، قال له رسول الله: (الآن يا عمر)؛ أي الآن تحقق الإيمان. وكيف يكون اعتداء على رسول الرحمة والسلام، والمسلمون لا يفرقون بين أحد من رسله؟ ألا يكفي الغرب أن يعاملنا بالمثل، أو يكف عن تعمد الإهانة لمشاعر المسلمين؟ وما فعلته الصحافة (الدانمركية) وباركته المؤسسة السياسية يعدّ من نقض العهد والتعدي السافر؛ ذلك أن العهود والمواثيق تتطلب احترام مقدسات الآخر، أو الكف عنها على الأقل؛ فنحن نعرف أن (اليهود) و(النصارى) لا يؤمنون برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يرون القرآن كلام الله، وتلك من عقائدهم، ومع ذلك فإنها لم تؤثر في العهود والمواثيق المبرمة بين الدول المختلفة في عقائدها، متى لم ينقض المخالف الميثاق. ومع ما يتجرعه العالم الإسلامي من ويلات فإنه مستعد لنسيان ما فات، وفتح صفحة جديدة، وما على المؤسسة السياسية في (الدانمرك) إلا أن تبدي أسفها واعتذارها، وتؤكد لصحافتها أن من مستلزمات التبادل التجاري، وهو جزء من العهود والمواثيق الكف عن إيذاء مشاعر المسلمين، وعندئذ لا يكون هناك ما يمنع من عودة المياه إلى مجاريها على المستوى السياسي على الأقل، أما المقاطعة الشعبية فتلك إرادة لا يقدر عليها إلا من بيده مقاليد كل شيء. وإذا كان الإعلام الغربي قد أضل قومه بتحميل الإسلام معرة الإرهاب فإن من واجب قادة العالم تصحيح المفاهيم؛ ليعيش العالم بسلام. ومن المؤسف أن تُمِدَّ بعض الصحف الغربية صحف الدانمرك بالغيّ، وتلك الحيل (التكتيكية) قامت بها بعض الدول الأوربية لفك الاختناق عن (الدانمرك)، وتخفيف حدة المواجهة، بحيث أعادت نشر الصور، تمشياً مع سياسة ضياع الدم بين القبائل، ووضع الأمة الإسلامية والمملكة العربية السعودية بالذات في موقف حرج، وتلك محاولة غبية، متى استطاع العالم الإسلامي التعامل معها بحكمة وروية، فالبادئ مقترف، والمساير مؤيِّد، وعلى الأمة الإسلامية أن تظل في مواجهة المقترف، وأن تدع المساندين لها، محتفظة بحقها، حين تحتاج تلك الدول إلى مساندة أو تأييد في المحافل الدولية. وظاهرة المساندة الأوربية دليل على نجاح ردود الفعل الإسلامي، ودليل على أن الفكر الأوربي في الهمِّ غرب، وأنهم في الهوى سواء. إن مواجهة أوربا كلها في الأمور المتعذرة، والصحافة الأوربية التي شاطرت (الدانمرك) تريد أن تخفف من وطأة المقاطعة، وأن تربك المواجهة الإسلامية. وما تلاقيه المملكة من نقد إن هو إلا ابتلاء وامتحان، وعليها أن تصبر وتصابر وترابط، والاحتجاج بأنها عضوٌ في (منظمة التجارة العالمية)، وأن العضوية لا تخولها مقاطعة الدانمرك اقتصادياً احتجاج مرجوح؛ فالتعدي على مشاعر المسلمين وإثارتهم يحمِّلان الدولة؛ بوصفها قبلة المسلمين وفي أرضها يرقد الجسد الطاهر، مسؤولية الاستجابة لمشاعر الشعوب الإسلامية، ثم إن مبادرة المقاطعة ليست سياسية، وإنما هي شعبية، وحتى لو فتحت المملكة أسواقها للمنتجات (الدانمركية) فإن الرأي العام الإسلامي سيتمسك بالمقاطعة؛ مما يعرض البضائع الدانمركية للكساد، وتلك مقاومة سلمية مشروعة، استطاع بها (غاندي) إخراج (الإنجليز) من الهند. وإذا كان الغرب جاداً في مواجهة الإرهاب، فعليه أن يجتهد في تجفيف مستنقعاته، وقطع دابر مثيراته. وإثارة مشاعر المسلمين ورقة رابحة في يد الإرهابيين، والدول الإسلامية جادة من جانبها في مطاردة فلول الإرهاب، ولا أحسب الدول الغربية واعية للأسباب، ولا محسنة لأسلوب المواجهة. ومع كل التداعيات السلبية والإيجابية فإن هذا الإيذاء ترك آثاراً إيجابية ما كان لها أن تكون لولا التعدي الآثم على حرمات المسلمين، وهذا يستدعي قصة (الإفك) وتطمين الله للمؤمنين حين حسبوه شراً لهم، وهو في النهاية خير؛ فالذين يركنون إلى الغرب من أبناء المسلمين، ويدَّعون رغبته في التعايش السلمي والحوار الحضاري، ويلومون أهلهم على سوء التعامل معه، وسوء الظن به، تبدت لهم منطوياته؛ فلقد كشف الحدث عن خبيئة الأعداء ومساندة بعضهم بعضاً. وحين يتلقى الذين في قلوبهم مرض درساً عملياً، يكون ذلك أدعى لوعيهم بالذي يبيته المناوئون، وأخذ الحذر من الأعداء الذين يبيتون ما لا يرضى الله في القول والفعل. ومشروعية الحوار وتبادل المعارف والخبرات، لا تقتضي الغفلة، ولا الركون إلى الذين ظلموا، ولا المداهنة. وأخذ الحذر لا يتعارض مع الجنوح للسلام والمصالحة والتعايش وتبادل المنافع؛ فنحن هنا لا نريد قطع السبيل، ولا المقاطعة، ولا المواجهة، وإنما نريد الوعي بما ينطوي عليه الآخر، وترتيب الأمور بحيث تكون المواجهة حضارية، وما منعت المواجهة العسكرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مقايضة الأسرى المشركين بتعليم أبناء المسلمين. وإيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأتي حلقة في سلسلة محاولات يائسة للنيل من مقدسات المسلمين. وإذ تكون المحاولة اليائسة البائسة بحق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فإن استعراض سيرته وموقف الآخر منها يتوفر على شواهد كافية. وشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظلت، ولما تزل مجال حديث منكر يتداوله المستشرقون والمبشرون والمستغربون من أبناء المسلمين الذين ران على قلوبهم ما كانوا يقرؤون. وما تتلقفه الصحافة العالمية إن هو إلا ناتج طبعي لهذه الحملة المتواصلة على قيم الأمة الإسلامية؛ فالمستشرقون والمبشرون والمناديب ومَن اتخذهم دليلاً من مستغربي المسلمين، ولغوا في قضايا الأمة ومسلماتها، ولما تعدم الأمة من علمائها الأوفياء مَن تصدى لأولئك، وفند أقوالهم، وأجهض حملاتهم الفكرية، مثلما أجهضت جيوش المسلمين حملاتهم الصليبية. وإذا كانت أذية الكلمة حكراً على المفكرين الذين شُغلوا بمقارنة الأديان، وتولوا كبر الغزو الفكري، فقد امتدت الأذية من الكلمة العلمية إلى الكلمة الإبداعية، وإلى سائر الفنون: الفعلية والشكلية؛ فكان أن تولى كبر الأذية الروائيون والممثلون والرسامون، وهؤلاء أكثر ارتباطاً وتأثيراً في الرأي العام، ولعلنا نذكر رواية (الآيات...) و(العار) و(الوليمة). وما فعلته الصحافة (الدانمركية) محاولة بذيئة جنت من ورائها خيبة الأمل؛ فالمسلمون توحدت مشاعرهم، وقد تتوحد صفوفهم وأهدافهم، والرأي العام (الدانمركي) انشق على نفسه، واختلفت صفوفه. وما كانت الفعلة النكراء في الصحافة الدانمركية من بوادر العصر؛ إنها خليقة الأعداء، ومَن تصوّر أن ذلك عارض زائل فقد وهم. وكيف لا نعي قول الباري: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، وتحذير الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لتتبعن سنن من كان قبلكم). والغرب لن ينفك عن الغزو والتآمر، وواجبنا إتقان لعبة التواصل معه. لقد اهتمّ المستشرقون بسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخذوها من أطرافها قدحاً أو مدحاً، وكان منهم المنصفون، ومنهم دون ذلك، ومنهم المتحاملون، وقليل منهم مَن أثرت فيه السيرة العطرة بكل طهرها ونصاعتها فأسلم. ومن المستشرقين (الدانمركيين) بالذات الذين تناولوا سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - المستشرق (يوهل فرنفز ت 1932م) الذي ألف كتاب (حياة محمد) و(تعاليم محمد طبقاً للقرآن)، وآخرون من (الدانمركيين) كتبوا في التاريخ الإسلامي من مثل (أوليسترب ت 1938م) و(جودي بيتر ت 1945م) و(بدرسن). ولم تكن المشاهد الفكرية في الدانمرك جاهلةً مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند المسلمين، ولا جاهلةً ما عرفه العالم عن أخلاقه المتميزة. ولا شك أن مثل هذه المحاولة لها أهداف خفية، قد لا نعرفها في القريب العاجل، ولكنها ستبدو في أذيال اللعبة، حين يفرج عن الوثائق، أو حين ينفضّ سامر المأجورين: (ويأتيك بالأخبار مَن لم تزود). وفي غمرة الحملة ضدّ مَن كان خلقه القرآن، ومن زكاه ربه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، نجد مَن أنصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المستشرقين. وممن أنصفه وأسلم عدد كبير، من بينهم (آتيين دينيه) الفرنسي، وقد سمّى نفسه (ناصر الدين)، و(يوزورث سمث) و(ج. ولينز) و(أنسو بروكس) و(بارنت) الألمانيون، و(أرثر كين) الأمريكي، وآخرون لا حصر لهم. وكتابات المجحفين منهم مرتبطة بخلفياتهم الدينية والفكرية وأنساقهم الثقافية، ومنطلقة من رؤيتهم الوضعية ولصوقهم الماديّ، وأكثرهم أجيرٌ جنّدته المنظمات المعادية للإسلام، والمقتفون أثرهم من المفكرين العرب تتشابه الأفكار عندهم كما تشابهت البقر عند بني إسرائيل، وتتداخل الآراء في كتاباتهم حتى تكون كما طيلسان (ابن حرب). وإذا أساء المستشرقون لكل مفردات الحضارة الإسلامية، فإن لهم مواقف عدائية من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحيث أنكروا الوحي والإسراء والمعراج، واتهموا الرسول بأنه مؤلف للقرآن، وصانع للإسلام، ووصفوه بأنه ناثر مبدع، وثائر عربي خدم قوميته. وحتى الذين ذكروه على رأس الأبطال، نظروا إليه بوصفه عبقريا إنسانيا، وليس مرسلا من عند ربه. والمؤسف أن هذه الرؤى التقطها بعض مرضى القلوب من المسلمين، فلقد سايرهم على سبيل المثال (محمود أبو رية) في قضية الإسراء والمعراج، وسايرهم (طه حسين) في تاريخ إبراهيم وإسماعيل، والتقط بعض المفكرين أطرافاً من دعاويهم دون وعي منهم بخطورة تبني مثل هذه الأفكار المادية الإلحادية. وفقهاء الأمة ناقشوا مثل هذه التعديات، وأقروا عقوبة المستهزئين، وخير من تناول ذلك شيخ الإسلام (ابن تيمية) في كتابه الموسوعي (الصارم المسلول على شاتم الرسول). ولعل هذا الحدث المنكر يهدي أفكاراً ضالة، ويشفي نفوساً مريضة، ويردها إلى جادة الصواب؛ فالمفكرون من أبناء المسلمين يتلقون مثل هذه المقولات ويتقبلونها بقبول حسن، ويشيعونها: إما جهلاً منهم بنواقض الإيمان، وإما إعجاباً منهم برؤية المستشرقين ومناهجهم. وإذا كانت تصديات الغيورين بهذا المستوى المشرف لما روّجته صحف الغرب فإن الواجب أن تمتد الغيرة إلى لغط عربي، يمسّ ثوابت الأمة، باسم الاجتهاد والتأويل وحرية الفكر، وما شيء من ذلك له ما يبرره، وبخاصة أن الإسلام مستهدف، وأن المسلمين مضللون. |
تكريم للهويمل في ثلاثية (المشوّح)
الرياض: محمد شلاّل الحناحنة 6/9/1427 28/09/2006 أقامت ثلاثية الشيخ محمد المشوّح بالرياض مساء الثلاثاء 19/8/1427هـ، تكريمًا للأديب الإسلامي السعودي د. حسن بن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي بالقصيم سابقًا، ورئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية بالرياض، وأدار اللقاء الأديب الإذاعي المعروف د. عبد الله الحيدري، وحضرها حشد من الأدباء والإعلاميين والمثقفين. بداية عطرة مع علم بارز بدأ اللقاء بآيات من الذكر الحكيم نديّ للشيخ عبد الرافع قاري، ثمّ كلمة المضيف الأستاذ الأديب عبد الله بن إدريس وقال: إنّ الثلاثية تكرّم هذه الليلة المباركة علمًا بارزًا في مسيرة الأدب والثقافة السعودية، وقد أثرى المشهد الثقافي في بلادنا بعطاء عظيم، ولا يستطيع جاحدٌ أن ينكر ذلك. ثم تحدث الأديب د. عبد الله الحيدري قائلاً: نحنُ نحتفي بقامة ثقافية أدبية بارزة في ساحة النقد والتأليف، ارتبط اسمه بنادي القصيم لربع قرن، وهو لا يحتاج مني لتقديم، وتميّز لدفاعه عن اللغة العربية ضدّ دعاة العاميّة، ومنافحته عن التراث والأصالة، من خلال إشراقة في الأسلوب وتعبيرات قرآنية ناصعة. وطبع ما لا يقل عن اثني عشر كتابًا، وهناك ثلاث محطّات في مسيرته الطويلة الثقافية الأدبية هي: نادي القصيم الأدبي، وجامعة القصيم، والمكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامية العالمية بالرياض. أصالته وعطاؤه الإسلاميّ أصغى الحضور بعد ذلك لكلمة وافية معبّرة لفضيلة الشيخ/ الأديب عبد الله بن إدريس الذي قال: أديبنا الأستاذ الدكتور/ حسن الهويمل أكبر من الكلمات، ولجّته أكبر من البحر، لجّته الثقافة الواسعة في دفاعه عن اللغة العربية، والأصالة الإسلامية، والدين الإسلامي، وقد هاجم الحداثة المنحرفة، مع أنه مجدّد بالرؤى والأساليب، وهو رجل لا يكلّ، ولا يملّ، من كتاباته القيمة تتجلّى ثقافته وأصالته وركونه للعطاء الإسلامي المتجدد، حقًا قليل مثيله، بل هو من نوادر الرجال الذي أثروا الساحة الأدبية، يتطوّر بشكل عجيب، وما زلت أذكر محاضرته الرائعة بالنادي الأدبي بالرياض عن الحداثة، وقد وقف في وجهه عدد من الأقلام والألسنة، ولكنه ثبت في دفاعه عن شعرنا الفصيح، ولغتنا الفصحى، ولاشك أنه عصاميّ، قوي الشكيمة، متوكل على الله، فأدعو الله أن يوفّقه، ويزيده نورًا وعطاءً. النجم اللامع ثم تحدّث الناقد الدكتور/ منصور الحازمي الذي شكر الأستاذ/ محمد المشوّح على ندوته في دورها الثقافي الكبير وقال: إن فارسنا د. الهويمل لامع أضاء ساحتنا الثقافية، وإن كنت أختلف معه في قضايا الأدب الإسلامي والحداثة، إذ ما زال في عداء شديد للحداثة، ومع هذا فإنني أهنئ الصديق الأديب د. حسن الهويمل على كلّ إنجازاته وكتبه الكثيرة طوال العقود الثلاثة الماضية. التفرغ لمشروع الثقافة في المملكة أمّا الدكتور/ محمد الربيع رئيس النادي بالرياض سابقًا، فبعد حمده لله، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، قال: ماذا يمكنني أن أتحدّث عن أديبنا الكبير د. حسن الهويمل في هذه العجالة؟! فكم كنّا بحاجة إلى من يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وقد تحقق هذا لدى أديبنا، فهو أصيل في ثقافته التراثية ولغته الخالدة، وهو ليس منغلقًا على نفسه، فهو ذو ثقافة متنوّعة متعددة المصادر، أما جمعه بين الأصالة ولمعاصرة فسمة واضحة في كتاباته، كما لديه متابعة دقيقة لما ينشر بالدوريات، كما ركز على الأدب في السعودية حتى في رسائله الجامعية (في الماجستير والدكتوراه)، كما يمتاز الأديب د. حسن الهويمل بثباته على الرأي، وقوّة الحجّة، وقوّة البيان، وحسن إيراده للدليل، وقدرته على الإقناع، مع تقبله للرأي الآخر ما لم يكن منحرفًا عن الحق والثوابت، ومن يتابع كتاباته يجد أحيانًا نقدًا للذات، أما أسلوبه ففيه شيء من الإطناب الذي هو جزء من البلاغة، وأخيرًا أقدّم له اقتراحين: 1- التفرّغ لمشروع الثقافة والأدب في المملكة، ولعله يبني كتاباته في هذا المجال بناءً منهجيًا واضحًا، وبعمق وشمولية. 2- أدعوه إلى إقامة منتديات ثقافية خاصة في القصيم كالثلاثية. الترفع عن السقطات وجاء حديث د. مرزوق بن تنباك موجزًا معبّرًا عن إعجابه بالأديب د. حسن الهويمل على الرغم من اختلافه معه في أكثر من موقف، وقال: لقد فرحنا بهذا التكريم للأديب د. حسن الهويمل، وكم ندمت أنني لم أتصل به وأسارع بالتعرف عليه منذ زمن، وهو أكبر من أن نتحدث عنه في إثرائه للساحة الثقافية، ولا شك أنه ناقد وأديب كبير، ومفكر وصاحب موقف متميّز سواء وافقناه أم اختلفناه معه، لديه وضوح وثبات في جميع كتاباته، ومع اختلافي معه في مصطلح الأدب الإسلامي، والعامية والفصحى إلاّ أنني احترمه، لأنه يحترم من يخالفه، ويترفع عن السقطات الشخصية. لمسات من الوفاء وقال الأديب الناقد محمد بن خالد الفاضل الأستاذ بجامعة الإمام: إنّ في حياة أديبنا د. حسن الهويمل محطات كثيرة، فهو رائد من رواد الأدب الإسلاميّ السعودي، ويختط أسلوبًا فريدًا في عباراته، وله قاموس لغوي خاص به، وأنا من المعجبين جدًا به، فهو يكاد يأسرك بأسلوبه، ومواقفه المشهورة أمام الحداثة في منحاها الفكري التغريبي. أما الدكتور عائض الردادي عضو مجلس الشورى، والإعلامي المعروف، فبيّن أن الأديب د. الهويمل ثابت على مبادئه منتمٍ لأمته الإسلامية، ويدافع عن هويتها، وليس دفاعه عن مجرد نوع من الأدب كالأدب الإسلامي، ويسعدني أن أدعوه للكتابة عن تجربة الأندية الأدبية، وكذلك د. محمد الربيع ود. منصور الحازمي، لما في ذلك من أهمية في هذا الوقت. وتحدّث الأستاذ/ حمد القاضي رئيس تحرير المجلة العربية، وعضو مجلس الشورى أيضًا قائلاً: ما أجمل الوفاء لمن أعطوا لأوطانهم وأمتهم، وأرى أنّ مفتاح شخصية الأديب د. حسن الهويمل كإنسان وأديب وناقد هي هوية الأمة، وهوية الوطن. وعندما تقرأ له يشبع عقلك، ويريح قلبك، ويحمل رسالة سامية لدينه ووطنه ومستقبل أمته. والحق أنني أهنئه لترك نادي القصيم الأدبي؛ لأننا بحاجة إلى تفرّغه لأدبه وإبداعه، ومشروعاته الثقافية. وكان للأديب الروائي د. عبد الله العريني كلمة رائعة، فقد ذكر أنّ تكريم د. حسن الهويمل تكريم للأدب الأصيل، وللمضمون الرائع الناصع، فهو يبهرنا بالنقد والبلاغة، ويظل نسيج وحده، وأحسبه يتعب نفسه ويريح قُرّاءه في كتابته وأسلوبه، أما تساؤلات د. الحازمي فيجيب عنها تعريف الأدب الإسلامي، وتاريخه العريق منذ بزوغ الإسلام. وتحدّث د. علي بن عبد العزيز الخضيري الذي أكدّ أن د. الهويمل هو علم بارز ينبغي تكريمه من وزارة الإعلام، وقد شاركنا في مجالات عديدة، لذا فهو المفكر والأديب الذي لا يغيب عن البال، أمّا الأستاذ/ محمد بن ناصر الأسمري فكان معجبًا بنزاهة د. الهويمل في آرائه الحرّة، ومحترمًا صرامته، وحفاظه على لغة راقية في الحوار، وبيّن أن الاحتفاء به هو احتفاء برمز من رموز الوطن. ونقف أخيرًا مع الأديب الأستاذ د. صابر عبد الدايم الذي قال: في عام 1992م حضر د. الأديب حسن الهويمل مؤتمرًا لأدباء مصر ممثلاً لرعاية الشباب، وقد شهد الجميع لأهمية كلمته التي ألقاها من حيث الفكر الواعي الأصيل والرؤى المتميزة، والأسلوب الرائع، كما حضر أخيرًا مؤتمر الأدب الإسلامي في القاهرة، فوجدنا أن لديه جرأة المثقفين، وثباتهم وثقتهم بأنفسهم. درع التكريم وفي ختام اللقاء، شكر الأديب د. حسن الهويمل جميع الإخوة المتحدثين وخصّ الأستاذ/ محمد المشوح على تكريمه، إذْ جمعه بأصدقائه وأساتذته تحت سقف واحد، وما كان هذا ليتم لولا هذا اللقاء. وأشار أنّ خروجه من نادي القصيم الأدبي كان بعد أن قدّم له ما قدّم، وقد حقق له إنجازات كثيرة، ومنها: مقرّ للنادي بثلاثة ملايين ريال، وشراء أرض له بخمسة ملايين ريال، وفي رصيد النادي سبعة ملايين ريال، وأحب أن يحقق النادي ما لم يحققه أيام رئاستي له في السنوات الماضية. ثم قدّم الأستاذ/ محمد المشوّح للأديب د. حسن الهويمل درع التكريم. |
التطاول في زمن التطامن..!
د. حسن بن فهد الهويمل من عادتي حين أبرح ديار المقامة أن أصطحب معي من الكتب ما يرتبط بالمهمة، أو ما يرتبط بالظرف المعاش: فكرياً أو سياسياً أو أدبياً. وقد أكون ملتزماً بإنجاز عمل ما، فأتأبط شيئاً من مسوَّداته، وجذاذاته، وبعض مرجعياته، ثم لا أجد حرجاً في المبادرة إلى مواعيد السفر قبل أوانها؛ لأنتبذ ممن حولي مكاناً قصياً، أقرأ أو أكتب، أو أراجع، وفي الطائرة أغمس نفسي وسط كتاب أو مسودة عمل، متى رزقت بجار حيي، لا ينبس ببنت شفة، وقلّ أن أنشئ في السفر عملاً. ولقد كان للعلامة الشيخ (حمد الجاسر) - رحمه الله - أثره عليّ في ذلك، ولما لم تتح لي فرصة مصاحبته في الكثير من أسفاره، إلا أن سفرة أو سفرتين، أدركت من خلالهما أنه يصطحب ما يلزمه من أمهات الكتب للقراءة التحضيرية، ومما هو محفور في الذاكرة أني التقيت به في (أبها) لحضور بعض الفعاليات هناك، وكان رحمه الله يلاطفني، ويبوح لي ببعض القول، ويستعين بي لأقرأ له، عندما يكل بصره أو يضعف عزمه. ويومها كان يحمل مجلداً من كتاب (تاج العروس) (للزبيدي)، وهو من معاجم اللغة الموسوعية، وكانت طباعته رديئة، وحرفه دقيقا، وحجمه كبيرا، وكنت أقرأ عليه حتى يستوقفني؛ ليدون ملاحظاته على ما ورد فيه عن المواقع والجبال والأودية في (جزيرة العرب)، وقد أصبح عمله هذا مشروعاً أنجز من خلاله كتاباً، استدرك فيه على الأوائل ما وهموا فيه، أو تحديد ما عمموا مكانه. واصطحاب الكتب أو الملفات يمتص فائض الوقت، وإن كانت أجواء السفر لا تساعد على فراغ الذهن، وحين أعود من الرحلة محملاً بما اشتريت، وبما أهدي لي مع ما تيسر من أوراق العمل ومما دونته عن تلك اللقاءات من حوارات ومداخلات، أفرق ذلك كله في حقوله وملفاته في مكتبتي، وقد لا أعود إليه، ولكنه من باب التوثيق. وكلما حطت ركابي في مكان، فرغت للتنقيب فيما معي من كتب، ومستلات صحفية. واصطحاب الكتب من مكتبتي لا يكون اعتباطاً، وإنما هو محكوم بالمناسبة أو بالظرف. وفي مناسبة الاحتفاء ب(مكة المكرمة) كعاصمة للثقافة الإسلامية، أتيحت لي أكثر من مشاركة، ربما تكون محصلتها كتاباً يجمع شتات تلك المشاركات. في هذه الاحتفالية عنّ لي أن أحمل كتاباً من كتب (الفقه المقارن) عن الحج والعمرة ومتعلقاتهما، وبعض ما نشر من مقالات مثيرة، استللتها حين لفت نظري إليها بعض المتحمسين، وهي مقالات مريبة؛ لأنها تتعمد الخوض في المسكوت عنه دون مبرر، وتستعذب التشكيك في كبريات القضايا، وتنتشي بلمز بعض أعلام الأمة. وإشكالية المتزببين في زمن الحصرمة أنهم يستفرغون المقروء ولا يهضمونه، ويستجيبون للخطاب المناوئ، وكأنه القول الفصل. والمسيء لوجه المشهد الفكري بدو الخلط العجيب عند هذه الفئة بين المناهج والآليات والمفاهيم، حتى لكأن ما يفيضون به (كشكول) متنافر الأشكال والألوان، ولو سئلوا عن مقترفاتهم لقالوا بلغة الجزم: (القول ما قاله أساطين الفكر الغربي)، وقد تبلغ بهم الحماقة منتهاها؛ فيقولون بحق الاجتهاد، وحرية الفكر، ونحن رجال وهم رجال. وما علموا أن لكل شيء شرطه وضابطه ودواعيه في ظل حضارة الانتماء لا حضارة الهيمنة. وكتب التراث - ومنها كتب (الفقه المقارن) - تزخر بما يجهله المتهافتون على المتداوَل الغربي، وتكشف عن جهود متميزة، وإمكانيات متفوقة لعلمائنا الأوائل، لو عرفها المولون الأدبار لما وسعهم إلا الإكبار لسلف الأمة. وسمة المعارف الإنسانية سرعة التحول، وبخاصة ما يتعلق منها بعلم الفقه الحكمي. والفقهاء يواجهون النوازل التي تكشف لهم خبايا النصوص، كما تكشف القنابل الضوئية عتمة الأرض؛ لتسديد الرماية، أو لفتح الطريق أمام زحف الجيوش. والمقالات التي تقمشتها من بطون الصحف لكُتاب يركنون شيئاً كثيراً للفكر الغربي، دون وعي بنمطوياته، ويبتدرون النوازل، ويبادرون بالأحكام، ولا يتورعون من الوقوع في أعراض العلماء، وقد يستلون قولاً شاذاً أو مفردة من مفردات المجتهدين المقيدين أو المطلقين، ليربكوا المشهد، وليلبسوا على الناس ما يلبسون. ولقد تراءت لي آيات ونذر: أما الآيات فؤلئك اللفيف من العلماء الأفذاذ الذين نذروا جهدهم ووقتهم للجدل العلمي والفكري، وبناء حضارة معرفية متمكنة المنهج والآلية ونظرية المعرفة. وأما النذر فؤلئك النكرات الذين نذروا أنفسهم لهدم الشوامخ، وإخلاء المشاهد من أهل الذكر، وكأن من مستلزمات الاجتهاد والاختلاف التشكيك والإقصاء. وإذ استكمل ورثة الأنبياء من جهابذة العلماء تجميع النصوص وتصنيفها وتصحيحها وشرحها واستنباط الأحكام منها، فإن في كل نص بقية، يستنبط منه اللاحقون أحكام النوازل، ولو أن الأوائل لم يتركوا شيئاً للأواخر لكانت الأمة في حرج أمام ما تمر به من أحداث وحوادث، ومن ثم لا تثريب على من واجه النوازل بالنصوص متى استطاع ذلك، ولا تثريب على من نظر في مدى قدرة الأحكام السالفة على استيعاب متطلبات العصر. والراصد لجدل العلماء الأوائل في مختلف العلوم النظرية، يُكبر فيهم دقة الملاحظة، وعمق المعرفة، وشمول الثقافة، وانضباط المنهج، والبحث عن وجه الصواب، والزهادة بالغلبة، والتعفف عن تزكية النفس، ومن شذ منهم تعقبه أنداده، إذ لا يخلو عصر من شطحات لا يحتملها السياق، ولا تقبل بها الأنساق، ولكنها من الندرة بحيث لا تشكل ظاهرة مخيفة. ولقد وقعت الواقعة يوم أن ابتدر الراية من لا يأخذها بحقها، ووجد من يشرعن له حق القول بغير علم، والتطاول على الأفذاذ من العلماء. وليس أدل على ذلك مما تعانيه الأمة من كتاب يستبقون الإساءات، ويختلقون الاتهامات لعلماء ومصلحين ودعاة، وإذا نهوا عما هم فيه لجوا في عتو ونفور. ولو أن المتنفذين في المشاهد شغلوا أنفسهم بالمستجدات، وغفلوا عن محاكمة الماضي لإرضاء دول الاستكبار، لكان خيراً لهم. والتفلت على حبل الاعتصام مؤذن بالفشل. ولهذا ما زلت أنادي بتفعيل المجامع العلمية، كمجامع اللغة العربية، والمجمع الفقهي، وهيئة كبار العلماء، وسائر المؤسسات الدينية؛ لملاحقة النوازل، واستنباط أحكامها، والحيلولة دون فوضى الجهود الفردية والفتاوى المرتجلة. ومثلما أننا نعيش فوضى في المصطلحات وفي الترجمة، فإننا نعيش الفوضى نفسها في القضايا الفقهية، سواء منها ما يتعلق بفقه العبادات والمعاملات أو ما يتعلق بما هو أهم وأخطر ك(الفقه الأكبر) و(الفكر السياسي الإسلامي)، و(فقه العلاقات الدولية) و(الجهاد) و(الولاء)؛ ذلك أن المتسرعين من أنصاف المتعلمين يبادرون النوازل بفتاوى غير ممحصة، والعامة تلتقطها كما التقط آل فرعون موسى عليه السلام، ليكون لهم عدواً وحزناً. ومن لطائف التفسير اللغوي أن (اللام) للمآل، وليست للغاية، وأخطر شيء أن يكون المشهد قسمة بين (الحدّيين) و(المميّعين)؛ إذ لا حياة سوية مع الإفراط والتفريط. ولو أن هناك مؤسسات متضلعة بفقه الأحكام، وفقه الواقع، وأصول الفقه، والحديث، والتفسير، وعلومها، والاجتهاد وشروطه ومجالاته، ونظرية المعرفة واختلافها من حضارة لأخرى، ولو أن العامة صرفت نفسها عمن يتلقون ركبان القضايا ببضاعة علمية مزجاة؛ لسلمت الأمة من الموبقات. وليس هناك ما يمنع من الخروج بأحكام متباينة، متى ربط كل مجتهد حكمه بأدلته ومقاصده ومشروعية تأويله، ومتى كان ذوو الآراء المخالفة من أهل الاجتهاد الناصحين المشفقين. وكلما أُبْتُ من سفر أتيحت لي فيه لقاءات مفتوحة مع أطياف المجتمع المحلي والعربي أوجست خيفة من التنازع والتنابز، وأحسست أنني مثقل بهمّ المشاهد التي لا تحكمها مرجعية، ولا يأطرها وعي بالسياق والنسق، ولا تسودها روح التسامح والتعاذر والتعاون. ولما كانت في الأسفار مثل هذه المنغصات فإن فيها بصيص أمل، وخلوصاً من رتابة العمل، وفراغاً للنفس ورغباتها. فعندما ينفض سامر المؤتمرين، يأوي كل مسافر إلى غرفته في الفندق، أو يلتمس مكانه في البهو، ليأخذ بأطراف الأحاديث مع من حوله، ومن عادتي أنني عندما لا أجد طريقي إلى السمر ولا إلى النوم، أجده إلى الكتاب، فإذا أويت إلى غرفتي بادرت إلى القراءة (وخير جليس في الزمان كتاب). وكلما خلوت بكتاب أو مكتبة تذكرت ما قاله (العقاد) عن بيته ومكتبته، وهو القارئ النهم الذي يقضي الساعات الطوال بين الكتب، يحلب أشطرها، ويخرجه عذباً فراتاً سائغاً شرابه، فيما تأتي تلك المقالات المستلة كما الملح الأجاج، فمن خلالها أرى انطفاءات الفكر وضحالته، وسطحية القراء المخفين، مما يذكرني ب(ندل الثعالب)، وكلما تلبثت طويلاً في كتب التراث العربي في سائر المعارف أحسست أن هذه العلوم قد هيئ لها من يحملها، ومن يأخذها بحقها من العدول، وحين آلت إلى العققة من الأبناء، أصبحت كما الفتى العربي في شعب بوان، غريب الوجه واليد واللسان، فحين أفتش فيما استللت من الصحف، وما تولته من كبر النيل من العلماء، أقول في نفسي: ماذا يراد لهذه الأمة؟ ولا سيما أن المجندين والمتطوعين لهذا الفعل المريب، لا يبالون بأي وادٍ هلك الأفذاذ من علماء السلف وأساطين الخلف. والراصد للحراك الثقافي يحز في نفسه ما يراه، وما يسمعه من نيل سافر، وتجريح مريب، وكأن ما تعانيه الأمة الإسلامية من ضعف وهوان، من مقترفات الأعلام. ولقد تذكرت في هذا الموقف شيئين: - العقوق والعبث. عقوق الخلف للسلف، والعبث المتعمد بالتراث، بحجة أنهم رجال والعابثون رجال. ولقد شهدت في مسارح علمنا وفكرنا وأدبنا وسائر معارفنا لغطاً كثيراً حول تراثنا، نهضت به طائفتان: - أساطين من العلماء والمفكرين الذين استحوذت عليهم شياطين الإنس والجن؛ فباعوا إمكانياتهم بثمن بخس. ومتعالمون تافهون، سدت أمامهم طرق الابتكار، فسلكوا بنيات الإنكار، فكانوا ألج من خنفساء وأتيه من ضب، ومحصلة ذلك كله في سلة المعادي في الدين. وأعداء الحضارة الإسلامية، إما أن يظفروا بمن يكثّر سوادهم، ممن توصف ثقافتهم بثقافة الضرار والانبهار، أو أن يقللوا سواد خصومهم بالتشكيك بالثوابت، وتدنيس المقدس. وكلتا الطريقتين قائمتان على أشدهما. وتلقى المكر والكيد من أبناء الحضارة المغلوبة على أمرها لا ينكرها إلا من ينكر ضوء الشمس من رمد. واصطحاب كتاب في (الفقه المقارن) إلى جانب مستلات من القول الرخيص محاولة لإسقاط الدعاوى الكاذبة. لقد كان هناك متسع من الوقت لقراءة ما يتعلق بمثل هذا اللون من التراث، وبخاصة أن (مكة) مدعاة لإنشاء بعض الأنساك، ولست هنا مع خصوص الحدث والموضوع، بحيث أقف حيث تكون الأحكام التعبدية، وإنما أنا مع عموم الدلالة، فالخوض في (الفقه المقارن) يجلي قيماً معرفية مدهشة. لقد لفت نظري ما بذله علماؤنا من جهود مضنية في سبيل تحرير المسائل، والتقريب بين وجهات النظر، وأيقنت أن اللائمين لعلمائنا الواصفين لهم ب(الكهنوتية) إما جهلة مغمورون، يودون أن يكونوا على كل لسان، أو مدخولون في أفكارهم، يودون أن يعزلوا الأمة عن علمائها ومنارات الهداية في مسارها. لقد أحسست بالزهو عندما تعقبت أقوال العلماء في مسائل الخلاف؛ إذ فيه ما يدل على غزارة العلم ورحابة الصدور، وما هم عليه من ثاقب الرأي وسديد الأحكام، وكم أدهشني، وأنا أستعرض ما يدور بين العلماء من سجال مرتفع النبرة، ذلك التداول المعرفي المحكوم بضوابط العلوم وأصولها، والذكاء الخارق في استدعاء الحيثيات، ولو أن الأدباء المهتمين بالتفكيك والتشريح والتقويض ومناهج التناص وكل متعلقات البنيوية نظروا إلى مطارحات علماء الفقه المقارن، وتداولهم للنصوص، وقدرتهم على استنطاقها، واستنباط الأحكام منها، والوصول إلى أدق التفاصيل فيها؛ لما كان منهم ذلك العقوق، ولما كانت منهم الجرأة على المخالفة والاستخفاف، وإذ لم تكن لهؤلاء العققة إلمامات بكتب التراث، وبعلم الأصول، وبنظريات المعرفة، فإنهم لا يجدون حرجاً من الخوض في الحديث عن العلماء وعما خلفوه من علم دون ورع، ودون تحرج، وتلك لعمر الله من مصاب مشاهدنا الفكرية والدينية. ولقد تساءلت من قبل عن دوافع النقمة على مشاهير العلماء والمصلحين ك(ابن تيمية) على سبيل المثال، وهو العالم الفذ الذي جالد وجاهد أصحاب الملل والنحل، وفند أخطاءهم، ورصد لتجاوزاتهم، متسلحاً بأصول المعرفة الإسلامية، متسامحاً مع المخالف غير المعاند، ملتمساً الأعذار لمن تأول، ولم أجد الجواب الشافي. وحين لا يكون الدافع علمياً يكون المتحرشون ممن استحوذت عليهم شياطين الحضارات المهيمنة، ولسنا هنا نمنع مساءلة السلف من العلماء ومراجعة مسلماتهم، ولا نضيق بشيء من ذلك، لو صحب المساءلة إنصاف واحترام واعتراف بالفضل، فحق السلف علينا الاعتراف بحقهم، والذب عن أعراضهم، والاختلاف معهم لا يستدعي النيل منهم. وحين تصبح المراجعة مشروعة، والاختلاف متوقعاً، يكون من حق سلف الأمة الاعتراف لهم بالفضل، والترحم عليهم، والتماس العذر لهم. لقد حفزني على الدفاع عن علمائنا، ما أسمعه وأراه من نيل سافر، لا يسنده علم، ولا يحميه ورع. ولو أن المستمرئين لأعراض العلماء قرؤوا ما كتبه أولئك في مختلف حقول المعرفة؛ لما كان منهم تطاول عليهم. وإشكالية المشاهد، أن طائفة من المستبدين بها، يقرؤون عن الأشياء، ولا يقرؤونها، وتلك خليقة ما كان لها أن تكون لمن يبيح لنفسه الحديث في القضايا الكبرى. في عوالم الدين والسياسة والفكر، لقد تبدت لي من خلال الكتب والجذاذات التي حملتها معي أن وراء تلك الحملة على العلماء ما وراءها، وأن ترك الأمور كما قرية (غوار الطوشة) مؤذن بفساد كبير، والأخذ على يد المتسرعين وإشعارهم بأن الرأي العام بحاجة إلى أن نحدثه بما يعقل كما الحيلولة دون خرق السفينة. |
مثقفون يكيلون الاتهامات لـ «رابطة الادب الاسلامي» .. ورئيسها يرد:
أهدافنا عالمية والساحة تتسع لكل التيارات سعيد الباحص (الدمام) تصدى د.حسن بن فهد الهويمل رئيس مكتب «رابطة الادب الاسلامي» بالمملكة للاتهامات والانتقادات الموجهة للرابطة قائلا انها تؤدي رسالتها النبيلة في نشر الابداعات الشعرية والنثرية وكل ما هو متصل بالثقافة والكلمة الطيبة ضمن اهداف ومبادئ اسلامية اصيلة تترفع عن كل ما هو محبط للقيم والاخلاق. ونفى ان تكون هذه الرابطة انشئت كرد فعل لموقف ثقافي معين. جاء ذلك في استطلاع اجرته «عكاظ» حول الدور الذي تقوم به رابطة الادب الاسلامي. حيث طرح الاكاديمي والناقد «محمد البودي» عدة نقاط تدور حول تقييمه لوضع الرابطة بوجه عام قائلا انها فقدت بريقها وحيويتها لسبب مركزي وهو عدم محاولتها ان تواكب المشهد الثقافي الذي نعيشه فهي كما كانت منذ افتتاحها في الالية والطرح والحضور مما انعكس على مساهمتها الضئيلة وعدم تأثيرها في الحراك الثقافي معللا بقوله «ان الجهود الاولى التي قدمتها الرابطة في الماضي اخشى ان تكون اتت لغرض ردة فعل من موقف ثقافي معين قامت بغرض التصحيح له مضيفا.. بأن الرابطة اصلا مدرسة ادبية لها اهدافها وبرامجها التي تهتم بالشعر والقصة، ولكن التزمت بمفهوم الادب الاسلامي وأقترح تغيير اسمها حتى لانقع في اشكالية الفرز بين ما هو اسلامي وغير اسلامي بيد انه أكد ان مضمون الرابطة في الاساس راق وسام ولكن تشكلها هو المختلف عليه حيث تشكو من قلة الدخل المادي قائلا ان الذي لايستطيع توفير الامكانات المادية فليقدم استقالته ويترك المجال لغيره اما ان يشكو القائمون من قلة الدخل والموارد فهذا ضعف فيهم وعدم قدرة على ايجاد آليات للنهوض بمشروع هذه الرابطة. مطالبا في الوقت نفسه ان تدعو الرابطة الى مؤتمر كبير لمراجعة انظمتها وأهدافها وعضويتها وكذلك تفعيل دور المتدربين والمكاتب في انحاء المملكة والا تركن الى حالة الغياب التي تعيشها وتكتفي بتاريخها القديم قبل خمس سنوات. ومن جانبه قال ظافر بن عبدالله الشهري رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الملك فيصل بالاحساء اننا لم نجد في الواقع تعريفا يحدد المصطلح العلمي والادبي للادب الاسلامي أهو يختلف عن الادب العربي الذي نقرأه منذ العصر الجاهلي الى يومنا هذا ملمحا الى انها اجتهادات فقط من اشخاص تبنوا فكرة الادب الاسلامي لكنهم لم يحددوا الاطار الفني والاصطلاحي لهذا المفهوم قائلا بان هذا اكبر ما يؤخذ على الرابطة مضيفا الى ان الذين تبنوا الادب الاسلامي منذ نشأته في التسعينات كانوا مجموعة من الاشخاص للاسف «يتاجرون» بهذا المفهوم ويرتزقون من وراء هذا المصطلح خاصة اننا امة عاطفية تبنتهم جامعاتنا العربية فنظروا لهذا المفهوم. وطالب باعادة النظر في هذا المفهوم لان الادب العربي منذ العصر الجاهلي الى يومنا هذا يحمل قيما رفيعة لايمكن ان تهمل بحجة انها نتاج اديب غير اسلامي في عصر ما قبل الاسلام متهما مكتب الرابطة بانه لم يفعل دوره في المملكة ولم يكن له حضوره والفاعل في المحافل الثقافية على المستوى العالمي. واصفا القائمين عليه بانهم «اقليميون» الى درجة كبيرة ليس لهم حضور وليس لهم تفعيل لهذا المسمى العظيم. ورد د. الهويمل على هذه الملاحظات قائلا: ان الرابطة عالمية وليست اقليمية بحيث يقوّم نشاطها بل اداء مكتبها بالرياض مؤكدا انه يجب على النقاد ان يلم بكل نشاطها في مختلف بقاع العالم واذا يحكم ان هناك سبع مجلات وصحف تصدر بلغات مختلفة عن الرابطة وهناك مؤتمرات عالمية تنفذ في بقاع كثيرة لاتقوم وسائل اعلامية محلية بمتابعتها وتغطيتها ومن ثم تقوم الرابطة من خلال ناشط مكتبها في الرياض الذي هو جزء من عشرة مكاتب في العالم مع ان هذا المكتب ينفذ نشاطاته في مختلف عواصم البلاد الاسلامية كالقاهرة والاردن واسطنبول نظرا لمكانة المملكة اقتصاديا يعتبر الممول والداعم لها في كافة البرامج. وعن غياب مكتب الرابطة وعدم تفعيل دوره؟ رد بقوله: اننا قدمنا الكثير وخير شاهد على ذلك اننا نعقد كل نصف شهر لقاء ابداعيا سواء قراءة سردية او شعرية بالاضافة الى المجلة الشهرية التي تصدر فليس صحيحا القول بأن المكتب لم يقدم اي شيء. وحول الجدل القائم في مصطلح «الادب الاسلامي» وهل هو يختلف عن الادب العربي قال الهويمل.. انه لايختلف بل هو جزء من الادب العربي الا انه يهتم بالكلمة الطيبة ونشرها لان الادب العربي يتسع للكلمة الطيبة وغير الطيبة فهناك الحداثي والماركسي والوجودي والسريالي والليبرالي لكن الادب الاسلامي حيز لاشاعة الكلمة الطيبة. «وحول المتاجرة بهذا المفهوم» بمن تبنوا فكرة الادب الاسلامي اكد ان المتاجرة ترجع للنوايا والمقاصد وكل هذا ماله الى الله تعالى فهو الذي سيحاسبهم على هذه النوايا ان كانت نواياهم سيئة ويجب على المتابع ان يتمسك بالظاهر والا يتهم احد في نيته لان هذا لايجوز شرعا ان تتهم احدا في نيته. واما الغرض من انشاء الرابطة ليس صحيحا من يقول ان الرابطة انشئت كردة فعل من موقف ثقافي معين او مخالف. لكن المشهد الثقافي في الوطن العربي كله اتسع لعدة تيارات منها حداثية ووجودية وليبرالية وماركسية فمن حق الاسلام والمسلمين ان يطرحوا مشروعهم كأي مشروع اخر. وردا على من يقول ان المكتب يعيش حالة غياب يقول: ان الغياب من الرداد وليس من الكتب فهم لايصلون للمكتب ولايواظبون على حضور برامجه وفعالياته ولايحصلون على مجلته ولايعرفون برامجه السنوية وندواته ولامهرجاناته في انماء العالم فالجهل بالشيء لايعني عدم الشيء ويتطلب منهم السعي للتعرف على الشيء. وأكد في نهاية حديثه ان المكتب لايعاني من ضعف مادي والدولة تدعمه بشكل واسع وهو تحت اشراف جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية. |
عقائد المفكرين في القرن العشرين..!
د. حسن بن فهد الهويمل كلما هممت في تناول موضوع يشغل الرأي العام أو الخاص، وله مساس بالفكر المعاصر، هرعت إلى مكتبتي التي نشأت معي منذ نصف قرن، واتخذت لها توزيعاً وفق رؤيتي الخاصة، وليس وفق النظام العشري المعتمد لدى المكتبات العالمية. ومنها ألتمس المراجع والمصادر التي تعضد فكرتي، وتشدّ أزر موقفي؛ سعياً وراء تحويل المقال من الإنشائية المترسلة إلى الثقافية الممتلئة؛ فأنا أكره المترسلين والمخفين والإنشائيين، وأحفل بالمقال الممتلئ معرفة، والمؤصل علماً. وكلما ارتبت من شطحة كاتب أو جهله، أو ضقت ذرعاً بتعالمه هرعت إلى أمات المصادر والمراجع؛ للتمكن من ردّ التائهين إلى جادة الصواب. وما من كاتب إلا مدرك أو مستدرك عليه، كما قال الإمام مالك: (ما منا إلا رادّ أو مردود عليه إلا صاحب هذا القبر) - يعني مَن لا ينطق عن الهوى -. والنصّ الثقافي هو النص المطعم بمختلف المعارف، المحلّى بأنواع الثقافات وأصناف الآراء. وعودتي إلى الكتب المسعفة ليست كعودة الخالي الوفاض الذي يأخذ من هذا، وينقل من ذاك، ثم لا يحسن الانتقاء، ولا يوفق في العرض، فيكون كمن يطيل الحديث، ثم لا يقول شيئاً، أو كحاطب ليل، وإنما هي عودة المتزود، وخير الزاد ما يقي الإنسان زلة اللسان وصبوة القلم. ويقيني أنني مررت عبر عشرات السنين على تلك الكتب، وعرفت ما تنطوي عليه. ومن عادتي حين أريد شراء كتاب أجهل مؤلفه، ولا أتوفر على معرفة كافية عن حقله المعرفي، أن أستعرض المقدمة والخاتمة والمراجع، وأستبين المنهج والخطة وآلية التناول، ثم أختار بعض الصفحات عشوائياً، فإذا شدني سحر اللغة وحلاوة الأسلوب، أو استهوتني طرافة المعلومة، أو استمالني عمق الباحث واقتداره، اشتريت الكتاب. وإلى جانب هذا الاستعراض السريع أميل إلى استكمال ما ألفته طائفة من العلماء والأدباء والمفكرين ممن لهم حضورهم المؤثر في سائر المشاهد. أسأل عما لهم من مؤلفات أو عمن كتب عنهم؛ لكونهم يشكلون مكانة علمية متميزة. وتمتد رغبتي إلى جانب ذلك إلى مذاهب وظواهر لا بدّ من استكمال المعلومات عنها، ف (الحداثة) أو (العولمة) و(التفكيكية) و(التحويلية) - على سبيل المثال - من الظواهر التي يفرض عليّ حضوري الاهتمام بها، واستكمال المعلومات عنها، مثلما كانت (الوجودية) و(الماركسية) من قبل محط الأنظار، والاهتمام يمتد إلى الموسوعات والمعاجم كافة في أيّ حقل معرفي. وحين أردت التعليق على مأزق التعالق والردّ على بعض المغالطين حول سائر الظواهر؛ بوصفها متعددة المفاهيم، لم أقنع باللغط المحلي، ولا باللغو الإعلامي؛ ذلك أنه زبد لا يغني ولا يقني، بل عدت إلى تاريخ الحضارات والعلوم والمذاهب والأفكار من خلال موسوعاتها أو رجالاتها، أو ما ألف عنها من كتب، أو ما كتب فيها من مقالات ورسائل علمية محكمة، وما أجري حولها من لقاءات، وكان من بين ما رجعت إليه كتاب (عقائد المفكرين في القرن العشرين) للمفكر العربي الكبير (عباس محمود العقاد - ت 1964م) - رحمه الله -، ولهذا المفكر الفذ في نفسي كل الإعجاب وكل الإكبار، وهو في حياته وبعد مماته ظالم ومظلوم؛ فكل الذين قرؤوه لم ينصفوه، وأكثرهم قرأ عنه، ولم يقرأ له، وتلك من عثرات الأقلام. لقد عرفته قبل نصف قرن، ودخلت كتبه مكتبتي في وقت مبكر، فهذا الكتاب وضع عليه تاريخ الشراء عام 1388هـ. وجناح (العقاد) في مكتبتي من أوسع الأجنحة لا ينازعه إلا جناح (طه حسين) و(عبد الرحمن بدوي) و(زكي نجيب محمود)؛ إذ يشتمل على كل كتبه التي ألفها، وطبعها في حياته، وما طبع له بعد مماته، وأكثر ما كتب عنه. وحين أقول: (أكثر ما كتب عنه) فإنني أعرف حجم ما كتب عنه، ولا سيما بعدما استعرضت السلسلة (الببليوجرافية) عن أعلام الأدب المعاصر في مصر، التي أعدها فريق عمل، تحت إشراف الأستاذ (حمدي السكوت) الذي نال جائزة الملك فيصل. وهو قد انفرد بإعداد ما يخص (عباس محمود العقاد) في مجلدين نيفا على ألف ومائة وخمسين صفحة، ليس فيها إلا عناوين الكتب والمقالات. وفيما يتعلق بالكتاب مجال الحديث (عقائد المفكرين في القرن العشرين) فإن ترتيبه يأتي بين مؤلفاته المطبوعة في حياته بعد أربعين كتاباً سبقته، ولعل هذا مؤشر على نضجه وسيطرته على معارف عصره. ولن أنقب عما كُتب عن هذا الكتاب من مدح أو قدح فيما كتب عن العقاد من رسائل علمية وكتب دراسية أو نقدية، والتي تجاوزت السبعين كتاباً في مصر وحدها؛ لأن ذلك يند بنا عما نحن بصدده. والمتتبع للعقاد يجده في اللغة كمن ينحت من الصخر، وفي المعاني كمن يغرف من البحر؛ فهو حين يعزم على تناول ظاهرة فكرية تنثال عليه المعلومات من كل جانب، وتحتشد الكتب بمختلف اللغات. ولأنه لا يعتمد النقل، ولا يهتم بالإحالة، فإن القارئ المبتدئ لا يملك مجاراته. ولقد تجرعت مرارات المغالبة؛ إذ شدني (العقاد) وأنا غض الإهاب، وأحسست وأنا أجيل النظر في كتبه أنني أمام مطلسم لا يبالي بقارئيه، حتى لا أدري كيف السبيل إلى مراميه وأهدافه، ولم يكن في مقدوري إذ ذاك السيطرة على فكره، ولا السيطرة على غرامي بكتبه، ووجدت أن الحل الأمثل في التوفر على كتبه، وتركها مرصوصة في المكتبة يعلوها الغبار، حتى تتوفر القدرة على التفكيك والتشريح والتقويض، وحتى أمتلك أكثر من نظرية معرفية؛ فقراءة العقاد تحتاج إلى آليات قرائية تقدر على تثوير معارفه المتماسكة كما الصخر. وحديثه عن (عقائد المفكرين) حصيلة قراءة مباشرة لما كتبوه بأيديهم؛ إذ لم يقع تحت رحمة المترجمين الذين لا يملكون القدرة على استيعاب الأفكار ولا القدرة على معضلات اللغات. وكل من يتلقى معارفه من المترجمين يكون مرتهناً لمبلغهم من العلم. و(العقاد) حين يعطيك تصوره للأفكار يدعم رؤيته بنقول في غاية الاختصار؛ ففي حديثه - على سبيل المثال - عن (مشكلة الشر) تجده يقدم رؤيته كمفكر لا يقل عن أساطين الفكر الغربي، حتى إذا وثق من تحرير موقفه، عطف على مَن لهم رؤية موافقة أو مخالفة، وهو في أمور كثيرة لا يحسم الإشكالية، ولكنه يتركها لمزيد من الإضافات. والذين يمتلكون ترويض جماح فكره يخرجون بنتائج إيجابية. والكتاب - كما يقال - (معتصر المختصر)، وهو من الكتب المؤلفة، وليس من المقالات المجموعة، وميزة التأليف أنها تعتمد الخطة والمنهج والآلية والمراجع والمصادر، وتحتفظ بالوحدة الموضوعية والعضوية، وتبسط الحديث عن الموضوع، وليست كذلك المقالات أو الدراسات المجموعة بعد النشر أو الإلقاء. وللعقاد عشرات الكتب من هذا وذاك؛ ذلك أنه زهد بالوظائف، ولم يمارس التجارة، وجاء من (أسوان) إلى (القاهرة) شاباً معدماً مجهولاً تتقحمه العيون ويزدريه الكبراء، فكان أن اعتمد على قلمه في رزقه، وفي فرض وجوده، ومن ثم جذبته الصحافة واستهلكته، والعباقرة كالمجانين، لا تسعهم الوظائف، ولا تصبر عليهم النساء، فما باع نفسه بالتقسيط - كما يقول -، وما شغلته زوجة ولا ولد، ولسنا معه في شيء من ذلك، ولكنها حيوات العباقرة الشاذة والمفيدة في آن. و(العقاد) الذي شدّني إليه صلفه وعنف مواجهته الأفكار والأناسيّ ليس معصوماً من الأخطاء الفادحة، والانحياز السلبيّ والدخول في اللعب السياسية أثناء المدّ الشيوعي، ولسنا بصدد الحديث عن جوانب حياته ومجمل أفكاره، ولكننا نودّ الحديث عن كتاب قرأته أكثر من مرة، وعدت إليه أكثر من مرة، وأحسست أنه من أصول الفلسفة الحديثة؛ لأنه يعرض - بالإيجاز - رموز الفكر الغربي الحديث، ويرصد التحولات الفكرية والعلمية كافة. وما من طالب علم وفكر يريد لنفسه التأصيل المعرفي إلا ويكون (العقاد) واحداً من أهم مراجعه، وغياب التأصيل للفلسفة الحديثة يعرض الدارسين للتيه، وذلك ما نراه ونسمعه. وتشكّل الثقافة من الكتبة المتسطحين يؤدي إلى ثقافة ضحلة متسطحة. وكتاب الصحف أو بعضهم على الأقل ممن تجذبهم الصحافة، وتحملهم على تنويع الموضوعات يكبرون في أعين الناس، وتصبح مقولاتهم حاسمة، وما هم في الحقيقة إلا منشئون لا يؤصلون لعلم، ولا يحررون لمسائل، فإذا تحدثوا عن القضايا والظواهر والمذاهب والمبادئ، ربكوا الأذهان، واضطربت من أقوالهم المفاهيم، وأدت كتاباتهم إلى التنازع بين القانعين بما يقولون. والذين يتوفرون على المعاجم والموسوعات والمترجمات وأمات الكتب والدراسات، ويتابعون ما يجدّ من قضايا وظواهر، ويحصلون على ما يكتب فيها وعنها تكون لهم رؤية صائبة فيما يكتب من مقالات ودراسات مرتجلة. ومكمن الإشكاليات الفكرية والسياسية والدينية في واحدية التلقي؛ بمعنى أن يقيد القارئ نفسه بعالم أو كاتب أو مصدر علمي ناقص، أو يكون مقلداً لفكر أو مذهب، يرى فيه العمق والشمول، وما هو كذلك، وإنما هو التعصب الأعمى والتزكية المتعجلة. وحديثي عن الكتاب لا ينهض بمهمة العرض ولا التلخيص، ولكنه يومئ إلى حلقة مفقودة عند سائر الكتبة الذين يتصدرون القول في الظواهر الفكرية الغربية، وهم لم يتمكنوا من استكناه الجذور، ولا الإلمام بمتطلبات القول عن المفاهيم، وفي هذا تضليل وإرباك. والراصد لفيوض الحديث عن (الغربنة) وسائر مفرداتها من عشرات الظواهر والمذاهب والمصطلحات يصاب بخيبة الأمل؛ ذلك أن أكثر المتحدثين يخلطون بين المبادئ والتطبيقات، ويعولون على إيجابيات الممارسة لتزكية الآخر، ولا يفرقون بين (الأيديولوجيا) والإجراء، وإذا حددوا مفهومهم للظاهرة تبين أنهم مثقفو مساع، وليسوا مؤصلين للمعارف؛ فهم ثملاً يتصورون أن (الحداثة) مجرد التجديد، والدليل على ذلك وصفهم الخصوم بالتقليديين، وهم يتصورون أن (الليبرالية) مجرد التوفر على الحرية وعصرنة الدساتير؛ ولهذا يصفون خصومهم بالرجعيين أو الماضويين. ولك أن تقول مثل ذلك عن (الديموقراطية) وغيرها، ومصدر المشاكل التعويل على المتداول الإعلامي، والركون إلى الشعارات الثورية. والعلماء والمفكرون يقصدون بحار العلوم، (ومن قصد البحر استقل السواقيا). ومن لم يوظف الجهد والوقت والمال لمتابعة ما يجدّ من الدراسات والمعاجم والموسوعات والمترجمات لا يقدر على استبانة الرشد، وسيظل يخبط في بنيات الطريق كما العشواء. وكتاب (العقاد) الذي تداعت معه هذه الهواجس يضع قدم الباحث على المحجة، ويمكنه من الرصد الدقيق لتحولات الفكر، ومع أنه يقع في مئة وسبع وستين صفحة فإنه يمكن الباحث من ترائي فضاءات الفكر المعاصر، ويغريه بالبحث والتقصي عمن ذكر من الأناسيّ والمبادئ. و(العقاد) لا يفصّل القول، ولا يحمل همّ الشمول؛ فالعقائد والفلسفات متاهات داخلها مفقود وخارجها مولود، على حد: (نهاية إقدام العقول عقال). و(العقاد) الذي يملك جَلَد المثابرين، ونباهة العبقريين، يلمّ بكل المنجز الفكري، ويعرف دخائله وأصوله. ومصائب المشهد الفكري المعاصر أن سواده الأعظم لا يتجاوزون سقط المعارف، وحين يتحدثون تتفرق بهم سبل المفاهيم ونظريات التأويل والتلقي. والمقتصر على ذلك النوع من النثار أشبه بالمجتث من فوق الأرض، لا يكون له قرار. وما صعّد الخلاف، وأشعل الجدل إلا المتسطحون على المعارف، وكل متابع تعدو عينه إلى جذور النظريات وأصولها ومرجعياتها وأنساقها يريح ويستريح؛ لأنه يقطع قول كل خطيب. و(العقاد) من هذه النوعية القليلة، وسواء اتفقت معه، أو لم تتفق، فإنك لا تجد بداً من احترامه. وإذ يتحدث في كتابه المركز عن (عقائد المفكرين) فإنه يحاول تحديد مفهوم (العقيدة). وبعد مجمل التساؤلات يقرر أن العقيدة في بحثه تعني: مشمول الوجدان، وطريقة الحياة، وحاجة النفس، وهي تتجلى بالتقديس والتصديق والتسليم، ويمحّصها الإدراك والشك ثم اليقين. وحرصه على التكثيف والإيجاز لم يمنعه من إطالة الحديث، واستعراض مجمل الرؤى والتصورات عند علماء النفس والفلسفة والتاريخ. وتجلية عقائد المفكرين في مقطع زماني أو مكاني تتطلب التحقق من الأنساق والسياقات، وقد سماها العقاد (سمة العصر)، وأبرز سمات العصر طغيان سلطان العقل وسلطان العلم. وهو قد صوّر التحولات على النحو التالي: - هيمنة سلطان الدين. - ثم هيمنة سلطان العقل. - وأخيراً هيمنة سلطان العلم. وقد حصر أسباب التحول العقدي في خمسة أمور: - اكتشاف مركز الأرض في منظومتها. - ظهور القوانين المادية. - مذهب النشوء والارتقاء. - مقارنة الأديان. - مشكلة الشرّ. ولقد تناولها بشيء من التركيز، ولم يكن - فيما أعلم - متحدثاً عن مجرد العقيدة، ولكنه أراد أن يرصد التحولات العقدية؛ فالغرب قبل التنوير كان (لاهوتياً) تقوده الكنيسة، وأثناء التنوير ساد العقل، وتخلف النص، ثم تخلف العقل والنص، وساد العلم، وكانت المادة وقوانينها مجال التفكير والبحث. وكنت أتوقع منه أن يؤخر الحديث عن قوانين المادة؛ ذلك أن عقائد المفكرين حطت برحالها عند تلك القوانين، وإن كانت المكتشفات قد أسقطت الكثير منها، ولما جاءت (النسبية) كادت تنهد معها كل القوانين. وأمتع بحوثه ما كتبه عن (مشكلة الشرّ)، وهو حين تناولها، من خلال الحكمة والعدل والأسس، تقصاها عند فلاسفة الغرب، ولم يعرج عليها في الفكر الإسلامي. ومنهجية البحث لا تقتضي ذلك، وهو قد نهج الطريق ذاته عندما تحدث عن (نظرية النشوء والارتقاء)، وللفكر الإسلامي رؤية مسددة في قضية (الخير والشر) قد نتقصاها في مقال لاحق. ومثلما فعل مع تحولات العقائد، فعل في كتابه (إبليس)؛ حيث أخذه الحديث عن تاريخ الشيطان كرمز للشر، ولكنه - كما هو في كتابه (الله) - لم يتحدث عن فلسفة (الخير والشر)، ولا عن (الفلسفة الأخلاقية) بالقدر الكافي. وأحسبه معنيّ بتحرير عقائد المفكرين في حقبة محدودة ومكان محدود. وإشكاليات الخير والشر تتنازعها حقول (الناسوت) و (اللاهوت)، وما لهما من فلسفات ومثاليات. ومحصلة القول: أن نتجافى في تناول القضايا عن السماع المبعثر، ومن أراد تحرير القضايا والتأصيل لها فعليه أن يتحمل عناء القراءة الشمولية المعمقة، أو ليدع ما للعلماء للعلماء، وما للعامة للعامة. |
يسير الحساب لمعرض الكتاب
د. حسن بن فهد الهويمل سيُقال فيه وعنه معلقات ينطح بعضها بعضاً، تمجد حتى التقديس، وتحز حتى العظم، وقد يكون القول ونقيضه صحيحين، فالكتّاب كالمصورين، يلتقطون صورهم من زوايا مختلفة، ومن أبعاد متباينة، يعجب الذواقين بهاؤها، فيما يشمئز منها آخرون. والقصر المشيد لا يخلو من صناديق النفايات. وليس هناك امتياز مطلق في أي عمل، فمن تملكته المحاسن شهد بما علم، ومن تعثر في الإخفاقات سلقها بلسانه، والراضي يحكي أحسن ما يعلم، والساخط يروي أسوأ ما يرى، فالحامد صادق في الأولى، والشانئ ليس كاذباً في الثانية. وهذا هو الصدق المتعدد الذي حمل الرسول صلى الله عليه وسلم على القول: (إن من البيان لسحرا). والعمل الاستثنائي كالشخصية الاستثنائية، تكون هوة الاختلاف حولها شاسعة، وتلك مؤشرات التميز والعبقرية. هذه التوطئة صدقة بين يدي نجواي، هدفها تهيئة النفوس، وتطييب الخواطر لما سنرصده من قول يتداوله الناس فيما بينهم عن (معرض الكتاب)، و(وزارة التعليم العالي) لم تقض نحبها بحيث نستجيب لذكر محاسن الأموات. إنها حية فاعلة وقادرة على مزيدٍ من المبادرات، ولكيلا نغمطها حقها نقول: إن هذا المعرض يعد استثنائياً بالنسبة لكافة ما سلف من المعارض، ففريق العمل الذي أنجز، وتابع، لم يركن إلى تسليع الكتاب وحسب، وإنما حاول جاهداً الاحتفاء به، وإيجاد هوامش تفوق المتن، فكان أن تحول المعرض إلى تظاهرة ثقافية، التطمت فيها الآراء، وتباينت التصورات. فالهدف الأساس للمعارض تجميع أكبر عددٍ ممكن من دور النشر العربية تحت سقف واحد، وتمكين المثقفين والباحثين من الحصول على مبتغاهم دون عناء، وبأسعار مغرية. ومثل هذه الاستجابة لا تبرح تسليع الكتاب، غير أن الوزارة ومن خلال جهود استثنائية سبقت ظلها - كما يقول - وأحدثت تغييرات وإضافات، أعطت المعرض قيمة حضارية، تمثلت باستضافة العلماء والمفكرين، وتنفيذ المحاضرات والندوات، وتكريم الأحياء والأموات من الرواد والمؤسسين. هذه المخاضات غير المألوفة كادت تخلط الأوراق، وتبدي أعناق الآراء المتناقضة إلى حد التناحر، وتكثر التساؤلات إلى حد الإحراج. ومن الناس من لا تعجبه الهوامش، حتى يبيح لنفسه إحالة مثل هذه المبادرات إلى شكليات لا تضيف شيئاً. وهذا البعض المتحفظ من الذين لم تصل إليهم هذه المبادرات، أو لم تصل إليها أيديهم، أو أنها لا تجمجم عما في نفوسهم. وقد يكون من وراد المعرض من لا يعنيهم مثل هذه اللمسات. فهم يودون توفير الجهد والوقت لذرع المعرض جيئةً وذهاباً، ومعرفة المستجد من المطبوعات والترجمات. وإذا كان هواي مع من يودون إطلاق أيديهم وأرجهلم في فجاجه، وتركهم ينقبون عما يشتهون، فإن الهوامش مجدية ومهمة ولا سيما أن الفعاليات ذات أنواع، تمثلت بالمحاضرات والندوات والأماسي وورش العمل وحفلات الافتتاح والتكريم، وأدت في النهاية إلى التعارف، وتجاذب أطراف الحديث التي تشغل حملة الهم الفكري والأدبي وصناعة الكتاب. والذين استقبلوا تلك المبادرة بالمباركة، وقف إلى جانبهم من تساءل عن التعددية، ومن طالب باستيعاب كل الأطياف. والمؤسف ما بدر من تنازع أفقد بعض الفعاليات ألقها. وأملي أن تمحص كل المواقف وكل الأطراف بحيادية تامة، لكيلا يتسع الخرق على الراقع، وأن يكفل حق التعبير لكل الأطياف، متى كانت في إطار المعقول والمباح الممكن، وألا يترك الحدث يمر بدون حسم، فما أسوأ أن يرمَّ الجرح على فساد، وإذا كان الاختلاف ممكناً فإن ضبط الإيقاع وحفظ التوازن أمكن. ولا شك أن هذه الهنات لم تعكر صفو النجاحات، ولا أحسب تلك التجهيزات المثيرة قد جاءت من فراغ، إنها مخاض جهد استثنائي جندت له فرق عمل، ووفرت له الإمكانات، ومهما استكثرنا ذلك فإنه أعطى الوافدين صورة مشرفة عن المؤسسات الثقافية في المملكة، ومكنت المثقف من التواصل مع أطياف الثقافة داخل الوطن وخارجه. وإذا كنا نتداول مفاهيم خاطئة عن حرفة الأدب وصناعة الكتاب، ونمعن في التزهيد والتخويف فإن (وزارة التعليم العالي) عمدت إلى تكسير هذه المسلمات، وأثبتت أن الأدباء والمفكرين ودور النشر من الممكن أن يكونوا على شيء من اليسار والرفاهية، بحيث تتمتع بزينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق. كل ذلك الإنفاق، وكل ذلك الترتيب، وكل ذلك الإخراج الرائع واللمسات الفنية المبهجة لا تحول دون استدعاء الملاحظات، والرصد الدقيق لما يتناجي به القوم في مجالسهم، فأحاديث المجالس مرايا مقعرة ينظر فيها الإنسان كل تجاعيده، ومن تهيبها وازور عنها، ظل كما هو. والتقاط المتداول من الأحاديث المادحة أو القادحة إنما لتكون حاضرة المنظمين للمعارض القادمة، وسوف لا نقتصر على الملاحظات، ولكننا سنخلط ذلك بشيءٍ من التطلعات. ومما هو مجال لغط يقترب شيئاً قليلاً من الفضولية تلك الشكليات في المواقع الدعائية، حيث استحوذت على مساحة واسعة. ولقد سمعت الدكتور عبدالله المعجل في (خميسية حمد الجاسر) يشكو من ضيق المكان. وتجلي الاستعراض الباذخ بشكلٍ لافت للنظر، قد يكون مقبولاً إذا لم يكن على حساب المهمة الأساسية، فالبعض يود أن يكون المعرض خالصاً للعرض والطلب، وأن يخلي بين المثقف والكتاب، فالمسألة في النهاية عرض وطلب، وإن كان ثمة جهد وإمكانات فإنه يجب صرفها لمزيد من الرقابة على البيع الجشع. فالغلاء الفاحش سمة ضاق بها ومنها رواد المعرض، ولقد شهدت ذلك، وسأضرب مثلاً بكتاب (الفسر) وهو شرح (ابن جني) لديوان (المتنبي) لقد اشتريته ب(250) ريالاً خارج المعرض، وهو في المعرض ب(350) ريالاً، وقس على ذلك، ولقد بدا تضارب الأسعار وتراجع المسوّقين أمام المساومات، وإني لخبير بذلك عن قرب ف (نادي القصيم الأدبي) خصص مائة ألف ريال للشراء، وهذا الجشع والتلاعب اضطرانا لإيقاف الشراء عند نصف المبلغ المخصص. والملاحظ أن المكتبات المحلية عرضت بضاعتها المتداولة خارج المعرض، ولم تسع للاستعداد للمعرض ببضاعة جديدة، والشاذ لا يكسر القاعدة. وإذا خرجنا من متن المعرض إلى هوامشه وجدنا الناس مجمعين على أهمية التكريم وإنسانيته، ولكنهم مختلفون أشد الاختلاف حول آلية اختيار المكرمين، ومن حقهم جميعاً أن يتساءلوا، وأن يلحوا في التساؤل عن المعيارية والضابط. فهل المعيار السن، أم الاستفاضة، أم الكثرة، أم الجودة؟ وهل للمناطقية والتنوع الفكري دور في ذلك؟ لقد استعرض المعنيون الأسماء، ولم يكن هناك خلاف حول أهلية المكرمين، ولكن الاختلاف حول الأولى بالتكريم، وحول الضوابط، وحول من لم يكرم، ممن هو حقيق في نظر البعض. أعرف جيداً أن المعايير والضوابط لا تكون فاعلة حتى تكون محددة وصارمة، وحين تكون كذلك، يكون لها ضحاياها، ولكن المسألة ليست حول من تقصيه اضطراراً. فإذا كان للمناطقية اعتبار فإن من في الحجاز أو في الرياض يفوق العدد المطلوب، وإذا كان لتنوع الأطياف الثقافية والفكرية اعتبار فإن عند كل طائفة ما يفوق المستطاع. نحن نعرف ذلك كله، ونقدر ذلك كله، ولكن الأمر مختلف جداً، وأرجو أن يعيد المعتمدون لقوائم التكريم ما قدم لهم، ليعرفوا أن فريق العمل المكلف للاختيار لم يكن مستحضراً الضوابط الدقيقة، ولا أشك أنه وقع في خطأ الاجتهاد المأجور. قلت - وسوف أكرر ما أقول - إن الذين كرموا أهلاً للتكريم، فهم أصدقاء وزملاء وأساتذة، وهم قبل ذلك مواطنون قضوا شطراً من حياتهم في خدمة الفكر والأدب، ولكن الأهلية غير الأفضلية، وشرعيتها لا تسقط حق الذين تقحمتهم العيون، وكل الذي أتمناه ألا يتصور البعض أنني أتطلع إلى شيء من ذلك، ومتى طبقت رؤيتي أصبح بيني وبين التكريم أمد بعيد. ويعلم الله أنني أشد حرصاً على إنصاف الآخرين والوفاء بحقوقهم، ولقد لقيت من التكريم فوق ما أستحق، فلله الشكر من قبل ومن بعد. والاستياء يكبر حين يسمع ذوو المتوفين أن ذويهم قد ظلموا دون قصد، أعرف جيداً أن من نُسي لم يتعمد أحد نسيانه، وإذا كان النسيان لا يؤاخذ به الناسي فإنه لا يشفي صدور المنسيين. ويقيني أن الذين كلفوا بالاختيار أو استؤنس برأيهم، ذكروا من يحضرهم، ولم تكن بين أيديهم معايير وضوابط تحقق العدالة المنشودة عند الجميع، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها. لقد صرف النظر عن مبدعين ومؤرخين وأساتذة جامعيين متقاعدين وعلماء أمدوا المعرض بمؤلفاتهم العلمية، وإذا كان في النية استمرار التكريم فإنه من الحتم المقضي تكوين مجموعة من المتخصصين الفاعلين في المشهد والمتابعين لتقبل قوائم الترشيح من سائر المؤسسات الثقافية كالأندية والجامعات، ومن أفراد لهم حضورهم الفاعل، ومن موسوعات راصدة، ومهمة اللجنة تقتصر على ممارسة عملية الترجيح، ولعل المسؤولين يأنسون بأسلوب مؤسستي: (المهرجان الوطني) و(الحوار الوطني) إذ تعتمدان في الترشيح والتكريم على مجموعة المشورة من مختلف الأطياف، ويعقب ذلك لجان اختيار وتحكيم. لقد توقعت أن يكرم لفيف من الأحياء والأموات، كنا ولما نزل نعدهم من الأخيار، وما كنا نتوقع أن تزيغ عنهم الأبصار. ونقطة خلاف أخرى فلقد خُص بالتكريم الأدباء من نقاد وشعراء وسرديين، و(معرض الكتاب) يتسع لشرائح أخرى، فأين العلماء؟ وأين الموسوعيون؟ وأين المؤرخون؟ وأين محققو التراث؟ وأين أساطين العلم البحت من أطباء ومهندسين؟ فما دامت الفعاليات على هامش معرض الكتاب فإن الكتاب ليس حكراً على الأدباء. ولقد ثار التساؤل نفسه قبل سنوات حين سنت الدولة سنة حسنة، تمثلت بجائزة الدولة التقديرية للأدباء، فكان تساؤل من سواهم من الفقهاء والمؤرخين، الأمر الذي أوقف تلك البادرة الإنسانية إلى حين وضع نظام وآلية. ومن همِّ التكريم إلى همِّ التسويق، ومن الإشكاليات المتداولة قضية الرقابة على الكتب، ومنع بعض الإبداعات السردية، وبعض الكتب الفكرية والسياسية والدينية، والناس في هذا الشأن أوزاع. فالذين لديهم نفس (ليبرالي) لا يرون مشروعية الرقابة من أساسها، والذين يعدون أنفسهم تنويريين، يطالبون بحصر الرقابة في أضيق نطاق، والذين يسمون أنفسهم بحراس الفضيلة يطالبون بتشديد الرقابة، ويرفضون الفوضوية، ويؤكدون على حق السلطات الثلاث: السياسية والدينية والاجتماعية. ولما كانت نقاط الاختلاف متباينة ومتعددة فإن المسؤول يظل في حيرة من أمره، ولعلنا نقتصر في الحديث على (مشروعية الرقابة) وحدودها، وحين نؤكد على مشروعيتها، ندخل في جدل القدر المشروع. وإذ تكون المشروعية صنو السلطة فإن الخلاف حولها مساس بحق السلطة، نحن نرى مشروعية السلطة، ونرفض التسلط، وحين تكون الرقابة من مقتضيات السلطة فإن ضبطها يقي من التسلط، ولتلافي الإفراط والتفريط لابد من وضع ضوابط متوازنة، وأن تفرق في الرقابة بين الاقتناء الشخصي والتسويق العام. على أننا نكاد نختلف حول مفهوم الحد المقبول، وهذا الاختلاف يصعد نبرة الجدل، ويعمق هوة الخلاف. لقد أحسست أن تداول هذه القضية جاء في غياب الفهم السليم لحق الرقابة. وإذا كان (الليبراليون) يباركون الرقابة على الأغذية والأسعار، وإذا كان الغذاء الفاسد يضر بالأجسام، وإذا كانت المغالاة في الأسعار تضر بالأموال، فإن الأفكار السليمة المستقيمة تتضرر بالعهر والتطرف والغلو، كما أنها تتضرر بالتسيب والتمييع وترك الحبل على الغارب. وحماية الأفكار أهم من حماية المعدات والجيوب، والكافة محكومون بالأوامر والنواهي، والمحظورات والمباحات، والفوضى غير الحرية، والسلطة غير التسلط، ولا يصلح الناس فوضى، والحضارة لا تتحقق إلا بالمكاره، كما الجنة ومحفوفها. ولما كان العمل مظنة الاختلاف فإن على الذين يتصورون أنهم حين يجودون بمبادرات استثنائية يكونون ملء السمع والبصر أن يعرفوا أن لكل عمل مهما كان تألقه تبعاته التي قد تثير أكثر من تساؤل، وكم من عمل خير يود صاحبه أنه لم يفعله. إنني مشفق على الطيبين الذين يراهنون على الكسب، ومشفق أكثر على الذين يظنون أنهم سيخرجون من الزفة لا لهم ولا عليهم. وكيف لا يتحقق أقل الكسب، وهم يفعلون ما يفعلون بصدق وإخلاص وتفانٍ، فما عملوه لوجه الوطن الذي بوأهم أسمى المناصب، وعليهم أن يتذكروا قوله تعالى:(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (2) سورة العنكبوت. لقد سمعت لغطاً كثيراً يذكيه متناحرون في الآراء، ومن حق الزملاء في وزارة التعليم العالي علينا ألا نكتمهم الحديث، وأن نصدقهم القول، فما حصل على هوامش المعرض يحتاج إلى تجميع وتقويم وتمحيص. ولا يجوز بحال إحالته إلى الشغب أو ضيق العطن، أو إلى النوايا السيئة، ذلك أن مجرد الإحالة تصعيد للخلاف، والمختلفون مواطنون، لهم رؤيتهم التي يجب أن تسمع بصدر رحب، وليس شرطاً أن تُقبل. وخارج إطار المسؤولية المحدودة نجد أننا أحوج ما نكون إلى (مدينة معارض) تكتمل فيها البنية التحتية، وتتوفر على كل المتطلبات، بحيث تتسع للمعروضات كافة من كتب وصناعات ثقيلة وخفيفة، ومن حولها مواقف للسيارات، وتشتمل على مطاعم ومساكن للوفود، ومستودعات، ومصارف، وقاعات محاضرات، وساحات عرض، ومسارح عروض، وإسعاف، ومطافئ، وأمن، وكمرات رصد، فالمواقع المؤقتة تؤذي المسؤول والمستفيد والمتسوق، وتحتاج في كل عام إلى جهد يضيع سدى بمجرد انتهاء المناسبة، وتلك مسؤولية رجل المهمات والمبادرات ومهندس الرياض (سلمان بن عبدالعزيز)، وأحسب أنه حان الوقت لتشكيل (هيئة للكتاب السعودي) تنهض بمهمات المعارض والترجمة وسائر متعلقات صناعة الكتاب، وليس هناك ما يمنع من تفعيل (جمعية الناشرين السعوديين)، وتشكيل هيئة مؤقتة من المؤسسات ذات الشأن الثقافي، حتى يتسنى إنشاء هيئة مستقلة لها نظامها ولوائحها، وأخشى أن ينطبق علينا المثل الغربي: - (لا يدوم إلا المؤقت). |
حمزة شحاتة.. حياته من شعره
بقلم : د. حسن بن فهد الهويمل لكل ناقد مناطه في عوالم المبدعين. ومناهج النقد وآلياته لا يقر لها قرار، فهي في تحول مستمر، إلا أن طائفة من المتلقفين لا يحسنون استثمارها، ومن ثم فإنها مع كثيرٍ منهم لا تشكل ظاهرة حميدة، وتنقل مركزية الاهتمام بين النص والمؤلف والمتلقي، شتت شمل النقاد، وإن أثرت المشهد. ولعل أقرب المحطات إلى نفسي محطة النص بوصفه لغة، ولكنه ميل لم يكن على حساب منطويات النص الأخرى، كالبعد الفني، والبعد الدلالي. وحين عزمت على خوض عوالم الشاعر (حمزة شحاتة 1328 - 1390هـ، 1910 - 1970م) تنازعتني عدة رغبات تقتسمها: عوالم النقد وعوالم الشاعر. فأي الزوايا التقط؟ وأي المناهج اعتمد؟ وإذ يشاركني الحديث عدد من النقاد فإن هاجس الفرادة يمثل الشغل الشاغل على المستويين: الموضوعي والنقدي. وحين أختار التماس حياة الشاعر من شعره، يتبادر إلى الذهن كتاب (ابن الرومي حياته من شعره) للعقاد، وهو ناقد اعتمد المنهج النفسي في كثيرٍ من دراساته للشخصيات، وقد يمتد التذكر إلى كتبٍ أخرى ومقدمات ودراسات خصت الشاعر وشعره، وأطوار حياته: الخاصة والعامة، كعبدالله عبد الجبار وأبي مدين والغذامي وعزيز ضياء وبكري الشيخ أمين وصالح سعيد الزهراني وعاصم حمدان وآخرين. ومن ثم لا يكون قولي في الشاعر وشعره إلا معاراً أو معاداً. ولقد تذكرت ما ادعاه (طه حسين) حين كتب عن (المتنبي)، من أنه فرغ لشعر المتنبي، ولم يلتفت إلى ما كُتب عنه، مع كثرته وتشعبه، ولكنه حين شاع الكتاب بين أيدي الناس، ادعى العلامة (محمود محمد شاكر) وهو من هو في مصداقيته وصراحته وسعة اطلاعه على التراث أن (طه حسين) سطا على جهده، وسرق أفكاره، وعول على النتائج التي توصل إليها. والمستفيض على ألسنة الباحثين أن مشكلة (المتنبي) تكمن في نسبه، ولقد أطال الباحثان التنقيب في هذه المعضلة المستعصية، وأبديا براعة منقطعة النظير، وتوصلا إلى نتيجة في منتهى التناقض. والمتحدثون عن (حمزة شحاتة) لن يشغلهم نسبه بقدر ما تشغلهم أطوار حياته الغربية، وهجرته المغاضبة. وحديثي (عن حمزة شحاتة) من خلال شعره لن يعول على ما سلف، فالذين تناولوه سمو به فوق هام السحب، وقصروا رؤيتهم على ما يتمتع به من مثاليات، وغضوا الطرف عن بعض ما وقع فيه من تجاوزات، طالت ذاته، وطالت من حوله. لقد أطلق عليه بعض الدارسين (الأنموذج)، ولأنه كذلك حسب تصوره، فقد كثرت إخفاقاته في فهم الحياة، ولم يوفق في مصاحبته للأحياء. وحرصاً مني على اتخاذ منهج مغاير فإنني قد أستعين ببعض آليات ما قد سلف، ولكنني لن انتهي إلى ما انتهوا إليه. والشاعر لم يحتفِ بشعره، ولم يعبأ بحفظه فضلاً عن أنه يتكلف عناء جمعه، والضائع منه ضعف ما أخرجه المتطوعون للناس، ولم يكن ك(شوقي) الذي انتقى الشوقيات ثم تعقبه من أخرج (الشوقيات المجهولة)، وهذا النزر اليسير لن يعطي الصورة الحقيقية عن حياته التي نلتمس. وإذ لم يكن من شعراء الواحدة فإنه لم يكن من المكثرين، وإن تبذل في بعض قصائده، وشعره المجموع لا ينهض بمهمة إبراز حياته، وأمام كل المثبطات فلن انثني عما عزمت عليه. والشعر فيما أرى لا يكون شعراً إلا إذا توفر على أربعة مكونات تتمثل ب: - الموهبة - والثقافة - والموقف - والأجواء فالشاعر لا يكون شاعراً إلا إذا كان موهوباً، وهو حين يكون كذلك لا يقول إلا ما هو شعر متفق عليه. والشاعر لا يثري نصه ما لم يكن مثقفاً ثقافة تأصيلية، تتسم بالعمق والشمول والتعددية، وقد ينعكس الأثر المعرفي على الشعرية، فيعيق لغة الفن، كما حصل عند (المعري). والموهبة لا تجود بما يمتع ويفيد حتى تستدرها المواقف، وسيان في ذلك موقف الفرح أو الترح، الرغبة أو الرهبة. والشاعر لا ينطلق على سجيته حتى يأمن على نفسه وعلى سمعته، ولا يأمن إلا حين تتوفر الأجواء الملائمة، وتخف من حوله حدة المراقبة. وشاعرنا ألّم بتلك العناصر كغيرة من الشعراء، وإلمام أي شاعر بتلك العناصر يؤكد المصداقية، ويجعل الشعر جزءاً من حياة الشاعر. ولقد تكون وجدانيات الشاعر أقدر على كشف حياته ومعاناته، أما شعر الغزل فهو يراوح بين الفعل والافتعال والانفعال، ومن الصعوبة بمكان القطع بالمصداقية. ومن الشعراء من يفترض وجود المعوقات فيحتبس شعره أو يتعثر، وقد يبلغ به الارتياب ذروته، فيأتي شعره إدانة لواقع غير مدانٍ، نجد ذلك عند (المعري) في القديم، وعند (الفقي) في العصر الحديث، كما نجد أطرافاً منه عند شاعرنا، وقد يكون ذلك بعض ما عول عليه بعض الدارسين له. وعلى الرغم من أن الشاعر قد توفر على تلك العناصر، فإن لم يفرغ للشعر، ولما فرغ له بعض الوقت لم يحفل به، وإنما عده لحظة تأمل أو تحسر، وهو في التأمل والتحسر يسجل موقفه من الحياة، ويرصد مرحلة من مراحلها. وإذ لم يعتزل الناس، فقد جعل إلمامه بهم حالة من السخرية. فهو الشاعر الساخر الهجاء حين يختلط بالناس، وهو المتأمل المثالي حين يعتزلهم، وشعر التصور والتأمل حفز بعض الدارسين إلى التماس فلسفة الجمال عنده، ورؤيته الجمالية جزء من حياته، فالنظرة الفلسفية تحوّل الشاعر إلى مسيّر غير مخيّر في رؤيته للحياة والأحياء. ولو تلمسنا موقع الشاعر (حمزة شحاتة) من خلال تلك المكونات الأربعة لوجدناها تلم به تارة، ويتخلف بعضها عنه تارة أخرى، وهذا التفاوت انعكس على شعره. ورديء الشعراء الكبار ك (المتنبي) مثلاً مرده إلى تخلف بعض تلك العناصر أو ضعفها. وليس بناقدٍ من يطلق كلمات الثناء دون استثناء، ومن يجعل من نفسه محامياً يذب عن الشاعر، ويترقى به صعداً إلى مدارج الكمال. وإشكالية المشاهد النقدية أنها محكومة بالرضا المطلق أو بالسخط المعمق، وكأن مصير الناقد مرتبط بمصير المدروس تألقاً أو إخفاقاً، وهذا ما أعانيه في كثيرٍ من الرسائل العلمية التي أتيحت لي مناقشتها. وتعاملي مع شعر (شحاتة) لم يضطرني إلى افتعال القول، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن رديء شعره قد يرقى إلى جيد غيره، فهو شاعر أمكن، ولكن الإمكانات لا تحول دون الوقوع في هنات ينفذ من خلالها النقاد. وحين عقدت العزم على التماس حياته من شعره، لم أشأ استكمال ظروف تلك الحياة ومراحلها، فالشاعر له حياته التي فرضتها حالته النفسية الناتجة من ظروف حياته الاجتماعية والعملية، وما تصوره من تفريط به، وكأنه الشاعر الذي قال عن قومه: (أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا). والإحباط الذي يعاني منه مرده إلى تصوره للأشياء وموقفه منها، ويكفي دليلاً على اضطراب حياته إخفاقه المتواصل في حياته الزوجية، وهجرته المغاضبة. فالمتشائمون والمتفائلون هم الذين يقرؤون الوقائع والأحوال وفق رؤيتهم. بحيث يكون الحدث الواحد والظرف الواحد له معطيات مختلفة. فالماء الجاري يصطبغ بتربة المجرى، ليكون ملحاً أجاجاً، أوعذباً فراتاً. ولهذا ليس من الإنصاف أن نتصور الحياة كما يتصورها البعض من الشعراء الحادي المزاج، ولا أن نتخذ الشعر وحده مرجعية مطلقة لتجسيد الواقع، ولكن الربط بين الشعر والوقوعات الثابته يعزز بعضها بعضاً. فالشاعر حين يمسه الفقر أو المرض، أو حين يرتطم بنتوءات السبيل، يتصور أن تلك سمة الحياة مع غيره، وليس هذا التحفظ مقصياً لدلالة النص الشعري، ولكنه ضابط للتعامل معه. وقراءة شعره تعطينا مؤشرات ذاتية، بمعنى أنه يمثل رؤية الشاعر لمحيطه، بصرف النظر عن سائر الرؤى الأخرى. ودراسة الأستاذ (عبدالله عبد الجبار) المبكرة أعطت مؤشرات إلى واقعيته، والواقعية مذهب اضطربت حوله المفاهيم، فهناك الواقعية الاجتماعية والاشتراكية والفنية, ويبدو لي أن واقعية الشاعر أميل إلى الاجتماعية، وإن عرف عنه الشموخ والتعالي والنزعة (الارستقراطية) ولأن حياة الشاعر تعتمد المزاجية فإن مستويات الحالة النفسية تتفاوت من قصيدة لأخرى، وهذا التقلب المزاجي لم يؤثر في سائر الوحدات الفنية: موضوعياً ولغوياً ونفسياً. فالحوافز النفسية قد تؤدي إلى فك المسحة المهيمنة. ولو ضربنا الأمثال ببعض الشعراء الذين طغت حالاتهم النفسية على شعرهم أمثال (أبي العتاهية) و (المتنبي) و(المعري) لوجدنا أن هناك فترات خلصوا فيها من السمة النفسية. وفي العصر الحديث نستطيع أن نضرب المثل بالشاعر السعودي المكثر (محمد حسن فقي)، ومع إغراقه في التشاؤم والإباء والثورة النفسية، إلا أنه في بعض الحالات، يند بشعره عما هو شائع من سمات دلالية ذات طابع نفسي. وعندما نجاوز الإطلاقات، ونعمد إلى الشواهد من شعره، نجد أن لكل قصيدة حوافزها النفسية، وضغوطها الاجتماعية، وأجواءها المحفزة. والذين يودون التماس حياته لا بد أن تعدو أعينهم إلى إسهاماته السردية، وبخاصة كتابه (الرجولة عماد الخلق الفاضل) و(رفات عقل) و(إلى ابنتي شيرين) و(حمار حمزة شحاتة) إذ تمثل جماع رؤيته، إضافة إلى ممارسته التطوعية في مطلع شبابه، ويقيني أن تفكيك قصيدة من مطولاته ينبئ عن رؤاه وتصوراته. ولعلنا نشير هنا إلى قصيدة (تأملات) التي جاءت على شكل أشواط دلالية، تفيض بالتساؤل والتعجب والحكمة. والقصيدة مؤشر على اضطراب نفسي، واستياء من التقلبات، فهو يتطلع إلى المصرّحين بعد الصمت، ويعجب من ذوي العدل الظنيين به عندما اقتضاه المستضام، ومن المتّقين الذين لا يدفعون بالحجة في لجة الشك، ومن تساؤل الحكيم الاستنكاري عن الغرام والحسن، ومن عبودية المال والجاه والهوى. وكأنه يستوحي حديث (تعس عبد الدرهم...) إذ يقول: (فماتت دواعي الكبر فينا... فما نحن؟) هذا الحشد من التساؤلات التقريعية توحي بالضيق والشك والرفض واحتدام المشاعر. فهل تلك السمات سائدة في شعره, أم هي عرض زائل؟ لا أشك أن الشاعر مر بحالات من الانكسارات التي أحس أنه ضالع فيها، ومن ثم نجده يلوم نفسه، ولكنه لا يصل إلى جلد الذات. والتساؤل المشروع أن نستبين ما إذا كان ذا خليقة تخفى، حتى لا تعلم إلا من خلال شعره. الحق أن شعره نفثات مصدور، أرهقه واقعه. لقد كانت له طموحات ترفس تحت وطأة الواقع غير المواتي، فكل قصيدة تنم عن معاناة نفسية, وقصيدة (تأملات) من أوضح الشواهد على اضطرابه النفسي، ولأنه يعتمد التفصيل، ولا يكتفي باللمحة، فقد اتكأ على (قافية النون)، وهي من قوافي المطولات، ومع أن القصيدة ذات أشواط عشرة، إلا أنه لم يعمد إلى تحويلها لرباعيات أو سداسيات على شاكلة الشاعر (الفقي) الذي اشتهر بذلك. والذين جمعوا شعره نظروا في ظواهر القصائد ومطالعها، وظنوا أنهم قادرون على تحديد المعاني في (الوجدانيات) و(الغزل) و(الملاحم) و(المنوعات)، وهذا التقسيم مع سذاجته يوحي بعدم استكناه الوحدة الموضوعية التي تكاد تنظم الديوان كله، وهو الهم الذاتي، أو الذاتية المسكونة بالكبرياء والألم والإحباط. وفوق ذلك فإن الشاعر عميق الثقافة، متعدد الاهتمامات القرائية، ولا شك أن الخلفية الثقافية لها انعكاساتها على التصورات، وهذا مؤشر دلالي، قد يند بالناقد، ويحول دون تحديد ملامح حياته. |
حمزة شحاتة .. حياته من شعره 2-2
د . حسن بن فهد الهويمل والشاعر المسكون بهموم ومفاهيم ومواقف يكتب سيرته ويدوّن معاناته: تصريحاً أو تلميحاً، ولا يقول الشعر لمجرَّد الكسب، إنّه نفثة مصدور. وهذا يذكِّرني بمقولة (طه حسين) عن الشاعر (عمر بن أبي ربيعة) الذي فرغ لقلبه، ولم يفرغ لكيسه، وهكذا الشاعر (شحاتة) شغلته همومه عن رغباته. وأخوَف ما أخاف أن يكون الشاعر من أولئك الذي يسقطون إخفاقاتهم على الآخرين، فالذين يتحدثون عن سيرته الشعرية، يجتهدون في المواءمة بينها وبين معاناته، وإذا كان البعض يراها بوادر إخفاقات فإنّ آخرين يرونها ممارسة تطهيرية، والحكم الفصل بين الفئتين مدى احتمال الوثائق النّصية لمثل هذه الرؤى المتباينة إذ إنّ نظريّة التأويل قادرة على احتمال القول التبريري. وإذ تشاع عنه الأنفة وحب الفوقية نجده في مقطوعته الشعرية (ليت العقول سواء) يقول:- (وفيم؟ وينبوع الخليقة واحدٌ تمايزت الأضداد والنظراء) وهذا مؤشر ارتباك، ربما كان من الأسباب الرئيسة في حمله على إهمال شعره، وكأنّه إن أمسكه أمسكه على هون، على أنّ هناك ملامح فنية، تشي بواقعية متعدِّدة وصفها البعض بالقصائد الهازلة، غير أنّها تؤكِّد نزعة السخرية عنده، وهي نزعة قد تكون مؤشر انهزام أمام تحدي الواقع، على حدِّ المثل الشعبي (المأخوذ يضحك)، فالإحباط يحمل على السخرية، والشاعر عاش هذه المعاناة بكلِّ وضوح. وسوف لا أنزلق في مقولة إنتاج النص في مقابل استهلاكه، ذلك أنّ القول الإبداعي في النهاية رسالة، وليس مجرَّد إثارة لإنتاج دلالة غائبة، ونحن مع الخفاء، ولكن الشاعر في النهاية يتوسّل بالتجلِّي لإبلاغ رسالته، ولا يجوز أن نغيبه على حساب حضورنا، بوصفنا منتجين على سنن التفكيكيين. نعم هناك لغة، وهناك خطاب، فاللغة تجريئية التصوُّر، والخطاب شمولي. والدارسون المتعقِّبون لطائفة من الشعراء هالتهم المسافات السحيقة بين شعرهم وما حوَته الموسوعات الأدبية من أخبارهم، حتى لقد وقع الكثير منهم في الوهم حين التمس الحياة من الشعر. فهل (البحتري) في أخلاقه ومظهره متناغم مع شعره الغنائي الجميل؟ وهل (أبو العتاهية) زاهد بالحياة زهد شعره بها؟ وهل (ابن أبي ربيعة) ماجن كما مجُن شعره، وهو الذي أقسم ما حلّ إزاره على حرام؟ ولك أن تدع الأسئلة تتلاحق عن كلِّ شاعر. وفي النهاية تجد أنّ الشعر قد يمثل الهروب من لذعات الواقع، ولقد مررت بدراسة عن (ظاهرة الهروب في شعر طاهر زمخشري) - رحمه الله -، ولست أدري ما إذا كان هروبه هروباً يماثل هروب (حمزة شحاتة). وحين تسقط العلاقة بين الشاعر وشعره بعامل النّقد أو بعامل العدول والتأويل اللغوي والنظرة إلى الخطاب بكلِّ شموليته، نسأل أنفسنا: كيف نفكك البنية الموضوعية للبحث عن ملامح حياة الشاعر؟ لقد جاء في الأثر عن شعر (أمية ابن أبي الصلت) إيمان لسانه وكفر قلبه، ومعنى هذا أنّ اختلاف الشاعر مع شعره قضية مسلّمة، وقد لا يكون الاختلاف بهذا الحجم، ولكن المثيرات والمواقف تشعل العواطف، وتحملها على الاحتدام والعنف، فإذا زالت المثيرات، هدأت العواطف، وعاد الشاعر إلى وضعه الطبيعي، الأمر الذي يحمل الدارس على تصوُّر التناقض في حيوات الشاعر، وما هو كذلك، ولكن الظروف قد تحمل المبدع على مفارقة سجاياه، وإبداع القصيدة في ظل ظروف عارضة، أنست الشاعر ما هو عليه من أخلاقيات. ومع كلِّ هذه الاحتمالات المثبطة لعزماتنا، تظلُّ الخليقة غير التخلُّق، والطَّبع يغلب التطبُّع، فالشاعر قد يفارق طبعه في سورة الغضب، وحين تعود المياه إلى مجاريها، لا يقدر على استرجاع ما أبداه في شعره على حد:- (قد قيل ما قيل). وكلُّ هذه التحفُّظات لن تفت في عضدنا، ولن تؤثِّر على ما عقدنا العزم عليه. وكيف نتردّد والحكيم يقول لجليسه:- (تكلم حتى أراك) وكم من متحدِّث ملغز تعرفه من لحن القول لا من منطوقه. والمتعقِّب لطائفة من الشعراء يجد أنّ هناك سمات وخصائص وأخلاقيات لا تفارقهم، فالشاعر (محمد حسن فقي) لا يستطيع أن يتخلّص من التشاؤم والرفض والضجر، وإن ألمّت به ظروف سعيدة، ولقد أشرت إلى الفجوة بين حياته السوية وشعره الضجر. والذين يدرسون حياة الشاعر من شعره لا يجدون صعوبة في التماس شيء من ملامحها، ولو عن طريق قلب المعادلة، والمغايرة قد لا تفسد للمقاربة قضية. وأحسب أنّ الشاعر (حمزة شحاتة) ليس ببعيد عن (الفقي)، فإذا كان (الفقي) متشائماً فإنّ (شحاتة) ممتلئ أنفة وكبرياء وإباء. والشاعران يلتقيان في صفات نفسية، ويفترقان في أمور كثيرة. والتماس حياة (شحاتة) لا تكون عن طريق الاستئناس بمن كتب عنه في ظل الاندهاش بالمثاليات والفنيات واللغويات المتألّقة، وأحسب أنّ القول بوعيه وتعمُّده لمآلات حياته قول ينقصه الإثبات، ويعوزه الدليل، فالشاعر مارس حياته بوعي، ولكن خصائصه النفسية لم تدع فسحة لتقبل المناقض، الأمر الذي آل به إلى انكسارات متلاحقة أدت إلى إخفافه في الحياة الزوجية وهروبه من المشهد، وليس يعيبه ذلك. وإذا كانت قصائده الغزلية ليس فيها رمز ولا قناع فإنّ للشاعر حياة مزدوجة، فشعر الغزل لا يمثِّل الوصف والحس، وإنّما هو تجسيد لحالة نفسية تغذِّيها المواقف، ولا يثيرها الجنس. والشاعر كان في مطلع شبابه على صلة وثيقة بالشاعر (محمد حسن عواد) ولما تقطّعت بينهما الأسباب، وصل العواد حباله بالتجديد المتطرّف، والحضور الفاعل، والثبات أمام الأعاصير، فيما حاول (شحاتة) حفظ التوازن بين التراث والمعاصرة، ولكنه لم يثبت أمام تحدِّي الأوضاع. ولقد تميَّز شحاتة عن العواد بالوضوح والموضوعية وصفاء الإيقاع ونصاعة اللغة، وامتاز العواد بالثراء المعرفي والحضور الفاعل. والشعر على الرغم من كلِّ الاحتمالات له مؤشرات، لا يخيب معها الظن، فالشاعر (حمزة شحاتة) ومن خلال شعره حادّ المزاج، سليط اللسان، يتقن فن الهجاء المقذع، والسخرية المرة، ولولا ما ينطوي عليه من أنفة وإباء وترفُّع لكان الشاعر الهجاء الذي يفوق المتقدِّمين والمتأخرين. وتتجلّى قدرته المفحمة في ملحمته الكبرى التي خاض فيها معركة الملاسنة الممتعة في بداياتها المسفة في نهاياتها. لقد أثارت تلك المعارك الشعرية اشمئزاز المتابعين، ولكنها خلّفت لنا شعراً قوي العارضة، لم نظفر إلاّ بالقليل منه، ولا شك أنّ مثل هذا الشعر يكشف عن سجايا الشاعر وعجزه عن كظم الغيظ، ولقد وصفها جامعو الديوان بأنّها مناظرة شعرية، ولا أحسبها كذلك، فالشاعران (شحاتة) و(العواد) يمارسان السخرية الشخصية، ويقتربان من النقائض، ولكنهما يقعان في الهجاء المقذع والسباب المسف، والمناظرات أقرب إلى تحرير مسائل النظرية المختلف حولها، ولقد جاءت قضية الشعر عرضاً. والمتقصِّي لخطوات هذه النقائض يجد أنّها بدأت في وقت مبكر، وانحسمت في عام واحد، ولسنا معنيين في صدقية ما قيل. فالشاعران على جانب كبير من الخلق والاستقامة والمكانة في نفوس المخالطين لهما، ولكننا نلتمس إمكانيات الشاعر، ودوافعه النفسية، وعنفه في مواجهة الخصوم. والشاعر من خلال رفضه وإبائه وعنف مواجهته يبدو شديد الحساسية والشك، وتلك الخلائق لها تأثيرها الأقوى في مسيرة حياته، وبخاصة في علاقته مع المرأة. والشاعر الذي عصفت به الأحداث، وقست عليه الظروف، وفارق الديار مهاجراً إلى مصر وكف بصره، وكاد يكون رهين المحبسين ترك شعره مع ما ترك، فلم يكن في متناول الكافة، وإنّما كان أوزاعاً في لفائف الأصدقاء، وشعر لا يكون حاضر المشاهد، تغفل عنه الأقلام، حتى لا يكون معروفاً. والمتأمّل فيما وجد من شعره وجمع، يكتشف شاعراً موهوباً، ثري المعاني، قوي الأسر، عميق اللغة، يرتبط شعره بحياته أشد الارتباط. ولقد تبدى جانب من أخلاقياته في احتجاجه واعتذاره عبر قصيدة (مناجاة) ص61، فالشاعر يسلك فيها سبلاً يبدي فيها خطابه، والقصيدة اعتذارية من أجمل ما قيل في الاعتذار، واستعاطفية من أروع ما قيل في الاستعطاف، وتبريرية من أقوى ما قيل في التبرير، ودعائية تسترق القلوب. يقول وهو يخاطب صاحبه الذي رمز إليه بالجواد السابق المحجل:- (لا تشك الأحداث والغضب العارض عني والشك والتأويل هنة جسَّم الخيال معانيها ضلالاً وضاعف التهويل قد تعجلتها بالهجر وما ضاقت بها بعد عذرها والدليل) وهو في هذه القصيدة يعتمد التدوير والتضمين، وذلك مؤشر صدق المشاعر، فالتماسك في القصيدة لا يتهيأ إلاّ لمن يعاني من الموقف، فالوحدة العضوية التي يتحفّظ عليها بعض الأقدمين تُعد ميزة شكلية ودلالية. والشاعر حين يقول بصدق، لا يتلعثم، ولا يتردّد، ولا يفكر فيما يقول، ولهذا أشار جامع الديوان إلى بعض الهنات العروضية التي تدل على العفوية والمباشرة. وعلى الرغم من كلِّ الانكسارات والتوسُّلات تشمخ الأنفة، ويستشري الإباء، فكلُّ ما سبق ختمه بقوله:- ( لا طوينا على الهوان نفوساً لحبيب ولو برانا النحول) وإشكالية المثاليات أنّها حين تمر بمشاهد الواقع لا تكاد تنجو من وضرها، فلو قرأنا (شحاتة) في شعره، وفي نثره، لوجدناه يرصد قمة المثالية، ولكننا حين ننظر إلى مواقفه في مواجهة الواقع نجد إنساناً آخر في عنفه وقسوته وارتباكه وإخفاقاته، وليس أدل على ذلك من خلافه مع صديق طفولته وشبابه وندِّه (محمد حسن عواد)، وزواجه لثلاث نساء وطلاقهن وهجره للحياة واعتزاله للأحياء، وكل الذين يحبون (شحاتة) - وأنا منهم - يقفزون هذه الأحداث، لأنّهم لا يستطيعون تبريرها، غير أنِّي سأقف عندها مكرهاً امتثالاً لقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ }. وإذا اضطروا إلى ذكر خلافه مع (العواد) أدانوا كلَّ أطرافه، وهي إدانة لا تمضي بهم إلى تلمُّس الأسباب والنتائج، فهل كان (حمزة شحاتة) هازلاً تجاوز حد المباح، أم أنّه ضيِّق العطن، لا يتسع صدره لأكثر من قول؟، الشيء المؤكَّد أنّ (شحاتة) على جانب من الخلق الرفيع، ولكن الضغوط النفسية والاجتماعية تخرج به عن حده، وقد تفقده صوابه، وفوق ذلك فهو يعشق القيم، ولكن الضغوط النفسية تقعد به عن اللحاق بها في ساعة الضيق والبرم. أحسب أنني مضطر إلى التنبيه دون المحاكمة والحكم، وعلى الذين لا يجدون حرجاً من النّبش في مثل ذلك أن يتلبثوا فيها كثيراً. وفي النهاية كيف نتصوّر هذه الحياة بعد أن عبرنا إليها من خلال وثائقه الشعرية، وحالته الاجتماعية والنفسية الماثلة للعيان. لقد سبقني إلى ذلك دارسون ونقاد، استحضر بعضهم هذه الرغبة، واكتفى بعضهم بالوقوف على فنيات الشعر ومبلغه من الفن. وكلُّ من أوغل في البنية الموضوعية، ألم بشيء من ملامح حياته شاء أم أبى، ولكنه إلماح عارض، ولهذا فإنّ حياة الشاعر في النهاية تكمن في شعره، وقد لا نكون قادرين على تجليتها بالقدر الكافي، وهي حياة حافلة بالمنغصات والتحدِّيات والإحباطات. |
وبالموت تحيا المآثر
د. حسن بن فهد الهويمل بين صرخة الوضع وأنَّة النزع تقع حيوات فارغة، وأخرى مليئة، وكم من مفارق لا يترك فراقه فراغاً، ولا يثير حزناً، وكم من ميِّت تتعثر بموته منجزات تنفع الناس، والتراث العربي مليء بالتفجع والتأبين والمآثر التي يتركها الكبراء في أي موقع تعد عمراً جديداً يستأنف الحضور بعد مفارقة الروح للجسد. وإذ يكون الموت يقيناً لا مفر منه فإنه في الوقت ذاته فاصلاً بين حياتين حياة الوجود الشخصي وحياة الذكر الجميل والعمل الباقي، وإذا انقطع الميت من كل شيء فإنه يظل حاضراً في ثلاثة أشياء، وما من ميت إلا يود ذووه ومحبوه أن يكون له من الثلاثة أحسنها، فهناك الصدقة الجارية، وهناك العلم الذي ينتفع به، وهناك الولد الصالح الذي يدعو له، وحين يظفر المحبون بشيء من ذلك يهون مصابهم، وتقتصر المفارقة على الجسد الترابي الفاني. والمربي القدير الشيخ عثمان الصالح الذي سبقنا إلى دار البقاء له النصيب الأوفى من هذه الثلاثة، فحين فارقنا بعد عمر مديد حافل بجلائل الأعمال أبقى فينا مآثر جليلة، فهو قد قضى عمره في التربية والتعليم، وخرَّج أجيالاً تملأ الرحب، فكم من مسؤول يتسنم أعلى المناصب يدين له بالفضل، وهو قد ترك منتداه الذي أجزم أن عقبه ومحبيه عازمون على مواصلة ما انقطع، وهو ذو إسهامات وشفاعات وسعي دؤوب في حاجات الناس يعرفها المخالطون له، وله أبناء نعدهم من الصالحين، ولا نزكي على الله أحداً، وله قبل هذا وبعده محبون يعرفون فضله ويقدرون مكانته ولا أحسبهم الا متقلين للراية من بعده لمواصلة ما انقطع بموته، ولقد سبقه إلى دار البقاء علامة الجزيرة (حمد الجاسر)- رحمه الله- فكان أن نهض بالمهمات الجسام من بعده تلامذته ومحبوه يقدمهم صاحب المبادرات الإنسانية الأمير سلمان بن عبد العزيز، وما نرجوه أن يتمخض التفجع والتأبين عن مؤسسة تجمع شتيت أعمال الفقيد، وتواصل مسيرة العطاء الذي بدأه في وقت مبكر، وليس ذلك بعزيز على همة الرجال الأوفياء في ساعات الشدة. وكم كنت على صلة وثيقة به وبمنتداه وكانت (الاثنينية) مجالاً لصولات وجولات الأدباء والمفكرين وكبار المسؤولين من أمراء ووزراء، وأحسب أنها ستظل كما تركها ملتقى للنخبة من أبناء البلاد الذين يدينون له بالفضل. فما مات من خلف وبموته سينهض أبناؤه وطلابه وأحباؤه للمحافظة على ما ترك وسد ما فرغ ومواصلة أعماله، وحيئنذ يظل حاضراً في الذاكرة، وفي الواقع وتكون المفارقة في الجسد لا في الأثر. رحم الله المربي القدير وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان. |
الدامغ في يوم تكريمه
د. حسن بن فهد الهويمل كان بودِّي أن أكون معكم لأفوز بلقاء يعزُّ عليَّ فواتُه، وما كنت لأفرِّط في احتفائية كأنها لي لولا ظروف سبقت. وكلمتي تلك ليست اعتذارية وحسب، إنها مشاطرة محب فوَّت على نفسه أكثر من فرصة، وحين حبَّب إليَّ القائمون على هذا المركز الثقافي المشاركة العملية في تكريم الشاعر القدير والصديق العزيز إبراهيم بن محمد الدامغ، والاشتراك مع أخوين عزيزين: زميل اليوم وتلميذ الأمس الدكتور إبراهيم المطوع، والصديق والشاعر الرقيق الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السماعيل؛ أقول حين حبَّبوا إليَّ المشاركة على أي شكل أحسستُ أنني مقصِّر في حق المركز والشاعر؛ إذ هما أصحاب الفضل، ولي كل الشرف أن يكون لي ولو مفحص قطاة في هذا الاحتفاء بشاعر نعزُّه ونسعد بالحديث عنه. لقد عرفتُ الشاعر الدامغ في مطلع حياتي الأدبية، وأعجبني في شعره روحه الحماسية، وصفاؤه الموسيقي، وصدق مواقفه. وكنت ولما أزل أذكر الأماسي العذاب التي كان يحييها الشاعر أو يشترك فيها، ولما أزل أذكر الاستقبال الرائع لروائعه. لقد كان الدامغ ملء السمع والبصر يوم أن كان حاضر المشاهد كلها، ولكن اختار الاعتزال، وصرفته صوارف الحياة عن الشعر والمحافل، فما كنا نلقاه في صحيفة ولا نشهده في منتدى، وإن تكرَّم وأخرج لنا بعض شعره على استحياء، وتلك سنن المثاليين الذين لا يرضون عن أنفسهم ولا عن مجتمعهم، وإن كانت مشاهد الأدب والثقافة قد شُغلت بغيره فإن ذلك من فعله بنفسه؛ إذ لم يكن هامشياً فهو شاعر متمكن ومثير ومطرب، وله إضافات في عالم الشعر، ولقد كان يوم أن اختار الحضور ملء السمع والبصر، ولكن حين انطوى على نفسه وانسلَّ من المشهد راغباً شُغل المشهد بمن هم دونه، وتلك سنة الحياة. لقد عرفتُ الشاعر قبل أن أدخل عوالمه الشعرية فكان مثار إعجابي، وعرفته أكثر حين أعددتُ رسالتي للماجستير (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد) وعرفت اتجاهاته الموضوعية، ثم زادت معرفتي به حين أعددت رسالتي للدكتوراه (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر)؛ فهو عربي فاقع اللون، وإسلامي ناصع الإسلامية، وشاعر جهوري الصوت، صاخب الموسيقى، يؤدي رسالته بكل وضوح ولما يزل حاضراً بين يديَّ مع عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تتاح لي فرصة مناقشتها، وبخاصة التي تتناول الأدب العربي في المملكة. الشاعر الدامغ أكاد أصفه بالخضرمة؛ فهو بقية الجيل الثاني وبعض الجيل الثالث الذي يبدو حراكه الشعري المؤدلج والمسيَّس. وإذا قلتُ بأنه بقية الجيل الثاني فإنما أعني جيل الستينيات الذين فتحوا عيونهم على المد الثوري والخطاب القومي والحماس العربي. والمتابع لشعره يرى فيه الرصد الدقيق للمرحلة إذ ذاك، وهو لا يختلف كثيراً عن جيله المتوقد حماساً الذين درسهم وترجم لهم الأستاذ عبد الله بن إدريس في كتابه (شعراء نجد المعاصرون). وكلمة كهذه لا يمكن أن تأخذ بأسباب التحليل والتوصيف والنقد وإن كنت حريصاً على ألا أقول إلا ما يفيد المتلقي؛ فالشاعر متمكن أمكن في سوح الشعر، وليس بحاجة إلى الثناء الباذخ، وليس يضيره أن تختلف الآراء حوله، وإذا كنا من مريديه فإن طوائف من النقاد والدارسين لا يقبلون هذا اللون من الشعر شعر الخطابة والوضوح والجماهيرية. إن النقد الحديث يحتفي باللمحة والغموض والهمس، ويكفي الشاعر أنه مجال اختلاف وتنازع. (وكم على الأرض من خضراء مورقة وليس يُرجم إلا مثمر الشجر) ومهما اختلفنا أو اتفقنا حول شاعرية الشاعر فإنه سيظل مشروع إشكالية نقدية تضيف للمشهد النقدي أسساً نقدية. ومن مؤشرات الضعف أن يظل الشاعر ساكتاً ومسكوتاً عنه، وقديماً قال المتنبي: (أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم) إن شوارد الدامغ قادرة على شغل المشهد، وهي جديرة بأن ينشغل بها المشهد، وكم أتمنى أن أكون فيها جذعاً متوفراً على الجهد والوقت لأبوح بما أرى؛ فعلاقتي الشخصية بالشاعر أمتن من علاقتي الأدبية، ولهذا فليس يمنعني من الصدق معه مانع، ولست بحاجة إلى المجاملات الزائفة. الشاعر في النهاية له وعليه، وحاجتنا إلى نقاد يفرزون شعره، فمهما اختلفت الآراء حوله فإنه سيظل شاعراً متمكناً شغل المشاهد ردحاً من الزمن، ثم تسلل من الأبواب الخلفية مغاضباً على المتشاعرين والمجاملين، فهل هذا التكريم الذي سبقت إليه (المجلة الثقافية) و(مركز بن صالح الثقافي) قادر على جرِّ قدمه وزجِّه في حلبة الأدب ليعيدها جذعة؟! أرجو أن يكون هذا التكريم استدراجاً لمثله؛ فإنه في دخوله في الميدان إضافة جديدة لشعراء القصيم الذين درسهم زميلنا المطوع واكتشف قيمة فنية ومادية تدلُّ بها على مناطق المملكة الزاخرة بالشعراء والنقاد. |
من تلوُّث الأجواء إلى لوثة الأفكار..! 1 - 2
د - حسن بن فهد الهويمل إذا كان الله قد يسَّر القرآن للذِّكر، وتساءل:- وكلُّ تساؤل منه جلَّ وعلا مجاز - : هل من مدَّكر؟. فإنّ ثورة المعلومات والاتصالات قد أشاعت المنجز الإنساني، وجعلته مطروحاً في الطريق، يمر به البرُّ والفاجر، وأصبحت أفكار الغرب ومخترعاته وأنظمته وسلوكياته كما الليل الذي هو مدرك لكلِّ حي، وإن خال أن المنتأى عنه واسع. والإشكالية في المتلقِّي العربي، الذي قد يلتقط ما سيكون له عدوّاً وحزناً، فيما يعزب عن ذاكرته ما يحييه. هذه المخترعات المبهرة، وتلك الصناعات المدهشة انتزع بها المسوِّقون لأفكارهم ونظمهم ورؤيتهم للكون والحياة والإنسان من المتسوقين الاندهاش المربك والاستجابة المطلقة. وما كانت تلك البضاعة المسوَّقة إلاّ قصراً على التفكير المادي والسلوك الشهواني، بحيث استحوذت على المتسوّقين الشهوات، وأضلّتهم (الأيديولوجيات)، فحققوا تداعي الأكلة وغثائية الكثرة. وإذا كانت المجتمعات المدنية تباشر التطعيم، كلّما داهمتها الأوبئة، حتى لا تكون مستوطنة، فإنّ واجب المجتمعات المستجيبة لله وللرسول أن تباشر التحصين الفكري، بأساليب حضارية، تقوم على التذكير النافع، والمجادلة بالحسنى. والفتَّانون من يمارسون التعميم في الأحكام، ويستمرئون الفوقية والتسلُّط، ويكرِّسون الحدية الصارمة. والبلاغ المبين لا يتحقق إلاّ بالتخول في الموعظة، والاستمالة باللين، والترويض بالإمتاع، والتطويع بالإقناع، ومراعاة مقتضى الحال، واختيار أيسر الأمرين. وما دخل الرِّفق في شيء إلاّ زانه:- {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ{(سورة آل عمران: 159). ومواجهة الاختراقات الفكرية والأخلاقية المنظَّمة، لا تتم بالجهد الفردي، ولا بالابتسار الجزئي، ولا بالاهتياج الأعزل. والفرادة والتجزيئية والاهتياج تصعد المشكلة، وتزيد الارتكاس. واللوثة والتلوُّث ناتجا خطأ في التشخيص أو قصور في المواجهة، أو تعمُّد في إهمال الثنيات والثغور، أو إيغال في القول فيما لا يعقله الناس، أو إلحاح في طلب المستحيل. ولمّا لم يكن بالإمكان حسم المواقف بالمبادرات الفردية، فإنّ على أصحاب الأجواء المخترقة أن يدرؤوا عن أجوائهم بالمؤسسات المتخصصة، بعد دعمها بالكفاءات البشرية المؤهلة. وثورة المعلومات والاتصالات حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، وفرضت أساليب غاية في الدقة لمواجهة التحدِّي. فالغرب الذي فاضت مشاهده بالمذاهب الوضعية المادية، نبذ دينه وراء ظهره، وألقى عصاه في حقلي: المادة والعقل، ثم تحوَّل مركز التحكُّم عنده إلى العلم التجريبي، فعطل (اللاهوت) و(الناسوت)، وسخر من (الميتافيزيقا) حتى لقد سمَّاها بعض مفكِّري العرب المتلوثين بالمادية ب(الخرافة) ثم عدَّل ذلك بالموقف منها، وهو موقف يجسِّد اللوثة والتلوُّث والسقوط في وحل الماديات. والدين الكنسي المحرَّف في العصور الوسطى بلغ من النفاذ والتسلُّط حدًّا لا يطاق، وعجزه عن الصمود أمام المكتشفات والمخترعات والعلم والعقل زواه في الأديرة، وحوَّله إلى ممارسة طقوسية، يباشرها الجسد عادة رتيبة مفرغة من محتوياتها الإيمانية والعملية، وتفريغ الأفئدة من الإيمان، أصابها بالخواء والتصحُّر، وحوَّلها من عالم الإنسان الوديع إلى عالم الحيوان المتوحش، و:(إذا الإيمان ضاع فلا أمان). وها هي غطرسة القوة تهلك الحرث والنسل، وها هو (الهرج) الذي أخبر من لا ينطق عن الهوى بكثرته يستفحل، حتى لا يعرف القاتل لماذا قَتل، ولا المقتول لماذا قُتِل. ومصير الغرب إلى العلمانية الشاملة فرضه عجز الدين عن مواجهة العلم واحتوائه، والنهوض بمطالب الحياة السوية. وقدر الأمّة المأزوم تتبعها لسنن الغرب، واستهلاكها لصناعاته، وقعودها كالطاعم الكاسي، ومن هنا تلوّثت الأجواء، والتاثت الأفكار. وكيف لا تتلوّث المشاهد، وهي مسرح للمذاهب والتيارات والأفكار والسلوكيات الغربية مجلوية أو طارئة. ومرد الوهن والحزن اشتغال المفكرين العرب بما لا حاجة لهم به، وتنازعهم حول قضايا فكرية لا تعنيهم بشيء، وهي قضايا لمَّا تبرح محيط النظريات الاحتمالية، وتساقطها أمام الجدل الفكري فوّت على مفكري الأمّة فرص المبادرات المستجيبة للحاجة. ومهما أوغلنا في النَّيل من مآلات الحضارة المادية وبؤسها، فإنّنا - وتحقيقاً للمصداقية - ملزمون بالإشادة بالمنجز المادي المذهل، ومطالبون بالتحرف للمجيء بمثله. والتأكيد على أنّ القبول به، والاستفادة منه ليسا ملزمين للمصير إلى مسلّماته الفكرية وممارساته السلوكية. وإذا كان الغرب على علم بظاهر الحياة الدنيا فإنّ حرية التفكير والتعبير وإلغاء المرجعية أردت فكرهم في مهاوي الرذيلة والإلحاد، وأفقدتهم حفظ التوازن بين مطالب الروح والجسد. والوقوف من الفكر المادي الإلحادي والسقوط الأخلاقي لا يمنع من الإفادة والاستفادة، وتبادل الخبرات والمصالح، والركون إلى السلام والتعايش السلمي، والبر والعدل. لقد استفحل الضعف والتخلُّف بسبب التعالق مع القيم المعنوية والوقوف عند حد الاستهلاك الحسي، وبسبب تفويت الفرص المواتية للاستفادة من مناهج الغرب وآلياته ومؤسساته الإجرائية وعلمه التجريبي، فالقبول الشامل والرفض الشامل هما مكمن الداء، إنّ هناك خلطاً عجيباً بين التبادل والتماثل، وكأنّ الإسلام لا يتسع لما اتسعت له الحضارة الغربية من علوم بحتة وأنظمة ومؤسسات ومناهج وآليات لا تعدو محيط الوسائل، ولا تخرج عن أمور الدنيا التي نحن أدرى بها، بوصفها نوازل آنية، يعرف الحاضر منها ما لا يعرفه الغائب. وحين ننشد الموقف الحضاري من الآخر، يجب أن نعرف له سبقه، وأن نعترف له بتفوُّقه، وأن نفعل فوق فعله، بعد تهيئة الأجواء الملائمة للبدء من حيث انتهى، وأن نميِّز بين اقتفاء أثره الفكري، وتفكيك شفرته العلمية. ولا شك أنّ تحقق الغثائية والتبعية ناشئ من التعالق الفكري والمفارقة المعرفية. فأين نحن من العلماء المكتشفين؟ وأين منا المعامل والمختبرات والمصانع؟ في ظل الأمر الرباني العازم بإعداد المستطاع من القوة، ومجيء المأمور به نكرة مؤشرٌ على العموم، فأي قوة حسية أو معنوية تردع الأعداء، تعد من الفروض الغائبة، ومفهوم الإرهاب بالقوة، كمفهوم قوة الرّدع في لغة القوة المعاصرة. وما سمعت مدَّعي التنوير يقولون بذلك، إنّ الانتماء إلى الإسلام يعني تفعيله بأوامره ونواهيه وأخلاقياته وتعاملاته وسائر أحكامه، وفي النهاية فإنّ (الدين المعاملة). لقد تعالقنا مع الغرب، ورضينا من حضارته بما ليس لنا به حاجة، فكانت الفنون وكان المجون، وكان العهر والكفر، ولم يكن العلم وحواضنه، ولا الأنظمة وانضباطها. والذين لا يحبون الناصحين يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه، ويقوِّلون خصومهم ما لم يقولوا، فالتحذير من غزو الغرب وتآمره لا يقتضي اعتزاله، فضلاً عن مصادمته، ولا يعني تبرئة الذات المتخلفة من مقترفاتها. والاستجابة للغرب، والانسلاخ من قيم الحضارة الإسلامية لا تقيلان العثرة، بل تزيدان في الارتكاس والانتكاس. ونفاة الغزو والتآمر لا يتوفرون على تواصل حضاري مع الغرب، يسد الخلال. ومقدرات الأمّة ضاعت بين النفي والإثبات، ولن يُقال العثار إلا بالتنادي إلى كلمة سواء، تصد الغزو والتآمر، وتفتح الأبواب والنوافذ لمزيد من التواصل الإيجابي مع مختلف المنجزات البشرية، وبعث الثقة والوفاء بالعهود والمواثيق. ومؤشرات اللوثة والالتياث متمثلة باستفحال التنابز بالألقاب بين أبناء الحضارة الواحدة وقابلية التبعية، وممارسة الفعل بشكل فوضوي فردي، لا تهيمن عليه مؤسسة، ولا ترصد لتحركاته (استراتيجية). وشواهد اللوثة أنّنا منذ (حملة نابليون) وحتى الآن وقادة الفكر وزعماء الإصلاح وروّاد النهضة في لجة أمسك فلاناً عن فل، وكلهم على اتصال متفاوت بالغرب، فمن مكفِّر يرى أنّ التكفير لا يتحقق إلاّ بالقتال، والقول بأنّ الكفر مؤذن بالقتال قول مخالف لصريح النص القرآني ولهذا استعيض عنه ب(الآخر) لتفادي المفاهيم التي يروِّجها المتطرِّفون عن الموقف من الكفر، وكان الأجدر تصحيح المفهوم لا الهروب من تبعاته، ومن مكفر لا يمنع بر الكافرين والإقساط إليهم، إلاّ في حالة القتال في الدين أو الإخراج من الديار، ومن متصالح متعايش مُسمع لكلام الله موفِّر للأمن، ومن راكن موالٍ ومداهن. وكلُّ فئة ترى أنّها تمارس الحق الذي لا يُعلى عليه، ولمَّا يستطع الخطاب العربي الاستواء على أرضية صلبة، فيما استطاع (الشعب الياباني) استثمار هذا التواصل دون مسخ أو انسلاخ، ومؤشرات الفشل مرتبطة بنوعية الاهتمام، وطرائق التواصل. ودم الأمّة ضاع بين الرأي العام المضلَّل، والنخب الفكرية المتناحرة، وتدخُّل القوى المتغطرسة في السيادة الإقليمية. فمن القاتل؟ ومن الولي الذي جعل الله له سلطاناً؟ إنّ عصر القرية الواحدة يختلف عن عصور القطيعة بين قرية وأخرى، وإذ تقترب الحضارات من التداخل، فإنّ مهمة أهل الحل والعقد عصيّة ومعقّدة، ولقد قلت، ولمّا أزل أقول: إنّ خطاب القوة يختلف عن خطاب الضعف، وأنّ التراجع للتحرُّف أو للتحيُّز يختلف عن الفرار من الزحف، وأنّ العصر عصر مؤسسات لا عصر أفراد. |
من تلوُّث الأجواء إلى لوثة الأفكار..! 2-2
د .حسن بن فهد الهويمل ومؤشّرات الفشل الذريع أنّ المشاهد الفكرية العربية انبهرت بأربعة مفكِّرين ملحدين (نيتشة) الذي أمات الإله، وجعل الإنسان مركز الكون. و(دارون) الذي أرجع الكائنات والأمم كلّها إلى خليّة واحدة، يحكمها قانون (البقاء للأصلح). و(فرويد) الذي ربط النوازع والرغبات بالجنس، موغلاً في حيونة الإنسان. و(ماركس) الذي ألّه المادة، وربط الصراع بها، وحاول فكّ الاشتباك ونزع فتيل الصراع بإلغاء الملكية، ظنّاً منه أنّها مكتسب لا غريزة. والغرب هو الذي تعمَّد إشاعة مفكِّريه ومبدعيه وفنانيه عن قصد، وضنَّ بإشاعة علمائه ومخترعيه وقوانين مكتشفاته وشفرات معلوماته، ليجمع السيطرة من أطرافها، ولهذا يجود بإشاعة الفكر والفن، ويستأثر بالعلم، وليس لشهرة هؤلاء المفكِّرين اليهود ما يماثلها. وهؤلاء الأربعة هم الذين تولّوا كبر اللوثة والتلوُّث في العصر الحديث، ومن أصولهم ومناهجهم وآلياتهم تفرّق الجنس البشري شيعاً وقبائل، وجاءت المذاهب في سائر وجوه الحياة تستمد طرائقها مما أقرّه أولئك. ومع نفوق هذه المذاهب، ودخولها مزبلة التاريخ، فإنّه لم يدلّنا على موتها إلاّ لدات المفكِّرين من بني جنسهم، وقد نجد من يردِّد: -الماركسية لم تمت، والداروينية لمّا تزل فاعلة، وكم نحن بحاجة إلى (دابة الأرض) لتدلّنا على موت الشواخص من تلك الهياكل الجوف، وإذا قيل: إنّ الكفر ملّة واحدة، فإنّ سائر المذاهب الفكرية مهما أبعدت النجعة، تمد بسبب إلى هذه المذاهب المادية الأربعة، ذلك أنّ الرابط بينها إنكار الدين، وإماتة الإله، وتأليه المادة، ونفي عالم الغيب. وما تتداوله المشاهد الأدبية والفكرية والسياسية لا يخلو من اللوثة والتلوُّث، على حد دخن (الرباء) فالذين لا يأكلونه في بطونهم، لا ينجون من دخنه. وإشكالية المتعاطين مع المستجدات أنّهم لم يؤصلوا لأفكارهم، بحيث يميّزون بين المحظور والمباح، ولم يقفوا على تأصيل الآخر لأفكاره ومذاهبه. وفقد التأصيل مظنّة التيه والتضليل. والمتابع للمتشبِّثين بالفكر الغربي، يلمس ذلك بكلِّ وضوح، فهم نقلة ملفقون، وقليل منهم من يعي بعض ما يلتقط، وهم مع حضارتهم بين مسقط للنص، أو متأوِّل يلوي عنقه، مستخدماً آليات التفكيك، التي تلغي الدلالة، وتميت المؤلف، وتمكِّن المتلقِّي من فرض دلالته التي توافق هواه - راجع (دليل الناقد) للبازعي والرويلي -. ولقد كان نصيب الإبداع السَّردي من الانحراف الفكري والسقوط الأخلاقي وافراً. وكلّ من تقحم تلك المشاهد وانغمس في أوحالها، دون تأصيل شرعي استهوته براعة العرض، وجذبه إتقان المخادعة، وأصابه ما أصاب غيره ممن يعبدون الله على حرف. ومع أنّ على المفكِّر أن يقرأ الآخر ما أمكنه ذلك، وأن يستمع إليه وهو شهيد، وأن يأخذ بأحسن ما عنده، فإنّ واجبه قبل الدخول في غيابة الفكر المعاصر أن يتضلَّع من تراثه الشرعي، وأن يحصن نفسه، وأن يعرف الفرق بين الثوابت والمتغيّرات، والأفكار والعقائد، والوسائل والغايات، والمباح الممكن وغير الممكن، والممنوع لمصلحة والمحرم لمفسدة. وما التاثت الأهواء وتلوّثت الأجواء إلاّ من متحدِّث في غير فنِّه، وينقض النص بالاجتهاد، ولا يُفرق بين القطعي والاحتمالي، وإذ ألْهت (بني تغلب) قصيدة قالها (عمرو بن كلثوم) فإنّ بني يعرب ألهى من ذات النحيين بقضايا المرأة منذ (قاسم أمين) وحتى الذين اهترأت أشداقهم عبر القنوات، والقول في المذاهب والتيارات بغير علم أضلّ الأفهام وأزلّ الأقدام. ولعلّنا نضرب مثل السوء بمن قال بعد تخبُّط في التيه: - (نهاية إقدام العقول عقال) ومن قال:- (مشيناها خطى) ومن أبدع: (منعطف الاشتراكية الكبير) ومن كتب (الاعتراف) فيما نضرب المثل الأعلى بشيخ الإسلام (ابن تيمية)، الذي قرأ المذاهب والملل والنحل كلّها، وعرفها أكثر من معرفة أصحابها بها، ولم يُصب بلوثة ولا بتلوُّث، ومردّ ذلك استيعابه للتراث الإسلامي، وفهمه حق الفهم، وإيمانه وتصديقه، واستكماله للعتاد والعدّة قبل منازلة الأفكار والمذاهب، لقد كشف عن أخطائها، وهزم أربابها، وخرج كما دخل، لم يتدنّس بفكر، ولم يتلوّث برأي، ومرق من هذه المذاهب كما يمرق السهم من الرمية، لم يعلق به من وضرها شيء، لقد عقل (الرازي) عقله، وفضح (روجيه جارودي) انحراف الماركسية، وروى (أحمد سليمان) رحلة التيه في قيعان الشيوعية، واعترف (أرتور لوندون) بحياة الرّعب في عالم الحزب الشيوعي، ولو كُشف الغطاء لظهر في كلِّ الأحزاب والطوائف والعرقيّات. وليست الإشكالية فيمن التاث أو تلوّث، لأنّ ذلك ذنب يصيب الذي ظلم خاصة، وإنّما هي فيمن تبنّى هذه المذاهب، ونافح عنها، ومجَّد، أصحابها، وانبهر بطرائق التناول ومناحي القول عندها، ولم يتورَّع من استخدامها في مواجهة تراثه، وتدنيس مقدسه، والتشكيك في يقينيات دينه الكبرى. وما نقم أحد ممن أصابه الدخن، ثم لم يكن داعية سوء. لقد كان (النووي) و(ابن حجر) - رحمهما الله - أشعريين، وقلّ أن يعرف أحد ذلك عنهما، لأنّهما لم يكونا دعاة مذهب، وإن أخذا بمقتضاه، وكان (الزمخشري) - عفا الله عنه - معتزليّاً متعصِّباً لاعتزاله، تجلَّى ذلك في (كشَّافه) الذي لا يستغني عنه عالم في التفسير، لمجيئه في غاية الجودة، ولكنه داعية لنحلة ومتعصِّب لملَّه، الأمر الذي حمل طائفة من العلماء السلفيين والأشاعرة على فضح اعتزالياته، وكشف ما يدسّه من قول مخالف لمذهب أهل السنّة والجماعة. ولم يخل عصر من العصور الإسلامية من طوائف وملل ونحل فيها الغلو والتطرُّف، خرجت على مقتضيات الشريعة، وأوغلت في البدعة، ونافحت عنها، ولكن هذا العصر تجاوز الطائفية والتأويل إلى المواجهة والإقصاء، وكان ذلك في ظل إمكانيات الاتصال والإعلام المذهلة. وإن كان ثمة إشكالية التلويث المتعمّد، فإنّ الذين يخوضون في الفكر المادِّي لا يجدون ما يحمون أنفسهم به، وذلك سر تهافتهم كما الفراش. وتعري سوأة الجهل والتعالم لم تحفزهم على مراجعة النفس، والتزوُّد من معارف حضارتهم، وما يقولونه عن حضارتهم من سخرية وتزهيد ودعوة إلى التخلِّي مؤشِّر جهل بنواقض الإيمان، وتأوّل يميل إلى الاحتمال المرجوح، أو افتراض تأويل لا يحتمّله النص، وما يروِّجونه عن حضارة الغير مؤشِّر انبهار، وما يهرفون به قول معاد، فالسابقون الأوّلون من رفاق (الطهطاوي) حتى يومنا هذا أخذوا بعصم القيم الغربية، ولم يفلحوا إذاً أبدا. والقارئ الملم بالتيارات والمذاهب، يحز في نفسه أن يكون أبناء عشيرته مجال سخرية للمفكِّرين المتمكِّنين، متى استعرضوا ما يتداولونه من كتابات ملفقة لا تفهم الأصول، ولا تتقن القواعد، ولا تعرف المنطلقات، ولا تحيل إلى المرجعيّات، حتى لكأنّهم ممن يهرفون بما لا يعرفون، إنّنا نخالف الأقوياء ولكننا نحترمهم، فأين بعض الكتبة من (محمد أركون) و(محمد الجابري) و(حسن حنفي)، و(برهان غليون) و(فهمي جدعان) وآخرين لا يعلمهم إلاّ المتابعون الرّاصدون. والفروض الغائبة تتمثّل في معرفة أصول المذاهب ومنطلقاتها، فالملتاثون لا يعرفون ضوابط الأخذ ولا موانع الترك، ولا يقدرون على تثوير الأنساق المتجذّرة، وما هم بخارجين من هيمنة الحضارة المادية حتى يعرفوا مبلغهم من أصولها ومنطلقاتها، فما يتوفرون عليه نثار لا يغني ولا يقني، ومع الضحالة والتسطُّح فإنّهم يتشبّعون، ويتجشؤون من فراغ. وإذا قيل لهم خذوا حذركم أخذتهم صفاقة الجاهل واستكبار العائل، وقالوا لمن حولهم: - من صنع حضارة العصر الغرب أم العرب؟ فإذا قيل الغرب قالوا:- هم الأحق بالاقتداء، وهذا مكمن الخسارة الفادحة، والسؤال المفحم:- هل الإسلام يمنع أن نصنع فوق ما صنعوا؟. ومعتصر المختصر: أن يعرف حملة الأقلام أنّ لكلِّ حضارة سماتها المظْهرة والمضمرة، وأنّها لا تتحقَّق إلاّ من خلالها، وأنّ الذين لا يقدرون على هضم ما يتلقّون من فيوض الآخر يدخلون مرحلة المسخ، وأنّ الذين يغلقون الأبواب والنوافذ يخنقون من بداخل الأسوار، فأيُّ الفريقين أحق بالبقاء؟ إنّها معادلة معقّدة. |
مرحلة التكتُّم والتكتُّل ..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل لكلِّ شيء قانونه أو خَلقه الذي به ينضبط، ومن خلاله يبقى وينمو، ولا يند عن ذلك إلاّ المعجزات المؤيِّدة للرُّسل. والله قد {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}طه: 50 فلا تبديل، ولا تحويل للسُّنن الكونية. والحياة بوصفها مجموعة أشياء وأحياء محكومة بالنظام الأزلي، ومن بادر شيئاً من أشيائها بدون قانونه ابتلعته، كما دوامات البحر. وسائر الحيوانات والموجودات: الحسِّيّة والمعنوية تحكمها القوانين، وتسيِّرها الأنساق والسِّياقات. ومن غرَّد خارجها، فكمن يسبح ضد التيار. والحراك الذي تشهده مسارح الحياة كافة، لا يَحكمه الخير المحض، ولا الشر المحض. وكم يكره الإنسان ما فيه الخير، أو يحب ما فيه الشر عن جهل منه، أو عن تَسرُّع، وكلٌّ ميسَّر لما خلق له. وإذا كانت اللُّعب السياسية محكومة بقوانينها، فإنّ القضايا الفكرية هي الأخرى محكومة بأصولها وقواعدها وأحكامها القطعيّة أو الاحتمالية. والفقهاء قبل أن يخوضوا غمار النصوص، ضبطوا فعلهم بالقواعد والأصول، ومثلهم المفسِّرون والمحدثون وسائر المشتغلين بالعلوم الإنسانية أو بالمهارات الصناعية أو بالمكتشفات العلمية البحتة. و(نظرية التلقِّي) لها محقّقاتها، فالمتلقِّي يتوسَّل بالمنهجية والآلية، وخطّة العمل، لتساعده على استخلاص النتائج، وتحديد المفاهيم، وسنِّ الطرائق. وبتعدًّد المفاهيم تتعدّد المواقف، وتتنوّع الملل والنِّحل والمذاهب، وتخلف نظريات المعرفة. وحتمية الاختلاف تستدعي التقريب والتسوية وتفادي الصّدام، ولا يعمِّق العصيان والتنازع إلاّ الذين هم أراذل القوم. والإنسان الذي زجّ بنفسه في أتون الجدل، لا بدّ أن يتوفّر على قوانين القضايا وضوابطها، لكي يعرف متى يصدع بالحق، أو يسر به، ومتى يمارس التورية والقناع، ويستخدم الرمز، ومتى يتقي خصومه تقاة، أو يقدم بين يديْ نجواه صدقه، ومتى ينبذ إليهم على سواء. فالضّعف مع الحكمة قوة، والقوة مع الطيش ضعف. ومن تصوَّر أنّ كلَّ مباح ممكن فقد عرَّض نفسه للانكسارات المؤلمة. والأصوليون يضعون ضوابط للمباح الممكن وغير الممكن. وإشكالية كثير من الكتبة الذين لا يتكتَّمون ولا يتكتَّلون أنّهم لا يفرِّقون بين المحرَّم لذاته والممنوع لغيره، وهو ما يسمِّيه الأصوليون ب(المحرّم لغيره)، ولهذا حين تمنع السُّلطة التشريعية شيئا، لجلب مصلحة، أو لدرء مفسدة، أو لسدِّ ذريعة، كالتحفُّظ على (قيادة المرأة للسيارة)، يجأر البعض منهم، متوسِّلاً ب(فقه الأحكام)، ويعضدهم المحيلون إلى الحرِّية المطلقة كما هي في سائر الأنظمة الغربية، محتجين بأنّ الممنوع نظاماً ليس محرّماً شرعاً، وأنّ سقف الحرية تسلُّط لا سلطة، وفي ذلك خلط عجيب بين حقِّ السُّلطة وسلطان التشريع، وتغييب متعمّد ل(فقه الواقع) و(فقه الأولويات)، وحدود الحرِّيات. ومثل هذه المرافعات غير المحكومة تؤدِّي في النهاية إلى المجاهرة بالخلاف حول أوهام يظنُّها الخليون قضايا مهمّة، تستدعي التصدِّي والتحدِّي والصُّمود. وكم أحسست أنّنا بحاجة ماسّة إلى مراجعة دقيقة لكلِّ القضايا المتداولة، وبحاجة إلى رصدٍ أدق للجدل القائم حول مجملها، وإلى محاولة التفريق بين قضايا الذات وقضايا الآخر، ومتعلّقات كلٍّ منها. وكم راعني ما ألقاه يوماً بعد يوم لدى مجموعة من الشباب الذين تنقصهم الخبرة، وتعوزهم المعرفة، وتشط بهم المثاليات، حتى لكأنّهم غرباء. ولقد أدركت أنّ المؤشرات تنذر بالخطر، فالطَّرح العنيف، والتساؤل المخيف يدلاّن على أنّ مثل هذه الذهنيات المتحفّزة لكلِّ جديد مخترقة من فئات الغلو والتطرُّف، ومن ذوي النوازع المشبوهة، وأساطين اللُّعب الدنيئة. ومن عادتي منح المتوتِّرين منهم الثقة والاطمئنان، ودفعهم إلى كشف منطوياتهم والبوح بمعاناتهم، ولو عن طريق الأسئلة المكتوبة، وكلّما أوغلوا في البوح، قطعت بأنّ الاختراق منظم وفاعل، وأنّنا نفرط بمن استرعانا الله عليهم، أو نغفل عنهم، ليكونوا لقمة سائغة للمضلِّين. (ومن رعى غنماً في أرض مسْبَعة .. ونام عنها تولى رعيها الأسد) وإذا وقعت الواقعة، أقبل بعضنا على بعض بالتلاوم، وأوسعناهم سبّاً واتهاماً، ولمَّا نفكر بالخلايا الخفيّة التي نسمِّيها تجوزاً بالنائمة، وما هي إلاّ المتربّصة والمتصيِّدة لفلول الشباب، الذين يبيتون على الطوى، ثم يفتحون عيونهم وعقولهم على القول ونقيضه من كتبة لا يراعون مقتضى الحال. والنُّخبة حين تستدبر هذه الفئات التي تشكِّل مشروع فتنة عمياء، وتشتغل عنهم بالجدل العقيم حول قضايا ثانوية وغير ملحّة، تمكِّن المتربِّصين من التفرُّغ لهذه الأراضي البور، واستنباتها بما يهلكها لا بما يحييها، وذلك بشحن عواطف الشباب، وتأزيم مشاعرهم، وتضليل أفكارهم، وإغرائهم بالتدافع إلى حلبات المصارعة الفكرية. وهذا الصراع العقيم يحقق للأعداء مكاسب متعدِّدة، فهو من جهة يفرق الكلمة، ويشتِّت الشمل، ويغرس الضغائن في النفوس، ويُحرض على التدابر. وهو من جهة أخرى يشغل المتفقِّهين عن احتواء طلائع الشباب المهيأ للتكيُّف كما عجينة الصلصال، وهو من جهة ثالثة يلهي المقتدرين عن حماية أجوائهم الفكرية من الاختراقات. وفوق ذلك كلّه فإنّ مراكز المعلومات العالمية ترصد كلََّ هذا اللّغط الفارغ، وتحسبه مشاريع فكرية تهدِّد مصالح الأقوياء، ولا تتردّد الدول المستبدّة من تغذية إعلامها بنتائج الرَّصد والتحليل، لتفتّ في عضد الأُمّة، كلّما وقفت للدفاع المشروع عن قضاياها المنتهَكة. وفي ظل هذه الظروف العصبية يتحتَّم الجنوح إلى المواقف الاستثنائية، وليس هناك أهم من التكتُّم والتكتُّل. لقد ريع (هتلر) حين وظَّف خصومُه خطابَه الإعلامي الدعائي لمعرفة عدّته وعتاده، وتصوَّر أنّه مخترق بالجاسوسية، وما درى أنّه مخترق بما يتداوله كتّاب بلاده. ونحن بممارساتنا الكتابية المتوسّلة بالحرية والشفافية نموضع ذواتنا وأشياءنا، فالقنوات، والمطبوعات، والمواقع لا تحقِّق وجودها، إلاّ بالنّفاذ إلى أشيائنا واتخاذها مجالاً للعلك الرخيص. وفي ظل العُجب والعزّة والأنفة لا استبعد التحفُّظ على مثل هذه الدعوة ووصفها بالغرائبية، وبخاصة ممن لا يرقب المشهد عن قرب، وكم من برم يردِّد:- (ويل للشجي من الخلي) و(ذو العقل يشقى في النعيم بعقله)، فالذين في آذانهم وقر، وعلى أبصارهم غشاوة، يتصوَّرون أنّ الوضع سمن على عسل، وأنّ هذا الصّخب الفاضح عبر الإعلام والمواقع إن هو إلاّ أخذ بأطراف الأحاديث التي تطرد الملل، وتقتل الوقت، على حد:- (فلما قضينا من منى كل حاجة) وما هو في بعض أحواله إلاّ كمن يلعب في أرض ملغمة. فالرّاصد الواعي لما يجري، يرى أنّ الأمر مختلف جداً، فالتلاسن يفشي الأسرار المفيدة للمناوئ، ولاسيما إذا جعلنا من الوقوعات الفردية ظواهر عامة، واعتمدنا الإطلاقات المعمِّمة، والموافق الحدِّية، ومصادرة حق المخالف في إطار الاختلاف المعتبر. إنّ كلَّ متحدِّث عن المرأة - على سبيل المثال - لا يجد حرجاً من القول: إنّها النصف المعطَّل، والشريك المهمَّش، والإنسان المضطهد، وما هي كذلك، ولكنّها الإطلاقات المسجّلة لحساب الأعداء المتربِّصين. وأمام تلك المفتريات، زاد الضغط علينا من سائر المنظمات العالمية، الأمر الذي ضعف معه الأطر، وخفَّت معه المتابعة. والمختلفون حول سائر القضايا، ينتهبون الخطى وراء سراب القيعان. ولما لم يكن هناك رغبة عند الغثائيين في التصوُّر السليم، والاشتغال في القواسم المشتركة، والتعاذر والتعايش، فإنّ واجب الناصحين محاولة التهدئة، وتلطيف الأجواء، وفك الاشتباك، والتحذير من مغبَّة التفرُّق. إنّ المتابع لما يحدث، يدرك أنّ الشّقاق على أشدِّه حول قضايا ربما تكون وهمية. والقرآن الكريم أوصى بالإصلاح بين الطوائف المؤمنة، وأمر بحسم الموقف متى بغت إحدى الطائفتين على الأخرى، وليس شرطاً أن يكون الحسم بالقتال، إنّ هناك خيارات متعدِّدة، وواجب أهل الحل والعقد الأخذ بأيسرها، فالرِّفق واللِّين والتيسير والعفو والصَّفح من المقاصد الإسلامية، ومتى حسن الظن، وسلمت النوايا، تلاشت المشاكل، وأمكن التقارب. فهل نحن قادرون على ممارسة الأسلوب الحضاري الأمثل للتوفُّر على التكتُّم والتكتُّل المنقذين في زمن تداعت على أُمّتنا العربية والإسلامية أمم الأرض القوية؟ إنّه زمن عصيب، لا يحتمل انكشاف الساحة، وإفشاء أسرارها. إنّنا مطالبون بالاعتصام، وعدم التفرُّق في سائر الأحوال، فكيف إذا كانت الأوضاع قاب قوسين أو أدنى من المهاوي السحيقة. ومهما تفاءلنا وأحسنّا الظن بأنفسنا، وحَسِب الخليون أنّنا قادرون على رأب الصدع، وجمع الكلمة متى شئنا بالرّكون إلى قوة الاحتمال، فإنّ من المتوقَّع أن تضعف المناعة، وبخاصة حين تكثر العوارض التي نحرضها بأنفسنا، مما يجعل الكيان عرضة للتأثُّر. وليس من حسن التدبير والتقدير أن نقيم رهاننا على الإمكانيات الآنية، ظنًّا منّا أنّها لا تخضع لعوارض التبدُّل والتحوُّل. ومن الحصافة والرّصانة، ونحن نشاهد القوم صرعى، أن نقوِّم المواقف، وأن نتّعظ بمن حولنا، فلسنا بدعاً من الأمم، وليس بيننا وبين الله عهد، وإنّما الجزاء من جنس العمل، والله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم، {وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ}الرعد: 11، ولن نهتدي إلى طرق الخلاص إلاّ إذا عرفنا قدر أنفسنا، وقدَّرنا الواقع قدرة. فالمجتمعات السوية تنشد الوئام، وتنبذ الخلاف، وتُؤثر ولا تستأثر، وتستمع إلى القول، وتتبع أحسنه، ولنا في التكتُّلات (الأوروبية) والإقليمية أسوة:-(تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا افترقن تكسرت أفرادا).ومع كلِّ الاستجابات الطوعية أو التطويعية، فإنّ الخلاص لن يتأتّى إلاّ بتوفيق الله ومشيئته {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ}الإنسان: 30، ومشيئة الله لا تمنع من العمل، فالتوكُّل غير الاتِّكال، وكلٌّ يعمل على شاكلته، ولما لم تكن الدولة من أصحاب النوايا السيئة والمغامرات الطائشة، ولما تقترف من الأعمال ما نتوقّع انعكاسه عليها، فإنّ الضلوع في كشف المخبوء والمصير إلى التفرُّق المعلَن على الملأ في الأداء والمواقف والتصوُّرات مدعاة إلى نفاذ الأيدي العابثة. وها نحن وعلى ضوء ما نتداول نفتح شهيّة الآخر بالمطالبة ب(حقوق المرأة) و(حقوق الإنسان) و(تعديل المناهج) والقفز في الإصلاح، وكأنّنا أمة (تيمية)، فمن الذي أعطى أولئك الوثائق المزّيفة، ومكّنهم من التلويح بها في المحافل الدولية. لقد استشْرت شهوة القيل والقال، وتعمَّقت هوّة الخلاف، وانصرف حديث المختلفين من الموضوعي إلى الشخصي، ومن البحث عن الحق إلى التأكيد على الانتصار. وهذه الممارسات تشغل عن المهام الجسام، وحين تصاب المشاهد بحالة من تشتُّت الجهد والوقت، تصاب الأُمّة بالإنهاك والعجز عن ممارسة وظائفها الرئيسة، وقد تفتح على نفسها أكثر من ثغرة، وتمكِّن أعداءها من جمع أكبر قدر من المعلومات الموهنة. |
مرحلة التكتُّم والتكتُّل ..! ( 2-2 )
د. حسن بن فهد الهويمل والدعوة إلى التكتُّم، لا تعني الخفاء الغنوصي، ولا تعطيل الأفكار، ولا تمنع من المشاطرة في المهام الجسام، وتمحيص القضايا، والتخوُّل بالنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ف(الدين النصيحة)، وما لعن الكفرة من بني إسرائيل إلاّ لعدم تناهيهم عن المنكرات. إنّ ما ندعو إليه قضاء الحوائج بالكتمان، والتعامل مع الظروف بما يناسبها، وبروح الفريق الواحد، إنّه نوع من ترك المراء فعند (أبي داود):- (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، فكيف إذا لم يكن محقاً، أو كان الحق مشتركاً، والاختلاف معتبراً. إنّه الانتصار على الهوى، والانحناء للريح. ومن المسلّمات أنّ لكلِّ دولة أسرارها وقضاياها التي لا يُسمح بتداولها، ولا تسريب المعلومات عنها. حتى الدول الغربية التي تركن إلى (الديموقراطية) لديها سقفها وخطوطها الحمراء، وإعلامها مسيَّر، وليس مخيّراً. والدين الإسلامي في القضايا المصيرية يحثُّ على التآلف والتكاتف والانضباط، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس التورية في بعض أعماله الحربية، وأمين سرِّه (حذيفة بن اليمان). وذهاب كلِّ عالم أو مفكِّر أو كاتب مبتدئ بما يرى، وإعلان الاختلاف والشّحناء حول القضايا المصيرية، والإلحاح في إشاعة المستور عبر الصُّحف والقنوات والمواقع، وتضخيم الوقوعات المتوقّعة، دليل على غمط الحق، وتغليب الانتصار عليه، والجنوح إلى الفوضوية. وقد لا يكون ذلك من باب الصّدع بالمأمور به. والمستفيض أنّ المشاهد كلّها تعجُّ بالمناكفات، وهذا من الظواهر السلبية. والذين يصدعون بآرائهم قبل نضجها، ولا يتيحون لأنفسهم فرصة للاستشارة والاستخارة والتأمُّل، وتفهُّم الآراء الأخرى، ولا يتحسّسون عمّا يترتّب على المجاهرة بالاختلاف، يكونون كما الفتن التي لا تصيبنَّ الذين ظلموا خاصة. وهل أحد يجهل ما تعانيه البلاد من أخطاء الغير في بقاع العالم العربي؟، والمسيء أنّ اختلافنا مشَرْعن بحب الوطن، وما سيء وجهه إلاّ بالتقدير الخاطئ، والتوقيت السيئ، وتهافت الفارغين على قضايا الوطن المصيرية. وسمات المشاهد العربية المرتبكة أمام طوفان الطوارئ الإصرار والعناد واللّجاجة والتعالم، والتهوين من شأن القطب الواحد المهيمن بقوّته وتعمُّد استفزازه، وتبادل الاتهامات، والضلوع في التصفيات، وتحميل الأقوال والأفعال ما لا تحتمل، وتحويل الوقوعات الفردية إلى ظواهر اجتماعية يخوِّفون بها الرأي العام، ويحرِّضون بها الأعداء، وتلك الأخلاقيات لا تفرز إلاّ الوهن، وتمكين المناوئين من اختراق الأجواء، وتحريض بعضنا على بعض، واستثمار نقاط الضعف. وذوو الألباب الناصحون المتمرِّسون في الأمور يلبسون لكلِّ زمان لبوسه، ولا يستغلِّون الإمكانيات للشُّهرة الزائفة، والكسب الرخيص. فما يُقال في وقت الرخاء، يختلف عما يُقال في وقت الشدّة. والأُمّة العربية المحكومة بسياق ضعيف متفكِّك يعتمد في قوَّته وقوتِه على غيره، لا يسوغ لنخبها أن تكشف كلّ أوراقها، ولا أن تقول ما يخيف الآخر، ويحفزه على الترصُّد والكيد. ومن مصلحة الأُمّة وإن كانت قوية أن تجنح للسِّلم، وأن تختار الوفاق على الشّقاق، وإذا كانت متمكِّنة من الحصول على حاجتها بالتي هي أحسن، فإنّ من الرعونة أن تمارس الغطرسة والتباهي واستعراض العضلات. ولعلّنا نضرب الأمثال بما يعيشه العالم اليوم من حروب غير معلنة، ومن مقاومة عنيفة، يندسُّ فيها من له حسابات معلَّقة. و(أمريكا) الأقوى والأعلم بظاهر الحياة والمدارة بمؤسسات دستورية وتشريعية وتنفيذية مستقلّة، تمرُّ بحالات من الإحباطات والنّكسات، وهي قد مرّت بما هو أدهى وأمر في (فيتنام)، وهي قد تلقّت ضربات مؤلمة في (الصومال) و(لبنان)، وكلُّ ذلك ناتج عطرسة القوة والإخفاق في سياسة القطب الواحد. ولو أنّها تركت عصاها معلّقة، حيث يراها المناهضون، لكان خيراً لها وللعالم أجمع. والكلمة والرّصاصة صنوان، فمن لا يحسن استخدامهما، يكون كمن يضع السيف في موضع النّدى. إنّ لغة التعالي والاستفزاز تتطلّب ثمناً باهظاً، مع أنّها لن تحقِّق من المكاسب ما تحقِّقه لغة اللِّين والتلطُّف والتكتُّم. والذين لا يعرفون إلاّ تبادل الاتهامات يفوِّتون على أُمّتهم فرصاً كثيرة. والفظاظة والغلظة مؤذنة بالتخلِّي والفرار، ذلك على مستوى الرُّسل المؤيّدين من الله وا لمعصومين من الناس، فكيف إذا جاءت تلك الممارسات من كاتب غير عارف ولا معروف، وبخاصة حين يحفل بالشّقاق وسوء الأخْلاق، والإصرار على الرأي، والإلحاح في نبش المسكوت عنه، وترويج رأي المعادي فينا. وتداول القضايا بأنكر الأصوات، يضع الأُمّة تحت دائرة الضوء، ويثير حولها التساؤلات. وصِدقُ الخطاب ومشروعيّته لا يكفيان لمشروعيّة المجاهرة بالهنّات واللَّمم، والغايات لا تبرِّر الوسائل. والسياسة (الميكافيلية) تحتاج إلى أجواء ملائمة، تمكِّنها من فرض إرادتها، وفي الحديث:- (كلُّ أمتي معافى إلاّ المجاهرون)، وبدوُّ صفحة الخطيئة تؤكِّد المساءلة، ولكلِّ حدث حديث، حتى الفتيا تختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة والأحوال. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتخوّل أصحابه بالموعظة، ويقول (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) والله سبحانه وتعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16 ويقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} البقرة: 286) ويقول: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}الأنفال: 66، ومشروعيّة المجاهرة في المشاهد تحتاج إلى أجواء وإجراءات ومقدِّمات ملائمة، وكيف لا نهتم بالمقدِّمات المهيِّئة والمقنعة، والله يقول لرسوله: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران: 159). والمجاهرة بالخلاف، مؤذن بتفرُّق كلمتنا، وارتباك صفوفنا، وتعدُّد أهدافنا. وارتفاع نبرة الاستعداء ونعرته في زمن التداعي والغثائية محقِّق للتخلُّف. وما دعاؤنا للتكتُّم والتكتُّل إلاّ من باب مراجعة الحساب، والتحرُّف لخطاب ملائم للمرحلة العصيبة التي تمرُّ بها أمّتنا العربية والإسلامية. وإذا لم نكن في معزل من أحداث منطقتنا العسكرية والفكرية، فإنّ من واجبنا أن نرتِّب أمورنا، بحيث لا نكون نشزاً في سياقنا العربي والعالمي. والتكتُّم والتكتُّل مرحلة (تكتيكية) وليست مقتضى (استراتيجياً) ذلك أنّ الاختلاف قضية أزلية، ولا حياة سوية بدون الاختلاف في وجهات النظر، وكيف يكون الوفاق وتصرُّف الإنسان محكوم بمفهومه ومعلومه، فهو رهين المحبسين: فهمه الأشياء، وخلفيته الثقافية. ونظراً لاختلاف المفاهيم توسّل العلماء والمفكِّرون بمنهج التأويل للخلاص من سُلطة النص القطعي. فالقارئ يدخل عوامل النص، وهو محكوم برؤيته ومفهومه وثقافته، وقد تستفحل عنده المذهبية والإعجاب بالرأي، بحيث تتحكَّم بإمكانياته، وتوجّهه صوب التبرير والتعذير. وحين لا نتوقع وئاماً نهائياً، لا تعقبه أعاصير الاختلاف، نتطلَّع إلى التفكير الجاد بالواقع، ومدى احتماله لمزيد من الصراع، ونود استصحاب حسن الظن، وعدم التشكيك في النوايا، والإبقاء على جسور التواصل، والجنوح إلى الإقناع والاستمالة، والمصير إلى التعادلية في احتمال الصواب والخطأ، إلاّ مع النص القطعي الثبوت والدلالة، وهو البرهان المخوّل للخروج على السُّلطة. إنّ المرحلة المُعاشة بحاجة ماسة إلى تهيئة الأنفس الأمَّارة القلقة للقبول بالتكتُّم والتكتُّل، ولو إلى حين، وبخاصة في زمن يكون فيه الاختلاف مطلب الأعداء، ويكون اختراق الأجواء، وانتهاك السيادة، والحيلولة دون تقرير المصير من ظواهر المرحلة المعقّدة، مرحلة القطب الواحد، والإرادة المدعومة بالقوّة، والتي لم يَعُد معها مجال للمراجعة، ولا للمساءلة. في هذه الأجواء يكون من واجب المستهدف الضعيف أن يتحوّل من (الاستراتيجية) الباذخة إلى (التكتيك) القنوع. وليس من الحصافة ولا من الرَّصانة أن يكون الخيار واحداً، والطريق واحداً يحمل الكافة عليه كما القطيع. والذين يرفعون أصواتهم فوق صوت الحكمة والتروِّي يتحوّلون إلى عدو وحزن. والتكتُّل الذي ننشده من العلماء والمفكِّرين والخطباء والكتّاب والمؤلِّفين، لا يمتد إلى إلغاء الذات، والتسليم للمخالف وتعطيل العقل ومنع الاجتهاد، وإنّما هو الخيار بين ضياع الكل، والإبقاء على القدر الممكن. والدول الأكثر تحضُّراً حين تبدو أمامها مؤشرات الانتهاك والاحتناك، تفكِّر في توحيد خطابها المؤدِّي إلى وحدة الصف والهدف، والعمل ضمن القواسم المشتركة، وتأجيل الملفّات الحساسة، ولا سيما إذا كان المصير مشتركاً، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم معلِّماً ناصحاً، حين ضرب المثل بالمستهمين على السفينة، وركّز على ضرورة الأخذ على يد المجازفين. إنّ التحسُّس عن الأوضاع وجسَّ النبض يعطيان مؤشرات مخيفة للمخيفين فضلاً عن الخائفين. والمصير إلى التكتُّم والتكتُّل هو الخيار الوحيد لمرحلة الرَّصد والترصُّد، يُقال ذلك بالنسبة للدول المتجاورة والمتجانسة، ويُقال مثله للأطياف داخل المنظومة السياسية الواحدة، إنّه خيار المرحلة، ومن لم يقوِّم المواقف، ويمارس النّقد الذاتي، غير هياب، ولا وجل، يكون كباسط كفّيه على الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه. والقول بالتكتُّم والتكتُّل لا يشرعن الركون والمداهنة، ولا يغري بالتخلِّي عن الثوابت، ولا التنكر لمحقِّقات الحضارة. والذين يصدعون برويتهم الحدية، ثم لا يستحضرون (فقه الواقع)، ولا يقيمون وزناً ل(فقه الأولويات)، ويجعلون مناطهم (فقه الأحكام) المعزول عن سياقه، يتجمّدون عند خطاب يعطي أحكاماً، ولا يرسم حلولاً، وتلك الطائفة فوّتت على نفسها تسامح الإسلام وانفتاحه، وأخذت بالحدِّية الصارمة، وفي المقابل فوّتت طائفة أخرى على نفسها ضوابط الإسلام بالتمييع لحدوده والتلميع لخصومه، وكلتا الطائفتين عمّقتا المراء حول بدهيات ونصوص حمالة، كما نص (لا يصلين أحدكم العصر إلاّ في بني قريظة) ومع أنّ حياة الأُمّة لا تستقر إلاّ على علم الفقه بكلِّ أنواعه: (الحكمي) و(الواقعي) و(الأولوي) فإنّ التفريط بشيء من ذلك مؤذن بتخلُّف مريع عن ركب الحضارة. والمراهنون على حتمية الاختلاف لا يضعون قيمة للقدر المسموح به، ولا يستحضرون الظروف غير الملائمة، ولا يتوفّرون على منهجه وآليته ولغته، ولا يحتملون المخالف، مع أنّ إبلاغ المشرك مأمنه مقتضى إسلامي. ولست أشك بأنّ الذين يعدُّون الاختلاف نوعاً من الرياضة الفكرية، والحضور الفاعل سيسخرون من مثل هذه الرؤى التوفيقية، بحجّة أنّ العصر لم يَعُد قابلاً لمزيد من التنازلات عن وجهات النظر، وأنّ القضايا لا يمكن أن تنضج إلاّ بتفرُّق وجهات النظر، وتبادل الاتهامات. ومع مشروعية بعض هذه الحيثيات فإنّ الوقت وإفرازاته لا يحتملان مزيداً من الفرقة ونشر الغسيل، ولا سيما أنّ طائفة من قضايا الاختلاف المثارة لا تشكِّل معوقاً لمسيرة الحياة السوية، وفق ظروفها المعاشة، وإمكانياتها المتاحة، وبالإمكان رفع ملفّاتها إلى حين. والدعوة إلى التهدئة في ظل قسوة الظروف أفضل من تصعيد الخلاف، وإذا كانت السُّلطة قادرة على إدارة دفّة الاختلاف، والتحكُّم فيه فإنّ تبادل الاتهام في النهاية رسائل حسّاسة، تقع في يد الخصوم، وملفّات ساخنة تفتح في ساعة العسرة، وبخاصة أنّ المستفيدين من اختلافنا لا يفتؤون يصدقون الاتهامات. ولو نظرنا إلى المشاهد المحدودة داخل المنظومة الواحدة، لوجدنا نبرة التنابز والتنافي متنامية، والصراع على أشدّه حول قضايا إن لم تكن وهميّة فإنّها هامشية، والمرجفون لا يتثبّتون، والمشيعون لا يبالون بأيِّ واد هلكت مصالح الأُمّة، والخطاب المناوئ يستفحل في ظلِّ الضعف والتفكُّك، حتى لا يدع فرصة تفوته، فهو دائب البحث في بؤر التوتُّر، ومغرم بفتح الملفّات الحسّاسة، وليس أدلّ على ذلك من استدعاء ملفّات (المناهج) و(الحقوق) و(الإصلاح) و(المجتمع المدني) بمفهومه الغربي إضافة إلى ملف مهترئ منذ مئات السنين، وهو (ملف المرأة)، والذين يصطرعون حول قضاياها هم الأكثر تمسُّكاً بما هو في نظر التحرُّريين مصادرة لحقوقها. إنّ استلال الوقوعات الخاصة من سياقاتها، والنّفخ فيها، تضخيم غير مبرر، وتمكين للأعداء من رقاب الأُمّة، ومواجهة الوقوعات والظواهر لا يستقيم أمرها إلاّ من خلال مؤسسات مسؤولة. إنّ استدعاء القرار في البيوت، وعدم التبرُّج والاختلاط، وهو قول ربَّاني، لا يعني حرمان المرأة من التعلُّم والعمل والتجارة. قد يبادر البعض إلى القول بأنّ الحراك الفكري لا تتجلّى مسائله إلاّ بالاختلاف، والحق أقول: إنّ الاختلاف غير الاتهام والاستعداء والتشكيك في المقاصد. والجدل الإيجابي لا يكون إلاّ بالتي هي أحسن، وفي ظروف مواتية لا تكون فيه الأُمّة مستهدفة في أمنها واستقرارها واقتصادها. وتماسك الجبهة الداخلية، وكونها ظهيراً للمؤسسات الفاعلة، مدعاة إلى حماية الأُمّة من الأعاصير الهوجاء التي تعصف من كلِّ جانب. فهل نقبل باستراحة المحارب، ونكتفي بالاشتغال في القواسم المشتركة، إلى حين انقشاع الغمّة، وعودة الحياة إلى وضعها الطبيعي. إنّنا بحاجة إلى حسن الظن، والتماس العذر للمخالف، حتى يتبيّن لنا عناده وإصراره على الحنث العظيم، وعندئذ نجنح لأهون الضررين. أحسب أنّ الحلَّ الأمثل يكمن في التكتُّم والتكتُّل. |
علو في الحياة وفي الممات..!
د. حسن بن فهد الهويمل شاهدت يوم الحشر يوم وفاته وعلمت منه مراتب الأقدار وكثرة المصلين والتابعين من المبشرات. فالناس شهود الله في أرضه، أوجب مدحهم، كما أوجب قدحهم. وكان الموعد يوم الجنائز، والسعيد السعيد من إذا غاب شخصه قام ذكره أكثر إشراقاً، وأنصع بياضاً. ونعم العبد أبو سليمان، إنه الحفي بجلائل الأعمال التي تموت بموته، وتحيا بحياته. لقد ودّع القصيم ابنه البار، الذي نذر نفسه وماله لوطنه ومواطنيه وقادته، وأي محمدة تسامي قول المعروف، والإحسان إلى الناس، والإصلاح بين الفرقاء، وكأني بكل تابع لنعشه يردد: (يا موت ما أبقيت لي أحداً). يقولها الأباعد السامعون بمآثره، والأقارب المنتفعون من فيوض إحسانه، وستبكيه كل الأطياف، وينتحب عليه كل ذوي الحاجات. فقراء فك غوائل الجوع عنهم، فأنساهم ويلاته. وأيتام زغب الحواصل، كفلهم فكان لهم كالآباء والأمهات، يمسح على رؤوسهم الحاسرة، ويملأ بطونهم الخاوية، ومساكين شد من أزرهم، حتى استقامت لهم الحياة، ومصابون جبر مصابهم، وبلسم جراحهم، حتى نسوا المعاناة. فكان الآسي والمواسي والمتوجع، ولا قيمة لحياة لا يكون فيها المقتدر بماله أو بجاهه المنعم المتفضل. لقد ترك برحيله فراغاً سيعيشه الموسرون قبل المعسرين، والأقوياء قبل الضعفاء، والمواطنون قبل المقيمين، ومن ذا الذي جمعت فيه خصال المؤمنين الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. وكيف لا يترك موته فراغاً، وهو السبّاق إلى مكارم الأخلاق. فجأ الموت أبا سليمان (صالح بن عبد الله السلمان) وهو يدير الأعمال، ويدبر الأموال التي سخرها لأهله وعشيرته، وأنفقها دون إسراف ولا تقتير. وموت الفجأة غنيمة للمؤمن، وحسرة على الكافر، وبموت مثله تموت سجايا حميدة. لقد كان كريماً لا تكدره الدلاء. ووفياً لا يند عن الوفاء. وصديقاً صدوقاً يتفقد الأصدقاء. ما خف قومه إلى مكرمة إلا كان في المقدمة. وما مُدّت الأيدي إلى المغانم إلا كان في المؤخرة. وما اثاقلوا عن مهمة إلا كان المستنهض للهمم. وما ترددوا في أمر إلا كان العازم المتوكل. أحبه الأمراء، والكبراء، والعامة، والدهماء، نسي نفسه في خدمتهم فذكروه في مجالسهم، وأشقى نفسه في حاجاتهم فأسعدوه بثنائهم. كان حاضراً في الجمعيات الخيرية، والجماعات العلمية، وأصدقاء المرضى، وسائر الأعمال الجماعية، يمدها بماله ووجاهته، وكان شاهداً في كل المهمات، يشد أزرها بالقول السديد والعمل الرشيد. يسعى في حاجة الأرملة واليتيم، ويطعم البائس الفقير لوجه الله، لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً. كل المحامد فيه سجية، تجري كما الريح الرخاء. كان مشرَّع الأبواب لذوي المآرب، تدار في بيته مصالح البلاد والعباد، ويمرح في مزارعه الرجال والركبان، يتزود من ألبانها القانع والمعتر. لا يمل من فعل الخير، وكأنه خلق ليكون كريماً، فهو يحسب الكرم خِلقة في الأيدي، كما الملحية التي (تحسب الدمع خِلقةً في المآقي). كان في مطلع حياته فقيراً، ذاق مرارة الفقر فلم ييأس. وكان في عنفوان كهولته غنياً، ذاق لذة النعيم، فلم يطغَ أن رآه استغنى. وكان مريضاَ تغمره الأجهزة الطبية يوم أن فاجأته النوبة الأولى فلم يجزع، وتلك خلال جمعها الله له، فكان الصابر في البأساء، والشاكر في الضراء. نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً. كان صديقاً عزيزاً، عرفته عن قرب، وصحبته في أسفاره ورحلاته، ووقفت على خصال لا يعرفها إلا رفقة السفر، وما سمي السفر سفراً إلا لأنه يسفر عن وجوه الرجال. لقد كان بما أنعم الله عليه جديراً بالتأمّر على رفقته، ولكنه كما الصحابي الذي يشترط في سفره أن يكون المؤذن والخادم، لقد كان طيبا في المعشر، نقي المخبر، دمث الخلق، صافي السريرة، يؤثر ولا يستأثر. ويوم أن فجأنا موته، كنا على موعد للرحيل إلى مشارف الرياض، لحضور احتفالية بعض أبناء بريدة بشفائه، إذ ما كنا متوقعين فراقه في زمن هو أحوج ما يكون إلى مثله في بذله السخي وأدائه الوفي. كان في السادسة من مساء يوم الأربعاء 21-3-1427هـ يهاتف أصحابه لترتيب الرحلة، وفي السادسة والنصف فاجأته النوبة القلبية الثانية، وفي السابعة والنصف كان في عداد الأموات، فهل من مدكر؟ رحم الله أبا سليمان رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجبر مصاب أهله وذويه وأصدقائه الذين كان لهم حبل الاعتصام، وليس من السهل أن تفارقنا، ولكننا بالتأبي كمن يغالب المستحيل. والنفس إن رضيت بذلك أو أبت منقادة بأزِمّة المقدار |
النقد الأدبي في المملكة: قضايا وإشكالات..!!
د. حسن بن فهد الهويمل لم أكن حفياً بالعودة إلى القواعد القديمة، وإن كنت مسكوناً ببقاياها: (وذو الشوق القديم وإن تعزَّى مشوق حين يلقى العاشقينا) وذو الشأن المتقصي لحراك المشاهد الإبداعي في الوطن العربي، يجده مستباحاً بالأدلجة العنيفة، والتسييس الأعنف، وتجريب التخريب. والنقاد المرابطون على ثغور الأدب الخالص، ألقوا أقلامهم، وانفضوا من حول الإبداع القولي، بحثاً عن مواقع مغرية، والذين لم يستجيبوا لمشاهد السياسة والفكر، قتَّلوا أبناء النقد، واستحيوا نساء الثقافة، وخصَوا ذكورية اللغة، وتلقوا ركبان المستجدات. ولأن مشاهدنا لا تقول إلا معاداً أو معاراً، فإنها تهيئ نفسها لاستقبال (النقد المعرفي) أو ما يسمى ب(اللغويات المعرفية)، وهو لون من المناهج النقدية، التي تتقصى معارف النص. وإذ لم نصبر على طعام واحد، كانت كل المذاهب حِلاًّ لبني يعرب. والمؤرخون للحركة النقدية، يكادون يتفقون على مرحلة الريادة ومنطلقها ورموزها وسماتها واهتماماتها، فلقد أجمعوا أو كادوا على انطلاق الريادة من (الحجاز) قبل ثمانية عقود أو تزيد على يد (محمد سرور الصبان) وقد أخذت وضعها الطبيعي بعد التواصل مع الحركات النقدية في مصر والشام والعراق، ولربما كان صراع المدرستين: (الديوان) و(أبوللو) في الثلاثينيات من القرن العشرين المثيرّ الأقوى لحركة التأسيس النقدي على يد المنهجيين. وفي مقدمتهم (عبدُالله عبدالجبار)، والمجددين وعلى رأسهم (محمد حسن عواد)، والمؤرخين ومنهم (الساسي) و(بن إدريس)، والدارسين المفسرين ك(الشامخ)، والانطباعيين ك(أبي مدين) و(الفلالي) وآخرين واكبوا تلك الأجيال، أو جاءوا من بعدهم، وبخاصة الأكاديميين، وأبرزهم (أبو داهش) و(ابن حسين) و(باقازي) و(الرشيد) و(الفوزان) و(الحامد) و(الحارثي)، أما في العقدين الأخيرين فقد انطلقت الحركة النقدية في كل الاتجاهات، وتعالقت مع كل المستجدات، حتى لا تجد ناقدين على قلب رجل واحد. ومثلما مرت الحركات النقدية في الوطن العربي بتحولات متلاحقة، تعرضت الحركة النقدية في المملكة لذات التحول، والفرق في (الوعي) و(التأصيل) و(الاستبانة) و(القدرة على الفهم الدقيق) و(التحكم القوي). لقد تنوعت الاهتمامات، وتعددت المعارك، واختلفت السمات، فمن نقد أكاديمي تمثل بالمحاضرات والأطروحات، إلى نقد صحفي تجسد بالتطبيق والتنظير، واتسم بالانتقائية والفئوية، إلى نقد معياري استمد لحمته من مناهج الدراسات اللغوية في الغرب، ك(البنيوية) و(التقويضية) و(التحويلية) وعُرفت من بعد (النصوصيةُ) و(الألسنيةُ) و(النقدُ اللغوي)، وهي مناهج تعلي من شأن اللغة، وتُفضلها على سائر الأشكال والفنون والمعاني. وواكب تلك التيارات اتجاهات موضوعية وأخلاقية وفنية، ولم يخل أي تيار من مؤصلين ومقلدين وأدعياء فارغين. وجاء الحداثويون يخلطون الفن بالفكر، ويأخذون هذا الأدنى، غير مهتمين بضابط أو شرط، وغيرَ عابئين بالخصوصية الفكرية أو الأخلاقية، وحجتهم الواهية حقهم في حرية التعبير. وأعجب العجب أن طائفة من مدعي الحداثة يجهلون مقتضاها، ومن ثم لا يتجاوزون التجديد، وواجب المنصف التحري قبل الحكم. ولما كان النقد رديفاً للإبداع فقد استحوذ عليه سلطان الشعر ردحاً من الزمن، حتى عاد المبتعثون للدراسات العليا إلى أروقة الجامعات ومشاهد النقد، يحملون هموما وأفكارا، ومناهج وآليات جديدة، فكان أن ظهر (النقد السردي) على يد مؤسسة (منصور الحازمي) بعد رائدية (العواد) و(ضياء)، ولما يزل هذا اللون من النقد دون المؤمل، ذلك أن السرديات تحيل إلى مفاهيم الغرب ومناهجه، وهي لما تكن حاضرة المتداولين، إذ لم يكن التواصل كافياً لتجهيز أرضية معرفية صلبة. والإشكالية الأكبر تتمثل في طغيان التأريخ والتنظير على التطبيق، وفي اشتغال المشهد بآليات ومناهج لا يتقنها المرسل ولا يفهمها المتلقي. والمشهد النقدي وسع أشتاتا متفاوتين في اتجاهاتهم وقدراتهم، فلو قرأنا مثلاً للنقاد (الحازميين) و(الغذامي) و(البازعي) و(العباس) و(القرشيين) و(الزهراني) و(البواردي) و(القحطانيين) و(الفيفي) و(زياد) و(الحامد) و(أبو داهش) و(الرميح) و(الحارثي) و(الشامخ) و(الخطراوي) و(السبيل) و(ابن تنباك) و(الرشيد) و(السريحي) و(المعيقل) و(النعمي) و(المعطاني) و(الطامي) و(الزيد) و(الفيصل) و(عريف) و(بدوي) و(بافقيه) و(باقازي) وآخرين يراوحون بين القديم والجديد، ويتوسلون بمختلف المناهج والآليات لوجدنا المشهد يعج بألوان الطيف، وذلك مؤشر تعالق ممعن في الاندفاع، أو تخلٍّ مسرف في الانقطاع، والبعض يحمل ذلك التباين الشديد على التنوع الحميد. ولما لم نكن بصدد التقصي والتقويم فإننا نكتفي بالإشارة إلى الظواهر، وندع القارئ يحدد موقفه على ضوء ما يسمع ويرى. وقولي في تصور المشهد النقدي قابل للأخذ والرد، فما كنت قاطعاً أمراً دون استشعار الرؤى والتصورات الأخرى، فالقضايا والإشكاليات تختلف من دارس لآخر، والمهم أن يكون الدارس على علم بواقع الحركة النقدية: محلياً وعربياً. وإشكالية الحركة النقدية في المملكة أنها كما الشعوب والقبائل التي لا تريد أن تتعارف، ولا أن تعاون، وكأني بالمتعقب للأصوات المختلطة يرى أن كل تعدد ثراء، وما هو على إطلاقه، إذ التوفيق غير التلفيق، والصوت غير الصدى. ولكيلا تتفلت الأمور في التوسع بالرخص، وتتبلد الحواس في الشرعنة لكل خطاب فإن على رعاة الحركة النقدية أن يغاروا على حماهم، وأن يفعلوا شرطهم، وأن يمتازوا عما سواهم، وأن يحرروا مسائلهم، وأن يؤصلوا معارفهم. وهذه الاحتراسات لا تمنع من التجريب والتهذيب، فنحن أبناء راهننا، ولسنا أسارى تاريخنا، والناس شركاء في المنجز الإنساني، ما لم يكن عندنا برهان بمنعه. وإشكالات النقد متعددة ومتنامية، فهي: إما ناتج علاقات مع قيم تتقاطع معه، ولا تكون إياه، أو هي ناتج اضطراب في المفاهيم، أو عجز في الإمكانيات. وليس من السهل تقصيها، إذ ربما تكون لكل ناقد أو عصر أو ظاهرة إشكالياتها الخاصة. ولنضرب مثلاً بعلاقة اللغة بالنص على سنن التفريق بين (اللغة) و(الكلام)، وما جد من مناهج لغوية، ونصوص إبداعية بكل مستوياتها، وتداخلاتها، وتشعباتها، واتجاهاتها ومناهجها. ولو نظرنا إلى مشاهدنا خاصة، لوجدنا مكمن الخلل في الضابط والشرط والمفهوم، إذ كل مشتغل في النقد يشرعن لنفسه الوصاية المطلقة، ولا يتحرج من النفي والتجهيل لكل من يراجع أو يتساءل. وقد يستهوي خطابه المبتدئين والمتعالمين، وبخاصة المتنفذين إعلاميا، بحيث يكونون له ردءا، يقولون بقوله، ويقلبونه ذات اليمين وذات الشمال على صفحات الصحف. ولما لم نكن ضد الضابط والشرط والمحظور والمباح فإننا ضد الأثرة والتمييع، ومتى رضي المختصمون في المشهد النقدي بمرجعية تفض الاشتباك، وتحسم الخلاف، وتجمع الشتات، فإن شِرَّة الإشكاليات ستخف شيئاً ما. ولسنا هنا ضد التعدد والاختلاف، ولكننا ضد الفوضوية باسم التعدد، وضد المراء باسم الاختلاف. ومتى بلغ الناقد بموهبته ومعرفته ودربته حد الأهلية فإن من حقه أن يبادر المهمات، وأن يبحث عن الحق، وألا يلتفت إلى المخذلين غير أولي المعرفة. وإشكالية المشهد أن المتسيدين ليسوا على شيء حتى يقيموا أوده، فهم لا ينطلقون من قاعدة معرفية ولا يحتكمون إلى ضابط، ولا يقبلون بمرجعية، وأي حضارة مؤهلة للنفاذ إلى ميادين اللزز، لا تقوى إلا بالمرجعية المطاعة، والضابط القائم، والسمة المميزة، والتناجي بالمعارف العميقة الشاملة. وما عهدنا تمثل حضارة المهيمن، أو التماهي معها بين سائر الحضارات طريقاً للوجود الكريم. كما لم نعهد التركيز على التمايز، والتأكيد على الهوية، والحرص على الانتماء حائلة دون التزود من مستجدات العصر. وكيف نتوقع الاعتزال، والحضارات يرث بعضها بعضا، ويستفيد بعضها من بعض، وليس هناك حضارةٌ خالصةٌ من المؤثرات، ولا غنيةٌ عن الاقتراض، والإشكالية في ضبط التواصل وإتقان التفاعل. ورأسُ الإشكاليات اضطراب التصورات حول مفهوم النقد وأنواعه، ووظائفه، ومقوماته، وثقافة الناقد، ومشروعية التنوع، وتعدد الاتجاهات. والحركة النقدية في المملكة ليست بدعاً في سياق الحركات النقدية كافة، إذ لكل حركة قضاياها وإشكالياتها وناسها العارفون وغوغاؤها المخذِّلون. وثمة إشكاليات إجرائية كاختلاط الموضوعي بالشخصي، وإصرار البعض على تضعيف المخالف، والتقليل من شأنه، ووصفه بالماضوية والمحافظة، وكأن استصحاب التراث وتفعيله عقبةٌ في طريق التجديد، والصراع بين القديم والحديث من الظواهر الحميدة، ولكن الحيدة به عن الموضوعية، وقيامَه على مصادرة الحق، وتصفية المخالف، حولته عن مساره الإيجابي. وتلك شنشنة المتحدثين الذين يظنون أنهم أهل النقد وخاصته، وإذ يلحُّون على اتهام الخصوم بالتقليد، فإنهم ينسون أنهم مقلدون للغرب باسم التفاعل المشروع. ودعاة التجديد النافون للحداثوية والاستغراب لا يسلمون لمن يتهمُهم بالتقليد ورفضِ التجديد، وهذا الصراع وإن جار بعض أطرافه، لا يخلو من إيجابيات، لأن فيه تحفيزاً للتزود من المعارف. وتعميق الإشكاليات يتبدى في الإطلاقات المعممة، فالحداثويون ليسوا سواء في إمكانياتهم ومقترفاتهم، كما أن المجددين والمحافظة ليسوا سواء في تجديدهم أو في محافظتهم، وإذ لا تزر وازرة وزر أخرى، فإن ترشيد النقد يقوم على التثبت والتحديد، وتحامي الأحكام المطلقة، وما أضر بالمشهد النقدي إلا تعميم الأحكام، والتصنيفُ غيرُ المنصف، وتزكيةُ النفس، وإدانةُ الخصم دون سماع حجته، تلك طائفة من الإشكاليات، والخطوة الأولى في الحل السليم معرفة الذات، وتقويمُ المنجز، واستبانةُ الخلل، وتداركُه. والحديث عن القضايا كما الحديث عن الإشكاليات، حديث متشعب، وقضايا النقد العربي تكاد تكون متجانسة، فهي إما: لغوية خالصة، أو موضوعية خالصة، أو فنية خالصة، أو هي خليط من ذلك كله. ولعل المناهج اللغوية الحديثة عمقت الخلاف، وعددت القضايا، وبخاصة مفهوم (النص) و(التناص) و(التفكيك). والمتعقب للقضايا يجد أنها تراوح بين الإلحاح والعفوية، فقد تخطر على بال الناقد، وقد يعمد إليها، كما لو كانت إشكالية قائمة، وأهم القضايا تقوم على المفاهيم والوظائف، وقضايا الشكل والمضمون، ومناهج النقد: كالمعرفي المتشعب، و(الأيديولوجي) المتعصب، والفني الخالص، واللغوي المعياري. ومجمل القول إن قضايا النقد العربي كافة لا تكاد تختلف، ولكن الاختلاف في القدرة على الاستكناه والتفصيل والتأصيل. إن هناك مؤرخين، ودارسين، ونقادا، وأكاديميين منهجيين، وعلماء معياريين، وهواة انطباعيين، وأشياعا، وأتباعا ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك، وكل فئة تدعي أنها أهل النقد وخاصته، وأن غيرها أدعياء متطفلون. والمتلقي المحايد كما الفتى العربي في (شعب بوان) غريب الوجه واليد واللسان. والحركة النقدية اعتورها مؤرخون لا يعنيهم من شأن النقد إلا الإجابة على التساؤلات التقليدية: أين؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟ ومن؟ وهذا الصنف راصد للحدث، وليس مقوماً له، ودراستي لحركة النقد الأدبي في كتابي المخطوط (مداخل لدراسة الأدب العربي في المملكة العربية السعودية) جاءت قريبة من هذا النوع، ولقد شاطرت في هذا المنهج الدكاترة (محمد الشنطي) و(عبدالله الحامد) و(إبراهيم الفوزان) ولفيفاً من الأكاديميين الذين عنوا بهذا الاتجاه. كما كتب عن الحركة النقدية نقادُ النقد، وهم قلة، وجاءت دراستي (النقد الثقافي: البديل أو الرديف) المنشورة في جريدة (الجزيرة) على مدى خمس عشرة حلقة من هذا النوع، وهذا اللون من الدراسات لا يخلو من الانحياز السلبي، والنوازع المذهبية، وحدة النبرة؛ فالعواطف لا تدع القلم ينقب في عوالم الآخرين، دون ميل يدع بعض القضايا كالمعلقة، أما النقد التطبيقي فقد سلك طريقه عدد لا حصر له، منهم من أنشأ كتباً عن مبدعين أو عن قضايا، ومنهم من كتب دراسات نقدية ثم جمعها في كتاب. ولقد كانت دراستي (النقد البنيوي للإبداع الروائي) المنشورة في ملحق (المدينة) على مدى خمس وثلاثين حلقة من هذا النوع، ومن خلال تلك الأعمال تبدت القضايا والإشكاليات، ولن نشير إلى أحد من المؤرخين والدارسين والنقاد، فالمتابع للحركة يعرفهم بسيماهم، وإذا سمحت لنفسي مؤاخذة هذه الألوان من الدراسات فإنني مصاب بدخنها، (وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء). والحديث عن القضايا والإشكاليات يستدعي نقاداً اقتسموا مراحل الحركة النقدية، وتنازعتهم المذاهب والظواهر والتيارات، وكان لهذا التنازع أثره الإيجابي، والمؤرخون للحركة النقدية يختلفون في رصد هذه الظواهر، فمنهم من يقسمها إلى ثلاث مراحل: مرحلة الريادة، ويأتي على رأسها (الصبان)، ومرحلة التأسيس ويأتي على رأسها (عبدالله عبدالجبار)، ومرحلة الانطلاق، وهي خليط من كتاب ونقاد شتى، لا نستطيع أن نحصيهم عدداً، ولا أن نحدد اتجاهاتهم ونوازعهم ومستوياتهم، وتلك المرحلة مع ما هي عليه من تجاوزات تمثل الوجه المشرق للحركة النقدية، ومن محامدها تجسير الفجوات بين النقد في المملكة وسائر المشاهد النقدية العربية، ومهما تحفظنا على بعض التجاوزات فإن المشهد النقدي ينطوي على إيجابيات لا ينكرها إلا مغالط، وستظل القضايا والإشكاليات وأسلوب تداولها مثار جدل عنيف واختلاف لا يرجى حسمه، ومن الخير للمشهد أن يظل عامرا بالجدل المعرفي. |
من الكتبَة الجوف إلى المشهد اليباب..! (1-2)
بقلم :د.حسن بن فهد الهويمل الراصد الممتلئ بهم أمته، المسكون بقضاياها المستباحة، يبصر ويسمع كافة المشاهد: الفكرية والسياسية والأدبية، - وهي مليئة كما الفلك المشحون - بالقول الهزل والعراك الرخيص. ويكاد يعض على جذع شجرة هروباً من الخائضين في ثوابت الأمة. والمستمع الشهيد يصده عن المتابعة تكاثر المتدافعين إلى بؤر التوتر، ممن تحكمهم شهوة الكلام، ويقعد بهم داء الشهرة، ويعميهم غَمْط الحق، ويصمُّهم تأليه الهوى. ويأسى على ما يثيرون من آراء مرتجلة، تمس الثوابت، وتنقض عرى الإسلام، وتفرق ما اجتمع من صف أو توحد من هدف. ويزعجه ما يعبِّرون عنه من تصورات مضطربة. ويريبه ما يدوكون به ليلهم من نجوى آثمة، نهوا عنها، ولم ينتهوا. وسواء في ذلك الغلاة في الدين، والمفرطون في جنب الله. والمتحسس عن مبلغ الطرفين من الأشياء، يجدها غاية في الضحالة والتسطح. وما أدري في تلك الأجواء الملوثة، ماذا يراد بهذه الأمة؟ وإني لأرجو أن يريد الله بها رشداً. فقد تكون صحة الأبدان في العلل، ورب ضارة نافعة، والحب والكره لا يحققان واقع الأشياء، فكم من كاره لشيء، وفيه خير كثير، ونحن لا نعلم الغيب، ولو علمناه لاستكثرنا من الخير. وما نقوله عزمات صدق، لا تنجو من الزلل، وشفيعنا اجتهاد نبذل فيه الوسع، ونمحض فيه النصح. وما نفتأ نُكره النفسَ على التفاؤل، وحسن الظن، والتماس المبررات، والقول عن المخطئ: لعله جهل أو لعله تأول، وإن بلغ السيل الزبى، وهم بمصالح الأمة من لا يدفع عن نفسه. والمتهافتون على القول ونقيضه لم يدعوا فسحة لمعذِّر ولا حجة لمبرر ولا مجالاً لمجادل، {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} «النساء: 109». واشتغال الكتبة الجوف في المسكوت عنه، والنبش في الموبقات، لم يكن أمراً عارضاً، ولا مروراً كريماً، إنها شنشنات أخزمية. وليس صحيحاً ما يشاع عن تمسك الماضويين بتحريم الحديث عن الدين والسياسة والمرأة وملحقاتها. وكم من مفتريات تشاع للتضليل أو للتخدير، وإشاعة هذا الإفك تهيئة للأذهان، وترويضٌ للجماح، وتمكين من التعايش مع المشككين والمخذلين والمستغربين. ولست متفائلا بمآلات هذه اللجاجة التي تغذيها أقلام غضة، وأفكار ضحلة، ونظرات قصيرة، وخصام غير مبين. والمتابع المعني لا يستطيع أن يؤسس على هذه الأقاويل ونواقضها، في زمن اختلطت فيه الأوراق، وتساوت فيه الرؤوس، وتطاول فيه (مادر) على (حاتم)، و(باقل) على (قس)، وفي هذه الغمة لن نكون متشائمين، لنقول ما قال (المعري): - (فيا موُتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذَميمَةٌ) ولكننا - وقد هزل الدهر - نطلب من النفس أن تجدّ، وأن تكون لوَّامة لا أمارة بالسوء. والمشاهد الموبوءة بالمتناقضات الممتلئة بالكلم الرديء، لا بد فيها من الوعي التام، والتوقيت الدقيق، والتقدير المناسب، وأخذ الحذر، والأخذ على يد الفارغين الذين لا يراعون مقتضيات الأحوال، فمن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً، ويباشر الفعل الرشيد قبل أن تفيض المشاهد بالغثاء والغثيان والفوضى، وأن يذر قرن (برودون) رائد (الفوضوية)، ويبدو وجه (سارتر) الباسر، رائد (الوجودية) فتظن وجوه المغلوبين على أمرهم أن يفعل بها فاقرة. وذلك الواقع العربي المدان بكل المقاييس يمتد دخنه إلى كل الأجواء المجاورة، وتلك أجواؤنا مصابة بعوارضه وأعراضه، إذ لا مجال للاعتزال، وعندئذ لا بد من التحرف لمواجهة متكافئة. ومن المغالطات المربكة القول بأن هذه الإثارات المستفزة، وانفلات الأقلام من أفلاكها مخاض تحولات ومتغيرات طبيعية، إنه قول زائف، يروَّض فيه النفور، وتهدَّأ فيه الأعصاب، وبخاصة حين يعوِّلُ المتابعون على الوعود الزائفة والأماني الكاذبة، مما يتبادله أدعياء (التنوير) بين يدي نجواهم. والعلل المستبطنة أن المتلقين لفيُوض الأفكار والمصطلحات، ما تقدم منها وما تأخر، لا يعرفون جذورها ولا محققاتها، ولا يراعون مدى تقبل حضارتهم لها، واتساعها لمقتضيات تلك المصطلحات التي ألْهتنا عن كل مبادرة. وهذا القبول والترويج دليل خواء فكري، وفراغ معرفي، وتبعية معتقة، وقابلية للخنوع. وإلا كيف تعدو عيوننا عما في تراثنا من مصطلحات في الفكر السياسي الإسلامي، تغني عن استجداء الآخر؟ إن لدينا فكراً سياسياً لو تلقيناه باليمين، وأخذناه بحقه، وفعّلناه وفق مقتضاه، وخضعنا له، ولم نخضعه لأهوائنا، وعملنا من خلاله، ولم نستعمله لتبرير مقترفاتنا، لما كنا كما نحن، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ومنذ اندلاق أقتاب الغرب في مشاهدنا ونحن نحذر مما تعنيه مصطلحات (التنوير) و(الحداثة) و(الليبرالية) وسائر المصطلحات الغربية القائم منها والحصيد، ونبين عن مدى مخالفتها لمقتضيات حضارة الانتماء، ونردد القول بأن تحفظنا لن يحول دون الاستفادة منها والتفاعل معها، ولقد أكَّدنا على التفريق بين الوسائل والمبادئ، فمصطلح ك(الديموقراطية) ينطوي على الوسائل والمبادئ، فوسائله وبعض مبادئه حق، والحق ضالة المؤمن. ومكمن الخلل في الطائفتين: طائفة الرافضين للمصطلح على الإطلاق، والمتلقين له على الإطلاق. وما أضر بالأمة إلا تلك الإطلاقات المعممة. والقبول بالمصطلحات دون تحديد وقوع في المحذور، غير أن تحذيرنا صرخة في واد، لا تؤوِّب معه إلا الجبال. وتلقي المستجد لا بد أن يكون محكوماً بضوابط الإسلام، وما أحد من المتداولين لشيء من مستجدات الغرب فصَّل القول، وحدد المواقف، وطمأن الموجسين خيفة. وحرية التعبير والممارسة والتلقي في الإسلام ليست كما هي عند (الليبرالية) أو (الديموقراطية) ولهذا لا بد من الاحتراس عند التداول لهذه المصطلحات. والحرية التي يتغنى بها كل مفكر، ويدعيها كل مسيطر، تمثل إشكالية عصية الحل. لقد اعتورتها سهام المفكرين منذ العصور اليونانية حتى اليوم، ومازادوها إلا غموضاً وتعقيداً. وليست إشكاليتها واحدة، ولو كانت واحدة لأمكن اتقاؤها، ولكنها إشكاليات تتعد بتعدد الأزمنة والأمكنة والمفكرين: فهناك حرية الاعتقاد، كما يراها أهل الملل والنحل، وهناك حرية الفكر على إطلاقه، وهناك علاقة الحرية بالسلطة، وهي علاقة قول وفعل، وهناك حرية الرأي، وهناك تعددية المفاهيم بتعدد الحضارات والملل والنحل وتحولاتها في الأزمنة والأمكنة، وهناك إشكالية الحرية بين الحدِّ والمطلق، وهناك حرية الفنان والمبدع القولي بوصفها تختلف عن حدود غيرها، وهناك علاقة الحرية بالمقدس، وهناك حقوق الشعب، وحقوق الفرد وحقوق النوع كالمرأة والملونين وطبقات العمال. لقد عالجها الدكتور (زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الحرية) بوصفها جزءاً من الفلسفة، بحيث تناولها بين الإثبات والنفي، ومعنى الضرورة، وضروب الحتميات، وحرية الإرادة، وإرادة الحرية، والحرية والوجود الإنساني، والاختلاف بين الحرية والتحرر. وفي النهاية أكد على استحالة حل مشكلتها حلاً عقلياً على الأقل، وما من متوسل بالحرية حرر مسائلها، وحدد منطلقاته منها، وسنعود إلى مشكلة الحرية، عند مسح المراجع ونضوج الفكرة. وأدعياء (التنوير) الذين يخادعون بمراوغة المصطلح، ينقمون على الماضويين الأخذ بالضوابط الحائلة دون استشراف المستقبل وتقبل المستجد، ويمارسون ردود الأفعال المفعمة بالانفعال، ويتعاملون مع مفردات حضارتهم تعامل التنويريين في الغرب مع مفردات حضارتهم. ونقد المعرفة ونظرياتها بمنهج (راديكالي)، واقتراف الاختزال لشموخ الحضارة تفويت لحق الأمة في السياق التاريخي. ومن الخطورة بمكان تقمص المناهج والآليات والمواقف دون استبانة أو تثبت. وما علينا إذا أردنا وضع الفارغين أمام أنفسهم، إلا أن نسأل عن (التنوير) في مفهومه الغربي، بوصفه مجلوباً بدون فهم، وبدون تعديل. و(التنوير) بهذا المفهوم وأسلوب الأداء من خلاله ليس بنافع لأمة ليست لها الخيرة في الرد عند التنازع إلى الله والرسول، فهي أمة محكومة بالنص التشريعي، وفسحتها في احتمال الدلالة والتأويل ومآلات الاجتهاد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} «النساء: 59». وإذا قبلنا الاختلاف في مقتضى النص وتأويله وفسح السياق فإن القبول بمخالفة القطعي الدلالة والثبوت أمر مستحيل لأن ذلك وقوع في نواقض الإيمان، والمتلقي للنص أمام برهان قطعي لا اجتهاد معه، أو دليل احتمالي يتحتم معه الاجتهاد، والكتبة الجوف يخلطون بين النصين دون وعي ب(نظرية المعرفة)، فمن لي بمن يلوي لسانه بالكذب، ليرده إلى جادة الصواب، ويعلمه أن للاجتهاد مجالات وإمكانيات وشروطاً، وليس مباحاً لكل من أجرى قلمه وأطلق لسانه. والمصطلحات ليست مجتثة من فوق الأرض، فالرصد التاريخي والتفكيك المفهومي يعود بجذور كل مصطلح إلى حواضنه، ومصطلح (التنوير) - على سبيل المثال - يعود إلى مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، وهو عصر ظلمة وضياع وتخلف، يحتم التفكير بالتغيير، وتحرير العقل من هيمنة النص المزور، وأول من طرحه (الأب ميسلي) الذي يقول: - (بأن نور العقل الطبيعي هو وحده الكفيل بأن يقود الناس إلى الحكمة والكمال العقلي)، ونور العقل من خلال المنظور الإسلامي مستمد من نور الله، الذي هو نور السماوات والأرض، وليس هو بالنور الشرقي أو الغربي، كما يراه تنويريو عصر الظلمة، ولا الذي سايره الفارغون في عصر الخواء واليباب والتبعية العمياء. وبمراجعة الفصل الثاني من كتاب (الإلحاد في الغرب)يتعرى الأدعياء الجوف، فالحراك الغربي يمثل الانقطاع، وما الخطاب المستغرِب إلا صدى له، ولوضوح الرؤية نُحيل إلى كتاب (مقدمة في علم الاستغراب)، وكتاب (من نقد الاستشراق إلى نقد الاستغراب) ففيهما يتعرى التهافت وينكشف العوار. ومن بعد (ميسلي) قال (كانت): - (إن التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو بسبب عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر) فالتنوير الذي يعوِّل عليه الكتبة الجوف، يعني الخلوص من هيمنة الوصاية الماضوية بكل أشكالها ومرجعياتها، والتعويل على العقل كما يراه (كانط) أو كما يُنظِّر له (الجابري). والعقل مناط التكليف، ولكنه مؤطر بفضاء النص. ولقد كانت مقولة بعض المتعالقين مع الغرب في محققات (التنوير) صريحة، بحيث لا يتحقق إلا بالخلوص من المرجعية الماضوية، وبخاصة الشرعية منها. وإذا قُبل هذا الإطلاق في الفكر الغربي، فإن الفكر الإسلامي يخفق بجناحي (العقل) و(النص)، والكتبة الجوف لا يدرون ما المرجعية في المفهوم الغربي، وما هي في المفهوم الإسلامي، وتلك قاصمة القواصم. والتاريخ الفكري والسياسي الحديث ينطوي على محطات متوترة، مرت كما سحائب الصيف. غير أن الواقع المعاش مختلف جداً عما سبق، فليس التسطح على القضايا، كالتثوير والتبئير، وليس العلماء الضالون عن علم كالأدعياء المتعالقين عن بلاهة. إن أصحاب الهموم، وأرباب القضايا، وأساطين المواقف، يمتلكون المناهج والآليات، ويستدعون أصول المذاهب وقواعدها، أما المغثون فكالصدى. والمتسطحون على حراك المشاهد المخادعون بالتشبع، المضلون بلوي الألسنة بالمصطلحات الغربية، المحيلون كل الخطيئات على خطاب التجديد الديني، لا يعرفون ما هي عليه، ولا يجوِّدون رؤيتهم بالضوابط والتحفظات. |
من الكتبَة الجوف إلى المشهد اليباب..!
د. حسن بن فهد الهويمل 2-2 وكيف يتأتّي التأصيل للمعارف والتحرير للمسائل من لدن قرّاء يتخطّفون الثقافة من أنهر الصحف، وأفواه الإعلاميين، ولا يدرون ما مكوِّنات المذاهب، وما حواضنها، ولا يعرفون شيئاً من تاريخها، ولا من تحوُّلاتها، ولا يتعرّفون على مناهجها، ولا تربطهم صلة بالمفكرين ومناطاتهم، والسياسيين ومراميهم. وضعف المحصول، ونقص التجربة تضعف المناعة، وتسهل الانقياد، وتجعلهم أجرؤ على الفتيا والمبادرة بالأحكام على ثوابت الأُمّة، ولمَّا يتصوَّروها حقَّ التصوُّر، وما يدرون أنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره. وكم من مخاصم غير مبين، لا يعي القضية، ولا يدري ما الكتاب وما الإيمان، لا يتحرَّج من القول في كبرى القضايا، ومع هذه التوقُّعات المخيفة، فإنّ عثرات الجهلة تتطلّب التوعية الرفيقة، والإصلاح المتأنِّي، والدعوة إلى كلمة سواء، فقد يكون لبعضهم عذر ونحن نلوم. ولأنّه لا فرق بين الأمن النفسي والأمن الفكري، فإنّه لا بدَّ من الرقابة الفكرية التي لا تقل أهمية عن الرقابة الغذائية، وحرية التفكير والتعبير في الإسلام حرية مشروطة، وليست كما يتصوّر البعض ويطالبون، وضوابط الإسلام لا تنقص الحرية أشياءها. واتساع الخرق على الراقع مردُّه إلى التطبيق الخاطئ للحرية، وإلى توفُّر إمكانيات التواصل، وضعف الوازع الديني، وتعثُّر الوازع السلطاني بتلويحات (حقوق الإنسان)، فكلُّ الوسائل تعضد المتسرعين، وتبلِّغ عنهم ما لا يرضي الله من القول. وتلميع مصطلحات الغرب وإشاعتها والرّكون إليها، أدخلت الأُمّة في مرحلة التيه، وهي بضاعة الكتبة الجوف. ومن المؤذي حسّاً ومعنى، أنّ هذه (التقنية) المتاحة لم يستثمرها الفارغون بما يفيد، فالقنوات والمواقع وسائر الإعلام إمكانيات مذهلة أساء الجيل الخائب استثمارها، وإن جوَّد استعمالها. والداخل على الساحات، والمستمع إلى القنوات، والقارئ لسائر المطبوعات الإعلامية والإبداعية والنقدية، يغثيه من يمدُّونها بالغيِّ واللّغو والجهر بالسوء. وما عُهدت أُمّة الكلم الطيب والقول السديد، تخوض في آيات الله بغير علم، وتلغ في أعراض عباده، ولا تتحرّج من إشاعة قالة السوء عن الغافلين. لقد سمعت عائشة رضي الله عنها اعتذارية حسان: حَصانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بِريبَةٍ وَتُصبِحُ غَرثى مِن لُحومِ الغَوافِلِ فقالت له: (لكنك لست كذلك)، وفي رواية (لكن أبَوْها). وما علم المخفون لأسمائهم بالسيطرة على تقنية المعلومات أنّهم لا يخفون على الله، الذي سأل مستنكراً: - {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (12)سورة الحجرات, والمروِّجون للإفك عبر الساحات كالمروِّجين له في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ممن كشف الله سوآتهم في القرآن الكريم. والمعارض أو المتحفِّظ أو المستنكر لأيِّ عمل على أيِّ مستوى، يجب أن يتثبّت وأن يجادل بالتي هي أحسن، وأن يضع اسمه صريحاً، وإن أخفاه فليكن صادقاً معتدل الرأي منطقيّ الحجة، متبيِّناً، بحيث لا يصيب أحداً بجهالة، وليكن له برسول اللين والرأفة والرحمة قدوة، إذ قل أن يذكر مخطئاً بعينه. وبتجاوزنا للمرجفين في المواقع، وهم شريحة من الكتبة الجوف إلاّ أنّهم من نوع آخر، نقف عند شريحة أخرى أربى من أختها، وهم الذين يلتقطون المصطلحات الغربية بكلِّ ما تقتضيه من مفاهيم، وما تستدعيه من إجراءات، ثم لا يُراعون مقتضيات حضارة الانتماء، وتلك الشريحة أشد خطراً، وأفدح تأثيراً، وهم بهذا الفعل: إمّا أن يكونوا فارغين لا يجدون طريقهم إلى الحضور، إلاّ بمثل هذه الإثارات، وإمّا أن يكونوا مدخولين في أفكارهم عن جهل، أو عن تعمُّد وسبق إصرار، ولكي تستبين طريق المقترفين نذكِّر بثلاثة كتب تمس أهلية الكبار فضلاً عن الكتبة الجوف، فكتاب (خيانة المثقفين) مجموعة مقالات رصد فيها الكاتب جنحاً مصمية لمن نعدّهم من الأخيار، وكتاب (النخبة ضد الأهل) مجموعة مقالات تعقب فيها الكاتب طرفاً من التجاوزات، وكتاب (أوهام النخبة) تناول معرفي تطبيقي لخمسة أوهام تكاد تكون قاصمة القواصم، وما الأدنين من الكتبة الجوف ببعيدين عن أولئك. ولما لم تكن هناك معرفة تأصيلية بما يجد من أفكار ومذاهب، فإنّ المشهد معرّض للتصوح ورعي الهشيم، والذين يستبقون الطوارئ ولا يفرِّقون بين الجمرة والتمرة، لا شك أنّهم فارغون ومجازفون بأنفسهم وبمثمّنات أُمّتهم. وإذا تسوّدوا المشاهد، أصبحت أقرب إلى سراب القيعان، وذلك ما نراه، وما نسمعه. ومن المضحكات المبكيات، وشرُّ البلايا ما يُضحك، ظن المتنخوبين الذي أرداهم أن حَمَلة العلوم الشرعية لا يصلحون إلاّ للوعظ، والإفتاء في الحيض والنفاس، وأنّ مثقفي السماع هم وحدهم القادرون على تداول الشأن الفكري والسياسي. وإذ لا نزكي على الله أحداً، فإنّ بإمكان الفقهاء أن يخوضوا معترك السياسة بآليات الفكر السياسي الإسلامي ومناهجه، إذ للإسلام نظريته السياسية القادرة على المنافسة، وأمام هذه التجاوزات لسنا بحاجة إلى مزيد من المجاملة والتعذير، كما أنّنا لسنا بحاجة إلى مزيد من جَلَد الذات والتخذيل، وكل ما نقوله تأثم يحوك في القلب، وإن كنا نكره إشاعته، وإطلاع الناس عليه، وسياق الأُمّة بدعاً في السياقات، وإن سبق هذا السياق بدايات للتمرُّد وعزمات للتمنُّع، غير أنّ الطائفتين كانتا على شيء من الوعي، في مقابل حاضر تبعي مرتجل. ولو نظرنا على سبيل المثال، (المسار السياسي) في ظل الانقلابات العسكرية والهواجس الثورية، لوجدناه قابلاً للرصد والتقويم، وإن عبرت أزلامه إلى المشاهد على صهوات الدبابات وعلى جثامين الأبرياء، وليست على أكتاف الجماهير. فسنوات الغليان، كما يسميها عرَّاف السياسة (محمد حسنين هيكل)، وهو من المنجِّمين الذين يكذبون وإن صدقوا، هذه السنوات مكّنته من أن يرصد التحوُّلات السياسية المحكومة بقوانينها، وأيّ لعبة سياسية لها خلفيّاتها المعرفية، كما يجسِّدها صاحب كتاب (موسوعة قواعد اللعبة السياسية)، وإذ لم تكن التحوُّلات قفزات غير منضبطة وغير متوقّعة، بمعنى أنّ للتنبؤات مكانها، فإنّها خاضعة للحسابات والتقديرات، ومن ثم أخرج (هيكل) كتابه الثاني (الانفجار)، بوصف الجزء الأول (سنوات الغليان)، إرهاصات للنتائج التي رصدها في الجزء الثاني (الانفجار). وهذا الرصد الوثائقي الشامل والدقيق مكن له واقع يتفاعل مع الأحداث التي توجِّهها مؤسسات ضالعة في صناعة اللعب ومتابعتها وتهيئة الأجواء الملائمة لها. والرصد في ظل الظروف والإمكانيات يتجه صوب النتائج المتوقّعة سلفاً، والحراك السياسي سواء أكان مرتبطاً باللعب السياسية، أم لم يكن، يقوم على أحداث ينسل بعضها من بعض بشكل طبيعي ومتوقّع. أمّا ما يحدث الآن فمختلف جداً إنّه الجنون المنظّم كما يسميه أحد المحللين، ولو نظرنا - على سبيل المثال أيضاً - (المسار الفكري) لوجدنا المفكرين منشقين على أنفسهم، ولكنهم يحيلون إلى مرجعيات غربية أو شرقية هضموها كما الخراف في جوف الأسد، وامتلكوا القدرة على الوصول إليها في مظانها وفهمها وتمثُّلها، وليس مهماً أن تكون النتائج سلبية أو إيجابية، وإنّما المهم أن يكون في مقدور الحراك الفكري أن يخلف لنا مدارس واتجاهات، وأن يستطيع التأسيس لمذاهب وتيّارات. ولعلّنا نضرب الأمثال بالفتانين أمثال، (طه حسين) من خلال مجمل أعماله، وبخاصة كتابيه (مستقبل الثقافة في مصر) و(في الأدب الجاهلي) وهو في مجمل مؤلّفاته يمثِّل (الفرنكفونية) بأبشع صورها، ويستخدم المنهج (الديكارتي) القائم على الشك المنظم، وينزع إلى الرؤى الاستشراقية في دراسة الأدب، وعلى الرغم من تجاوزاته وإنحيازاته، فقد خلَّف لنا ثروة من الدراسات، والدراسات المضادة، التي أحدثت نقلة في تاريخ الأدب العربي القديم خاصة. والمشاهد الأدبية والثقافية والفكرية فاضت أوعيتها بمختلف الظواهر، والمناهج، والتيارات، وليس حراك الأمس ومخاضاته كاضطرابات اليوم وتجشؤاتها الفارغة. ولنا أن نقول مثل ذلك عن الحراك (الفلسفي) الخالص، نجد تجلَّيات الفلسفة وتحوُّلاتها عند (زكي نجيب محمود) و(عبد الرحمن بدوي)، إذ عول كلُّ واحد منهما على فلسفة غربية: وضعية أو وجودية، وأثرَيا بعراكهما المكتبة العربية بمئات الكتب والدراسات، بل أستطيع أن أتجاوز ذلك إلى طائفة من الأكاديميين الذين أحدثوا بمذهبيتهم نقلة مادية ومنهجية، ظلّت تمد المشاهد الأدبية والنقدية بمزيد من التحوُّلات التي ترحب لها الصدور، وتحتفي بها الأقلام، وإن أبعدت النجعة، نجد ذلك عند (أمين الخولي) في علم البلاغة، وعند (شكري عياد) في علم اللغة، وعند (محمد مندور) في منهجية النقد، وعند آخرين يبتدرون المذاهب بقوة. ولك أن تقول مثل ذلك عن تيار (الحداثوية) عند أساطينها الضالين المضلين، فهل أحد ينكر دور (أدونيس) و(عصفور) و(أبي زيد) و(أبي ديب)؟ على الرغم من التناقض معهم والتناقض فيما بينهم. فأين مكان المتعالقين من أولئك الجبابرة؟ وعلى مستوى الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، نمر بمحطات مضيئة، وأخرى معتمة، ونقف على منجز أدبي أو فكري، لا نقبل به، ولكننا نحترم اقتداره. وعلى النقيض من ذلك جلُّ مشاهدنا القائمة، إنّها صاخبة ومتناقضة، ولكنها خالية خاوية، وبرهان ذلك أنّ القضايا المتداولة مجترّة ومكرّرة، والمجترُّون لا يتقنون أدبيات الحوار، ولا أهمية الأولويات، ولا محترسات المرحلة المتردِّية، واقرؤوا التخبيصات المضحكة عن (الليبرالية) و(التنوير) و(المجتمع المدني) و(العولمة) و(العلمانية)، والحكومة بين (الدينية والمدنية) عند الطائفتين، وهذا الخواء يذكِّرني بذلك الثرثار، الذي أغثى الخليفة، فلما أحسّ بطول الكلام قال: - أأسكت يا أمير المؤمنين، قال له: - وهل قلت شيئاً؟. إنّ سمة المرحلة المعاشة تقوم على الانفعال والافتعال، فما الذي حفز المسيطرين على المشاهد، وشغلهم بالتوافه، وصرفهم عن جلائل الأعمال. أهو فراغ ذاتي، أم حيلة ذكية، أطلقها الماكرون وصدّقها المغفلون؟ ولست قاطعاً أمراً قبل أن استعرض الجدل الفارغ حول القضايا التي لا تحتاج إلى دليل، علماً أنّها استوت على سوقها منذ (رفاعة الطهطاوي)، وتقليبها من القول المعاد. ولا أحسبها خفية على ذوي الألباب الذين يرصدون ويقوِّمون، وإن لاذوا بالصمت تغليباً للسلامة، وأملاً في انكشاف الغمّة. وصراع الديكة غير الممتع يتولّى كبره الإعلام العربي، بكلِّ صنوفه، وتعضده المواقع والساحات بكل تعدُّدها. لقد مارس الكتبة الجوف هذا الفعل المؤذي في ظل فهم للحرية على غير أصولها. وإذا أردت أن تقبض قبضة من أثر الخلاف تبدّت لك عشرات الآثار، التي لم تكن تحسب لها أدنى حساب، لقد جاءت قفزات مربكة في المشهد النقدي، وأخرى في المشهد الفكري، وكلُّها لا تمت إلى التجديد، ولا تمد بسبب إلى الإصلاح، ولا تُعَد من التطوُّر، ولا التحوُّل، ومن عدّها محسوبة على حتمية التجديد فقد ضل سواء السبيل. والذين ينافحون عن سائر المصطلحات السياسية والفكرية والأدبية، لا يعرفونها حق المعرفة، ولا يتمثّلونها صادق التمثُّل، ولا يصبرون عليها، فكلّ يوم تراهم مع ظاهرة أو شخصية أو منهج أو آلية. واللغة الجنائزية على ألسنتهم، إذ كلّما فرغوا من الحديث عن شيء أماتوه، وكأنّ ما بين أيديهم لعب أطفال تلقى في سلال المهملات، وما على المتردِّد إلاّ أن يحصي (البعديات)، ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وأن يستذكر الإماتات القسرية (موت النقد)، و(موت النحو)، و(موت الإنسان)، وهي وإن كانت إطلاقات مجازية، إلاّ أنّها تقليد مقيت، مستلهم من مقولة (نيتشة) ب(موت الإله). وكلُّ هذه البعديات والوفيات والاشتغال بالمعاد والثانوي، مؤشِّر على الفراغ والخواء، وكلُّ فارغ مغمور يركض برجله إلى دوائر الضوء، مقتفياً أثر المستغربين:- (ومن كان الغراب له دليلاً يمر به على جيف الكلاب وما من متهافت على لعاعات الشهرة الزائفة يعرف قدر نفسه، وحاجة أُمّته و(الفاضي يعمل قاضياً)، ويزعم أنّه قادر على فكِّ الاشتباك، وإنهاء النزاع وتقرير الأحكام والمصائر، وما هو إلاّ عبء على الإشكاليات، لا يزيدها إلاّ ّارتكاساً في الوحل. |
من بعث الحرية من مرقدها؟! (1- 2)
د. حسن بن فهد الهويمل دخلت في النافلة ذات يوم، وما ان شرعت في الركعة الثانية، حتى أقيمت المكتوبة، فاخترت الإتمام على الإبطال، لوجود اختلاف بين المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء، حول القطع بعد الشروع في النافلة، والإتمام بعد الإقامة للمكتوبة، ولما قضيت الصلاة، وانتشرت مع الناس، لحق بي شباب حدث، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، ولا يعرف أحدنا الآخر، وبادرني بالتأنيب، لتفويتي تكبيرة الإحرام، ولم يقدم بين يدي نجواه سلاماً، أو سؤالاً عن الطقس، وذلك أضعف المجاملة. كان منفعلاً، كما لو كان ينذر قومه من عدو قادم تحت جنح الظلام، وما كان مني استياء ولا تذمر، بل سألت برفق: أمجتهد أنت أم مقلد؟ وكان جوابه: شيخي - عفا الله عنه - يقطع بوجوب قطع النافلة إذا أقيمت الفريضة. ولما لم أعرف شيخه، تمعر وجهه، وأربدت ملامحه، ولسان حاله يقول: قول أقبح من فعل. وحرصاً مني على لملمة أطراف الحديث، قلت له: المسألة يا بني خلافية، وفسح الدين، وثراء معارفه في اختلاف العلماء، وما غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأياً على رأي في قضية الصلاة في (بني قريظة)، لان أدلة الطرفين احتمالية. ولم يرق له هدوئي، وأخذي الأمر بالحوار، وتعويلي على الاختلاف المعتبر، وإنما تصورني غامطاً للحق، مستخفاً بشيخه، مأخوذاً بمآثم الاعتزاز. ولحظتها لم أفكر بتوعيته، بل اردت الخلاص والنفاذ بجلدي، لا عليَّ ولا لي. ولكنه استوقفني مردداً: اتق الله، ولا ترد الحق، وعليك الإذعان والقبول. وعند هذا الحد تأكد لي أن جواد الحكمة لن ينجو بي، فما كان لي بد من ركوب حمار الجهل، ولم أتردد في مواجهته بما هو عليه من جهل مركب، وسوء في الأدب. تداعت أحداث تلك الواقعة الساذجة في نظر البعض على ذاكرتي، وأنا أرقب المشهد الفكري والسياسي، وما يعتمل فيه من أحداث وقضايا، يتناولها كتاب وإعلاميون بالمستوى ذاته من المعرفة والتفكير، وبالأخلاقيات المتدنية نفسها، ولو أن هذا الشاب الورع كان متضلعاً من فقه الأحكام، ملماً بشيء من اختلاف الفقهاء، متمثلاً لأدبيات المناظرة، مدركاً أن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه، لما شغلته مثل هذه الواقعة، ولما كان متنطعاً إلى حد الهلاك والإهلاك. وتلك الأمثال نضربها للناس بين يدي حديثنا عن أخطر قضية، ليعلموا أن الجهل المركب ليس وقفاً على طائفة دون أخرى، وإنما هو قسمة بين الفرقاء، والكيِّس من وقف أمام المرايا المقعرة، وعرف ما هو بحاجة إليه من علم، وفهم، وحسن استقبال، وطرائق أداء ولو لم يتلق النوازل إلا العالمون المجربون، لما كنا في أمر مريج. وهلاك الأمة من أغيلمة يبتدرون الأمور، دون معرفة ببواطنها، ودون فهم لمقتضياتها، ودون فقه بأحكامها. و(عيٌّ صامت خير من عيِّ ناطق). (ولو سكت من لا يعلم سقط الاختلاف) - كما ينقل (أبوحيان) في (الامتاع والمؤانسة) - وإذا تصدى لهؤلاء الأغيلمة ناصح أمين، لجُّوا في عتو ونفور، وأخطر القضايا، وحجر الزاوية في التجمع الإنساني (الحرية) فهماً وممارسة، وهي حق لكل مولود، ولا حياة كريمة بدونها، فطائفة من المتحدثين لا تعرف منها إلا ترك الحبل على الغارب، والتمرد على كل السلطات، والغاء حمى الله. والقول فيها كالقول في سائر القضايا الهامة والخطيرة، يحتاج إلى بصر حاد، وبصيرة حاذقة، ومعرفة عميقة، وتفقه في الحال والمآل، وسداد رأي، وعمق تجربة. وما عقدت العزم على الحديث عنها إلا لأن طائفة من المقوين معرفة وتجربة، يعذِّرون لكل منحرف في فكره، متفحش في قوله، متمرد على الحق باسم حرية التعبير والسلوك. ولأن الحرية داخلة في العقائد والأفكار والسياسات والفنون، وسائر شؤون الحياة، فقد كانت مناط كل منقول يسوؤه الانضباط، ويضيق بالأطر على الحق. ومبعث إشكاليتها من متعلقاتها وعلاقاتها وحدودها ومجالاتها ومرجعياتها. والوقوف على الجدل الدائر حول أنواع الحريات ومستوياتها وارتباطها بالقيم والمبادئ ذكرني بذلك الشاب المتوقد حماساً، الفارغ معرفة، الناقص تجربة. والحرية المكتنفة بكل وسائل التناول وثيقة الصلة ب(الديموقراطية) و(الليبرالية)، و(المجتمع المدني)، وسائر المنظمات العالمية ك(حقوق الإنسان) و(حقوق المرأة)، وقضايا الإسكان، والنسل والأجناس والاقتصاد. وهي فوق ذلك أوثق صلة بعلاقة الإنسان بخالقه، وتلك العلائق المتباينة تتطلب التزود من شتى المعارف، وإتقان مختلف الطرائق. غير أن مبلغ الموقظين لها من العلم لا يتجاوز بها مواجهة السلطة بكل تنوعاتها، وهي مواجهة رفض لا مواجهة جدل. ومن لم يأتها من أبوابها، ويروض جماحها، يجني على نفسه، وعلى من حوله، مثلما جنت (براقش) بعوائها على أهلها. ولأن الإسلام مجموعة من الأوامر والنواهي، فإن الحرية معه مقيدة وليست طليقة، ومن أرادوها كما هي عند غير حضارتهم، فقد اقترفوا إثم التمييع للإسلام باسم التسامح، وافتروا التشدد على الوقافين عند حدود الله. وأخطر منعطفاتها أنها ذات علاقة أوثق بالمؤسسة السياسية والدينية، ولهذا فإن دعاة (التنوير) و(الإصلاح) و(الثورة) يتوسلون بها، ويسمونها تسميات شتى، قد لا تناسب الأزمنة والأمكنة والأحوال. والضيق من الأطر على الحق، ومن الاخذ على يد السفهاء، والعمل على تحجيم الوازع السلطاني أفضى بالحرية إلى (الفوضوية)، حتى أصبحت الفوضوية ظاهرة بإزائها، تدرس وتقوَّم، كما تدرَّس الحرية، راجع (تاريخ الفلسفة السياسية). ومثلما اختلفوا طوعا أو كرها حول مفاهيم (الحرية)، اختلفوا حول قضايا أخرى ك(المجتمع المدني) و(الدولة المدنية) و(الدولة الدينية) وسائر المصطلحات ذات العلاقة بالفكر السياسي ك(الولاء) و(البراء) و(سد الذرائع) و(الأطر)، و(التسامح) و(التطرف) و(المرجعية) و(السمع والطاعة) و(المأسسة)، و(إنكار المنكر). فكل مهتاج أعزل قليل المعرفة والتجربة، يحدد المفاهيم، ويرسم الحدود، ويقرر المواقف، ويعد المحيد عن شيء من ذلك تفريطاً في الدين، وخيانة للأمة، وتخلية للثغور. وكأن الله قد جمع لهذا الخلي العلم والفهم والوعي والتجربة والقوة والبصر والبصيرة. وما هو في نظر نفسه إلا المجدد للدين المندثر، والهادي للبشرية التائهة، والعامر للكون المتصحر. والمتابع الحصيف لتحولات الحرية عبر أحقاب التاريخ، يراها كامنة في النفوس، كأي معهود ذهني، لا تحتاج إلى تفسير، ولا إلى تحديد. فالفطرة السليمة تأخذها بحقها، وتتمتع بها بمقدار، بحيث لا تقصر بحق ذاتها، ولا تعتدي على حق غيرها، على حد - (الحلال بيِّن والحرام بيِّن)، و(البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر). والإمعان في الحدِّيات والتصفيات والتصنيفات آتٍ من أدعياء مستغربين يقولون بقول المهيمن، دون أن يتعرفوا على محققات هيمنته، ليكونوا مثله في حمل الغير على التماهي معهم. أو هو آتٍ من غلاة متطرفين يحرفون الكلم من بعد مواضعه. و(الاستغراب) إما أن يكون استكناها لما عند الغرب، واستثماراً لمحققات غلبته، أو يكون تقليداً لخناه وفحشه، ورؤيته المادية للكون والحياة، وعزوفاً عن معارفه (وتقنيته). ومثلما كان (الاستشراق) يجب أن يكون (الاستغراب)، ولكن ذلك لم يكن، ولن يكون في ظل إمكانيات ذهنية وعملية لا ترقى إلى مستوى الأحداث، و(الماضوي) المنقطع للتراث لا يختلف عن (الحداثوي) المنقطع عن التراث. إن مكمن الخطأ في خطأ الفهم، ومربط الفشل في جهل ما عليه الذات من معرفة وإمكانيات، وما عليه الآخر من مكائد وتطلعات، وما أحوجنا إلى تأصيل التواصل مع المغاير عقيدة وحضارة ومدنية. وظاهرة استقبال هذا المغاير على غير هدى ولا كتاب منير، حفز طائفة من المفكرين على تصور شرعة ومنهاج للتفاعل مع منجز الحضارات المادية المهيمنة، وتفادي الانفعال والافتعال. ولعل أفضل من كتب في ذلك المفكر العربي (حسن حنفي)، ومن بعده تلاحقت الكتابات المراوحة بين الرصد والتحليل والتوصيات، ولتحديد مفهوم (الاستغراب) ومرجعياته، نحيل إلى (دليل الناقد الأدبي) (للرويلي والبازعي). و(الحرية) التي انفلتت من قمقمها كما العفاريت، نادى بها الرسل والمصلحون والقادة والمفكرون، كما نادى بها (سقراط) والحكماء. لكنها تختلف في طبيعتها ومحققاتها في الأزمنة والأمكنة، وبين الأناسي والحضارات، والديانات، والأنظمة السياسية في كل عصر ومصر. وهو ما لا يفهمه المقلّبون لها على سفود الوقوعات العارضة. ومن تلبس بها على أنها فعل الممكن، وتحقيق المراد، ونبذ السلطة، فقد تحول بها إلى العبودية، ومثلما تعس عبدالدرهم والدينار والخميصة والخميلة، فقد يكون عبد الشهوات أتعس منهم. وكيف لا يفرق الفارغون بين الحرية المنضبة والفوضوية المتفلتة، كما يراها (قودوين) و(برودون) في كتابه (ما الملكية) و(ماكس شتيرنر) و(باكونين)، لقد تحولت عندهم الفوضوية بوصفها فلسفة (اللاسلطة)، إلى فوضوية مستحكمة، بدأت بإلغاء الدولة بوصفها رأس الآفات والشرور، وانتهت إلى ما بعد الفوضوية. وليس بمستغرب على عصر المفاجآت أن يكون للفوضوية من يناصرها، ويدعو إليها، ويؤلف فيها، ويعدها ممارسة مشروعة. وكل المشتغلين بالحرية من غير العارفين، لا يلتمسونها إلا في مسارح الفكر والفلسفة الغربية، ظناً منهم أن ما سبق من حضارات، لم تفهمها حق فهمها، كما هو الشأن عند سائر المفكرين الغربيين ومذاهبهم، وذلك ظنهم الذي أصابهم بجنون العظمة. وما القول ب(نهاية التاريخ والإنسان الأخير) عند (فرانسيس فوكوياما) إلا مخاض الغرور الذي يساور الإنسان الغربي، فهو لا يبعث (أيديولوجية) مندثرة، وإنما يعلن عن (المشروع الأمريكي) الذي يغني عن التفكير، والمصيخ للمشاهد العربية، يلمس تأثير تلك الدعوى (الفوكيامية). على أن من المستشرقين من جد في البحث عن الحقيقة، فعلى سبيل المثال، وفي مجال الرصد المعرفي والتاريخي للحرية نجد (منجوميري وت) بحث في إشكالية حرية الإرادة في الإسلام، وذلك قبل ستين عاماً أو تزيد، وكان منطلقه من مذاهب إسلامية، ضلت في فهم الحرية، ووقعت في متاهات التأويل، ومنشأ الضلال تفويض الأمر إلى العقل، وتعطيل النص، وتأليه الهوى، واتباع الشهوات، وتلك شنشنة الأغيلمة. وقصور التصور عند المغثين الغثائيين يحملهم على الخيفة من مصادرة الحرية على يد كل سلطة تمارس حقها المشروع، وفق مقتضيات (العقد الاجتماعي)، عند (جان جاك رسو) أو (البيعة) في الفكر السياسي الإسلامي، ومؤدى اللغط ألا فرق عندهم بين السلطة المشروعة، والتسلط المستبد. واين وجدت السلطة فالتمس الحديث عن الحرية، فهي قائمة على أشدها في كل تجمع قل أو كثر، لقد خلق الله من كل شيء زوجين، وأعطى كل شيء خلقه المناسب لدوره في الحياة، وفرض السلطة لضبط الحياة، ولهذا خص بها الرجال، وزادهم بسطة في الجسم، فيما زاد النساء بسطة في العواطف، وجعل الرجال قوامين على النساء بالتفضيل والإنفاق، فكان الحديث عن (تحرير المرأة) منطلقاً من تلك القسمة الربانية، وكانت السلطة لا التسلط الشغل الشاغل لكافة المشاهد، يقولها الرجال بأفواههم، ولم تؤمن بها قلوبهم، ولو كانوا صادقين، لكانت المسؤوليات قسمة بين الرجال والنساء في (أمريكا) على الأقل فكم رئيسة أمريكية قادت البلاد، من (جورج واشنطن) إلى (جورج الابن)؟ وما الذي غيَّبها أهو الدستور، أم الفطرة والتكوين؟. وكم هو الفرق بين جدل الاستبانة للحق، ومراء التفلت على الضوابط المشروعة. وإذا أراد الله بقوم سوءاً ألزمهم الجدل، ومنعهم من العمل. وإشكالية السلطة أنها قائمة ما قامت السماوات والأرض، وكيف يتصور العقلاء غيابها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية، والتأمير مطلوب بين الرجلين في السفر، و(البيعة) بإزاء (العقد الاجتماعي) أخذ الحق، وأداء الواجب، وما لم تحفظ الجماعة التوازن بين الحقوق والواجبات، حل التسلط محل السلطات. ومع ذلك فإن الإنسان العقال يفضل جور النظام على حالة (اللانظام)، والمصير إلى الفوضوية مرده الجدل حول طبيعة السلطة ومشروعيتها. وأيا ما كان الفهم والتصور، وأسلوب الأداء على ضوء ذلك، فإن الحرية ستظل إشكالية العصر في غيابها الكلي، أو الجزئي، أو في حضورها النظري أو الفعلي. واستدعاؤها والخوض في خواصها ومحققاتها مدعاة لمزيد من تضارب الآراء، وما لم يكن الخائضون في لججها على بينة من أمرهم فإنهم لا يزيدون النظارة إلا خبالاً. والمتابع لفيوض القول والقول المضاد تروعه النقائض، ويزعجه تباين الآراء، ومرد ذلك كله إلى فهم (الحرية) مفصولة من أجوائها وحواضنها، فهي مع (الديموقراطية) ذات سمة لا تكون كما هي مع (الديكتاتورية)، وهي في الإسلام تختلف باختلاف العلاقة. فالإنسان بوصفه طرفاً يكون بإزاء مؤسسة سياسية أو مجتمعية أو دينية، ولكل علاقة حدودها ومجالاتها. والحرية بإزاء الإنسان تختلف باختلاف الحضارات. والخليون يتصورونها واحدة في ظل الحضارات كافة والمجتمعات والوقوعات، إن الحلقة المفقودة في الجدل فقد المحقق للحرية أو تغييبه، فلا حرية دون عقد مهيمن، والعقد مع وقف التنفيذ إجهاض للحرية، وإغراء بمزيد من المقاومة. |
من بعث الحرية من مرقدها ..!! (2 -2)
د. حسن بن فهد الهويمل ولقد يظنُّ البعض أنّ استدعاء الحرية وتداولها من لدن مفكِّري الغرب دون غيرهم، وأنّهم وحدهم الذين اتخذوها شرعة ومنهاجاً، ومجال بحث معرفيٍّ لتحرير مسائلها وتأصيل قواعدها، وأنّ الأمة الإسلامية لم تتطرّق لها، ولم تمارسها إلاّ في أضيق نطاق، وبشكل متسطّح، ولقد سيء للتاريخ السياسي الإسلامي، وقصرت فترته المضيئة على عهديْ (أبي بكر) و(عمر)، وتولّى تناقل هذه الفرية طائفة من الحركيين الإسلاميين، وكان (سيد قطب) - رحمه الله - ممن أشاع ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي، الأمر الذي حدا بالعلاّمة (محمود محمد شاكر) إلى الرد القاسي عليه، حيث عدَّ هذا الحكم الجائر جناية على التاريخ السياسي الإسلامي. ومثلما قيل عن (النظرية الأخلاقية)، وإخفاق الحضارة الإسلامية في إنجاز نظرية أخلاقية مماثلة لما أنجزه الغرب، قيل عن (الحرية)، وعن فقر الحضارة الإسلامية في استيعابها بوصفها نظرية. والعودة إلى الدفاتر القديمة تؤكِّد أنّ المبهورين بحضارة الغرب كما (الاسطوانة المشروخة)، فعند كلِّ ظاهرة يُبدئون الاتهام ويعيدونه، ويمعنون في جلد الذات، والتهوين من الحضارة الإسلامية ورموزها، والمزعج أنّ منشأ الافتراءات قِسْمة بين (مستشرقين) متحاملين، و(مستغربين) غسلت أدمغتهم، وطمست عيونهم. والمتوقّع ممن عاداك في الدين أن يفتري عليك الكذب، وأن يشيع عنك قالة السوء، والمستنكر أن يتولى كبر ذلك الإفك أبناء الحضارة، فهم إمّا مفترون للكذب، أو مشيعون للإفك، ومشايعون لماكر متربِّص، وما أضر بهم إلاّ أنَّهم مروِّجون لسحت الآراء. ولو أنّهم إذ سمعوا البهتان، عادوا إلى تراثهم يسائلونه، لكان خيراً لهم، ويكفي لإسقاط المفتريات الرجوع إلى علم الكلام، وموسوعات الملل والنِّحل عند (ابن حزم) و(الشهرستاني)، وتعقُّب منجزات أقسام العقائد والمذاهب المعاصرة في جامعات العالم الإسلامي، وبخاصة (جامعة الأزهر) و(جامعة الإمام)، إضافة إلى قراءة ما كُتب في الفكر السياسي الإسلامي عند (ابن تيمية) و(ابن خلدون) و(الماوردي) و(الغزالي)، وعشرات غيرهم، ولو أنّهم فعلوا ذلك، واصطحبوا من المصطلحات الإسلامية ما يغني عن الاستجداء: - (فالليث ليس يسيغ إلاّ ما افترس) لكان خيراً لهم. وليس غريباً أن تعتورَ الأمّة سهامُ الأعداء، ولكن الغريب أن يكون التشكيك والتخذيل من الأقربين، وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على النفس، وأخوَف ما نخاف أن تصدق فينا مقولة: - (حصوننا مهدّدة من الداخل)، ولا يكون الأمر كذلك حتى تكون التبعيّة والغثائيّة على أشدّهما، وحتى تسْتشري قابلية نوال الآخر، ولقد أدْركَتْ طائفة من المفكرين الإسلاميين ما يشكِّله المستغربون من خطورة على الثوابت، فكان التحرُّف للمواجهة، والتحيُّز للفرقة الناجية، وهذه المواجهات المتواصلة منذ (التآمر السبئي)، كشفت ما يروجِّه (الفلاسفة) و(المتكلمون) و(المتعلمنون) و(المتحدثنون) و(المتغربنون)، وما يتلقّاه التبعيُّون من دعم ومباركة من قوى البغي، تبدوان تارة، وتختفيان أخرى، وتلك من ظواهر المكر السيئ، ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله، فكم من طابور في الداخل يفوق بأثره السيئ طوابير العدو الأربعة خارج الأسوار، ولقد عرف في التاريخ الوسيط مصطلح (الطابور الخامس). ولكيلا يظلّ الوهم والتوهيم قائمين حول غياب (الحرية) في التراث الإسلامي، نشير إلى تداولها في وقت مبكر، استجابة لمتطلَّبات التجمُّع الإنساني، إذ تنازعتها معارف شتى، كالأحوال الشخصية في الفقه الإسلامي، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، ومقتضيات البيعة، وتداول السُّلطة وحقوق المستأمنين والأقليّات وسائر وجوه الحياة. وكان منشأ المشكلة مرتبطاً بإرادة الإنسان، هل هو مخيَّر أم مسيَّر؟ وهل يشاء بإرادة حرّة أم بمشيئة محكومة بمشيئة ربّانية؟ {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} الإنسان: 30). وربط المشيئة وخلق أفعال العباد بالخالق، هل تسقط المسؤولية؟. وحجّة القائل إنّه قتل بقدر الله، أُسقطت بشرعية القصاص، لأنّ القصاص ينفذ بقدر الله. ونشوء مذهب (الجبرية) و(القدرية) مدفوع بعقلنة الجدل حول إرادة الإنسان، وجاء جدل (المرجئة) و(المعتزلة) ومفهوم (العدل)، وهو أصل من الأصول الخمسة عند المعتزلة معمِّقاً الخلاف، ومدار ذلك كلّه على (حرية الإرادة)، وتنزيه الخالق من خلق الشر والمعاصي على حدِّ قولهم، وكيف يكون خلق للأفعال والأقوال، ثم يكون رقيب عتيد، وحساب شديد، ومثل هذا الجدل العقلي المحيِّر، لا يحسمه إلاّ الإيمان. فالقضاء والقدر سرُّ الله في خلقه، وحسم الخلاف حوله عقلاً غير ممكن، وعلينا استذكار قصة موسى والعبد الصالح. وهنا أود أن أشير إلى الجذور الخفيّة لبعض الظواهر المعاصرة ذات العلاقة بتنوُّعات (الحرية) وتحوُلاتها. ومثلما ربط البعض جوانب اللقاء والافتراق بين (البنيوية) و(نظرية النظم) عند (الجرجاني)، فقد نجد أنّه من السهل التماس الجذور الفلسفية ل(البنيوية) وذلك باستدعاء ما ذهب إليه (ديموقريطس) و(أبيقور) من (الميكنة الذرية للكون)، إذاً هناك ترابط وتناسل بين المذاهب المادية والعقلية، فكلُّ مذهب ينسل من مذهب سالف، ليعمق التيه والضلال. ومؤدَّى القول ب(الميكنة الذرية) أنّ الحركة والتغيُّر وليدة التقاء الذرات وانفصالها، ولم أتذكّر بالضبط تفاصيل ما قاله (فؤاد زكريا) عن الجذور الفلسفية ل(البنيوية) في دراسة سبق أن استوعبتها، وأحلت إليها، ولست أذكر الآن تفاصيلها، ولا النتائج التي توصّل إليها الباحث، لغياب الكتاب في غياهب المكتبة. وغبش التذكُّر يقترب مما أرمي إليه. وهذه (الميكانيكية) لا إرادية في نظر (ديموقريطس) غير أنّ (أبيقور) حاول أن يلتمّس شيئاً من (الحرية)، وذلك بإمكانية الانحراف الذري، الذي يوفِّر قدراً من الحرية على حد تصوُّره. وما دمنا في ظلال الماديات الصرفة، فإنّ السؤال الأكثر تعقيداً هو: هل هذا الانحراف الافتراضي آلي أم إرادي؟ وحينئذ: ما القدر من القصد والإرادة التي يتوفّر عليها الإنسان بوصفه مجموعة من الذرات المتحركة ميكانيكاً وبانتظام على حد زعمهم؟ على أنّ تلك المحاولات الغبية، يُراد منها تخليص الكون من (العلّة العلية)، التي عالجها (مارتن هيدغر) في كتابه (مبدأ العلّة)، لقد عدت إلى حقلي: - (الله) و(الإنسان) في مكتبتي، أملاً في استشراف أمداء الحرية، فأصبت بالدوار، وما ازدادت المسألة عندي إلاّ غموضاً، وتعقيداً، وإيماناً، وتصديقاً لموقف السلف الصالح، من خلق أفعال العباد، و(نهاية إقدام العقول عقال)، وكم من عبقري لا يُفري فريه صاح في نهاية النفق: - اللهم إيماناً كأيمان العجائز. وحتى الذين تخلَّصوا من (الميكانيكية) العمياء، تورّطوا في (الجبر اللاهوتي) وجل البحوث العلمية البحتة ربطت الكون بقوانين لا تتبدّل ولا تتحوّل. وهناك فرق بين السنن الكونية التي أشار إليها القرآن الكريم و(الحتمية العلمية) التي يراها الفلاسفة الماديون. والارتباط بالقوانين العلمية كما هو في الفلسفة الوضعية تسلب الإنسان حريته وإرادته. لقد بلغ التيه بالفكر الغربي إلى القول بموت (الميتافيزيقا)، وللجوء إلى الفلسفة الوضعية بشقّيها. ولأنّ بعض مفكري الأمّة العربية مسكونون بقابلية التبعية فقد ألّف (زكي نجيب محمود) كتابه (خرافة الميتافيزيقا)، ثم خفّف من الحدّة ب(الموقف من الميتافيزيقا)، وعلى كلِّ الأحوال فإنّ الحرية تشكِّل المحور الرئيس في جدل الفلاسفة والمفكرين والمتكلِّمين، ولم يكن فلاسفة الإسلام أقل شأناً من نظرائهم، بل أكاد أقطع بأنّهم الذين أمدّوا الغرب بأصول المعارف. والفلاسفة الذين أوغلوا في استكناه الحرية وأمدائها يريدون للإنسان أن يكون حرّاً في إرادته، وهنا يقعون في الحرج في كلتا الحالتين: حالة الاستقلال المادي، وحالة العلّة العلية. والمفكرون والفلاسفة والمتكلمون في الفكر الإسلامي تفرّقت بهم السبل في (مباحث الحرية)، ومن ثم نشأت الملل والنِّحل المدفوعة بحرية التفكير والتعبير والتأويل، ولقد حسمت حرية التفكير بآية {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، المحددة لآية {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } (البقرة: 284)، وكلُّ طائفة تنشئ لعقيدتها (نظرية معرفية)، تسهم في تحقيق مرادها، ومثلما يرى البعض أنّ لإنسان مبرمج مادياً، فإنّه عند آخرين مبرمج عملياً، والدخول على شفرته كما الدخول على سائر الشفرات المادية يؤدي إلى الحيدة به عن المسار المرسوم، ولمّا لم نكن بصدد الفصل بين المتخاصمين، والترجيح بين الأقوال، فإنّنا نشير إلى مبلغ علمائنا في هذا الشأن، واتساع حضارتنا لمباحث الحرية على كلِّ الوجوه، وكلُّ ما نتطلّع إليه أن نقول للذين تزدري أعينهم ما نحن عليه: - (إن بني عمك فيهم رماح). وستظلُّ الحرية مدار الجدل الفكري، وهي كائنة قبل أن يكون الغرب شيئاً مذكوراً، وحين كان، وصل بالحرية مشارف الفوضوية، ثم عاد بها إلى منابعها الأولى، ولم يزل يتذبذب بمفاهيمها، والناس من ورائه يبتدرونها، كما لو كانت من وحي السماء. ومشكلة الإرادة في علم الكلام امتداد لمشكلة الحرية التي عالجها عدد من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين. وتقصاها (زكريا إبراهيم) و(عبدالله العروي) وآخرون، ولكن المسافة بين البحث العقلي الخالص والبحث العقلي المحيل لنصوص معتبرة شاسعة جداً. ولسنا بحاجة إلى أن نجرّ الحديث إلى تلك المتاهات، ولكننا نريد فقط أن نثبت أنّ مشكلة الحرية أزلية وقائمة، وما المنجز الغربي إلاّ حلقة في سلسلة طويلة، وهو تابع للمنجز العربي، وليس سابقاً عليه، بحيث نتصوّر أنّنا عالة عليهم، كما يظن المستغربون، وفضل أولئك في تحويل الظاهرة إلى نظرية، وما من قيمة معرفية إلاّ ونجد في تراثنا شذرات لا تغني عن الاستفادة، ولكنها تحول دون الزهادة بما أفاء الله به على عباده. ومفكرو الإسلام أدلوا بدلوهم مع سائر الدلاء، وليسوا بأقل الناس وعياً، بحيث تحال النتائج إلى الغرب، وبحوثهم العويصة في قضية (القضاء والقدر) ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرية، وما نقصد الحديث عنه لا يتعلّق بحرية القصد والإرادة والبحث في (العلّةش العلية) المنفصلة عن المادة، وإنّما يتعلّق بالحرية في إزاء السلطات التشريعية والتنفيذية والدينية، أو قل بإزاء السلطة السياسية، ولقد كان ل(الثورة الفرنسية)، ولما تلاها من ثورات دموية، أثرها في تكريس الحديث عن (الحرية السياسية)، فالجدل السياسي غير الجدل الفكري، وإن التقيا في النهاية عند نقطة الحق الإلهي، والحق السياسي، إذ إنّ المفكر بإزاء نظام ربّاني مستمد من الحاكمية والتحكُّم الربّاني، ولارتباطه بكلِّ هذه السلطات، فإنّه يريد أن يعرف حدود الحرية. ولأنّ لكل حضارة موقفاً من الحرية، فإنّ المفكرين الواعين يتعاملون معها وفق ضوابط الحضارة وحدودها، والذين يحلو لهم بعث الحرية من مرقدها، وأخذها تنظيراً وتطبيقاً دون قيد، لا يعرفون حدود ما أنزل الله، لا يصطحبون تلك الضوابط، وذلك مكمن الإشكالية. وغياب الضوابط تغيب معه الخصوصية والسِّمة، ولكيلا ينفلت الأمر، يجب أن تمتد الأيدي إلى الظاهرة والشرط، وتفادي هيمنة الحضارة المادية. وحين لا يجد التبعيُّون بدّاً من الاستسلام للمهيمن، فإنّهم يظنون أنّ الحرية بمفاهيمها وحدودها ومجالاتها إنّما هي حرية غربية، وأنّ ما سوى حضارة الغرب من حضارات عالة على الغرب ومنجزه الفكري والسياسي. إنّ تصوُّر الحرية مفردة من مفردات (الديموقراطية) أو (الليبرالية)، إجهاض لمفاهيم أخرى، ومن حقِّ الحضارة الإسلامية أن تطرح مشروعها السياسي، مصحوباً بأهم مفرداته، وهو (الحرية)، وألاّ يكون للمؤمن خِيَرةٌ، فهو مطالب بالتسليم { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(( لأحزاب: 36). والحديث عن الحرية بوصفها شعاراً ثورياً، كالحديث عنها بوصفها محوراً معرفياً أو فلسفياً، وإذا كانت مطلقة في ظلال (الديموقراطية) و(الليبرالية)، فإنّها مقيّدة في ظلال الإسلام. وسلبيات الإطلاق تقابل بإيجابيات الضوابط، وإذ تقطع كلّ الحضارات بأنّ الحياة نظام، فإنّ الحرية بدون ضوابط كالحياة بدون نظام، وإذ رتب الغرب شؤونه على مقتضيات (الديموقراطية)، فإنّ على الأمة الإسلامية أن ترتب شؤونها على مقتضيات الإسلام. والغرب نجح بصدقه والتزامه، واستجابته لمؤسساته، ولن تنجح الأمّة الإسلامية إلاّ بذات الصدق، والالتزام والاستجابة للمؤسسات التي تحقِّق مقتضيات الإسلام ومقاصده، وقد تكون لنا عودة إلى بحر الحرية اللجيِّ، في مجال الفكر السياسي الإسلامي، وعلم الكلام، ليعرف المستغربون، أنّ من قصد بحر الإسلام استقلّ سواقي غيره. |
المأزق .. التصوُّر والخروج
د. حسن بن فهد الهويمل من البدهيّات أن نقول: إنّ العالم العربي يعيش في مأزق، منذ أن فتح العسكر ثكناتهم للإغارة على الأُمّة باسم الثورة، ومنذ أن اتخذ المستكبر أرض العروبة مسرحاً للعبه ومختبراً لتجريب أسلحته. وهي مآزق من جهات شتى صنعها اللاعبون، وروَّضها الإعلاميون، وباركها الانقلابيون. ومن البدهيّات أيضاً كون المؤسسات: السياسية والفكرية والدينية والطائفية والحزبية تعيش في أزمة، بل أزمات خانقة، وهَنَت معها عزائمها، وخارت قواها، واستفحلت مشاكلها. ولكي نتفادى الوقوع في التخذيل والتيئيس والإحباط وجلد الذات، نفتح بصيص الأمل للنفاذ من موبقات المآزق، والانعتاق من غوائل الأزمات، فالسياسة (فن الممكن)، والثبات على الحال محال، {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. ومع استحكام الأمور، وضيق الصدور، فإنّ أملنا بالانفراج. وحين نستدعي مؤشرات المآزق والأزمات، لا نكتفي بمثولها الحسِّي، فهي حاضرة في الذِّهن، والقول فيها من الكلام المعاد، وإنّما نريد أن يعرف المتفائلون الغافلون والقانطون اليائسون حجم الموبقات، وسمة الضالعين، والخطوة الأولى في طريق الحل. ولا شكّ أنّ تشخيص الداء بداية الخلوص من عقابيل المرض. ولو كان بإمكان أحد أن يضمن السلامة بإغلاق بابه على نفسه، لكان من السهل تفادي كثير من الفتن، ولكن المآزق كالأوبئة تلقي بها الريح في أماكن القوم لتعم بها البلوى. ومن الناس من يعجبك قوله، وهو لا يريد إلاّ الشماتة والتشفِّي، وكأنّه في معزل يعصمه من الطوفان. ومنهم من يكتم استياءه كمؤمن آل فرعون، ويلوذ بالفرار تحت وطأة اليأس والقنوط. ومهما تلبَّسنا بالمسؤوليات أو تجرَّدنا من التبعات فإنّ كلَّ عاقل قادر عليه كفل من المسؤولية، وبيده طرف من الواجب. ومن فكَّر بالفرار أو الاعتزال عاش الوَهَن، وتحمَّل الثَّمن، وما الناس إلاّ كالمستهمين على السفينة، إن نجت نجوا جميعاً، وإن غرقت غرقوا جميعاً، المحسن والمسيء سواء، وإن بُعثوا على نيّاتهم. فاليد الجماعية أوكت، والفم الجمعي نفخ، ولا مجال للبحث عن المشاجب، أو التخلُّص من تأنيب الضمائر بالتنصُّل. إنّ بداية الحل أن نعرف ونعترف ونتعرَّف: نعرف الخطأ أو التقصير، ونعترف بأنّنا طرف في الفعل السلبي، ونتعرَّف على الحلول الممكنة. والمأزق العربي لم يكن وليد الساعة، بحيث يكون الشاهد مداناً، والغائب بريئاً. إنّ هناك تراكمات من التصرُّفات، توارثتها الأجيال، ولم تتردَّد في الإضافة عليها، والارتكاس في حمأتها. وكلُّ جيل يتّهم من سَلَف، ويورث الحطام من خَلَف، وما علمت أنّ جيلاً احتمل الوضع، وفكَّر في الخلاص، وأخذ بجدولة الحلول، كما تجدول الديون. والتحرّف للحل المرحلي والتحيُّز للفرقة الناجية بعيداً عن الادعاء والتنصُّل هو السبيل القاصد. وعندما لا تتيسّر الخطوة الأولى في طريق الحل، فلا أقل من إيقاف التدهور، والمصير إلى تشخيص الداء، وتقويم الإمكانيات، وعندئذ تكون الخطوة الواثقة في طريق الحل. إنّ الحاجة ماسة إلى تفكيك المشاكل للتشخيص لا للمحاكمة، وللعلاج لا للتخلُّص، ثم التفكير في منهج الحل وآليته، وخطة العمل والتقدير والتوقيت، وإعادة الثقة بالنفس وبالإمكانيات. إنّ في وسع أيِّ مقتدر أن يبدأ التفكير، وإشاعة ما يهتدي إليه. وإذْ لا نحبذ المبادرات الفردية فإنّ التعويل على المؤسسات القائمة لا يعني أنّ بالإمكان حسم المشاكل بين عشيّة وضحاها. إنّ أخطر ما تعانيه مؤسسات المجتمع المدني نزع الثقة منها، وتعمُّد المخالفة لها، وقديماً قيل: (لا رأي لمن لا يُطاع). ولن يبلغ أيُّ عمل تمامه (إذا كنت تبنيه وآخر يهدم). إنّ الخطوة الأولى أن تقوم المؤسسة المدنية شكلاً ومضموناً، بمعنى أن تمارس دورها مدعومة بثقة المواطن وحسن ظنه بها. وحين تقوم الثقة مقام الشك، والطاعةُ مقام المخالفة، يجب أن نعرف أنّ الحل الفوري والنجاح الناجز ليسا ثمناً فورياً للثقة والطاعة، وأنّ الخطأ العارض ليس مشرعاً للتمرُّد والعصيان ونزع الثقة. وإذاً لا بدّ من هيمنة النظام، وتفعيل المؤسسة، وتقويم الأداء، والشفافية والمساءلة والنقد. وبدون ذلك ستظلُّ المآزق والأزمات لوازم في أعناق الأُمّة، كما الطائر في عنق الإنسان. والمتيقّن أنّ المقترفات ليست لها بداية محدّدة، ولا فئة معيّنة، ولهذا لا يمكن أن نضع نهاية محدّدة لتلافيها. والفريضة الغائبة هي البداية الواثقة، وعندئذ يكون الرِّهان على التصفية للمبادئ، والتربية للفاعلين، وتحييد المشاكل. وسواء كانت المآزق من صُنع القوى الخارجية، أو من صُنع الأنظمة الداخلية، أو من صُنع الأفراد أو المنظّمات، فإنّ التفكير في الخروج لا يكون في الشقاق وتبادل الاتهامات، ولا يكون بالأثرة والاستبداد، وتمسُّك كلُّ طائفة بحلِّها المرتبط بحاجاتها الآنية الذاتية. إنّ لكلِّ (قطر) ظروفه وطبيعته وإمكانياته، وليس من السهل أن يتخلّى عن مثمناته، كشرط للخروج من المأزق. إنّ على قادة الفكر وزعماء الإصلاح وروّاد النهضة أن يعرفوا أنّ الحل المرحلي والجزئي والإقليمي بداية متواضعة ومقبولة للخروج من نفق الأزمات، وإنّ معوّقات الحل تكمن في المثاليات والعنتريات والإسقاطات وتصدير المبادئ وفرض الأنظمة. إنّنا لكي نواجه قدرنا بأسلوب حضاري بوصفنا أُمّة عربية كما الجسم وتداعياته، علينا أن نعتمد الشفافية والمصداقية والقبول بالتعدُّدية والتنوُّع، وتقويم الأداء، والتعرُّف على الإمكانيات المتاحة، وقدرات الآخر المتربّص، وتفادي استفزاز الرأي العام، أو المساس بمسلّماته. وإن كان ثمة خطأ في المسلّمات فإنّ علينا أن نستلّها كما الشعرة من العجين، لا أن نجتثّها بعنف وصلف وبدون مبالاة. والإشكالية الأكثر تعقيداً أنّه حين يجمع أهل الحل والعقد في كلِّ أنحاء الوطن العربي على أنّ هناك مأزقاً وأزمة تتجاذبهما تيارات وأحزاب يكون الاختلاف حول أساليب الحل. فكلُّ طائفة أو تيار أو حزب له رؤية في طبيعة الأزمة والمأزق، بل كلُّ مرحلة زمانية لا تتجاوز العقد من الزمن لها أولوياتها وقضاياها، ولو نظرنا إلى كلِّ حقبة لتصوّرنا أنّنا أمم داخل أُمّة، وهذا التنوُّع والتباين يلقي بظلاله على الحلول المرحلية أو الجذرية. ولا شكّ أنّ الاختلاف الفكري والسياسي والطائفي والمرحلي بحد ذاته يشكِّل تأزيماً للأزمة، وتعميقاً للمأزق. والبداية الصحيحة أن نفكر بإشكالية الاختلاف، وألاّ تكون عقبة في طريق الحل الشامل. ولو ضربنا مثلاً ب(قضية فلسطين) لوجدنا أنّنا جميعاً نتفق على ضرورة الحل، ولكنّنا لا نستطيع أبداً الاتفاق على أسلوب موحَّد لإدارة الصراع العربي الإسرائيلي. إنّ هناك (تطبيعاً) له مستوياته ومفاهيمه، و(هرولة) مذلَّة لا مبرّر لها، واختراقات صهيونية موهنة، وقضية كالمعلّقة، كانت ولمَّا تزل مقياس الأداء، ومع أهميتها وخطورتها وأثرها السيئ الممتد من المحيط إلى الخليج، فإنّ لكلِّ قطر رؤيته، ولكلِّ زعيم خطابه، ومن ثم أصبحت القضية كما المرايا المتجاورة تكرّر ولا تنوّع. وإذا كانت الأقطار العربية مختلفة حول نقطة البداية وأسلوب الأداء، وهذا متوقَّع، فإنّ الفصائل الفلسطينية أكثر اختلافاً، وهذا غير متوقّع. والمؤلم أنّ الاختلاف العربي - العربي يُدار باللسان، والاختلاف الفلسطيني - الفلسطيني يُدار بالسنان. ولكي نتخلَّص من هذه الإشكاليات الضاغطة لا بدّ من البحث في القواسم المشتركة وتوسيع رقعتها، والتعاذر فيما لا نستطيع تلافيه في ظلِّ الظروف القائمة. والاعتراف بالوضع المأزوم بداية الحل السليم، إنّ هناك إرادة قُطرية تختلف عن الإرادة العربية، وإرادة عربية ليست مناسبة لبعض الأقطار العربية فكلُّ قطر عربي له مصالحه الخاصة، وظروفه الخاصة، وإمكانياته الخاصة، وأخلاقياته الخاصة، وخوفه المبرّر من جيرانه، ولهذا فهو غير قادر على التخلُّص من تلك الخصوصيات المعوّقة في أكثر الأحيان، كما أنّه ليس مستجيباً للتخلُّص من الأحلاف والارتباطات. وفي ظلِّ هذه الظروف المتوهّمة في البداية، وجد كلُّ قطر نفسه مضطراً لأن يضع (الاستراتيجية) أو (التكتيك) الملائم لأوضاعه، لقد كنّا نضيق من التغريد خارج السرب، واليوم نبكي على السرب وإن غرّد خارجه أكثر من طائر. هذه الأوضاع المحبطة لم يصنعها الإنسان العربي على عينه، وإنّما قضيت في غفلة منه، لكي تتجذّر المأزقية. ولكي نتخلَّص من التملُّص، لا بدّ أن نقدِّر الظروف الخاصة، وأن نجد الحل المناسب لها. إنّ هناك دولة تملك القدرة على التعلمن والتعولم، وأخرى لا تملك ذلك، وهناك دولة تستطيع أن تدغدغ مشاعر الجماهير بسراب الديمقراطية، وأخرى لا تستطيع ذلك، وفسحة القول يملكها قطر ولا يملكها آخر، وكلُّ نظام له خطابه الذي رضيه، وتعامل من خلاله، وإذْ لا يكون إكراه في الدين، فمن الأوْلَى ألاّ يكون إكراه على التناظر. في البدء يكون (التكتيك) لإصلاح الذات نظاماً وأُمّة، ثم يكون التفكير في (الاستراتيجية) المتمثّلة بالتكتُّل ووحدة الصف والهدف، والخلطة المطلقة. وبدون التنازلات الموزونة تدخل الأُمّة في مأزق المآزق وتأزيم الأزمة. إنّ لكلِّ قطر أزماته، فأزمات السكن والخبز والبطالة والتعليم وقضايا المرأة والمجتمع المدني، مضافة إلى الطائفية والتعدُّدية الفكرية، تختلف من قطر لآخر. وبلد ينعم بالرخاء والاستقرار والأمن يختلف عن بلد آخر تنقصه مقوّمات الحياة الكريمة. هذه المعضلات المؤرِّقة قابلة للحلحلة، وليست قابلة للحسم النهائي. نحن لا نريد الرّهان على الحلول الفورية والشاملة والحاسمة، فليس لدينا خاتم سليمان، ولا عصى موسى، ولا طب عيسى، ولا بلاغة محمد، إنّنا نعرف حجم الإمكانيات، وأضعف الأداء أن ننطلق وفْقَها مستصحبين العوائق الإقليمية والعربية، وحينئذ ستكون الخطوات متقاربة، لا نريد القفز على الحواجز، ولا الغباء، ولا التغابي في مواجهة الواقع، ولا التسابق في سرقة الأضواء الزائفة، نريد معرفة الذات بكلَِّ إمكانياتها، ومعرفة الآخر بكلِّ مكائده واقتداره. وتفادي الصراعات الجانبية بين الأقطار العربية، والصراعات المفتعلة بين الأُمّة العربية والغرب. ومتى استُهلكت الأُمّة العربية في صراعاتها الهامشية استنزفت الجهد والوقت والإمكانيات، وأتاحت الفرصة للطرف المعادي ليظفر بما يريد، وليس هناك وباءٌ يماثل الانفعال والافتعال، وليس أدلّ على ذلك من القمم العربية فهي التي تكشف المخبّأ، وتضع المتستِّرين على الخطيئات في موقف حرج، فكلُّنا أشقاء حين لا يكون لقاء. لقد كانت هناك جامعة عربية مع ما فيها من ضعف، وغياب أو تغييب عند القضايا المصيرية أو الحساسة، وكانت مع هذا الوَهَن مبعث أمل وتفاؤل، واليوم تعدَّدت المجالس والمنظّمات والتكاملات والتكتُّلات الثنائية والثلاثية والجِهَويَّة، فدول الخليج والمغرب العربي والقارة الأفريقية، لكلِّ طائفة مجلس يوهِن المجالس الأخرى، ويفتّ في عضدها، مع أنّها مجالس لا تقدِّم ولا تؤخِّر، وكلٌّ يعمل على شاكلته، ويتغنّى بليلاه، والقرارات والتوصيات المطمئنة المبهجة قرارات للاستهلاك الإعلامي. هذا التعدُّد في الأحْلاف والمنظّمات قطع السبيل على تكامل عربي من المحيط إلى الخليج، وكلُّ تكتُّل ثنائي أو ثلاثي أو رباعي يقدِّم بين يديْ تشكُّله كلمات المجاملة والتطمين، غير أنّه يفقد ذاته في صخب التنازع. لقد أدرك الاستكبار الغربي أنّ العزة العربية في الاعتصام وعدم التفرُّق الحسِّي والمعنوي والديني والدنيوي والسياسي والاجتماعي، ومن ثم حاول أن يخلق بالقوة مجتمعات عربية من أنواع شتى، بحيث نوّع في أشكال الحكم، وفي الدساتير والأنظمة والقضاء، وفي المناهج التعليمية، وفي الأبعاد الاجتماعية، وفي المستويات الاقتصادية، وفي الهموم والتطلُّعات، حتى اللهجات والأزياء وأنماط الحياة، وهو جاد في افتعال ملفّات حزبية وطائفية وعرقية وإقليمية واقتصادية وحدودية، يفتحها متى شاء، ويرفعها متى شاء، وله طابوره الخامس الذي يحرِّك الملفّات بأيدٍ وطنية. ونحن إذْ نتّفق على التسليم بالمأزقية والمأزومية، فإنّنا نأنف من تحمُّل المسؤولية والاعتراف بقابلية الخنوع والخضوع، ثم لا نجد أكثرنا متفقاً في التوقيت والتقدير وأساليب الحل، وبعض المتسوّدين غارق في الادعاء، فهو القادر على حل المشاكل بمجرّد الأخذ بفلسفة ثورته وتطبيق نظريته الثالثة، وهذا الأنموذج الحي يتكرّر بأقنعة وملابس أخرى. إنّ تجربة الانقلابات العسكرية تجربة خائبة، أتت على الحرث والنسل، وحوّلت الأنظمة من حكومات مدنية إلى ثكنات عسكرية، استبدلت الجدل بالتي هي أحسن بصمت الأفواه ودوي الفوهات، وفوق ذلك كلّه تعمَّد العسكريون مخادعة أنفسهم وشعوبهم بأنّهم يمتلكون شرعة ومنهاجاً، وأنّ مبادئهم خير بديل لما هو قائم، وأنّ عليهم أن يصدِّروا مبادئ ثوراتهم، ولكي يمهِّدوا الطريق أمام دبّاباتهم وعرباتهم العسكرية عمدوا إلى تخوين الحكومات القائمة، ووصفها بالعمالة والرجعية والملكية المتعفّنة، وإلى زرع خلايا لزعزعة الجبهات الداخلية، وإفساد العلاقة بينها وبين السلطة الشرعية. وليس أحد من الرّاصدين للأحداث ينكر شيئاً من هذا، حتى الإبداع الشعري والسّردي واكب الخطاب الثوري، ومهّد له الطريق، وخدّر الجماهير النائمة على معسول الكلام، ولقد أحسن الشاعر العراقي وصف الحالة المزرية للوعود الكاذبة بقوله يخاطب جياع الشعب: نامي على الخطب الطوا ل من الغطارفة العظام نامي على زَبَدْ الوعود يداف في عسل الكلام نامي على مهد الأذى وتوسدي خد الرغام والذي يقرأ ديوان (الجواهري) بمجلّداته الأربعة الضخام يرصد للتحوّلات المذلَّة، ويقف على الانكسارات والإحباطات، فالقصائد التي استقبل بها (الجواهري) انتفاضات الشعوب العربية المستعمرة تجسِّد الكبرياء العربية، والأنفة من الذّل والمهانة. وقصائد الغربة والشتات تجسِّد خريف الكبرياء. وبعد هذه العقود العجاف لا بدّ من مبادرات تنهي زمن التيه. |
حبُّ الوطن .. المفهوم والتفهيم..! «1-2»
د. حسن بن فهد الهويمل من الممارسات الممتعة التي كنا قد ألفناها في طفولتنا المبكِّرة، وسلَّمنا لها، لما لها من فوائد، ولما فيها من لطائف: (تَفَقُّد المصلين) بعد صلاة الصبح، ومتابعة الذين يتكرِّر منهم الغياب. وتسميع (سؤال منكر ونكير) من عوامِّ المصلين على الإمام. فالذين لا تفوتهم صلاة الفجر جماعة، يتندَّرون على لداتهم، حين يُسألون، أو حين يُضربون، أو حين يُعاقبون بمصادرة شيء من ملابسهم. والذين يحفظون مبادئ الدين، يتجمّعون للتندُّر على من لا يحفظونها، أو يرتبكون حين يسألهم الإمام الأسئلة البدهية المعروفة: - من ربك؟ - من نبيك؟ - وما دينك؟ والعوام يُرتج عليهم، وإن كانوا يعرفون (الرب والنبي والدين)، حتى أنّ البعض منهم يبلغ به الارتباك حداً يطلب معه الإرشاد. فإذا قال له الإمام: - من ربك؟ - قال المأموم: أرشدني عفا الله عنك. - فيقول له الإمام: قل ربي الله. - فيقول: قل ربي الله. - فيقول له الإمام: قلها أنت. - فيقول المأموم: قلها أنت. وقد يأخذه الحمق فيصيح بالمأموم: - : قم لا ألهمك الله رشدك. - فيصيح المأموم: قم لا ألهمك الله رشدك. متصوِّراً أنّ هذا هو ما يحتاجه الميت في قبره. وقد يقع قريباً من ذلك مع (المطوفين). والمأموم يعرف بالفطرة والمعايشة ذلك كله. ولكنه حين يفاجأ بالبدهيات، يتصوّر أنّ وراء الأمر ما وراءه، وإنّ المعهود الذهني لا يكفي للإجابة. وكأنيِّ بهذا العامِّي وأمثاله لو سمع لغط القوم حول المواطنة، لاضطربت عنده المفاهيم، وحَسِب أنّ للوطنية مفهوماً جديداً، لم يعهده من قبل. نعم هناك اضطراب في المفاهيم، وتباين في الآراء، وتفاوت في الأداء، واستفحال في (الأُممية)، وتململ حول مفهوم الدولة وتعويلها. ذلك الحراك كلُّه لا تجهضه ردود الأفعال، وإنّما تروّض شوارده بتثبيت المؤسسة الدينية، وتستدرك شطحاته بتأصيل المؤسسة التربوية، وتطرد غربته بإشاعة المؤسسات الإعلامية. فالحديث المتقحم عن (حب الوطن) وممارسة الحشوية، قد يثيران تساؤلات التخوُّف وكلمات التندُّر في آن. ومتى اضطربت المفاهيم حول المواطنة، أو مسمَّى الدولة، أو ضَعف الفعل وقلَّ الولاء، وجب تشخيص الداء أولاً واستجلاء الأسباب، قبل تلقين الولاء. فالناس لا يختلفون حول الحب، لأنّه جِبِلَّة، ولكنهم يتفاوتون في إجراءات التفعيل والأداء، وتحديد السمة والدافع بين الدينية، والقومية، والقطرية، والأُممية. وقد تضعف نفوس طائفة من المواطنين فيؤثرون العاجلة، ويتهافتون على لعاعات الدنيا، كالمرتشين والمطففين والغشاشين وسراق الوقت ومقلصي الجهد. أمّا الذين تخطفهم دعاة السوء من الشباب، أو الذين استحوذ عليهم اللاعبون المحترفون، فليست إشكاليتهم في حب الوطن أو كرهه، ولكنها في تكريس المفاهيم الخاطئة على حين غرة أو غفلة من حراس الثغور، وفي وقوعهم فرائس لذوي النوايا السيئة، أو أنّهم من فلول الُّلعب السياسية المتفلِّتين على الاحتواء. ولقد أدرك (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه الفهم الخاطئ للدين عند خصومه الذين تقرَّبوا إلى الله بقتله، وقال: إنّهم من النار فرّوا. وإشكالية المشاكل في كيفية أطرهم على الحق، وصدِّهم عن الإيغال في الدين بدون رفق، وإنقاذهم من التنطُّع في الدين، والمروق منه كما السهم يمرق من الرمية. وإشكالية الوطن تنبعث من ثلاث فئات: من الموغلين في الدين كما أغيلمة قريش. ومن المنتمين إلى أساطين الُّلعب السياسية دون وعي. ومن المتّسمين بالإسلام مع وقف التنفيذ، على حد: (قالت الأعراب آمنّا ....). وبعض تلك الظواهر لا تُعالَج بالممارسات الانفعالية، ولا بالتلقين، لأنّ الموغل، والمنتمي، والمتسمي، يمارس كلُّ واحد خطيئته بقناعة. وليس هو باحثاً عن الحق. والمنقب في صفحات التاريخ الحديث تروعه قوافل الشباب المغرّر بهم، ممن خدروا بالخطابات الانقلابية المسكونة بهواجس الثورات الأوربية، القائمة على تصفية الأنظمة والأديان، وممن أصابتهم حمَّى الشعارات الجوفاء، يوم أن كانت أوطانهم فريسة الأسلحة المشتراة بخبز الجياع وعرق الكادحين. حتى لقد صار الوطن يوم ذاك وثناً جاهلياً، كما العجوة التي يعبدها الجاهلي، حتى إذا جاع أكلها، أو كما الحجر الذي تبول عليه الثعالب. وحين تثار قضايا الحب، تتداخل المفاهيم حول حقيقة (الحب) ومقاصده. ومخزون الأذهان من الخطابات الثورية قد يَحمل على تقويل الصادقين المتحمِّسين من أجل حمل الكافة على الحب الإيجابي ما لم يقولوا. وهروباً من التوثين الثوري، تستيقظ مفاهيم الولاء والبراء، وتؤخذ بغير حقها، ثم تكون فرصة للمغرضين والمزايدين. و(الحب) جِبِلَّة، لا يُسأل عن كمونها، وإنّما يُسال عن توظيفها {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} «آل عمران: 31». والمحب لا يتشكَّل حبه بالتلقين، وإنّما ينمو كما البذرة بالمعايشة والقدوة والتربية السليمة، ويتأصَّل بتمتُّع الإنسان بكافة حقوقه، ولهذا قال الشاعر العربي: (وما حب الديار شغفن قلبي)، فالمواطنة في النهاية (مقايضة). فالإنسان يُولَد على الفطرة، ويُولد معه حب فطري جِبِلِّي، يميل به صوب ثدي الأم وحضنها، ثم ينمو هذا الحب، ويتحوَّل من الفطري الخالص إلى الفطري والكسبي، ويمتد من الأم إلى الأب، ومنهما إلى أشياء كثيرة، حتى يمر الطفل بما يُعرف ب(الاستقطاب حول الذات). ولقد اختلف الفلاسفة والنفسيون والعلماء حول حدود الحب ومجالاته، كما اختلفوا في التفريق بين (الحب الجِبِلِّي) و(الحب الكسبي) و(الحب العقدي) المحكوم بضوابطه الشرعية. وإذ يكون من لوازم الإيمان الحب في الله، والكره في الله، فإنّ الرجل يكره الكفر والكافرين، ولكن قد يكون والداه أو أحدهما كافرين فلا يمنع إلاّ من طاعتهما في الكفر، وقد يأخذ بالرخصة، ويتزوج (كتابية) باقية على دينها، فيختلط الحب العقدي المعروف بالولاء والبراء بالحب الجِبِلِّي، وهنا يقع الحدِّيون في معضلات الحب وأنواعه، وإمكان التفريق بين حبّ في الله وحب جِبِلِّي غريزي. ومن غبش الحب في الإسلام، أنّه يكون حباً تعبُّدياً أو حباً جِبِلِّياً. والقليل من المتعاملين من يملك القدرة على فرز الخلطة بينهما، وتحديد المحظور والمباح، ويدخل في ذلك التعظيم والاحترام وضوابطهما وصور ذلك، والجمع بين أحاديث الأمر والنهي، وتعارض القول والفعل، وإذ يكون القرآن الكريم تبياناً لكلِّ شيء، فإنّ التماس الضابط لا يتأتّى إلاّ للراسخين في العلم. وأزمة الدول الإسلامية الملتزمة تكمن في مواجهة (البروتوكولات) الرسمية، كتنكيس الأعلام، وأيام الحداد، وتبادل التهاني في المناسبات، وأشياء يعرفها (الدبلوماسيون)، والأزمة تزداد تأزيماً حين تكون الدولة عضواً في الأُسرة الدولية بفاعلية وأهمية، فهل تساير أو تتحفَّظ؟ وهل تُعَد المسايرة داخلة في الاضطرار أو لا تكون؟، ويجب أن نعرف كيف يحترم اليهود شعائرهم (السبتية)، والتزامهم بمقتضياتها، وقيام دولتهم على نصوص توراتية، وتحميس الرأي العام الأمريكي من خلال نصوص إنجيلية، والتزامهم (السبتي) قد يخل ب(البروتوكولات) الرسمية، وما أحد عاب عليهم ذلك. وإشكاليتنا تستحكم حين لا نفرِّق بين العادات والعبادات. والبدع والمستحدثات الدنيوية. والأفكار والعقائد، وحين يتقحم القضايا من لا يعرف حدود ما أنزل الله. والقول في الوطن والمواطنة بغير علم ولا كتاب منير يجر ألْسنة وأقلاماً إلى مزالق الفتن، وقد يعرضها لنواقض الإيمان جهلاً لا إصراراً. والكلام في (الحب الوطني) يفضي بالمتحدِّث إلى المجال والحد والمباح والمحظور، وتقليب هذه القضايا في ظروف اشتد فيها ضرب الأدلّة بعضها ببعض قد يدفع إلى سحب ملفّات ساخنة تزيد في الإشكالية بسطة. والحب المترجم بالفعل الذي جسَّده آباؤنا مع (الملك عبد العزيز)، لم يتلقّوه تلقيناً، بل شربوه مع لبن أُمهاتهم، وأحسب الأسوياء من الأبناء والأحفاد كسلفهم، وظواهر المفاهيم الخاطئة والفتاوى الحدِّية لا يجهضها إلاّ تجفيف الحواضن، وتجهيز خطاب أقوى، يسبق إلى الأدمغة الفارغة، ومادة (التربية الوطنية) وُلدت مبتسرة، ومن ثم لم تنهض بالمهمة المرجوّة. ولا أتوقّع أنّ هناك إخلالاً ظاهراً في الحب، بحيث يستدعيه البعض، وإن كان ثمة حاجة إلى تجديد مفهوم المواطنة على وجهها في النفوس المضطربة، فإنّ ذلك شأن التعليم والإعلام، وسائر المؤسسات الثقافية. وطريق ذلك في فهم الإشكالية، وتصوُّر الحل، وتقديم التطمينات بين يدي الحديث. لقد وثَّن الثوريون (الوطن) و(اللغة)، وكانت ردّة الفعل في نفي (الوطن) وإحلال (الأُممية)، ونفي (الوحدة العربية) وانتظار ما لا يأتي من تطلُّع إلى الخلافة الإسلامية. وكلُّ تطرُّف في المفاهيم يقابله تطرُّف مناقض، وبين التطرُّفين تضيع الحقيقة، إنّ علينا تنقية الأجواء من دخن الخطابات الثورية المحيلة إلى الثورة الأُم، واعتماد خطاب إصلاحي شمولي يتفادى الذوبان والشذوذ معاً، بحيث يتعصرن ولا يتغربن. وقد يكون من المناسب في ظل الغلو الأُممي معالجة المفاهيم حول (النزعة الأُممية) وحدود الأخوة الإسلامية، إذ لا تعارض بين الوطنية الإقليمية والأُممية الإسلامية، إذا أخذنا بحقِّهما، وفق الضوابط الشرعية، وبخاصة حين يتناغم فقه الأحكام مع فقه الواقع. ولقد عالجتُ كثيراً من هذه القضايا في كتابي (أبجديات سياسية على صور الوطن) في الفصلين الأول والثاني، واجتهدت ما وسعني الاجتهاد في الابتعاد عن الغلاة وحدِّياتهم الصارمة ورؤيتهم التي تشكّلت في وقت القوة أو في ظروف جهاد الدفع. والحب بكلِّ أنواعه ومجالاته صعب وطويل سلمه، والقول فيه رجم بالغيب، ومفهومه يشكِّل عقبة في طريق الوفاق. ولقد كانت للفلاسفة تهويمات حول مفهومه، وبعض الخائضين في شأنه العقدي والجنسي والإنساني والجمالي والجلالي يحيلون إلى مقولات هلامية (لجلال الدين الرومي). و(زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الحب) يحاول أن يطمئن المتلقِّي فيقول: (إنّ الحب حَلٌّ لا مشكلة وتفسير لا أحجَّية)، غير أنّ المشكلة في التمثُّل والتطبيق والمجال، وكم نرى ونسمع مقولات معسولة عن المواطنة من أُناس يخونون أماناتهم. والإسلام لا يحصر المسؤولية بل يعمِّمها (كلُّكم راعٍ) فالموظف الذي يختلس الوقت أو المال، والمواطن الذي يخالف النظام، أو يتحايل عليه، لا يكونان مواطنين أسوياء، وإذا كان الوفاء للوطن درجات، فإنّ الخيانة دركات فالمختلس للوقت أو للمال أقلُّ خيانة ممّن يقتل النفس التي حرّم الله، أو يدمِّر ثروات الوطن، وأخطر الجنايات نقض العهد، والخروج على جماعة المسلمين، وأخطر المشاكل الفراغ الدستوري، ويقظة الفتن النائمة. ومكمن الداء ليس قصراً على الفئة الضالة، ولكنها أيضاً في الفئة المقصِّرة في مواجهتها، أو الخائنة للأمانة. وما الفساد الإداري، وضعف مخرجات التعليم، والتستُّر والتحايل على الأنظمة إلاّ لون من التقصير الضائع دمه بين شرائح المجتمع. والتساؤل القائم: هل الإنسان مجبول على الحب أم على الكره؟ ولكي نقر في الأذهان ما نود أن يحسم المشكلة نقول: لا شيء يتميَّز إلاّ بضده، بمعنى: لا نعي النور إلاّ بتجربة الظلمة، ولا نتذوَّق الصحة إلاّ بتجرُّع مرارة المرض. ولا نعرف الحب إلاّ حين نعيش الكره. فالحب ليس قائماً بذاته، إنّه ضديه بمعنى أنّ الحب للشيء لا يتحقّق إلاّ بالكره لمقابله، فأنت لا تحب شيئاً حتى تكره ضدَّه، فإذا أحببت الحياة فأنت بالحتم تكره الموت، وأنت حين تحب الله، يجب أن تمتثَّل أمره {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} «آل عمران: 31»، وجذر الحب في القرآن الكريم يدور حول (الامتثال والأداء)، وليس حول الهيام والادعاء. إذ متى كان هناك حب كان إلى جانبه كره. والذين يجنحون إلى المفاهيم (الغاندية)، ويتوسّعون في مفهوم (التسامح) كما هو عند (جودت سعيد)، يذرون المقابل كالمعلقة، وعيب المشهد الثقافي أنّه يفصل الحب عن مقتضاه القائم على (الامتثال والأداء)، ولغط المختصمين توجّهه تقلُّبات الطقس السياسي، حتى لا يَجد المرء حرجاً من مناقضة نفسه بين عشيَّة وضحاها. |
حب الوطن.. المفهوم والتفهيم..! 2-2
د. حسين بن فهد الهويمل والحب والكره صفتان قد يستقرّان شعوراً، ولا يتحقّقان فعلاً. كأن يحب الرجل (أُمَّه)، ولكنه لا يبادرها بما يسعدها، ويكره الإنسان عدوَّه، ولكنه لا يكيد له. والحب يأتي درجات بعضها فوق بعض، مثلما أنّ الكره يأتي دركات بعضها دون بعض، (ومن الحب ما قتل)، كما يقال، فهو إمّا أن يكون سلبيّاً فيؤذي، أو إيجابيّاً فينفع، والمحب الجاهل أضرُّ من العدوِّ العاقل، والحب يتنوَّع فمنه حب الشعور، وحب الفعل، والحب من الذات، والحب من الغير. بمعنى أنّ البعض يحب العمل المثمر من الغير، وقد لا يجد الرغبة في ممارسته، وقد تحب فعل الخير، ولكنّك لا تبادر إليه. إذاً: هل التقصير في حقِّ الوطن يحال إلى الكره له؟ لا أظنُّ ذلك، فالإنسان قد يمارس المعصية، وهو محبٌّ لربه. وفي الحديث: - (لا تلعنه فإنّه يحب الله ورسوله). إنّ مواجهة المرتشي والسارق والمتلاعب لا تكون بشعار حب الوطن، ولكنّها بالتربية القائمة على الترغيب والترهيب، وعلى مبدأ الثواب والعقاب، والتذكير بأنّ مثل ذلك مخلٌّ بالواجب الوطني لا بالحب الوطني. والأنظمة والقوانين والدساتير حين لا تحفظ التوازن بين الحقوق والواجبات، لا يتحقّق معها الحب المطلوب. وما انتفاع الوطن من التلويح باليد أو الهتاف بالأصوات، إذا لم يكن هناك واجبات مدفوعة وحقوق مصونة؟ وكلّما كانت دون المؤمل من الوطن موانع تحول دون استيفاء الحق، تفشَّت السلبيات واللامبالاة. وما الهجرات الجماعية والشّتات إلاّ مؤشِّر خلل في علاقة المواطن بوطنه. ولا بدّ أن نفرِّق يين مقصِّر في الواجب ومضطرب في فهم الحب. الحب قائم على كلِّ الأحوال، والإشكالية في التقصير أو الخيانة أو الفهم الخاطئ، وتلك كلُّها تعالَج بالتشخيص أولاً، ثم باتخاذ طرق التخلُّص منها. والحب على كلِّ مستوياته وأنواعه ومجالاته يُعَدُّ إشكالية عصيّة التصوُّر فضلاً عن الحل، سواء كان حسِّيّاً أو معنويّاً، شرعيّاً أو جبليّاً، وهو مع هذه الممانعة يمكن أن يكون حلاً. والنظر إليه من زاويتين هامّتين: - الحب الرُّوحي. - والحب الحسِّي. ف(الماديون) نظروا إليه من الجانب الجسدي، وحصروه في زاوية الشهوانية، وكان أكثرهم تطرُّفاً (فرويد). و(اللاهوتيون) نظروا إليه من الجانب الروحي، وكان أكثرهم غلوَّاً (المتصوّفة الباطنيين)، ولقد عُرف في الشعر العربي (الحب العذري)، والغوص في أعماق الجدل القائم بين الروحي والمادِّي دخول في المتاهات. وما من متطوّع لفك الاشتباك بين الفئتين إلاّ ويصاب بلوثة التطرُّف، والبحث عن (ماهية الحب) دخول في الجدل السوفسطائي العقيم. فالحب والسعادة والجمال كما السهل الممتنع، والأكثر وضوحاً هو الأصعب تحديداً. وإذ شُغل الدارسون للحب بأربعة خطابات، يعبِّرون عنها باللغة بوصفها وعاء الفكر ومستقرّ الحضارة هي: - اللغة الأخلاقية. - واللغة (البيولوجية). - واللغة الاجتماعية. - واللغة الصوفية. فإنّ لغة جديدة أكثر حدّة وصخباً، إنّها (اللغة السياسية)، التي تناسلت منها قيم ومفاهيم، ومن أشدّها تأبياً المراوحة بين (القطرية) و(الأُممية) و(القومية) و(الطائفية) وهذه المفاهيم أعطت اللغة السياسية أبعاداً جديدة، انعكس أثرها على عدد من الروابط. ولقد اصطدمت (اللغة الوطنية) كفرع من فروع (اللغة السياسية) بالولاء الأُممي، في وقت لم تكن (الأُممية) على اتفاق حول القضايا المصيرية فضلاً عن الثانويات، وهو اصطدام استدعته تناقضات تشكَّلت منها خطابات تذكي الفرقة والتناحر، متجسّدة بالهتافات الغوغائية، والإبداعات الشعرية، والشعارات الفارغة. ولو تقصَّينا مستويات الخطاب واتجاهاته في الستينيات والسبعينيات لوجدناه (قوميّاً) في الأولى، (قطريّاً) في الثانية، (أُمميّاً) في الثالثة. وهو في كلِّ الأحوال يوقد من شجرة مجتثّة غير زيتونة، فهي إمّا شرقية أو غربية. ولو أُخِذ (الحبُّ) بمفهومه الشرعي، لما تخوَّف الناس منه، ولما تحفَّظوا عليه. فحبُّ الأوطان تتنازعه الغرائز والمكتسبات، وتحكمه النصوص، والدين يحترم ذلك كله، وفي الذِّكر الحكيم ربطٌ واضح بين (الدين) و(الوطن)، حتى لقد أصبح الإخراج من الدِّيار معادلاً للإخراج من الدين. وكأنّ الخروج من الدِّيار مساوٍِ لقتل الأنفس، ولقد شُرع جهاد الدّفع لكلِّ من أُخرج من دياره، بل ربط القسط والبر بذلك، فالذين لا يُخرجون المسلمين من ديارهم، ولا يقاتلونهم في الدين، ولا يظاهرون الأعداء عليهم، يستحقون البر والصلة والسلم. {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}(الممتحنة: 9) فقد ربط النص المحكم بين المقاتل في الدين والمخرج من الوطن. كما تركَّزت مقاومة (موسى) عليه السلام على الإخراج من الدِّيار، بوصفها مقترفاً معادلاً للإخراج من الدين أو القتال عليه. وكان مكر المشركين واستفزازهم لإخراج الرسول من وطنه، ولقوة الحب الفطري للوطن جاء الخروج من باب التحدِّي {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ؟} (النساء: 66)، وفي المقابل جاء التحذير من أمر الله لمن كانت المساكن المرتضاة أحب من الله ورسوله وجهاد في سبيله، وكذلك مصائر الظالمي أنفسهم، لأنّهم رضوا بالاستضعاف والبقاء في الأرض دون هجرة إلى أرض الله الواسعة، وبهذا امتاز الإسلام بحفظ التوازن فلا إفراط ولا تفريط. وعلى الرغم من اتضاح الرؤية فإنّه يوجد خلط غريب حول تصوُّر الحب أو محقّقاته، بمعنى: كيف يتحقَّق حب الوطن؟ وما الشعائر والطقوس التي تؤكِّد قيامه في الأنفس وفي الواقع؟ وهذا الاضطراب ناتج اختلاط المفاهيم الثورية بالشرعية، وفقد التأصيل المعرفي لدى المتداولين لمثل هذه القضايا، والمصير إلى الحصرية في تحوُّل المقتضيات. وقضايا الأُمّة الكبرى من الثَّبات بحيث لا تخضع للظروف الطارئة. والحكومات الانقلابية وشعراؤها وكتّابها هم الذين استنُّوا طرائق سيئة في تجلية الحب، فكان التساؤل والتحفُّظ، واستغرابنا للتساؤل والتحفُّظ ناشئ من عدم استحضارنا لما هو عليه الحب الثّوري الموثِّن. وهنا تبدو إشكاليات الحب المربكة مع أنّ خطابنا مؤطّر بالشرعي، إلاّ أنّ إقحام الشعارات والشكليّات، والقول في شرعيتها وأهليّتها في تجسيد الحب تُوقع في الاختلاف، وكان الأجدى أن نتحدث عن ترجمة الحب ومحقّقاته، وألاّ تعصف بنا أعاصير الادعاءات الكاذبة. لقد زهد العقلاء والمجربون بالشعارات، وخاب ظنهم بالهتافات، وقال قائلهم:- هاتوا برهانكم، ولا برهان إذا كان المواطن يدفع أغلى الأثمان للفرار ببدنه من وطنه. إنّ ترجمة الحب في بذل الوسع، والتوازن بين الأخذ والعطاء، وكفّ النفس عن الأثرة، وكفّ اليد عن العبث، وتغليب المصلحة العامة، والنُّصح لله ولرسوله ولأولي الأمر، والصدق والأمانة، ورأب الصَّدع، وجمع الكلمة، ولزوم الجماعة، وإقرار النِّعم بالشكر، وصناعة الذات لبناء الوطن، والاستجابة لندائه الفعْلي والأخلاقي، وحماية الثغور: الحسِّية والمعنوية، ومراعاة الحقوق والواجبات. فمن جاع، أو خاف، أو طُورد، أو سُلِب الحرية، لن يكون حبه وولاؤه كمن أمِن من الخوف، وطعِم من الجوع. إنّ الحب الجبلي الذي يخامر المواطنين لوطنهم لا مزيد عليه، ولكن الحب بحاجة إلى ترجمة سليمة تُخرج الناس من سلبيّات الشعارات إلى إيجابيّات الممارسات، ومن الفهم الخاطئ للأُممية والقطرية إلى الفهم الصحيح والأداء السليم، وإذا جسَّدناه بالشعارات والهتافات أضعناه، وما أضرَّ بالانقلابيين إلاّ لغة الزّيف والتمثيل، والتعويل على الشعارات، أو تناول مفاهيم الحب بشكل حدِّي يؤدِّي إلى تنازع وهمي لا قيمة له. إذ الشِّعارات ليست فرضاً إنّها خيارات، والعدول عنها لا يعني الإخلال بمتطلَّبات الولاء، والمصير إليهما لا يعني العبودية، إذ المسألة برمّتها خاضعة للبرهنة عن القيم المعنوية، وتحديدها والأخذ بأيسرها. وما أغنى (الشاه) حين ألزم شعبه الوقوف له، كلّما خرج على الشاشة، لقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، حتى لم يجد قبراً يأوي إليه. والأعتى والأمَرّ من كلِّ ذلك اضطراب المفاهيم حول الشرعي والعرفي، واختلاف المندفعين والمتعالمين حول مشروعية الطقوس والشِّعارات، والخلط بين العادات والعبادات، وعدم التفريق بين البدعة في الدين، والبدعة الحسنة في الدنيا. ولست بصدد تزكية أحد المختصمين، ولكنني أودُّ سؤال أهل الذِّكر، واعتماد ما يصل إليه اجتهادهم فالشِّعارات نفذت أو لم تنفذ لن ترد معتدياً، ولن تملأ بطن جائع. وفوق ذلك فإنّ تحرير مفهوم البدع إشكالية نودُّ أن نتأمَّلها، ليسهل القبول بالمستجدّات من أمور الدنيا، ولاسيما أنّنا أُعطينا الضوء الأخضر: (أنتم أدرى بأمور دنياكم). وليس هناك ما يمنع من تمثُّل بعضها مسايرة لواقع الأمم، ولكيلا نكون نشزاً، ولا بدعاً بين الأُمم. إنّنا بحاجة إلى التعايش مع الآخر، والاندماج معه فيما لا يمس ثوابتنا، إذ لا مناص من ذلك، والاعتزال متعذِّر المنال فهو كالغول والعنقاء والخل الوفي. وواجب المتصدّرين للحظر والإباحة، وسدّ الذرائع، ودرء المفاسد أن يعرفوا الفرق بين العادات والعبادات، والفعل قربة إلى الله، والفعل لإنجاز أمر دنيوي. ولن يتحقّق ذلك إلاّ بالد إلى ذوي الاختصاص، وأهل الذِّكر الذين يفرِّقون بين العرفي والديني والبدعة الشرعية، والتجديد الدنيوي. ومع اتخاذ كلِّ الترتيبات والتحفُّظات، فإنّه ليس من الحكمة أن نصادم الرأي العام، الذي يحيل إلى فتاوى العلماء، ولا أن نكرهه على ما يحوك في النفوس، ويتردّد في الصدور، لوقوعه تحت طائلة الاختلاف الشرعي المعتبر، وإن كان ثمة تغيير في الفتيا تبعاً لتغيير الزمان والمكان، ودوران العلة، فإنّ علينا أن نهيئ الأجواء بالتحوُّل المرحلي، وكم كنت أودُّ استحضار (العلّة) المنصوص عليها، كما في حكم المؤلَّفة قلوبهم فهي التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً، والتفريق بينها وبين الحكمة المستلهمة من التشريع، فالعلمانيون يخلطون بين هذا وذاك، لتعطيل الشريعة. والمتابع الواعي لخطاب المواطنة عند الانقلابيين يعذر المتحفّظين، والمصيخ لخطاب الأُممية عند المنكرين للمواطنة القطرية يعذر المتأقلمين. فالتطرُّف في الحب يقابله شمول في التوقُّف. وشعراء الانقلابات الثورية يستفزُّون الرأي العام، لأنّهم يقولون منكراً من القول وزورا، فهم لم يقفوا عند حد المعقول والمقبول، بل أوغلوا في التصنيم، ونقلوا الحب الشرعي المفروض إلى الحب الوثني المرفوض. والذين تقحموا الموضوع من بني جلدتنا دون رصد دقيق للخطابات المتعدّدة يتصوّرون الأمر عفوياً، ويظنون أنّ التردُّد في القبول اعتراض ذاتي مدان، وما هو كذلك، إنّ هناك معهودات ذهنية، تتضخّم كما الأشباح في الأجواء المخيفة، ولنا أن نتذكّر الموقف من تعليم (المرأة)، لقد كان الاعتراض مربوطاً بما هي عليه أوضاع المرأة في بعض البلاد الإسلامية، من تبرُّج، واختلاط، وخلوة، وهو ناتج التعليم والعمل. وحين وضعت الدولة نظاماً صارماً بلغ بالمرأة أوج التعليم، وأبقى على عفّتها وطُهرها، أقبل المعارضون ببنائهم، واستعجلوا الدولة في التوسُّع. والذين سخروا من المعارضين ومن تراجعهم لا يستشعرون المعهودات التي حرّكت كوامن الخوف، إنّ المعارضين محقُّون، والدولة محقَّة، والإشكالية في نظر المعارضين إلى واقع عربي مدان، وفي إحالة الدولة إلى نظام صارم حفظ للمرأة عفّتها. وبين المعهود والموعود نشأ الاختلاف، ثم كان بالموعود الاتفاق. وأحسبنا قد عدنا إلى دوامة المعهود والموعود في الشأن الوطني، إنّ إبداعات شعرية وسردية تؤله الوطن، ولا تمجِّده، وولاءات أُممية أضاعت الوطن وعرضت الجبهة الداخلية للتفكُّك، حملت المعتدلين على الاستبانة، لتطمئن قلوبهم. ويقيني أنّ المتداولين لهذه القضية في الندوات والكتابات والمؤتمرات، لا يخرجون عن المشروع، ولكن التوفيق بين وجهات النظر وأسلوب التناول أثار بعض التساؤلات عن كلِّ حديث عن الحب الوطني. وفي النهاية فإنّ التحفُّظ أو الاندفاع لا يمثل المعيار ولا المقياس، فكم من صامت أبرّ من البررة، وكم من مهذار متزلّف، يريق ماء وجهه عبر القنوات، ويَعْرض نفسه بأبخس الأثمان، أعق من العققة. والوطن هو الوطن، ولا وجود بدون وطن، يُقتدى بالنفس والنفيس، وحيث يكون الأمن، والرخاء، والاستقرار، والحرية، والكرامة، واحترام القيم، يكون الوطن. وحيث يكون الصدق، والإخلاص، واحترام الأنظمة، وحماية كافة الثغور، ولزوم الجماعة، تكون المواطنة. وما هو بادٍ للعيان من تجاوزات في تحرير مسائل الوطن والمواطنة، لا يَضْبطُ إيقاعَه إلاّ ثلاث مؤسسات: الدينية والتربوية والإعلامية، وواجب بقية المؤسسات أن تلتقط الخيط لا أن تمارس التلقين. |
وما علي إذا لم يفهم المناوئون
د. حسن بن فهد الهويمل ثارت ثائرة الكاتب (علي بن فايع الألمعي) حين أيقظه حديثي عبر برنامج (إضاءات) على المفهوم الصحيح لمقاصد (الأدب الإسلامي) ومقتضياته، وكتب بروح الشمت المشيِّع لفعاليات (الأدب الإسلامي) إلى مثواه الأخير (جريدة الوطن 4-4- 1427هـ). وتبين لي أنه من أولئك النفر الذين يسهل اختراقهم، ويمكن تشكيل وعيهم، ولم يكن بهذه الاستجابة ألمعيَّا. وهذه النوعية من الناس مصابة بقابلية الاستجابة الفورية، وبسرعة الانقياد، وقد تستمع القول فتتبع أسوأه. لقد فهم (الأدب الإسلامي) على غير مراد أهله وخاصته، وتصور أنه يقوم على التصفية والتصنيف والإقصاء، بحيث لا يبرح ثنائية (الكفر) و(الإسلام)، وأن ذويه يحملون درة (عمر)، يشجون بها رؤوس المخالفين لمرادهم المفرط في الغلو، وما هو - علم الله - كذلك، ولكنه التوهيم الذي فعل فعله بأدمغة لا تحمي أجواءها من اللوثة والتلوث. والأستاذ (الألمعي) مهذب في خلقه، ومؤدب في حديثه، كما يبدو من تعقيبه، واحترامي لإثارته، حملني على الرد، لتصحيح مفهومه، والكاتب محق حين يسأل عما قلت في برنامج (إضاءات)، لأنه كسر مسلماته التي لم يُدرك خطأها، ولربما ظن أن ما قلت تحولاً في المفاهيم، وفراراً من الزحف، وبداية انقسام خطير. وأخذه للمعلومة من مصدرها بدون حائل غيَّر كثيراً من تصوراته، وما ضلت المشاهد إلا بالشائعات والافتراءات والتقول على الخصوم بعض الأقاويل. لقد كان برنامج (إضاءات) منبراً حيادياً، قلت من خلاله ما أعتقد، ووصول خطابي إلى الذين يصرون على رؤيتهم التي تشكلت في غياب استبدادهم يثير التساؤل، وكم كان بودي أن يستمع الخصوم والمتحفظون، ماذا يراد ب(الأدب الإسلامي) وما حدوده ومجالاته، وما مدى صلته بالأدب العربي؟. وعبر فترات متقاربة، التقيت بأدباء ومفكرين في سائر الأقطار العربية والإسلامية, وحاولت أن أبسط لهم القول عن مفهوم (الأدب الإسلامي) ومقتضياته، ومدى صلته بالآداب الأخرى، وموقفه من كل الأبعاد اللغوية والفنية والدلالية، وما من مستمع يلقي السمع، وهو شهيد إلا ويبارك الخطوات، ثم لا يجد غضاضة في أن يعيد صياغة مفهومه وموقفه. ويا ليت قومي يعلمون أن المراد من وراء هذا الاتجاه إشاعة الكلمة الطيبة، ولو كنت فيما أرى على خلاف ما أقول، لاستبان ذلك زملاء وطلاب، كنت معهم مشرفاً على رسائل (الدكتوراه) و(الماجستير)، ومناقشاً لها، أو محكماً في بحوث الترقية ومواد المجلات المحكمة؛ وأعمال المرشحين للجوائز العالمية، أو محاضراً ومنتدياً. وعبر هذه المهمات لم اختلف مع أحدٍ من أولئك بالشكل الذي يتصوره البعض، فكيف يتصور صاحبنا أن (الأدب الإسلامي) خلق آخر؟ واختلاف (الأدب الإسلامي) مع حداثة الفكر والفوضوية الأخلاقية عين التعالق مع الكلمة الطيبة. والأستاذ (الألمعي) يحسب أن إشاعة الكلمة الطيبة من السهولة بمكان، بحيث تمر مرَّ السحاب لا ريث ولا عجل، وما يدري أنها لن تشيع إلا إذا أجهضت الكلمة الخبيثة. ولأن للكلمة الخبيثة أنصارها ومنتجيها والمستفيدين منها فإن (الأدب الإسلامي) وأنصاره مكرهون على الصراع أو الصدام، بعد استنفاد وسائل الدفع بالتي هي أحسن، وكلمة (خبيثة) دركات، فهي تطلق على الرديء المباح، وعلى الفاسد المحرم، وقد ترد في سياق يمنحها المشروعية على حد: (حاكي الكفر لا يكفر). و(أدب الاعتراف) و(الواقعية) و(الفوضوية) أضلت أفهاماً، وأزلت أقداماً، ولمَّا تزل مصدر اختلاف في المواقف والمفاهيم، ولا ينجو من مزالقها إلا العالمون بالمحظور والمباح. ولما كانت (الحرب خدعة) فإن الذين لا يحترمون المصداقية يفترون الكذب، ويمعنون في التضليل، ويخوفون أولياءهم من هذا المصطلح الذي أرست قواعده (آيات الشعراء)، ومن أصدق من الله قيلا، وأملي من كل الطيبين ألا تغشاهم المفتريات، فيصدقون ما يقال. إن (الأدب الإسلامي) هدف كل مسلم، ومطلب كل شريف، ومن ذا الذي يود إشاعة الرذيلة، وتدنيس المقدس، وإفساد الأخلاقيات. ولهذا فقد أنس (الألمعي) بهذا القول الذي قلته، وتبقى مع كل ذلك مساحة للاختلاف، فلكل أديبٍ أو مفكر رؤيته وحدود تصوره، فما يراه (الألمعي) مسموحاً به، قد لا أراه أنا، ومن هنا ينشأ الاختلاف المشروع. وإشكالية التفريق بين الثابت والمتحول، والفكر والعقيدة، والعادة والعبادة، قائمة على أشدها وستظل مجال تباين وتنازع، فقد يكون الثابت عندي متحولاً عند غيري. على أن الحل ممكن، لو عرفنا حتمية الرد لله ولرسوله والتسليم بقضائهما، وأنه لا خيرة عندئذ (إن الحكم إلا لله). وإذ نتفق على حق الحرية، وحق الإمتاع واللهو المباح على حد (إن الأنصار يعجبهم اللهو)، فإننا نختلف حول الحدود والمجالات والمقادير والأنواع، وهذه الضوابط لم يتفق عليها الفقهاء والأصوليون، فضلاً عن الأدباء والنقاد، الأمر الذي جعل الجميع على موعد مع الاختلاف. ومن الخير لنا أن ترحب صدورنا، وأن تحسن مقاصدنا، وأن نقبل الرأي الآخر، متى كان في إطار اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد. و(الألمعي) ومن معه تصوروا أن لقائي يشكل تحولاً في الآراء والمواقف، وعلم الله أنني لم أزل على العهد وعلى الوعد، وأنني لم أتحول قيد أنملة، وما كنت لأساوم على موقفي، ولا أن أتملق النظارة، فما عدت في هذه السن وفي تلك المكانة محتاجاً إلى استرضاء الآخر على حساب مواقفي. وإشكالية (الألمعي) أنه يحتفظ بصورة مزورة عني، ولما رآني على حقيقتي راعه الأمر، ورابه الموقف، وظن بي الظنون. (الأدب الإسلامي) في نظري منذ أن باركت خطوات المؤسسين والمناصرين له، لا يعدو إشاعة الكلمة الطيبة، والدليل على ذلك أن فنّياته وأشكاله ومجازاته واستعاراته وكافة محسناته لا تختلف عما هي عليه في (الأدب العربي) منذ العصر الجاهلي، حتى كتابة هذه الأسطر. ولأجل تقريب وجهات النظر كانت لي محاضرة في (مصر) عن (علاقة الأدب الإسلامي بالأدب العربي)، ولتعميم الفائدة نشرتها في هذه الجريدة، وهي في موقعها على (الإنترنت)، وخلاصة القول إن (الأدب الإسلامي) جزء من (الأدب العربي) وإن كان ثمة اختلاف فإنه في الانحراف الفكري أو السقوط الأخلاقي الذي وسعه (الأدب العربي) وتحاماه (الأدب الإسلامي)، ولمَّا يزل (الأدب العربي) مطية مذللة لكل خطاب، وما اعتراه من تسييس و(أدلجة) و(حدثنة) يوجب على الخيرين انتباذ مكان قصي تمارس من خلاله الكلمة الطيبة. وما فعله الأستاذ (الألمعي) من إحالة للتراث واستنجاد ب(أبي محمد بن حزم) رحمه الله في كتابه (طوق الحمامة) حجة واهية، فالتراث العربي له وعليه، ولا تخلو فترة من فتراته من علماء وأدباء وشعراء ومؤلفين وموسوعيين يقترفون ما هم مقترفون، والعصمة والتزكية ليست إلا للرسل. ف(ابن حزم) رحمه الله عالم موسوعي، وفقيه متبحر، ومحدث حافظ، ولديه حس أدبي، وهو و(ابن عبدالبر) من أوائل من تلقيت كتبهم بالقبول الحسن. ولعل (الألمعي) يقرأ شيئاً من (نزهة المجالس) ل(ابن عبدالبر)، ومع هذا فإن (ابن حزم) لم يخل من الخصوم في الفقه والحديث وعلم الكلام والأدب، حتى وصفه البعض بالجهمي الجلد، وله رؤية شاذة في كثيرٍ من الفنون. والتمترس خلف الموروث الإنساني مؤشر فهم ناقص، إذ كل عالم راد ومردود عليه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم والمؤيد. وإذا اختلفنا في شيء من أمر الدين أو الأخلاق أو السلوكيات أو مضامين القول، فإنه لا يرد إلى التراث البشري، وإنما يرد إلى الله والرسول. ولست على أي جبهة مدافعاً عن تجاوزات بعض المشايعين ل(الأدب الإسلامي) فهم قد يردون قولاً مشروعاً، وقد يضيَّقون واسعاً، فكل أديب مسؤول عما يفعل وعما يتصور. فالمبادئ لا تحتمل أخطاء المطبقين، والتاريخ الإسلامي يختلف عن تاريخ المسلمين. ولسنا بقادرين على أن يكون كل منتمٍ للأدب الإسلامي على حق، يتصرَّف وفق مقتضيات (الأدب الإسلامي) إن دفاعي عن مفهوم الأدب ومقتضاه، وليس عن الأديب الإسلامي ومقترفه. والمتبدي من خلال رد (الألمعي) أن نَفَسَه مع الحداثة دون تحفظ، وأساطين الحداثوية من خلال قولهم المنحرف كما المنافقين الذين قال الله لهم: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}. ولسنا نطلق الكفر على معين، ولكننا نحكم بكفر القول حين يدنس المقدس أو يستهزئ أو يرد ما علم من الدين بالضَّرورة، والحداثة حداثة فكر وحداثة فن، والحكم بعد التصور، والتجديد غير الحداثة، فأنا مع التجديد، ولست مع الحداثوية وحين أرد على (الألمعي) قوله لا أدافع إلا عن نفسي، ولا أحتج إلا برؤيتي، ولا أقدم (الأدب الإسلامي) إلا من خلال تصوري ومفهومي. ولكنني مع هذا أثق بالاخوة والزملاء في الرابطة، فسوادهم الأعظم على وعي تام بالمقتضيات والأهداف، وليس فيهم من هو على شاكلة ما يتصوره الكاتب. ومع تجاوزاته فإنني أحمد له البوح بما يعتمل في صدره. وهو قد وصفني ب(الشراسة) و(العناد)، وأحسبها كلمات لا تليق بي، ولا تحسن منه، ولكنني سأمضي، وكأنه لم يقل، ولم أسمع، مردداً قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}. وأحب أن أطمئن الأخ أن أنصار (الأدب الإسلامي) لن ينشقوا على أنفسهم، وأن لهم آراءهم المختلفة، وأنهم كغيرهم يدركون تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر. وقولي إن (الأدب الإسلامي) يقوم على إشاعة الكلمة الطيبة قول يؤمن به كل المنتمين لهذا الأدب وهو ما يرحب له صدر (الألمعي). ومهمة (الأدب الإسلامي) لم تنتهِ، ولن تنتهي كما يتصور الكاتب، إنها مرتبطة بالبلاغ والدعوة، وأملي أن يحسن الكاتب ظنه بإخوانه، فليس لهم أهداف، ولا غايات دنيئة، ومعاذ الله أن أكون المبشر بالنهاية. وكل الذي أقوله لأخي: عليك الثبات على المبادئ. ولا تمل مع الريح حيث مالت. وإذا كان من أنصار (الأدب الإسلامي) من له هدف أو نيَّة دنيئة فذنبه على جنبه، وهو وحده الذي سيحاسب على ما في صدره. وليس بغريبٍ أن تسوء بعض النوايا، فالمنافقون خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتلون، وهم في الدرك الأسفل من النار، ولا نزكي على الله أحداً، فالله أعلم بما في نفوسنا. نعم نحن في الدنيا نحاسب على الظواهر، ولا نقدر على شق صدور الناس لنعلم ما فيها، وفي الآخرة وحدها (يحصَّل ما في الصدور). فعلى أخي (علي) أن يُعرض عن اتهام الناس في نواياهم، وأن يستغفر لذنبه، وأن يكف عن التوهين، وأن يعرف أنه يتحدث في قضايا ذات مساس بالدين، وعليه أن يقرأ آيات الجدل مع الذين يخوضون في آيات الله بغير علم، وآيات التأنيب للمستهزئين، فهي الروادع والمؤطرة. ودون ذلك وفوقه أحسب له ثناءه الذي لا استحقه، وإعجابه الذي لا أراه، ولو كانت القضية ثنائية بينية لما كتبت الرد، ولكن الأمر يمس قضايا حساسة. وحول رغبته في أن أُسأل عن كتاب (الانحرافات العقدية في شعر الحداثة) ليكون في هذا السؤال إحراج لي، وكشف عن تناقض مواقفي. أحب أن أصحح مفهومه، فالكتاب لم أكن مشرفاً عليه، ولا مشاركاً في تأليفه، ولست مسؤولاً عما فيه من أخطاء، إن كان ثمة أخطاء، وكل دوري فيه دعوتي بأن أكون مناقشاً خارجياً. فالكتاب رسالة دكتوراه تقدم به الدكتور (سعيد بن ناصر الغامدي) إلى قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام، والمشرف عليه (سماحة المفتي)، والمناقشون معالي رئيس مجلس الشورى، وفضيلة الدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل، وهم من هم في علمهم وورعهم وحرصهم على سلامة المقاصد، ولقد دعيت للاشتراك في المناقشة. والباحث بذل جهداً في تقصي الانحرافات العقدية في شعر الحداثة، وناقشها على ضوء رؤيته المستمدة من الشريعة، ولما يزل عمله مشروع أخذ ورد، ولقد جادلته أكثر من ساعة، وما ازددت إلا إعجاباً بدفاعه عن رؤيته. ولاشك أن في شعر الحداثة انحرافات فكرية، تصل إلى حد الإلحاد. وأعيذ (الألمعي) من أن يتحمل أوزاراً ليس له دور فيها، وأتمنى ألا يكون معذراً لشعراء يدنسون المقدس، ويتطاولون على الذات الإلهية. وإذا كان الباحث قد تجاوز أو أخطأ فعلى الأستاذ (الألمعي) أن يضع يده على ذلك لتداركه، ولقد كان لي إسهام يسير في رد كثيرٍ من أحكام البحث، طاوعني الباحث في بعضها، واحتفظ برؤيته في البعض الآخر، ومن ألف فقد استهدف. والباحث مع كل ما تتسم به الرسالة من الحدة والغيرة المحتدمة على محارم الله مثال الجد والاجتهاد، ومع الثناء والتقدير لا نزكيه، ولا نبرر أي خطأ وقع فيه، وفات علينا. وأحسبه سعيداً لو وضعت يده على الهفوات، وممتناً من كل من يهدي عيبه إليه، وما من مؤلفٍ عاد إلى عمله إلا تمنى التعديل والتبديل والحذف والتقديم والتأخير. وواجب (الألمعي) أن يهدي عيوب صاحبه إليه، وحق كل متحدث على مستمعيه أن يرشدوه إذا ضل. وأحب أن أؤكد للأخ أنني على العهد، ولم أتراجع، ولن أتراجع، ولكنها حقائق دامغة، سمعها فكشفت عن تحامل الخصوم. فما كان منه إلا أن حملها على التراجع، وما هي كذلك. وأنا من قبل ومن بعد لم أخف قناعتي، ولست محتاجاً أن أداهن، ولا أن أجامل، فأنا غني بالله عن كل مجاملة تجر مصلحة عاجلة. وامتناني من كلمات الثناء والإشادة لا تحول دون عتبي على كلمات اللمز والغمز، ولما أزل مطمئناً كل الاطمئنان على أن البقاء للأصلح، وان الله يحاسب على النيات. وكل الشكر للمثير ف: (لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود) |
الاستفزاز بالمعار والمعاد ..!!
د. حسن بن فهد الهويمل يقال:- إنّ التاريخ يعيد نفسه. إذ كلّما تشابهت الأحداث والوقائع تبدَّت هذه المقولة، كما لو كانت حتماً مقضيّاً. والتاريخ الراصد للأحداث ينبعث من مرقده، كلّما وقعت حوافر الأحداث على حوافر الأجْداث. وإذ تتكرر الوقائع والأقوال والآراء، يتكرر الأناسي بألسنتهم وألوانهم وأفكارهم. وقديماً قيل:- (يخلق من الشبه أربعين). ومثلما ارتبكت (ملِكَةُ سبأ) أمام عرشها، فقد يرتبك المفاجَؤون بالأحداث والأناسي، حتى يقول قائلهم:- كأنّه هو. وبعض الذين يكتبون في قضايا الدين والفكر والسياسة والأدب والتربية يُبْلَوْن بآفة السرقة أو التقمُّص، ثم لا يحسنون التستُّر، فيكونون بمجاهرتهم كما الهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد. وقد يبلغ الأمر بالبعض منهم حد التقنُّع والتماهي، بحيث يغدو المتقنّع بمن سلف أو عاصر مسكوناً به، يقول ما قال. ولو بعث القِناع من جدثه، لقال لسان حاله ومقاله:- (هذه بضاعتنا ردَّت إلينا). ولست أقصد بالظاهرة مصطلح (القِناع) بصورة: المسرحية والاحتفالية والمأتمية، كما لا أقصد بها ما يسمَّى ب(قصيدة القناع) التي شاعت في المشهد النقدي الحديث، فالمصطلح وقصيدة القناع ظاهرتان مشروعتان منضبطتان. حتى لقد تعاقب الدارسون على التماس الأقنعة في الإبداع الشعري والسَّردي. وما أعنيه بالتقنُّع تجوُّزاً اختلاس الأفكار والآراء، وتبنِّيها على أنّها من عند أنفس المتقنِّعين. فبعض الذين يصفهم القراء بالمفكرين، لا يجد أحدهم حرجاً من أن يكون نسخة مشوّهة لمن سبق من مستشرقين أو مستغربين، أو متعلمنين، أو متحدثنين، يقول مثل قولهم. والخبيرون ببواطن الأمور يدركون التشابه، ثم لا يكونون كبني إسرائيل الذين تشابه البقر عليهم. وحين أشهد بما أعلم، لا أجد الاتهام خاضعاً للمراء ولا للاستفتاء، فهو كالنهار الذي لا يحتاج إلى دليل. ولقد قلت، ولمّا أزل أقول: إنّ كثيراً من الأدباء والمفكِّرين لا يكررون أنفسهم وحسب، ولكنّهم يكررون غيرهم من خلال تبنِّي مواقفهم واختلاس أفكارهم، على حد:- (فندلاً زريق المال ندل الثعالب) وإن كان المُختلَس مُنكراً من القول وزوراً. ودافع المختلسين ما يعيشونه من صدمة الانبهار، وقابلية الخنوع والاستجداء والانكسار، ومحبو الظهور ينشدونه من خلال القول في (المسكوت عنه) أو في (اللا مفكّر فيه). وكم هو الفرق بين التأثُّر المشروع والاستنساخ الحرفي الممنوع. ومن ذا الذي يعي براءة النصوص من تأثير ما سبق؟ ومصطلح (التناص) كما يراه الألسنيون، يختلف كثيراً عن التبعية والتلفيق والترديد الببغائي. وما افترقت هذه الأُمّة على ثلاث وسبعين فرقة إلاّ بسبب ما تُلقيه الأفكار والمناهج والآليات المجلوبة، دون تمثُّل واقتدار على أمنية المتلقِّي. وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردَّ له، وإلاّ فإنّ طريق النجاة أن ينسخ الله ما يلقي شياطين الإنس، مثلما نسخ ما يلقي الشيطان في أمنية الرسول صلى الله عليه وسلم. ولنزول هذه الآيات أسباب اضطربت حولها الآراء، ولقد تقصّاها (الألباني) - رحمه الله - في (نصب المجانيق). وما من قارئ متسرّع لا يُحكم قوله إلاّ كان هالكاً مهلكاً لمن حوله. والخلط الفوضوي بين الحق والباطل وسنّة التدافع والتداول هي الطاقة النووية لاستمرار الاختلاف بكلِّ أنواعه. والمثقَّف الشمولي المتابع لكثير من المتدَاول من الآراء والأفكار حول مجمل القضايا الكبرى يدرك أنّها بضاعة مختلَسة، أمّا الذين قعدت بهم هممهم فإنّهم لا يعرفون القوم من لحن القول، ولا يعرفون أنّ أصحابهم نقلة ليس غير، ومن ثم لا يزالون ينفخونهم بأفواههم ويوكونهم بأيديهم، حتى يوقظهم الخبيرون. وقد يقضي الله أمره قبل استدراكهم للحقائق. وتلافياً لما يمكن اتخاذه ذريعة للنقل الحرفي أقول: - إنّ هناك فرقاً واضحاً بين المتأثّر بالأفكار والسارق لها، والمستعين بالمناهج والمدّعي ابتكارها. والمشهد الثقافي العربي مرَّ بمحطات مضيئة، وأخرى معتمة. ف(العقاد) أنِسَ ب(المذهب النفسي) وأحسن استثماره، و(محمد مندور) أعجب ب(اللانسونية) فاستكملها تنظيراً وتطبيقاً، وما كان أحد منهما مختلساً ولا متقنّعاً. والمشاهد لن تفقد الفائدة، فقد يكون لصوص الكلمة أو الفكرة أو المنهج من المنشطات للمشاهد، فالدخول في الجدل حول مشروعية الاستفادة بين الفرقاء، يستدعي الاستزادة من المعارف، لتحصين الحمى، وطرد الحائمين حولها، وهذا بحدِّ ذاته منعشٌ للحركة الفكرية والأدبية، وكم من رويبضات تكلّمت فأيقظت حراس الفضيلة. وما يخشاه الكرماء اكتناف الجدل بمراء غير محق، أو امتداده من الموضوعي إلى الشخصي، أو تقحم المشهد بمن لا علم له ولا خلاق، فيكون ذلك مؤذناً باعتزال المحقين وترك المشهد لمن لا يحسن القول، ولمن لا يملك المعرفة، وبودِّي لو أُعيدت قراءة الموجات السياسية منذ ثورة (حسني الزعيم)، والموجات الفكرية منذ (الطهطاوي) والموجات الاجتماعية منذ (قاسم أمين) لتستبين شواهد المبادرات ووثائق الإغارات. وعلى ضوء مقولة:- (التاريخ يعيد نفسه) أقام المفكِّر العربي (برهان غليون) منهجه في كتابه العميق (نقد السياسة: الدولة والدين)، ومع جاذبية الخطة وثبات الخطوات، إلاّ أنّ فجوات واضحة لمَّا تزل بعد لم تجسر. ولسنا بصدد تحديد الموقف من الفرضيّات والمعالجات وتقويم النتائج، وإنّما نريد أن نوضح اتكاءه على فرضية عودة التاريخ، فالمفكِّر يستهل رصده للحركة السياسية العربية بالقول عن (الثورة الدينية) بوصف الرُّسل يمثِّلون ذلك المفهوم، حسب رؤيته، ولهذا خرج من الحديث عن (الثورة الدينية) إلى (الثورة السياسية). وما نقصده من هذا الاستدعاء القول ب(عودة التاريخ)، وسواء كانت عودة إلى الجذور أو تعالقاً مع المستجد السياسي العالمي ك(العلمانية ونقد الدين). وتكرار الأنظمة كتكرار الأفكار. والإشكالية في النمطيّة والتناظر، ووقوع الحافر على الحافر، وتلك سمة المشاهد كافة،. والحديث التاريخي أو السياسي أو الفلسفي عن أُم الثورات (الثورة الفرنسية) يمثِّل الاجترار، ولا يخلص إلى الاختيار، فكلُّ منظِّر لثورة قائمة أو قادمة لا يبدئ القول، ولكنه يعيده. وليس مهماً أن يكون المفكِّر (غليون) موفّقاً في المآل، أو لا يكون، وإنّما المهم تعالقه مع هواجس عودة التاريخ، وتجانس الأحداث. ولسنا بهذا نلتمس الإدانة أو القمع لسارقي الأفكار والمبادئ والمناهج، وإنّما نريد أن يعرفوا قدر أنفسهم، وأن يعرفهم الرأي العام على حقيقتهم. والذين استولت عليهم ظواهر الغرب ومبادئه وتياراته، وسحرت أعينهم عصيُّه وحباله، لم يقدروا على الغوص في الأعماق، وتلمُّس الجذور، والاستقلال في الحديث. فهم بلا شك عاجزون عن التخلُّص من هيمنتها، وقدرهم أن يظلُّوا شركاء في اجترار الآراء دون المبادرة المطلوبة. فالذين أغثونا بالحديث عن سائر الظواهر الفكرية والسياسية والأدبية وتبنِّيها، ليسوا متأثِّرين ولا معجبين، ولكنّهم أدعياء مبهورون، يسطون على طبيخ الغرب المغِبَّ، وليس لهم إلاّ مهمة التسخين، ولقد قال (مارون عبود) عن بعض آراء (طه حسين): إنّها تسخين لما غبَّ من أفكار الغرب. والذين يغثوننا بترديد مقولات العلمانيين والحداثيين و(الليبراليين)، ويستفزُّون الرأي العام باجترارها، لا يلوون على معرفة، ولا يحيطون بحكم. والراصد للخطاب العلماني عند أساطينه في الوطن العربي لا يستغرب القول عن الحاكمية والشمولية والدينية والحرية وسائر قضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع. وهذا الصنف من الكتبة ما هم من التأصيل في شيء، ولهذا يقعون في نواقض الإيمان، وهم لا يشعرون، وإذا روجعوا في شيء من ذلك أظهروا سلفية ناصعة، وآفتهم من الفهم السقيم. والمسخ والتقنُّع يمس الكبار، حتى لقد يبلغ الأمر بالمتابع إلى اتهام نفسه، ذلك أنّ البراءة من التأثُّر من المستحيلات، ونحن هنا لا نستدعي إلاّ السارقين في وضح النهار. ولو ضربنا الأمثال ب(محمد أركون) و(نصر حامد أبو زيد) و(صادق جلال العظم) وقطيع (الماركسيين) المتعفِّنين من قبل، والمهتاجين العزل على كلِّ الصعد وبعض رؤاهم لوجدناهم يسطون على مناهج المستشرقين ورؤيتهم ومواقفهم. وسرقتهم للأفكار لا تمس اقتدار بعضهم، ولا مكانتهم المعرفية، إذ إنّ اللصوص لا يكونون بالضرورة صعاليكَ، يسدون بما يأخذون رمقهم، حتى أنّ التسوُّل اليوم أصبح تجارة رابحة. وإذا كان الفلاسفة والمتصوّفة المتغنصون قد جنحوا عن مقتضيات النص الشرعي، وأعملوا العقل في تصوُّر الكون والحياة والإنسان والخلاق متوسّلين بنظرية (التأويل)، فإنّ مفكِّري العصر الحديث اتخذوا الطريق نفسه متوسّلين بنظرية (التفكيك). والاختلاف بين الطرفين أنّ الأوائل اشتغلوا بعالم الغيب، والمحيل منهم إلى النص أفقده سلطانه بالتأويل الجائر، والأواخر اشتغلوا بعالم الشهادة، وقالوا بموت (الميتافيزيقا)، والمحيل منهم إلى النص عطّل دلالته بالمنهج التفكيكي، و(علم الدلالة) من كبرى القضايا الألسنية. وازدراؤنا لا يمس الورثة المتصرّفين بالموروث وفق المناهج والآليات المستجدّة، ولكنه يمس اللصوص الذين يسطون على بنات الأفكار، وهم لا يعرفون ما الكتاب وما المعرفة. ف(التأويل) آلية ومنهج قديم، يستطيع أصحاب الملل والنِّحل من خلاله إجهاض النص، وتحميله ما لا يحتمل، ولقد عوَّل العلمانيون على ذلك من خلال مقولتهم:- (الشريعة لا تفسِّر نفسها) و(التفكيك) إجهاض، ولكنه من نوع آخر، وحجّة المسترفدين انفتاح لنص، ودعوى الانفتاح فرضية عائمة، يقول بها النّقلة البله، ولو طلبت من أحدهم أن يضرب لك مثلاً من النص المفتوح أو المغلق، ومثلاً من مناطات المتأوّلين والمفكّكين لم يحر جواباً. والذين اتخذوا المنهجين بوعي أو بدون وعي سرّاق مناهج، وليسوا مسترفدين معترفين بفضل السابق. ولقد كنت حريصاً على تقصِّي مقتضيات مصطلحيْ (التأويل) و(التفكيك) ومدى التقائهما وافتراقهما وانعكاس أثرهما السيئ على النصوص القطعية الدلالة والثبوت. ولو تلمَّسنا مناطات المشكِّكين لوجدنا أنّ معوّل (أبي زيد) على تلبُّس الوحي باللغة، ومعوّل (أركون) على توحيد (الرسم القرآني) وذلك بعض السطو المخجل. وقبل هذين جاء تعويل (طه حسين) على التاريخ والأسطورة في تكذيب مجيء (إبراهيم) عليه السلام ل(مكة). والمتقصّون لحركة الفلاسفة والمتصوّفة والمفكرين وعلماء الكلام وافتراقهم معرفياً وسلوكياً والتقائهم، يدركون أنّ التأثير الشرقي لا يختلف عن التأثير الغربي على مُفكِّري العصر الحديث. والإشكالية فيما يعانيه الدارسون من تداخل في المفاهيم. فالمفكِّر والفيلسوف والمتكلِّم والمثقَّف والمتصوّف كلُّ أولئك يحيلون إلى مفاهيم لا تأخذ دقّة المصطلحات الجامعة المانعة، والمأخذ على كثير من الفلاسفة الأوائل والمفكرين الأواخر أنّ أولئك عوَّلوا على فلاسفة اليونان، وتقمَّصوا مناهجهم، واستعانوا بآلياتهم، وأنّ هؤلاء عوّلوا على فلاسفة الغرب وتقمَّصوا مناهجهم واستعانوا بآلياتهم، وذلك مكمن المسخ والتكرار. واختلافنا مع من سلف ك(ابن رشد) و(ابن سينا) و(الكندي) و(الفارابي) لا يمس اقتدارهم، كما يدَّعي الأدعياء، كما أنّ التضييق عليهم ليس لتفوُّقهم المعرفي، وإنّما هو لتوظيف هذا التفوُّق فيما يجهض النص، ويقصيه، ويفوض العقل، ويحكمه فيما شجر بين العلماء من خلاف غيبي. وفي المقابل أوذي (ابن تيمية) وسُجن، والحضارة الإسلامية وسعت ذلك كله، ولم تكن ضيقة العطن كما يدّعيه المستشرقون ويردِّده المستغربون. والذين يظنون أنّ علماء السَّلف يرفضون المذاهب الحديثة يترسَّمون خطى الأعداء من مستشرقين ومستغربين، ويقعون تحت طائلة المسخ، فالسلفيُّون لا يرفضون مجمل المذاهب، ولكنّهم لا يقبلون تطبيقها على القضايا المحسومة بالنص القطعي الدلالة والثبوت، ولا يجدون مبرراً لقفو ما ليس لهم به علم، لعلمهم أنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً. ولهذا لو نظرنا إلى موقف (ابن تيمية) من المنطق والفلسفة والكيمياء لوجدناه ضد التمثُّل المطلق لهذه المذاهب، ولم يكن ضد الظاهرة المعرفية من حيث هي، لو أنّها تعاملت مع الظواهر الحياتية، وتفادت تناول عالم الغيب من خلال علم المنطق والمنهج الفلسفي. والقول بالاستلاب لا يحتاج إلى دليل لأنّه في حكم المتواتر، وكم تمر بالإنسان رؤى وتصوُّرات يقف أمامها متسائلاً عن مصدريّتها، فهو قد سمع بها من قبل من فم مفكِّر غربي أو عربي مستغرب، ولشذوذها وغرابتها تظلُّ عالقة في ذهنه، حتى إذا جاءت على لسان كاتب متأخّر، تداعت الذكريات، لتكشف عن سوءة السَّرقات. والمتابع للحراك الأدبي والفكري والسياسي يألف تكرار الملامح، ومن ثم يظل يبحث عن سرِّ التشابه، وأسباب المعاد والمعار من القول. والشعراء الجاهليون ضاقوا ذرعاً بوقوع الحافر على الحافر في الألفاظ والتراكيب والمعاني والصور، فأين نحن من (ابن حذام) الذي أشار إليه (امرؤ القيس)؟ وأين نحن من اعتراف (عنترة بن شداد) بالقول المعاد والمعار؟ وأين نحن من تساؤله:- (هل غادر الشعراء من متردم)؟. غير أنّ ما نومئ إليه من المسخ والنسخ يختلف كثيراً عما ذهب إليه أصحاب (الأشباه والنظائر) من قبل، وأصحاب (التناص) من بعد. إنّ هناك تبنِّي أفكار وسرقة صفحات، بل هناك استنساخ كتب بكاملها. والمتعقبّون لذوي الرسائل العلمية والبحوث الأكاديمية والكتب المترجمة يضبطون لصوصاً في وضح النهار، وما سرّاق الأفكار والمذاهب والمواقف منهم ببعيد. والمؤرِّخون للظواهر والمذاهب والتيارات يعيدون إلى الذاكرة بشاعة المسخ، ولكي نختصر الوقت والجهد يجدر بنا أن نمسك كلَّ دعيٍّ، وهو متلبِّس بالخطيئة لنلقي به وبقوله في مزبلة التاريخ. |
السِّجل الدموي للقرن العشرين..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل هذا العنوان منتزع من سياقه في كتاب يرصد للأحداث العالمية المتلاحقة بكلِّ ما تنطوي عليه من وحشية وفوضوية. والدم المسفوح ليس قصراً على الأنفس المعصومة، وإنّما هو للمبادئ والقيم والمواقف النبيلة. وما كُتب القتال في الإسلام إلاّ لحفظ الضرورات الخمس، أمّا اليوم فإنّه خيار الأقوياء، لضمان التفوُّق وتدفُّق المصالح. ولقد هُديت إليه، وأنا أحضِّر لمقال حول (الحرية) و(الفوضوية) في سبيل توعية من اتخذ المضلِّين عضدا، وإيقاظ المخدّرين بالتضليل الإعلامي، والسبّاقين إلى نشر الغسيل، وافتراء الكذب على الأهل والعشيرة. ولقد كنت أظنُّ الكتاب رصداً لظاهرة (الفوضوية) بوصفها نظرية قائمة لها قواعدها وأساليب أدائها، وهي التي أنشأها الباحثون عن البدائل للنُّظم السياسية القائمة ظناً منهم أنّ بإمكان البشرية أن تعيش دون سلطة سياسية. وما كان لي أن أوغل في النَّيل من الكتبة الذين يستبقون السيئات، ويعمِّمون الأحكام، ويركنون إلى الذين ظلموا، ويعدُّون (الحداثوية) تجديداً، و(التنوير) إصلاحاً، و(الأدلجة) مذمّة على الإطلاق، و(الصحوة) إرهاباً، و(الأسلمة) تطرُّفاً، و(الغربنة) تحضُّراً. ومن تردّد أو تساءل عن شيء من ذلك فهو ماضوي ظلامي صحوي متطرِّف أو متعاطف. ومع كلِّ التحامل والإقصاء فهم منا، ونحن منهم، ومن الخير لنا ألاّ نجعلهم ينفضون من حولنا، وهم الثروة الحقيقية للبلاد. ومتى تفرّقت السُّبل بصفوة الصفوة، وأصبحوا شيعاً وقبائل يضرب بعضهم سمعة بعض، وهن عظم الأُمّة، واشتعل رأسها شيباً، من هول الفاجعة بفقدهم. والصدامُ معهم صدامٌ مع الذات: (إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها) وليس فيضان الأحبار بأقل من فيضان الدماء. وما لا مراء فيه أنّنا بِمِرائنا الظاهر والباطن نخدم أعداءنا، ونفتح لهم أجواءنا ليُصفِّروا ويفرِّخوا وينقِّروا ما شاء لهم أن يُنقروا، وها هم أولاء يمعنون في إدانة مناهجنا متسلِّحين بما تجود به طائفة من أبنائنا عن حسن نية أو سوء طوية، والله وحده المحصِّل لما في الصدور، وتقرير الخطأ لا يحتم تحديد الأهداف والنوايا. والقرن العشرون الذي ثوى في أرض التاريخ، كما الجثامين التي تواري سوآتِها لحودُها، مزعج بانقلاباته الرعناء، وشعاراته الجوفاء، وحروبه المجانية، ولعبه الدنيئة، ولهاث كتبته وراء تزكية الحضارات المادية، والجدل عنها في الحياة الدنيا. لقد انطوى هذا القرن الدموي على مقترفات لا مجال لاحتمالها، ولا مجال لتبريرها والتعذير لمقترفيها. ولهذا هبّ المفكرون الغربيون للحديث عما أعدّته الإنسانية المعذّبة للقرن الحادي والعشرين، أو ما يمكن أن تعدّه. والمفجع أنّ هذا القرن استهل سنواته الأولى بما هو أدهى وأمر، وجاءت التصرُّفات الرعناء والتدخُّلات العسكرية التي اقترفت جناية الفراغ السياسي، ولم تسيطر على الأوضاع، فكان القتل، وكان التدمير، وواكبه صمت مريب أو تبرير غريب. والكتاب الذي نحن بصدد الانطلاق منه لا الانطلاق به، يرصد الاضطراب العالمي عند مشارف القرن الحادي والعشرين، وكاتبه بارع في المتابعة والرصد والتحليل والخروج بنتائج، قد لا تكون في صالح الأمم المغلوبة، ولكنها إن لم تكن ذات فائدة مباشرة، فهي على الأقل تمكن من وعي الحراك السياسي داخل المنظومة الواحدة وخارجها، مما هو مؤثّر على سائر المسارات. ولكن المتصدرين للتنظير والتوجيه والتحكُّم في المصائر لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يذعنون للحق: (ومن البلية عذل من لا يرعوى عن غية وخطاب من لا يفهم) والملفت للنظر أنّ الأباعد يجأرون بالشكوى، ويمعنون في الاعتراض على المقترفات، فيما يسكت الأقربون، وإن نطقوا لجُّوا في الخصام فيما بينهم، وقد ينبري منهم من يعذر، ويبرر، ويشرعن لانتهاك السيادة الوطنية، معلياً من شأن المعتدي، جاعلاً منه أسوة لمن شقي بمقترفاته. ومن خلال متابعتي لهذا الكتاب ولغيره من الكتب المترجمة مثل (الاستعداد للقرن الحادي والعشرين) ل(بول كيندي) الذي تناول التحديات والانفجارات السكانية، وثورة العلم والاتصالات، وتأثيراتها، وأخلاقيات المتسوِّدين في المشاهد وخططهم، وحسابات الربح والخسارة في مجال الصراع، ومستقبل أوروبا، ومعضلة أمريكا. تبيَّن لي أنّ الكُتَّاب الغربيين محكومون بالخلفيات الثقافية، والهيمنة الحزبية، وتوجيه المؤسسات الراعية والممولة. وبعض أولئك يخفي عمالته، والجشعون منهم يسوِّقون إمكانياتهم، مثلما فعل (روجيه جارودي) حين حاضر وكتب عن خطر السعودية على الإسلام، بعد أن بَجَرت حقائبه من أفضالها وزكّى نفسه من مؤسساتها، وهؤلاء وأولئك على كلِّ الأحوال خبيرون ببواطن الأمور، متضلِّعون من مختلف المعارف، يخادعون، ولا ينخدعون. وقلَّ أن تجد مفكِّراً غربياً مستقلاً، لا يشغله إلاّ البحث عن الحقيقة وإحقاق الحق، ومن ثم فإنّ الركون إلى بعض تلك الشخصيات مصيرٌ إلى تلك الخلفيات، وتيك الحزبيات. والقارئ الحذر يأنس بالقول، ويستضيء به، ولا يركن إليه، على حد: (كنت أسأل عن الشر مخافة أن أقع فيه). ومن لم يعرف الجاهلية يوشك أن يعود إليها. وما اتخذته من خطة ومنهج وآلية للحديث عن منطلقات أولئك الكتَّاب، لا يضع في المقاصد نقد الدراسات المشيِّعة للقرن الماضي، والمستقبلة لتاليه، والمراوحة بين الشماتة والتشاؤم والتنبؤ والمناصحة والمخاتلة والمخادعة، وإنّما استقراني للواقع من خلال الرؤى والتصوُّرات. فكتاب (بريجنسكي) (الفوضى) ليس على شاكلة كتاب (هذه هي الفوضوية) ل(هنري آرفون)، ولا على شاكلة كتاب (الفوضوية) ل(رجب بوديوس) إذ هما في سبيل تحرير النظرية والتأريخ لها. أما (بريجنسكي) فهو ناقد لهمجية القوة وغطرستها على شاكلة (غطرسة القوة) ل(ج. ويليام فوليرايت) و(الغرب وكتابة التاريخ بدم الآخر) ل(طه كبسة). ولن أتقصى كتباً مماثلة، يبدو فيها التحامل والاهتياج، وإن صدقت العزمات، وخلصت النوايا، مثل كتاب (صناعة الشر) ل(أحمد شاهين)، و(حضارة الدم وحضارتنا) ل(نزار بشير)، و(صناعة العداء للإسلام) ل(رجب البناء)، وكتب أخرى ليست إلى هؤلاء ولا إلى أولئك. ويقيني أنّ بعض الكتَّاب العرب آنيون تحرِّكهم الوقوعات الطارئة، وتصرِّفهم الأحداث العارضة، بحيث تنتهي إسهاماتهم التأليفية بانتهاء تلك الأحداث الوقتية. وذلك ديدن الإعلاميين الذين يقفون على أبواب المسارح السياسية ليتعرّفوا على الأحداث ويعرِّفوا بها. والذين لا يؤسِّسون أعمالهم على (استراتيجيات) صنّاع القرار، يمرون كما الطيف، ويذوون كما باقات الزهور. وبالعودة إلى السجل الدموي للقرن العشرين تتبدّى لنا وحشية الحضارات التي تدَّعي التأسُّس على (الديمقراطية)، وحقوق الإنسان، والمرأة، والأقليات، والأجناس، والملونين، والطبقات، وحق الشعوب في تقرير المصير، وحق السيادة، ويكفي أن نتذكّر معتقل (جوانتنامو) وسجن (أبي غريب) لنجد أنفسنا تترنم دون وعي بقول الشاعر: (قتل أمرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن قضية فيها نظر) والثابت على مستوى الممارسة أنّ الحرية والعدالة والمساواة وسائر الحقوق حق للشعب الأقوى داخل أرضه، ومن خلال مؤسساته، أمّا الشعوب الأضعف فإنّها محكومة بالمصالح و(الاستراتيجيات)، وسياسة الاستعمار القائمة على مبدأ (فرِّق تسُد)، وعلى النظرية (الميكافيلية). ومع أنّنا نتحفّظ على الخطابات المتوتِّرة، وعلى خيار القطيعة، والجهر بالسوء وإن ظلمنا، إلاّ أنّنا لا نلوم المتميّزين من الغيظ، والمقاومين بالقول والفعل لدفع الظلم وانتزاع الحق، ولا يشفع لنا تداخل المقاومة مع الإرهاب جمع الظواهر في سلة واحدة. فالواقع لا يُحتمل، وليس من العدل أن نطفئ لظى الرفض على مبدأ عفا الله عما سلف. وإذ نميل إلى الوفاق والتعايش، وفتح صفحات جديدة، فإنّ ذلك لا يمكن أن يتحقق من طرف الضعيف المغلوب. إنّ على القوي الغالب أن يشيع الطمأنينة، وأن يفتح باب التفاؤل، وأن يضع أوزار الحرب، ويطفئ لهيب الوطيس، وأن يثبت بالممارسة حسن النوايا وسلامة المقاصد، وتوحيد المكاييل أو التقريب فيما بينها على الأقل، وكل ذلك لم يكن ولا أحسبه كائناً في المنظور القريب. ويكفي أن نقدم للتاريخ وللمخدّرين ببريق الادعاء (قضية فلسطين)، وهمجية الصهيونية، ووحشية أحزابها، ممن يستمرئون القتل بكلِّ برودة أعصاب بمباركة الأقوياء وحماة الحرية وحقوق الإنسان. وإطفاء لظى الكراهية لا تكون بالقول دون الفعل، وإن جنّد للدعاية وتحسين الصورة من لا يملك سحر البيان. واستياؤنا من أولئك الذين يسبون قومهم، ويشمتون بعثراتهم، ويموؤون كالقطط الأليفة على موائد الكائدين والماكرين والمتربِّصين. ولكيلا نكون أدعياء فإنّنا نستحضر وثائق الإثبات من أفواه الخصوم، ليكون الشاهد من أهلها، ولسنا فيما نستعيد من مقترفات شامتين ولا محرضين، ولكننا نريد من المتهافتين على التزكية والتمجيد للغرب دون تحديد أن يستبينوا النصح قبل ضحى الغد، وما كان بودِّنا ألاّ نطاع، فنكون كما شاعر (غزية) الذي غوى بغوايتها حرصاً منه على جمع الكلمة. والغرب بوصفه (ليلى) العاشقين له وعليه، وعلّة العلل تغييب ما عليه. ولسان حال العاشقين يقول: (تعشقتها شمطاء شاب وليدها وللناس فيما يعشقون مذاهب) ولست أشك أنّ المأزق العربي يكمن في تناقض المواقف، وتناحر الفرقاء، واختلاف الاتجاهات السياسية والفكرية، والإخفاق الذريع في إدارة الصراع العربي العربي، والصراع العربي الإسرائيلي، إضافة إلى ضعف المؤسسات العربية أو غيابها، وفشل كافة المشاريع القومية والوحدوية، وتنامي العداء والشك، وصراع المصالح الإقليمية، وافتقاد المناخات الملائمة لأيِّ حوار يتوسّل بالمصير المشترك. ومشروعية اليأس والإحباط تقوم على مرور ستة عقود على الانقلابات المتلاحقة، والاتفاقات المتعددة، وخطابات الوحدة والحرية والاشتراكية والقومية الشعارية المخدِّرة، وكلُّ هذه الخطابات التجييشية والتخديرية ما زادت الأُمّة إلاّ خسارة وارتكاساً في حمأة الذل والمهانة. وسقوطها لم يكن بالتقادم، وإنّما كان بالوقوعات ك(غزو العراق للكويت) وخطابات التخوين وتصدير الثورات. والنُّخب التي تدير حوار المشاهد بثقة باذخة، واعتزاز زائف، لا تحس بما يدور وراء (الكواليس)، ولا ما يتداول في (اللوبيات)، فهي الحاضرة الغائبة، والصاخبة الفارغة، والعائلة المستكبرة. ومهما صرخت في وجهها فإنّها تعيش غياب الوعي، وتعزف عن قراءة التاريخ. فأين منها (أفغانستان) و(العراق) و(السودان) و(الصومال) و(لبنان) وسائر الدول النامية؟ فهل من مدّكر يعيد قراءة التاريخ الحديث؟ ليفيق على نكسات الأُمّة، ويبصر أشلاءها المبعثرة، وأوضاعها المتردِّية، ومهانتها في المحافل الدولية، وغيابها عند قضاء الأمور المصيرية، وما من عاقل باستطاعته احتمال مزيد من هذه الأوضاع. والمستمع الشهيد لمراء النُّخب العربية يتصوّر أنّها الآمرة الناهية، وأنّها تعيش في أوج عزّتها وهيبتها. والمتقري لصورة الغرب في ذهنية النخبويين العرب يراها في ذروة العدالة والإيثار والتحضُّر والمواساة والمساواة، وهي صورة تخلط بين الاقتدار والقيم، ومن لم يفرِّق بين (خضراء الدِّمن) و(حقول الأزهار)، يرضى من اللحم بعظم الرقبة، ليكون ك(أم الحليس). |
السِّجل الدموي للقرن العشرين 2 -2
د. حسن بن فهد الهويمل لقد كان (بريجنسكي) أكثر واقعية ومصداقية من الكثرة الغثائية المجادلة عن جنايات الغرب، وهو الغربي المستثمر لمكاسب السياسة الغربية، وهو الأدق في تصوُّر الواقع الغربي وتحدِّياته، فلقد فصَّل الحديث عن (سياسة الجنون المنظم) و(الموت الملاييني). ولمّا لم يكن عاطفياً ضد الحضارة الغربية، فقد عوَّل على التاريخ الحديث، ليشهد بما علم، وهو اتكاء ذكي، ينجيه من التخوين والتجهيل الذي تتبادله النُّخب العربية فيما بينها. لقد تعقّب الحروب، وما أسفرت عنه من قتلى بالملايين، معظمهم من الشباب الأمريكي الذي يدفع دمه ثمناً للنفط أو للأمن الصهيوني، ومثلهم معهم من الأسرى والمعاقين والمشرَّدين والمساجين والمفقودين والمرضى النفسانيين، وكلُّ أولئك ضحايا حروب غير معلنة وغير مشروعة، أذكاها، أو رعاها الغرب، حتى إذا فرضت الأمر الواقع بين الأعراق أو الطوائف أو المناطق، عاد يبلسم الجراح، ويدعو للإصلاح، فكان البرُّ الرحيم في نظر البسطاء الساذجين، ولو أنّه تخلَّى عن تدخُّلاته، وخلَّى سلاح المتنازعين بينهم لسوَّوا خلافاتهم فيما بينهم. فأيُّ حضارة تلك التي تستمرئ القتل العشوائي والتدمير المجاني، وتمكن من استفحال المجاعات والأوبئة والاضطرابات والثورات الدموية، وتقطع آلاف الأميال بسلاح الدمار إلى بلاد فيها ما يلهيها ويشقيها على يد أبنائها. أليست ذات وجه قبيح مستقذر تخفيه وراء زيف الأقنعة؟ وحين تضع الحرب أوزارها، يستحر القتل التصفوي، وهو ما يُعرف بإعدامات (أعداء الشعوب). إنّ إحصائيات القتل العسكري والإعدامات الثورية يشيب من هولها الوليد، والوعي السياسي عبر التاريخ الحديث لم يكن إلاّ ومضات خافتة، لا تتمكن الشعوب معها من التقاط أنفاسها، وما من (طوباوية) يتفوّه بها ثائر إلاّ كانت كما اللهب للفراش. والحروب الباردة تجر الأقدام والأقلام إلى التفسُّخ والتحلُّل والتمييع لحدود الله، والتلميع لأعدائه، والمؤذي أنّ الناهضين بالمهمات البلاغية هم أبناء الحضارة المستباحة. هذا الواقع المدان بكلِّ المقاييس لم يحرك شعرة في مفرق الراقصين على الجراح، ولم يعدل شيئاً في ساقط الكلام الذي يلوون به ألسنتهم. والحضارة المعشوقة إن لم تكن حاضرة بالسيف واللسان فهي وراء المجازر بالتبرير والتغرير والإمداد بالغي وحق (الفيتو). وإذ تكون لها الكبرياء المادية فإنّها دون ذلك فيما سواها، ولو عرفنا لها مجال الكبرياء، وأَبنَّا للملأ وجهها الآخر بكلِّ قبحه ودمامته، لكنَّا عدولاً في أحكامنا. ولسنا بدعوتنا تلك دعاة حرب ولا قطيعة، وشنآننا لا يحملنا على الظلم، وكيف لا يكون عدل مع النفس ومع الغير وحضارتنا تدعو إلى ذلك في الحكم بين الناس كافة مؤمنهم وكافرهم، ومشنوؤهم ومحمودهم. وما قامت السماوات والأرض إلاّ على العدل. وكتاب (بريجنسكي) يستمد مصداقيته من التوثيق في الزمان والمكان والحدث، ومن لغة الأرقام التي لا تكذب أهلها. ولو قرئ التاريخ الحديث بأبصار حادّة تعضدها البصائر الجادّة، لأصبح الذين يتمنّون التماثل والتماهي بالأمس يقولون غير قولهم التمجيدي الباذخ. ولمَّا كانت حضارة التناقض لا تنازع في شيء مما هي عليه، وليس في المنظور القريب من يوازيها، فإنّ مقاييس التميُّز لا تكون في العتاد والعدّة والعدد، وإنّما هي في القيم والمبادئ. والذين يتولون شطراً من المفاضلة والتصدير، ليسوا من أبنائها، وإنّما هم من ضحاياها، وتلك إشكالية المغلوب، إنّه يصنع الهزيمة والانكسار، كما يصنع الفقراء الفقر بسوء التقدير والتدبير. و(بريجنسكي) الذي رصد الأحداث السياسية والعسكرية، وتقصى الأحلاف والمؤامرات لم يكن أكثر من شاهد على العصر، لعيضه بأكثر من حدث، أملاً في استقبال العصر الجديد بآلية جديدة، وتفكير جديد، يحقنان الدماء، ويؤلفان بين الفرقاء، ويعيدان للإنسان المتوحش إنسانيته، وللإنسان المستباح حريته. وإذ يجعل من (أمريكا) رأس الحربة فإنّه يشير إلى تجاوزات (فرنسية) و(ألمانية) و(روسية) ولكنها تجاوزات وقتية، وإن كانت قاصمة، فما فعله (الفرنسيون) في (الجزائر)، وما فعله (الإيطاليون) في (ليبيا)، وما أشعلته (ألمانيا) من حرب عالمية وصمة عار في جبين الحضارة الغربية. ولو أنصف المؤرِّخون وأحصوا القتلى تحت راية الإسلام خلال أربعة عشر قرناً في مقابل ما قتل في الحربين العالميتين، وما بينهما، وما بعدهما من حروب شرسة ذات غايات دنيئة لأدرك الجميع أنّ الإسلام دين دعوة انتشر بالقدوة، ولم يبلغ المشارق والمغارب بالسيف. وما لا ننكره اعتزال أمريكا في مطلع القرن المنصرم، ووقوفها على الحياد الإيجابي ردحاً من الزمن، واشتغالها بصناعة الحضارة المادية، وتحقيق العلم بظاهر الحياة الدنيا، إذ كانت إذ ذاك دولة العدل والحرية والمدنية. ولكن هذا الاعتزال الإيجابي انقلب على عقبيه، فخسرت الشيء الكثير. والعداء المستشري لأمريكا سيكلفها الشيء الأكثر. وإن كانت طائفة من عشاق الأضواء قد استحوذ عليها حب عذري يمتلئ هيبة وإجلالاً. والتناقض الذي لم يتبيَّنه المخدوعون والمخادِعون تناوله الكاتب الغربي الممتلئ معرفة وإنصافاً في الفصل الثاني (الرسالة غير المتناغمة) وهو حديث رصدي لسياسة أمريكا الخارجية، فهي في مطلع القرن تُعرف برسالتها عن (الحرية) بكلِّ مغرياتها، وفي منتصفه قدّمت رسالتها العسكرية متلبّسة بردود أفعال متناقضة. وتلاحق التدخُّلات العسكرية، واللُّعب السياسية، والقمع المتعمّد للإرادة الإنسانية ب(الفيتو) واكبه انهيارات في سائر القيم تَمثَّل في تدنِّي التعليم والعناية الصحية وتدهور البنية التحتية والثراء الفاحش للبيض والفقر المدقع للسود وانتشار الجريمة والعنف وثقافة المخدرات وظهور اليأس الاجتماعي واستفحال الإباحية والفساد الأخلاقي، وانخفاض الوعي الديني والتعدُّدية المهدّدة بالتفتُّت. وخير تجسيد للسياسة الخارجية توحي به مذكّرات وزراء الخارجية الأمريكية، وهو ما سنقرؤه، ونستقرئه - فيما بعد - لنستبين انعكاس سوء التدبير على سائر الحيوات الخارجية والداخلية من دول يفترض أن تكون راعية للعدالة الإنسانية كما تدّعيها، وكما يشيعها المتعشّقون لها. وفي الفصل الثالث حديث عن (خصوم بلا حدود) وهذا في نظري نتيجة التخبُّط، وفيه تساؤل مُلح عن احتمال عجز أمريكا عن توجيه سلطة عالمية فعالة: - فهل من بديل؟ لقد أوجس الأمريكان خيفة من الحرب التجارية مع (اليابان) ولم تخفهم الحرب العسكرية بعد امتلاكهم لقوة الردع، وحرب النجوم، وضمان التفوُّق العسكري. والخوف من تحوُّل القوة الاقتصادية إلى قوة سياسية، تقلّص النفوذ السلمي، ومن ثم تتحوّل أمريكا إلى مجرَّد شرطي يملك أفتك الأسلحة، ويقوم بممارسة التأديب لكلِّ حراك إنساني تتوقّع أنّه يهدِّد سيادتها على العالم لا على نفسها، إذ ليس بمقدور العالم الثالث أن تصل يده إليها. ولأنّ مهمات الشرطي قد تفسح المجال لحراك اقتصادي فإنّ دول (شرق آسيا) رحّبت بالتفوُّق العسكري الأمريكي الذي ألهاها عن كلِّ مهمة إنسانية، ولربما تكون غطرسة القوة من حوافز التكتُّلات الأوربية والشرق آسيوية، وعندئذ ينفلت زمام القطب الواحد. وليس أدل على ذلك من تألُّق السياسة الفرنسية في عهد (ديجول) لقد ركز على الحرية والكرامة الإنسانية، حتى لقد شد أنظار العالم إلى الجمهورية الخامسة. ويختم المؤلِّف حديثه عن (معضلات الاضطراب العالمي) مستبعداً أن تكون أمريكا شرطياً أو مصرفياً للعالم، وذلك التوقُّع إحساس يجتال المكتوين بنارها من أبنائها الفارين بجلودهم من التجنيد، وبأثريائها الفارين بأموالهم من الضرائب التصاعدية، وإذ تمتلك الأمم المتحدة قدراً من السلطة العالمية التي تمنحها مشروعية التدخُّل، ولو من خلال القرارات غير المنفّذة، فإنّ أمريكا تمارس المهمات نفسها دون مشروعية. وهذا تصرُّف يقدح فيما تُدلُّ به، ويُدلُّ به المبهورون من حرية وعدالة ومساواة وصدق وانضباط وخضوع طوعي للقانون الدولي والأعراف الدولية. وهل تستطيع شعارات الحرية والعدالة والمساواة إزالة وضر النجاسة العينية في (الماسونية) و(الصهيونية) على سبيل المثال؟. وسخريّة الكاتب في مغامرات أمريكا جعلته يفترض خيارات مستقبلية تتمثَّل بتوقُّع (اتحاد عالمي) بدلاً من الهاجس الأمريكي ب(حكومة عالمية). ولعلَّ حفلات الأعراس بانهيار الاتحاد السوفيتي انقلبت إلى مآتم، فالاضطلاع بمهمات القطب الواحد باهظة الثمن، لقد أدّت إلى اضطلاع أمريكا بمهمات (الشرطي) و(المصرفي) في آن، ولتخفيف الأعباء وصرف الأنظار انبعثت اللُّعب السياسية، وأمعنت في فتح ملفات (الحدود) و(الأعراق) و(الطائفيات) و(تعارض المصالح) و(تعدُّد الأحلاف) وتلك الملفات أنتجت ما وصفه المؤلف بحمامات الدم والاضطراب العالمي. ما نريده من الكتبة الممجِّدين أن يقرؤوا أمريكا من الداخل، وأن يتعرّفوا على مغامراتها في الخارج، وألاّ يقولوا عليها إلاّ الحق. |
وفي الناس بوقات له وطبول ..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل يقول المتنبي وهو يمدح مثلَه الأعلى: (إذا كانَ بعضُ الناسِ سَيفاً لِدَولَةٍ فَفي الناسِ بوقاتٌ لَها وَطُبولُ) والعلاقة خارج السياق اللغوي بين الصفتين، أنّ السيوف مع صغرها وخفتها تحسم المواقف. والبوقات والطبول مع كبرها وصخبها لا تزيد المستمع إلاّ ترفاً واسترخاء، وهي في النهاية إضافة فارغة لتفويت الفرص، وتضييع الوقت. وكم نسمع، ونرى في مشاهدنا العربية منذ الصدمة الأولى للمدنية الغربية على يد (الطهطاويين) وعقبهم من لا يتجاوز بنفسه مهمة البوق والطبل لمدنية الغرب وحضارته، وما يكتنفهما من ممارسات مخلّة بالقيم الإنسانية. والناس حين يسمعون بالطّبل والبوق، أو يستمعون إليهما، يتبادر إلى أذهانهم الفراغ والصراخ، الفراغ من المحتوى، والصراخ المحقّق لمقولة (العرب ظاهرة صوتية). وكلّما كبر الطَّبل أصبح له دويٌّ كدويِّ النَّحل، مع الفارق المذهل بين مملكة النحل وطحن القرون. وإذ نسلِّم بسنن الله التي يحكم بها الكون، ويدبره، لا نقيد أنفسنا بالإذعان، ولا نرغبها بالاستسلام، ولا نزين لها الركون للواقع المؤلم الذي يعيشه عالمنا العربي، عالم الاستهلاك والإهلاك والتعالي كالدخان. فالله جلَّ وعلا قضى وقدَّر، وأجرى القلم بما هو كائن، وهذه السُّنن النافذة ذات أنواط: سنن مناطها المادة الخالصة. وأخرى مشوبة، وهي بالمعنوية ألصق ك: - الصراع. - والتداول. - والتدافُعْ. ومع نفاذ تلك السنن، فإنّ لله وعداً لا يُخلفه، وله إرادة كونية لا ترد {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} «الإنسان: 30». وإرادة شرعية {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} «الزمر: 7» وفي ظلِّها تكون مشيئة الإنسان {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} «الكهف: 29»، وأمام كلِّ هذه السنن والإرادات يظل الإنسان تحت طائلة التكليف والمحاسبة والثواب والعقاب. وبالعمل تتحدُّد أمانة التكليف، التي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبيْن أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان ظلماً وجهلاً. ومن ثم فليس له أن يستسلم، ولا أن يحتج بالقدر. والذين يفغرون أفواههم أمام مدنية الغرب، ويذهلون عما يملكون من استعداد ذاتي، وقدرة على الفعل والتفاعل، يسلِّمون بأزلية التفوُّق الغربي وحق الهيمنة. ولا يجدون حرجاً من الخنوع، واستبعاد القدرة والمبادرة. ولا يتردَّدون في التسابق لتسويق قيم الحضارة الغربية ومبادئها المناقضة لقيم الحضارة الإسلامية، كما يستعذبون الذب المتواصل عن عواجيز أصحابها، والشرعنة لمصطلحاتها ومناهجها وآلياتها، التي يرون أنّها وحدها القادرة على معالجة تخلُّفهم. ولأنّهم مأخوذون باتباع أهل الكتاب حذو القذة بالقذة، فإنّهم يستحضرون ما فعله الغرب من نفي لهيمنة كنائسهم وقسِّيسيهم. وحين تكون حضارة الغرب وإنسانها عند هؤلاء المرجع والمثل الأعلى. فإنّها تعشو عيونهم عن مقترفات تلك الحضارة، وكأنّ الله قد حولَّهم إلى أبواق وطبول، يهتفون بمواكبها القادمة لإذلالهم، وإفساد أخلاقهم، وتفريق كلمتهم، ومناصرة أعدائهم الذين اغتصبوا أرضهم، وشرّدوا أهلها. وحجُّتهم أنّ من هذه الحضارة الإبرة والصاروخ، والورق والأحبار، والمأكل والمشرب، والعلاج والشفاء، والمواصلات والاتصالات. وكأنّ شيئاً من هذه الإمكانيات لا يكون لنا منها شيء إلاّ بثمن من عقيدتنا، وقدر من تراثنا، وشيء من المساس بمكانة عظمائنا. وفي مقابل ذلك نجد من ينفي حضارة الغرب، ولا يراها إلاّ جاهلية جهلاء، لربطه الحضارة وجوداً وعدماً بالقيم العقدية الإسلامية، وذلك بعض الخلاف بين (سيد قطب) و(مالك بن نبي) - رحمهما الله -، وهو خلاف عميق لتوسله بشواهد معرفية، ليست على شاكلة ما نسمعه من طائفتي الإفراط والتفريط في زماننا الردئ. والبوقات والطبول حين يتوّلون الغرب، ويوالونهم لا يفرِّقون بين الحضارة والمدنية، ويظنون أنّ الأخذ بالقيم المادية، لا يتأتّى إلاّ بتقمُّص القيم الحضارية. والجهل المطبق لم يمكنهم من التفريق بين مقتضيات (المدنية) و(الحضارة)، ولو أنّ البوقات والطبول أحسنوا الفهم، وأدركوا الفرق بين الماديات المشتركة والمعنويات الخاصة، لأمكن الأخذ بالأسباب، والتصرُّف بأمور الدنيا وفق المقاصد. وإذ هيئت أسباب التفوُّق المادي للغرب بالتخلُّص من هيمنة الكنيسة، وسلطان الكهنة، والدخول في العلمنة الشاملة، تصوّرت طائفة من التنويريين أنّ إقالة العثرة العربية لا تكون إلاّ بمثل ما أقيلت به عثرة الغرب، من نفي للدين، واستدبار لأهل الذِّكر. وهذه الهواجس والتطلُّعات غير الممكنة أطالت زمن التيه، وأدّت إلى فوات الفرص، وما استبق (اليابان) خيرات الغرب بنفي دينه والتخلِّي عن قيمه. لقد كان بإمكاننا تبادل المنافع في الجانب المادي، وإعادة النظر في التطبيق الحضاري الإسلامي. فالحضارة الإسلامية حضارة شمولية مرنة ومنفتحة لأكثر من تأويل، متى استطاع أهلها تمثُّلها، والأخذ بفسحها. ومن عثرات البوقات والطبول أنّهم يخلطون بين مفهومي (عالمية الرسالة) و(شمولية الإسلام)، وهو خلط يفوِّت على المتابع فهم المصطلحات على وجهها، وما أردى المشاهد، وأطال فيها المكاء والتصدية والصوت والدوي، إلاّ اضطراب المفاهيم، وتقحم المبتدئين. والمحبطون الذين تحوّلوا إلى بوقات وطبول لحضارة الغرب فوّتوا على الأُمّة الاستفادة من مدنيته، بحيث ظللنا استهلاكيين أُميين. ويا ليتهم إذ قنعوا به، خلعوا أقنعة التمويه، واعتمدوا القول الصراح، لنعرف من نكون، وما موقعنا بين الأمم، إذ ليس من مصلحة الأُمّة أن يكون فيها من يقولون: آمنّا، فإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنَّا معكم. وإشكالية الأُمّة العربية منذ حملة (نابليون) إلى حملة (بوش) إنّها مضطربة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وأزمتنا القاتلة أنّنا اصطفينا من سائر الحضارات والمدنيات حضارة الغرب، لاستهلاك منتجها، وتصنيم مبادئها، وتعظيم رموزها، فيما اصطفتنا للذل والهوان، وتمكين الأقلية اليهودية من الرقاب، تقتل الأبناء، وتذل النساء، ولماَّ نجد بداً من التحدُّث عن كلِّ شيء في الوجود من خلال التفكير الغربي، والرؤية الغربية، والتجربة الغربية، والمرجعية الغربية. ولقد أدّى هذا الانصياع الطوعي أو الاضطراري إلى نسيان التراث العربي، ونشوء القطيعة معه، والزهادة فيه. فالذين يتحدثون عن اللغة على - سبيل المثال -، يحيلون إلى المستجد من المناهج والآليات، وليس هناك ما يمنع من الاستعانة والاستزادة، ولكن المانع أن ندع تراثنا اللغوي المتمثّل بالمدارس النحوية واللغوية العريقة والعميقة، سواء منها ما يتعلَّق بنظام اللغة، أو بجذورها، أو بمادئها أو بدلالاتها المتعدِّدة في حقول الحقيقة والمجاز والسياق. ومن أولئك من لا يكتفي بالعدول عن التراث جهلاً أو تجاهلاً، بل ينال منه، ويسخر به، وقد يحكم بموته. ولك أن تقول مثل ذلك عن سائر القضايا والتيارات والمذاهب الفنية المتعلِّقة بالإبداع القولي. وما (الحداثوية) إلاّ عين الانقطاع، وبدون القطيعة لا تكون الحداثة حداثة. هذا التعويل المطلق وغير المشروط حكم علينا بالاستغراب المدان. وحين نشجب التهافت، فإنّنا لا نمنع من الاستكناه والاستثمار والاستفادة والتفاعل والتعايش السلمي، وتبادل المصالح والوفاء بالعهود والمواثيق. والمتهافتون لكي يمنحوا استغرابهم المعقولية، يتهمون خصومهم بالمقاطعة والمقاومة والانعزال. وما اعتقده أنّنا أحوج ما نكون إلى مدنية الغرب، وإلى شيء من مناهجه وأساليب تعامله، ولكن تلك الحاجة لا تستدعي إلغاء الذات وما يحييها. وما من مفكِّر إسلامي يعي واقعه، إلاّ هو على بيِّنة من أمر العلاقة بين الحضارات، ولا يتم التصوُّر السليم لحوار الحضارات إلاّ إذا استثمرت القواسم المشتركة، وليس هناك حضارة في الوجود ليست لها قواسم مشتركة مع أيِّ حضارة، وليست هناك حضارة مستغنية عن مستجد الحضارات الأخرى، وكيف يحقُّ لنا إغلاق أبوابنا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: - الحقُّ ضالة المؤمن، وأنتم أدرى بأمور دنياكم. فكلّ نافع لا يخالف المقتضى الإسلامي حقٌّ مطلوب، وإن كان يهودي الانتماء أو نصرانية، ورد شيء منه بحجة انتمائه أو مصدريّته تقليص للشمولية. والذين ينفون تراثهم بحجة جلب المصالح، ليسوا على شيء من الوعي بتداخل الحضارات وتوارثها، وما هم في حقيقة الأمر إلاّ بوقات وطبول لمن سامهم الخسف. والمتهافتون على منجزات الغرب، يظنون كلَّ الظن أنّ حضارتهم عاقر، قد بلغت من الكبر عتيا، وأنّها غير قادرة على المبادرات. ولقد أدّت دعاية الغرب أثرها، واستحوذت على ملكات معطّلة، لا تملك إلاّ الضجيج الفارغ، والاستهلاك النَّهم. والآخذون بمناهج الغرب في الفنون يوازيهم من يأخذ بمبادئه وسائر شؤونه. ولعلّ الانفتاح على الشرق مؤذن بيقظة جزئية، وإن كانت تلك المبادرة متأخرة، فالشرق له حضارته ومدنيته، والسعي لتعدُّد المصادر مؤذن بقمع الهيمنة الغربية، وإزالة الغشاوة عن عيون المبهورين. والذين يتحدثون عن الفكر السياسي، ليسوا بأحسن حالاً ممن يتحدثون عن سائر الفنون والمعارف، إذ يظنون أنّ الغرب وحده الذي أسّس للسياسة، وأنشأها من العدم، وسنّ لها السنن، وقعّد لها القواعد، وأصّل لها الأصول، فكان أحقّ بها وأهلها، وأنّ التاريخ الإسلامي لا ينفك من ذكر الغزوات والسرايا والحروب والقصور والجواري والغلمان، وأنّ الحضارة الإسلامية لم تتعرّض للقوانين السياسية. والقائلون بهذا عالة على مفتريات الاستشراق، ولو أنّهم نقّبوا في غيابة التاريخ، ونشروا صحف التراث، لأدركوا أنّ الحضارة الغربية أتى عليها حين من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً، وأنّ الحضارة الإسلامية وضعت أسساً للفكر السياسي، لم تَسْبِق إليه أيُّ حضارة. ويكفي أن نشير إلى أنّ قضية (الإمامة) وحدها عولجت بأكثر من عشرين كتاباً، ظهر أوّلها في القرن الثاني الهجري، ولقد دقَّت رؤية الفقهاء، وتنازعتهم مصادر التشريع، واختلفت مذاهبهم في الشأن السياسي: تنظيراً وتطبيقاً، حتى لقد نسلت نحلة (الإرجاء) من الفعل السياسي، وكانت لكلِّ طائفة رؤية سياسية، تختلف عن سائر الرؤى. هذا التراث المنسي في غمرة الانبهار حَفز المنصفين من المستشرقين على القول بفضل الحضارة الإسلامية في سائر حقول المعرفة. ولمّا كانت الحضارة الإسلامية قد بدأت بالمشافهة والرواية، فقد اهتم العلماء بالرصد التاريخي للخلافة الراشدة التي تمثِّل جذور الفكر السياسي. وبوادر النظم والإجراءات تدل على وعي مبكر بأهمية الخلافة وتداول السُّلطة ومهمّاتها. والفقه الإسلامي عالج المسؤولية السياسية ضمن ما عالج من قضايا، وقد واكب الفقهاءَ موسوعيون، تناولوا موضوعات ذات مساس قوي بالسياسة ك(الخراج) و(الجند). ولعلّنا نشير إلى يقظة (ابن تيمية) الذي عاش مرحلة الضعف والتفكُّك وحروب التتار، فألّف في السياسة الشرعية ومتعلّقاتها من (ولاء وبراء) و(جهاد) تقتضيه المرحلة، ما يدل على وعي تام بمقوّمات الدولة، وشروط الخليفة، وأهمية الجهاد. ولم يقتصر تناول الشؤون السياسية على الفقهاء، وإنّما اهتم بها الفلاسفة: ك(الفارابي) و(ابن سيناء) و(ابن الصائغ)، وبعض هؤلاء وضعوا نظريات، ولم يعالجوا وقوعات، واستشفوا حضارات سادت ثم بادت. فكان لهم الفضل في حفظ التراث الإنساني، وليس ببعيد ما يتداوله فلاسفة الحكم في العصر الحديث كما تناوله (العقاد) في كتاب مستقل. وأمام هذا الفيض لم تلتفت البوقات والطبول إلى شيء من ذلك، لا قدحاً ولا مدحاً ولا إضافة، وما أضرّ بالأُمّة إلاّ انتزاع العلم الذي أخبر به من لا ينطق عن الهوى، وهو من أشراط الساعة، وها نحن نسمع ونرى من يتحدث عن (الجهاد) و(الولاء) و(البراء) و(الخلافة) وغيرها، وهو لا يعرف الدليل، وإذا عرفه لا يفقهه، ومع هذا يتصدّى لكبار الفقهاء المؤصلين، بكلام لا يضبطه أصل، ولا تحكمه قاعدة. |
وفي الناس بوقات له وطبول 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل والعدول المريب كالصمت المريب، فالذين نسوا ما ذكروا به، تعالقوا مع مستجدات الغرب دون تحفُّظ، واتخذوه عضداً دون مواربة، والذين وهنوا وضعفوا، قطعوا العلائق معه، ظناً منهم إنّها السبيل القاصد للنجاة، ولم يحسنوا إبلاغ ما أمروا به، بل لم يحسنوا تمثُّل ما أمروا به. ولم يكتف المائلون كلَّ الميل بالتعالق، وإنّما أوغلوا في إثارة الرأي العام بإكراهه على التماهي مع الآخر، وفي التدافع المخيف على بؤر التوتُّر، يلوكون قضايا الأُمّة الساخنة بكلِّ برودة أعصاب، ويميلون مع الريح حيث مالت، وما هم إلاّ كمن أراق ما معه من ماء، حين خدعه سراب القيعان. وأمام الإثارة والتدافع والإكراه هممت أن ألوذ بالصمت، للخلوص من فتنة الهرج والمرج وصيحة العامة التي استعاذ منها العلماء الناصحون المجرّبون. ولولا أنّ الساكت عن الحقِّ شيطان أخرس، لما أجريت القلم على القرطاس. ولتهدئة الأجواء دعوت إلى (مرحلة التكتُّل والتكتُّم)، للتمكُّن من مراجعة النفس، ورأب الصَّدع، وبثِّ الطمأنينة، والعدول عن كشف السوءات، ونشر الغسيل. فما عدنا نحتمل مزيداً من المجاهرة بالسوء. ولقد حذَّرت من عدوٍّ لا يدع لفظاً نتفوّه به، إلاّ رصده وحلّله واستثمره في شرعنة التدخُّل في شؤوننا الخاصة. وها هو اليوم بعد أن فاضت أوعيته من لغطنا، يدس أنفه في كلِّ قضايانا، وكأنّنا نستنجده ونستغيثه، وكأنّ أوضاعنا في حالة من التخلُّف والظلم، بحيث تقتضي الوصاية، وتستدعي التدخُّل السريع. وأكاد أجزم بأنّ الذي مهَّد له الطريق، وشرعن له الوجود العسكري هم أولئك البوقات والطبول. ويكفي أن ندلِّل على تلك الجنايات بالقول الآثم حول مناهجنا ودورها في صناعة الإرهاب، حتى لقد أضطر البعض إلى التصدِّي لهذه الاتهامات، وهو السبب الرئيس في قيامها. ولعلّنا نستذكر التقرير السيئ الذي أصدره (مركز الحريات الدينية)، بوصفه هجوماً كاسحاً للمناهج الدينية في (المملكة العربية السعودية)، إذ يصفها بالتعصُّب والتحريض. هذا التقرير الذي أحدث زلزلة في الأوساط الإسلامية، وبخاصة في (مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية) وجاء على لسان رئيسه (نهاد عوض)، ولكي يعزِّر رئيس بيت الحرية الأمريكي (بيتر إيكرمان)، رؤيته الظالمة، عوّل على مقولات كتبها (سعوديون) عن المناهج، حيث جاء فيها ما معناه: (إنّ المناهج تشجِّع على العنف تجاه الآخرين، وتدفع بالطلاب إلى الاعتقاد بأنّه للحفاظ على دينهم فإنّ عليهم تصفية الآخرين بدنياً). هذه المقولات التي لم يحسب لها قائلوها أي حساب، التقطها الغرب عبر مؤسساته المتربِّصة، وعزَّز بها رأيه، وسند موقفه، وعرَّض المملكة لاتهام جائر، سوف يضطرها إلى بذل الجهد والوقت والمال لتبرئة مناهجها، وهذا الجهد سيلهيها عن مهماتها العربية والإسلامية، بوصفها دولة مؤثرة في المحافل الدولية. والذين أوغلوا في النَّيل من المناهج، يظنون أنّهم في معزل من المتابعة والرَّصد، وانتزاع الشاهد من الأهل. والإشكالية القاصمة، أنّ محدودي المعرفة يظنون أنّ القول في (الجهاد) قول ناجز، لا تحكمه العهود والمواثيق والدوافع وأمر الخليفة، وعلى ضوء تلك المفاهيم الخاطئة جعلوا تناوله في المناهج جزءاً من الإرهاب، وتلك من قواصم المشاهد الفكرية، فالجهاد ذروة سنام الإسلام، وليس وقفاً على القتال، وإسقاطه من المناهج لا يسقطه من القرآن وكتب السلف، وتناوله لا يحمل على الإرهاب، فالذين درسوه من الآباء والأجداد كانوا أكثر جنوحاً للسِّلم. وأوفي للعهد، لا يؤذون ذمِّياً ولا معاهداً، ولا يُسْلمون مستجيراً، بل يبلغونه مأمنه. إنّ هناك بوقات وطبول لا تقيم وزناً للكلام، ولا تعرف أنّ هناك من يرصد الأنفاس، ويحصي التحركات، ويوظف كلّ ذلك للنَّيل من سيادة الأُمّة، والذين تابعوا التقرير والتصديات له، لم يسائلوا أولئك الذين عزَّزوا موقف (بيت الحرية) من أبناء البلاد، مع أنّ مناهج التعليم ومواده لا علاقة لها بالإرهاب، إذ الإرهاب بقايا لعب سياسية معروفة، ولقد استوفيت الحديث عن الإرهاب: أسبابه وانتمائه ووسائل مواجهته في كتابي (أبجديات سياسية على سور الوطن)، ولم أعد بحاجة إلى تكرار ما سبق. وحين نناشد الكف عن تمجيد الآخر، وتجريح الذات، ونسعى إلى المصالحة مع القائم فإنّنا لا نزكِّي على الله أحداً، ولا نبرِّئ عاملاً من الخطأ، ولا منهجاً من الحيف، ولا نمنع مصلحاً من الإصلاح، ولا ناقداً من النَّقد، وإنّما نريد أن نعرف الفرق بين النصيحة والفضيحة. فمن ادعى العصمة أو القدسية فقد عصى أبا القاسم. ومن حسب نفسه فوق المساءلة والنَّقد مسَّه طائف من جنون العظمة وعنف الغطرسة. ومن اتخذ إلهه هواه أضلَّه عن الذكر وعن الاستقامة على الحق. ومن صادر قول المخالف أغلق باب الاجتهاد، وحمل الناس على فهمه المحدود. ومن تقحّم عوالم العلماء الأفذاذ، ومنح نفسه حق الاجتهاد، وهو من غير أهله، أيقظ الفتنة، وأضلَّ الناس على جهل. ومن تصوَّر ألاّ معقِّب لقوله، ولا مُسائل عن فعله، أخذته العزّة الزائفة بالإثم الموبق. فالله وحده الذي لا معقِّب لقوله، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل. وطلب الكف عن المكاء والتصدية لا يمس النقد الموضوعي، ولا الشفافية الإيجابية، ولا الصدع بالمساءلة. فالأدواء قائمة في الأنفس وفي الواقع، والمواجهون لها لا بدَّ أن يتواصوا بالحق، ويتواصوا بالصبر، وإن لم يفعلوا شملهم الخُسر، ولهذا قيل: - لم يبق لي قول الحق صديقا. فالناطق بالحكمة وفصل الخطاب لا يسلم من الاتهام والتقريع، ومجتمع لا تُقال فيه كلمة الحق مجتمع يتآكل كما قوالب الثلج، وبئست أُمّة لا يبادر عقلاؤها ومجرِّبوها أطر مبتدئيها على الحق. وإذ لا نجد بدّاً من نقد الذات، فإنّنا مضطرون إلى نقد النَّقد، ذلك أنّ طائفة من الكتّاب يتجاوزون النَّقد إلى الجلد، والنصيحة إلى الفضيحة، والموضوعية إلى الذاتية. والنَّقد الذي نتحفّظ عليه إنّما هو التجريح القائم على نفي الذات، وإقصاء الحضارة واليأس والقنوط. وكم هو الفرق بين العرض اليسير والحساب العسير. ونقد التقويم وانتقاد التحطيم. والتذكير باللين والسخرية المرة. وليس الأمر وقفاً على القسوة واللين، ولكنه يتعدّى إلى افتراء الكذب، وتمكين المتربِّص من الرِّقاب، كما حصل مع (بيت الحرية) ومفترياته، والذين يهرفون بما لا يعرفون، تراهم مضطرين في آرائهم ومواقفهم، يرمون خصومهم بما في أنفسهم، ويتخذون من اضطراب المفاهيم ذريعة لتقلبهم، وتقليب المصطلحات المنقولة. فالذين يتوسّلون ب(الأدلجة) ليجعلوا منها سمة مذمة، يطلقونها على خصومهم دون فهم لها، ودون رصد لتحوُّلاتها التاريخية. فالحياة بدون أفكار كالأجسام بدون أرواح، والإنسان بدون دين إن هو إلاّ كالأنعام بل هو أضل، والتديُّن فطرة إنسانية، وهو عين (التأدلج)، وما عِلْم الأفكار إلاّ الدين وعلومه، والمتسطحون المتعالمون إذا أرادوا توهين خصم وصفوه ب(المتأدلج)، وما دروا أنّ (الأدلجة) قيمة فكرية وتاريخية لا تعمر القضايا، ولا تحيا إلاّ من خلالها. و(أدلجة) الأدب، وتسييسه بهذه الطريقة العنيفة الهوجاء، وبتلك السمة، لم يكن من عند الإسلاميين، وإنّما هو من (الماركسيين)، حتى لقد ضاق نقّّاد الأدب المكبوتون بالإلزام (الماركسي)، واتخذوا ما يسمّى بالنقد الهروبي، وهو (النقد الشكلاني) للخلاص من (الأدلجة) القسرية، وجاء (الحداثيون) ليفسدوا ما بقي من مذهب الفن للفن. وسبقُ الإسلام إنّما هو في جعل الأدب في خدمة الحياة والعقيدة، دون المساس بخصوصية الإبداع والإمتاع، والنقد الإسلامي يفرق بين الأدب الخالص والمواعظ، والنظم العلمي. و(الاستشراق) بوصفه الجسر المعرفي للتواصل بين حضارتين تعيشان صراعاً أزلياً، يراوح بين صراع الأفكار وصراع السلاح، وهو معدود من آليات الصراع، التي لا تكاد تنفك من الإسهام الفاعل لصالح الآخر، وتحييد الصراع الفكري، محاولة أطلقها الماكرون وصدّقها المغفلون. ولأنّ طريق السيطرة يمر على جسر الأفكار، فقد حاول الغرب تحييد ذلك من جانب المغلوب، والهيمنة لا تتحقّق إلاّ بالفهم الدقيق أولاً، ثم التوجيه صوب الأهداف. إنّ الغرب لكي يحكم قبضته لا بدّ أن يمكِّن ل(أيديولوجيته) على حساب أفكارنا وثوابتنا، وواجبنا أن نفرق بين طغيان الأفكار، وتفشِّي المدنية، فالصراع الفكري شيء، وانتشار المدنية شيء آخر. فالمدنية تدخل ضمن التبادل المشروع بين خامات الشرق، وصناعات الغرب، وفي ذلك توازن أراده الله لعمارة الكون. وما تدري الأبواق والطبول أنّ ما يبذله الغرب للدعاية والتسويق لهذه المنتجات المدنية يكاد يفوق أثمانها، وأنّ حرصنا على تسويق ما أفاء الله به علينا من كنوز الأرض، دون حرصهم على تسويق منتجاتهم. وما دروا أنّ ذلك كله من سنن الله: ف(الناس للناس من بدو وحاضرة .. بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم). وما دروا أنّ هذه المدنية المبهرة، ليست من صناعة الغرب وحده، وليست من اكتشافه وحده، وأنّ الأخذ منها لا يقتضي الإذعان لفكره، ولا يعني تمثُّل حضارته، والتخلِّي عن الدين وثوابته، والفكاك من التمسُّك بقيم الحضارة الإسلامية، والدفاع عنها، وإبلاغها لكافة شعوب العالم. ومن تصوَّر أنّه لا يمكن الجمع بين (الصاروخ) و(المصحف) ولا بين (المسجد) و(المعمل) ولا بين (الحجاب) و(العمل) فقد أضاع الاثنتين: حضارته، ومدنية الغرب، وأحسب أنّ الأبواق والطبول قد شبت عن الطّوق، وعرفت أنّه لا جفوة بين العلم والدين، ولا بين المعاصرة والالتزام. وكيف يُتصور ذلك، وأبناؤنا يذهبون إلى كافة أنحاء العالم، يتلقّون مختلف العلوم الحديثة، ويعودون صالحين مصلحين دعاة ومرشدين. والدين الإسلامي لا يمنع من إعداد القوة الحسية والمعنوية، ومن تصوّر أنّ التمسُّك بكتاب الله وسنّة رسوله عائقاً من غزو الفضاء، وحرب النجوم، فقد أخذه ما أخذ التنويريين في الغرب، وما درت البوقات والطبول أنّ المصلحين الغربيين نفوا ديناً مزيفاً، وأنّ المصلحين المسلمين جدَّدوا ديناً رانت عليه أهواء المذاهب الضالة. |
حيوات الظرفاء وذوي العاهات..!
د. حسن بن فهد الهويمل مللت من قفو الصحف والمجلات، والتنقل بين المواقع والقنوات، لاستشراف معارك كلامية حامية الوطيس، وقودها الأعراض وقالة السوء. وأدمى مقلتي استشراء المغالطات، وتحريف الكلم من بعد مواضعه. وضقت ذرعاً من أغيلمة تسودت المواقف والمواقع بما هي عليه من ضعف وجرأة وسوء أدب، حتى لكأن أحدهم ممن تبرأ منه (الشنفرى) بقوله: (وَلَستُ بِعَلَّ شَرُّهُ دونَ خيرِهِ ألَفَّ إذا ما رُعتَهُ اهتاجَ أعزَلُ) وكلما أحسست باستفحال البذاءات والتطاول على الأوفياء وذوي الكفاءات، واستشراء قول الزور، أو نظرت إلى الواقع العربي المرير، والكرامة العربية المعفرة تحت أقدام الأوغاد الممجدين بأقلام المسحوقين، لذت بمكتبتي، وجالست كتب التراث اللاهية غير العازمة، (وخير جليس في الزمان كتاب)، والموسوعيون الجادون إذا أضناهم عناء البحث، وأرهقتْهم معاضلة العَصِيِّ من المسائل، وأوغلوا في مفازات الجد العنيف، وللوا وجوههم شطر السخرية والساخرين لتخفيف العناء وبرد الأكباد، فكان أن جمعوا الأخبار، وألفوا الحكايات، وتعقبوا الظرفاء وذوي العاهات، وليس هناك أنكى من سخرية ذوي العاهة. والتراث العربي زاخر باللهو البريء والعبث الماجن، ومطارحات الأدباء مجال رحب للتسلية. نجد ذلك عند (الجاحظ)، وجحوظ العين عاهة، وعند (أبي حيان) الممرور النكد الذي أحرق كتبه، ورعى مع الأنعام، وعند آخرين عنوا بذوي العاهات، وبالحمقى والمغفلين وبالمفلوكين. ورصد مثل هذه الظواهر يوفر مادة معرفية، لو أهملت لضاعت مع ما ضاع مما أهمله التاريخ، وعناية الأدباء الساخرين بالسخرية وبذوي العاهات، كشفت عن خصائص نفسية وحسية، لو تعقبها علماء النفس، لخروجوا بنتائج مثيرة، واكتشاف السمات والخصائص لذوي العاهات، وجد فيها أصحاب المناهج الحديثة مادة مشوقة ثرية، لا تقل فوائدها عما وسعته كتب التاريخ وتاريخ الطبقات والمدن وسائر العلوم. وتراث الأمة العربية يفيض بما لا يخطر لأحد على بال، واستعراض فهارس المخطوطات والمطبوعات يثير الانتباه، وإشكالية القارئ المعاصر في تعالقه مع المستجد الذي حال بينه وبين تلك الثروات المعرفية التي لا تقدر بثمن، والمحروم من قطع صلته بثرات أمته، ولا سيما الجانب الهازل منه، فما وسعته تلك الكتب، يروِّح عن الأنفس الكئيبة، ويستل السخائم، ويُذْهب الحزن. و(الجنون) في العصر الحديث أصبح معادلاً طبيعياً للعقل والعبقرية، ولم يعد ظاهرة غير طبيعية، ويبدو أن (الوجوديين) تداولوه، وأن (الحداثيين) بسطوا القول فيه، وكنت أمني نفسي بتقصي أسباب العناية بالجنون كمصدر من مصادر الإبداع، وعلاقاته ومعانيه (الفيسيولوجية) و(الميتافيزيقية) و(السيكولوجية) وتصنيفاته، ولا سيما أن عدداً من المبدعين صنفوا مجانين أمثال (ديكنز) و(فان جوخ). ولما ضقت من لغط المشاهد ونتن المواقع، نظرت إلى حقل ذوي العاهات والأدب الساخر والظرفاء في مكتبتي، فوجدت الكتب الممتعة الجادة والهازلة، يتصدرها كتاب الجاحظ (البرصان والعرجان والعميان والحولان)، وكان لهذا الكتاب منزلة في نفسي وذكرى، فلقد نزل إلى المكتبات، وأنا طالب في قسم الدراسات العليا في (كلية اللغة العربية) بجامعة الأزهر، حيث أشادت به الصحف المصرية، وقدمت مقتطفات منه، فما كان مني إلا أن تحاملت على نفسي، واشتريته على الرغم من شح ذات اليد، وصعوبة النقل والخوف من عين الرقيب يوم أن كانت له عين كعين زرقاء اليمامة. فالطالب لا يقدر على توفير متطلبات الدرس من المراجع، ولا سيما أن طائفة من الأساتذة في قسم الدراسات العليا، يقرر الواحد منهم أكثر من عشرة كتب من مؤلفاته المجمَّعة على غير نظام، كمراجع لمادة واحدة، ولقد فعلها الأستاذ الدكتور (محمد عبد المنعم خفاجي) رحمه الله، وما أن ظفرت به، قرأت أطرافاً منه في (مقاهي النيل) يوم أن كانت لها مذاقات عذاب، ولقد تحدث عن (الصُّلْع) و(القُزْع) وأمتع باستطراده المعرفي الواسع. وهذا المخطوط من أندر كتب الجاحظ، لفقده، إذ لم يوجد منه إلا مخطوطة واحدة في المغرب بعد العناء في البحث، اكتشفها الدكتور (عبد الهادي التازي) ولقد سرد قصة العثور عليها، وتحدث عن دور العلماء المشارقة الذين طافوا مكتبات المغرب للبحث والتنقيب عن نوادر المخطوطات، ومن أهم المهتمين بالتراث العربي علامة الجزيرة الشيخ (حمد الجاسر) رحمه الله، الذي نشر مقدمته في مجلة (العرب) عام 1388هـ. الجاحظ جعل متكأه كتاب (الهيثم بن عدي)، الذي تقصى عاهات الأشراف، للتنقص والتندر، وهو معدود من الشعوبيين، و(الجاحظ) وإن اتهم بالشعوبية، إلا أنه ميال إلى السخرية، ليس غير، ولم يكن كما (الهيثم بن عدي) الشعوبي القح الذي عمد إلى جمع مثالب البيوتات العربية، ك(المثالب الكبير)، و(المثالب الصغير)، ولست معنياً بمقاصد (الجاحظ) أو (ابن عدي)، فما أريد إلا إمتاع نفسي بقراءة أطراف من هذه الكتب التي تتحدث عن ذوي العاهات والظرفاء، وتجلي السخرية العفوية في تصرفاتهم، وتكشف عن أمزجتهم ونظرتهم للمجتمع من حولهم، وتميز بعضهم بالذكاء الخارق والخفة والتفاؤل، و(الشعوبية) مصطلح مأخوذ من آية (الشعوب والقبائل)، حيث ذهب بعض المفسرين، وليس للمصطلح علاقة بمصطلح (شعبوي)، والحديث عن (الشعوبية) عاد أثناء (حرب الخليج) الأولى، فألفت الكتب، وعقدت الندوات, ونبش عفن التراث، ثم طويت صفحته، وهكذا شأن مسارح الدُّمى، ولقد شهدت ستة (مرابد) في بغداد، لم ينفك واحد منها من الحديث عن (الشعوبية)، والحديث عن ذوي العاهات يذكرنا بنوادر المخطوطات والرسائل، مثل (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، و(رثاء الحيوان في الشعر العربي) و(القول في البغال)، (العققة والبررة) و(المردفات من قريش) و(شري الرقيق وتقليب العبيد) ومؤلفات عن (البئر، والريح، والشاء، والضب) وكلها ممتعة ومفيدة. ويلي (الجاحظ) بالاهتمام بذوي العاهات (الصفدي)، الذي ألف كتابين هامين هما: (نَكْتِ الهميان في نُكَتِ العميان) و(الشعور بالعور)، وكل الحكايات والقصص ترتبط بنوع العاهات، وذووا العاهة يختلفون عن الظرفاء والطفيليين والحمقى والمغفلين والمجانين والفلاكة والمفلوكين، وإن كانت نوادرهم متقاربة، وقد امتاز في الحديث عن أولئك (الخطيب البغدادي) و(ابن الجوزي) وله ثلاثة كتب و(الحصري القيرواني) و(النيسابوري) صاحب (عقلاء المجانين) و(أحمد الدلجي). وفي العصر الحديث تغيرت الاهتمامات والمقاصد، فلقد صدر أكثر من كتاب عن ذوي العاهات، ولكنها دراسات عازمة، تجلي أثر العاهة في الإبداع أو في النبوغ، ومما صدر في هذا الشأن كتاب (العلماء والشعراء والأدباء العميان) ل(خازن عبود)، وهو كتاب يعتمد المنهج التاريخي أما الدراسات المعمقة والساعية وراء استجلاء خصوصيات ذوي العاهات، فمنها كتاب (الخيال والتصوير في شعر المكفوفين) للدكتور (محمد بن أحمد الدوغان)، وهناك فرق بين من يسدعي ذوي العاهات لإبراز خصوصياتهم السلوكية، وانعكاس العاهة في التصرف والتصور، ومن يستدعيهم للتندر والاستمتاع، وسعي الموسوعيين أمثال (الجاحظ) و(ابن الجوزي) و(البغدادي) و(الصفدي)، للتندر والسخرية، وقد تكون هناك دوافع أخرى, كما هي عند (ابن عدي) و(أبي حيان) الذي تحدث عن المثالب، وهو حديث مسف، وثقيل على النفس بفحشه المقذع، وحقده الدفين. والعاهة لا تكون معوقاً، كما أنها ليست عيباً يعاب به المعاق، ولا يجوز النيل من ذوي العاهات بعاهاتهم، فالله الذي ابتلى من يشاء، وعافى من يشاء، قادر على أن يعافي المبتلى، ويبتلي المعافى، والماعق يحس بالضعف والدونية، فيحاول إثبات قدرته، بتحديه للأصحاء، وكم من مُعوِّق فاق الأسوياء، ومن الكتب الحديثة التي أبرزت أثر العاهة في التحدي كتاب (عظماء ومشاهير معاقون غيَّروا مجرى التاريخ) للأستاذ (أحمد الشنواني)، وقد استهله بالكلمة المأثورة (كل ذي عاهة جبار)، ولقد ذكر أطرافاً من سيرهم ومنجزاتهم، فمن العميان (المعري) و(أحمد التطيلي) و(طه حسين) و(عبد الله البردوني)، ومن غير العرب (هوميروس) و(هلين كيلر) و(جون ملتون)، وممن يعانون الصمم (بيتهوفن) و(هيلين كيلر)، فهي صماء وعمياء. ولأن العبقرية صنو الجنون، فقد أصيب عدد من العباقرة بالجنون، ك(نيتشه)، ومنهم من ينتابه القلق والهستيريا ك(كانط) و(هتلر) و(نابليون). وكشف خبايا حيوات المشاهير المعاقين ممتع، لأنه يكشف عن سير أسهمت في تغيير مجرى التاريخ، وبعضها حيوات مضطربة وغير سوية. وكما أشرت فإن هناك دراسات جادة عن ذوي العاهات والظرفاء، ليست على شاكلة كتب التراث، ومن أجود ما قرأت في هذا الصدد (الصورة البصرية في شعر العميان)، وهي دراسة علمية، كما يشير مؤلفها الدكتور (عبد الله المعافري الفيفي)، تتقصى الخيال والإبداع عند عدد من العميان، ك(بشار) و(المعري) و(التطيلي) و(الحصري) و(العكوك) و(البردوني) ومن بعده كتاب (الدوغان)، ومن قبل هذين (الصورة في شعر بشّار بن برد) للدكتور (عبد الفتاح نافع)، والدراسات الحديثة لذوي العاهات تقوم على المنهجية والتقصي لخصوصيات المعاقين في الإبداع الفني. ومع أنني لست حفياً بهذا النوع الجاد، إلا أن متكأ الدارسين ينطلق من انعكاس العاهة على الأداء، وكتب التراث تعوِّل على السخرية والفكاهة، وتحاول إبراز ما يمتاز به المعوق في قوله أو فعله، وأثر العاهة على نفسه وعلاقاته بالآخرين، أما الحديث عن الظرفاء فهو أميل إلى جمع الأخبار، وذلك ما كنا نبغي في ظل الظروف الضاغطة في السياسة والإعلام. ولقد كنت من قبل أحسب أن كتاب (مذاهب ذوي العاهات) للأستاذ (عباس محمود العقاد) من هذا الصنف، ولكن تبين لي بعد الرجوع إليه أنه يقصد بذوي العاهات منشئي المذهب الشيوعي من اليهود المتصهينين، فالكتاب يركز على الشيوعية والشيوعيين، وهذا المذهب الذي شغل (العقاد) ردحاً من الزمن، وحمله على إنجاز أكثر من كتاب، ثوى في مزبلة التاريخ، بعد أن شغل العالم والعلماء سبعة عقود، ويعد كتابه هذا من أعنف كتبه، فهو مجموعة مقالات قصيرة عن الشيوعيين الذين سحروا أعين الناس واستمالوهم، و(العقاد) يقصد العاهات النفسية والخلقية، وهي بعض ما تقصاها (يوسف ميخائيل أسعد) في كتابه (العبقرية والجنون) وهي بلا شك ماثلة للعيان عند ذوي المذاهب الهدامة والأفكار المنحرفة، وسيكون لنا حديث مبسوط عن (ثقافة الإلحاد)، نبرز من خلاله ارتباط العاهات النفسية بالإلحاد. وتقصي أحوال المعاقين وحيواتهم، والاستمتاع بقراءة هذا النوع من الكتب، يثير عند الإنسان مشاعر متعددة، لأنه يقف به على خصائص نفسية، وتصرفات غريبة، ومواقف مثيرة، قد تقوده إلى امتلاك مفاتيح لشخصيات انعكست آثار العاهات على نفوسهم، ثم تجلت في تصرفاتهم، وما كان لي أن أجنح إلى الجد في تقصي تلك الظواهر، وإلا فإن الدراسات الأدبية لإبداع العميان تنطوي على نتائج مثيرة. والذين تلمسوا أثر العمى على أسلوب (طه حسين) أبدعوا في التقصي والتجلية. وكما أشرت فإن الهروب إلى هذا اللون من المؤلفات للراحة، لا يتوافر إلا في كتب التراث عند (الجاحظ) و(الصفدي) و(أبي حيان) و(ابن الجوزي)، وما تنطوي عليه هذه الكتب لا يقل إمتاعاً عما عند الظرفاء العرب، في كتاب (ظرفاء العرب) بأجزائه الثلاثة، وكتاب (التطفيل) للبغدادي). ومما يلفت النظر تخطي المنطق والمعقول والمسموح به في رواية القصص والحكايات عن الظرفاء والمغفلين، ولقد خُصَّ بعض أولئك بدراسات مستقلة ك(أبي العيناء) الذي جمعت نوادره في كتابين أحدها لمعالي الشيخ (محمد بن ناصر العبودي)، و(عبد الحميد الديب) شاعر البؤس الذي كتب عن نوادره (محمد رضوان) و(عبد الرحمن عثمان) و(أبي الشمقمق) الذي كتب عنه الدكتور (محمد بن سعد الشويعر) على ما أذكر، و(الأعمش الظريف) للدكتور (أحمد بن محمد الضبيب)، والحديث عن الظرفاء والحمقى والمغفلين والمفلوكين والمتطفلين يتداخل مع الحديث عن ذوي العاهات، ولكنه دخول من طرف خفي، ولو استدعينا الكتَّاب السَّاخرين ك(المازني) و(السعدني) و(مارون عبود) لبعدت علينا الشقة. بقي أن أقول إن هذا الزمن الضاغط بفضل أدعيائه الكتاب ومتغطرسيه الساسة بحاجة إلى الترويح عن النفس، وتخفيف معاناتها مما تلاقيه من إحباطات على كل المستويات. |
التوازن في فكر العقاد..! 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل أعرف جيداً إلى أي مدى اختلف مع (العقاد ت 1964م)، رحمه الله في سائر مواقفه واتجاهاته وإطلاقاته الحمالة، وكلماته المعاصرة، وعباراته المفتوحة على كل الاحتمالات. وأعرف جيداً أنه ليس من أهل الذكر الذين يُسألون في أمر العقائد والعبادات والمعاملات. ولست بحاجة إلى المزايدة مع أي إنسان يلتقط مخالفة من هنا أو جنحة من هناك، مما أفاض به خصومه المنافسون، أو الحاقدون، منذ حملة (مصطفى صادق الرافعي)، رحمه الله في كتابه (على السفود) الذي لم يصرح فيه باسمه، لا يغاله في الذم البذيء، وحتى استدراكات الشيخ (صالح بن سعد اللحيدان) حفظه الله في كتابه (نقد آراء ومرويات العلماء والمؤرخين على ضوء العبقريات)، وشتان بين جور (الرافعي) وموضوعية (اللحيدان)، وإن كنت أختلف مع الأول كل الاختلاف، وأختلف مع الآخر بعض الاختلاف، وأحسبه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد. ومقدمة (اللحيدان) من ألطف المقدمات، وإن كان فيها شيء من اللذعات الحادة، كما أنه حين خاض معترك النقد جار بعض الشيء عليه، وليته تذكر فقرات جميلة، قالها في المقدمة، مثل قوله: (العقاد في عبقرياته أجاد، وبذل، ومنح الثقافة جديداً من الطرح المتميز)، ومثل (قوله: (والعبقريات من أجمل ما كتب عن أولئك الأفذاذ في الجملة)، ولست معه حين يقول: (يفقد استخراج وجه الدلالة من النص)، على أن محور اختلافي مع الشيخ (اللحيدان) يتركز في استخدامه مناهج المحدِّثين وآلياتهم في (علم التاريخ)، وأحسب أن المؤرخين يختلفون عن المحدثين. فهذا (البخاري) رحمه الله، تختلف مقاييسه، ويختلف شرطه في الرواية باختلاف الحقول التي ألَّف فيها، فهو في (الصحيح) بوصفه داخلاً على علم الحديث غيره في (الأدب المفْرد)، بوصفه داخلاً في علم الأخلاق، وهو في (التاريخ الكبير والصغير) غيره في الاثنين، فهل كان (البخاري) لا يعي أمره؟ لقد كان واعياً وهو يدوِّن الحديث الصحيح، وهو الأوعى، وهو يدوِّن الأدب والتاريخ، إذ لم يستخدم مناهج علم الحديث وآلياته في علم الأدب أو في علم التاريخ، ولهذا التباين جاء الضعيف في كتابيه، ولم يأت في الصحيح إلا المعلقات، وقد ميزها في لغة الإسناد. وقد تقصى (الألباني) رحمه الله الضعيف في كتاب (الأدب المفرد) فوجد الأحاديث الضعيفة تنيف على المائتي حديث وأثر. ومحاكمة (العقاد)، وهو يشتغل في حقل التاريخ بآليات المحدِّثين ومناهجهم إجحاف بحقه، لا يليق بمثله من مثل متعقب أمين. ولقد كنت، ولما أزل أمني النفس بقراءة كتاب الشيخ (اللحيدان)، قراءة نقدية تزيل لبس التداخل المنهجي، ومهما اختلفنا معه، فإن عمله يعد إضافة مهمة، لا يجوز تجاوزها دون مراجعة متأنية، تحق الحق، وتبطل الخطأ العارض، وكلنا خطاؤون، ومن ألف فقد استهدف. و(العقاد) سيظل الشغل الشاغل للمشهد الفكري والأدبي، ونزعته الدينية لم تعط حقها، فيما أعطي من دونه فوق ما يستحق، وهو بمواقفه مشروع جدل عميق. وأذكر أنني قلت في قاعة المحاضرات، في سنوات مضت، يوم أن كان الطلاب فيها يراجعون أساتذتهم، ويعترضون عليهم، ولا يترددون في التحفظ على بعض آرائهم: (إن العقاد أفضل عندي من الرافعي، فهو الأزكى والأذكى) لأن إسلامياته تخاطب الفكر الغربي، فيما يخاطب حماس (الرافعي) العاطفة الدينية، ومشكلة الاثنين أن المشهد سلط الضوء على (العقاد)، وتابعه في كل دقيق وجليل، وكثر خصومه، لتأثيره على المشهد الثقافي، فيما غفلوا عن (الرافعي)، وحمدوا له صموده في وجه (طه حسين)، ورضوا عن كل طرحه، وما زلت مع الطلبة في جدل لا يلين، حتى أذعنوا، وسلموا طوعاً أو كرهاً، وما زلت أتمنى انبعاث هذا اللون من الحوار بين الأستاذ وطلابه، ولقد تذكرت في هذا الصدد ما كان يدور بين (طه حسين) وطلابه الذين ضاقوا ذرعاً بتعويله على مناهج الغرب، بعد عودته من بعثته متفرنساً، وكان ممن كاد لهم، وتعسف في معاملتهم العلامة (محمود محمد شاكر)، حين اختلف معه حول دراسة الشعر الجاهلي، فما كان من (شاكر) إلا أن ترك الجامعة وقص مأساته في كتابه (المتنبي) السفر الأول. وكذلك فعل مع الدكتور (نجيب محمد البهبيتي) صاحب النظريات التاريخية للأدب العربي، التي هزت كثيراً من الثوابت والمسلمات، وذلك في كتبه (المعلقة العربية الأولى) و(المعلقات سيرة وتاريخاً)، و(المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين)، و(تاريخ الشعر العربي)، وكتابه (أبو تمام الطائي حياته وحياة شعره)، الذي روى في مقدمته قصة خلافه مع أستاذه، وما لقيه من تحديات أخرجته من مصر. وإذ لا نريد هذا اللون من الاختلاف، ولا نسوي أنفسنا بعمالقة الأدب والفكر، فإننا نود أن يكون الأستاذ في القاعة مستهدفاً بالأسئلة المحرجة، لكي يستعد للمواجهة، ويتضلع من المعارف الواقية من لذعات المستدركين، وحين أخص من خصال العقاد الحميدة (التوازن)، فلأن المشهد الفكري يميل كل الميل مع الهوى، ويذر سائر القضايا كالمعلقة، والناس أمام الظواهر والقضايا والتيارات والمذاهب، بين إفراط وتفريط، وما أضر بالفكر العربي إلا التطرف في الآراء، والتشنيع على الخصوم، والحدة في الجدل، والحيدة في الأحكام، وتجريد الخصوم من أي فضيلة، و(العقاد) عنيف مع خصومه، ومتحامل على بعضهم، ويكفي أن نضرب المثل بموقفه من (شوقي)، وإن أنصفه بعد حملة (الديوان) في كتابه (دين وفن وفلسفة)، والذين تأثروا به مسهم طائف من عنفه، نجد ذلك عند العلامة (أحمد عبد الغفور عطار) رحمه الله، وبخاصة حين ألف عن العقاد، وأسرف في النيل من خصومه، ك(الرافعي)، ومع اختلافنا الشديد مع (الرافعي) فإننا لا نمضي مع المسرفين في الذم والتجهيل. وعنف العقاد شيء، وتوازنه في الآراء الفكرية شيء آخر، وما كنت لأتحدث عن توازنه لولا ما أشاهده من الجور والحيف والتطرف في الآراء، وليست تلك الظاهرة حديثة، لقد واكبت الفكر العربي منذ النشأة الأولى، نجد ذلك في (التهافت)، و(تهافت التهافت) بين (الغزالي) و(ابن رشد)، ونجده عند (ابن حزم) وعند (أبي حيان)، وقد عالجها البعض على أنها لون من الحسد، وما هي كذلك، فالحسد شيء، والعنف والصلف والتعصب شيء آخر. ومن الصعوبة بمكان التفريق بين بواعث الحسد والتعصب المذهبي الذي قد يأخذ البعض بالإثم، ولقد كانت لي إلمامة عجلى بكتاب (تحاسد العلماء) للأستاذ (عبد الله العوجان)، وهي رسالة قيمة، تناولت أحوال النفس من حسد وغضب وحقد وبغضاء وتنافس، وأحسبه لم ينج من الخلط العجيب والتعصب المذهبي العنيف، ولو أنصف الخصوم لاستبعد كثيراً مما ساقه، والحدة قائمة بين كل الأطراف، والاختلاف المشروع لا يحال إلى الحسد، ولكنه يحال إلى الجهل بأدبيات المناظرة والحوار. و(العقاد) خاض معارك سياسية وأدبية ملتهبة، تقصاها ابن أخيه (عامر العقاد)، في كتابيه (العقاد معاركه في السياسة والأدب)، و(معارك العقاد الأدبية)، وله معارك فكرية وفلسفية مبثوثة في الكتب التي أنشأها دفعة واحدة، أو في الكتب التي جمع فيها مقالاته المتجانسة. ومن أبرزها على سبيل المثال لا الحصر: - حقائق الإسلام وأباطيل خصومه. - الشيوعية والإنسانية. - لا شيوعية ولا استعمار. - دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية. - أفيون الشعوب. - مذاهب ذوي العاهات. - الفصول. - دين وفن وفلسفة. وخصوم (العقاد) حين يعمدون إلى توهين فكره، يلتقطون بعض الجمل الحمَّالة، ومفكر ك(العقاد) له أنساقه الثقافية، ورؤيته الشمولية، فهو حين يتحدث عن فلسفته والمبادئ التي اهتدى إليها، يحدد ما يريد، ويجسد رؤيته، بحيث لا تلتبس على المنصفين، ولكنه حين يتحدث عن الآخرين من خلال مواقف مجتزأة، لا يعول على الدقة والتحديد، استمع إليه يصف مبادئه بقوله: (أحسب أن مبادئي في الحياة هي المبادئ الدينية على أساسها الأصيل)، و(العقاد) الذي خاض معارك متعددة ومتنوعة قد تحتدم مشاعره، بحيث لا يستبين المجتزئ رؤيته الواضحة، وحق مثله علينا أن نقرأه لا أن نجتزئ كلمة من هنا وكلمة من هناك، ثم نطلق أحكامنا جزافاً، ف(العقاد) أمة وحده، التطمت في عالمه مذاهب مادية ووضعية (لاهوتية) و(ناسوتية)، وجاءت آراؤه متوازنة، وكلماته حادة. |
التوازن في فكر العقاد ..! «2 - 2»
د. حسن بن فهد الهويمل و(العقاد) بهذا الشمول والعمق من الصعب الخروج من عالمه الواسع بنتائج محدَّدة حاسمة، تجسِّد فكره وتبلور رؤيته. ولكي نستبين أهمية فكر (العقاد) وأثره في المشهد الفكري، والسياسي، والأدبي، علينا مراجعة (أعلام الأدب المعاصر في مصر)، وهو مشروع (ببليوجرافي) للدكتور (حمدي السكوت) تقصّى أعلام الأدب، وخصَّ (العقاد) بمجلَّدين ضخمين، أحصى فيهما أسماء مؤلَّفاته التي طُبعت في حياته، والتي جُمعت وسُميت بعد وفاته، وتقصّى مقالاته التي لمَّا تزل ثاوية في الصحف والمجلات، وسمَّى الكتب التي أُلِّفت عنه، والدراسات التي نُشرت عن أعماله في مصر وحدها، والرسائل العلمية التي تقصّت أفكاره ومذهبه وأدبياته، وقد بلغت كتبه أكثر من مائة كتاب. ولمّا يزل فكر (العقاد) مجال أخذ ورد، وسيظل مثار جدل بين الأدباء والنقّاد. وحضوره في المشهد الفكري والسياسي والأدبي لم يكن وقتياً، ولم تكن رؤيته مرحلية، بحيث تطوى مع الزمن، إنّ فكره يملك الاستمرارية والحيوية، لأنّه فكر عميق وشمولي وتأسيسي. وحين نقول بالتوازن، فإنّما ننظر إلى التغليب، وإلاّ فإنّ (للعقاد) ميلاً في بعض القضايا، يجعل البعض منها كالمعلّقة. و(العقاد) حين احتدم في مواجهة (الشيوعية)، وهي التي تلغي الفرد في سبيل الجماعة أسعفته (الوجودية) التي تحسب للفرد بقدر ما تحسب (الشيوعية) للجماعة. واستنجاده بالفلسفة الوجودية لم تدفع به إلى القبول بها والدفاع عنها، كما فعل (عبد الرحمن بدوي)، الذي جاهر بوجوديته، وترجم لنفسه في (موسوعة الفلسفة) بوصفه وجودياً، حيث قال عن نفسه:- (فيلسوف مصري ومؤرِّخ للفلسفة: فلسفته هي الفلسفة الوجودية) إلى أن قال:- (وتمتاز وجوديته عن وجودية هيدجر وغيره من الوجوديين بالنزعة الديناميكية ...) (ص 294 - 1). ومع ذلك فقد اتهم (العقاد) بالوجودية، لثنائه على بعض مبادئها. ف(العقاد) حين كان ضد إلغاء وجود الفرد واستغلاله في غمار الجماعات، ولمّا كان خصماً عنيداً ضد الشيوعية، في إطار ضدِّيته للمادية التي أحسن إجهاضها بالأدلّة الحسِّية والعقلية، استنجد بالرؤية الوجودية من خلال زاوية ضيقة، وهو قد عدَّها: (ردّة فعل لتلك المذاهب، يحفظ للفرد كيانه واستقلاله، ويعرِّفه بحقوقه وواجباته). ولكيلا يقع (العقاد) في فخِّ الوجودية، ولأنّه أميَل إلى التوازن، استدرك وقال:- (ولكن هذه الوجودية قد تنحدر مع المنْحدرين بطبائعهم حتى تصبح ضرباً من العدمية أو ضرباً من الإباحية التي لا تعترف بشيء غير شهوات الفرد ودوافع الأثرة والأنانية). ولقد ذهب يعدِّد ملامح العدمية في الوجودية، وبعد تقديمه بعض الشواهد قال:- (هذه صورة من الوجودية الممسوخة)، وهو قد ألمح إلى أساطينها، واختلاف معتقداتهم واختلافه معهم. والذين اتهموه بالوجودية، عوّلوا على قوله: (وكاتب هذه السطور (وجودي) إذا كان معنى الوجودية إنصاف الضمير الفردي وتقديس الإنسان المستقل بفكره وخلقه)، وهذه المقولة تشبه إلى حدٍّ كبير مقولة بعض السَّلف:- (إذا كان حب آل البيت تشيعاً فليشهد الثقلان أنني متشيع)، وقول (العقاد) باستقلال (الفكر) و(الخُلق) يقيد بأنساقه الثقافية وسياقاته التي تؤكد على إسلامية فكره. وهو حين يسعى لفك الاشتباك بين الفرقاء يؤكد على (شرط الاعتدال) بقوله:- (إلاّ أنّ المغالاة محذورة من الطرفين لأنّ المغالاة من هنا أو هناك تضر بالفرد كما تضر بالمجموع). و(العقاد) حين تناول الفلسفة السياسية وأنماطها من خلال الفلاسفة الذين وضعوا تصوُّرهم لأنماط الحكم المعاصر، لم ينحاز لأحد منهم، وإنّما ساق رؤية كلِّ واحد منهم بأمانة ودقّة، وحين تقصّى سائر الرؤى، أكد على أنّ تلك المذاهب تقتسم الخطأ والصواب على حصص متفاوتة، فليس بينها مذهب ينفرد بالصواب كلِّه، ولا مذهب ينفرد بالخطأ كلِّه، ومن ثم خلص إلى القول:- (وهي على تناقضها من ناحية، يتمّم بعضها بعضاً من ناحية أخرى)، ومع غمرة المذاهب السياسة وتشعُّبها وجاذبيتها التي أوجز الحديث عنها (علاء حمروش) في كتابه (تاريخ الفلسفة السياسية) لم ينس (العقاد) إسلاميته، ولم يتنكَّر للجذور السياسة التي نمت مع التوسُّع الإسلامي، وإنّما طرح المشروع الإسلامي بواقعية ووسطية، وتوازن حيث قال:- (والدين الإسلامي قد فصَّل مذهبه في الشورى، والمساواة واحترام الإجماع، وسؤال أهل الذِّكر تفصيلاً، يتناول أصول الحكومة، ويوافق تطوُّرها مع الزمن). وهذه الرؤية لمستخلصات فلاسفة الحكم في العصر الحديث، وتلك الرؤية الإسلامية، تنطويان على عمق في الفكر وشمولية في الثقافة، وربط دقيق بين النظرية والتطبيق، وتوازن في الرؤية والتصوُّر. فهو لم يؤخذ (بالطوباويات)، ولم يتعثّر بالوقوعات لمحبطه. وخلوص المفكر من حدِّيات الآراء ومؤشّرات الفشل دليل على التوازن الحصيف. وحديث (العقاد) عن التقلُّبات السياسية، حديث يتقصّى فيه الرؤية كما فعل في كتابه (فلاسفة الحكم في العصر الحديث)، وهو حديث يحكمه التنظير، وحديث يتقصّى فيه النتائج. وهو بين الرؤيتين يجنح إلى المنطق، ولا يعول على انفتاح السياسة على كلِّ الاحتمالات بوصفها (فن الممكن)، ورصده للأحداث السياسة يتّسم بالخبرة والوعي، وما كان في يوم من الأيام ثائراً تحكمه العاطفة، ولا هيّاباً يركن للسكونية، وتُمنِّيه المثالية الزائفة. وواقعيته ليست إذعاناً، وإنّما هي تبصراً بالممكن، والإمكانية. و(العقاد) حين قرأ كتاب (سر تطوُّر الأمم) ل(لوبون)، لم يسايره في ميله القائم على (الأحكام والنتائج). وإنّما جنح إلى تغليب (الملاحظات والآراء)، وعنده أنّ إصدار الأحكام وتحديد النتائج يعني حسم الموقف، وقطع الطريق أمام مزيد من المراجعات، أمّا الملاحظات والآراء فهي مفتوحة لمزيد من الإضافات. وهو قد أيّد (لوبون)، وصوّب رأيه حين قدّم (الأخلاق) على (العقل)، وقال بالحرف:- (فلتكن عنايتنا بالأخلاق فوق عنايتنا بالعلوم)، وكأنّه يصيخ إلى مقولة شوقي:- (وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا) وحين يلح (لوبون) على فشل (مذهب المساواة)، ويؤكد على تلمُّس (روح الأُمّة) بوصفها مفتاحاً سحرياً لكشف خصوصيتها، يذهب (العقاد) إلى تخليص الرؤية من سوء الفهم. وليس شرطاً أن يكون مقصد (لوبون) ما تصوّره (العقاد)، ولكن المهم في الأمر تجلِّي (التوازن) في معالجته لرؤية المؤلِّف. (والعقاد) جنَّد نفسه لمواجهة المذاهب الحديثة، يمحو، ويثبت، وملاذه فكر متوازن، لا يلغي ذاته ولا يعزلها، يؤمن بأنّه على حق يطلب المزيد، فهو تارة يسمِّيها بالمذاهب المادية، وأخرى يسمِّيها بمذاهب ذوي العاهات. وهو حين ينشئ الكتب، أو حين يقرأ الكتب التي تتفق مع توجُّهه يحاول حفظ التوازن، وخير مثال قراءته لكتاب (على أطلال المذهب المادي)، ف(العقاد) يحكم بفساده وانهياره، ولكنه لا يحتمل المبالغات، ولا يسلم للقطعيات. وتتجلّى وسطية العقاد حين يرفض (نعم) أو (لا)، ولأنَّهما حاسمتان، وحين يسخر من (أغرار الملحدين)، الذين ينسفون العقائد ويرونها أوهاماً وترهات يذهب إلى أنّ الهدم والتشاؤم أيسر من البناء والتفاؤل، ولهذا يتهافت المفلسون عليها. ولقد أكد أنّ ضعف اليقين، وقلّة الثقة بالمبادئ الأخلاقية السامية هي التي أضرّت بالنهضة الوطنية. ولأنّه يقف بعنف وصلف ضد (الشيوعية) و(الصهيونية)، فقد امتدت رؤيته إلى جذور هذين المذهبين، وهو الإيمان المطلق بالمادة، ولقد جاء بما لم تستطعه الأوائل في التأكيد على أنّ خفاء المادة لا يقل عن خفاء عالم الغيب، وأنّ المادة المحسوسة والملموسة والمرئية إن هي إلاّ وهْم، ولقد أدّى توازنه إلى الجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة، في استحالة الوصول معهما إلى بر الأمان، وكل الجهود المبذولة للوصول إلى حقيقة الوجود والمادة منه إنّما هي من الرجم بالغيب، لقد تعمّد نسف القواعد، ولم يشغل باله بالشواخص كما يفعل غيره. ول(العقاد) نظرات عميقة في الأحوال والفلسفات، وهي نظرات تحيل إلى معارف وتجارب، وليست مرتجلة. وسواء صدقت تلك النظرات، أو لم تصدق، فالمهم - هنا على الأقل - ما تتركه من تساؤلات، وما تحدثه من مراجعات، وما تثيره من رغبات، في مزيد من المعارف. فالعقاد حين ذهب إلى أنّ التشاؤم والكره أيسر من الحب والتفاؤل، تصوَّر البعض أنّ ذلك قول يلقيه على عواهنه. وهو كذلك حين يختلف مع القائلين بأنّ الفلسفة نشأت في اليونان، أو حين يقول بأنّ العصر الحديث ليس عصراً مادياً وحسب، فحين يراجع في شيء من ذلك ينطلق على سجيّته، لتبرير ما يذهب إليه، وكأنّه يغرف من بحر، فهو لا يفرض رؤيته العازمة الجازمة، وإنّما يعرضها، ويرقب ردود الفعل، ثم ينطلق في تأكيد ما يذهب إليه، والمتابع يحس بتدفُّق الحجج والبراهين. لقد تقصّى أطرافاً من ذلك في مقالات أثير على كتابتها، ثم جمعها في كتابه (دين وفن وفلسفة)، حدَّد فيها رؤيته الفلسفية باقتضاب، وتحدّث عن موقفه من العقائد والأديان، والسياسة والتاريخ، والمسرح والسينما، وتناول أفكار بعض معاصريه، ولست قادراً على انتقاء حيثيّاته بالقدر المرضي، ومن ثم عدلت عن ذلك، واكتفيت بالإحالة. |
قراءة نقدية لكتاب (دليل الناقد الأدبي)
د. حسن بن فهد الهويمل أنجز الأستاذان الدكتوران (ميجان الرويلي) و(سعد البازعي) عملاً تتنازعه الموسوعية والمعجمية، ويختص بالمصطلح النقدي. وقد جاء في طبعته الأولى عام (1955م) متواضعاً إلى أقصى حد، ولكنه في طبعته الثالثة (عام 2002م) أخذ وضعه الطبيعي أو كاد، واستوى على سوقه في حدود ما أراداه له، لا في حدود ما يجب أن يكون عليه. وبين الطبعات الثلاث مسافة لا تقاس بالزمن الذي لا يتجاوز سبع سنوات، لا من حيث الكم، ولا من حيث الكيف. فالطبعة الأولى تناهز المئتي صفحة، فيما تتعدى الطبعة الثالثة الأربعمائة صفحة، والمصطلحات في الطبعة الأولى بلغت الثلاثين، فيما نيفت على السبيعن في الطبعة الثالثة. هذا على مستوى الكم، ولكن المسافة المهمة في الكيف، متمثلة في أسلوب العرض ومنهجه ودقة المعلومة ومعرفيتها، وتعدد المرجعيات، وتنوع انتمائها الحضاري، وإن كان مع كل ذلك دون المؤمل لسببين رئيسين: الأول: اعتماد المؤلفين على الانتقاء الذي لا يحكمه ضابط. الثاني: مراوحة الدراسة للظواهر والقضايا والمصطلحات بين التاريخية والوصفية، والإسهاب، والاقتضاب، دونما ضابط واضح، ولما كان عملهما يتساوق مع أعمال متشابهة، فإن المؤمل منهما تدارك ما فات السابقين، والبدء من حيث انتهوا. والمؤلفان حين مالا إلى الانتقاء، وتهيبا الاستقصاء، لم يحددا حيثيات استدعاء المصطلح المنتقى، ودواعي إهمال ما سواه، فقد يكون المصطلح المعتنى به دون المهمل في الأهمية والضرورة، والانتقاء يجعلهما في حلٍّ مما طال سلمه، وصعبت مراقيه، وندت مواطنه. وحين لا يكون هناك ضابط للمصطلح المستدعى أو المهمل يصبح العمل مجرد خواطر، مع أن تناولهما يتسم بالعملية والتقصي والمرجعية. ولو أننا طبقنا علم المصطلح وآليته كما حددها (فوستر)، لأصبح العمل مجرد مقالات تطول وتقصر عن بعض الظواهر والقضايا الثقافية الحديثة. ولأن عملهما يرتبط بمصطلح خاص، إذ لا يتعدى الحديث عن المصطلح النقدي المعاصر، فإن من واجبهما تقصي متطلبات المشهد النقدي واحتياجات الناقد المعاصر، الذي وُعِد ومنِّي بالدليل الذي لن يصل بالمدلول إلى كل غاياته ومطالبه. ولكي أؤكد على اعتباطية الانتقاء، أبدأ من حيث ابتدءا في (باب الهمزة). فلقد تحدثا عن أدبين: (الأدب الإسلامي) و(الأدب المقارن)، فيما صرفا النظر عن آداب أهم مثل (الأدب الوجودي) و(الأدب الماركسي)، وهما قد تحدثا عن (الآخر) بوصفه نقيض (الذات)، ولم يتحدثا عن (الذاتية). وفاتهما مصطلحات كثيرة ومهمة، مثل (نظرية التلقي) وعشرات النظريات في (السرديات) مثل (الميتانصية) و(تيار الوعي). ولما كان الزمن (زمن الرواية) كما يحلو للبعض إطلاقه، فإن الأهم تقصي الظواهر والقضايا السردية، ولقد تنبها لطغيان المناهج والآليات والمذاهب، ومن ثم تجلت عنايتهما بالمصطلحات الأسلوبية، وهو اهتمام ينم عن وعي بمتطلبات الفترة. وإذ جعلا من نفسيهما أدلاء للنقاد، ولم يتواضعا، ويكتفيا بالقراء، فإن الدليل كالرائد، لا يكذب ولا يقصر. ولما لم يكن شك في صدقهما، فإن الشك كله في التمام. وتقصيرهما عن الايصال إلى الغاية المنشودة من تقصير القادرين على التمام، إذ بإمكانهما أن يتقصيا الأهم من المصطلحات، لأنها مطروحة في الطريق عبر عشرات الموسوعات والمعاجم والدلائل، وحين يأخذان بالانتقاء فإن الواجب وضع ضوابط، بحيث لا يتحدثان عن المهم، وينصرفان عن الأهم، أما حين يكون المعجم استقصائياً فالأمر جد بسيط. لقد تحدثا عن مصطلحات مغرقة في علوم ليست ذات صلة وثيقة بالنقد، وإذ كان (علم النفس) قد توغل في النقد، حتى شكل مذهباً نقدياً تبناه (هازلت) واحتفى به (العقاد) من قبل و(عز الدين إسماعيل) وآخرون من بعده، فإن هناك مصطلحات نفسية، ذات صلة وثيقة بالعملية النقدية، لم يعرضا لها، فيما عرضا لمصطلح لم يخطر على بال أي ناقد أو مبدع ذلكم هو (مرحلة المرآة) ص230، ولما كان الأمر انتقائياً، فإن مثل هذا المصطلح لا يمكن أن يتقدم على عشرات المصطلحات المتبادلة بين (مناهج النقد) و(علم النفس). ولست أعرف على أي أساس قام انتقاؤهما للمصطلحات، وما هي آلية الانتقاء أمام مئات القضايا والتيارات والظواهر؟ فهل قصرا اهتمامهما على الآليات أو على المناهج؟ أم امتدت نظرتهما الى الظواهر والمذاهب؟ وهل نظرا إلى المصطلحات المتنازع عليها بين المعارف والعلوم؟ وكيف فرق المؤلفان بين التيارات والظواهر والآليات والمناهج؟ أحسب أن المأزق الذي وقع فيه كثير من المصطلحيين خلْطهم بين الآلية والظاهرة. ف(التصويرية) و(التعبيرية) و(الرمزية) تختلف عن (البنيوية) و(التقويضية) و(التحويلية). ثم حين تناولا (ما بعد الحداثة والحداثية)، هل نظرا إلى الفعل النقدي أم إلى الابداع الأدبي؟ ولست أعرف ضوابط (البعديات). ولو أنهما في الاستهلال استوفيا طبيعة المادة، وطرائق التناول، ونظام الترتيب والأداء، وضابط الانتقاء لتيسر التعامل مع الدليل. ولست أشك أن المؤلفين توخيا سد الفراغ المصطلحي بهذه المحاولة المعرفية الشحيحة، مع إمكان البسط، وقيام الحاجة الملحة إليه. وحين يقتصران على ما دون السبعين مصطلحاً، لا يسدان رمقاً، ولا يطفئان ظمأً. فالمصطلحات تتناسل ساعة بعد أخرى، وتعامل المطبقين الذين لا يعون المقتضى يزيد الأمر تعقيداً، وهي بتكاثرها تحمل معها إشكالية المفاهيم التي تتحول بتسارع غريب. وإشكالية المصطلحات بين النقل والترجمة والتعريب والنحت والاشتقاق والتركيب والاختراع، في ترك مفاهيمها وراء ظهرها في بلد المنشأ، واحتمال أرتال من المفاهيم التي تجد مع تجدد اللغة والثقافة وتعدد المتداولين، ويضاف إلى إشكالية المفهوم إشكالية الصياغة، وبخاصة حين يكون لكل مترجم حقه في الصياغة، والترجمة، والمتابع يحس بفوضى الترجمة والتعريب. والمؤلفان حين لم يحددا ضابط الانتقاء، ولم ينتبها الى فوضوية الترجمة والتسمية يتحول الجهد التقريبي الى إشكالية. لقد تحدثا عن (التفكيكية) فيما جاءت مصطلحات (التشريحية) و(التقويضية) مثلما جاءت مصطلحات (الرومانتيكية) و(الرومانسية) و(الرومانطيقية) مترادفة، موهمة الاختلاف الجذري، والمبتدئون قد تتشابه عندهم المترادفات، وليس هناك من بأس في سياق الترادف وذكر أسبابه. و(البازعي) لما يزل يفكك (التفكيكية) الفرويدية، ونحن بانتظار ما ينتهي إليه، ولا شك أنه الأقدر على كشف خباياها، لأنه وسيط مؤتمن. والمؤلفان اللذان تقلبا بين المرجعية الغربية، والاستعمال العربي، وراوحا بين التاريخية والدلالية والآلية والمقصدية، لم يكونا متحرفين لهذا التنوع، وإنما فرضته العفوية وتوفر المرجعية، وحين تقوم الحاجة إلى الرصد التاريخي لمصطلح من المصطلحات يعمدان إلى الحديث عن مفهومه، وإذا قامت الحاجة إلى المفهوم نزعا الى التاريخ. وكان بودي لو أنهما رسما منهجاً وخطة، بحيث وزعا التعريف بالمصطلح إلى مقاطع: المقطع التاريخي، ويتحدثان فيه عن بلد المنشأ، والبدايات، وعلى يد من نشأ المصطلح، وما جذوره (الأيديولوجية)، والمقطع المعرفي، ويتحدثان فيه عن حواضنه، أهي ثقافية أم فلسفية أم علمية؟ ثم المقطع التحولي، بحيث يتحدثان عن الترجمة أو التعريب، ومدى استيعاب الكلمة العربية للمفهوم والمقتضى الغربي، ثم المقطع الاستيعابي بحيث يتحدثان عن المتلقي العربي، ومدى قدرته على التمثيل تنظيراً وتطبيقاً. وليس هناك بأس من الإحالة إلى المراجع، لمن أراد التوسع، ولقد أحسنا في ذلك، حيث أحالا إلى المصادر والمراجع، وفي ذلك قطع لقول كل خطيب. نقول هذا، ونطالب بالتوسع، لأنهما التزما بما لا يلزم، وإلا فالمعجمة تتطلب لغة مكثفة مركزة، ولأنهما استعدا ليكونا أدلاء للنقاد. ولم يكتفيا بالقراء، والدال للناقد لابد أن يدله على ما جهل. ولأنهما عولا على مصطلحات نقدية غربية، ومثل هذا التعويل يحملهما على الترجمة المباشرة من اللغة الأصيلة، أو اللغة الوسيطة المباشرة من اللغة الأصلية، أو التعويل على المترجمات العربية. ولأن التعويل غير واحد، وأن لكل معول عليه إمكانياته اللغوية والمعرفية ومواقفه، فإن المتلقي يتطلب تحديد المصطلحات المترجمة من اللغة الأصل أو اللغة الوسيطة. كأن يكون المصطلح نشأ في ألمانيا أو في فرنسا ثم ترجم إلى اللغة الانجليزية، ثم ترجم منها إلى اللغة الغربية. وتعاقب اللغات عليه يحوله من الأداء المعرفي إلى الأداء الثقافي، وكتب المعاجم لا يجوز أن تعتمد لغة الثقافة أو التحديد الانطباعي، لأن الأصل في المعاجم أن تكون ناقلة أمينة دقيقة حيادية. |
قراءة نقدية لكتاب (دليل الناقد الأدبي) 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل ولأن الأدلاء إلى مواطن المصطلحات والظواهر الأدبية يختلفون في اهتماماتهم ومستوياتهم وقدراتهم الاستيعابية، وهم كذلك يختلفون في امتلاك ناصية اللغة المعجمية، وطرائق التعامل مع المذاهب والتيارات، وأساليب عرضها بين التاريخية والوصفية والتحليلية والتعريفية، وفي مواقفهم بين الحياد والانحياز، فإن الأفضل تقاسم العمل، وإضافة كل جهد لصاحبه، ومع أن عمل المؤلفين لم يكن مبادرة لا سابق لها، إلا أنهما بحق أعطيا عملهما شيئاً من الخصوصية، وكان بودي الاستفادة من المحاولات الرائدة، وسد الخلل الذي تركه السلف، ذلك أن التكرار لا يضيف جديداً، ومعاذ الله أن أصفهما بالتكرار. وبين يدي الآن أعمال كثيرة، تلتقي مع مشروع المؤلفين في أمور كثيرة، ولم أشأ من الموازنة التوسع، بل اقتصرت على المتشابهات في العناوين، ومما حاولت النظر فيه لكي تتميز الأشباه والنظائر الكتب التالية: 1- دليل الناقد الأدبي: د. نبيل راغب ط 1981م. 2- دليل الناقد الأدبي: د. ميجان الرويلي ود. سعد البازعي ط 1995. 3- الدليل الأدبي: جان الديك وسامي خوري ط 1981م. 4- دليل القارئ إلى الأدب العالمي. ترجمة محمد الجوزا. ويبدو لي أن المؤلف العربي أسرف في الثقة بالنفس والإعجاب بالعمل، حتى جعل كتابه دليلاً للناقد، وليس هادياً للقارئ. ولا أحسب أحداً من أولئك بقادر على إضافة شيء جديد يدل الناقد، وإنما هو جهد لتنوير القارئ، فإذا كان الدكتور (نبيل راغب)، قد عرّف بثلاثة وعشرين مصطلحاً، و(الرويلي والبازعي) قد عرفا بثلاثة وثلاثين مصطلحاً في الطبعة الأولى، وأضافا إليهما في الطبعة الثالثة ما تيسر جمعه، فإن المتلقي المستحق لصفة الناقد لا يحمل سمة النقد حتى يكون قد استوعب مئات المصطلحات. وإذا كان بحاجة إلى دليل لا يتجاوز محتواه الثلاثين أو السبعين مصطلحاً، فإن وصفه بالناقد من المبالغات المتجاوزة. فالنقاد الغربيون الذين تواضعوا، وجعلوا عملهم دليلاً للقارئ، وليس للناقد تناولوا في موسوعاتهم مئات الأعلام، ومئات الأعمال الإبداعية والنقدية، ومئات الفنون والمذاهب، وجاء مؤلفهم في ستمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير والحرف الصغير، ومع هذا فنحن لا نقلل من أهمية العمل، ولا نغمط المجتهدين جهدهم، ولا شك أن إسهام الأستاذين يلبي حاجة المخفين من القراء أما النقاد فلهم مصادر أوسع كمعاجم (جبور عبدالنور) و(مجدي وهبة) و(يوسف خياط) و(البوشيحي) و(عكاشة) و(لؤلؤه) و(الربداوي) و(مطلوب). والمؤلفان عدّا عملهما إضاءة لبعض المصطلحات والتيارات النقدية المعاصرة، وذلك بحد ذاته إسهامٌ له قيمته، والاعتراض على وصف العمل بأنه دليل للناقد، وليس دليلاً للقارئ، فالناقد الذي تنقصه معرفة تلك المصطلحات ليس بناقد، وإنما هو مبتدئ يتهجى أبجديات الحركة النقدية المعاصرة، وأملي تحويل هذا الدليل إلى مشروع يغني ويقني، فالمشهد بحاجة إلى مثله، وإلى مثليهما في الجد والجلد. والملفات الخفيفة واللقطات السريعة كثيرة ومتداولة إلى جانب الأمهات من الموسوعات والمعاجم التي تتسم بالمنهجية والدقة والشمول والتوفر على آلية المعجمة. وليس هنا من بأس في أن يحاول عدد من الكتاب المراوحة بين المعجمة القائمة على أخصر المختصرات، والموسوعية المتسعة للتاريخ والمفهوم والتعريف، وقد يجمع البعض بين الموسوعية والمعجمية، نجد ذلك عند الدكتور (محمد عناني) في كتابه (المصطلحات الأدبية الحديثة)، إذ جعل الكتاب في قسمين: قسم للدراسة الموسعة، وقسم للمعجمة المختصرة، حتى لقد اهتم البعض بمعجمة تبعات ظاهرة واحدة جديدة، مثلما فعل البعض في مصطلح (النص) وتحولاته وتداعياته. وللدارسين مواقف تدق فيها نظراتهم إلى تحولات المصطلح من الديني إلى الفلسفي، ومنه إلى الأدبي، وحديثهما عن (الغنوصية) ص 196، مؤشر اقتدار على تعقب المصطلح عبر مساره التاريخي، وتحولاته الأيديولوجية، وتجسيد لحظة التحول، وتحديد أمدائه الاستيعابية، على أن المفاهيم التي تناولت المصطلح لم تفض بحديثها إلى تحولاته الأدبية. فقد تناوله الدكتور (عبدالمنعم الحفني) في (الموسوعة الفلسفية) ص 296، وكذلك المجمع اللغوي في (المعجم الفلسفي) ص 133، على أنه كان بودي لو اتخذ طريق التعريف الوضعي للكلمة، إذا كان لها جذر عربي، أو الرجوع إلى جذرها الأجنبي، إذا كانت معربة، وإذا تعذرت الترجمة الحرفية، ولم يمكن النص على دلالتها كما هي في أصولها الأجنبية حسنت الإشارة إلى ذلك. ولو أخذنا جذر (غ.ن.ص) لوجدناها عربية الجذر، وهي في اليونانية (جنوسيس) فكأنها معربة، مع أنها في اليونانية تعني (المعرفة)، وعند أرسطو تشمل الإدراك الحسي، فيما تفيد (العلم بلا واسطة). والسمة البارزة في هذا الدليل محاولة ربط كل مصطلح بمنشئيه والمتبنين له، واستعراض تطور مفاهيمه من خلال الوقوف على وجهات النظر المتباينة، وكذلك الإشارة إلى تداخل الحقول، وتنازع المصطلح ومفاهيمه في كل حقل، ولكنهما ينهمكان في (التاريخية) و(التحولية)، دون تحرير الدلالة، وتحديد المفهوم الألصق. وحين لا يريدان أو لا يملكان القدرة على التعبير عن المفهوم فإن ذلك يحملهما على تكرير مقولات لا تقرب المصطلح. نجد ذلك في حديثهما عن المصطلح (الذرائعية الجديدة) ص 167. والمؤلفان لا يلتزمان علامات الترقيم، وحين ينقلان نصاً لا يحصرانه بالأقواس، وقد لا يحيلان إلى مصدره، وإن كانت طبيعة المعاجم الاختصار والتركيز، مما يستدعي الاستغناء عن الإحالة، غير أنهما فيما يكتبان يتسمان بالترهل والاستطراد في كثير من الأحوال، ولو أنهما اعتمدا التكثيف والتركيز لكنا تجاوزنا عدم استكمال متطلبات التأليف المنهجي، وبخاصة أن المؤلفين أكاديميان يعرفان حق الشكل الكتابي، وما تستدعيه صناعة الكتاب الحديث، وهذه الملاحظات تبدو في أماكن كثيرة، ولك أنا تراها في حديثهما عن (النقد الماركسي) ص 323. ويبدو لي أن المؤلفين يحرصان على تغييب الذات، معتمدين على المرجعيات في تحرير المسائل، وكنت أود لو استوعبا الظاهرة، وقدماها وفق رؤيتهما، وبخاصة أنهما قدما دراسات، ولم يقدما تعاريف، فالدليل ليس معجماً، وليس موسوعة، إنه مجموعة مقالات ذات عناوين، خذ على ذلك حديثهما عن (موت المؤلف) و(موت المؤلف: محاذير)، لقد جاء ما كتباه على شكل مقالة مكثفة غير منهجية. ولأن المفترض أن تكون المعاجم والموسوعات تعليمية توصيلية فإن المؤلفين لم يتوفرا على هذه اللغة، ذلك أن القارئ الباحث عن الخلاصات والنتائج يواجه بلغة عصية، لا في مفرداتها، ولا في تراكيبها، ولكن في التوائها، وطول جملها، واستهلالاتها التي قد تشتغل ب(التاريخية) أو ب(التحولية)، وقد يكون الاستطراد والترهل من أسباب الإبطاء في العملية التوصيلية. ولهذا فالكتاب عمل معرفي متعال، لا يضع في حسابه مهمة التوصيل، بقدر ما يضع في حسابه الاستقصاء الذي قد لا يتطلبه الموقف. والعيب اللغوي مرتبط بالمهمة التي ينهض بها المؤلفان، ولو أن الكتاب عمل لا يحمل مهمة التوصيل لما كان على لغته أي مأخذ. والمؤلفان تحدثا عما يمكن تسميته بقضايا الأدب الحديث، وهناك من تحدث عن القضايا الأكثر حضوراً، ومنهم من توسع في ذلك، نجد ذلك عند الدكتور (نبيل راغب) في كتابه (موسوعة الإبداع الأدبي). ولست أشك أنهما بذلا جهوداً مضنية، ورجعا إلى كتب عربية، وأخرى أجنبية، واجتهدا في تنقيح المعلومات واستكمال متطلبات كل مصطلح، ولو أنهما أوجزا المعلومة، وركزا على تحرير المصطلح بتعريف قواعدي موجز، ثم مضيا للرصد التاريخي واستعراض وجهات النظر المثرية للموضوع لكنا أضفنا إلى المكتبة العربية معجماً متميزاً. ولعل الطريق أمامهما للإيجاز والإضافة. وكتابهما في طبعته الثالثة يسبق زمنه، إذا قيس بالطبعة الأولى. وخلاصة القول إن المؤلفين يمتلكان ثقافة واسعة وعمقاً معرفياً، و(دليل الناقد الأدبي) مهما قصر عن تطلعاتنا فإنه عمل متميز نفر إليه كلما حزبنا أمر، وقدرهما أن (زامر الحي لا يطرب)، فلهما من كل منصف معترف بالفضل لأهله الشكر على هذه الإضافة التي ترقب المزيد. |
متمردون لوجوه شتى..!! 1-2
بقلم: د. حسن بن فهد الهويمل ما زلت أذكر أمشاجاً من قراءات سلفت لكتابين رصدا، أحوال طائفة من المتمردين، وتقصيا دوافعهم والنتائج التي توصلوا إليها هما: - (متمردون لوجه الله) ل (محمود عوض). - و(متمردون أدباء وفنانون) ل (محمود السمرة). - وثالث لا ألم بمحتواه، لطول الأمد (لماذا يتمرد البشر)، تأليف (تيد روبرت غير)، وترجمة (مركز الخليج للأبحاث). تناول الأول طائفة من العلماء والفقهاء في القديم والحديث، ك (ابن حزم) الذي تمرد على القياس وهو من مسائل الجمهور، و(ابن تيمية) الذي تمرد على كثير من الملل والنحل، و(الطهطاوي) الذي تمرد على الجمود والتخلف، و(الأفغاني) الذي تمرد على النظم المواطئة للاستعمار، و(النديم) الذي تمرد على الاستبداد. فيما تناول الثاني أزمة الإنسان في الأدب المعاصر، بوصفها أرضية للتمرد والغضب. وكان تركيزه على أدباء غربيين، ولم يلتفت إلى غضب عميق، واكب التراث العربي، تمثل في إبداعات عدد من الشعراء، وفي مقدمتهم (الصعاليك)، وفي كتابات عدد من الأدباء، وفي مقدمتهم (أبو حيان). وإذ سماهم (محمود السمرة) بالمتمردين، فقد سماهم (إداورد كار) ب (الجيل الخائب) في كتاب يحمل الاسم ذاته. وكتاب (كار) يصور حياة المنفيين (الرومانتيكيين) الذين هربوا من روسيا، حين ضُيِّق على أفكارهم التحررية. ولما استفاضت ظاهرة التمرد في العقد الثالث من القرن الخامس عشر عبر المشاهد الثقافية كلها وبأنواع شتى، ولوجوه مختلفة، ومن رويبضات لا تحسن القول ولا تبادر الفعْل، عنَّ لي الحديث عن تلك الظاهرة التي جاءت تداعياتها من التراث والمعاصرة. وتداعي الأفكار للحديث عن هذا الصنف المتشابه وغير المتشابه من الناس، يتطلب التقصي والتأني، والتحسس عن الدوافع، وتفادي التحامل على أي خطاب قبل الاستبانة والتثبت. ومكمن الأهمية أن لكل متمرد دوافعه ومقاصده وأثره فيمن حوله: سلباً أو إيجاباً. وفي الحديث المشهور: (إنما الأعمال بالنيات). ولأهمية النوايا عمد العلماء إلى الاستهلال به في مؤلفاتهم. ومن الضروري التحري لمعرفة الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، فاستكناه الدوافع أدعى للتأييد أو الامتناع أو المواجهة، وذلك أخطر الحالات. وتقلب الأحوال وتسارع الإيقاع في المشاهد قد لا يمكن من التثبت، والقول على بينة من الأمر. فالدهماء إذا سمعوا هيعة انطلقت إليها، و(الشنفرى) استهجن الاهتياج الأعزل، وهو دأب أغيلمة الصحافة ومثقفي السماع. ومن الصعوبة والخطورة أنه لا يمكن أن يكون هناك تمرد إلا في ظل سلطة قائمة يزع الله بها ما لا يزع بالقرآن، لها ثوابتها التي لا تساوم عليها، وعندها فسح من التحولات التي لا تمانع من التفاوض حولها. والكارثة أن المتعالمين قد لا يميزون بين الثوابت والمتغيرات، وأن غَير المكتوين بنار الفتن لا يدركون خطورة الفراغات الدستورية والاضطرابات الفكرية. والمتمردون كما الفتن التي لا تصيبن الذين ظلموا خاصة، وذلك سر الأهمية، ومكمن الخطورة، فكل متمرد إما معتق أو موبق. والتجمعات الإنسانية بوصفها نواة المجتمع المدني تتوسل بسلطات ثلاث، لا يستقيم أمرها من دون تقاسمها للسلطة، أو اشتراكها فيها بأقدار متساوية أو متفاوتة. ومع الضرورة الملحة لهذا النوع من السلطات، لحمل التجمع الإنساني على ما يحييه ويحميه، ويدرأ عنه الأخطار المحدقة، فإن هذه التجمعات لا تنفك من متمردين، يجددون أو يخربون، يحسنون أو يسيئون. وهكذا الحياة تداول وتدافع، عمار أو دمار. والسلطات نفسها تراوح بين سلطة العدل والإحسان، أو تسلط الفحشاء والمنكر والبغي، كما أنها تراوح في استكناه ذاتها بين التفسير الأسطوري أو الخرافي أو التأويل العقلي المحيل، وفي الأقل تتمثل المقاصد، وتَعْلم التأويل. تلك السلطات الثلاث المتمثلة في: (الدين) و(السياسة) و(المجتمع) تتعرض لأخطاء فادحة في المفهوم أو في الممارسة، وفي ظل ذلك تتعدد جبهات المواجهة، وتتبادل مراكز القوى. ف (الدين) بوصفه نزعة فطرية لا محيد عنه، قد يفهم على غير مراد المشرِّع، لما يكتنفه من نظريات معرفية، تستمد قراءتها من مذاهب شتى. والديانات كلها قد تحقق النصر والفتح، ويدخل الناس فيها أفواجاً، ثم تكون غريبة كما بدأت، حين تنشق على نفسها، وتتحول إلى فرق مُحقّة أو مبطلة، كلها في النار إلى واحدة، كما أخبر الهادي الأمين. وما من افتراق إلا وراءه متمرد يقرأ الأشياء وفق إمكاناته، أو على ضوء انتمائه. لقد تُركت الأمة على المحجة البيضاء، ولكن الزائغين الهالكين المهلكين يحيدون عنها، في ظل قراءات محكومة بنظريات معرفية تند عما كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. والملم بنظريات المعرفة والتأويل والتلقي لا يستبعد الفسوق عن أمر الله. وكل قراءة ترى نفسها الأحق في التصور، والأجدر بالامتثال. فهي في نظر المتمرد أو المجتهد غير المؤهل صدق لا يحتمل الخطأ، وغيرها كذب لا يحتمل الصدق. وهنا يتحكم الإيمان المطلق لا مطلق الإيمان بالقضايا المصيرية، فيكون التمرد لوجه القناعة العصية على الحلحلة. وقد يتخذ المتمردون (الدين) مطية يَعْدون به ويُعِدُّون العدة، ويستأثرون بالمغنم دون المغرم، ويستعبدون ولا يتعبدون، ويصادرون ولا يحاورون. ونواياهم المردية تحركها دنيا يُصيبونها أو مجد يباهون به، وخطابهم يحدوه فهم سقيم، وتأويل باطل. والكارثة حين لا يستبين العامة الصادق من الكاذب، فيكون تمردها لوجه الأدعياء النفعيين. وادعاء الدين لتحقيق المطامع معوقٌ للأمة، ومعمقٌ للشقاق، ومهيئ لفتنة عمياء، لا تبقي ولا تذر. و(السياسة) أدهى وأمرُّ، فهي تراوح بين الجور والعدل، والوسطية والتطرف، وقد لا يحسن أربابها التصرف، فيكونون عبئاً على الأمة، فهي بيت الداء، ومصدر الشفاء، وفن الممكن، وما أضاع الفرص إلا كذابون يقولون ما لا يفعلون. و(الرأي العام) حصيد المنجلين، وهو بفعل السلطتين الأوليين قد يصاغ على غير هدى ولا كتاب منير، فهو الظالم والمظلوم. وقد يُسلب حقه المشروع في الحرية والسلوك، فيمارس الملاحقة لأعدائه أو التمرد عليهم. وأياً ما كان الأمر فإن التاريخ حافل بالمتمردين لوجوه كثيرة، وفرادة التنفذ مصدر كل شر، ومن ثم لا بد من مأسسة السلطات الثلاث، لتمارس حقها، وتؤدي واجبها. ولقد عرف التاريخ السياسي والفكري العالمي والإسلامي والعربي القديم والحديث عدداً من الثورات وحركات التمرد، كان من أهمها وأخطرها في التاريخ الإسلامي ثورتا (القرامطة) و(الزنوج)، ولكنه لم يحفل بمصطلحي (الثورة) و(التمرد)، كما حفل بهما التاريخ السياسي والفكري الحديث. ولقد قلت من قبل: إن (الثورة الفرنسية) هي أم الثورات، مثلما كانت الخمرة أم الخبائث - وأرجو ألا نتذكر (أم المعارك) - فالأمهات كثر، ولكنها كأم (الحُطيئة) غربال وكانون. وأذكر أنني عندما قرأت كتاب (تاريخ الثورة الفرنسية) تبين لي أنها بدأت دموية همجية، وكنا نعدها من قبل من خيار الثورات العالمية، لأنها - وحسب التضليل الإعلامي - أم (الديمقراطية) و(التنوير) و(العلمية) و(العلمنة) التي أنقذت (أوربا) من ظلمة القرون الوسطى. ومع أن هذه الثورة بكل ما صاحبها من أوضار أفضت إلى نظم حضارية فوضها الغرب، فأقالت عثرته، ومكنت له في الأرض، فإن التجربة الثورية العربية باءت بالفشل الذريع، ولما تزل تراوح في مكانها مكرسة خطاب الشجب والتخوين، والتصدير والمفاضلة، مستجيبة لحضارة الاستكبار المادي. ولما أبديتُ استغرابي من هذه الدعاوى الزائفة عن أم الثورات، تصور بعضهم أني محكوم بخطاب سلفي منغلق على نفسه. ولم أستغرب، فكل ذهنية هشة يخترقها الإعلام الموجه، فيصْنع خطابها على عينه، ومن الصعوبة بمكان إعتاقها من موبقاته، والأخذ بيدها إلى سوء السبيل. وما يقال عن الحركات المشبوهة والثورات الهدامة يقال عن الأفراد. فكم من عميل لمَّعه الإعلام، ونفخه اللاعبون، حتى أغشى به العيون، وسد به الآفاق، وأغطش الحقائق، وهو في الحقيقة من أتفه الناس وأقلهم زكاء وذكاء ودراية. والمغامرة تختلف عن التمرد، كما أن الإقدام يختلف عن الاندفاع، فالتاريخ حافل بالمتهورين والمغامرين الذين يظنهم الناس من المتمردين على بينة من أمرهم، وعلى جانب من الاستقلالية في خطابهم. وكم من متمرد يعد نفسه من الأخيار، وما هو في حقيقة الأمر إلا كمهاجر (أم قيس). والتاريخ قد يخلط الأوراق، فلا يفرق بين متمرد وثائر ومتهور، وهو في تحديد النوايا أكثر خلطاً وتوهيماً. والمتابع لسير أعلام النبلاء، يقف على مبادرات تسبق زمنها، بحيث يوجس الرأي العام في نفسه خيفة منها، وقد يجد المسرون بالموافقة أن من مصلحتهم استثمار صيحة العامة، إما للكسب الرخيص أو للتشفي البغيض، إذ لا يسلم جسد من حسد. والسابقون لزمنهم قد لا يملكون القدرة على الإقناع، وبث الطمأنينة والثقة في النفوس، وقد تأخذهم الثقة بمشروعية مبادراتهم إلى الصدع بالمعتقد، دون اكتراث باتجاه الرأي العام، وهنا يكون النصر للقوة والمكر والترصد. ولقد استعاذ (عمر) - رضي الله عنه - من جلد الفاسق وغفلة المؤمن، كما استعاذ العلماء من (صيحة العامة). وتاريخ العامة عبر العصور يؤكد أن كثيراً من السابقين لزمنهم ابتلعتهم الصيحات المتفلتة على الضوابط كلها. ومثل السابقين لزمنهم (الغرباء) و(الجماهيريون)، فقد تمر بالعلماء والمفكرين والأدباء ظروف ضاغطة تحملهم على خيار التمرد، وبخاصة حين تعنف السلطة السياسية في حمل العامة والخاصة على مذهب طارئ، ليست له جذور فكرية، وليس له عمق بشري. فصراع الأعراق قد يؤدي إلى صراع الأفكار، ف (الرشيد) أنجب (الأمين) من أم عربية، و(المأمون) من أم فارسية، وكل (أقلية عرقية) تفعل المستحيل لبقائها قوية متنفذة. وهكذا فعل (البرامكة)، إذ تعهدوا (المأمون) وأحاطوه بالعلماء والأدباء والفلاسفة وعلماء الكلام، ليكون أهلاً للخلافة، فيما أحاطوا (الأمين) بالمجان والظرفاء وأهل السماجات ليقتله الترف وتلهيه الشهوات. ولقد أدركت (زبيدة) أبعاد تلك المؤامرة، فكان تخطيطها المحكم والقاتل ل (البرامكة)، ولكن العاقبة كانت ل (المأمون) الذي حمل الناس على مذهب (الاعتزال) متأثراً بمحيطه المعرفي، الأمر الذي دفع علماء السلف على التمرد والمواجهة لوجه الله، فكانت محنة (ابن حنبل) وموت (ابن نوح) والتضييق على السلفية. ف (ابن حنبل) لم يكن مهيئاً للتمرد، حتى حين كان مغلول الأيدي، بل كان موالياً ومذعناً للخلافة وداعياً للخليفة، ويقال مثل ذلك عن (ابن تيمية). فالظروف الضاغطة هي التي حملت على التمرد، لرد الظلم، ومنع التحكم، وليس الاختيار. وكثير من الدعاة والمصلحين يجدون أنفسهم في طريق مسدود، فلا يجدون بداً من التمرد القولي أو العملي. وإذا كان الإحباط وقود التمرد، فإن (الجماهيرية) وقود مماثل على الرغم من تناقضهما، فقد يكثر الأشياع والأتباع، فيفرضون أسلوب الأداء العنيف والمواجهة الأعنف، بحيث يسلبون شيخهم فرصة التأمل ومعالجة الأمور بالتي هي أحسن. وكم من مُصْلح ألغى رؤيته أمام الأتباع، لأنه في ظل نشوة التألق أعطى جرعات زائدة عن المطلوب، فكان التمرد لوجه العامة، وليس لوجه الحق، وحين لا يكون بد من التراجع يفر المتمرد بجلده، تاركاً الأشياع في العراء. وعلى ذات الوتيرة يكون الصراع السياسي، فكم من لاعب يمارس التعبئة الذهنية، بحيث تكون أكبر من حجم اللعبة السياسية العارضة، فيكون التمرد جماهيرياً، وليس فردياً. وقراءة الأحداث المعاصرة تقف بذوي الأبصار والبصائر على أخطاء فادحة، تكشف عن تقصير في تقدير الجرعة الدعائية. وما نقمت الجماهير المخدوعة من أرباب اللعب، إلا أنها صيغت على رؤية مؤقتة، لم يحسن الأرباب تفكيكها، بعد انتهاء اللعبة. وأستطيع أن أضرب الأمثال بسياسة توازن القوى التي لجأ إليها (أنور السادات)، وب (الجهاد الأفغاني) الذي حرك العواطف الجهادية، فكان ذهاب (السادات) في حادث المنصة على يد من صنع، وكانت رماية (البرجين) وهدمهما على يد فلول المجاهدين، وما زال المراقبون يتخبطون، كما تخبط المؤرخون حول كثير من الأحداث الفادحة، وما هي إلا يد أوْكت وفم نفخ. |
متمردون لوجوه شتى..! 2 -2
د. حسن بن فهد الهويمل وأي تمرد قولي أو فعلي يحال إلى حواضن، تُنشئها الأوضاع أو يجلبها الأتباع، ومن جَهَلَها فكأنّما وتر أمنه واستقراره، وفي كلِّ يوم تطلع فيه الشمس نسمع عن تمرد عنيف ورد فعل أعنف، تلفظه فوَّهات المدافع أو أفواه الرجال، وتفاهة التمرد الأكثر إيذاءً، والأضعف جنداً ما نسمعه أو نقرؤه عبر وسائل الإعلام من أصداء لصائحين محكيين. فمن الناس من يكون تمردهم اجتراراً لقضايا مهترئة، ليس لهم فيها من أثر إلاّ التسخين لما غَبَّ من طبيخ. فأصحاب هذه الإثارات لم يكونوا أهل مشاريع فكرية، ولا أصحاب قضايا مصيرية، وإنّما هم أصداء يأوِّبون الصوت، وأجسام يعكسون الضوء، وهم كما يقول (بتلر): (ثمة رجال يولدون أذناباً، ومحاولة جعلهم رؤوساً ضرب من العبث). وهؤلاء الأذناب لا يلوون على معرفة عميقة ولا يتوفرون على تجربة ناجحة، وليس لهم أشياع ولا أتباع، يتولون إشاعة قولهم، وحماية ساقتهم. وليس بمستبعد أن يكون اللاعبون الكبار في بعض المواقف أحوج إلى أذناب الثعالب منهم إلى براثن الأسود، ومن ثم لا يجدون بداً من النفخ في هذا النوع من البالونات، وتمرد هؤلاء يكون لوجوه كثيرة، بحيث يكون لكلِّ تمرد وجه جديد يوفض إليه كما النُّصب، وكلّ همّ هذا الصنف المزعج الشغب والإثارة، لضمان بقائهم في دائرة الضوء الزائف. ومن إضاعة الجهد والوقت نزيف الأحبار لصدهم عما هم فيه، إذ من الحكمة ألاّ يُعبأ بهم، لأنّ المرور الكريم بمثلهم كفيل بتجفيف مستنقعاتهم. والمشهد الإعلامي مليء بهذا الصنف المخف من كلِّ شيء. والإشكالية حين يكون البعض من هذا الصنف محسوباً بمظهره أو بعلمه أو بتخصصه على مدرسة فكرية تتسم بالوسطية والتوازن، والتأصيل والمرجعية، أمّا حين لا يكون معروف الانتماء بمظهره أو بعلمه أو بتخصصه فالأمر جد بسيط. ولا تخلو أي مرحلة تاريخية من متمرِّدين لوجه الرحمن، أو لوجه الشيطان، أو لوجه الدينار، أو لوجه الوجاهة. ومكمن الخطورة في التباس الأمور والتياث الكلم، وما من متمرد إلاّ هو على بيِّنة من أمره، يعرف لوجه من يتمرد، والنوايا لا يسبر أغوارها إلاّ بارئها، ولو عرفها الأشياع والأتباع معرفة المتمرد بها لما كان تناحر ولا صدام. والمتمردون لوجه الكسب المادي الرخيص يتعمّدون الاستفزاز بسوء الأدب، وكشف المستور. والسرديون يقدمون غيرهم إلى بنيات الطريق، وكم سيئت وجوه العقلاء العالمين من هراء سردي يتخطفه القراء في طبعته السادسة، لا لشيء إلاّ لأنّه تمرد على القيم وصدم للمشاعر. وكلُّ متمرد إمّا أن يكون في مقدمة الفتن يرود لها الطريق، أو في ساقتها يذودها عن القوم. وإشكالية الفتن أنّها مجهولة عند الإقبال، معروفة عند الإدبار، وما يوقظها من مرقدها إلاّ الذين هم أراذل القوم، وليس شرطاً أن يكون كلُّ المتمردين من علية القوم: علماً وعقلاً، فالشرفاء يفكرون ويقدرون، والأشرار يُقتلون حيث يقدِّرون. والمتمرد حين يكون تمرده لوجوه متعدِّدة، يكون ذا مستويات متعدِّدة، فقد يكون تمرد فكر لا تقدر السلطة على ضبط إيقاعه، وقد يكون تمرداً حركياً لا تستطيع أجهزة الأمن على قمع اعتدائه، وقد يبلغ ذروته فيكون تمرداً مسلّحاً يألف الناس معه حمامات الدم. فهذا (العراق) و(الصومال) و(أفغانستان) وبقاع شتى تتبادل القبس كما لو كان جذوة من نار. والعالم بأسره عبر تاريخه الطويل يمر بهذه الأنواع وتلك المستويات، وما من متمرد إلاّ هو آخذ بناصية النوايا: الحسنة أو السيئة، وهي كما قيل خطوات يمشيها من كُتبت عليه، فإمّا أن تبلغ الغاية أو تقعد دون ذلك. ولسنا بصدد التزكية أو التخوين، ولكننا نقرأ تأريخ الأمم والجماعات والأفراد، ونقر ما اطمأنت إليه النفس، ونود أن نكون ممن يوعظ بغيره، ولا يوعظ به غيره. وإذا كان القسط الأوفى في ظاهرة التمرد للعلماء والمفكرين والمجدِّدين فإنّ المبدعين أقل تمرداً وأعنف لغةً، ولكنه تمرد لا يحدو الجماهير بمثل ما يحدوهم المفكرون والعلماء والمصلحون، وأخطر الأنواع ما كان مصنوعاً لأداء دور يعوق مسيرة الخير، ويزرع الشوك. ولقد عُرف التمرد الإبداعي عند (الصعاليك) من قبل، ثم اندلقت أقتاب الشعوب حين دخل الناس في دين الله أفواجاً، واستفحلت ظواهر الشعوبية والزندقة والمجون، وعُرف من الشعراء من أوغل في ذلك، فكان (بشار بن برد) و(أبو نواس) وسائر المجان والمتهتكين من الشعراء الذين تقصى أخبارهم (ابن المعتز) و(الأصفهاني). ثم جاء تمرد من نوع آخر عند (المتنبي) كان وقوده جنون العظمة، وتحدى العوائق والإحباطات المتلاحقة. أمّا التمرد الفكري عند المبدعين فكان رائده (أبا العلاء المعري). ولكلِّ قوم أو فترة متمردون هادون أو مُضلون. وخير الفترات من تكون ولاداتها ميسرة ولا مبتسرة، وأطيافها متعاذرة لا متنافرة، وخطاباتها متناغمة لا متصادمة. ومكمن الخطورة في العصر الحديث سهولة الاتصال وسرعته، واستغلال (الليبرالية) في حرية الدين والسلوك والتعبير، ومن ثم استفحل تمرد القول، بحيث اقتسم الظاهرة الشعراء والسرديون، والأدباء والمفكرون، والساسة والإعلاميون وسائر الأحزاب الطائفية والقومية. ولقد كانت تمرداتهم لوجوه كثيرة، ليست على شاكلة ما سلف، وكان في مقدمة الوجوه (المد الثوري) و(المد الماركسي) و(المد التنويري) و(الطائفية) و(القومية)، ومجمع الوجوه رفض السلطات الثلاث (الدين) و(السلطان) و(المجتمع)، ومخاضات العصر المتواصلة أطفأت حدّة التأثُّر والتأثير، وجعلت العامة يمرون بها دون اكتراث. وللروائيين تمرد متعدد الوجوه، لقد تمرد عليتهم على الدين، فكان الانحراف الفكري، وتمردوا على المجتمع، فكان السقوط الأخلاقي، وتمردوا على السلطة فكانت الفوضى وضعف الوازع السلطاني، فجاءت الأعمال الروائية متأدلجة لوجه الفوضى الوجودية و(الليبرالية) الفوضوية. وكان هذا الحراك يملك إمكانيات التمرد من لغة متعالية وفن رفيع، ولكنه لا يملك مشروعية الفعل، ولقد لحق بكبار المتمردين من عمالقة الروائيين أوغاد تافهون، لا يملكون إمكانيات إبداعية، ولا يتوفرون على أدنى مشروعية للفعل. والراصدون لهذا اللون من التمرد يذكرون ما أحدثه (محفوظ) و(حيدر) و(حامد) و(شكري) وآخرون لم يلحقوا بهم في الإبداع، وإنّما تماهوا معهم في السقوط والانحراف. أمّا في مجال الفكر السياسي فحدث ولا حرج، والمشاهد مليئة بالمتمردين لوجوه متعدِّدة. ولقد كان متكأ أصناف المتمردين حرية الرأي التي لم تؤخذ بحقها. وستظل المشاهد مسرحاً لبغات الطير، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وليس تمرد المفكرين والعلماء والصحفيين بأقل من تمرد الساسة والمصلحين، ولعلّنا نذكر على سبيل المثال أنواعاً من عمليات التمرد الفكري المتفاونة في دركاتها وآثارها. فالدكتور (عبد الصبور شاهين) الذي قاد حملة عنيفة على المتمرد لوجه العقل الحر (نصر حامد أبو زيد) تمرد هو الآخر على المسلّمات، حيث ألّف كتاب (أبونا آدم) فأحدث ضجة في وسطه الفكري الذي ينتمي إليه، الأمر الذي حمل المتمردين لوجه العقل الحر على الشماتة. وكتاب (شاهين) الذي أتممت قراءته بين السماء والأرض من (القاهرة) إلى (الرياض) لا ينتمي إلى فكر، ولا يناصر نحلة، ولكنها فكرة فجّة، اجتاحت مخيلته فحوّلها من الخيال إلى الخبال، ومن الإخفاء إلى الإبداء، فجاءت رؤية ليست في العير ولا في النفير، وأحسب أنّها أطفأت ما اكتسبه من نور. وقد أضافها الخصوم إلى موقفه المشبوه من الاقتصاد الإسلامي الذي خيّب ظنه، ولم تنج سمعته. و(شاهين) الأمكن في عالم الفكر الإسلامي المعاصر، تعرّض لضربات موجعة، قد تكون مدبرة لتقليص شعبيته، وتقليص أثره بوصفه خطيب جمعة يحرِّك الشارع الإسلامي. وتجربتي مع الدعاة تؤكد أنّ من يؤجِّجون الشارع براجماتهم البلاغية يستهلكون ترسانتهم في وقت قياسي، ويحققون مكتسبات بوقت قياسي أيضاً، ولكنهم لا يحافظون على تلك المكتسبات، فهم كالمتظاهرين، يلتهبون بسرعة، ثم يخبو أوارهم. أمّا (نصر حامد أبو زيد) فتمرده لوجه العقل المتعالي فوق النص معيداً إلى الأذهان الخطاب الاعتزالي الذي أصبح من أكثر الخطابات حضوراً وإثارة، وهو وإن استعاد بعض آراء المعتزلة إلاّ أنّه أبعد النجعة، وأتى بما لم يأت به سلفه، وحجّته الخطيرة التي أردته أنّ (القرآن) تأنسن حين تلبس باللسان. فالقرآن كلام الله يوم أن كان خارج اللغة في (اللوح المحفوظ)، وحين تلبسته اللغة أو تلبسها أصبح محكوماً بضوابطها ودلالاتها، ولقد كان لآرائه الفجة أثرها في تحريك الوسط العلمي. والإشكالية تكمن في تطرُّف الفئتين عند تفنيد وجهة نظر الآخر. (أبو زيد) أوغل في طيشه، والمتصدُّون له أوغلوا في تكفيره. والحكمة تقول الرأي كالضيف، يكرَّم ولا يتحكَّم، والمنحرف كالمريض، يٌتلطف معه ولا يٌطاع، والخطأ في إصدار الحكم قبل المحاكمة، وفي ذلك تقديم للعربة على الحصان، وكان الأهدى والأجدى أن تحرر المسائل، وتحدد الانتماءات، ثم تؤخذ القضية من أطرافها. لقد أنزل عليه حكم الردّة والإلحاد قبل جر قدمه للمصير إلى الحكم دون إصداره، والذي خلط الأوراق وفوّت فرصة الجدل الموضوعي إصرار كل فئة على رأيها، ودخول انتهازيين استغلوا المواقف. لقد تراجع سلفه (طه حسين) وأذعن للحكم، متوسلاً بالتأول، فيما أصر (أبو زيد) على خطيئته، فكان النفاذ بجلده إلى جامعات تؤوي المحدثين. ومن قبل أولئك رأس الهدامين (القصيمي)، لقد كان سلفياً ينافح عن أهل السنّة والجماعة، ولم تكن منافحته هوجاء ولا عاطفية، وإنّما كانت عن علم عميق ومعرفة بأصول المذاهب، وبين عشيّة وضحاها أخذه طائف التمرد العنيف، فكان أن فسق عن أمر ربه، وخاض وحل الهدم والإلحاد الذي لم يوافقه عليه أصحاب المذاهب المادية والإلحادية. ذلك أنّ لكلِّ ملحد مناطة، ولكلِّ متمرد وجهته. أمّا (القصيمي) فلم يكن له مناط، ولم تكن له وجهة يوليها، فكان من الهدامين الذين يتوسلون بكلِّ مذهب، لهدم ما سواه، ثم يعمدون لهدم المستعان به بآلية ما سبق هدمه، وتلك جدلية رعناء، لم تكن لها سابقة ولا لاحقة. ولهذا نبذه العلماء والمفكرون والساسة، وعاش غريباً ومات غريباً، وظلّت كتبه متداولة على أضيق نطاق لعجزها عن الإقناع، واتسامها بإسهاب كلامي ممل. ولو ذهبنا ننقب في أرض الله الواسعة عن طوائف المتمردين، لما كان لنا أن نؤوب، والمأخذ المعرفي والموقفي أن الذين يتصدَّرون الوسائل الإعلامية يؤبنون المتمردين لوجه الشيطان بعد هلاكهم. وتظل راية التمرد تتلقّاها الأجيال باليمين، وتظل الشعوب المغلوبة تدفع الثمن من دمائها وأموالها وأمنها. بقي أن أقول: - من عنده نعمة فليرعها، فإنّ المراء يزيل النعم، والأُمّة العربية والإسلامية مستهدفة، ومن الخير لها أن تتمترس خلف التعاذر والتعايش والتصالح حتى يأتي الله بنصره أو أمر من عنده. |
الفكر التصالحي في خطاب عبده..! 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل يظن البعض أن مصطلح (الخطاب) كأي مصطلح متداول من المصطلحات الغربية المترجمة، وأن الوعي العربي لم يبلغ الرّشد، وأن الثقافة العربية ثقافة استهلاكية، لا ترهص للظواهر الحديثة، ولا تؤسس للمصطلحات المعاصرة. وأحسب أننا نغمط التراث العربي حقه، وبخاصة حين نولي وجوهنا شطر الحضارة الغربية في كل ما نحن بحاجة إليه من مصطلحات تسد الرمق في كافة المعارف المتداولة. ويقيني أن التراث الإسلامي أسس لكثير من المفاهيم الحديثة عرفها، وعرّف بها المنصفون من المستشرقين. وهذا التنبؤ لا يحفز على المقاطعة، ولا يغري بالاستغناء، ولا يوقع في مأزق المفاضلة والتصدير، وإنما يوجه إلى الأخذ عن الآخر بمقدار، ويشيع الشعور بالندية، ويحرض على التفاعل الحضاري، ويحذر من الانفعال غير المحسوب في القبول أو الرفض. وأذكر أنني اشتركت قبل عقدين في ندوة أدبية نظمتها إحدى مؤسساتنا الثقافية عن تراثنا النقدي، وكان بعض المؤتمرين من أساطين الحداثوية كالدكتور (كمال أبو ديب)، وكنت وبحثي نشكل نشازاً في هذا السياق، وبالذات حين بحثت في الربط بين ظواهر النقد الحديث وما يقابلها في التراث النقدي القديم. ف(الحداثويون) جبلوا على نفي القديم والتقليل من شأنه، واحتقار الذات، والتباهي بالآخر، ولم يكن بمقدور أحد منهم أن يتفسح للتراث العربي في مشاهد الأدب والنقد، ليأخذ مكانه الطبيعي، ولا أن يذكر محاسنه حين قطع بموته، وما مروا من حضارة الهيمنة إلا ليعلموا مفرداتها، وينفوا تراثهم، وإن ذكروه فبسوء. ومصطلح (الخطاب) متداول عند (الألسنيين) المحدثين، بوصفه مجمل النص لا جزئياته، وهو كذلك على مستوى الأفكار والحركات، إذ يعني مجمل الفعل لا جزئياته. وتراثنا العربي يعطي هذا المصطلح مفهوما مغايرا للمدلول اللغوي، جاء ذلك تلميحا في كتاب (الكليات) ل(أبي البقاء الكفوي ت 1094ه) أما مدلوله اللغوي فإنه يعني: (الكلام الذي يقصد به الإفهام)، وقد التبس هذا المفهوم على (علماء الكلام) حين يوصف القرآن به، حيث أثار كثيرا من التساؤلات حول الحدث والأزلية، وهو اختلاف واكب الذكر الحكيم منذ أن استفحلت قضية (خلق القرآن) بين (المعتزلة) و(أهل السنة والجماعة). ومرادنا من كلمة (الخطاب) هنا (جماع الحركة الدعوية وخصوصياتها وأهدافها). وأستطيع أن أقول انه الشرعة والمنهاج الذي يتبناه المفكر أو المصلح، فهو بإزاء الماهية بكل أجزائها. وما نود تقصيه في فكر المصلح (محمد عبده 1849 - 1905م) نزعة المصالحة والتسامح والجنوح إلى الحوار الحضاري، وميله إلى الاشتغال في القواسم المشتركة بين الحضارات المهيمنة. وليس يعنينا بعد ذلك ما يخالف به سائر الخطابات السالفة أو اللاحقة، كما لا يعنينا ما يؤاخذ به من سائر المفكرين. إن هدفنا أن نثبت أثر الجنوح للسلم، واحترام الآخر في الحوار الحضاري، وهي السمة التي يتصف بها فكر (محمد عبده) بوصفه يعيش الوسطية بين (الطهطاوي) و(رشيد رضا). ولكي لا أتوسع في البحث، فقد جعلت متكئي في استجلاء نزعة (المصالحة) في خطابه على كتابين لعلمين من أعلام الفكر والفلسفة في العصر الحديث هما: الدكتور عثمان أمين، والأستاذ عباس محمود العقاد. ف(أمين) جلّى بعده الفلسفي ونزوعه الروحي، و(العقاد) جلّى بعده النفسي وفكره التطبيقي، وكلاهما متوفر على دراية ورواية مكنتاهما من تقصي أحوال المصطلح. فالدكتور (أمين) ألف كتاب (رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده)، والأستاذ (العقاد) ألف كتاب (عبقري الإصلاح والتعليم الأستاذ الإمام محمد عبده). ولقد تشعبت الدراسات، وتعددت الرؤى، وقيل عن المفكر ما لا يمكن الجمع بين أطرافه، وكل دارس من قبل أو من بعد أخذ الإمام من الزاوية التي تهمه، ولكن الجميع يكادون يلتقون عند نقطة واحدة، تمثلت بالتسامح والوسطية، كما يجمعون على أهمية الأثر الذي تركه في وسطه، بسبب ما توفر عليه من تأصيل معرفي، وتجربة عميقة، وتصالح غير مخل بهدفه الأسمى، وهو إشاعة الفكر الإسلامي بالمفهوم والطريقة التي يراها. فلقد كان كما وصفه (عثمان أمين) (أصدق داع للحرية الفكرية، وأول رائد للحركة الإصلاحية)، ثم هم بعد هذا الإجماع على التسامح تتشعب بهم الطرق، وتختلف الآراء، وتتعدد المواقف. وعندما أشير إلى (المصالحة) فلست أقصد بها ما يسلكه المبهورون من استسلام مطلق، وتسليم غير مشروط، فذلك نوع من التمييع والمداهنة، وإن اتهم بها (عبده) تلميحا وتصريحا. كما أني لست معنيا بتفاصيل الحركة الإصلاحية ومدى التقائها أو افتراقها مع المذاهب الإسلامية في (الفقه الأكبر) أو في فقه الفروع، فالتقصي يستدعي التقويم الشمولي والدراسة المعمقة، وذلك غير مقدور عليه في بحث محدد، وما أقصده هنا وعيه للمرحلة التي عاشها، ومحاولته الجنوح للسلم والدفع بالتي هي أحسن، لتفادي المواجهة غير المتكافئة في العدة والعتاد، وهو الأسلوب الدعوي الذي نحن بأمس الحاجة إليه في ظل ظروفنا الراهنة، ظروف الغثائية وتداعي الأمم، وبخاصة حين تحرف العدو لإحياء الفتنة الطائفية والعرقية والإقليمية، وحقق ما يصبو إليه من مواجهة عسكرية يضرب فيها بعضنا رقاب بعض، وهو ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم. ونود الإشارة إلى أن هناك تراجعات وتنازلات، يعدها المنهزمون لوناً من اللين والرفق والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وما هي كذلك والخلط بين المفاهيم أضاع الفرص، ومكن للمهيمنين. والحركة الإصلاحية التي اعتمدها (محمد عبده) حركة ذات طابع حضاري، فهو قد عاش الاستعمار التقليدي في أوج نفوذه، وهو قد واكب حركة التغريب في عنفوان قوتها وتحرفها واستنجادها بالمبشرين والمستشرقين والمناديب، وهو في هذه المعمعة بحاجة إلى خطاب تصالحي يستطيع من خلاله أن ينهي مشروعه دون قمع أو مصادرة. ومع تسامحه فقد تعرض للقمع والنفي، ولكنه واصل كفاحه لإبلاغ دعوته التي لم تعد جاثمة في الكتب، بل كانت مفهوما متمثلا في الواقع، والمتقصي لقدرات المصلح العلمية والعملية واهتماماته، يدرك أنه جمع بين التراث والمعاصرة، وأنه شكل حركة وسطية أتيحت لها فضاءات لم تتح لغيرها، وهذا مكمن التمكن. وهو فيما أرى يمثل الانفتاح على الثقافات والقبول بتفاعلها، ولكيلا تتشعب به الطرق فقد اتخذ القرآن الكريم منطلقه، ولم يكن قرآنيا نابذاً للسنة، ولا عالما يشتغل بمعارف اللغة، وإنما كان مستلهماً للمعاني، مستبعداً تشتت الآراء. ولهذا نجد مذهبه في التفسير يقوم على العموم والتعويل على المعاني العامة والشاملة، ولم يتوان في الإشارة إلى شمولية الإسلام وعموميته. والفرق بين الشمولية والعموم أن الشمولية ترتبط بالأحكام، والعمومية ترتبط بالمحكومين، فمنطلق الأولى (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ومنطلق الثانية (هدى للعالمين). ومن الثوابت عند علماء المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة، وهذا المفهوم عمق عنده نزعة المصالحة، وتفادي الصدام الذي أعاق كثيرا من الحركات الإصلاحية ومكنه من تقديم مشروع أخلاقي إنساني تقبل به الفطر السليمة. ومتى استجابت القيم السلوكية مع الحاجة قامت الألفة واستحال الصدام المعوق لنفاذ مبادئ الدعوة. وذلك ما عمد إليه المفكر في تفسيره، إذ لم يعمد إلى التفسير العلمي أو المعرفي، وإنما استوحى القيم. وكل صاحب مشروع فكري أو دعوي ينطلق من مؤيدات مشروعه، نجد ذلك في (الظلال) ل(سيد قطب)، وفي تفسير الشيخ (عبدالرحمن الدوسري)، ونجده بشكل أوسع عند الاتجاه العقلي في التفسير، ولقد استدركت عليه شطحات ولكنها ليست بحجم شطحات (مصطفى محمود) أو (شحرور). لقد بدأت محاولاته الأولى متواضعة، تمثلت بتفسير سور أو أجزاء من القرآن الكريم، حيث فسر (سورة العصر) و(جزء عم) و(سورة الفاتحة) وهي سورة مكية تؤسس للدين، ولا تفصل، وهذا سر اهتمامه بقصار السور. ثم شرع في (تفسير القرآن الكريم) المعروف باسم (تفسير المنار) الذي بدأه ووصل به إلى الآية (125) من سورة النساء ثم أتمه تلميذه (رشيد رضا). ومنهجه في التفسير يكشف بوضوح عن نزوعه ل(المصالحة) في خطابه، فهو يعمد إلى استكناه القيم الأخلاقية الصالحة لكل زمان ومكان، وكل نحلة أو ملة تقيم مبادئها على القيم الأخلاقية وتنطلق منها. ولهذا تجده يبحث عن إيصال روح القرآن الكريم ومبادئه العامة، واستبطان قيمه المشتركة في الحضارة الإنسانية، وهذه النزعات حادت به عن جادة المفسرين الذين درجوا عليها. ولقد أشار إلى هذه النزعة التأملية في تفسيره لسورة (الفاتحة)، ولكيلا يدخل في دوامة الخلاف التي تحد من نزعة (المصالحة) عنده فقد سعى إلى تجنب مسائل الخلاف العويصة، وأخذ بوضوح المقاصد وما ظهر من المعاني في آي الذكر الحكيم، كما أنه لم يدخل في جدل مع المذاهب الإسلامية إلا بمقدار، وجل اهتمامه بالحوار الفكري مع الآخر، وهو حوار يتوسل بالعلم التجريبي والعقل الخالص، وهذا مكمن التحفظ عليه. |
الأدب الإسلامي بين خطأ الفهم .. وفهم الخطأ..! (1-2)
بقلم - د. حسن بن فهد الهويمل الذين يعرفونني حقَّ المعرفة، وهم قليلون، يعرفون أنّني رهين مصدرين: - النص. - والعقل. وأنّني طليق لا إمارة لأي مذهب عليّ، ضالتي الحق، ألتمسه في غيابة القول، مستعيناً بكلِّ آليات التأويل والتفكيك، فإذا تراءيت ما أظنها مراكبه، رميت فوق ظهورها بمجاديفي، وألقيت بيده مقاليدي. لا أقطع بالصواب، ولا أدعي العصمة، ولا أسمو فوق النقد، ولا أتحرّج من المساءلة، ولا أدل بالمعرفة، وأنا المتهجّي لأبجدياتها. وفي كلِّ مواقفي لست داعياً إلى التسمِّي بأي مصطلح، ولا الانتماء لأيِّ حزب، وإن تمثّلت خيرَ ما فيها، وكلُّ همِّي أن يسود الوفاق، وتشيع الكلمة الطيبة، ويكون الناس على بيِّنة من الأمر. وما تشابهت القضايا على المتجاذبين لأطرافها، إلاّ حين همّ بالكلام من لم يستكمل عدّته، من فهم سليم، وتصوُّر قويم، ومعرفة عميقة، وثقافة شاملة، ومنهج وآلية وخطة مناسبة. وأي اهتياج أعزل يحوِّل المشاهد إلى ملاعب جنة منبهمة. وليس بمستبعد أن يكون الابتلاء بهذا النوع من الكتبة والمتحدثين كما اشتعال النار فيما جاورت، يعرب به طيبُ عرف العود. وليست الإشكالية في ذهاب كلِّ مبتدئ بما يرى، ولكنها في نبرة الرفض الأرعن، والتلذُّذ بجلَد الذات الحرضة، والتشفِّي بإدانة الأهل والعشيرة، وتحميل الإسلام جرائر المسلمين، ولو قيد حملة الكلمة أنفسهم بالمرجعية علماً كانت أو عالماً، واحترموا التخصص، واعتمدوا المنهجية، والتزموا بالموضوعية، وحيدوا الذوات، وتخلّوا عن الجهر بالسوء، ونبذوا الادعاء والاستغناء، ولم يأنفوا من سؤال أهل الذِّكر عند العي، لحققوا بهذه الخصال الحميدة أو ببعضها تحضر الجدل، وتعقلن الفكر، وتموضع القضايا، واتضاح الرؤى. ولكن أنّى للمختصمين ذلك الخيار الحضاري، ومشاهد الفكر والأدب في عالمنا الموبوء حرام على بلابلها، حلال للطير من كلِّ جنس. ولسنا في راهننا بدعاً من الأمم، فلقد مرّ التاريخ الفكري الإنساني عامة والتاريخ الفكري الإسلامي خاصة بمحطات معتمة، وأخرى مضيئة، من إضاءتها أثرت الحضارات الإنسانية كلها، واستنارت بها الأفكار الحائرة، وهُديَ فيها العلماء إلى الطيِّب من القول، حتى أجمع المؤرِّخون على تسميتها ب(العصور الذهبية). فيما عدلت بالأُمّة عن جادّة الصواب محطاته المعتمة، حيث أُغلق باب الاجتهاد وجَمَدت المذاهب، يتوارثها القوم كما هي في نشأتها الأولى، وساد الانقياد للتقليد والتسليم للرأي غير السديد. والبون شاسع بين العمق المعرفي المحكوم بالعقل والمنهج، وبين التعصُّب المذهبي الذي يجتاله الهوى الجامح، وتحتنكه النوايا السيئة، ويخذله التسطُّح المعرفي. فحين تتغلغل المذهبية الضيقة في النفوس الوجلة من كلِّ ابتكار، ثم لا تكون رواية ولا دراية ولا زكاء ولا ذكاء، تكون الأثرة والإقصاء والتوجُّس والشحناء، والمراء المسف، والبحث عن الانتصار. وإذ لا أبرئ أحداً من هذا الداء، فإنّني لا أخصُّ أحداً بخطيئة، فالراصد الفطن يعرف القوم من لحن القول: (وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم) أمّا حين تسود المعرفة، وتشيع الحكمة، ويستضيء العقل بنور النص المقدس، ويُقمع الهوى، ولا يَدرجُ في العش إلاّ أهلُه، يكون الإيثار، وهدوء الحوار، والبحث عن الحق، ونبذ الفرقة والشقاق. وفترات الانحطاط يستفحل فيها التعصُّب والتحزُّب، ويتأله فيها الهوى، ويسبق فيها التكفير التفكير، وتتقطّع الأُمّة أمرها بينها، ولا يكون ذلك إلاّ حين يُرفع العلم بموت العلماء، ويُستغنى بالتقليد عن التجديد، وتكون الكلمة لعواطف العامة لا لعقول العلماء. وما أضرَّ بالمشاهد إلاّ الأضوائيون المستدرون لعواطف الغوغاء، ورضي الله عنه (ابن مسعود) الذي نهر من لحق به قائلاً:- (إنّه ذلّة للتابع وفتنة للمتبوع) والأشياع والأتباع نواة التمذهب والتعصُّب، وتاريخ الأفكار الإنسانية عامة لا تخلو من تلك الظواهر التي تُستترف فيها طاقات علمائها بالجدل العقيم والسفسطة البيزنطية، للتسلية أو للتلهية. والآخذون بعصم المذاهب والظواهر والتيارات ليسوا على قلب رجل واحد، ولا على مستوى معرفي متجانس، ولا على قدر من الثقافة الشاملة العميقة المتنفّذة. فمنهم من ألغى نفسه، وعطّل طاقاته، وسلم قيادهُ لِسعْدٍ المشتمل، ومنهم من شذّ في الرأي، وفارق الجماعة، وقال في النوازل بغير علم، وحمّل النصوص مالا تحتمل، بدعوة التأويل المحيل أو التفكيك المزيل. وتلك الموجات من التعصُّب المقيت وتقحم الجهلة فرّقت الكلمة، وشتتت الشمل، فكان التمجيد للمذاهب، والتصنيم للرجال، واستسمان ذوي الورم، والإيغال في ذكر المناقب أو المثالب. وحديثي عن مصطلح (الأدب الإسلامي) ليس من باب التعصُّب، وليس تكريساً للانتماء، ولا مجيئاً من المذهب بنبأ يقين، ولكنه محاولة لتصحيح الفهم، وفهم الصحيح. والمتمارون بين متلقٍّ للأخطاء، يأخذها كما جاءت، فهو صدوق لا يكذب، ولكنه غِرٌّ كريم يحفظ ما سمع، ويؤديه كما سمعه، لا يتثبت، ولا يتساءل، ولا يتعرّف على مصادر الغير. وآخرَ فهمه سقيم، يحرف الكلم من قبل أن يعقله، يتلقّى الصدق، ولا يحسن أداءه، وقد قيل:- (آفة الأخبار رواتها). والفرق بين توهُّم الفهم وسُقمه، أنّ التوهُّم يعني استيعابَ المصطلح على غير ما هو عليه، ومنشأُ التوهُّم: إمّا خطأ المصدر، أو الخلطُ بين المبادئ والممارسات. أما سقم الفهم فيعني العجزَ الذاتي، الذي لا يمكِّن من فهم الأشياء على حقيقتها، وإن لم يخطئ المصدر في التوصيل. ولكل من التوهُّم والسقم أسلوب علاجه المناسب، فمتلقِّي الخطأ تُصحح له المعلومة، وسقيم الفهم يُنظر في أمره، فإن كان سُقمه جِبلياً صُيِّر إلى حيث يجد نفسه، وإن كان نقصاً في الخبرة أو قلّةً في المعرفة، أكمل بالمراد أو بالتزوُّد من المعارف. وإشكالية المصطلحات كلِّها تعثرها بين سُقم المفهوم وأخطاءِ مصادرها، ولهذا يقول (المتنبي): (وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم) ومتى ألقى المتلقِّي السمع وهو شهيد، تحرّرت عنده المسائل، واتضحت المقاصد، وتحدَّدت الأهداف، وذلك مؤذن بالتقارب أو التعاذر والتعايش السِّلمي على الأقل. وخير المشاهد المتسع للفاضل والمفضول والأفضل، وليس ذلك بعزيز على طلاب الحق وأصحاب المواقف الذين يؤثرون، ولا يستأثرون. وخير مثال على التعايش السِّلمي مذاهب الفقه الإسلامي وتعدُّد المجتهدين داخل المذاهب وخارجها، وإن مرّت في بعض حالاتها بفترات استفحلت فيها الفرقة واشتطّ الخلاف، ولكن الغالب عليها أنّها تمرُّ بحالات من الوفاق والتعاذر، وتبادل الخبرات، والاشتغال بالقواسم المشتركة. وعلى غير هذه التوقُّعات (علماء الكلام) لأنّ اشتغالهم بالفقه الأكبر باعد بين أسفارهم. واختلاف التنوُّع المثري للحضارة والثقافة يتحقّق على يد علماء ربانيين متبحّرين يتقنون نظرية التلقِّي والتأويل، ويفرِّقون بين النصوص القطعية والاحتمالية، ويراعون الأحوال والظروف، ويدركون المقاصد والغايات، ويجودون عملية التفاعل الإيجابي بين النصوص والعقول، بحيث لا يتوقّعون أي تعارض بين صريح المنقول وصحيح المعقول. وما أضل الأُمّة إلاّ اتباع الهوى. والعدل والعقل لا يجتمعان معه، ومشاهد الأُمّة لما تنجو من تحكمه، ولا يكون التعصُّب المقيت والمراء والمرية إلاّ من أشياع ألغوا ذواتهم، ظناً منهم أنّهم الفرقة الناجية المنصورة، وهي قائمة ولا شك، والله المسؤول أن نكون منها. وما من عالم مجرِّب إلاّ هو على يقين من حتمية الاختلاف، وتعدُّد الآراء والمواقف، وكيف لا يكون ذلك والله يقول: {... وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ «118» إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ...}(سورة هود). لا أقول إنّ الاختلاف رحمة، ولكنَّهُ قدر الإنسانية وفسحتُها، وعليها أن تواجه قدرها بما يكفل لها الحياة التوافقية دون تخل عن الثوابت، وحتمية الاختلاف جعلت المتبحِّرين من العلماء والمفكرين يستبعدون الإجماع إلاّ فيما عرف من الدين بالضرورة كالصلوات والحج والزكاة والصوم دون دخول في التفاصيل. ودون الإجماع ما يعرف ب(مسائل الجمهور)، والقول في الاختلاف والاتفاق قول أصولي، لا يستوعبه حديث مقتضب، ولكن تقصيه في مسألة خلافية حاجة ملحّة لكلِّ من ساقته مقاديره إلى الجدل حول قضايا الفكر والثقافة والأدب المختلف حولها، كمصطلح (الأدب الإسلامي)، ولقد كنت، ولما أزل في شأني كلّه حريصاً على التمكُّن من القضايا والتمكين منها عبر طرائق التحصيل والتوصيل، فمتى امتلك المتابع ضوابط المعارف وأصولها أصبح من اليسير عليه الظفر بالمعلومة وتوصيلها على وجهها، وتعلُّم الصيد أفضل من تقبُّل الهدايا (فالليث ليس يسيغ إلاّ ما افترس). وكلُّ مقتدر عليه أن يدرأ عن أُمّته الفرقة، وذلك بتفادي بؤر التوتُّر، وما من مفكر ذي رسالة وموقف إلاّ هو على ثغر من ثغور الفكر، وواجبه أن يحمي ثنيته من الهشاشة ونفاد ما يفرق بين المتحاورين لوجه الله، وليس هنالك أضر على الأُمّة من تفرق الكلمة، ومن استخف بها فقد عرض نفسه للدمار وأُمّته للفشل، ولقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم التمكين لأيِّ طائفة ما دام النص محتملاً لأكثر من تأويل، فعل ذلك حين اختلف الصحابة في توقيت الأداء لصلاة العصر، وهم في طريقهم إلى (بني قريظة) حيث قال لهم: (لا يصلين أحدكم العصر إلاّ في بني قريظة) وهم قد علموا من قبل أنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا، فحمل بعضهم الأمر على العزم، وحمله آخرون على الحزم، لقد أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، وحين حاولوا استبانة وجه الصواب منه صلى الله عليه وسلم لزم الصمت. وذلك دليل على أنّ النص المفتوح كما الفضاء الواسع تسبح فيه كلُّ طائفة، متى امتلكت القدرة على الوصول إلى المعلومة والقدرة على تفكيكها، وأصبح الاجتهاد مشروعاً والمجتهد من أهله، يعرف شروطه وأصوله ومتطلّباته المعرفية. ومع هذا فلست مع تأويل المتعسِّفين ولا مع تفكيك الموغلين، فمن التأويل ما هو متاهة ومن التفكيك ما هو ضلالة. والعارفون يقدِّرون للمنهجين قدرهما، فيستثمرون النص من خلالهما، ويحفظون له دلالته المحققة لمقاصد المشرع. وما اختلف الناس إلاّ من بعد ما جاءتهم تلك النصوص الحمالة، واجتالتهم أدلتها المتنوعة واستقبلوها بعقول واعية وأذهان متوقدة، ولقد أدرك الإمام (علي بن أبي طالب) - رضي الله عنه - خطورة النصوص الحمالة، ووجَّه الجدل إلى نصوص قطعية الدلالة. وأي مصطلح مُحدث، يستفز العقول، ويثير الشكوك، وتغمره التساؤلات، ويتعثّر بالتحفُّظات، ولكنه بعد التداول المنصف، قد يمتلك المشروعية، ليأخذ مكانه الطبيعي في المشاهد. وحين تبد هُنا المشاهد بأيِّ نازلة أو مصطلح فإنّ من حقنا، بل من واجبنا ألاّ نقبل على الإطلاق، وألاّ نرفض على الإطلاق، وإنّما نبادر بالتساؤل عن (المشروعية) ,(المفهومية) ولا يُسأل عن النوازل إلاّ أهل الذِّكر، ولا يُتعرف على المصطلحات إلاّ من المنسشئين لها، فهم أهلها وخاصتها، سواء كانوا شرقيين أو غربيين عرباً أو مستعربين، ولا يجوز أن تكون منطلقات المتحفظين إلاّ من إجابة المنشئين، وإذا تأكدت المشروعية، وتحدّدت المفاهيم، أعقب ذلك الحوار الحضاري، الذي يحدِّد الأهميات والأولويات والحاجات، ويدخل في التفصيل والتفضيل. فالفهم حين لا يكون وفق رؤية المنشئ، يكون التقوُّل. والمشروعية حين لا تكون وفق مرجعية الأُمّة، يكون الاضطراب، وتستفحل الفوضوية. وأي مصطلح لا تحرر مسائله على ضوء المشروعية والمقتضى يكون موئل الاختلاف، ومن أصعب المواقف أن يُقوّل المصطلح ما لم يقله المنشئ، والفهم الخاطئ تقويل لما لم يقله المنشئ، وخطأ الفهم تحميل للمصطلح بما لا يحتمل، وانحراف الأفكار منشؤها اضطراب المفاهيم بين التلقَِّي الخاطئ وضعف الأفهام، والبحث في المشروعية يقطع قول كلِّ خطيب، وحقَّ على المتلقِّي أمام كلِّ النوازل أن ينظر في مشروعية أي مصطلح، فإن انتزعها كان حقاً عليه القبول به، والتخطِّي به من البحث في المشروعية إلى البحث في المفهوم وطرائق الأداء وترتيب الأولويات. |
الفكر التصالحي في خطاب عبده ..! 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل ونحن بهذا الاستجلاء، لا نُحدِّد موقفنا من آرائه التي خالف فيها الجمهور، وإنّما نريد اكتشاف نزعة (المصالحة) في كافة ممارساته السياسية والفكرية والدينية، وفي تفسيره كواحد من منطلقاته الدعوية، وإلاّ فإنّ للإمام (محمد عبده) تأمُّلات وتأويلات لا نجد مبرراً للأخذ بها، كما أنّ هناك آراء حول حركته الإصلاحية واتهامات حول أهدافه وغاياته وارتباطاته لا يعنينا تفنيدها. وما من مفكِّر بحجم (محمد عبده) إلاّ وتختلف الآراء حول مذهبه، وهو مع كلِّ ذلك يشكِّل منعطفاً فكرياً لا يُستهان به، وله إلى جانب الدعوة نزوعٌ فكريٌّ عميق الرؤية ساقته إليه النزعة المادية التي طغت في الغرب، وشكَّلت ثقافة إلحادية. وكتابه (رسالة التوحيد) و(الحاشية على شرح العقائد العضدية) وشرحه ل(البصائر النصيرية) في المنطق تكشف عن جهد فلسفي استدعته المرحلة المعاشة، ولا أحسبها رغبة عَمَد إليها، وأنشأها بطوعه، هذه النزعة تكشف عن ميله إلى التأويل العقلي، ومعالجة الأمور الغيبيّة مستعيناً بالعقل والمنطق، على الرغم من المحاذير في هذا الاتجاه. ولكن هذا الميل لا يخل بنزوعه إلى (المصالحة)، وهو ميل فرضته الفلسفة المادية في الغرب، مع أنّه قد حمل على المؤولين والموغلين في تصوُّر عالم الغيب، وعلى الذين يعتنون بالتفصيل. فهو ميّال إلى فهم المعاني إجمالاً، وليس معنياً بإتقان خطابها، أو الدخول في الجدل الفلسفي حول كثير من القضايا الفكرية. ومع ما تفرضه المرحلة من نزوع عقلي فقد ظلّ محتفظاً بالوسطية، يقول الدكتور (عثمان أمين):- (وتتجلّى في تفسير محمد عبده سعة النظرة وروح التسامح)، وأي مصلح يعيش وسطاً فكرياً، لا ينجو من فرضياته وممارساته، ولهذا نجد أنّ (ابن تيمية) استوعب ثقافة عصره، وعالج مجمل القضايا المثارة. و(محمد عبده) في عصر طغت فيه نزعات عقلية وعلمية وإلحادية لا بد أن يستوعب المرحلة، وأن يعدِّل عن خطابه التسامحي حين لا يكون بد من المواجهة العنيفة، وأحسب أنّ المرحلة التي عاشها عصفت بها أعاصير السياسة، وتمخَّضت عن دعوات قومية وإقليمية، شغلت العلماء عن التفرُّغ لعلمهم، وأنهكت خطابهم، وصرفته بعض الوقت عن مهماته الأساسية. والمصلح نشأ في ظل مخاضات سياسية عنيفة أسهمت في التأثير على خطابه المتوازن، وإن لم ينجرف في تيار الثورات الدموية، فهو قد ولد والحراك السياسي على أشده، وأثر (الحملة الفرنسية) بادي الوضوح في كافة المشاهد السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فلقد بدت القومية بشكل واضح، وطغت مصطلحات سياسية ذات أثر فعّال، تمثَّلت في (الديمقراطية) و(الدستور) وتشخصن في ظل ذلك الفكر السياسي والاجتماعي. والقارئ لتاريخ (عبد الرحمن الجبرتي) يعرف حجم التحوُّلات المتعدِّدة في المشاهد المصرية على كلِّ الصعد. لقد دارت في المشاهد قضايا (المرأة) و(القانون) و(الاستقلال) و(الدستور) و(الدولة الإسلامية) و(الدولة المدنية) و(الديمقراطية) وسائر المصطلحات السياسية، ولقد شكَّل (رفاعة الطهطاوي) و(جمال الدين الأفغاني) تحوُّلات جذرية في الفكر المصري الحديث، فيما جاء أثر (قاسم أمين) في الفكر الاجتماعي، وجاء (محمد عبده) حلقة في سلسلة الفكر الديني المتعصرن، ولم يكن الخطاب الديني المتوازن وحده المتنفّذ في المشهد المصري، بل كانت هناك طوائف عدَّة. لعلَّ من أهمها (الخطاب القبطي) متمثلاً بالسلسلة الصدئة على يد (جرجي زيدان) و(سلامة موسى) و(لويس عوض) و(غالي شكري). وهناك حركات مادية وروحية واجتماعية متعدِّدة، ربما تكون قد خرجت على كلِّ الأفلاك السائدة، يعرفها الراصدون للتاريخ الفكري المصري. وكتاب (تاريخ الفكر المصري الحديث) للمفكِّر القبطي (لويس عوض) يرصد لكلِّ التحوُّلات الفكرية، وإن كان مأخوذاً بالفكر الذي ينتمي إليه، وليس مهماً ما يجنح إليه، إذ لم نعتمده مرجعاً للتحوُّلات الفكرية عند المفكِّر (محمد عبده). وإذ نقول بالسلسلة القبطية، نقول بالسلسلة الإسلامية فهي تبدأ ب(الطهطاوي) مروراً ب(الأفغاني) ف(محمد عبده) ف(رشيد رضا)، ولقد تشعّب الخطاب الإسلامي، ولم يعد من الممكن تصوُّره، وبخاصة حين ظهر حزب (الإخوان المسلمون) ودخل في النزاع على السُّلطة ، وكرَّس على مصطلح (الحاكمية) و(دار الكفر)، وانشق منه دعاة متشدِّدون. ولا يتعارض مع سمة (المصالحة) في فكر (محمد عبده) احترافه للسياسة، ونزوعه القومي، وانضمامه إلى (الحزب الوطني)، واشتراكه في (الثورة العرابية) ونفيه. لقد أحال (العقاد) ذلك كله إلى الحماس والنخوة الريفية وإلاّ فهو مستشعر للمصلحة الاجتماعية والسياسية التوافقية، ولهذا ذهب (العقاد) على طريقته في التحليل النفسي إلى التفريق بين (الإقدام) و(الاندفاع)، فهو مقدام يزن الأمور، وليس مندفعاً تحكمه الخفّة والطيش والعجلة. فعندما نفي من موطنه كان مقداماً يواجه الاستعمار في عقر داره، ولبلورة فكره أصدر مع (الأفغاني) مجلة (العروة الوثقى). وقد تقصَّى (لويس عوض) تاريخها وأهميتها في حديثه عن تاريخ الفكر المصري الحديث، كما تناولها أكثر من دارس حركتهم أنساقهم الثقافية، ومجمل الأقوال تتجه صوب الهدف الأسمى للمجلة، وإن كان الغموض يكتنف مهمات (جمال الدين الأفغاني). ومن الصعوبة بمكان استخلاص الحق من بين ركام الصراع الفكري الذي لا يحترم المصداقية، وليس هناك أصعب على الباحث من الوقوف على حقيقة الدعوات الإصلاحية والاتجاهات الفكرية، لأنّ تاريخها ضائع بين المريد المزكي والمناوئ المجرِّح. ولأنَّ اللقاء حول مئوية (عبده) ذا طابع أدبي فإنّ من الأفضل أن ننظر إلى إسهامات المصلح في بعث التراث الأدبي تحقيقاً ودراسة وتدريساً، مما يشي بإمكانياته الأدبية وتوظيفها في تحقيق المصالحة مع الخطابات المجايلة، فأهم مصادره اللغوية تحقيقه وشرحه ل(نهج البلاغة) وهو حافل بالنصوص الإبداعية المنسوبة ل(علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، وسواءً صحّت النسبة أو لم تصح، فالكتاب نصٌّ أدبيٌّ زاخر بالموضوعات والحِكَم والمواعظ. و(مقامات بديع الزمان الهمذاني) و(المخصص) ل(ابن سيده)، و(أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) ل(الجرجاني)، وتلك من أمهات الكتب اللغوية والأدبية والبلاغية. ف(الجرجاني) يشكِّل منعطفاً أسلوبياً بتحريره البلاغة العربية من المعيارية الصارمة، وإن لم تثن المعياريين عن جمودهم. وتلك الجهود التي لا ينهض بها إلاّ عالمٌ لغويٌّ متفرِّغ للتحقيق والدراسة الأدبية أسهمت في بلاغة خطابه وتأثيره، فهو قد وظَّف هذه الإمكانيات لعمله الصحفي الذي مارسه بالاشتراك مع (جمال الدين الأفغاني). واهتمامه المتميّز بالتراث اللغوي لم يحل دون اهتمام مماثل بالتراث الفلسفي والمنطقي. والاشتغال المتمكِّن بالتراث اللغوي والفلسفي والمنطقي شكَّل أرضية صلبة قوية لممارسة مهماته الشاقة باقتدار. و(محمد عبده) الذي ولد على مفترق الطرق تنازعته رغبات ومهمات، لم يكن قادراً على التحكُّم فيها ما لم يتسلَّح بسلاح العلم المفتوح على كلِّ المعارف، وما لم يصنع نفسه على عين الحضارة المعاصرة، ليكون قادراً على مواجهة كلِّ التيارات والمذاهب. ونزعة المصالحة التي اختارها من بين عدَّة نزعات ليست سهلة المنال، إنّها خيار أصعب، فالمبادئ لا يمكن أن تكون مجالاً للأخذ والعطاء، ومتى أخطأ التقدير والتوقيت في أسلوب المصالحة مسّ المبادئ قرح لا برء منه، ومن تصوَّر أنّ المصالحة نوع من التنازلات فقد أخلَّ بالمفهوم وأخطأ في التصوُّر. إنّ المصالحة إغراء للطرف الآخر كي يسمع كلام الله متمتعاً بالحق الإسلامي من الإجارة وإبلاغ المأمن، وهي نوع من التبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة، ومتى أخلَّ المصلحون بمفهومها فقد وقعوا في الموبقات، واتصفوا بالمداهنة والركون إلى الذين ظلموا. إنّ مصالحة كبار الدعاة تأليف للقلوب، وتمكين للدعوة من النفاذ، ولقد أدرك المشركون خطورة السماع للقرآن فتواصوا بعدم السماع، وحرضوا على اللغو أملاً في الغلبة. وما المصالحة إلاّ محاولة جادة لإسماع كلام الله. فهل يستطيع حملة مشاعل الحضارية الإسلامية اختراق فضاءات الآخر ببعث الطمأنينة في النفوس، وتفادي العنف والتطرُّف؟ إنّ عصرنا الدموي أحوج ما يكون إلى دعاة مصلحين يؤلفون بين القلوب، ويصلحون ذات البين، ويشتغلون في أصول الشريعة، ويتركون الخلافات الجانبية. وما كانت دعوة الرسل في أوج الجاهلية إلاّ لشهادة التوحيد, فإن هم أطاعوا لذلك بدأ الاشتغال فيما دونها، واستكمال متطلَّبات الدين في أول يوم مدعاة إلى التندر. ولقد قال أحد الساخرين: - كيف أقبل بدين يقطع رأس الذَّكَرِ عند الإسلام، ويقطع رأس البشر عند الخروج منه. يعني (الختان) و(حكم المرتد)، وما درى أنّ الختان من سنن الفطر السليمة، وأنّ العلماء يختلفون حول تحديد مفهوم الردّة وحول الحدّ الذي يستحقه. والقضايا الخلافية رحمة للأُمّة متى استطاع المصلحون التفاعل معها بحكمة وروية. |
الأدب الإسلامي بين خطأ الفهم.. وفهم الخطأ..! (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل ومشروعية (الأدب الإسلامي) مكتسبة بالنص القرآني، إذ فرقت آيات الشعراء بين شعراء الهداية وشعراء الغواية، ولو كان الإبداع القولي حصراً على الشعراء، لكان بالإمكان استبدال مصطلح (الأدب الإسلامي) بمصطلح (شعراء الهداية). وإذا كان القرآن وصحيح السنة وأدب السلف الصالح والنقد الأخلاقي من عهد (أفلاطون) إلى يومنا هذا كلها تؤكد على القول السديد والكلم الطيب وتكره الجهر بالسوء وتصف الكلمة الطيبة بالثبات والسموق والنفع، والكلمة الخبيثة بالاجتثاث وعدم القرار، ولا تمنع من الإمتاع والخيال والمجاز والجلال والجمال، فإن هذه الرغبات بحاجة إلى مصطلح يجمع شتاتها، ويشبع ذكرها و(الأدب العربي) بوصفه جماع كل المصطلحات الناسلة منه، بما فيها (الأدب الإسلامي) ليس منقطعاً للكلمة الطيبة، إذ وسع كل الاتجاهات، فكان أدب مجون وأدب انحراف وأدب (أيديولوجيات) متصارعة، ومع اتساعه للمتناقضات فقد فارقه الحداثيون والماركسيون والوجوديون والداديون، واتخذوا لهم مصطلحات لم يعترض على مشروعيتها أحد. إذ لم نسمع أحدا يعترض على مصطلح (الأدب الوجودي) أو (الأدب الماركسي) أو (الأدب الحداثي)، وهي مصطلحات قائمة ومتداولة. وإن كان ثمة اختلاف فيما بينهم فإنه قائم حول المفهوم والفن وطرائق الأداء، وليس دائراً حول المشروعية، كما هو بالنسبة للأدب الإسلامي. والذين يعترضون على مشروعية (الأدب الإسلامي) يركنون إلى حجج لا يقوم بها الاحتجاج ولا تثبت أمام البحث العلمي مثل: - حداثة المصطلح. - واستفحال التجزيئية. - ومعادلته بالأدب الكافر. - وتقييد حرية المبدع. - والجنوح إلى الموضوعية. والتماس الحق يسقط هذه الحجج: - ف(حداثة المصطلح) ترد بما ينسل من مصطلحات في كل لحظة، وما أحد تحفظ أو تذمر، متى استطاع المصطلح أن يكون جامعا مانعا متحققا في إطاره مقصده متوفرا على مادته. وفوضوية الإنشاء للمصطلحات، أو ترجمتها أو تعريبها أو نقلها في كافة المشاهد إشكالية لا يعرف مداها إلا الراسخون في العلم. - وأما (التجزيئية) فالأدب الإسلامي يواكب مسميات متعددة، وكلمة (أدب) بوصفها جزءا من المصطلح، لا بد أن توصف أو تضاف إلى الزمان أو المكان أو اللغة أو الموضوع أو السياسة أو الفئة. فيقال: الأدب العباسي والمصري والحداثي والسياسي والجاهلي والصوفي. وما أحد امتعض أو تردد في قبول تلك الإضافات والصفات. - وأما معضلة (الثنائية) أو المعادلة بين الإسلام والكفر، فإن مصطلح (الأدب الإسلامي) لا يعادله (الأدب الكافر) ليس غير، بمعنى أن ما سواه لا يكون إلا أدباً كافراً. ولو أخذنا بهذه الثنائية الضيقة لكان لزاما علينا أن نقول: إن إطلاق كلمة الصديق على (أبي بكر) والفاروق على (عمر) تقضي بانتزاعها جملة من سائر الصحابة، وما أحد من العقلاء تصور ذلك، والقول ب(الأدب الإسلامي) لا يعني بالضرورة القول بالمعادل المناقض، وإنما يعني القول بالمعادل المتخلف عن تلك السمة، كأدب المجون والخمريات والانحراف الفكري. ف(الطائيون) كرماء يفضلهم (حاتم)، والمخزوميون شجعان يفوقهم (خالد)، والتميز لا يقابل بالمناقض، وإنما يقابل بالناقص عن التمام. وأما القول بالحدّ من (حرية المبدع) فإن لكل نحلة أو ملة حرية، لا تكون لغيرها، والحرية يحكمها الانتماء، ولهذا لا تكون الحرية واحدة عند (الليبراليين) و(الديمقراطيين) و(المسلمين). الحرية في الإسلام منضبطة، ومحكومة بسلطات ثلاث (الدين) و(السياسة) و(المجتمع) وهي حرية سوية تستجيب للفطر السليمة، وإذا قيدت الحرية في الإسلام، وأطلقت فيما سواه، بحيث تشارف دركات البهيمية فإن البحث في شأنها لا يكون في إطار (الأدب الإسلامي)، وإنما يكون في إطار الفكر الإسلامي، وكل من أشرب في قلبه حب القيم والفضائل لم يعد يتعثر بضوابط الحرية، لأن كل إناء بما فيه ينضح، وحملة الكلمة الخبيثة لا حجة لهم في ضوابط الحرية. إن التهتك والمجون والانحراف كسب، وليس جبلة، فالمولود يولد على الفطرة، والبيئات بكل تنوعها هي التي تضل أو تهدي سواء السبيل. والمبدع الملتزم كالنحلة لا تعطي إلا عسلا لا تتكلف مجَّه، والمبدع (اللامنتمي) كالذبابة لا تفرز إلا وباء لا تتكلف إبرازه. و(الحرية) وسط هذه المرافعات كالثور يُضرب لمّا عافت البقر. وإذا كانت الصلاة راحة للمؤمن، فإنها ثقيلة على من دونه، إن الحرية مكفولة للملتزمين دون الملزمين، ولهذا فالإلزام (الماركسي) أفسد الفن، والالتزام الإسلامي أصلحه. وكم هو الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} وتنوع خصوم الأدب، وتفرقهم بين المسمى والأداء والمشروعية والمفهومية يعد خيارات المواجهة، وأنا هنا - تمسكا بالمنهجية والموضوعية - لا يعنيني المتحفظ على مفردات الإسلام في إطار موقفه الرافض للأسلمة كلها، فالخصوم إما: خصوم رافضون للإسلام، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، يريدون عزل الدين عن الحياة استجابة للعلمنة الشاملة، أو هم خصوم متأولون، لا يتجاوزون بخصامهم حدود ما أنزل الله، وداؤهم التأول المفضول أو الناقل المتقوِّل، وجدلي مع هؤلاء لاتساع القواسم المشتركة، فالأدب الإسلامي مفردة، إذا عورضت بوصفها مصطلحاً، فإنها قد لا تعارض بوصفها ممارسة، فمعلوم أن طائفة من خصوم المصطلح لا يعترضون على إشاعة الكلمة الطيبة التي هي إكسير المصطلح وشأنه كله، ولكنهم يعترضون على إحداث المصطلح لما يخشون من انعكاس أثره على الإبداع أو إيضاعه في التفريق بين أدباء الأمة ومبدعيها، وقريب من أولئك من يحمِّلون المبادئ جرائر المطبقين، والمصطلح بوصفه من المبادئ بريء من أخطاء ذويه الذين لا يحسنون الفهم، ولا يتقنون الأداء، ويحاولون تعويض ضعفهم بالانتماء لهذا المذهب، ومقتضى المصطلح لا يسعف الضعفاء منهم، متى كان في أساسه مركبا من مصطلحين هما: - الأدب. - والإسلام. والأدبية هنا مقدمة على الإسلامية، لأهمية النوع القولي، فهي البوابة الأولى، ولا يمكن تحقق مراد المصطلح حتى يكون الإبداع في أوج تألقه، متوفراً على شرط الفن وضابط اللغة وخصوبة الخيال وأدبية السرد وشعرية النظم. والمشاهد النقدية الحديثة تركز على (الأدبية) و(الشعرية)، وبتفحص مقتضى الأدب الإسلامي نجده أكثر تركيزاً على (الشعرية) و(الأدبية) بمفهومها التراثي والمعاصر. ولهذا فلا مكان للضعفاء الذين لا يحملون موهبة، ولا يستبطنون موقفا، ولا يملكون حساً، ولا يضمرون هماً. والكلمة الطيبة وحدها لا تمنح التألق والتفوق، ما لم تكن متسمة بسمة الإبداع بكل متطلباته التراثية والمعاصرة. والمصاب بداء العهر والكفر يتمسك بحقه الأدبي وتألقه الإبداعي، ومن حقه أن يتمسك، وواجبنا أن نقبل بهذا التمسك، إذ (لا تزر وازرة وزر أخرى). فشاعر متهتك ك(القباني) يفوق بشاعريته مئات الشعراء الملتزمين، لا يجوز لناقد أن يذوده عن قمة الشعر العربي، وروائي ك(محفوظ) يقف على قمة الرواية العالمية بكل تخلياته وانحرافاته، لا يمكن أن يسلب حقه الفني تحت أي شعار. والمتلقي الواعي يعرف أن (الأدب الإسلامي) يعطي الحق في شرف اللفظ، ويحاسب على الإخفاق في شرف المعنى، وينظر إلى المخالفين على ضوء منازعهم، وإذ لا نزكي على الله أحدا، فإن احتمال الكفر والإلحاد والردة لا تخول المفكر المستبرئ لدينه وعرضه أن يصم أحدا بصفة مغلّظة، وإن قال كلمة الكفر في شعره أو في سرده، فتكفير المعين عند العلماء المحققين له ضوابطه وشروطه، وهو من اختصاص الفقهاء، وليس من اختصاص النقاد، دور الناقد أن يرفض الانحراف والإسفاف، وإذا لزم الأمر إصدار الحكم الشرعي على المخالف وجب سؤال أهل الذكر، والأسلم والأحكم أن يكون حكما مؤسساتيا لا فتوى فردية، ولا سيما أن حكم المرتد قضية خلافية لدى العلماء. والتخلي عن الشروط والضوابط في إصدار الأحكام على الجماعة أو المعين أدت إلى مواجهات دموية حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم. ومع كل هذه التحفظات فإن الاحتفاء بالمنحرفين فكرا، أو الساقطين أخلاقا من خلال إبداعاتهم أو تنظيرهم عند هلاكهم أو غيابهم، ونبذ الرأي العام لهم، يعد خروجا على النسق وتغريدا مؤذيا خارج السرب، والأديب الإسلامي يفرق بين التألق والتفوق الفني، والسقوط الأخلاقي. وما قدمت بين يدي حديثي من تحفظات إلا لعلمي أن هناك من يحلو له خلط الأوراق والمزايدة الرخيصة، فالاختلاف مهما أوغل في القطيعة لا يمنح الحق المطلق لطائفة دون أخرى، ومتى حمي وطيس الجدل، واحتدمت المشاعر، وجب الرد إلى المرجعية المعتبرة لدى كل الأطراف، ومتى لم يكن هناك اتفاق على مرجعية فلا مجال للحوار. والقبول بالاختلاف والتحفظ على احتكار الحقيقة والحق، لا يعني إطلاق الأمر بحيث يمتد الجدل إلى ثوابت الدين. أعرف جيدا أن المشاهد الفكرية لم تصل بعد إلى تحديد جامع مانع للثوابت والمتغيرات، ولكن القلوب السليمة تعرف حدود ما أنزل الله، ولا يمكن أن تمضي مع المميِّعين الذي يجعلون كل شيء قابلاً للمساءلة والشك. فالحقيقة والحق في النهاية محتكران للنص القطعي الدلالة والثبوت، والاختلاف مقبول حين يكون حول مفهوم النص واحتماله للتأويلات. أما حين يكون النص قطعي الدلالة والثبوت، فلا اجتهاد ولا اختلاف، ولهذا قال العلماء الأصوليون: (لا اجتهاد مع النص)، والنص عند الأصوليين يختلف عن النص عند الألسنيين، فهو عند الألسنيين مطلق القول، وهو عند الأصوليين القول القطعي الدلالة والثبوت، النص البرهاني وليس الدليل الاحتمالي. وجملة القول أن الأدب الإسلامي هو (التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصور الإسلامي)، ليست له آلية فنية تختلف عن آلية الأدب العربي، وليست له فنيات تفارق ما اتفق عليه أساطين النقد العربي في القديم والحديث، له تحفظ وله اعتراض، تحفظ على كل مساس بالأسس والضوابط اللغوية والفنية، واعتراض على كل سقوط أخلاقي أو انحراف فكري يرفض تمييع الإسلام، وتلميع الطعام، ويعترض على المسخ، ويؤكد على الهوية والخصوصية والندية، يرفض النفاق والشقاق وسوء الأخلاق، ومعتصر المختصر أنه معني بإشاعة الكلمة الطيبة وإجهاض الكلمة الخبيثة. والنقد الإسلامي من وراء ذلك يرود في المقدمة ويحمي الساقة. آليته ومنهجه آلية النقد العربي ومنهجه، غير أنه يشترط شرف اللفظ وشرف المعنى. ومتى أخل المبدع بأحد الشرفين أخذه بجريرته، لا يفرط في الفن ولا يتسامح في المعاني، فيما يكتفي النقد العربي بالجانب الفني. والذين يفهمون الأدب الإسلامي ونقده فهما خاطئا، يتصورون أنهما خلق آخر. وعندما يستعرضون المعطيات الإبداعية والدراسات النقدية ثم لا يحدون هذا الشيء يتصورون أن النقد الإسلامي هاجس في ظهر الغيب. إن التصدي للأدباء والمفكرين أمثال (طه حسن) و(محفوظ) و(حيدر حيدر) و(نزار قباني) و(أبي زيد) وثائق للنقد الإسلامي. ولما تزل المشاهد تموج بالمعارك الأدبية التي يحركها النقد الإسلامي. أرجو أن أكون قد وفقت في عرض موجز للمشروعية والمفهوم لأدب أحببته، ولم أكتف به، وناصرته، ولم أنصرف عن غيره، ومتى حسنت النوايا وسمت المقاصد شرِّعت أبواب الوفاق، وغلقت أبواب الشقاق. وما أحوج الأمة إلى التفاهم والتسامح! فالزمن الرديء لا يجوز أن تعلو فيه نبرة التحدي وتصعيد الخلاف متى أمكن الوفاق. ذلك أن خطاب القوة والنصر والتمكين يختلف عن خطاب الضعف، فلا يكون إلا مع التمكين، ولهذا خفف الله عن الأمة حين علم أن فيها ضعفا. واحتدام المشاعر ليس مبعثه ما يلاقيه الأدب الإسلامي وحسب، ولكن مبعثه إلى جانب ذلك ما تعانيه الأمة من تفرق في الكلمة، وميل إلى المحدثات، وتلقف لما يأفكه المستشرقون والمستغربون، وانقطاع منبت في استقبال الآخر، وممارسة فوضوية باسم الحرية. وقولي هذا منصب على ثقافة الضرار وملاحقة المستجد من المذاهب دون تحفظ، والميل مع الريح حيث تميل من أناس كنا نعدهم من الأخيار. |
من حارب المحارب
د. حسن بن فهد الهويمل عرفت الشاعر غريب الأطوار (عثمان بن سيار المحارب) في عنفوان شبابه، منذ أن بلغ أشدّه، وبلغ أربعين سنة، وها أنذا أتذكّره في التسعينات من عمره المديد، والثمانينات تحوج السمع إلى ترجمان، وظنِّي به يردِّد مقولة لبيد: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد كانت معرفتي الأولى به عندما صدر كتاب (شعراء نجد المعاصرون) عام 1380هـ، للأستاذ عبد الله بن إدريس، حيث ترجم له، وساق أطرافاً من شعره، ووصف شعره وشاعريته وصفاً انطباعياً، يصدق على ما سلف منه، فهو عنده شاعر قومي، يترسّم خطى (الجواهري) و(القروي) حتى أنّ قوميّته - على حدِّ قوله - حملته على المحافظة على شكل القصيدة العربية في مطلع حياته، وأحسبه قد تحوّل عن ذلك كلّه فيما استقبل من سنوات. وعرفته أكثر قبل ثلاثة عقود حين أنجزت رسالة (الماجستير) (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد)، ويومها لم يكن بين يديّ إلاّ ما أوجزه (ابن إدريس) وما تفرّق في الصحف والمجلات من قصائد عابرة. وقبل عقدين ونيِّف عدت إليه بمنهجية جديدة وآلية دقيقة، حين أعددت رسالة (الدكتوراه) (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر) وكان قد صدر له ديوانان أسهما في إبراز أبعاده الدلالية والفنية، ثم انقطعت عنه أو انقطع هو عن الكافة، فلم أعد أسمع عنه شيئاً، ولم يعد له أيّ حضور يُذكر في كافة المحافل الأدبية، ولا أحسبه قد هجر الشعر كما فعل غيره، ولكنه هجر المشاهد، فهل صدمه الواقع؟ أو أنّه صدم الواقع فانفضّ سامره؟. أعرف جيداً أنّه غرّد خارج السِّرب في اتجاهاته كلها، وهو حين لا يتناغم مع الصوت الجمعي يكون كقاصية الغنم. وشاعر عنف في شعره الوطني، ثم أسرف في شعره الغزلي يكون قاب قوسين من الاغتراب، ولا سيما أنّه ربيب تراث سلفي شديد الحساسية، وعلى الرغم من تطرُّفه في الحالين، فإنّ اعتزاله المغاضب يُعد خسارة لا تعوّض، إذ ابتلعه حوت النسيان وبخاصة حين يهبط مثله إلى السفح، لتكون القمم مسرحاً لبغاث الطير التي تزاحم النسور بالمخلب الغضِّ والجناح القصير، كما يقول (أبو ريشة) في رثائيته لأمجاده وما أكثر الشعراء الذين رثوا أنفسهم ذاتاً وفناً. نجد ذلك عند (ابن الريب) في رثاء الذات، كما نجده عند (البحتري) في رثاء المحتد الشعري في (السينية) وعند (المتنبي) في (داليته) حين يصف نفسه الشاعرة بأنّه الصائح المحكي والآخر الصدى، وعند (أبي ريشة) في عصمائه (النسر)، ولم أجد لشاعرنا رثائية ذاتية يودع فيها ناسه المعجبين به، ولعلّ ذلك من شعره الحبيس الذي يتململ في قمقمه. أمّا انطواؤه واعتزاله فقد جسَّدته قصيدته المتواضعة (رضيت بما بي) وهي قصيدة يردُّ بها على صديق عذله في انطوائه. ولأنّ حياة أي شاعر تمثِّل محطات متعدِّدة التيارات والاتجاهات والنزعات، فإنّ معرفتي به في أوائل محطاته المثيرة، إذْ كان فيها صاحب قضية ينافح عنها بعنف، ويلوم قومه على ضعفهم وهوانهم على الناس، ولكنه حين يئس من الصحوة والاستبانة وقبول النصح نبذ شعره العنيف إلى شعر أعنف، شعر الحب والتولُّه. وإذْ تحفّظ أناسٌ على عنفه القومي فقد تحفّظ آخرون على اندفاعه وراء المرأة. ولم أكن أعرف - فيما بعد - ما إذا كانت له أعمال جديدة، وهل عاد إلى صلفه القومي أم ظلّ نزارياً كما كان يوم أن بارح المشهد الشعري؟ ولقد وجدت نتفاً له وعنه في (موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث) وهي التي أشارت إلى عمل شعري ثالث لم أره، وهو ديوان (بين فجر وغسق) وهل حوى ما أحدث من شعر أم هو تقصٍّ لشعر قديم لم يفرج عنه إلاّ في آخره. وأذكر أنّني قرأت ديوانيه (ترانيم واله) و(إنّه الحب) عند التحضير للدكتوراه، وعندي مسودة لم تكتمل عن تحوُّله المفاجئ والعنيف من البعد الوطني إلى الحب العذري. وإلمامة الموسوعة عن شعره وشاعريته إشارات موجزة، ولقد سمعت أنّ بعض الدارسين أو الدارسات اتخذوه موضوعاً لرسالة أكاديمية، وأذكر أنّ طائفة من الطلاب استشاروني في إمكانية دراسة شعره، وقد شجّعت على ذلك، فهو شاعر يستحق الاحتفاء، وبخاصة في بواكير شعره، فهو مشروع شاعر مثير، ولا تأثير لغيابه الطارئ متى أمكن الوصول إلى وثائقه. لقد صدر ديوانه الأول عام 1977م فيما صدر ديوانه الثاني عام 1402هـ، ولست أعرف عن ديوانه الثالث الذي أشارت إليه الموسوعة متى صدر وما مضامين قصائده، وهل هي من قديم شعره أم مما جدّ بعد اغترابه؟. وتألُّقه توقَّف قبل إصدار مجموعاته الشعرية، وهو توقُّفٌ فرضه على نفسه، ولم يفرضه عليه أحد من الناس. والذي يقرأ بواكير شعره يحس أنّه أمام شاعر فحل، يمتلك عدّة نواصٍ، ناصية اللغة وناصية الخيال وناصية العمق الثقافي والوعي المبكر بواقع الأُمّة العربية. غير أنّ هذا الشهاب الذي انطلق في صعوده كاد يحور رماداً بعد إذْ هو ساطع، والفحولة مصطلح شعري لا يوصف به شاعر إلاّ إذا استكمل مقتضيات الفحولة ولقد تقصّاها بعض الدارسين في كتاب ضاع في ثنايا كتبي. وتساؤلي المُلِح: من الذي أطفأ هذا الشهاب الملتهب؟ ومن الذي حمله على مبارحة المشهد في وقت مبكر؟ وهو الشاعر الذي يهزّ العواطف، ويذكي المشاعر، ويحرِّك كوامن الوجدان بشعر مقاوم، ينضح أسى ومرارة. أعرف جيداً أنّه بعنفه في القوميات أثار دعاة الوحدة الإسلامية، وبملاحقته للغانيات أثار الورعين. وإذا كان رقيق المشاعر فإنّه لم يحتمّل ردود الأفعال، ولربما يكون ذلك بعض الأسباب المؤدِّية إلى الغياب، ومن بواكير قوله: فوق هذى الأرض منا أمة فنيت إلا رسوماً تتباهى كبل الجهل قواها فمشت للمنى زحفاً فهيهات مناها أمطروها من شبا أقلامكم أدبا حيا وعزما وانتباها علموها كيف تبني مجدها واحملوا المشعل في ليل سراها علموها أن للذل يدا من تراب الجهل والجبن براها أيقظوا فيها شباباً خاملاً هام في بيداء لا يدري مداها وهذا شعر جزل في العبارة، قوي الأسر، عميق الدلالة، لا نكاد نسمع بمثله، ولكنه شعر شاعر اعتزل قومه وما يقولون. ولم أكن أعرف بعد انقطاعه ما إذا كان على صلة بالأدب والشعر وبالمشاهد الأدبية. لقد بارح المشاهد كلّها، ولم أكد أذكره لولا أن ذكّرتني به (الثقافية) وهي الحريصة على أن تعيد الهاربين من مفازاتهم، وأن تبعث ذكر الأموات من أجداثهم، وإنّه لمن المؤسف، أن تخلو المشاهد من شاعر متميِّز (كابن سيار) في وقت الانكسار العربي وثقافة الخوف، ولم أكن وحدي الذي ودّعه ونسيه، فكلُّ من لاقيت يشكو هذا الغياب، فلذا كان آخر عهدي به يوم أن فرغت من رسالتي للدكتوراه، وكنت إذْ ذاك أنقب في شعره عن الحس الإسلامي، وكانت نزعته تراوح بين الوطنية والحب العذري. ولقد أشرت إلى ذلك حين قلت: (والشاعر عثمان بن سيار رغم ندرة إسهاماته وطول مكثه في رحاب الحب والمحبين يملُّ واقع الأُمّة ويضيق بالقعود ويستريب من هذه الفرقة المستحكمة والشقاق المستشري فيوسع المثاليين لوماً وتعنيفاً)، وهو كذلك في كلِّ شعره الوطني والسياسي والقومي، غير أنّه تحوَّل فجأة إلى الحب. وحين نصفه بالقومية فإنّنا لا نمضي به إلى حيث قوميات (المتأدلجين) الذين ينبذون الإسلام وراء ظهورهم، كما يفعل بعض القوميين العرب، وبخاصة النصارى منهم، وإنّما نقصد ذلك الشعر العربي الناسل من عباءة الإسلام لغة وفكراً، والشاعر في هذا اللون من الشعر يبدو قاسي العبارة محتدم المشاعر. لقد تحدّث عن (القدس) كما تحدّث غيره، ولكنه اتخذ شكلاً تعبيرياً يختلف كثيراً عما يسلكه الشعراء من حوله، يقول في هذا الشأن: أتوا يبكونها حمر المآقي وكل منهم نضو اشتياقِ وكل يدعي حباً لليلى ومن كفيه ليلى في اختناقِ أضاعوها وقالوا القدس ضاعت تباكوا يا دهاقنة النفاقِ وهو كذلك في سائر شعره القومي يلوم ويقسو في اللوم، ويعاتب ويعنف في العتاب، ولا يكاد يرسم طريق الخلاص إلاّ بعد أن يجهز على المتخاذلين، وظاهرة العنف والتمرُّد واكبت شعراء المرحلة التي واكبت الثورات العربية، وكثير منهم أصيب بخيبة الأمل، فهرب من المشهد الشعري لا يلوي على شيء ذي بال إلاّ على حزن عميق، ومرض مصمٍ، وآهات دفينة. وديوانه (ترانيم واله) وما تلاه من أعمال شعرية تذكِّرني بطائفة من شعراء التولُّه، لا أقول النزاريين، ولكنني لو قلتها لما أبعدت النجعة، والترانيم والتراتيل والنداء وكافة الصوتيات دأب الشعراء الغزليين، فالشاعر (علي محمد صيقل) له ديوان (ترانيم على الشاطئ) وهو شعر خليط، ولكنه مشبع بالمناجاة الوالهة، والشاعر الصديق (عبد العزيز بن محمد النقيدان) له ديوان (ترانيم الرمال) الذي سعدت بتقديمه للقراء، والشاعرة (عزة رشاد) شاعرة مصرية مقيمة في البلاد لها ديوان (ترانيم قلب) سعدت أيضاً بتقديمه للقراء، والشاعر (عبد السلام هاشم حافظ) - رحمه الله - له ديوان (ترانيم الصباح) والشاعر العميد محمد نصير له (ترانيم السمر)، ولعلّ من أبرز هؤلاء جميعاً الشاعر الصديق (محمد عيد الخطراوي) في ديوان (ترانيم الصباح) وكأنِّي به يلتقي مع شاعر بلده (عبد السلام حافظ) مع الفارق بين الاثنين. وكلُّ شعراء الحب والتولُّه يحلو لهم أن يترنّموا، وأن يكون شعرهم صوتاً ندياً. لقد كان ابن سيار مشروع شاعر، لا يقلُّ عن سائر الشعراء الذين كانوا حداةً للقوميات العربية، ولكنّه رفع قلمه وطوى صفحته، وترك المشاهد لشداتها الذين لا يحرِّكون ساكناً، فهل يعود بعد هذا الهجر، ويستجيب لنداء قومه؟ أم أنّه سيقول كما قال سلفه: (أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا) نحن أحوج ما نكون إلى مثله ليوم الكريهة وسداد الثغور، فهل يستجيب؟ أرجو ذلك. |
تجربتي الثقافية وتحوُّلاتها..!! (1 - 4 )
د. حسن بن فهد الهويمل (تجربتي في الحياة) عنوانٌ عائم، فرضه عليّ الإخوة في (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القصيم)، ليكون محاضرة ضمن فعاليات (الصيف)، والمهتمون بالشأن العام يخشون أن يضيع الوقت، كما ضاع اللبن في الصيف، حتى يقال: (الصيف ضيعت الوقت) كما قيل من قبل في الأمثال: (الصيف ضيعت اللبن)، وللمثل حكاية طريفة، ليس هذا مجالها. هذا العنوان العريض من العناوين الشمولية، التي لا يحدُّها موضوع، ولا تحصرها فكرة، ومن الصعوبة بمكان مغالبة الموضوعات المفتوحة، إذْ هي أشبه ب(النص المفتوح)، وانفتاح النص يعني قبول كل تأويل محتمل، وإن تضاربت الآراء حوله بين (إيكو) و(بارت)، في استقصار ممتع للأخوين (الرويلي والبازعي) في (دليل الناقد الأدبي)، وليس من السهل لملمة أطراف التجارب المتنوعة: عملية كانت أو علمية، زمانية كانت أو مكانية. ولست أدري من أي الزوايا ألتقطها، ولا من أي الدروب آتيها. فالإنسان المسكون بالمهمات والهموم الفكرية والأدبية والسياسية وتقلُّباتها التي لا تقر، المتشبّث بأرباب القلم وما يسطرون، وبالكتبيين وما ينشرون، تمر به حيوات نافقة أو فائقة. وتغمره حضارات: وضعية وسماوية، محفوظة أو محرفة، مفسرة ومؤولة. وهذه الحيوات، وتلك الحضارات، تقع تحت طائلة الخلطة المستحكمة مع تجاربه، لتشكِّل لوحة مسطحة أو ذات أبعاد، حتى ليغتلي فيها ارتيابه، فلا يستطيع تقرِّيها، واستبانة الذاتي من الغيري، على شاكلة صورة (انطاكية) على جدار (إيوان كسرى) في بكائية البحتري التي عدَّها المتسرِّعون وصفية: (فإذا ما رأيت صورة أنطا كية ارتعت بين روم وفرس) إلى أن قال: (يغتلي فيهم ارتيابي حتى تتقراهمُ يداي بلمس) وكلُّ إنسان سوي يتلقّى تجارب الآخرين، مثلما يمارس تجاربه، فتكون كالشعاب التي تتدفَّق صوب الأودية السحيقة، لتكون فيضاً من التجارب المتنوّعة ومتى دقّت الملاحظة، وتواصلت المتابعة، تحوّلت صغار التجارب إلى كبار. وما كتاب (الحيوان) للجاحظ بمجلداته السبعة إلاّ وليد الدقّة في الملاحظة والتواصل في المتابعة، إذْ هو موسوعة ثقافية، تكشف عن مشهد العصر وحراكه الثقافي. وبتعدُّد التجارب، وتواردها على الذهن، تشكل وعياً جديداً، قد تصرف الراصد عن بعض مسلّماته. ولأنّ التجارب فعلٌ متواصل فإنّها تكون بعدد السنين والشهور والأيام والساعات، بل أستطيع أن أقول: إنّها بعدد الثواني. فكل لحظةِ فعلٍ صالحةٌ لتكون ظرفاً لتجربة حافلة بجلائل الأعمال. وما الصدفة أو الفرصة إلاّ مفتاحٌ لتجربة مصيرية. وقديماً قيل (رُبّ صدفة خير من ميعاد). والإنسان الشّجي تجتاله الهموم، وتحتنكه المسؤوليات، ويظل كما الصعلوك الأطحل الذي تتهاداه التنائف، فما يحط من قضية إلاّ وينزع إلى أخرى، ولا يفرغ من حدث شديد إلاّ إلى حدث أشد، وتلك الأيام دول وتداول. ولأنّ هذا الصنف من الناس موزع الجسم بين هموم ذاتية، وأخرى جماعية، فإنّ وعيه للأحداث يكون أشد عمقاً وأعمق إحساساً. والاهتمام بالشأن العام من واجبات المسلم، فهو بين عبادة لربه، وهداية لقومه، وعمارة لكونه: حسّاً ومعنى. وما من حيٍّ إلاّ وله نصيب من التجارب الخاصة أو العامة، له ما كسب، وعليه ما اكتسب. والأذكياء هم الذين يُفرِّجون عن أحسنها، ويدسون خداجها في التراب. والمؤكد أنّ القيمة ليست في ذات التجارب والوقوعات من حيث هي أداء أو مواجهة، ولكنها فيما تتركه التجربة المتميّزة من أثر في الذات أو في الغير. وما أكثر التجارب التافهة التي لا تستحق الذِّكر، لأنّها لا تحرِّك ساكناً، ولا تثير انتباهاً. وما التاريخ إلاّ وعاءٌ لتجارب الأمم والأفراد في الربح والخسارة. إذْ هو سفر لسقوط الدول وقيامها وأسباب ذلك. والحضارات كالأناسي، لها طفولة وشباب وفتوة، وكهولة وشيخوخة وهرم، قد يبلغ بها أرذل العمر، وفي الحديث: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ) والعلم لا يُنتزع، وإنّما يعم الجهل بموت العلماء، واستفتاء من لا علم عنده، ليكون الهلاك والإهلاك، وذلك بعض ما نرى ونسمع. وتصور الحضارات من خلال قيامها وسقوطها، لا يتعارض مع الحفظ للذكر ولا مع بقاء الطائفة المنصورة. فالساعة لا تقوم وفي الأرض من يقول: الله الله. وكم شهدت الإنسانية حضارات سادت ثم بادت، إمّا عبر الآثار أو عبر صفحات التاريخ. وعلى افتراض أنّ التاريخ لا يكتبه إلاّ المنتصر، فإنّ من الممكن تمحيص الأحداث، واكتشاف الزيوف. ومثلما أنشأ أهل الحديث علم الجرح والتعديل والتخريج، فإنّ للمؤرخين مناهجهم التي يمحِّصون بها الأحداث ويصححون التجارب، ويبتلون بها الأخبار، ليقروا على صفحاته ما تقبله عقولهم، (وابن خلدون) في مقدمته الأطول، وضع أسس علم التاريخ والاجتماع والسياسة، وإن لم يستفد منها في كتابة التاريخ، حيث تألّقت المقدمة، وخمل التاريخ، هذه الرؤى، وتلك التصوُّرات تكمن في (اللاوعي) بوصفها محصلة تجارب ومقروء، وتنشط كلّما أثيرت، لتشهد اتخاذ أي قرار. ولما لم تكن كلُّ تجربة جديرة بالاستدعاء والرَّصد والتحليل، فإنّ الفوضوليين هم الذين يدوكون ليلهم، ويلوكون ألسنتهم بأحداث عارضة لا قيمة لها. وليس كلُّ متحدث محقاً باستعادة تجاربه، وعرضها على الملأ، فالناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة، ولاسيما أنّنا في زمن الغثائية التي حذَّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقادر على تحمُّل المسؤوليات وأدائها على وجهها هو القمين بأن يتذكّر الأحداث والتجارب، وأن يكتب الذكريات والمذكّرات واليوميات، ليكون ما يكتب هادياً ودليلاً، إذْ باستعادة مثل هذه التجارب تكون الفائدة لناشئة الأُمّة المتنازع عليها، كما الأرض الموات. وليس من المعقول أن نسوِّي بين العباقرة والمجانين، ولا بين الأذكياء والمغفلين، ولا بين الخاصة والعامة، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}. وإذْ لا أزكِّي نفسي فإنّني أحسبها من الصنف الوسط، الذي عبر الحياة متأبّطاً الكتاب والمحبرة، وممسكاً بالقلم والقرطاس، يخط بيمينه ما تبرؤ به ذمّته، مشاطراً أُمّته همومها، محاولاً تغيير ضعفها بلسانه وقلمه، حين لم يقدر على تغييره بيده وسنانه. ولها فقد تكون تجاربي الثقافية محط تقدير الأقلية من الطلاب والمحبين، وإن كانت في نظر الأغلبية دون ذلك بكثير. ولست برماً من عزوف البعض والاختلاف مع البعض الآخر، متى سلمت النوايا، وحسنت المقاصد ورُشِّد الحوار. فالاختلاف من سنن الله الكونية، وهو النار الهادئة التي تُنضِج الأفكار والآراء. وعلى الواثق أن يقول كلمته، ويمضي غير هيّاب ولا وجل مما يثار حوله من غبار لا يزيده إلاّ تألُّقاً. وقديماً قيل: (كلُّ فتاة بأبيها معجبة). فالعقول لا تُشترى، ولا تُصطفى، ولكنها تُصقل بالتجارب، وتُربّى بالتحصيل المعرفي، وتقوَّم بالقدوة الحسنة. والتاريخ معين لا ينضب، لأنّه راصد لتجارب أُمم سلفت. والمتحدثون عن تجاربهم مبادرة أو استجابة، إنّما يؤرِّخون لأنفسهم، ويكتبون سيرهم الذاتية بأيديهم، ويطرحون أنفسهم بوصفها موضوعات، يوعظ بها ترغيباً أو ترهيباً. ومن أصعب المواقف على الإنسان موضعة ذاته، فهو كمن يشرّح جسمه دون تحذير. ولحساسية الموقف يرقب الدارسون وفيات الأعيان، ليكونوا في حل من التناول. ولعل القول ب(موت المؤلف) محاولة للخلوص من تأثيره على الدارسين. ومن الصدف الحميدة اهتمامي المبكر بالسِّير الذاتية، ووقوفي على تجارب القادة والمفكرين والمصلحين من خلال ما سجّلوه عن تجاربهم، أو سجّله مريدوهم. وما من مسؤول ترجّل من كرسيه، وقدر على التعبير إلاّ غمر المشاهد بتجاربه النجل وتجلياته الخلَّب أو بتنصُّلاته من إخفاقاته، محذِّراً أو محرضاً، مدلاً بأفضاله، أو دالاً على فضائله. وهو قبل ترجُّله يَعد ولا يفي، ويمنِّي ولا ينجز. وليس كلُّ ما يقال عن التجارب صدقاً محضاً، أو كذباً محضاً، ولكنها ساعة وساعة. والعاقل يعرف القوم من لحن القول. وكان اهتمامي بهذا اللون من الثقافة، محرضاً على الأخذ بأحسن التجارب، ومساعداً على مرونة التحوُّل. وتعقُّبي للسِّير الذاتية جاء أوزاعاً بين النقد التنظيري والتطبيقي، والإشراف والمناقشة والتحكيم، وقراءة الإبداعات السردية. فكثير من السِّير الذاتية تُعد إبداعاً سردياً ممتعاً، كما فعل (طه حسين) في (الأيام)، وكما فعله روائيون من بعده، تقنعوا بالأبطال، فكشفوا ما ستره الله وعفا عنه. ومن خلال الارتباط بهذا اللون، وجدت لكلِّ شخصية نكهة خاصة، لا تغني عن غيرها، وإن كانت مفعمة بجلائل الأعمال. ومما زاد الحديث عن التجارب أهمية دخولها في عالم الرواية، وابتلاؤها بالمكاشفة (اللاأخلاقية)، سواء كانت المكاشفة سلوكية، كما فعل الروائي المغربي (محمد شكري) في رواية (الخبز الحافي)، أو هجائية، كما فعل الفيلسوف المصري (عبد الرحمن بدوي) في (سيرة حياتي) أو فكرية، كما فعل (نجيب محفوظ) في (أولاد حارتنا)، ويوازي هذه الشطحات اعتدال مقبول، كما هو عند (أحمد أمين) في (حياتي) وعند (إدوارد سعيد) في (خارج المكان) وعند (ميخائيل نعيمة) في (سبعون) وإن اختلفنا مع الاثنين عقيدة وفكراً. ومن أجمل السِّير سير أعلام النبلاء من علماء ومفكرين وساسة، سواء في ذلك ما كتبوه بأيديهم، أو ما كُتب عنهم كما فعل (البغدادي) و(الذهبي) و(ابن عساكر)، إذ كلُّ هذه الشرائح من الأناسي خاضت معترك الحياة من أجل الإنسانية المعذَّبة أو التائهة، فكان منهم الهداة المهتدون، والضالون المضلُّون. والتاريخ العربي ذو شقّين: (تاريخ سياسي) يتحدث عن نشوء الدول وسقوطها، وما تتعرّض له من حروب، وتداول للسُّلطة عن طريق الاختيار أو الغلبة أو التوارث، وما ينتابها من ترف أو شظف، وتبعات ذلك كله، ومن أساطينه (ابن كثير) و(المسعودي) و(الطبري). و(تاريخ حضاري) وهو سير الأعلام وتاريخ العلوم والمذاهب والمدن، ومن أبرز أعلامه (الذهبي) و(البغدادي) و(ابن عساكر) و(أحمد أمين) في العصر الحديث. والتجارب أوزاع بين هذين التاريخين. وحديث الإنسان عن نفسه من أصعب المواقف، ومن أعذب المقروء. فالسِّير الذاتية فنٌّ رفيع، تهواه الأنفس، وتلذُّ به الأعين، وتطرب له الأسماع، وبخاصة حين يتوفّر على المصداقية والاقتدار وجلائل الأعمال. والمصداقية المطلوبة في تلك المواقف، لن تتوفّر بالقدر الكافي، وبالذات عند الحديث عن تجارب الإنسان الأولي. ولهذا عجب الله من شاب ليست له صبوة، وجعل الشاب الذي نشأ في طاعة الله من السبعة الذين يظلّهم الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه. |
تجربتي الثقافية وتحوُّلاتها..! 2 - 4
د. حسن بن فهد الهويمل والتجارب الأولى إنْ لم تجنح أخلاقياً، فهي مأخوذة بالحماس والاندفاع وطيش الشباب، وما يُطْفِئ أوار هذا الطيش إلاّ تقصِّي التجارب المحنّكة عند سائر العلماء والمفكرين. فالحياة جامعة مشرعة الأبواب لذوي الألباب، والذين تخرّجوا فيها، يكاد المتميّز منهم يفوق من تخرَّج في أرقى الجامعات، و(المتنبي) حصر العزَّ والخيرية، على سرج السابح، أو بين دفّتي الكتاب. فالحصان وبدائله تطوف بالإنسان في الآفاق، التي هي مكمن الآيات {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ}. وبوسائل النقل والاتصال تتوفّر التجارب العلمية والعملية. والكتاب بما حوى من مختلف الفنون، يوفِّر المعارف. وليس هناك أفضل من تلاقح التجارب والمعارف. والطواف في الآفاق مصدر العلم والكسب. ولهذا أصبحت المواصلات والاتصالات الجسر والمعبر إلى الخبرات والخيرات، وكما قيل: - (سافر ففي الأسفار خمس فوائد)، و(المتنبي) ينسب مرضه لطول الإقامة، ويقول عن طبيبه الذي جسه:- (وما في طبه أني جواد أضر بجسمه طول الجمام) والسفر بوصفه وعاء التجارب يسفر عن وجوه الرجال، والرحلة في النهاية تجربة ثقافية، مثلها كمثل الرحلة في بطون الكتب. والأسفار للسياحة أو للعمل صنو القراءة، ومنهما معاً تتشكَّل الثقافة. فالثقافة: ما يَثْقفُه الإنسان أي يجده مكتوباً أو منصوباً، و(النِّصبة) - بكسر النون - لسان حال كما لسان المقال، عند (الجاحظ) وفي (البيان) الذي جمع أصناف الدلالات في خمسة أشياء، وهو المثل الأعلى للثقافة العربية. ولقد كانت الرحلة بعض تجاربي الثقافية، وكانت حياتي موزَّعة بين الكتاب والركاب. والذين مكّن الله لهم من الكلمة، وحلّ عقدة ألسنتهم، يتمترسون خلف التورية والكناية واللمحة، ويتوسّلون بعلوم البلاغة، لتجميل تجاربهم، وتغليب جانب الإمتاع على الانتفاع والتلميح على التصريح. وكلُّ متحدث عن ذاته تتجاذبه تيارات ومذاهب، فهو لا يكتب ليحكي ما حدث، ولكنه يكتب ليبرر ما حدث. ومن الناس من يعجبك قوله، حتى إذا فُزِّع عن عقلك لم تجده قال شيئاً ذا قيمة. وكثير ممن دوّنوا تجاربهم كشفوا عن سذاجتهم وضحالتهم وخواء أفكارهم، وعدم استفادتهم من سنوات العمر، فالقراءة وإنْ طالت، لا تكون مؤشّر تفوُّق ولا تألُّق، إلاّ إذا تلقّاها ذهن متوقِّد. فهي كما الوابل إنْ أصاب أرضاً سبخه زادها وحلاً، وإنْ كانت روضة غنّاء اهتزت وربت وأنبتت من كلِّ زوج بهيج. والسير الذاتية مكمن التجارب، ومن الظواهر السيئة فيها التوسُّل ب(أدب الاعتراف)، وهو لون من ألوان الأدب الحديث، عول عليه كثير من الروائيين المخفقين فنياً ولغوياً، ليسدوا نقصهم، ومن خلاله تعرّض الأدب لسوء الأدب، إذْ لم يتعاضد فيه شرف المعنى مع شرف اللفظ، فكان هذا اللون (كخضراء الدمن). والمبدع لا ينفك عن بشريته الضعيفة أمام المغريات وثورة الغرائز، ومن ثم يُبتلى بالقاذورات، ثم لا يستتر. ومثل ذلك يحصل في فترة الشباب، أو في حالة الضعف أمام الغرائز، ويستمر مع الشيوخ المتصابين، وما أقبح العائل المستكبر والأشيمط الزاني. والإبداع السرديُّ أخذ زمام المبادرة في استيعاب السِّير الذاتية، فكانت الأعمال مظنَّة الانحراف الفكري والسَّقوط الأخلاقي. وما أضرّ بالأُمّة إلا ّالتفحُّش في القول، وكثرة الخبث، تحت أيّ مبرّر، وفي الحديث (كلُّ أمتي معافى إلاّ المجاهرون). وجنوح السير الذاتية بوصفها وعاء التجارب إلى الإبداع السردي أوقعها في المجاهرة بالسوء، والمكابرة في الأفكار، تعويلاً على مشروعية الاعتراف، وجنوحاً إلى مقتضيات الواقعية، وتوسُّلاً بحرية التعبير. وحق الاعتراف والواقعية والحرية أصبح مناط المتفلّتين على سائر الضوابط والشروط والسمات، وهي مناطات أخلَّت بالقيم، لأنّها لم تؤخذ بقدرها وضوابطها، والحق أنّها ليست مناطاً لكشف السوءات، ونسف المسلَّمات، كما يتصوّر البعض. ولم يَعُد الحديث عن التجارب عبر الأعمال الروائية مأمون العثار، ولم تعُد السّقطات عارضة، ولكنها متعمّدة وملحّة في التعمُّد ف(سلمان رشدي) في (الآيات) و(تسليمة نسرين) في (العار) و(علاء حامد) في (المسافة) و(حيدر حيدر) في (الوليمة)، وآخرون من قبل ومن بعد، ونقاد معذِّرون أو مدافعون، كلُّ ذلك لم يأت بالصدفة، إنّه عمل غير صالح، دبّر له في الخفاء، ليجهض الكلمة الطيبة ويقمع القول السديد، ويذكي الخلاف بين حرّاس الفضيلة ودعاة الرذيلة. وأيّ تجربة ثقافية تقف على خطل القول، وعوار الكلام، ثم لا يكون لها دور في إقالة العثرات، وتصحيح المسارات، وأطر المتفلّتين على القيم لا تكون ثقافة ناصحة لله ورسوله وللمؤمنين. لقد أحسست في وقت مبكِّر أنّ المثقف رائد، والرائد لا يكذب أهله، وأنّ مسؤوليته الإصلاحية فرض عين. والروايات المنحرفة أو الساقطة وثائق إدانة للمشهد وللصامتين عن الحق. ومهما تنصّل الروائيون من اتخاذ البطل قناعاً، فإنّهم مدانون في الحالين، لأنّهم صنعوا الأبطال على عيونهم، وأجروا الأفعال على أيديهم، أو أنّهم اقترفوا الأعمال المسفة ثم جاهروا بها. والقول صنو العمل، وفي الذكر الحكيم {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. والمتوقّع من المشهد الأدبي بثّ الفضيلة، وحراسة القيم، وانتقاء التجارب الإنسانية المفيدة، وليس صحيحاً ما يقال من أنّ الشعر نكد لا يقوى إلاّ في الشر وأنّ أعذب الشعر أكذبه، وليس صحيحاً ما يُتداول من أنّ الشعر بمعزل عن الدين. وكيف يسلِّم العقلاء بهذه المفتريات، والله يقول: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} لقد نكص المشهد على عقبيه، واحتفى بالردّة الثقافية، وأغرى المبتدئين بالأخذ بعصم الرذائل، فكان أن أثارت تلك الجنح ضجة كبرى واختلافاً كبيراً ونجمت على إثر هذه النكسة وتلك الردّة، مذاهب أدبية ونقدية ك(الأدب الإسلامي). وهذا الحراك داخل المنظومة الحضارية الواحدة صدَّع الوحدة الفكرية، وألهى الأُمّة العربية عن المبادرات الإيجابية، ولقد تولَّى كبر ذلك التصدُّع متعاجمون، تعالقوا مع المستجد دون تحفُّظ، فكانت المذاهب في نزول وارتحال حتى أصبح كلام الليل يمحوه النهار. وما عادت التجارب بهذه الترديات مصدر تهذيب أو تعليم، وتلك من قواصم المشهد الأدبي، الذي لم يعد عربياً خالص العروبة، ولا إسلامياً نقي الإسلام. واستفحال الرذيلة، وتهافت الذوّاقين تواكبهما أعمال جادة، وسير حميدة، تذكي روح الحماس، وتربِّي على القيم النبيلة، وتضيف، ولا تلغي، ولكنها أعمال يتعمّد المتنفّذون إقصاءها، والتعتيم عليها. وما أكثر الذين حاموا حول الحمى ووقعوا فيه، حين لم يبالوا بالقدوة الصالحة، ولا بالكلم الطيب. وأي تجربة ثقافية تنشأ في هذا الوسط المستحم في الوحل، يمسُّها طائف من دخن المشاكل، وإنْ نجت فبأعجوبة، وإنْ تصدت فبمعجزة. وقدر الخيِّرين أنّهم كمن يرعى غنماً في أرض مَسْبعَة، فإنْ غفل عنها تولَّى رعيها الأسد. وما من تجربة ثقافية إلاّ وهي واردة موارد القوم، ولكن الله ينجي الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثيّاً، ونجاح التجربة في الخلوص مما عمت به البلوى. وما أكثر الذين استزلّهم قرناء السوء، وزيّنوا لهم سوء أعمالهم، حتى رأوها حسنة، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولم يستبينوا النُّصح إلاّ بعد فوات الأوان. وما من متحدث عن تجاربه إلاّ تواجهه مواقف يتمنى أنّها لم تكن. والعقلاء هم الذين يئدون ما لا يفيد، ويلتمّسون اللحظات المضيئة في حياتهم، لتكون قدوة وذِكراً حسناً (والذِّكر للإنسان عمرٌ ثانٍ). ومواقف الضعف أو الإخفاق قد تساق للاتعاظ والتفادي و(العاقل من وعظ بغيره)، وإنْ كانت التجارب من الذكريات غير الحميدة. فالحياة بكلِّ ما تعج به من نجاحات وإخفاقات مدرسة لِمَن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، والمتفحِّشون يذكرون بقصص القرآن، وكتب التراث. وكم هو الفرق بين قصة (يوسف) مع إخوته ومع امرأة العزيز وقصة (موسى) مع الفتاتين ومع (فرعون). فما يُتداول في الروايات والقصص من تجارب تسجيلية لا تنفك من الفضائحية، فالعاقبة في قصص الأنبياء للفضيلة، لا للرذيلة، كما يريد بعض السرديين المعاصرين. والإخفاق في سائر التجارب لا يُعَد خسارة إذا عمله الإنسان عن جهل، أو تسرّع، واستدركه من قريب، ولم يصر عليه، ولا سيما إذا استطاع الاستفادة من عثراته، فالتجارب مفيدة للإنسان، وإنْ لم يسعفه الحظ بالتوفيق. ولأنّ خضم التجارب متلاطم فإنّ من المفيد انتقاء المفيد، والعدول عن الغثاء الذي يحفل به الغثائيون. وأمام عدد من الخيارات نثرت كنانة التجارب، ووجدتني متردِّداً في الاصطفاء، وعند التصنيف والمفاضلة تبدّى لي أنّ تجاربي مع (الكتابة والقراءة) خير ما يُقدم، لمعرفتي أنّها تمتد من المهد إلى اللحد، وأنّها تنطوي على معاضلة الأفكار، ومصاحبة العباقرة الأخيار منهم والأشرار. وما كان في نيّتي أن أتقصّى مراحل تلك العلاقة، ولا أن أرصد كلّ التحوُّلات، فذلك موعده يوم الفراغ لكتابة السيرة كلِّها، إنْ كان ثمة في العمر والجهد بقايا تتسع لكلِّ هذه الرغبات الطموحة. وحين أكتفي بتقديم نتف من السيرة الأدبية والفكرية، على شاكلة (سيرة شعرية) للقصيبي، وسير فنية أخرى تعاقَب على بثِّها عدد من المبدعين والنُّقاد والعلماء والمفكرين، أحس بأنّ سيراً كثيرة تتهافت على الذاكرة، لتسهم في صياغة ما أنتقي، وهو تهافت يفرض نفسه، فالتداعيات تؤكد أنّ الكاتب مرتهن مقروئه، وأنّ تمثله لما يقرأ لا ينجيه من التأثُّر الواضح. وكلُّ مفكر تعرف مصادر ثقافته من كتابته، وتقديم التجربة لوقوعها بالفعل، وليس لتألُّقها، ولو أنّ المجرّبين جعلوا التألُّق شرطاً للإفضاء، لما فعل ذلك العقلاء، لأنّه مؤشِّر إعجاب وزهو وغرور وتزكية للنفس. |
تجربتي الثقافية وتحوُّلاتها ..! 3-4
د. حسن بن فهد الهويمل وحين هممت بالتقميش، تذكَّرت ما قرأت في كتاب (أنا) وكتاب (في بيتي) وكتاب (حياة قلم)، للمفكِّر العربي (عباس محمود العقاد)، وهي تمثِّل جانباً من حياته الفكرية، فيما تمثِّل روايته الوحيدة (سارة) حياته الغرامية الفاشلة، والتي انطلق منها (عامر العقاد) رحمه الله، لتقصى ما لا يجوز، في كتب صفراء، سمّاها (غراميات العقاد) و(المرأة في حياة العقاد)، وهو لون من الارتزاق غير المشروع. وليست (اليوميات) ل(العقاد) بأجزائها الأربعة الضخام من قبيل السيرة الذاتية، ولكنها تعليقات تشتمل على النقد والرد والسؤال والجواب لمختلف المعارف والقضايا. وقد كتبها في خريف حياته، حيث وهن عظمه، وخارت قواه، وشحّت موارده، فكانت أشبه بالخواطر، ليعيش حضوراً، ويكسب قوتاً، وبئست حياة تزورُّ عن العظماء، وتنبطح تحت أقدام الأقزام. و(العقاد) في كتبه الثلاثة أفاض، بالحديث عن تلقلُّباته الفكرية والقرائية، وقد خصّ مكتبته في كتابه (أنا) بفصل موجز، بسطه في كتابه (في بيتي)، وإنْ أوغل في الفلسفة عندما تحدث عن (النور والروح والمادة) حديثاً جدلياً ممتعاً، يتكئ على الحوار مع صاحبه. أمّا حديثه في (حياة قلم) فقد كان أجمل ما فيه حديثه عن (ولادة قلم) و(قلم يشق طريقه)، ولو كتبتُ عن قلمي، لكاد يكون ما أكتب مستلاً من (العقاد)، ليس عجزاً، ولكنه التشابه في النشأة والظروف، وبقدر تأثُّره السَّاذج ب(النديم) كنت معه في مطلع حياتي. وهو حين يتحدث عن (أزمة قلم) فإنّما ينطلق من الأزمات المادية التي تعرّضت لها صحف الأفراد، و(العقاد) يعيش من شبات قلمه، وليس من عرق جبينه، فهو قد رفض أن يبيع نفسه بالتقسيط على الحكومة - على حدِّ تعبيره - فالوظيفة عنده قيد حريري، يعوق الانطلاق، ويحبس الكلمة، ويستنزف الجهد والوقت، بثمن بخس هو الراتب الشهري، وحسناً فعل. وحياة (العقاد) متميّزة كتميُّزه بين أقرانه، فهو لم يكمل دراسته، ولم يتزوج، ولم يتوظّف، وهذه الفضاءات الثلاثة مكَّنته من تشكيل فكر حر، لا يخشى في الحق لومة لائم. فكان صعلوكاً متحضّراً، يردِّد مع الصعاليك قول أحدهم:- (خُلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة عليَّ يداً أغضي لها حين يغضب) وينشد مع (الحميري) قوله:- (عدسْ مالعباد عليك إمارةٌ نجوت وهذا تحملين طليق) ولقد اختلفْتُ معه في خصوصياته الثلاث، فكان أن تزوّجت مبكراً وتوظّفت مبكراً، وتباطأت في إكمال دراستي، ولكنّني أكملتها عبر جامعات ثلاث، تعرّفت من خلالها على أساطين الفكر والأدب. وتجربة العقاد الفكرية تشكِّل الجذور الأولى لرؤيتي، وإنْ عدلت عنها بعض الشيء، حين وصلت حبالي بالتراث، عبر موسوعاته الثقافية وبناشطي الفكر الإسلامي، كشيخ الإسلام (ابن تيمية)، حيث امتدت نظرتي إلى مصادره المعرفية الأهم في (المحلى) ل(ابن حزم) و(التمهيد) ل(ابن عبد البر) رحمهما الله، وحفظت التوازن في (المغني) ل(ابن قدامة). وهو كتاب في الفقه المقارن، وتحوُّلي الفكري من خلال تواصلي مع التراث، لا يقلُّ عنه تحوُّلي الأدبي من خلال تواصلي مع (مناهج النقد اللغوي الحديث)، و(مذاهب الأدب ومدارسه). ونزعتي الفكرية أميل إلى التكاملية والانتقائية، فمع اعتزازي بالسلفية، إلاّ أنّني لم أكن سلفياً خالص السلفية، إلاّ في الأصول العقدية، أو ما يسمَّى ب(الفقه الأكبر)، أو قل لست مرتهناً لمدرسة سلفية معيّنة. وإشكالية (السلفية) أنّ لها محطات تاريخية، لكلِّ محطة قضاياها التي أسهمت في توجيه الرؤية. والدليل على ذلك أنّ كلاًّ من (أحمد بن حنبل) و(أحمد بن تيمية) رحمهما الله، مرَّا بمحنة وامتحان، ولكلِّ محنة أجواؤها الفكرية المغايرة، ولكلِّ جوٍ خطابه، فمحنة (ابن حنبل) مع (المعتزلة) حول (خلق القرآن)، أمّا (ابن تيمية) فمحنه كثيرة، كما يقول صاحب (ذيل الطبقات)، وهو مجتهد في الفروع، وله مفرداته التي أثارت علماء المذاهب المتعصِّبين. ولك أن تقول مثل ذلك عن (محمد بن عبد الوهاب)، وغيره من المصلحين ك(الألباني). فالحركة الإصلاحية ل(ابن عبد الوهاب) اهتمت بحفظ جناب التوحيد، وتشكيل كيان سياسي يحميه. والحركة السلفية عند (الألباني) ركّزت على تصفية النص، وتربية الأُمّة على القيم، والعودة إلى الكتاب، وصحيح السنّة، الأمر الذي أثار عليه أصحاب المذاهب الفقهية، ولقد ساعد على ذلك حدّة طبعه، وعنف رده، وعدم مصانعته، واحتدام مشاعر مريديه. وهكذا تتعدّد الخطابات بتعدُّد الأولويات. والتكاملية والانتقائية عندي ماثلة كذلك في الاتجاه النقدي، ومن ثم وصفني بعض الخصوم بالناقد التلفيقي، و(النزعة التلفيقية) نزعة فلسفية، تقوم على الخلط غير المنظم. ومن أمثلتها كما جاء في بعض الموسوعات (التزويج بين المادية والمثالية، وربط المذهب الماركسي بالمذهب التجريبي النقدي). وكم استفدت من المذاهب والتيارات التي واجهتها ك(الحداثوية) و(البنيوية)، و(التفكيكية) وغيرها، وفضل أصحابها عليَّ كفضل من أشايع. ولكيلا أقع أسير فكر واحد، فقد حاولت أن أستبين مكوّنات العقل العربي المعاصر من خلال كتب المفكرين ومذكّراتهم، ولقد وقفت على عدد لا بأس به من السير الذاتية عند (العقاد) و(طه حسين) و(أحمد أمين)، و(بدوي) و(عوض) و(إحسان عباس) و(إدوارد سعيد) و(عنان) و(العريان) و(هيكل) و(الجابري) و(زكي محمود) وآخرين. كما شغلني العقل البشري وبوصفه موضوعاً، فتقصّيت مشروع (الجابري)، وردود الفعل عند (الطرابيشي) ومن عاضده، أو خالفه حول مشروعه، كما هو عند (الياس مرقص) و(هشام غصيب) و(يحيى محمد)، كما امتدت نظرتي إلى تناولات (كانت) و(نورمان بريل) و(ماركيوز) و(باشلار) و(برنتون) و(لوكاش) وربطت ذلك كله بمفهوم العقل في الإسلام وحدوده واختلاف (المعتزلة) مع (السلفية) في ذلك. وليس مهماً عندي الاختلاف في وجهة النظر، متى استطعت أن أسيطر على الموقف، وأن أعرف القدر المسموح به، وفق رؤيتي ومذهبي الفكري. ولقد تعمّقت صلتي بمثل هذه السير الفكرية حين حُكِّمت في جائزة عالمية، وحين ناقشت رسالة (السيرة الذاتية في الأدب السعودي)، وحين كتبت دراسات لم تر النور بعد، ولكي أكون على بيِّنة من أمري، فقد امتدت نظرتي إلى مجمل الدراسات التنظيرية والتطبيقية المؤلَّفة والمترجمة عن (السيرة الذاتية) في سائر الآداب العالمية. ويوازي ذلك دراسات الظواهر والشخصيات والتاريخ الفكري عند (أحمد أمين) و(حسن حنفي) و(فهمي جدعان) و(علي النشار)، ولكلِّ واحد منزعه العقلي الذي لا أمضي معه، وإن استكنهته. ومذكّرات الساسة ليست بأقل تأثيراً مما سلف، لا من خلال التحوُّل من الفني إلى السياسي، ولا من خلال العدول عن بعض المواقف، لقد أيقنت أنّ كلَّ فعل سياسي مؤثر إن هو إلاّ وليد لعبة صنعها الكبار ونفّذها الصغار، ولهذا اجتهدت في تفحُّص الوثائق المفرج عنها، واستكناه سير القادة المؤثرين من عمالقة السياسة العالمية، وتقصِّي قوانين اللعب السياسية وقواعدها، ولم أكن خِبّاً يخدعني الإعلام الموجَّه، وتحوُّلي إلى الكتابة الفكرية والسياسية، لا تمثِّل الانقطاع عن الأدبي وإنّما تعني التوسُّع في مهمات الأدب. وتجربة القراءة العصيبة تتمثّل في البداية والاختيار، فأي الكتب تقتني ولأي الكتّاب تقرأ، ومن أي الموضوعات تنطلق. لقد كان منطلقي قبل نصف قرن من (مكتبة بريدة العلمية) التي أمر بإنشائها (الملك سعود) رحمه الله، وأشرف عليها وتابعها، ودرس فيها الشيخ (عبدالله بن حميد) رحمه الله، ومكتبة (المعْهد العلمي) الذي التحقت به قبل أربع وخمسين سنة. والمكتبتان حافلتان، بكتب التراث، والتراث العربي مليء بالجيد والرديء، والمنجي والموبق، والغث والسمين. وتأسيسي الأدبي في بداياته كان على الموسوعات الأدبية ك(البيان والتبين) و(الأغاني) و(العقد) و(صبح الأعشى) و(المستطرف) و(الطبقات) و(الخزانة). ولمَّا أزل حتى الساعة وثيق الصلة بتفسير (ابن كثير) وديوان (أبي الطيب) ولزوميات (المعري) وموسوعة الفتاوى) (لابن تيمية). وإذا استدركنا على المعاصرين شطحاتهم المخلَّّة بالقيم، فإنّ الذين سبقوا من علماء وأدباء وفلاسفة، وكتبوا سيرهم العلمية أو العملية، كانت لهم شطحاتهم التي لا تقلُّ عن شطحات من خلف. والمتعقِّب لمن كتب عن ذاته في التراث، يجده إمّا مغرقاً في الإدعاء، أو ممعناً في الزهادة، والذين ترجموا لأنفسهم، عول بعضهم على ذكر الشيوخ والأنساب، وتحديد المذهب، والرحلة في طلب العلم. وتلك أبرز السمات لسير التراث، ولكن للأدباء والفلاسفة طرائق أخرى، لا تعول على ذكر المدارس والشيوخ والأنساب. ف(ابن سينا) يأخذه الزهو والاعتراف، حين يذكر جلَده واستعانته بالشراب على الكسل. و(ابن عربي) يوغل في المكاشفات والكرامات، ولكنّه لا يتجاوز إلى الشعوذة، مثلما فعل (الشعراني)، أمّا عن الاعترافات غير المسفة فنجدها عند (ابن حزم) في (طوق الحمامة) وفي (الأخلاق والسير)، وهنا يبدو لنا في حديثه الفرق بين (الصدق) و(الصراحة) في السير الذاتية، فالصدق ألاّ يكذب، والصراحة ألاّ يتكتّم. وكلُّ الذي وقع فيه (ابن حزم) أنّه خالف الأعراف السائدة عند لداته من العلماء، وإلاّ فهو لم يخرج على السلوك الأخلاقي. ولا حجة لأحد بالتراث العربي، فهو إنساني، له وعليه، ولم يطلب منا الرد إليه عند التنازع، وموسوعات (الحيوان) و(الأغاني) و(الدارات)، وكتب (المثالب) و(الصداقة والصديق) و(الرسائل)، وسعت سفاسف الأمور، وليست حجة، ونبش عفنها جناية لا تغتفر، وقد فعلها (طه حسين) في (حديث الأربعاء)، وعول عليها (شوقي ضيف) في (الشعر والغناء في المدينة ومكة)، ولقد يسّر الله من يحمي جناب المقدسات من المفتريات حيث أنجز الدكتور (عبد الله الخلف) رسالة علمية رد فيها على (ضيف). على أنّ (أدب الرحلات)، حوى من السير الذاتية الشيء الكثير، وهذا اللون يُعد مصدراً أخلاقياً ووعاء للتجارب المهمة، لم يلتفت إليه الدارسون بالقدر الكافي. ولأنّ القراءة بحاجة ماسة إلى الجهد والوقت والمال فإنّها موبقة أو معتقة، وما أكثر الذين أضلّتهم القراءة، أو أضاعت جهدهم ووقتهم ومالهم معاً. ومكمن الخطورة أنّ متكأ الإعلام المعاصر ومصدر تألُّقه، يكمن في الحديث عن المسكوت عنه و(اللا مفكر فيه)، وما هو مظنة الإثارة في أمور تتعلّق بالدين أو بالمرأة أو بالسياسة، لارتباط ذلك الثالوث بالسلطة، حتى أصبح المرتع الوخيم لكلِّ من تعجّل الحضور والتزبب في زمن الحصرمة. ومن جهة أخرى يوغل الإعلام في التوافه لإشباع رغبات المترفين الذين لا يشغلهم إلاّ قتل الملل، وإزجاء الوقت. وذلك بالحديث عن (الفن الهابط) وأحوال الفنانين والفنانات، أو الحديث عن (كرة القدم) واحتراف اللاعبين، وتلاحي المشجعين، أو الحديث عن (الشعر الشعبي) ومتعلّقاته، وأحوال (المجتمع) من ظعن وإقامة. وكلُّ ذلك المقروء للتسلية ليس غير. وتجربتي الثقافية لا ترفض مثل ذلك، ولا تعزب عن ذكرها ظواهر المجتمع السلبية والإيجابية. فالمهتم بأحوال المجتمع لا بدّ أن يلم بكلِّ ظواهره، ومن ثم نشأت عندي القراءة الاستعراضية، التي تحيط بأطراف القضايا، ولا تتعمّق فيها. إذْ هناك قراءة وظيفية، بمعنى أنّها أنشئت للوصول إلى شيء محدد، كقراءة الرسائل الجامعية للمناقشة، وقراءة البحوث للتحكيم أو للترقية. وهناك القراءة التحضيرية، كإعداد المحاضرات، والإعداد للندوات، أو الاستعداد للردود عند الاختلاف حول الظواهر والقضايا. وهناك قراءة الاكتشاف، كالتعرُّف على مفكر أو فكر. وهناك قراءة التزوُّد، وهي القراءة الحرة المفتوحة. وهذا اللون من المقروء العابر، يلم به البعض للترويح عن النفس، فيما يدمنه آخرون، ويرونه غاية المراد. ولا شك أنّ هذا لون من سلبيات القراءة، وهو فيما أرى أهون الضررين، إذْ لا يتجاوز اللمم، وإن ترتبت عليه إضاعة الجهد والوقت والمال. أمّا اللون الأشد ضرراً والأفدح خطراً، فهو ما تنتجه الأفكار المنحرفة، والمذاهب الهدامة، وهو الأكثر جاذبية، والأقدر على الإغراء، والأذكى في نصب الحبائل، وجذب القراء. ولقد نشطت وسائله، وتعدَّدت مصادره، وتنوّعت فنونه، واستشرى خطره، وعم ضرره، و لا يخلو عصر من العصور من طوائف متعدِّدة الآراء والأفكار والعقائد. ويكفي أن يستعرض القارئ موسوعات الملل والنحل ومعاجمها، وما يدور في علم الكلام في عصور الازدهار، أمّا في العصر الحديث فقد تبدّت أساليب جديدة، ومناهج حديثة، ومذاهب فكرية متعدِّدة بتعدُّد القائلين، كما نجم فيه الفكر الإلحادي، المتوسل بالهدف لا بالجدل، والمعول على المادة. ولكلِّ عقد من الزمان همومه ومثيراته وقضاياه، والتفكير في العصر الحديث كاد ينحصر في المادة، بوصفها ماثلة للعيان. والتاريخ الفكري الحديث حافل بالتجارب الفكرية والسياسية والأدبية، وبالتحوُّلات في تحديد مركزية البحث، والدخول في المعمعة مجازفة محفوفة المخاطر. |
تجربتي الثقافية وتحوُّلاتها ..! 4-4
د. حسن بن فهد الهويمل ولأنّ التحوُّلات الفكرية سمة العصر، فإنّ من المفيد تقصِّي ذلك ما أمكن، أو الإشارة إليه، وكافة التحوُّلات ذات ارتباط وثيق بالتقلُّبات السياسية، والتحوُّلات تراوح بين السلب والإيجاب، وكم هم الفرق بينها وبين (التقليعات)، التي مُني بها المشهد الثقافي العربي، وأيّ (تجربة ثقافية) ليست بمعزل عن تقلُّبات الطقس، والتحفُّظ أو المراجعة قد تخففان من فداحة التأثير. ولقد أشرت من قبل إلى لونين من المقروء المكوِّن والمسلي، وكلتا القراءتين: قراءة التسلية، وقراءة الفكر المنحرف دون تحصُّن، تعودان بالضرر على القارئ المبتدئ، فقراءة التسلية إضاعة للجهد والوقت والمال، وقراءة الأفكار المنحرفة ضلال مبين للفكر المتردد، وانزلاق في متاهاته. ولما كانت الكتابة بضاعة متداولة بين الكاتب والقارئ، وجب على الطرفين إعطاء الموقف ما يستحقه، وتفادياً لتصدُّع العلاقة أو فتورها، حرصت على كسب القارئ، باحترام مشاعره، فالذي لا يحترم قارئه، لا يستحق الاحترام. وما أكثر المغالطين والمفترين والمحرّفين. والإشكالية ليست في ذات القراءة، ولكنها في القارئ والمقروء، ومدى ما لديهما من تفاعل. ولعلّنا نتذكّر تداول (المركزية) بين المؤلِّف والنص والقارئ، وأثر هذا التحوُّل في نتائج القراءة. والمسهم في الحركة الفكرية والأدبية والسياسية لا بدّ أن ينوِّع المقروء، وأن يعدد مستويات القراءة، وأن يكون متابعاً لحراك المشاهد، راصداً لتحوُّلاتها، مؤصلاً لمعارفه، متقصِّياً لجذور الفكر بكلِّ تنوُّعاته، عارفاً أو متعرفاً على القوم من مشاربهم، ومن لحن القول، مسترفداً كلّ المناهج في مواجهة المستجد، ذلك أنّ لكلِّ فكر آليته ومنهجه ومرجعيّته وجذوره. وما لم يكن القارئ على بيِّنة من أمره، أضلَّه السامري، وما أكثر السامريين الذين يستدرجون المبتدئين من حيث لا يشعرون. والمشاهد تعجُّ بالسذَّج والخدّاج. وتنويع القراءة وتعدُّد مستوياتها سبيل النجاة وحفظ الجهد والوقت والمال. وإن لم يتوفر القارئ على تلك الاحتياطات فإنّه يفوِّتُ على نفسه المتابعة والرَّصد والاستيعاب، بحيث تبدو في إسهاماته فجوات تكشف عجزه عند المواجهة. وما أكثر الذين يعييهم الجدل فيستدبرون الموضوعات ويموضعون الذوات، وما أكثر الذين يقولون منكراً من القول وزورا. والفرق واضح بين المنْشِئين والمؤصلين، والفقهاء والكتّاب. وكم ضحكت - وشرُّ البليّة ما يُضحِك - من كُتّاب يتداولون قضايا مصيرية من خلال ثقافة السماع الإعلامي، وهي ثقافة متسطّحة، لا تزيد المشهد الثقافي إلاّ تشرذماً وفرقة وخبالاً، وتقحُّم (الفقه الأكبر) يتطلَّب التوفُّر على الأصول والقواعد، ف(النص)، بحرٌ لُجِّي داخله مفقود، وخارجه مولود، ولهذا أمر الله بالنفور للتفقُّه في الدين، ولم يكتف بمجرّد السماع. ومن القراء والكتّاب من يميل مع الرياح حيث تميل، لا تعرف له مذهباً، ولا تقف له على قضية. ومنهم من إن تراجعه في جنحة، لا يستمع إليك، ولا يسائل نفسه: أحقٌّ ما أقول؟. ولأنّ الحياة مسرح يتعاقب عليه ممثلون من كلِّ جنس ولون، فإنّ واجب النظّارة ألاّ يكونوا ريشاً في مهب الريح. وما لم يكن هناك تأصيلٌ معرفي، ينطلق من قعر حضارة الانتماء، وموقفٌ فكريٌّ مصون عما يزعزعه، فإنّ الإنسان يكون كالمرآة في كف الأشل. وفي ظلِّ ذلك التنوُّع والتَّعدُّد يتحتّم على المتابع أن يبذل جهداً استثنائياً، يمكِّنه من الوجود الكريم في أكثر من مشهد. ولقد تكشّفت لي من خلال تجربتي الثقافية أنّ على الراصد للحراك الفكري والسياسي أن يتضلّع من المصطلحات، وفق مفاهيمها الأصلية. ولن يتأتّي ذلك إلاّ بالتوفُّّر على أمهات الكتب, والوصول إلى المصادر الأصلية. فالمفاهيم المتداولة للمصطلحات مفاهيم إعلامية، متّكؤها ثقافة السماع. كما تبيّن لي أنّ منشأ الخلاف في كافة المشاهد مرُّده إلى تضارب المفاهيم، وتعدُّد المصادر، فمن يعول على الرؤية الغربية، يكون خطابه مرتبطاً بتلك الرؤية، ذات النزوع المادي. والمصطلحات وإنْ بدت مغرية إنْ هي إلاّ ناتج حضارة مغايرة، وليست بريئة، وإن كانت مقاصدها العامة حسنة ف(الديموقراطية) - على سبيل المثال - تدعو للحرية والعدالة والمساواة، وتداول السُّلطة، وانتقالها وفق آلية حضارية ك(الانتخاب)، وهذا حسن ومطلوب لأنّه من ضوال المؤمنين، والحقُّ ضالّة المؤمن أين وجده فهو أحقُّ به، ولكن (الديمقراطية) في النهاية منتج فكر مادي لا ديني، يرد للشعب، ولا يرد إلى النص التشريعي. والقبول بها على الإطلاق ناتج جهل بالجذور الفكرية للمصطلح، فمصطلحات كلِّ حضارة لا تكون بالضرورة صالحة على إطلاقها، وإن قيل بتفريغ المحتوى، وليس من المعقول أن تكون ملائمة لكلِّ الحضارات. ولما كان معوَّل الحضارة الغربية على العقل المجرّد، ومعوَّل الحضارة الإسلامية على النص والعقل معاً، أصبح هناك فجوة بين مفاهيم المصطلحات ومقاصدها. فمصطلح (الحرية) مثلاً له مفهومه الغربي ومقتضاه، وله مفهومه الإسلامي ومقتضاه. ف(الحرية) في الإسلام منضبطة أو مقيَّدة بنص، وهي فيما سواه مطلقة، وليس إطلاقها فوضوياً بالضرورة، ولكنه مخالف للمقتضى الإسلامي، ولأنّ (الحرية) جزء من (الديموقراطية) وهي كل (اللبيرالية) و(الوجودية) فإنّ الحديث عنها بمعزل عن المرجعيات مظنّة الاختلاف، وهو ما نشاهده في أوساطنا الفكرية التي لا تضع قيمة للتأصيل والتأسيس. وتجربتي الثقافية كشفت لي عن زيوف، لا يجوز القبول بها، وعرَّت مشاهد يحسبها البعض على شيء من الحق، وما هي كذلك. وعلماؤنا الأوائل قعَّدوا القواعد، وأصّلوا الأصول، وحدّدوا المناهج، ولم يتعاملوا مع القضايا والنصوص بحرية. فعلماء الحديث لهم مصطلحاتهم، وعلماء الفقه لهم أصولهم وقواعدهم، وعلماء التفسير لهم ضوابطهم. ولك أن تقول مثل ذلك عن علماء النحو والصرف والبلاغة. وكلُّ المذاهب الكلامية والفقهية والنحوية والصرفية والأدبية تحيل إلى قواعد وأصول. فعلم البلاغة والعروض والتجويد يُركز على الجماليات الصوتية، ومثل ذلك الرسم والنحت. والجمال أصبح نظرية لها فلسفتها بشقّيها: الحسِّي والمعنوي، ولا جمال مع الفوضى والعبث والغثيان الوجودي. وكلُّ ضوابط علم لها مقاصدها. والضوابط والحدود تمكن من السيطرة على الاختلاف وحسمه، وأي ظاهرة لا يحتكم المختلفون حولها إلى مرجعية متّفق عليها، تظلُّ كما الوحل، لا تزيد الإنسان إلاّ ارتكاساً. والاختلاف من السُّنن الكونية، وأسبابه كثيرة، فالنص الحمَّال، والدليل بين القطعي والاحتمالي، والسياقات والأنساق، والمقاصد، والعموم والخصوص كلها أسباب معقولة ومتوقّعة. والمتعصِّبون لآرائهم لا يعرفون دواعي الاختلاف، وأصحاب الأهواء يضلون عن الحق، ولقد أسهم (التأويل) في القديم و(التفكيك) في الحديث في تعميق الاختلاف، ولا يحسمه إلاّ الإذعان للمرجعية واستحضار الضوابط. وفوضوية المشاهد الفكرية والأدبية مرجعها إلى التمرُّد على المرجعية، وفهم الحرية على غير وجهها، وعدم التزوُّد من العلوم وضوابطها. إنّ الداء العضال الذي فتّت الوحدة الفكرية في أُمّة هي أحوج ما تكون إلى التماسك والاعتصام، مردُّه إلى علّتين: الفوضوية باسم الحرية، ونبذ المرجعية باسم الاجتهاد، ورصدي للعراك، وخوضي لبعض معاركه، جزء من تجربتي الثقافية، ولهذا سعيت لإشاعة المناهج والآليات، التي تضبط الإيقاع، وحرصت على التزوُّد منها، لأنّها الأقدر على الأطر. ولو عدت إلى تذكُّر تجربتي الثقافية، وما أسفرت عنه لوجدتها - فيما أرى - تجربة غنية ومفيدة، لقيامها على مرتكزين: الأخذ والعطاء. فالأخذ يتطلّب الانتقاء والفهم، والمرور بالمنتقى عبر بوابات حضارة الانتماء. والعطاء يتطلّب التضلُّع من سائر المعارف. فالمفكر والأديب كالنحلة، إن هي لم تنطلق لامتصاص نسغ الزهور، تكون كالذباب. وعلى المفكر أن يستحضر مهمة النفع والإمتاع. وحاضر المشاهد الفكرية والسياسية والأدبية تضطر صاحب المواقف إلى إكراه نفسه على قراءة سائر الأفكار المستقيمة والمنحرفة، تمشياً مع قاعدة (الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره)، فالناقد يمارسْ المرافعة ضد الأفكار المنحرفة، ولن تتحقق له الغلبة حتى يتعرّف على تلك الأفكار وجذورها التي يستمد منها أحكامه ومواقفه، ولهذا فإنّ قراءتي للأفكار المتعدِّدة المنازع والاتجاهات، تكاد تفوق قراءتي لما أنا منه، ولما هو مني. ومن البدهيات أنّ الحياة الدنيا خليط من الخير والشر، وأنّ الخيرية لا تكون محضة في شيء، وأنّ الشر لا يكون محضاً في شيء، وأنّ الإنسان بوصفه إنساناً لا تشمله الخيرية حتى يأخذ بأسبابها، وأي تجربة واعية تستحضر الافتتان، ومن ثم تستصحب الصبر والمصابرة والمرابطة. والإنسان في القرآن قلّ أنّ يأتي إلاّ في سياق الذم، كما (الترف)، وحديث العقاد في كتابه (الإنسان في القرآن) يجلِّي هذه الإشكالية التي عالجها بشيء من العلمية الدكتور (زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الإنسان)، ومن ثم فإنّ الإنسان متنازع عليه بين قوى متعددة. ويكفي أنّ الشيطان توعَّد كما قال الله تعالى عنه {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، والإنسان بهذه المؤهلات مشروع خير عميم، أو شر مستطير، ودخول المشاهد بهذه التوقُّعات يقي من المفاجآت ومن ألقى نفسه في أتون الجدل، فعليه أن يُعد للجدل عدّته، وتتمثّل في القراءة الشمولية المعمّقة، والمتابعة الدقيقة لفيوض المعارف الجديدة. وإذا كان انتصار الجيوش في ثلاثة أمور: الإيمان بالقضية، والإعداد للمواجهة، والتخطيط للفعل، فإن المرابط على ثغور حضارته لا بدّ أن يتمترس خلف الكتب، وأن يكون على ثقة بنفسه، لا يلتفت إلى الخلف، ولا يستفزه اللغو. ولا تزلقه أبصار التافهين. وفي الوقت نفسه عليه ألاّ يأخذه الغرور والعجب. ولا يحفظ التوازن إلاّ الإذعان للحق، والترفُّع فوق الترهات. وبعد هذا وذاك، فإنّ الثقافة فيما أرى كالمشروبات والمأكولات المحدودة الصلاحية، فمن عوّل على الماضي وحده، كان كمن عزل نفسه، ومن عوّل على الحاضر وحده كان كمن أقام بناءه على شفا جرف هارٍ. وعلى ضوء ذلك لا بدّ من التجديد المستمر للأفكار، وحضور المشهد استكناهاً ومشاطرة واستغلالاً. فالتبعية إلغاء للذات، والصدامية إنهاك للذات، والمداهنة تزييف للذات. وعلى المثقف أن يختار المواقع المناسبة بشروطها، فليس الاختيار ممكناً بمجرّد الرغبة. إنّ حماية الذات وتفعيلها يتطلّبان أثماناً باهظة. وقدر الناقد أنّه كالنافخ في الرماد بحثاً عن جذوة أو قبس، فهو لا ينجو من تصاعد الرماد، وفوات الجذوة. وخلاصة التجربة الثقافية تقوم على المرتكزات التالية: - القراءة المعمّقة الشاملة. - والمتابعة الدقيقة للمستجدات. - والثبات على الموقف. - والتأصيل المعرفي. - وتحرير مسائل الاختلاف. - وتحديد المرجعية والإذعان لها. ومعتصر المختصر يكمن في إشارتين عظيمتين: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}. {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}. وتجربتي الثقافية لما تزل تلح بأنني مبتدئ أتهجَّي أبجديات المعارف في الصفوف الخلفية. |
استراحة 1 / أعلم أن الصفحات ستكون كثيرة في هذا الكتاب ولكن ماذا أصنع ؟ هذا تراث الدكتور الكثير .. ولتعلموا أن مامضى هو نتاج كتابته في عام 2006م فقط وفي صحيفة الجزيرة فقط وسأتابع بعد هذه الإستراحة ماكتبه في عام 2005م ثم 2004م ثم 2003م ثم 2002م ثم 2001م ثم 2000م ثم 1999م ثم 1998م والله المعين سبحانة 2 / قد يقول قائل ولم لاتكون هناك روابط لمقالاته ؟والجواب : هل سمعت بكتاب يحتوي على روابط :D هذا كتاب .. يفتحه من يحب القراءة للهويمل ويقرؤه بكل متعة دون أن يعكر ذلك انتقال من موقع إلى آخر وكذلك فإنني لاأستبعد وجود أناس يرغبون في جمع تراث الدكتور في صفحة واحدة فأنا أريحهم بهذه الطريقة حتى يتم تخزين الصفحة ومن ثم القراءة دون اتصال 3 / من فوائد هذا الجمع أن يطلع أولئك الذين لايعرفون الهويمل جيدا على فكره وثقافته من خلال ماكتبه ونثره هنا وهناك ليكونوا على بينة أمام أي نقد مزيف : 12 4 / ومن فوائده أيضا التفريق بين الثقافة الكبيرة وثقافة ( الفطيرة ) الجوفاء :p والآن لنأخذ قسطا من الراحة قبل أن نحلق في تراث الهويمل ماقبل 2006م وتقبلوا من عبـــــــــــــــــ : 12 ـــــــــــــــــــــــــاس كل حب ومودة |
أبومحمد النجدي
أشكرك على هذه الثقة وهذا الاهتمام أنت بهذا تدفعني لأن أنقب في كل مكان أسأل الله الإعانة كما أتمنى ممن يعرف من تراث الدكتور شيئا أن يسوقه إلى هذا الكتاب المفتوح مشكورا ولكم من عباس كل مودة ومحبة |
والآن لنبدأ مقالات 2005م
المواطنة بين تعدد المفاهيم وتشعب القيم الثقافية..! (1-2) د. حسن بن فهد الهويمل لقد اهتم التشريع الإسلامي، بالتأصيل لمجموعة من القيم: العقدية والسلوكية والحقوقية والتعبدية والانتمائية الاصطباغية {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً}، وجاء المنقبون من علماء الأصول والكلام، فقعدوا القواعد وأصلوا الأصول، وامتازت كل ملة أو نحلة بنظريتها المعرفية وقواعد مذهبها، وعرف كل أناس مشربهم، وتبدت هذه الأصول وتلك النظريات للمتلقي الواعي، وعرف كل قوم من لحن القول، وتشكلت عنده رؤية وسطية متوازنة، تعرف أركان الإيمان ونواقضه، وما هو قطعي يقيني، وما هو احتمالي اجتهادي، وواكبتها رؤية معرفية إيمانية لم تعطل الاجتهاد، ولم تعمله على إطلاقه في القطعيات واليقينيات والنصوص التي لا اجتهاد معها، كما يقول الأصوليون. هذا الوعي الحصيف والرؤية النافذة روضت المستقيمين كما أمروا على قبول التعددية، واحتمال الاختلاف، وتقدير الآراء، واحترام الآخر، ما دام في النص بقية من فضاءات دلالية. هذه الرحابة مكنت أهل الذكر من توقي التعويل على قيمة واحدة، تذر الأخريات كالمعلقات. والرؤية لا تكون حقاً حتى تستوعب شمولية الإسلام وتتمثل توازنه، وتعي مجالات الثبات والتحول فيه، وتروض نفسها على أن الاختلاف أضعاف الإجماع، وأن العلماء متفقون على محدودية الإجماع وشمولية الاختلاف. والذين اتخذوا بعض القيم معزولة عن السياقات والأنساق ومقتضيات العموم والخصوص والقوة والضعف والثبات والتحول، ولم يفرقوا بين الأفكار والعقائد، ومحضوا رؤيتهم الضيقة كل جهودهم، أضروا بمن حولهم، ممن صنعوا مثل صنيعهم، وممن حفظوا التوازن بين القيم. وكل من ذهب بما يرى، واتخذ إلهه هواه، وفارق جماعة المسلمين، وتفانى في تحويل فكرة إلى عقيدة، يكفر الخارج عليها، مستميتاً في استئثاره واستبداده، فهو واقع في نقض غزل الأمة من بعد قوة أنكاثاً، لأنه ترك المحجة، وتاه في بنيات الطريق، وكان أمره فرطاً. وكلما تعددت الثقافات بتعدد مصادرها، أو بتعدد نظريات التلقي، كان من الصعوبة بمكان اتفاق النخبة على وحدة المفاهيم والأفكار، وبخاصة أولئك الذين يوغلون في مسلماتهم، ويستسلمون للحساسيات المفرطة، ويقعون تحت عقدة الخوف غير المبرر ف(المواطنة) في ظل هذه المخاضات الفكرية والثقافية مفهوم مراوغ، يتعدد بتعدد الرؤى والمصدريات ونظريات التأويل. وليست هناك إشكالية عصبية في التوفيق بين وجهات النظر، متى حسنت النوايا، وشرفت المقاصد، وقوي الإيمان بالثوابت واليقينيات المجمع عليها، وتسامى الناس فوق الجزئيات والثانويات. أما إذا ضاع الإيمان أو اضطرب، لا أمان ولا قوة، ذلك أن طاقة القوة الحسية والمحرك لها والداعم لها إنما هو الإيمان الراسخ بالمبادئ، والمعرفة التامة بتفاوت الأحكام، وتبدل الأحوال، ودوران الحكم مع العلة وجوداً وعدماً. والناهضون بالدعوة والإنذار لا بد لهم من فهم دقيق لمقاصد الإسلام، واحترام لمذاهب العلماء الأفذاذ، وترويض للنفس على قبول الرأي الآخر، وإمكان التعايش معه على قدم المساواة. وليس من حق أحد أن يصر على نفي الرأي الآخر ما دامت التعددية واقعة تحت طائلة الاختلاف المشروع. وإذا كان المذهب الواحد يقع بين علمائه الاختلاف، وفيه حكم مقدم، يعرفه الراسخون في العلم، فإن من حق المذاهب الأخرى أن تأخذ حقها ومشروعيتها، ولا تجوز الملاحاة، ولا الإصرار على التهميش، ولا استنزاف الجهد والوقت في المماحكة والجدل البيزنطي، وبخاصة إذا كانت لكل الأطراف مرجعية مشتركة وأصول معتبرة، فتلك المؤهلات تضبط حراك الناشطين في المجالات التوعوية والدعوية. و(المواطنة) الإيجابية لا تتحقق بالأثرة، ولا بالتنافي. وفي التسامح والتفسح في المجالس استجابة للمقاصد الإسلامية، كما يراها علماء الأمة، إذ هي تؤلف بين المفاهيم المتعددة. ولن يتحقق ذلك إلا بفقه النص التشريعي من حيث الرواية والدراية والبراعة في إنزال الحكم على النازلة. ومن الأخطاء الفادحة تصور الفقه مقصوراً على (فقه الأحكام) ومجرد القول بأن هذا حلال وهذا حرام، وتناسي (فقه الأحوال) وهو المتعارف عليه ب(فقه الواقع) و(فقه الأولويات) و(الفقه السياسي). والرسول صلى الله عليه وسلم استصحب هذه الأنواع الثلاثة، وما لحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن تركنا على (المحجة البيضاء)، ومن زاغ عنها بسبب الجهل، أو الهوى، أو التعصب، أو التقليد، هلك وأهلك من حوله من الأشياع والأتباع. وما استعصى على الرسل إلا (عقدة الأبوية)، وما استفحل التناحر، إلا في ظل الخلط بين الأفكار والعقائد، وما هلكت الأمة إلا على يد أغيلمة موغلة منبتة، تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية. و(المواطنة) الإيجابية تتجلى في القول، وفي الفعل، وفي الترك، وفي التوازن بين الحقوق والواجبات. وحين يبادر البعض مهمة القول في (الشأن الوطني) في حالة من اضطراب المفاهيم، وتكالب الأزمات، تبدأ نذر الخلل في الوحدة الفكرية والدينية للأمة، وينسل من ذلك خلل آخر، يؤدي إلى تفكك الوحدات الإقليمية والسياسية والدينية. ومن استخف بالقيم والمبادئ، وركن إلى الحسيات والماديات، فوت على أمته فرصاً ثمينة. وإذ يكون (الأمن) أغلى القيم وأهمها، فإن أي حراك ديني أو سياسي أو ثقافي أو فكري يساوم أو يزايد عليه تحت أي راية يعد في نظر العقلاء والمجربين ظلماً وعدواناً وتفريطاً، ولا ينظر إلى عوائد مزايدته أو مساومته مهما كانت. ذلك أن (الأمن) مصدر كل خير، ولن يستطيع أي مصلح في أي حقل حضاري أن يمارس عمله إلا في ظل (الأمن)، ولهذا شدد الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ولزوم جماعة المسلمين، وغلظ على الخارجين، وأهدر دمهم، وقال: (فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)، ومواجهة المؤسسات الشرعية خروج على السلطان، على أن السلطان ليس شخصاً بعينه، وإنما هو مفهوم وقيمة، متى اجتمعت عليه الكلمة، تعين سلطانه. وإذا كانت (المواطنة) قيمة و(الدين) قيمة و(التعدد الثقافي) قيمة و(السلطة) بشعبها الثلاث: (الدولة) و(الدين) و(المجتمع) قيمة، فكيف نُوفّق بين هذه القيم، ونحفظ التوازن فيما بينها، وندرأ عن أنفسنا معرة الشقاق؟ ونحقق في ظل هذه القيمة وحدة وطنية شاملة. لقد كثر المتصدرون للقول في هذه القيم، وأصبح الرأي العام نهباً للقول ونقيضه، تخترقه القنوات والمواقع والخطابات، ويتربص به المتعالمون والمستغربون والأضوائيون، وإشكالية الراهن من فئات تتجاذب الآراء والأحكام، وهي بعد لم تع عوائد ما تقول. وما أضر بالأمة إلا اضطراب المفاهيم، وأنصاف المتعلمين، وإحجام المتضلعين إيثاراً للسلامة. إننا نخطئ في مفهوم (المواطنة) ونخلط بينها وبين مجمل النزعات (الأممية) و(الأخوة الإسلامية) حتى لقد وقع البعض في التخلي عنها، نتيجة الفهم الخاطئ لمقتضيات (الأخوة الإسلامية) و(الاهتمام بأمر المسلمين) و(التداعي الجسمي للعوارض) ومقتضيات (التكفير) و(الجهاد) و(ديار الكفر والإسلام) و(أهل الذمة) و(المستأمنين) وأضاع البعض حقوق الوطن في ظل التعبئة العاطفية لدعوات (القومية) و(الدينية) و(الأممية) مع أنه لا تعارض بين هذه القيم، متى تعاملنا معها تعاملاً إسلامياً بعيداً عن (الفئوية) و(التطرف) و(هاجس التصفية للمخالف) ولقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم تنوع المفاهيم للجهاد وأحواله في (غزوة بدر) حين كرر كلمة (أشيروا علي) وكان قصده انتزاع موافقة (الأنصار) على مواجهة المشركين خارج أسوار المدينة، لأنهم لما يزالوا مرتبطين معه بعهد الدفاع عن حوزة المدينة. وهو المرتبط ب(جهاد الدفع). وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرون (جهاد الطلب) أو هكذا خاف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصوروه. وإذا كانت الأوضاع العالمية غير السوية في تصاعد مستمر، وتأزم مستحكم، كان لا بد من تبني أسلوب مرن، يحذر الاندفاعات غير المحسوبة، أو التردد الموهن.. فالقيم أخذت في ظل هذه الأوضاع المأزومة أبعاداً جديدة، وأصبح التعامل معها يتطلب عملاً مؤسساتياً، يتوفر على المعرفة والخبرة، ويتخلق بالحلم والأناة، ويمارس الدفع بالتي هي أحسن. و(المواطنة) في ضجة الانتماءات وتناقض المفاهيم، ليست كلمة تقال، ثم لا تتبع ببرهان، إنها أخذ وعطاء، وتوازن بين الحقوق والواجبات. وتحقيق متطلباتها في ظل التعدد الثقافي قضية محفوفة بالمخاطر، وأخطر ما تواجهه الأوطان التعددية المعرفية والدينية والقومية والثقافية والطائفية. وبخاصة حين تتصور الأطياف أن تحقق انتمائها وولائها لا يتم إلا بإقصاء الآخر وتهميشه والنظر إليه بدونية. وما سنومئ إليه لا يرقى إلى هذا التصعيد الخطير، ذلك أن وطناً ك(المملكة العربية السعودية)، لا يعاني من مثل هذه التعدديات الحدية الحادة، متى أخذت بحقها، وحيل بينها وبين الاختراقات المغرضة، فهو بلد إسلامي عربي خالص العروبة والإسلام. وإن كان ثمة إشكالية فهي في بعض الولاءات الخاطئة للإقليم أو للقبيلة أو للطائفة، أو لمناقضها من قومية أو أممية أو وحدة إسلامية غير ممكنة في ظل الضعف والاستكبار العالمي. غير أن ما منيت به البلاد شيء آخر، لما تزل بشأنه في أمر مريج. وفي ظل (الظاهرة الإرهابية) أصبح المتابع يخشى الاختراقات، ويعيش أسوأ الاحتمالات.. فالبنية السكانية والتعددية الثقافية والطائفية قابلة لكل الاحتمالات والاختراقات، والسمَّاعون للخطابات المتطرفة قابلون لمزيد من العنف والصلف والغلو والتطرف، وأحسب أن التعدد الثقافي من أهداف المناوئين والمتربصين. وللحيلولة دون الاحتقانات والصدامات جاءت فكرة إشاعة ثقافة (الحوار)، و(مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني) مبادرة حكيمة، اضطربت في مفهومه ورسالته الآراء، ولقد مر بتجارب حوارية، التقت فيها أطياف متعددة، وأتيحت للمؤتمرين فرص لإبداء المرئيات، والتعبير عن التصورات، وهامش الحرية المتاح لم يواجه معه المؤتمرون مرحلة حرجة، ولم يصلوا فيه إلى طريق مسدود، مع أن الأطياف دخلت خائفة وجلة متوترة، والبعض جاء وفي ذهنه أنه داخل في صراع التنافي والتصفيات، ولم يدر في خلد البعض أنه من الممكن أن تكون هناك أرضيات مشتركة، تتسع للتعايش والتقارب أو التعاذر، وقد تبلغ الجدلية ذروة التفاعل الإيجابي، ومثل هذا الوضع يعد من المبشرات. ومع هذا التفاؤل العريض فإن هناك مواقف لا يجوز الإغماض فيها، وهي مواقف نشأت من خطأ التصور، واستفحلت في ظل غفلة الرقيب، وتعدد الانتماءات الثقافية، وتجاوز سلطة المؤسسات، وتلقي المفاهيم من مصدريات غير شرعية، وسلبية المواقف أو عجزها عن تفكيك الذهنيات المضطربة وإعادة تركيبها، والتفريق بين الفئة الضالة والفئة المضلِّلة. لقد عشنا غفلة المؤمن، حتى جاء (الحادي عشر من سبتمبر) ليكشف أوضاعاً غير سوية، وغير متوقعة، و(رب ضارة نافعة)، فلو امتدت تلك الغفلة لكان أن اتسع الخرق على الراقع. والمسارعة في إشاعة ثقافة لحوار ومأسسة الحقوق حيلولة مرحلية دون تفاقم الأمور وتدهور الأوضاع، وتناول مثل هذه الطوارئ في وضح النهار من الأساليب الحكيمة، فما دام أنه بالإمكان المكاشفة والشفافية ومعالجة الأمور دون الخوف من الاستحكام والتأزم فإن السكوت مسايرة خاطئة، وتأجيل وقتي. وفتح الملفات ومعالجتها في ظروف الصحة والقوة أفضل من إرجائها، حتى يأتي وقت لا يحتمل استدعاءها، وقد يجد المتربصون الفرصة في تحريك تلك الملفات في الزمن العصيب، وفتح هذه الملفات ليس وقفاً على المؤسسات الرسمية. إن على المقتدرين من علماء ومفكرين وخطباء وإعلاميين تناولها والتحذير من مغبتها، وطرح البدائل التي تسد مسد المغريات، فالمكافحة والتخويف حلول وقتية، والتأسيس لفكر بديل قادر على المنازلة وانتزاع الحق من أولويات المهمات. |
المواطنة بين تعدُّد المفاهيم وتشعُّب القيم الثقافية 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل ولعل أولى الإشكاليات ما يتوهَّمه البعض من تناقض بين (الأخوة الإسلامية) و(المواطنة الإقليمية) المتمثلة في الحدود السياسية. ومع القطع بعدم التعارض تظل هناك تصرُّفات تؤدي إلى التناقض؛ فحب الوطن الإقليمي والعمل من أجله لا يقتضيان تصنيم الحدود، ولا المفاضلة، ولا التصدير، ولا يمنعان من الوفاء بمتطلبات الولاء والبراء، والنهوض بحق الأخوة الإسلامية. والحب الفئوي، والقطرية المنغلقة على ذاتها، وهاجس التصفيات للآخر بكل أنواعها ضربت مفهوم المواطنة في الصميم. وليست الممارسات على ضوء المفاهيم الخاطئة وَقْفاً على أمة دون أمة، وهواجس الخوف إن هي إلا بواعث ممارسات خاطئة، وحب الوطن لا يكون سليماً حتى ينفي عنه المقتدرون ما علق به من مفاهيم خاطئة وإغراق في التعالي والادِّعاء الأجوف، وخاصة حين تكون التركيبة السكانية قابلة للتنازع تحت أي ظرف عارض أو دائم؛ كالطائفية والعرقية والقومية. ومعضلة (الأقليات) الحقيقية في البلاد الواقعة تحت تأثير هذه الظروف مجالُ أخْذٍ ورد، حتى خرج مَن يقول: (مواطنون لا ذِمِّيُّون)، و(الوطن للجميع، والدين لله). وحتى اضطرَّت بعض الدول إلى وجود قوة محايدة للحجز بين الطوائف المتصارعة، وحتى وُجد مَن يتحدث عن (الجِزْيَة) واليد الصاغرة، ومَن يطالب بصرف النظر عن الأحكام الشرعية؛ لارتباطها بوقوعات تاريخية. وفات الجميع أن الأمر محلول إسلامياً، ولكن الناس لا يفقهون. ف(الرق) حين لا تتوفر شروطه لا يكون هناك (رقٌّ) بوصفه حدثاً، ولقد استطاع (الملك فيصل) رحمه الله حَسْمَ ذلك شرعاً، والخلوص من مأزق النقد العالمي، مع بقائه متى توفَّرت أسبابه. ولقد فعل مثل ذلك من قبلُ الخليفة الرائد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين لم يُعْطِ المؤلَّفة قلوبُهم، وحين لم يُنفِّذ (القطْع) في عام الرمادة، وظنَّ البعض أن هذا تعطيلٌ، وما هو بتعطيل. و(الذِّمِّيَّة) حين لا تتوفر حيثياتها لا يكون هناك أهل ذمة ولا جزية، ولما تُحسم مثل هذه القضايا، وكان بالإمكان حسمها، فوجود حُكْمها لا يقتضي وجود عَيْنها. والحياة بدون سلطة تحسم وتعزم حياةٌ وحشيةٌ، والسلطة بدون نظام يحدُّ من غلواء كل الأطراف تسلُّطٌ وفوقيةٌ. ولعلنا نضرب المثل بحق (القوامة) وما يستتبعه من (طلاق) و(هجْر) و(تعدُّد)، لقد أخطأت أطراف كثيرة في فهم هذه الحقوق؛ إذ ربطتها بالوقوعات لا بالمقْتضيات، وأحسَّت بالحرج، وأعطى البعض الدنيَّة في الدين بوصفه - حسب تصوُّرهم - عاجزاً عن مواجهة الحضارة والمدنية، فكان أن اخترقت (العلمانية الشاملة) و(الفوضوية) باسم الحرية نظام الأسرة والأحوال الشخصية فأفسدتها، وفرضت واقعاً يُوهم بضرورة المراجعة للثوابت. وليس أمام المسلمين ما يحرجهم لو أنهم فهموا المقاصد والمقتضيات، واستجابوا لله والرسول. والمستجدُّ من القضايا بحاجة إلى دراسة فقهية مؤسساتية تتعامل مع النوازل، وتواجه الرأي العام العربي بحُكْم متَّزنٍ تتمخَّض عنه مداولات أهل الذكر. وكم هو الفرق بين حفظ التوازن بين سائر الحقوق والواجبات والاهتياج العاطفي الذي يصنِّم الحدود، ويُلغي كل حق في سبيل الحق الفئوي الأهوج للوطن أو للسلطة أياً كان مصدرها. وإذا حصلت مواقف فردية تُقصي حقوق المسلمين، وتضحِّي بها في سبيل النزعة القطرية، فإن ذلك لا يخوِّل الأطراف الأخرى نسْف المواطنة الإقليمية وإلغاءها. والتعدُّد الثقافي وتفاوت المفاهيم لا يحملان على الصدام، وإنما يحرِّضان على إيجاد أرضية مشتركة يمارس الفُرقاء من خلالها إعادة الوفاق ومبادرة الحوار، وامتحان المفاهيم؛ سعياً وراء تمحيصها، والتأليف فيما بينها، والنظر إليها بوصفها رؤًى متعدِّدة لا متناقضة. وكل ذاهب بما يرى يجب عليه ألاَّ يقطع بصحة ما يعتقد وخطأ ما يعتقده الآخر، إلا ما كان حُكمه مقرَّراً بنصٍّ قطعيِّ الدلالة والثُّبوت، وما كان من أركان الدين المعلومة بالضرورة، فهنا لا تكون مزايدةٌ ولا مساومةٌ ولا اجتهادٌ. ولكن يجب أن يكون التحديد ناتجَ تداولٍ مؤسَّساتي يضع في (أجندته) كل الاحتمالات، ولا تُؤخذ الأحكام المصيرية من أفراد يتَّكئون على أرائكهم ويطلقون الأحكام على عواهنها، لمجرد أنهم يعرفون فقه الأحكام، ويأنسون بحُكمٍ أطلقه عالم تُوجِّهه سياقاته، ولم يكن حكمه من باب الإجماع. وإذا كانت القضايا والرؤى والتصورات مجال اجتهاد فإن التعصُّب لها يُعدُّ من تأليه الهوى. وأخطر قضية تعيق المسيرة الثقافية الخلطُ بين الأفكار والعقائد؛ فالأفكار قابلة للاختلاف، أما العقائد فهي من الثوابت والقطعيات، ولكن كيف نفرِّق بين الثوابت والمتغيرات واليقينيات والاحتماليات والأفكار والعقائد؟ إن هناك دليلاً يحتمل التأويل، وهناك برهاناً لا يحتمل إلا معنًى واحداً، ولهذا قال الأصوليون: (لا اجتهاد مع النص)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في منازعة الأمر أهلَه: (إلاَّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، ولم يقل (دليل)؛ لأن الدليل يحتمل عدة مفاهيم، أما (البرهان) فدليل قاطع. والعلماء اختلفوا في الفروع، وتقاربت وجهات نظرهم في الأصول، وكتبوا في قضايا الإجماع ومجالات الاجتهاد، واختلافهم لم يصل بهم حدَّ المواجهة، ولم يمتد إلى العامة إلا في حالات نادرة، حشد فيها البعض مشاعرهم، وتحوَّلت تلك المواقف في التاريخ الحضاري إلى حالة من التندُّر. وما أضرَّ بالأمة إلا التكثُّر والتقوِّي بالأتباع، وخَلْق جماعات الضغط الغوغائيَّة. والمواطنة في ظل تعدُّد الثقافات تعني المشاركة لا الأثرة، والتعاذر لا التنابذ، والتعايش لا التصادم. وليس في ذلك ما يمنع ما دامت الأمة متَّفقةً على الثوابت، محترمةً لما عُلم من الدين بالضرورة. وإشكالية الأمة في عجزها عن استيعاب الخطابات المحتملة، وإذ يكون من المتعذَّر واحدية الخطاب فإنه يجب التماس مسوِّغات التعدُّد في إطار المفاهيم العامة، وليس بمستبْعَد أن يندَّ البعضُ فيضِّيق واسعاً، وقد فعلها بعض الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال قائلهم: دَعْني أضرب عنقه يا رسول الله، لمجرد أن المخالف ارتكب خطأً لم يحتملْه العاديُّون. وحين جاء عمر مُمسكاً بتلابيب أحد القرَّاء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أرسلْه يا عمر، وطلب منهما القراءة، ثم قال لكلِّ واحد منهما: هكذا نزل القرآن. وحين أقسم البعض بنفاق مَن فارق المصلِّين بسبب الإطالة، ولم يُثْنِهِ إلا قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفتَّانٌ أنتَ يا مُعاذُ؟!). وإشكالية الأطياف عجزُها عن استيعاب شمولية الإسلام وتسامحه، وكون نصوصه حمَّالة أوْجُه، وأن هناك قضايا أمة وقضايا أفراد. لقد تسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مع المنافقين؛ لأن قضاياهم مندرجة ضمن قضايا الأمة، ولم يكن تسامحه موافقةً لهم، ولا إذعاناً لأذيَّتهم، ولكن لكيلا يقول الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه. وإذا لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بدًّا من حسم الموقف حسمه ولا كرامة، ولهذا قال: (مَن لي بابن الأشرف؟) فبادر أحد الصحابة لقتله غيلةً. ولكلِّ حدث حديث، فلقد كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه ظاهرة المؤلَّفة قلوبُهم، ولما قَوِيَتْ شوكة الإسلام منع ذلك عمر؛ إذ لا حاجة في عهده لتأليف القلوب المرتابة. وفي ظل العجز عن فهم شمولية الإسلام وقفتْ فئات بين الإفراط والتفريط، فكان هناك تمييع للأحكام، أو تحفُّظ على الرُّخص بحُجَّة سدِّ الذرائع. إن الأمة كالسفينة المليئة بالأناسي، كلُّهم ركبوها ليصلوا بها إلى ما يريدون، ولكلِّ واحد هدف وغاية ومقصد، ولكلِّ راكب حقُّ التصرُّف بالشكل والطريقة التي تناسبه، شريطةَ ألا يصل الأمر إلى خرْق السفينة. والرسول صلى الله عليه وسلم حين ضرب المثل بالسفينة والمُسْتَهِمِين والخرْق أراد أن يؤكِّد أن السفينة هي الإسلام الذي يجمع كل الأطياف، وهم حين لا يُخِلُّون بمسارها، ولا يتعرَّضون لوسائل السلامة فيها، فإن ما سوى ذلك مستوعَب ومقبول. ولما كانت السفينة كياناً وحركة كان ذلك موحياً بأن الإسلام (كيان وحركة)، فلا يجوز التصرُّف بالكيان، ولا التدخُّل في اتجاه الحركة، وما سوى ذلك فآراء تختلف، ولكنها لا تتصادم. إن (المواطنة) مفهوم قد يتفاوت، ولكنه لا يفقد ذاته في زحمة المفاهيم؛ إذ لا بدَّ من توفُّر حق يتحقق معه الوجود الكريم، فلا يكون انقطاعٌ له، ولا انقطاعٌ عنه، والمقبول والمعقول أن تتَّخذ بين ذلك سبيلاً. و(المواطنة) تتحقق حين يشعر المواطن بحق الغير وبالحق العام. وكل إنسان يمتلك رؤية مشروعة لا تجوز مُصادرتها، ولا يجوز إلغاؤها، ولا يجوز إصرار صاحبها عليها بالقوة، متى كانت الرؤية الأخرى منسجمةً مع المقاصد الإسلامية، ومتى لم تكن من نواقض الإيمان المتَّفق عليها بين علماء الأمة. وإذا كان ثمة إزعاج للرأي العام في طرْح الرؤية المشروعة في حين لا يترتَّب على حجبها ضرر بيِّن، فإن على ذويها تفادي إثارة الرأي العام. ولقد احترم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرأي العام في أكثر من موقف، لعلَّ من أبرزها عام الفتح حين قال لعائشة رضي الله عنها: (لولا أنَّ قومكِ حدثاءُ عهدٍ بكُفرٍ لأعدتُ بناء الكعبة على قواعد إبراهيم)، أو كما قال. والدول الرفيقة بشعوبها تُبقي على المفضول، ولا تُباشر الفاضل؛ مراعاةً لمشاعر الرأي العام الذي تشكَّل وعيُه على قناعات غير مُضِرَّة بمسيرة الأمة، فالأعراف القبلية مُعتبَرة، وإن كان من الأفضل التخلُّص من بعضها، وبعض الضوابط الحضرية قائمة، وإن كان الأفضل استبعاد بعضها، والتوسُّع في البعض الآخر، إلا أن مثل تلك الإجراءات قد تؤدِّي إلى إثارة الرأي العام، أو إلى عدم احتمال التفاعل مع المستجد. وكل قناعات تشكَّلت مع التقادم الزمني لا يمكن حسمها بين عشيَّة وضحاها، إن التعبئة الذهنية تحتاج إلى أزمنة مماثلة لإفراغها من محتوياتها وتعبئتها من جديد، ومن مُقترَفات الإعلام أنه يُمسي على رأيٍ ويُصبح على آخر، غيرَ مُبالٍ بما استقرَّ في الأذهان، وكأنَّ كلام الليل يمحوه النهار. على أن لكلِّ مجتمع أعرافه، وأنماط سلوكه، ومواجهة هذه الأعراف بعنف، ونفيها دون تمهيد وإقناع، يعني تحشيد المشاعر والحمل على فُرقة الأمة. ولقد أشرْتُ من قبلُ إلى ضرورة إشاعة ثقافة المؤسسات؛ فالأنظمة والتعليمات والضوابط والإجراءات إذا لم يكن لها ثقافة مُشاعة فإنها لا تُمارس حقَّها، ولا تتفاعل مع أطرافها المستهدَفين بخدماتها. وكم من مؤسسةٍ ضمرت واضمحلَّت بسبب نقص الوعي في أوساط المستفيدين من خدماتها، وكم من مصلحٍ لم ينظر إلى الواقع أفسد من حيث يريد الإصلاح. وأخطر ما تواجهه الأمة ما يلتبس على الغُلاة والمُوغلِين في الدين بغير رفق، وانتزاعهم الآيات والأحاديث من سياقاتها، والخلط بين آيات الوعد والوعيد. والأصوليون يُفرِّقون بين أساليب التعامل مع النصوص، وخاصة خطاب الوعيد. والمُبتسرون يُنزلون النصوص على الوقائع إنزالاً مخالفاً لمقاصد الشريعة، ويتمسكون بآيات الوعيد وبعض الإطلاقات المقيَّدة دون فقه عميق. لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، والأخذ بهذا الحديث على إطلاقه يعني الحُكْم بالكفر المخرج من الملَّة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}؛ فقد وصفهم بالإيمان مع قيام الاقتتال. ومثل هذه العموميات تحتاج إلى تبصُّر وفهم ورويَّة وبُعْد نظر، ذلك مثلٌ نضربه ليُفهم أن المسائل تحتاج إلى مزيد من التروِّي. إن المواطنة وثيقة الصلة بالدين والحياة { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}، { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}، فربَطَ القتال في الدين بالإخراج من الديار؛ لخطورة الفعلين، { وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا}، فجعل القتال للمُخرَجين في سبيل الله. وهكذا تكون المواطنة جزءاً من الدين وقرينةً للعقيدة. والذين تفرَّقت بهم السبل، وضلُّوا طريق الرشاد، يعيشون تحت طائلة التعبئة الخاطئة التي فرضتها لعبٌ سياسية كونية. وواجب المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية تفكيك هذه الذهنيات، وتنقيتها مما علق بها، وإعادتها إلى سياقها السابق للأحداث، وهي سياقات منطوية على حفظ الحقوق بكل تنوُّعاتها. |
سيبويه بين جناية الفعل وسقوط المشروع..! 1 - 3
د.حسن بن فهد الهويمل اللغة - أي لغة - وعاء الفكر، ومستودع الحضارة، ووشيجة التواصل، وصنو الدين، بوصفه علامة الانتماء، وصبغة الله. فبضعفها تضعف الأمة، وبانكماشها يتضاءل وجودها. وقيمة اللغة بضوابطها التي تحفظها من الذوبان والتآكل، وبخصوصيتها التي تميزها عن غيرها من اللغات، وبغناها الذي يمكنها من الاتساع لكل مستجد، وبمرونتها التي تتيح لها النهوض بمهماتها، وبنموها الذي يجعلها لغة عصرها، وبثباتها المستمد من عمقها التاريخي وتراثها المتواصل، وبحَفَظَتِها الذين يتناقلونها جيلاً بعد جيل، ويتعهدونها تنمية وتصفية. وكل حضارة تعطي الدنية في لغتها تمكن عدوها من مقاتلها. وما انتصر عدو على خصمه بقتل أفراده، ولا بتهديم عمرانه، ولا بمصادرة أمواله. فالحسيات تبلى ويخلف الله، وإنما انتصاره في تدمير قيم الخصم المعنوية وإفساد عقيدته وتمزيق لغته. فبذهاب اللغة تمحَّى الذاكرة ويلتغي التاريخ، وبتدمير المعنويات وحدها يكون التدمير الحقيقي. و (الغزو) و (التآمر) اللذان يضيق بذكرهما المستغربون أخطر من المواجهة العسكرية. فالتحديات المعلنة تستعد لها الأمة، وتبذل ما تقدر عليه لصدها، وتوقي خطرها. وقد تكون الحروب سبباً من أسباب مراجعة الذات، وتصحيح الأوضاع. أما المكر والخديعة والغزو الفكري والتآمر الخفي فذلك الشر المستطير الذي يغفل عنه الخاصة، وينخدع به العامة، ويتفاعل معه المنافقون. وإذا كانت الدول الكبرى تمضي في صناعة السلاح الفتاك، وتتفانى في سباق التسلح، وتنشئ المختبرات لتخصيب الجراثيم الفتاكة، وتنفق مئات المليارات في سبيل التوفر على قوة الردع فإنها لن تدخر وسعاً في استخدام أي وسيلة لإضعاف الخصوم، والتمكن من السيطرة عليهم. ومن هان عليه الإنفاق لإيجاد سلاح رادع فإنه يهون عليه الإنفاق للهزيمة النفسية والمعنوية. ولما كان (الدين) و (اللغة) هما مادة الحضارة ومصدري قوتها المعنوية، فقد أصبحا الهدف الرئيس لكل غزو أو تآمر، وإضعافهما أو إفسادهما إضعاف للأمة. وما دخل الاستعمار في بلد إلا وكان شغله الشاغل مسخ الهوية، وإلغاء الذاكرة، وطمس التاريخ، وإفساد الأخلاق، ونهب التراث والآثار. يروج له في فجاج الفكر المستشرقون والمبشرون والعملاء والجواسيس. وكل هذه المقترفات مما علم من الدنيا باليقين، والحرب ضد (الدين) و (اللغة) قائمة إلى قيام الساعة. وقراء التاريخ الحديث يجدون بين طياته وقائع عسكرية، وأخرى فكرية. وقادة الفكر المناوئ لا يقلون في خطرهم وحقدهم عن قادة الجيوش. ولو نظر الراكنون إلى الذين ظلموا في صراع اللغات وحدها، لتبين لهم أنه من أشرس الحروب وأخطرها على مصير الأمة. ويكفي أن نلفت النظر إلى قضية موثقة يتداولها الدارسون، وهي قضية (الدعوة إلى العامية) فلقد كانت (مصر) إبان الاستعمار مصدر كل الدعوات الهدامة. وكان الشرفاء من أبنائها حماة اللغة العربية وردء القيم الأخلاقية. ويكفي أن يقرأ الحريص على تحرير المسائل كتاب الدكتورة (نفوسة زكريا سعيد) (تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر) ليجد ما رصدت فيه من المحاولات التي يشيب من هولها الولدان، ومن أخطرها التفكير في كتابة القرآن بعامية مصر. ولما كانت مصر واسطة العقد، فقد تجرعت كل المرارات، وواجهت كل الحروب، وكثر فيها إلى جانب ذلك العملاء والمستغربون، وظهرت دعوات الاستغراب والعلمنة وسائر النحل والملل المادية والروحية. ولم يزل المفكرون والفلاسفة والمبدعون والنقاد في كافة المشاهد العربية يجودون بالقول الحق ونقيضه. والمؤلم أن الحضارات المهيمنة وجدت من بعض النخبويين ركائز، استطاعت من خلالهم أن تنفث سمومها، وأن تشكك الأمة العربية في دينها وفي لغتها. والأدهى والأمر تهافت الطلائع الفكرية على ما فرغ الغربيون منه، يقولون مثل قولهم، ولا يدركون خطورة ما يقولون وانتهاء صلاحية القول فيه. لقد كانت (اللغة العربية) غرضاً لكل الرماة، ولعلنا نستذكر بكائية (حافظ إبراهيم) على لسانها وحرقته حين يرى كل يوم في الجرائد مزلقاً يدنيها من قبرها. ولعلنا نستذكر - أيضاً - جهود (مجمع اللغة العربية) وما قُدِّم فيه من بحوث، وما تبناه من كتب ومعاجم ومناهج، وما تداول فيه المؤتمرون من آراء، وما تضمنت قراراته من توصيات لا يعلمها إلا الأعضاء العاملون. لقد ضاعف المخلصون في مصر بالذات جهودهم لصد هذه التعديات، فكان أن حققوا الكثير، ولكننا في زمن الضعف والخور لم نُغْزَ من الخارج، وإنما غزينا من الداخل. وذلك بعض ما حفز الدكتور (محمد محمد حسين) رحمه الله إلى تأليف كتاب (حصوننا مهددة من الداخل) درس فيه ظواهر هذا الغزو الذي ينهض به أبناء المسلمين أنفسهم، وتلك علة باطنية من الصعوبة بمكان توقيها، والخطورة في تشابه القضايا والتباس الأمور والخلط بين المتناقضات، وأخطر منه ما تواجهه الأمة من تلبيس متعمد، فالغزو والتآمر على أشدهما، ثم يأتي من يشكك بذلك، ويعيب المنذرين والمحذرين، ولا يني يردد المقولة الماكرة باستفحال (عقدة التآمر) لكي يصرف الناس عن الثغور، مدعياً أن الأمة تعيش هذه العقدة، وأن التفكير فيها سبب التخلف، وأن الغرب جاد في تمدين الدول النامية وتحضيرها، وتمكينها من العدل والحرية والمساواة، ولكن تلك الدول لا تقبل ذلك، وما تلك الشائعات إلا بعض معطيات غسيل المخ. الغرب أرخى عنان فنه الماجن وأخلاقياته الساقطة، وشد الوثاق على مكتشفاته ونظرياته العلمية، ليظل العالم الثالث مستهلكاً متخلفاً. وإذا كان المشيعون لظاهرة الغزو والتآمر يقصدون تبرئة أنفسهم، وتحميل الآخر جرائر إخفاقاتهم، فتلك خطيئة تضاف إلى غيرها من الخطيئات. أما إذا كانوا يحذرون الناس، وينذرونهم لقاء المتماكرين على حين غفلة، ويحثونهم على إعداد القوة، وتحصين النفس مع تحمل المسؤولية فذلك الصواب عينه. ومهما كانت الأهداف فإن (الغزو) و (التآمر) قائمان على أشدهما، ولا ينكرهما إلا جاهل أو مواطئ. وتخلفنا في التقنية والعلم التجريبي لا يحسمه اتباع ملتهم، وإنما يحسمه فهم ملتنا والعض عليها بالنواجذ وأخذ ما عندهم من علم بظاهر الحياة الدنيا. والتفاعل والتعالق وتبادل المصالح والمعارف سُنَّة كونية، وليس في ذلك من بأس، ولا يعد شيء منه غزواً ولا تآمراً. ومصائب الأمة في اضطراب مفاهيمها واختلاف مواقفها. والمؤكد أنه ما من حضارة إلا ولها يد سبقت على غيرها، والحضارة التي لا تعدو عيناها إلى ما عند الآخر من الحق لا تسترجع ضالتها. والحق ليس وقفاً على حضارة دون أخرى، وليس هناك حضارة بريئة، فكل حضارة منقرضة تظل كامنة في خلفها. و (الحضارة الإسلامية) ليست بدعاً من الحضارات، فلقد وسعت محاسن ما سلف، وما بُعِث الرسول إلا ليتمم مكارم الأخلاق، ولقد قال صلى الله عليه وسلم لأحد أشراف القبائل: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة) - أو كما قال - . ولقد أثنى على (حلف الفضول) ووصف أبا (سفانة) بأنه رجل يحب مكارم الأخلاق. والإسلام حضارة عالمية إنسانية له ضوابطه ورؤيته وتصوره للإنسان والحياة والكون. ومن أراد اعتزال الحضارات واستدبار منجزاتها فقد اختار طريق الضعف والوهن، وفوت على حضارته أفضل الفرص. وبوادر الضعف والشقاق ناشئة من تفاوت النخب في فهم الظواهر والتيارات والملل والنحل، واختلافهم في أسلوب التعامل معها، وقيام جدل بيزنطي عقيم حول مفاهيم واضحة، لا تحتمل الاختلاف. وهذا التنازع والتفرق جعل بأس النخب بينهم شديداً، ولو أنهم إذ اختلفوا فكرياً أو عقدياً حول أشياء العصر ومستجداته ردوا خلافهم إلى الكتاب وصحيح السُّنَّة لكان أن حسمت المشاكل أولاً بأول، ولكنهم يختصمون في غياب المرجعيات وجهل الأحكام. وما وقفت على خلاف حول المستجدات إلا وكان سببه الجهل والتعصب وتأليه الهوى والتصدر للفتيا في غياب مثلث الوعي السليم: فقه الأحكام والواقع والأولويات، والخلط بين الأفكار والعقائد، وعدم الفصل بين أمور الدنيا ومتطلبات النص التشريعي، وتقصير الخاصة في استغلال الفسح والتيسيرات التي اتسمت بها أحكام الإسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، (استفت قلبك) ، (أنتم أدرى بأمور دنياكم) ، (ما خيّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. لقد حفز على هذه المقدمة التحفظية ما تتداوله المشاهد العربية من أحاديث حادة النبرة حول كتابين يمسان اللغة العربية، وينحيان باللائمة على علمائها الأوائل الذين أصلوا لقواعدها، وتوسعوا في معارفها، وحفظوها من عوادي الزمن، صدر أحدهما في مصر وصدر الآخر في الشام، هتف أحدهما بسقوط (سيبويه) واتهمه الآخر بالجناية. وكل مفكر له رؤيته ودوافعه وأهدافه، ولكن البعض يؤتى من الجهل أو من التسرع أو من الانفعال. والصدق والإخلاص غير كافيين للتوفر على الصواب، فكم من صادق مخلص أورد قومه موارد الهلكة، ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى البصر والبصيرة والمعرفة وحسن التصور واستكناه القضية ومتعلقاتها، ومعرفة قضايا الدين والدنيا والمساحات المشتركة بين الحضارات وحكم النوازل والمستجدات. وإشكالية الأمة في مبتدئين مندفعين لا يلوون على شيء من المعرفة أو التجربة، ولا يدركون خطر الغزو والتآمر والتماكر، ولا يترددون في تقديم حسن الظن، وأخذ فيوض الإعلام، على أنها قضايا مسلمة، لا تسأل عما تريد ولا عما تفعل. وما أُتيت ثوابت الأمة إلا من أنصاف المتعلمين ومثقفي السماع وربائب الإعلام والذواقين، الذين يجمحون وراء بوارق الحضارة المادية، ولا يفرقون بين القيم العلمية البحتة والقيم والفكرية والأخلاقية. والقول السيئ عن اللغة جاء مع الاستعمار الغربي، ولمّا يزل المجنَّدون لهدم اللغة يقلبون الأمور. وكلما أوقدوا ناراً للحرب هب المخلصون لإطفائها، ولكن البعض من الغيورين يجاري المناوئين في أساليبهم وأخلاقهم وطرائق تعاملهم، والشاعر الحكيم يقول: (إذا جاريتَ في خُلُقٍ دنيءٍ فأنت ومَن تجاريهِ سواءٌ) والمدافعون عن قضايا الأمة المصيرية يجب أن يمروا باللغو مراً كريماً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. ثم إن طائفة من المشتغلين بالشأن الثقافي تنقصهم المعرفة، وتخونهم الوسائل، وهم أحوج إلى أن يتعلموا الأحكام والأصول وطرائق الأداء وأساليب الحوار الحضاري، ولن يتحقق شيء من ذلك إلا بالتفقه والرفق واللين والموعظة الحسنة. والذين يجندون أنفسهم للدفاع عن مثمنات الأمة مأمورون بعدم السب وبعدم الجهر بالسوء إلا في حالات محدودة ومحسوبة، والعفو مقدم على الاقتصاص. واللين مطلب رباني ورحمة مسداة، والمسلم ليس بالطعان ولا باللعان، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى حسن التخاطب واستبعاد الفظاظة، والغلظة، وبخاصة أن الأمة تعيش حالة من الضعف والتعويل على ما عند الغير من ماديات. وإذا كان الله قد خفف على عباده حين علم أن فيهم ضعفاً، فإن على الأمة أن تعرف قدر نفسها، وأن تتحرك وفق إمكانياتها، وأن تبادر إلى تلافي ما ينقصها من قوة حسية ومعنوية استجابة لأمر الله {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}. فالضعيف لا يطاع له أمر، ولا يقام له وزن، ولا يكون قدوة صالحة. |
سيبويه بين جناية الفعل وسقوط المشروع..! (2-3)
د. حسن بن فهد الهويمل وإذا كنا نريد استعراض ما يحاك للغة القرآن من مكائد، وما تفيض به الكتب ووسائل الإعلام من هجوم سافر ودفاع متشنِّج فإننا لا نقف حيث يكون ذلك اللغط. فالمؤامرة على ثوابت الأمة ومثمناتها ممتدة عبر الزمان والمكان، تمس كل شيء أتت عليه، ومهمتنا تنقية الأجواء، وترتيب الصفوف، واختيار أحسن الطرق للجدل، وأمضى الوسائل لجهاد الدفع. ولن تكون تلك الحملة هي الأخيرة، بحيث نرمي بثقلنا فيها، ونلقي آخر سهامنا في أدبار الخصوم. إن راية الباطل يتلقاها المبطلون جيلاً بعد جيل، وإذا طلَّ منهم متربص قام متربص آخر أمضى عزيمة وأقوى جلداً. ولهذا لا بد من إطالة النفس، وترويض الأخلاق على الصمود والتصدي والصبر والمصابرة، فالمعركة طويلة، ووسائلها متنوِّعة، ومجالاتها متعدِّدة. وإذا كان كل عالم ومفكِّر وأديب على ثغر من ثغور الإسلام فإنَّ الأعداء ينسلون من كل حدب. وواجب المقتدرين اليقظة والاستعداد {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وواجبنا ترويض النفس حين يختلط المصلح بالمفسد، ويقع البعض تحت طائلة الاتهام مع أن مقصده قد يكون سليماً، ومنشأ ذلك سوء التعبير، ونقص البضاعة، والخلط بين المتباينات. ومثل هذه العوارض تجعل بأس الأمة بينها شديداً. وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر تداولت المشاهد الثقافية كتابين حول اللغة وقواعدها، وأسيء الظن بنوايا صاحبيهما، وقسا المتصدون لهما بالمواجهة. وما كنت أود ذلك، ما دامت هناك إمكانية للحوار، وقدرة على مواجهة الآراء المنحرفة بالإرشاد وحسن التصرُّف، تمكِّن من وضع المخطئ أمام خطئه، وتبيِّن له سوء عمله، فإن كان باحثاً عن الحق انصاع إليه، وسلَّم لذويه، وإن كان غير ذلك أسهم في تعرية نفسه وإبانة عواره. أما أحدهما فكتاب (شريف الشوباشي) (لتحيا اللغة العربية: يسقط سيبويه) والكتاب من مطبوعات (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، وهي هيئة رسمية تتوخَّى أحسن الكتب وأنفعها للناس. وهو كتاب أشبه ما يكون بظاهرة الثلاثيات الروائية، كثلاثية (نجيب محفوظ) إذ سُبق بكتابين (نهاية التفكير) صدر عام 1998م و(الداء العربي) صدر عام 2002م، فيما صدر الكتاب الضجة عام 2004م. أما الكتاب الآخر فهو للكاتب (زكريا أوزون) (جناية سيبويه: الرفض التام لما في النحو من أوهام) وهو من مطبوعات (دار رياض الريس للكتاب والنشر). يقع الأول في خمس وتسعين ومئة صفحة من القطع الصغير. فيما يقع الآخر في ست وسبعين ومئة صفحة من القطع الصغير أيضاً، ولما جاء الجدل حولهما مرتفع النبرة حادَّ العبارة حرصت على قراءتهما، وبعد لأيٍ ومشقة حصلت عليهما، ليحتلا مكانهما بين عشرات الكتب المثيرة في زاوية من مكتبتي. والكتابان ينحيان باللائمة على قواعد اللغة ومناهج تدريسها، ويعدان ذلك مصدر الضعف والتخلّف، ويتخذان من (سيبويه) منطلقاً لهما، بحجة أنه سنَّ في النحو سنَّة سيئة. و(سيبويه) صاحب (الكتاب)، رائد النحو العربي بلا منازع، وإسقاطه إسقاط للنحو العربي. ولهذا لم يكن استدعاؤه اعتباطاً، وكل من أراد القضاء على أي ظاهرة أتاها من قواعدها وذلك ما كان يريده البعض، والباحثان يختلفان في طرائق الأداء والتناول، وليسا فيما تبدَّي لي قاصدين النيل من اللغة، ولكنهما يسيئان من حيث يريدان النفع، ويستمرئان ركوب موجات التغريب، والأخذ بعصم المذاهب والمناهج، ويظنان كل الظن ألا تلاقيا بين التراث والمعاصرة. فالأول في كتابه كل شيء إلا النحو، والآخر ليس فيه شيء إلا النحو، ولكنه اجترار ممل لمقولات أكل الدهر عليها وشرب، وكأني به يعيد إلى موائد البحث ما غبَّ من الطبيخ، فمناهج اللغة العربية اعتورتها سهام المصلحين والمفسدين، والمتابع لسائر الأطروحات حول قواعد اللغة العربية يقف على آراء متناقضة. و(سيبويه) ك(المتنبي) شغل الناس، وأسهر الباحثين، وهو مجال مناسب للحضور ولفت الأنظار، فكل من أراد أن يتعجَّل الحضور قبل أوانه أنشب أظفاره في ذلك الجسد المحشو بالسهام على حد:- (وكنت إذا أصابتني سهام تكسَّرت النصال على النصال) ولمَّا لم يكن الكاتبان على شيء من معارف المجدِّدين في الشأن اللغوي، ولا على شيء من معارف التراثيين، فإن بضاعتهما مزجاة. ولا يشفع لصاحب الجناية ذلك الحشد من الشواهد، وذلك الترتيب للفصول، وتناول الكلمات والجمل والأسماء، والأدوات، وإعراب الجمل، والشواهد، والتخريجات، والموازنة بين الماضي والحاضر، فليس له ذلك إلى القص واللصق. ولا أظنهما في هذه العنونة المستفزة إلا قاصدين للإثارة والكسب والشهرة. وقد نالا منها بعض المبتغى. فالصحف العربية وسعت ردود فعل عنيفة، حملت المتابعين على البحث عن الكتابين، والتساؤل عن هوية الكاتبين. ففي الأولى كسب مادي، وفي الثانية شهرة زائفة. ومثل هذه التصرفات الدعائية يعمد إليها الشدات والمبتدئون تعجلاً للأشياء قبل أوانها. ولإسقاط المحاولتين البائستين، لا بد أن يقرأ المتابعون حركة تيسير النحو، وتبسيط قواعده، عبر عشرات المؤتمرات، ومئات الكتب: تطبيقاً وتنظيراً، وبخاصة البحوث التي قدِّمت لمجامع اللغة العربية في (مصر) و(الشام) و(العراق) و(الأردن)، وما ألِّف من كتب تفاوتت في أساليب العرض، واختلفت في مادة التناول. ف(النحو العربي): تاريخ ومادة ونظريات وقواعد ومفاهيم وطرق وقضايا ومدارس. ورصد الحركة مؤذن بكشف الزيف وضبط الاسترفاد و(الشوباشي) و(أوزون) أصداء باهتة للتذمر، وما قالاه بعض ما قيل وما سيقال. وما استبدا إلا بالعناوين الصارخة، ليس غير. على أن (الشوباشي) اتخذ العنوان المثير، ولم يتلبث حوله، بل أمعن في جلد الذات العربية عبر مقالات تدين الضعف والتخلّف، ولا ترسم طريق الخلاص، فيما أمعن (أوزون) في الشواهد قصداً للإدانة وإثبات الجناية. وقواعد النحو العربي وصرفه والنظريات المنهجية لتطويره وتيسيره تناولتها طائفة من العلماء، من أبرزهم الدكتور (مهدي المخزومي) في كتابه (في النحو العربي نقد وتوجيه) والدكتور (حسن عون) في كتابه (تطوير الدرس النحوي) والدكتور (عبد الكريم خليفة) في كتابه (تيسير العربية بين القديم والحديث) والدكتور (شوقي ضيف) في كتابيه: (تيسير النحو التعليمي قديماً وحديثاً) و(تجديد النحو) و(عبد الوارث مبروك) في كتابه (في إصلاح النحو العربي) والدكتور (حسن عباس) في كتابه (اللغة والنحو في القديم والحديث). ومن قبل أولئك هبَّ الأستاذ (إبراهيم مصطفى) لإحياء النحو قبل سبعين عاماً، وبارك هبوبه (طه حسين) في مقدِّمة ممتعة، بلغت بالكتاب وبصاحبه السماء مجداً واقتداراً) وكادت تلتمس له فوق ذلك موضعاً. وجاءت حيثيات المؤلّف لإيقاف البرم والضجر والضيق بالنحو وقواعده وطرائق أدائه. ولقد وجد العلماء الأوائل من قبله ذلك البرم والضجر والضيق - على حدِّ تعبيره - الأمر الذي حملهم على تسمية كتبهم ب(التسهيل) و(التوضيح) و(التقريب). والنحو عنده لا يسعف بالقول الفصل، فهو مظنّة الاختلاف والاضطراب والجدل، وتلك أدواء النحو التي أفسدته - كما يقول - وتحت طائلة تلك المعوقات فشل النحو في أن يكون السبيل إلى تعلّم العربية، لقد سخر من الأوائل، وكاد يطرح نظرية في النحو أو في المنهج وأدائه، وآلياته. ومع أنه مسَّ النحو والنحاة مساً خفيفاً لاشتغاله بما يتوهمه فتحاً علمياً حول (نظرية الإعراب) فقد تصدَّى له من أوغل في نقده، وجاء كتاب (النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة) للأستاذ (محمد أحمد عرفة) رداً قاسياً عليه. والمؤلِّفان ينتمي كل واحد منهما إلى جامعة تختلف عن الأخرى أشدَّ الاختلاف، وكل منتمٍ ينحي باللائمة على الآخر. وإيغال الرجلين في التعصب فوَّت على المتابع أشياء كثيرة، وما كان التلاحي بين العلماء غريباً ولا مخيفاً، وثراء التراث في الخصومات العلمية، وإشكالية الراصدين للحراك المعرفي حول اللغة وقضاياها عجزهم عن تمييز الخبيث من الطيِّب، ومعرفة المصلح من المفسد، فما يكتبه (لويس عوض) في هذا السبيل، يختلف عما يكتبه مصلح لم يحالفه التوفيق، وإذ يتهم (سيبويه) بالجناية، ويهتف البرمون بسقوطه، فإن آخرين دعوا لإماتة النحو العربي، ليخلوا الجو لنظريات حديثة ك(التحويلية)، ولن تخلو المشاهد من مرجفين وتبعيين وجهلة ومبتدئين ومتسرِّعين، يباهون باتباع سنن الغربيين. وإشكالية اللغة العربية ليست في صعوبتها، ولا في تعقيد النحو وجنوحه إلى الفلسفة، ولا في تعويله على الحذف والتقدير والعامل، وإنما الإشكالية في أن مادة اللغة كامنة في المعاجم والقواميس، وأنظمتها حبيسة في كتب النحو والصرف، والناس يستعملون لهجات متعدِّدة بتعدّد المدن والقرى. وحياة اللغة وتكرسها وشيوعها في الاستعمال، وليس في الدراسة والحفظ، وكل الذين يتحدثون عن الصعوبة والغياب لا يستحضرون هذه الإشكالية. اللغة العربية نراها ولا نسمعها، نراها في الكتاب ولا نسمعها في الاستعمال، والسمع مقدَّم على البصر (والأذن تعشق قبل العين أحياناً) و(الأذن كالعين توفي القلب ما كان). وما جاء السمع والبصر في القرآن إلا وقدِّم السمع عليه لأهميته. وإذا كان النحو والصرف والبلاغة والأدب تدرس باللهجة العامية في الجامعات، وإذا كان طلبة اللغة العربية لا يحسنون الحديث، ولا يجوِّدون الكتابة، وهم في قاعات الدرس فإن اللغة معذورة وعلماءها مبرؤون من خطيئة التعقيد ومسؤولية الغياب. و(سيبويه) الملوم المتهم، لم يكن مبتكراً للمعيارية، وإنما كان مكتشفاً وراصداً، شأنه شأن (الخليل) في (العروض)، فاللغة العربية كائنة بشعرها ونثرها وقرآنها وسائر موروثات القول ومدوّناته قبل أن يكون (سيبويه)، ودوره المحمود مقتصرٌ على الاستقراء والوصف. و(الكتاب) الذي ألَّفه وتداوله العلماء وخدموه بالشرح والتفصيل والإضافة والاستدراك يُعد أساس علم النحو والصرف، ويكفي أن يكون المصدر والمورد، وألا يتصدر أحد للتدريس في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية حتى يقرأ (الكتاب) ويفهمه. لقد اعتوره العلماء في القديم والحديث: درساً وتحقيقاً وطباعة، وبخاصة الدراسات الأكاديمية التي تعد بالمئات، وخارج أروقة الجامعات، ألِّفت عن كتابه مئات الكتب والدراسات، كما نفل المترجمون والدارسون (سيبويه) بعشرات الكتب، فهو بحق عبقري اللغة، والقول بسقوطه، أو جنايته شعارات جوفاء، لا تستفز إلا الفارغين والفضوليين. وما كنا نود الحديث عن الكتابين لولا ما فيهما من المغالطات. لقد عيب على قواعد النحو والصرف جنوحها إلى التعليل والتأويل والتقدير، وهي مقولات تنطلق من الفلسفة وتعقيداتها، وتلك سمات تعد من عبقرية اللغة وعلانيتها. ولم يكن (سيبويه) وحده الناشط في تحرير النحو العربي، ولم تقتصر المعارف النحوية على أشخاص محدودين، بل كانت هناك طبقات من العلماء المستقلين بآرائهم، وكان هناك آخرون منتمين إلى مدارس ذات أصول ومناهج ك(المدرسة البصرية) و(الكوفية) و(البغدادية) و(المصرية) و(الأندلسية). هذه المدارس أحياها عمالقة لا يزدريهم إلا مدخول في عقله أو في علمه أو فكره. أمثال (الخليل) و(الأخفش) و(المبرد) و(الكسائي) و(الفرَّاء) و(ثعلب) ولكل واحد أصحاب يشيعون مذهبه وينافحون عن آرائه. |
سيبويه بين جناية الفعل وسقوط المشروع..! 3-3
د. حسن بن فهد الهويمل ولم يكن المتأخرون أول من نال من (سيبويه) ومن طريقته في التأليف أو في التقعيد، ف(أبو العباس محمد بن يزيد المبرد ت 285ه) أول من تصدى لسيبويه، وأمعن في نقده، إن صحت نسبة الكتاب إليه. وكتابه (مسائل الغلط) أو (كتاب الرد على سيبويه) المفقود، ذكره المؤرخون للنحو العربي ورجاله ومدارسه والمدافعون عن (سيبويه)، واقتبسوا منه. يقول (أحمد مختار عمر): (وقد كان لصدور كتاب المبرد هذا فعل قوي لدى النحاة إذ استكثروا جميعاً هذا الهجوم) وقد بسط الحديث عنه العلامة (عبدالخالق عظيمة) في مقدمة (المقتضب). و(المبرد) جدير بمثل هذه المغامرة، فهو صاحب (كتاب المقتضب) ومثله حقيق أن يراجع أستاذه، فهو قد درس (الكتاب) ل(سيبويه) وتبنى مذهبه، ودرس كتابه، وأثرى من تدريسه. وارتباط (المبرد) ب(الكتاب) جعل البعض يشكك في نسبته إليه، وخلوصاً من هذا الموقف الغريب من (المبرد) قيل إنه كتبه في شبابه، وعدل عنه في مشيبه. وممن تصدى ل(المبرد) (ابن ولاد) الذي ألف كتاب (الانتصار لسيبويه من المبرد)، ومع احتمال صحة النسبة فإن مآخذ العلماء على بعضهم لا تمس جوهر القضايا، وكل اختلافاتهم تصب في صالح اللغة.. فالمدارس النحوية مخاض علم غزير، وفهم عميق، واقتدار متميز. وصراع العلماء واكبه صراع المدارس والعصور والأنحاء، ف(الأندلسيون) يعيبون المشارقة ببعض ما يذهبون إليه، فهذا (ابن مضاء) يؤلف كتاباً في الرد على المشارقة في دعوى (العامل) في النحو. أما جعجعة المتأخرين واهتياجهم الأعزل فهو ناتج انبهار بالمستجد، وإقواء من التراث، وجهل مخجل بالمناهج الجديدة، ومواكبة غبية لأعداء الحضارة الإسلامية وقضاياها. وكيف يستسيغ مبتدئ القول: بأن بقاء النظام اللغوي منذ العصر الجاهلي يعد تحجراً وجموداً وتخلفاً للفكر العربي، بوصف اللغة وعاء الفكر، هذا الاتهام بعض تهويشات (الشوباشي)، وما عرف أن اللغة العربية تنمو كما الأحياء، وهي بالنحت والاشتقاق والسياق والمجاز والانزياح والحذف والتقدير والخيال وسائر سماتها لغة نامية متحركة، مستجيبة لمتطلبات العصر. لقد سيئت وجوه كثيرة من هذه الجنايات، وتجلت صور الاستياء بتدافع الغيورين للذبِّ عن اللغة عبر الندوات الإذاعية والتلفازية والمقالات والمؤلفات، ولعل أحدث ما أفرزته هذه الحملة كتاب الدكتور (إبراهيم عوض) (لتحيا اللغة العربية: يعيش سيبويه) وهو كتاب يقع في مائة صفحة من القطع المتوسط، وفيه الرد على (الشوباشي) بعض مآخذه على اللغة ونحوها. والمتابع لمشاهد النقد ومناهج دراسة اللغة يصاب بالغثيان من متعالمين يمعنون في النفي والإقصاء والقطع بالموت، وما هم على شيء من علم بالتراث، ولا على بصر بالمعاصرة. والقارئ لكثير من تناولات هذا الصنف من الناس، لا يرى فيها إلا قولاً إنشائياً لا يدعمه شاهد، ولا يسنده دليل، ولا يعضده مشروع متكامل، يسد المكان الذي سدته مناهج السلف أو الخلف. واحتفاء القراء بهذه الفقاعات مضيعة للوقت، وتفويت لفرص ثمينة. إذ لو أن هؤلاء المتسطحين تضلعوا من التراث، وعرفوا مناهجه وآلياته وقواعده وأصوله وجهود علمائه، ثم نفروا إلى المستجدات في الشرق أو في الغرب، واستوعبوا ما عندهم، ومارسوا المثاقفة وساءلوا الغواص عن محاسن التراث والمعاصرة، ثم انتقوا من المستجد ما يخدم التراث، ويقربه إلى الناس، لكان ذلك عين الصواب، ولكنهم لا يحسنون إلا جلد الذات وتشويهها في كافة المشاهد والتعالق الغبي مع المستجد. وإذا قيل لهم تعالوا إلى موائد الحوار وإلى ما خلف الأوائل والأواخر، رأيت الأوباش منهم يلوون ألسنتهم، ويلوُّون رؤوسهم، ولا يلوون على شيء من الحق. وتلافي الضعف، ووقف طوفان العامية، يتطلبان تحرفاً للإصلاح، ينطلق من التعليم، ويشيعه الإعلام، ويقدم عليه الكافة، وبوادر ذلك بدت فيما عرف ب(النحو الوظيفي) وهو الاقتصار على المستعمل من اللثة، واستبعاد التقعر والمماحكة والخلافات، والاستغناء عما لا تقوم الحاجة إليه، والتفريق بين علم يقوّم اللسان، ويحمي القلم، وعلم تخصصي، يتعقب المذاهب، وينقب في رؤى المدارس النحوية. ولم يقتصر رجال التربية والتعليم على تلمس أيسر الطرق وأسلم المناهج، بل مارسوا التطبيق، ولعلنا نذكر سلسلة (النحو الواضح) ل(علي الجارم) و(مصطفى أمين) وممارسات أخرى لم تكتب لها الشهرة، مثل (جامع الدروس العربية) ل(الغلاييني) و(المحيط) ل(الأنطاكي) و(النحو الوافي) ل(حسن عباس) وهو الأوسع والأشمل، إضافة إلى المعاجم النحوية التي لا تحصى. وخسارة المشاهد جاءت من فئات أمعنت في النيل من عمالقة العلم والفكر والأدب، ولم تقدم بين يدي نيلها الجارح ما يدل على أنها خير خلف لخير سلف. وتلك سجية عرف بها عدد كبير من دعاة الاستغراب. ولو قُرئت امتعاضات العلماء والمفكرين من هذه المغامرات الطائشة، لكان أن عُرِّي هؤلاء، وانفض سامرهم. وممن تصدى للعابثين (محمود محمد شاكر) - رحمه الله - في مقالات ومؤلفات، ومن قبله (الرافعي)، ومن بعدهم (النفاخ)، وفي كتاب (مقدمة في علم الاستغراب) للدكتور (حسن حنفي) إفاضات جيدة، يحسن الإلمام بها، ومن بعد أولئك ومن قبلهم تعاقب المتذمرون والمتصدون لهذا التهافت المشين. وفي كل قطر عربي عزمات لا تلين. لقد كان (محمد سرور الصبان) رحمه الله من أوائل من نافح عن اللغة في كتاب استطلع فيه آراء الأدباء في الحجاز عما كتبه (ميخائيل نعيمة) عن اللغة، وطبع تلك الآراء في كتابه (المعرض) وكانت للأستاذ (أحمد عبدالغفور عطار) رحمه الله إسهامات في التحقيق والمنافحة، وفي كل بلد ينبري من ينافح عن لغة القرآن، ولقد بسطت القول في سلسلة مقالات نشرتها في جريدة (البلاد) قبل عشرة أعوام تقريباً تحت عنوان: (تنمية اللغة)، وفي كتاب مخطوط تحت عنوان: (الإبداع الأمي: المحظور والمباح). وفي غمرة القول والقول المضاد اضطربت الآراء حول (المنهج) وبخاصة بعد ما شهد (علم اللغة) الحديث تطوراً في الغرب، وامتد أثره إلى المشرق العربي، وكان الناس من قبل لا يعرفون إلا (المنهج المعياري)، على سنن المتقدمين، ثم كان الإجماع أو كاد على (المنهج الوصفي) ولم يتلبثوا فيه إلا قليلاً، فكان هناك تحول وتفرق والتقاء حذر حول (المنهج التحويلي). ورواد هذه المناهج غربيون، أبلوا في البحث والتجريب بلاء حسناً. والمصداقية تحتم الإشادة بما توصلوا إليه، نذكر من أولئك على سبيل المثال (سوسير) و(تشومسكي) و(دريدا) ولكل واحد من أولئك منهجه واهتمامه ومجاله، ومن ثم عرفت (البنيوية) و(التحويلية) و(التفكيكية). ومع ما تركه هؤلاء من أثر واضح فيه منافع للغة وإضرار أكبر لبعض جوانبها كالتلقي والتأويل والنص المفتوح والمعلق فإن لعلماء النحو والصرف سبقاً وتميزاً، ولكن الناس لا يفقهون. وتميز الغربيين في آلياتهم ومناهجهم ومبتكراتهم ومعاملهم والقول ب(الكسبية) أو (الملكة) واستخدام الآلة والبحث وتقدم علم الصوتيات لا يعني التسليم المطلق لهم ونبذ ما بأيدينا، وفي الوقت نفسه لا يليق بنا الاستغناء عما توصلوا إليه. والتفاعل مع المستجد يحتاج إلى كفاءات علمية، تحفظ التوازن، وتعرف كيف تصرِّف الأمور، وتوائم بين القديم والحديث. وعلم اللغة الحديث بحر لجي متعدد النظريات والمناهج والآليات، والفرضيات والنظريات التي ينقض بعضها بعضاً، والتحولات التي لا يقر لها قرار، وكل ذلك كم معرفي، لا يستغني عنه مهتم بالشأن اللغوي، ولا يستغنى به. والاستياء والتذمر وتلمس أنجع الطرق حق مشروع، ولست أشك أن هناك عسراً في دراسة النحو والصرف منشؤه تعويل الأقدمين على المنطق وطريقتهم في الاستقراء والاستنتاج والقياس والعلة والعامل والحذف والتقدير والشرط والأحوال والجائز والممنوع، كل ذلك جعل مناهج الدرس النحوي والصرفي مجالات لكثير من التساؤلات. والعلماء المعاصرون الأفذاذ لم يدخروا وسعاً في البحث عن طرائق جديدة تؤدي إلى تقريب الدرس النحوي من نفوس الدارسين. وإحساس العلماء بالحاجة الملحة إلى تجديد النحو العربي لم يقف منذ أن بدأت بوادره على يد (الدؤلي) إلى يومنا هذا، ولكن المشتغلين بهذه القضايا يختلفون ويتفاوتون، وبعضهم أميون لا يفقهون، ولا يعرفون أنهم لا يفقهون، وضررهم أكبر من نفعهم. ولما كان العصر عصر مؤسسات فإن على المهتمين والمتخصصين عرض وجهات نظرهم وخلاصة تجاربهم على (المجامع العربية) وعلى (الجامعات) لتداول الآراء وتمحيص الأفكار والخروج بتوصيات تسهم في حل المشاكل وحماية اللغة، أما الاهتياجات الفارغة والاستبدادات الفردية فإن إثمها أكبر من نفعها. ولو عدنا إلى الكتابين مجال البحث، ونحن عائدون ولا شك، لوجدناهما خاليين تماماً من التناول الموضوعي.. فالكاتبان استنفدا الجهد والوقت في اللوم والتقريع، ولم يقدما حلاً ولا نظرية ولا منهجاً ولا آلية، والنقد التطبيقي الذي مارسه (أوزون) عشوائي مكرور، ومشروعه المقترح هلامي لا يسد المكان الذي حاول تخليته من النحو العربي، وهو قد اقترف جناية أخرى رواها من أثق به، فألف كتاباً عن (جناية البخاري) وسماه الأستاذ (محمد دياب) (ثقب الأوزون) (الاقتصادية 19-12-1425هـ). والاثنان لم يقرآ (الكتاب) لسيبويه، ولو غامرا بقراءته لما فهماه، ولو فهماه لما استطاعا تطبيقه. ومع خلوهما المعرفي فقد احتملا بهتاناً بحق (سيبويه) وإثماً مبيناً بحق التراث العربي. والنيل من علماء الأمة ومن تراث الحضارة الإسلامية دأب المستغربين والمستشرقين. فالنقد الموضوعي غير التجريح الشخصي، وعرض البدائل غير النفي والإقصاء، وإشكالية مشاهدنا اختلاط الزيف بالأصالة، إذ ليس كل متصد للتراث مستغرب، فكم من عالم فذ نقب في كتب التراث، وأبان عما فيها من خطأ أو تقصير. وسنة الله في خلقه ألا يكمل في الوجود كتاب إلا كتابه، فكل عالم أو مفكر رادٌ أو مردودٌ عليه، وكل عالم أو مفكر يؤخذ من كلامه ويرد إلا الذي لا ينطق عن الهوى. واستياؤنا وتذمرنا ليس تعصباً للتراث، ولا تخوفاً عليه، ولا تزكية لعلمائه، ولا ادعاء عصمة لمنهج، ولكننا لا نريد الهرج والمرج، نريد بحوثاً ذات منهج وآلة وموضوع، تضع العين على مكمن الداء، وتصف الدواء، وتنصف في الحكم، وتعتدل في الآراء، وجلسات مجامع اللغة العربية تعدل وتبدل وتجيز وتمنع، وما أحد نقم على قراراتها. وما كان صنيع الكاتبين أخذاً ورداً واستبدالاً، بحيث يندرج عملهما في ظل المشاريع الإصلاحية التي تسهم في التخفيف من ضجر الطلبة وملل المعلمين، وتقدم حلولاً لها وعليها ولكنها أقرب إلى الصواب وأجدر بالترحاب. وخطيئتهما المنكرة في النيل من علماء الأمة ظناً منهما أن صعوبة اللغة وغيابها عن لغة التخاطب مرده إلى صعوبة القواعد التي أنشؤوها، وفاتهم أنه لا حياة لأي ظاهرة إلا بالنظام.. فالحياة كلها ما ظهر منها وما بطن، وما دق منها وما جل قائمة على النظام، ولا حياة لمن لا نظام له. فالنظام سنة كونية لا تتبدل ولا تتحول، بدءًا من نظام الكون وأجرامه ومجراته المشاهدة والغائبة إلى نظام الأجهزة المادية في جسم الإنسان، بل في جسم النملة والحشرة والخلية، وما لا يُرى من مخلوقات الله، التي تدب على الأرض، أو تطير في الهواء، أو تسبح في الماء، (ما فرطنا في الكتاب من شيء). النظام إكسير الحياة، وقواعد النحو والصرف نظام، ومن أراد التفريق بين الشيء ونظامه فهو من يريد أن يفرق بين الجسم والروح، فلا جسم بدون روح، ولا تصور للروح بدون جسم. اللغة ونظامها كالجسم والروح، والقول بإلغاء الضوابط دخول في التسيب، وإذا أحسنا الظن بالكاتبين فإننا نشك في إمكانياتهما المعرفية، بل أكاد أجزم بأن (الشوباشي) يعيش أمية في النحو والصرف وفقه اللغة، وكتابه مجموعة من المقالات المتنافرة، وأن (أوزون) ناقل عشوائي عرف شيئاً وغابت عنه أشياء. وإذا كان أحدهما أو كلاهما على شيء من المعارف فإنهما يجهلان معارف النحو والصرف، ولو عرفا ذلك لما كان منهما القول في الشأن النحوي أو الصرفي بهذه الطريقة المتخلفة، والفاقدة لأبسط متطلبات البحث العلمي. وإذا جهل الباحث مادة بحثه، ولم يعد هناك مجال للأخذ والرد معه، إذ هو بحاجة إلى أن يتعلم أولاً، وأن يمارس التطبيق ثانياً، ثم يبيح لنفسه التعاطي مع الموضوع عبر منهج وخطة ومادة وهدف. والكاتبان يفقدان ذلك كله، وحتى الهدف المقصود لا يتحرر، ولا يتحدد إلا من خلال منهجية وآلية وموضوعية ودراية ورواية، وفاقد الشيء لا يعطيه. والكتابان مجرد إثارة إعلامية ومحتوياتهما لا تصمد للبحث العلمي. والكاتبان لم يتيحا لنفسيهما فرصة الاطلاع على كتب النحو القديم بما فيها (الكتاب) ل(سيبويه)، ولم تكن لهما مرجعيات معتبرة، وكل ممارساتهما إنشائية إعلامية لمجرد الاستهلاك والإثارة. والقول في الشأن اللغوي يتطلب الإلمام بمدارس النحو وأمهات الكتب، وما سبق من دراسات تطبيقية أو تنظيرية، والأصوليون يقولون: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره). |
مواجهة الإرهاب بين الحملة.. والمؤتمر
د. حسن بن فهد الهويمل مما يعرف عن البلاد وأهلها أنهم كانوا الأسبق في معرفة الإرهاب، والأنجح في مواجهته، والأكثر تضرراً منه. ويوم أن كانوا في مقدمة المتأذين من التطرف، كان العالم يحتمي بتعدد المفاهيم وتنوع المواقف، وكان يحيل تذمر المملكة إلى امتعاضها من حرية التعبير ونبرة المعارضة، فيما لم تكن ضدَّ المعارضة المشروعة، ولا ضدَّ الحرية التعبيرية المنضبطة، وإنما كانت ضد الغلو والتطرف والعنف المسلح، وضد الخروج على الشرعية، ومفارقة الجماعة، وتخويف الآمنين، وقتل الأبرياء والمستأمنين، ومصادرة الحرية التي كفلها الدين. ويوم أن مسَّ العالمَ طائفٌ من لظى التفجيرات، وتجرع مرارات الخوف والرعب، اهتاج كما الأسد الجريح، متخبطاً في المواجهة والمطاردة، طائش السهام، محتدمَ المشاعر، واليوم يتقاطر مفكرو العالم وساستُه على بلد أبان لهم نصحه، وصدع بتحذيره، وحث على تجفيف منابع الإرهاب، وقَطْع دابره، وذلك بتفادي أسبابه، وتجنب مثيراته. ومفكرو العالم وساسته يلتقون، ليقولوا كلمتهم التي قالتها المملكة منذ زمن بعيد، ولم يستبنها زعماء العالم إلا بعد أن استيقظوا على صليل السلاح. وحرصاً من المؤسسة الأمنية على التوعية والمكافحة عضدت المؤتمر بحملة وطنية تضامنية، تنهض بها شرائح المجتمع، وتعززها كافة المؤسسات. وجدير بالمملكة أن تتقدم العالم في إطلاق لسانها بالتوعية، وبسط يدها بالمواجهة، فهي بلد السلام والتسامح والوسطية والتعايش وتبادل المصالح والجنوح للسلم، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والدفع بالتي هي أحسن.. منها انطلقت قوافل الجهاد والدعوة، وعلى ترابها تنزلت الرحمات من السماء، وفوق أديمها شمخ البلد الأمين، ورقد الجسد الطاهر، ومن خيراتها ملئت البطونُ الجائعةُ، وكسيت الأجسامُ العاريةُ، وجبرت الكسورُ المعوقة، وحقنت الدماءُ النازفةُ. وفي أبهاء قصورها التقى الفرقاء، ووقعت اتفاقات المصالحة، وعن طريق الرحلات (المكوكية) لمسؤوليها أطفئت الفتن، وفك الاشتباك، وكف البغي، وهُيئت موائد المفاوضات. ولما تزل إطفائية إسعافية، وكدنا بهذا التداعي لآلام الشعوب نتشبع ب(الأممية) وننسى (الوطنية). ويوم أن تعرض أمنُ الأمة للخوف، وتلاحُمها للتصدع، واستقرارُها للاضطراب، اضطلعت بمسؤوليتها، معتمدة على بارئها، مؤملة بوعده وعهده، متفائلة بنصره، لأنها أعلت كلمته، وأحيت سنته، وسعت بحاجة المسلمين في آفاق المعمورة، دعوة ومناصرة. ولمّا أن عم الإرهاب واستشرى، أصبح الحديث عنه بتعاريفه التي نيفت على المئة، وبمفاهيمه التي تعددت بتعدد الأسباب والمصالح والمواقف حديثا ذا شجون، والناس فيه بين قاطعٍ أمرَه أو مترددٍ فيه. والمواطنُ السليمُ الطوية، المتحسسُ عن الحق، المتثبتُ من أنباء الفاسقين، لا تُؤتى الأمةُ من قبله. ومن ذا الذي يود (لنفسه ودينه وعرضه وعقله وماله) أن تكون ريشة في مهب الريح؟ وتلك الضرورات الخمس مثمناتُ يستهدفها الإرهابيون. فهل أحد ممن بدت صفحة فعله المُشين فرَّق بين محق ومبطل؟ وهل خليةٌ نائمةٌ أو مكشرةٌ عن وجهها تفادت الحرمات والمحرمات؟ وهل أحد من الذين مسهم الضرُّ يعرف لماذا أوذي في ماله وأهله ونفسه؟. أحسب أن الأمر من الوضوح، بحيث لا يحتاج إلى مزيد من القول. ولولا أن السكوت عن الحق شيطنةٌ خرساء، لما كنا بحاجة إلى القول المعاد. وحديثي في هذه الظروف العصيبة، ينطلق من مجموعة محاور، أجملها قادة الأمة: - المحور الأول: ينطلق من مقولة خادم الحرمين الشريفين: - (لن نسمحَ للإرهاب بالمساس بأمن الوطن). والمحور الثاني: يستبطن مقولة ولي العهد: - (لا حيادية في معارك الخير والشر). والمحور الثالث: يستلهم مقولة النائب الثاني: (الأعمال الإرهابية دخيلة على بلادنا المباركة). والمحور الرابع: يتمثل مقولة وزير الداخلية: - (كلنا يدٌ واحدةٌ ضدَّ الإرهاب وتهديد الأمن). والمحور الخامس: يستشعر مقولة أمير القصيم: (لا نقبلُ ولا يقبلُ هؤلاء الإخوة الذين عهدتهم أيَّ تبرير لمثل هذه الأعمال). والمحور السادس: يستهدي بمقولة هيئة كبار العلماء: - (الإرهابُ انحرافٌ فكريُّ وفسادٌ عقدي). ولكل أمير أو عالم أو مفكر مقولةٌ تستنكر، أو حديث يستنهض، أو فتوى تحرِّم. وهي مقولات تعد جماعَ المواجهة الفكرية، وزاد النخبة في المجالدة والمجاهدة. ومع كل نازلة أو في أعقابها، كانت لي إلمامات متأنية متأملة، عبرالمقالات والندوات والمؤتمرات والكتب، تستثيرها أقوال شاذة، وتذكيها ممارسات مستنكرة، أجملت بعض ذلك في الفصل الثاني من كتابي (أبجديات سياسية على سور الوطن) تحت عنوان (الإرهاب على السفود) تناولت فيه الظاهرة الشاذة، من حيثُ تضاربُ المفاهيم، وتعددُ الأسباب، وتدافعُ الانتماءات، وطرائقُ المواجهة، وقراءة الأحداث، وترتيبُ الحلول، وصناعة الإرهاب بين المناهج الدراسية واللعب السياسية، وفداحة الحدث، ومتاهاتُ التأويل، ومسؤولية رجل الأمن ورجل الفكر في الظروف العصيبة. وفي كل شوط دلالي أحيل إلى آي الذكر الحكيم، وإلى صحيح السنة المطهرة، وإلى منطق الفطر السليمة، وأحتكم إلى عقلاء الأمة، وأستفتي القلوب التي تطئمن إلى البر، وتتردد في قبول الإثم، فكانت كلمة الفصل: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}و {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ} و(سباب المسلم فسوق وقتله كفر). و (الخطاب) الحضاري ينطلق من كليات الدين، ويستلهم تاريخ الأمة، ويركن إلى الرؤية الإسلامية الآمرة بالعدل والإحسان، والناهية عن الفحشاء والمنكر. ولما لم تكن مؤسسات الوطن مصدر إيذاء للبشرية، فإن قالة السوء تبعث من كل جانب، محمَّلة تلك المؤسسات شطرا من المسؤولية. وحين تحدونا تلك الظروف إلى مراجعة النفس، وتقويم الأداء، فإن ذلك لا يعني الاستجابة لمفتري الكذب، ولا الإذعان للمرجفين، ولا الخنوع للاتهامات الجائرة. ولكن لئلا يقال بأننا نزكي أنفسنا، ونؤله هوانا، ونصر على رؤيتنا، ومما لا مراء فيه أن الاختراقات الفكرية المنحرفة، وجدت طريقها إلى أدمغة الفارغين من أبنائنا، ممن لم نكن نتوقعُ اختراقهم بهذه السهولة وبهذا الحجم. وحين نكون أمام أحداث موجعة، اقترفها الضالون من أبناء البلاد ضد أهلهم، فإن العبارات المتمارضة الهروبية لا مكان لها، فالواقع يحتم الصدعَ بالحق، وإن كان مراًّ، ومصارحة النفس، وإن كانت مؤلمة، وتسمية الأشياء بأسمائها، وإن كانت قبيحةً. إن لدينا إرهاباً، ولدينا إرهابيين، وطائفةٌ من أبنائنا يتخطفهم اللاعبون بالنار. والميتون بغيظهم يهمزون، ويلمزون عبر القنوات المأجورة والصحف الفضائحية، والعمليات الإرهابية على أديمنا الطاهر أوضح شاهد على أن اللعبة القذرة كشَّرت عن أنيابها، ومن ثم لم نعد بحاجة إلى الدليل. وكلمة ولي العهد تؤكد أن الموقف لا يحتمل (الحياد). إن علينا لكي نكون واعين مسددين أن نفصل بين الظاهرة الإرهابية بصفتها العالمية والممارسة التخريبية داخل البلاد. والحديثُ المتجانس عن ظاهرة الإرهاب، يعني تماثل الأسباب والأهدافِ، وهذا غير صحيح. وإذا كان الواقع العالمي يستدعي المقاومة، فإن الواقع المحلي لا يتسع لأكثر من المشاطرة والشفافية والباب المفتوح والمناصحة، امتثالاً لحديث (الدين النصيحة). وإذا كان الجذر اللغوي لكلمة (الإرهاب) ذا أصل واحد، فإن تعاريفه ومفاهيمه ومجازاته وانزياحاته، تتغير في الزمان والمكان والأحداث. ونحن لكي نُفعِّل موقفنا، ونرشِّد مواجهتنا، يجب أن يكون خطابنا عن الإرهاب الداخلي متسماً بالصدق والصراحة والصرامة والحدية وعدم المساومة أو المزايدة. وكل من عدت عينه إلى مواقع أخرى في (الغرب) أو في (الشرق) في (العراق) و في (أفغانستان) في (فلسطين) أو في (الشيشان) فإنه سيجد نفسه بين إرهابٍ متوحش، أو مقاومة مشروعة، أو دفع اضطراري. وحينئذ تضطرب المواقف، وتختلف الرؤى، وتكثر الثغرات، وتضيع قضيتنا البيضاء كما الشمس في رابعة النهار. وكيف ننساقُ وراء الآخر، ولكل من (البنتاجون) و(البيت الأبيض) تعريفهُ المغايرُ لصاحبه؟ إننا حين نتضامن مع العالم في مكافحة الإرهاب، وحين نعلن استنكارنا لأي ممارسة إرهابية، أو قتل عشوائي، وحين نستضيف قادة الفكر وأساطين السياسة في العالم، ليشهدوا مواقفنا الصريحة المتوازنة، فإن هذا لا يعني خلط الأوراق، ولا يعني القبول بالقول في عمليات الإرهاب المحلية على سنن القول عن العمليات الإرهابية العالمية. لقد حُمِّل الإسلامُ شطراً من التبعاتِ، وحملنا بعض الأوزار، واتهمت مؤسساتنا التعليمية والدعويةُ والخيريةُ، وحيل بيننا وبين ممارسة حقنا المشروع في الدعوة والدعم بسبب الممارسات الرعناء. والإسلام الحق وحملته المتمثلون لمقاصده ومقتضياته فوق الشبهات. وقضيتنا الأولى في المؤتمر والحملة تطهير البلاد من فلول الإرهاب، وحمايةُ الإسلام من حملات التشويه، ومشاطرةُ العالم مواجهته المشروعة، وحثهُ على حسم أسباب الإرهاب برفع الظلم ودعم الشرعية. وإذا كان في الإرهاب العالمي أكثر من قول، فليس له ها هنا إلا قولٌ واحد: إنه إفسادٌ وحرابةٌ وبغي وتعد ونقضٌ للبيعة، وخروجٌ على جماعة المسلمين. وهو كما النص القطعي الدلالة والثبوت لا اجتهاد معه، ولا تفاوت في الموقف منه. أما أشكاله وأنواعه وطرائقه ودوافعه ودركاته في آفاق المعمورة فإنه ظاهرةٌ عالمية تختلف فيه الآراء، لتعدد أسبابه وتنوع انتماءاته. ورفضنا له من منظور إنساني إسلامي، لا يدخل في التفاصيل، لأننا لا نتصور الأحداث كما نتصورها في بلادنا، ولا نعرف الملابسات كما نعرفها في بلادنا. ولهذا فإننا نشاطر العالم رفضه، ونحرص على تبادل الخبرات، ونود التقريب بين وجهات النظر، ولا نجد مانعاً من التعاون في مواجهته. وحقنا أن نثمن مواقفنا، وأن تلجم أفواهُ السفهاء والمأجورين عن الافتراء علينا. وفي سياق تضامننا الإيجابي مع العالم فإننا لا نسمح لأحد من أبنائنا أن يشق عصا الطاعة بقول لا تراه المؤسسة الدينية، أو بفعل لا تراه المؤسسة السياسية، أو انضمام إلى أي تجمعٍ يضرُّ بالمصالح المشروعة، كما لا نريد أن يكون خطابُنا في الداخل كما هو في الخارج. إن علينا أن نجعل من خطابنا الداخلي: خطاب موقف يقطع بالتجريم والتحريم، وخطاب فعل يسهم في قطع دابر الشر. وذلك بالتأييد المعلن، والمساندة القوية. وكلمة ولي العهد (لا حيادية في معارك الخير والشر) تذكرنا بخطابات تمريضية، قد تفوت علينا فرص الانتصار بأقل الخسائر. إن هناك من يمكن تسميتهم ب(اللاكنيين) وهم الذين يقولون: نحنُ ضدُّ الإرهاب ولكن.. ولكل مُسْتَثْنٍ (لاكنياتٌ)، لو جمعت، وجُعلت كلُّ واحدة منها جزءًا من المبررات، لكان ذلك مؤذناً بتبرير الإرهاب. وقطعاً لدابر (اللاكنيين) نقول: - إن الإرهاب بمفهومه العالمي غيرُه في مفهومه المحلي. ومن تردد في القول الفصل عن الإرهاب العالمي فإن حجته ضعفُ التصور، وتفاقم الأوضاع غير السوية. أما المتردد في القول الفصلِ عن الإرهاب المحلي فإن حجته داحضةٌ، ونواياه مريبةٌ. الإرهاب المحلي مواجهة معلنة لثلاث ركائز، هي كل شيء في حياتنا: - - الأمن. - والعقيدة. - والوطن. ومتى استطاع الإرهابُ النفاذَ تحت أيَّ غطاءٍ فإن الضحية الحقيقيةَ هي ذلك الثالوث الأهمُّ في الحياة السوية. وإن كان ثمة (لاكنيات) فإنه يجب أن تكون بمعزلٍ عن مواجهةِ الإرهاب المحلي والموقف منه. لقد جاءت كلمات القادة والمسؤولين والعلماء قاطعة لقول كلِّ خطيب، فالمؤسسة الأمنيةُ وُكِلَ إليها شأنُ المواجهة والمطاردةِ وتضييق الخناق. والمؤسسات الدعوية والتوعويةُ والتربويةُ والثقافيةُ والإعلاميةُ مسؤولةٌ عن حفظ الأجواء، وتحصينِ الأدمغة البريئة من الإفساد، والحيولة دون الاختراقات الفكرية، والسعي الدؤوب لتنشئة الأجيال على الوسطيةِ والمواطنةِ، والأخذ بتحذير الرسول الرحمة-صلى الله عليه وسلم- (إن هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى). فحين لا يسمحُ وليُّ الأمر لأيِّ ممارسةٍ إرهابيةٍ بأن تمسَّ أمن الوطن فإن ذلك مسؤولية رجل الأمن. وكلُّ مواطن في النهاية رجلُ أمن. وإذ يقول ولي العهد (لا حيادية في معارك الخير والشر) فإن هذا يعني ان الكلمة كالبندقية، لابدَّ أن تخوضَ معترك المقاومة، عبر المحرابِ والمنبرِ والمنصةِ والقاعةِ والصحيفةِ، والشريط، والكتاب، والمواقع والقنوات. ويوم يقول النائب الثاني: (الأعمال الإرهابية دخيلة على بلادنا) فإن هذا يعني أن البنية الفكرية والدينيةَ لأبناء المملكة بنيةٌ سليمة، وأن سائر مؤسساتنا تتوخى مقاصد الإسلام، وأن إسلامنا دين الرأفة والرحمة، وأن الاختراقات الفكرية هبت رياحها من الخارج في غفلة من الرقيب. وعندما يقول وزير الداخلية (كلنا يدٌ واحدةٌ ضدَّ الإرهابِ وتهديدِِ الأمن) فإن هذا تجسيدٌ فعليٌّ لمقولة ولي العهد، فالكل مسؤول عن الأمن النفسي والفكري. ولا يُعذر أحدٌ على السكوت. فالقضية ليست مهمةً رسميةً ولا مسؤولية وظيفية. إنها قضية الوطن، قضية كلِّ من يعتز بانتمائه لهذه الأرض الطاهرة، قضيةُ العلماء والأدباء والمفكرين، ورجال الأمن والتربية والإعلام والأعمال والمقيمين، وقضيةُ المرأة في بيتها، والرجل في سوقه، والحِرَفي في معمله والعالم في مسجده، والأستاذ في قاعته، والأعرابي في باديته، والمزارع في حقله، قضيةُ كل مكلف يشعر أن الأمن له ولأهله كالماء والهواءِ. وإذ لا يقبل أمير المنطقة تبْريراًَ لمثل هذه الأعمال، فإنما يعني (اللاكنيات) الهروبية التي شغلتنا عن قضايانا. وعندما تجتمع كلمة كبار العلماء على أن الإرهاب انحرافٌ فكريٌ وفسادٌ عقدي فإن ذلك الحكمَ ملْزمٌ للخاصة والعامة، حتى يأتي حكم آخر من ذات المؤسسة. وحين لا يطاعُ أمرٌ، ولا يسمعُ لكلام، تقع البلاد تحت طائلة العصيان المدني الذي يتمخض عن عصيان مسلح. وساعتها تفقد البلاد أثمن ما قدَّمه آباؤنا وأجدادنا بقيادة الملك الموحد عبدالعزيز بن سعود- رحمه الله-. والإرهاب شئنا أم أبينا، رضينا أم سخطنا أصبح حقيقةً ماثلةً للعيان ووباءً مستوطناً، ولم يعد وقوعات عارضة. ومواجهته الحاسمةُ لا تتم بمعزل عن المسجد والمدرسة والجامعة والشارع والبيت وسائر المؤسسات الدينيةِ والأمنيةِ والثقافيةِ والتربويةِ والإعلاميةِ. والإرهاب اليوم طاعون العصر، نزل بساحة العالم، وهمنا يجب أن يكونَ منصباً على أرضنا المقدسة بالدرجة الأولى، ولابد من نهضة جماعية، لتنقية الأجواء، والعودة بالبلاد إلى سالف عهدها أمناً واعتصاماً وتلاحماً، لنضطلع جميعاً بمسؤولياتنا قبل أن يتسع الخرق على الراقع. |
ثقافة الإرهاب 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل عَنَّت لي فكرة الحديث عن (الثقافة النوعية) حين اخفقت بعض المؤسسات الخدمية والإجرائية في الحضور الفاعل، لجهل المستفيد منها بمهماتها، أو لعجزه عن إتقان طرائق التفاعل معها. وحين تحدثت فيما سلف عن (مأسسة الثقافة وثقافة المؤسسات)، أشرت إلى أهمية الثقافة الخاصة، وأنحيت باللائمة على كل الأطراف المتقاعسين. فالمؤسسة تُقصِّر عن التعريف بمهماتها، والمستفيد لا يعنيه التصور السليم عما يحيط به من مؤسسات أنشئت من أجله ولمّا أزل أحس بأن كافة مشاهدنا العملية بحاجة إلى توعية عميقة، تمكّن المنتفع من حسن التعامل والحصول على أكبر قدرٍ من الاستفادة. ولما كان الإرهاب قضية ماثلة للعيان، كان لابد من التفكير الجاد للتوفر على ملاذٍ آمن يحمي الأجسام والأفكار والممتلكات وسائر المثمنات والضرورات، ولن يتم شيءٌ من ذلك، حتى نكون على بيّنة منه، وهذه البيّنة هي عين الثقافة، وأولوية ذلك أن نعرف القدر المعرفي، وطريق الوصول إليه، والشرائح المستهدفة. ولتأكيد إشكالية الفراغ المعرفي دعونا نتساءل: هل أحد من العاملين في أي قطاعٍ حكومي يعرف النظام الأساسي له، أو يتذكر التعديلات والإضافات على ذلك النظام، أو يختزن في ذاكرته أو في مركز معلوماته مجمل التعاميم المتعلقة بالعمل الإجرائي؟. وهل أحدٌ من المستفيدين والمستهدفين من أي قطاعٍ حكومي يعرف ما له وما عليه؟ وهل تستطيع النخبةُ فضلاً عن الدهماء أن تلم بالمكونات الأساسية ل(المجتمع المدني) الذي تسعى الدولة لاستكمال متطلباته: الحسية والمعنوية؟ وفي ظل هذا الانقطاع المعرفي فإن علينا أن نُرجعَ البصر كرتين كي ينقلب إلينا، وهو ممتلئ بالمعرفة وحسن الأداء. ومما هو معروف عن (المجتمع المدني) بالضرورة قيامه على مؤسسات: دينية وتربوية وثقافية وخدمية وحقوقية وأمنية، لا تؤتي مهماتها إلا من خلال إجراءات وضوابط وشروط، ولما تكن تلك المؤسسات بكل ماهي عليه حاضرة الذهن الجمعي. ولهذا نجد السواد الأعظم يمارسون الفعل بمعزل عن تلك المؤسسات، مع أن (المجتمع المدني) لايكون سوياً حتى يرتبط بهذه المؤسسات وينطلق منها، وفق أوفى المعلومات وأدق الممارسات. ولما لم تكن إشكالية العلاقة بين المواطن وسائر المؤسسات مقتصرة على الأخذ والعطاء المتوازن فإن ثقافة طرأت وفرضت نفسها، وأصبحت قضية موت أو حياة، هذه الثقافة مخاض الأحداث العالمية المتمثلة بالحروب الدامية: (الخليجية) و(الأفغانية)، و(سقوط الاتحاد) و(أحداث الحادي عشر من سبتمبر) و(الاحتلال) و(إسقاط الشرعية) و(الفراغات الدستورية) و(الحروب الأهلية)، وظهور (خطابات متشددة) وأخرى متوعدة، وتلويحات بالتدخلات العسكرية لفرض إرادة القطب الواحد، كل هذه التداعيات شكلت تنظيمات الغضب والتكفير واستحلال الدماء المعصومة، واستفحلت معها عمليات (الإرهاب). وفي ظل هذه التحولات المخيفة كان لزاماً على كل فئات المجتمع أن تعيها كما هي: ولادةً ومنشأً وانتشاراً، وأن تحدد الموقف ورد الفعل والتفاعل والاعتزال بوعي ومعرفة وتكافؤ، وهذا اللون من الثقافة كما أرى جزء من الثقافة العامة، فكان أن سميت تجوزاً ب(ثقافة الإرهاب). فالعمليات الإرهابية الموجعة، استدعت خطابات جديدة موغلة في التناقض، وما كانت معروفة من قبل، والناس من حولها في أمر مريج. ولأن البلاد والعباد عرضة لهذه المخاضات فإنه من الضروري وعي المرحلة بالقدر الكافي، ومعرفة (الإرهاب) من حيثُ: مفهومهُ، وأسبابهُ، وطرقُ مواجهته، وانتماءاته. وفي ظل ثورة الاتصالات والمعلومات تداولت المشاهد عدداً من الثقافات الموصوفة ك(ثقافة الهزيمة) و(ثقافة الرفض) و(ثقافة الإقصاء) و(الغضب) و(العنف) وكل هذه الثقافات تحكمها الأنساق والسياقات والنسبية، وليس أدل على ذلك من اختلاط المفاهيم حول الجهاد والقتال، والمقاومة والدفاع، والبغي والعدوان. وفي المقابل هناك ثقافات مؤسساتية ك(ثقافة الانتخاب) وقد شهدنا بعض التجاوزات في العمليات الانتخابية للمجالس البلدية، ووقفنا على إعلانات دعائية ووعود هلامية من بعض المرشحين، أدت إلى استبعاد عددٍ منهم لجهلهم بهذا الحراك الحضاري. وهناك (ثقافة الشورى) فالكثير من المنتفعين لايدري عما يُفعل به، وما يُفعل له. فما الشورى؟ وما جدواها؟ وكيف يستطيع المواطن المستفيد أو المتضرر من قراراته إيصال الرؤية إلى أعضاء المجلس. وهناك (ثقافة الحوار) وكم نشاهد عبر المؤسسات الإعلامية إسفافاً وفحشاً لايليق بالسوقة. ولو كانت لدى المتجادلين معرفةٌ بآداب الحوار وأساليب المناظرة، لما كانت تلك المناكفات المسفة. وهناك (ثقافة حقوق الإنسان)، وكم نسمع من المتحدثين في المنتديات والمجالس من يخلط بين الحقوق العامة والخاصة والحقوق السياسية والإنسانية. والهيئة الوطنية القائمة تتعثر بجهل الناس لرسالتها، وشكهم في جدواها، مع أنها مؤسسة تمتلك مشروعيةً ونظاماً لا يختلفان عما هي عليه سائر المنظمات العالمية. وللمتابع أن يستدعي (مجالس المناطق) و(المجالس البلدية) التي ستباشر عملها عما قريب، ليقف على إخفاقات كثيرة، منشؤها الجهل بهذه المؤسسات ورسالتها. وكل أمرٍ لا يقدم بين يديه تعريفاً مفصلاً عن ذاته يمكّن العامة من فهمه، والقبول به، والتفاعل معه، يظل في معزل عن الناس، وناتج ذلك ألا تتقبله الأمة بقبولٍ حسن. فالأمة هي التي تمنح المؤسسة الوجود الفاعل، وهي التي تجهض المشروع. ومكمن الإشكالية التقصير في إشاعة (ثقافة المؤسسة)، ولن تأخذ أي منشأةٍ خدمية وضعها الطبيعي حتى يكون هناك وعي جماهيري، يعطي كل شيء حقه، ثم يمضي في التفاعل معه والاستفادة منه. ذلك شأن العطاء، وهو شأن النفع، أما ظواهر الإيذاء فإن الجهل بها مؤذن بالاستفحال والتجذر وفداحة الأثر. ف(المنظمات الإرهابية) لايمكن استكناهها إلا من خلال اكتشاف (شفراتها)، وهي بعض الثقافة التي يفقدها أكثر الناس. ولقد قلت من قبل: (إن المؤسسات غير الواعية، أو غير المستوعاة تتآكل مع الزمن، لأنها لا تزرع الثقة، ولا توطئ أكناف التواصل، ولا تحقق المراد بأيسر الجهد وأقل الوقت) وهذه المقولة توزع المسؤولية بين المفيد والمستفيد، إذ لا أريد أن تكون الإدانة لجهة دون أخرى، وما أردت جلد الذات، ولا تحقيق الانتصار الوهمي. إننا أحوج ما نكون إلى الشفافية والمكاشفة، ونشدان الحق، والكشف عن الأخطاء، وتحديد مجالاتها، ومن ثم النهوض للتلاقي لا للتلاحي، وللعمل لا لتبادل الاتهامات. وجهل المؤسسات النفعية أقل خطراً من جهل التنظيمات الضارة، وجمعنا بينهما لإثبات النقص المعرفي في الكل، وعدم التحرف الجاد لتلافي ذلك النقص. وإذ ينشغل الوسط الاجتماعي بقضية خطيرة هي قضية (الإرهاب) فإنه لا بد من بسط الموضوع، وتلافي شح المعرفة عن كل تداعيات الإرهاب وتنظيماته، وأساليب أدائه، ومراوغته، وغنوصية خطابه. وتفادياً للتشتت فإننا لن ندخل في جدلية المفهوم، ولن نحفل بتعدد التعاريف. فالمؤتمرون في (الرياض) وهم أساطين الفكر والسياسة اعتزلوا هذه الجدلية، لأن لكل زمان ومكان التعريف المطابق له، ومن حق أي متعامل مع الإرهاب متضرر منه أن يحدد مفهومه والموقف منه على المستويين: المحلي والعالمي، شريطة ألا يشكل هذا المفهوم تعويقاً للتضامن العالمي، ولا مصادمة للمقتضيات والمقاصد الحضارية. وإذا كانت للغرب مفاهيمه ومصالحه و(إستراتيجيته) فإن للشرق مثل ذلك، ومن الخير للعالم التحول من الصدام إلى الحوار، ومن التنازع إلى التعايش، وكل ذلك ممكن، ومن حق البشرية أن تعيش موفورة الكرامة، ولهذا فضّل الإسلام الجنوح إلى السلام. والتأكيد على أهمية التعرف على كل ظاهرة لا يعني التحريض على الصدام، أو الانغلاق على الذات، وإنما يعني معرفة الشر لاتقانه والخلوص منه. ومن حق المتلقي أن يتساءل: ما ثقافة الإرهاب؟. وإذا صرفنا النظر عن التساؤل الأزلي: ما الإرهاب؟ فإننا لانجد مبرراً لصرف النظر عن تعريف محدد لثقافته. وإذ يكون (الإرهاب) ظاهرة تنهض بها الدول والجماعات والمنظمات والطوائف والأفراد، فإنها لم تعد عارضاً غير متلبث، لقد واكبت الإنسانية منذ (ابني آدم)، وستظل حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وليست تلك الظاهرة الأزلية واحدة لا تتبدل، إنها تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأناسي والأفكار، ولكل مرحلة زمانية ثقافة إرهابية مغايرة. والذين تناولوا الغلو والتطرف في القديم والحديث يختلفون في الآلية والمنهج وتحكمهم ماهية الخلفيات الثقافية وتعدد المرجعيات واختلافها، وهذا الاختلاف يجعل لكل مرحلة قراءتها، وليس أدل على ذلك من تباين القراءات حول (الخوارج) و(القرامطة) و(التتار) و(النازية) و(الفاشية) وسائر الظواهر القديمة والحديثة. إن هناك ثقافة تمكن من استكناه الظاهرة، وثقافة تمكن من اتقائها، والأمة مطالبة بالتحصن من المرض والتحذير منه. وأسلوب (افعلْ)، و(لا تفعلْ)، لم يعد مجدياً، فالناس يريدون الإقناع، ولا إقناع بدون معرفة تامة تعري الحقائق. لقد كنت، ولما أزل وراء المستجدات الفكرية والثقافية والسياسية، فكلما تداولت المشاهد مصطلحاً، سعيت جهدي لتجميع القصاصات المتعلقة به من أخبارٍ ومقالاتٍ، حتى إذا استوت النازلة على سوقها، انهالت الكتب التي ترصد للظاهرة، وكل راصدٍ تحكمه خلفيته الثقافية والدينية والسياسية وآليته ومقدرته الذاتية. ومن الخير أن يكون للمتابع موقف ثابت، يستمد قوته من عقيدته ومواطنته ومصالح أمته. وتلك ثقافة الاتقاء، وهي جزءٌ من التأصيل المعرفي، وكل خائض في قضايا الفكر على غير علم ولا هدى ولا كتاب منير، يعرّض نفسه للأخطاء المهلكة، وضرورة التأصيل ومعرفة الآخر عرضتني للركام المعرفي، فلقد استوفيت الحديث عن (الماركسية) و(الوجودية) و(العلمانية) و(الحداثة) و(البنيوية) و(التقويضية) و(العولمة) وأخيراً امتلأت مكتبتي من الكتب التي تناولت (الإرهاب). وكلما فاض المعين من شيءٍ، أحسست أنني أشد مسغبة. فتعارض (الايديولوجيات) وتصادم المصالح، واختلاف المفاهيم، وتعدد المواقف، واختلاط اللعب المأجورة بالبحث العلمي المجرد جعل المتابع يعيش في أجواءٍ ضبابية لا يكاد يعرف الصادق من الكاذب. وإذ تتعثر (ثقافة الإرهاب) بتناقض الآراء، تظل ممنعة على الكافة، وهم الأكثر عرضة للإرهاب وتأذياً منه. وواجب المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية والثقافية إشاعة هذه الثقافة لتكون ميسورة التناول، ومن ثم يكون أخذُ الحِذر من الإرهاب والتصدي للتثقيف المضاد ممكناً ومطروحاً في الطريق للخاصة والعامة. |
ثقافة الإرهاب (2 - 2 )
د.. حسن بن فهد الهويمل والتعرّض لتعدّد الرؤى والمفاهيم والتصوّرات لا يحول دون مغالبة المواقف والنفاذ إلى مشارف السلامة؛ فالأمة لا تنجو بالاعتزال، ولا تنفذ بالاحْتيال. وهذا الوضع يتطلب سلطان العلم والقوة لتتمكن الأمة من الاتقاء والنفاذ، ولن يتأتى النفاذ من مختنقات المشكلة إلا بتحرير المسائل وتحديد المفاهيم ومعرفة أنجع الطرق للخلوص من تلك المآزق. ولابد والحالة تلك من التغلب على المعضلات المتنامية بالصبر والمصابرة والمرابطة، واستخدام المجسّات والمسابير والحفريات لمعرفة أدق التفاصيل عما يحيط بالأمة من أفكار وظواهر وتكتلات. وكل ذلك جزء من الثقافة بشقيها: الوقائي والعلاجي. والمثقف بوصفه أهم المرابطين على ثغور الأمة بحاجة ماسة إلى تشكيل معرفي سليم، يمكنه من تحصين نفسه أولاً، ثم الإسهام في إنذار عشيرته الأقربين، والعمل على توعية الناشئة المستهدفة من قرناء السوء ومحترفي التضليل من الغلاة والمجندين. وليس هناك أخطر من غسل الأدمغة، واستغلال الشباب المتحمّس للمثالية. وأكبر شاهد على خطورة الاختراقات الفكرية ما نعايشه في راهننا المحلي؛ فالذين يمارسون الأعمال الإرهابية شباب غُرّر بهم، وأخذوا على غرّة، حين غفل المقتدرون عن تجمّعات الشباب، فالمغرّر بهم لم يكونوا من كبار السن ولا من المتخصّصين في السياسة الشرعية، وهذا يؤكد أهمية الثقافتين: (الثقافة الشرعية) و(الثقافة الشريرة)، ويؤكد أهمية الشباب، فهم المستهدفون. وفي ظل هذه البوادر السيئة نكون أحوج إلى توفير (ثقافة الإرهاب) بوصفها جزءاً من التعبئة العامة التي تجعل شبابنا على بينة من أمرهم؛ فالثقافة المعرفية بإزاء الثقافة المضادة، تكشف عن المتربّصين والمتماكرين وقرناء السوء والمتعالمين، والغلاة والمتطرفين، وتضع أمام أعين المستهدفين كلّ الخيارات، ليكونوا على بينة من أمرهم، ولا يؤخذوا على غرّة. إن المسجد والمنبر والمدرسة والبيت وسائر وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية هي المجال الأهم لإشاعة التوعية والإنذار والتحذير من هذه الظاهرة، ولا يمكن أن نشيع ثقافة الضدّ فيمن يعنيهم الأمر إلا من خلال هذه القنوات. ومَن لم يعرف الشرّ يوشك أن يقع فيه، وكان (حذيفة بن اليمان) - رضي الله عنه - يسأل عن الشرّ مخافةَ أن يقع فيه، وكان الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه - يخاف على مَن لم يعرفوا الجاهلية أن يقعوا فيها. وكلّ نظام جائر أو عادل، وكلّ منظمة مدنية أو بدائية، وكلّ تطرف دينيّ أو سياسيّ، وكلّ عنف أو غلو، لا يمكن أن ينطلق من فراغ. إنه مخاض ثقافة لا يمكن صدّها على أعقابها إلا بفهمها وتفكيكها وإبطال مفعولها قبل أن تفعل فعلها. والمواجهة الثقافية لا تختلف عن المواجهة العسكرية، وإذا كانت الرؤوس المدمّرة المنقولة على صواريخ تواجه بما يفجّرها في الجوّ قبل وصولها، فإن ثقافة الضدّ لابدّ لها من آلية تنطلق إليها في مهدها لتبطل فعلها. وكل ذلك مندرج ضمن (ثقافة الإرهاب) ولا يتمّ ذلك على وجهه إلا بتقصّي تلك الثقافة؛ فالحكم على الشيء فرع من تصوّره، ولا يفل الحديد إلا الحديد. إن المواجهة شيء، والتوعية شيء آخر، ولابدّ أن يسيرا جنباً إلى جنب؛ فالسلاح والكلمة الطيبة صنوان. وإذا لاذ المفسدون في جحورهم، وتحولوا إلى خلايا نائمة، يأتي دور الكلمة السديدة، كما التحصين من الأوبئة المنتشرة. إن (ثقافة الإرهاب) مؤذنة بمعرفته على حقيقته، وحسم المشاكل المترتبة عليه لا يكون إلا بعد التقصّي لها، ومعرفة أسبابها ومصادرها. وكل حضارة فاعلة لابد أن تستوعب ثقافتها، وأن تلمّ بقسط وافر من الثقافة المضادة على الأقل. ومؤسسات (الاستخبارات) و(المباحث) و(مراكز المعلومات) الدولية منوط بها التوفر على الخطاب المناوئ والثقافة المضادة. ولأن الإرهاب ينسل من زوايا المجتمع المعتمة، ويندس أفراده في أوساط الشباب المتوقد حماساً والقابل للتشكل كما عجينة الصلصال؛ فإن على المؤسسات الثقافية والدينية والإعلامية كافة مواصلة التوعية، والعمل على تسييج المنافذ؛ لكيلا يتخطف الأبناء من كل جانب. لقد أجمع العالم على رفض الإرهاب، ولم يبقَ إلا أن نكون على بينة من مفاهيمه: المحلية والعالمية، وأنواعه: الفكرية والدينية والطائفية والعملية، وأسبابه: الظاهرة والباطنة والذاتية والغيرية. فإذا اكتفينا بمواجهة الإرهابيين بقوة السلاح وأشكال المطاردة، وتركنا الحواضن، ظلت تفرخ لنا المئات بدل العشرات، وظلت المسألة في إطار الصراع الدموي والحرب الأهلية التي تقضي على الأمن والتنمية، وتؤدي إلى تفكك الوحدتين الفكرية والإقليمية. والمواطن جزء من العملية؛ فهو هدف للقتل، وهدف للتضليل، فإذا ظل جاهلاً بالإرهاب من حيث هو، وجاهلاً بأساليب الوقاية منه وطرق المواجهة له، فإنه سيكون مستهدفاً في البداية، ومشروعاً للإرهاب في النهاية. ومن الخطورة بمكان أن نشتغل في ظل مفاهيم مغلوطة، بحيث نتصور الإرهاب على غير حقيقته، فلا نعرف الأسباب ولا الانتماء ولا أساليب المواجهة: الحسية والمعنوية. والفهم الخاطئ كالمقدمات الخاطئة يؤدي إلى نتائج عكسية، وخلوصاً من هذه المآزق لابد من التأسيس المعرفي ورسم خطة فاعلة، تضع الظاهرة بكل ملابساتها على المحك؛ لتكون العامة على بينة من أمرها في أخذ الحذر والخلوص من مكائد الإرهابيين وصناعهم. إن هناك وقاية، وهناك مواجهة؛ فالوقاية رهن الثقافة المزدوجة: ثقافة الذات وثقافة الغير، والمواجهة تكون استباقية، وتكون استئصالية، ولكل وضع ثقافته. ولما كانت بلادنا في مقدمة الدول الحمَّالة: حمالة لهمّ الدعم والإصلاح وفك الاشتباكات، كانت وجبة شهية لكل من أراد لهذه المنطقة أن تعيش في أتون الفتن. فلقد أصبحت مسرحاً لعدد من العمليات الإرهابية التي أزهقت الأرواح، وهدمت المباني، وأخافت الآمنين، وكانت هدفاً للاتهامات الجائرة، وكان أبناؤها هدفاً للمغرّرين والمخادعين. والأمر بهذا التنوع يحتاج إلى تحرف سليم يقوم على تجميع كافة المعلومات العميقة الشاملة الدقيقة عن كل متعلقات الإرهاب، ثم إشاعتها لتكون في متناول كل مواطن، والتواصي بالتكاتف والاعتصام بحبل الله، ومواجهة الأعداء صفاً واحداً كأنه بنيان مرصوص، وإعداد خطاب حضاري ينازل أدعياء السوء: ممن جندوا أنفسهم، ووظفوا إمكانياتهم لتشويه سمعة المملكة وتحريض العالم عليها، وممن نذروا أنفسهم لإفساد العقائد والسعي في الأرض فساداً. لقد أحسن قادة البلاد صنعاً حين دعوا إلى عقد مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب، ليعرف العالم الموقف الرسمي والديني والشعبي الذي يمثل لحمة واحدة، وهو موقف حضاري لا غبار على مشروعيته. هذه التظاهرة العالمية أثبتت اتساع مشاهدنا لكل الخطابات وقدرتها على التفاعل الإيجابي مع أي خطاب متوازن، الأمر الذي أذهل الجميع، وحملهم على مراجعة مفاهيمهم عن البلاد وعلمائها ومناهجها. فالبلاد مستهدفة: عملياً وإعلامياً، ولا ينجيها من هذه المكائد إلا استجلاء الحقائق والبرهنة للعالم بأن ما يقال عنا ظلم وعدوان. وليس أدل على ذلك من تفاعل المواطنين مع الحدث عبر الحملة الوطنية التي أثبت المواطن من خلالها رفضه الإرهاب بكل أشكاله، هذا المؤتمر جسر الفجوات، ومكننا من إسماع صوتنا الذي ظل حبيس أجوائنا. لقد لفت نظري الجهل بمؤسسات المجتمع المدني وضعف التفاعل معها والأداء السليم من خلالها، وامتد هذا الشعور إلى النقص المعرفي بالظواهر السيئة، الأمر الذي مكنها من الاستفحال، وكان ذلك مؤذناً بالحديث عن (ثقافة المؤسسات) وعرض الحيثيات الداعية لذلك، ولما راعني الجهل بالإرهاب ومتعلقاته والتعويل على المؤسسة الأمنية لمكافحته، كان حديثي عن جوانب كثيرة تتعلق به، تناولت: - الإرهاب بين تضارب المفاهيم وتعدد الأسباب. - الإرهاب وتدافع الانتماء. - الإرهاب وطرائق مواجهته. وهذه المحاور فيما أرى هي جماع (ثقافة الإرهاب)، فلو نفر المقتدرون للتضلع من هذه الثقافة والتفقه بها ومعرفة مداخلها ثم النهوض بالإنذار عبر المنابر والقاعات والصحف والقنوات، لكان أن قطعنا الطريق على المتسللين بالعتاد والرجال والأفكار. والأمة حين تستقر على مفهوم محدّد لأيّ ظاهرة سيئة، وحين تعرف أسبابها تكون أقرب إلى التعامل معها وفق متطلبات المرحلة. ومتى أتيح للمواطن الوقوف على جدل الحضارات حول ملابسات الإرهاب بوصفه من الظواهر السيئة، استطاع أن يعرف كيف يواجه الأعداء، وإذا أتقن الجميع طرائق المواجهة، تمكنوا من اتقاء الشر، ودفع الضرر بأقل الخسائر. والمؤتمر الذي دعت إليه الدولة خرج بتوصيات متوازنة، لم تنل من رؤية البلاد، ولم تؤثر في مواقفها المعتدلة. ودعوة المملكة لإقامة مركز دولي للإرهاب قوبلت بترحيب دولي، ومهمات المركز كفيلة بتيسير المعرفة الوقائية، وهي الجزء الأهمّ من (ثقافة الإرهاب)، وفوق هذا وذاك جاءت الحملة الوطنية التضامنية تجسيداً للموقف الشعبي. وتعالقُ الموقف الرسمي مع الشعبي مؤشر إيجابي. ولم يبق إلا أن نعي هذه الظاهرة بكل ملابساتها، وأن نستصحب هذا الوعي إلى أمد طويل؛ فالظاهرة لا تحسم بيوم وليلة. والإرهاب المحلي وإن كان في لحظات الاحتضار إلا أن إمكانية التحرف أو التحيز متوقعة، وإذا حوصر الإرهابيون، وضيق الخناق عليهم فإن لفلولهم رفسة تشبه رفسة الذبيح، وهي من أخطر المراحل في أي ظاهرة تحتضر؛ ولهذا لابد من أخذ الحذر، وعدم الركون إلى نشوة الانتصار. وخوفاً من الخلايا النائمة فإن علينا أن نظل نشيع (ثقافة الإرهاب) للحيلولة دون كرّة موجعة، تؤدي إلى احتناك أبنائنا الأبرياء، وانتزاع الأمن والرخاء والاستقرار من بين أيدينا. ويجب ألا تقتصر ثقافتنا عن الإرهاب على جانب منه؛ فالقتل والتفجير وتهريب السلاح وغسل الأموال والمخدرات كل ذلك يعد ظاهر الإرهاب، أما باطنه فيتمثل بالكلمة الخبيثة النافذة عبر عدد من التنظيمات السرية. ولما كانت مجالات الإرهاب متعددة؛ فقد أصبحت ثقافته متلونة كما الحرباء، ومراوغة كما الثعلب، ومخادعة كما السراب. ولقد نبه المؤتمرون إلى المثلث الخطير: تهريب السلاح، وغسل الأموال، وترويج المخدرات. والبلاد الغنية مرتع خصب لكل مفردات الإرهاب، ومسؤولية المؤسسات الأمنية والثقافية تتضاعف كلما تعرضت البلاد للعمليات الإرهابية، وكلما تعرضت الأدمغة للغسل، فلنأخذ حذرنا قبل أن نؤخذ على غرّة. وخلاصة القول: 1 - أن نضع (استراتيجية): - أمنية.. تستبق الأحداث. - توعوية.. تواجه الدعاية المغرضة. - تربوية.. تنشئ الأجيال على الوسطية. 2 - أن نؤصل مفهوم المواطنة بحيث يعرف المواطن الواجبات بقدر معرفته الحقوق، وأن الأقربين أولى بالمعروف. 3 - أن نؤصل مفهوم السياسة الشرعية القائمة على احترام السلطات الثلاث: - السياسة - الدين - المجتمع 4 - أن نعرف الأعداء وألا نتمنى لقاءهم. وإذ يكون الإرهاب قضية الساعة، ووسيلة قذرة للاقتناص والاقتصاص فإن على الكافة التعرف عليه، وعلى أساليبه، وعلى منظماته، للتوفر على الوقاية الناجعة، وإتقان المواجهة الدقيقة، ولكل منهما متطلباته المعرفية والآلية، وذلك ما قصدناه ب(ثقافة الإرهاب). |
موقعنا في سياق المشاريع الثقافية..!! (1 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل كان بودي لو توافر لهذا الموضوع جهد ووقت ومرجعية كافية، تمكن من تفكيك الظاهرة، والتعرف على أدق تفاصيلها، والقول عنها بموضوعية وتقويمها بواقعية، وتدارك الأمر للتأسيس المعرفي لما نستقبل من مشاريع مؤسساتية أو فردية أو جماعية تتعلق بالثقافة بوصفها جماع المعارف النظرية. ويقيني أن مجرد الإثارة لمثل هذه الموضوع مؤذنٌ بتحرف سليم، يضعنا بكل ما لدينا من إمكانيات في المكان المناسب بكل ممارساتنا الثقافية على الأقل، وساعتها تكون هذه الإثارة ذات مردود مفيد، وما كنت بامتعاضي متخذ الشامتين عضداً، فما أنا إلا من (غزية) في قوتها وضعفها. وحين أنحي باللائمة فإنما أنحي بها على نفسي أولاً إن كان ثمة قدرة معطلة، أو فكر مهمش. لقد بدأ هاجس المشاريع منذ أن وجه القرآن الكريم إلى النفور للتفقه والإنذار بعد التضلع المعرفي. ومنذ أن أجلب العلماء بكل إمكانياتهم وخلفوا لنا ملايين المخطوطات. والتاريخ الحضاري للإسلام المتمثل بكتب الطبقات وسير أعلام النبلاء، وتاريخ المدن زاخر بالتاريخ المشرف للعلماء الأفذاذ الذين نذروا أنفسهم للمشاريع العلمية التي خلدت ذكرهم. ولن أمضي في الاستطراد واستعراض علماء التفسير والحديث واللغة والفقه والتاريخ ومنجزاتهم، فهو حاضر الذهنية المثقفة ثقافة تراثية. ولن تعدو عيني إلى الدول المتمكنة من ظاهر الحياة الدنيا؛ فمثل هذا السبق حاضر المثقف المسكون بهمّ أمته. وحديثي عن موقعنا في سياق المشاريع الثقافية لن يقف عند حد الرصد والوصف، كما أنه لن يتردى في مآزق المفاضلة والادعاء. وإذ لا أسمح لنفسي بالوقوع في هذه المآزق فإنني في الوقت نفسه لن أستدر عواطف البَرِمِين بجلد الذات؛ فالأمة محكومة بواقعها وبسياقها، وهي قادرة على كسر الطوق والخلوص من الارتهان لواقعها المأزوم. والفكاك من مخذلات الواقع يتطلب رسم أكثر من خطة للنفاذ من عنق الممارسة النمطية. وتشكيل (المجتمع المدني) لا يعني المروق من مقتضيات الحضارة ومقاصدها، وإنما يكون بالخلوص من الأمية والبدائية والفردية وارتجال الفعل وفورية الممارسة، وتشتت الجهود، وعشوائية الأداء. وأي مشروع ثقافي لا يسبق بالدراسات المعمقة والخطط الدقيقة والدعم المتواصل والخبرات المتمكنة والعمل المؤسساتي الدؤوب، يكون مآله إلى التوقف، ثم التآكل. ومع نجاح كثير من المشاريع الفردية التي سنعرض لبعضها، إلا أن ضمان النجاح والاستمرار لا يكون بالقدر الكافي، والزمن زمن التكتلات، والخبراء الممارسون يركنون إلى المشاريع المؤسساتية مهما كانت بطيئة. وشأننا في التخوف والرغبة شأن (الشركات العائلية) التي تضيع بمجرد موت المؤسس، والمتابع للمشاهد العربية والعالمية تمر به إسهامات فردية ومؤسساتية ترقى بتكاملها وشمولها إلى مستوى المشاريع، وإن كان الفعل الفردي أو المؤسساتي لا يُضمِرُ همَّ المشروع. وبين يدي الحديث عن المبادرات الفردية والجماعية والمؤسساتية يحسن بنا أن نحاول تحرير (مفهوم المشروع) بوصفه سمة أو مصطلحاً. ولست أعرف ما إذا كانت كلمة (مشروع ثقافي) قد أصبحت كلمة مصطلحية، لها مفهومها ومقتضاها. لقد نقبت في المعاجم والموسوعات، فلم أر فيها ما يؤكد مصطلحية الكلمة، أما في مجال (الاقتصاد) فهناك أكثر من ظاهرة أو ممارسة اقتصادية تستهل بكلمة (المشروع). وفي كتيب صغير يحمل عنوان: (مشروعك الخاص يترجم وجودك.. أنت بلا مشروع أنت بلا وجود) لمؤلفه (أحمد قائد الأسودي) وقفت على كلمة إنشائية محتدمة، تختلط فيها مشاعر الانتشاء بحالات البؤس والانكسار، عنوانها (ماهية المشروع)؛ إذ يؤكد استحالة غياب المشروع في الواقع الإنساني، بوصف الإنسان مشروعاً بحد ذاته؛ فهو - على حد قوله - مشروع الله في أرضه، خلقه واستخلفه واستعمره، وهو مساحة مستهدفة بالمشروعات، ما يوحي بأن الإنسان مشروع ومستهدف بالمشروع. ولست مع الهلاميات والإطلاقات العاطفية. وما أرمي إليه قيام الفرد أو الجماعة أو المؤسسة بتبييت النية وبلورة الفكرة وتجسيد الرؤية والتصور السليم الذي يحدد الحاجة، ويرسم الطريق، ويتوفر على المادة والجهد والوقت ويباشر العمل من خلال الخطة والمنهج والآلة، بعد فهم المهمة في لحظة التخلق إلى نقطة التحقق. وهذا التطلع لم أر أحداً نفله بدراسة علمية موضوعية على حد علمي، ولما كان الجهل بالوجود لا يعني العلم بالعدم، فقد نفيت علمي، ولم أنف الوجود. ومع عدم تحرير المصطلح فقد وجد البعض في ذلك فرصة للادعاء العريض، إذ يطلق البعض على ممارسته الثقافية سمة المشروع، ويتلقف الإعلام هذا الإطلاق ويتداوله، وما هو في حقيقة الأمر مشروع. ومرد ذلك: إما إلى المفهوم الخاطئ للظاهرة، أو الرغبة في التشبع والادعاء. وقد يكون تبني أي ظاهرة أو تيار أو مذهب غربي مغرياً بمثل هذا الادعاء المتزيد. وتلقي المذاهب الغربية أو تبنيها لا يكون مبادرة ولا مشروعاً. لقد جُلبت مفاهيم وآليات ومناهج في التربية والأدب وعلم النفس والاجتماع وسائر (الأيديولوجيات) ولم يتردد المحتفون بها في وصف محاكاتهم بأنها مشاريع، وما هي كذلك، وإن كانت المشاهد قد استفادت منها، وإذا كان من حقهم التزود من معارف الغير فإن ذلك محكوم بضوابط لم يتمثلوها. لقد كثرت المقولات حول المشاريع، مثلما كثرت دعوى (الثلاثيات الروائية). والمشروع لا يكون إلا بعد قيام الحاجة، وتوفر الإمكانيات، ورسم الخطط، وتحديد الأهداف، وتصور النتائج، وممارسة الفعل المنظم، وإنتاج العمل المستقل المتكامل، ونهوض طائفة مقتدرة واعية تتحرك في الوقت المناسب، وتملك الحق والشرعية والإمكانية، وأن يسبق الفعل تقدير وتوقيت وتحديد المسار والهدف. ومثل هذا لا يصدق على كثير من الممارسات الفجة المرتجلة التي يصفها أصحابها بالمشاريع، ويتلقاها أشياعها بالتصديق، ثم لا تكون كذلك، ومع الحرص على فرز الأعمال وتحديد العمل المشروعي والعمل العادي إلا أننا لا نجد الضوابط الدقيقة التي تتلافى مثل هذا الخلط المسيء للفهم. والمتابع للإنجازات الفردية والمؤسساتية يجد أن أعمالاًُ فردية، لم يبيت أصحابُها نية المشروعية، ولكنها تفوقت بغزارتها وموضوعيتها وسدّها الحاجة على أكثر المشاريع المستحقة لهذه السمة، وقد لا يلحق بها من بيتوا النية وخططوا وأنفقوا. فلو نظرنا إلى المشاهد الثقافية العربية إبان النهضة أو في أعقابها لتبدت لنا إنجازات فردية وجماعية ومؤسساتية تستحق الوقوف والإشادة، وإعادة النظر، لإعادة الكرّة ومواصلة المسيرة التي انقطعت بموت صاحبها، أو بتفرّق الجماعة. وليس هناك ما يمنع من الاستفادة والتأسي؛ فالثقافة والحضارة والهمّ العربي وحدة واحدة لا تتجزأ، وما ينجز في موقع جغرافي يسدّ خلالاً كثيرة، وبتعقب المنجزات التي كاد يطويها النسيان نقف على محاولات رائدة في مختلف الحقول المعرفية. لقد تبدت الإسهامات المشروعية في عدة حقول معرفية، ففي حقل الفكر الإسلامي ومعارفه بُذلت جهود من قبلِ أفراد ومؤسسات، وكان لهذه المبادرات المنظمة أثرها في سد فراغات معرفية طال انتظارها. لقد كانت هناك محاولة للتاريخ الحضاري للإسلام لمواكبة التاريخ السياسي، ويأتي في مقدمة ذلك مشاريع كثيرة، منها - على سبيل المثال - مشروع (أحمد أمين) عن فجر الإسلام وضحاه وظهره، وفي مجال الدراسات الشخصية يأتي (العقاد) في عبقرياته، وفي مجال النص التشريعي نجد أنه في مجال (الحديث النبوي الشريف) يتبادر إلى الذهن العلامة (محمد ناصر الدين الألباني) - رحمه الله - لقد كان اهتمامه في التحقيق والتخريج والتصحيح فتحاً مبيناً، أدى إلى العدول عن كثير من المسلمات الفقهية، والتقليل من التعصب المذهبي الذي أحل النص الفقهي محل النص الشرعي، وخدمة السنة النبوية من لدنه مبادرة فردية يعجز عن النهوض بمثلها فريق عمل متفرغ؛ الأمر الذي حدا بعلماء المملكة إلى تثمين عمله المتميز، ومنحه (جائزة الملك فيصل العالمية) ومشروعه في خدمة السنة فتح الطريق أمام عدد كبير من العلماء الذين أسهموا في تحقيق كتب الحديث وتخريج أحاديث السنن والصحاح والمسانيد. وأحسب أن النصف الثاني من القرن الماضي يعد من أميز الفترات وأخصبها؛ حيث شكل تحولاً في الفقه الإسلامي، حمل علماء المذاهب على مراجعة مسلماتهم، والقبول بإعادة النظر في كثير من الأحكام، وعمله من أهم المشاريع الفردية. ويواكب هذا المشروع ظاهرة (الفهرسة) لكتب الصحاح والمسانيد والسنن ووضع فهارس للصحيح والضعيف والموضوع. وتبع ذلك بدايات متعددة في مختلف المعارف توقفت قبل الاكتمال: إما لموت المؤلف، وإما لعجزه، وإما لفشل مشروعه. والمشهد الثقافي والمعرفي زاخر بالمشاريع التي بدأت ثم تفرقت بها السبل. وفي مجال (الذكر الحكيم) يتبادر إلى الذهن (مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، أما عن الجهود الفردية فيتبادر إلى الذهن العلامة (عبد الخالق عضيمة) - رحمه الله - الذي أنجز عملاً فريداً، لم يحظ بالاهتمام والاستثمار، تمثل بدراسات نحوية صرفية لأساليب القرآن الكريم، حيث أفرغ النص القرآني وفق أبواب النحو والصرف، ويقع مشروعه في أحد عشر مجلداً، لا ينجز مثله إلا أولو العزم من العلماء الأفذاذ. ومن قبله مشروع الأستاذ (محمد فؤاد عبد الباقي) - رحمه الله - (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم). وفي مجال الحضارة الإسلامية لا يجهل أحد مشروع (فؤاد سزكين) الذي جاء تصحيحاً لعمل لمستشرق (بروكلمان)، ولو ذهبنا نستقصي ألوان المشاريع ومجالاتها لطالت علينا الشقة. وعلى المستوى المحلي وفي مجال التراث والآثار وعلم الأنساب واللغة والمخطوطات يعد من أبرز الشخصيات الذين تركوا أثراً يفوق المشاريع المؤسساتية علامة الجزيرة العربية الشيخ (حمد الجاسر) - رحمه الله - فلقد اهتم بجغرافية الجزيرة العربية، والتف حوله عدد من الباحثين الذين أنجزوا جغرافية مناطق المملكة، وهو قد اهتم بتاريخ الأسر المتحضرة في نجد، وله اهتمامات تراثية ولغوية، وهي بمجملها تشكل وحدة معرفية تضارع المشاريع العملاقة. وبالإضافة إلى التحقيقات، فقد تعقب معاجم اللغة العربية واستدرك عليها ما يتعلق بأسماء المدن والجبال والأودية، وهو بإمكانياته واهتماماته الاستثنائية أصبح مرجعاً معرفياً موثّقاً لدى (المجمع اللغوي بالقاهرة)، ويعد من عمده فيما يتعلق بتاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها. وإلى جانب أعماله التأليفية والإشرافية يُصدر مجلة (العرب) وهي مجلة متخصصة، تهتم بذات الموضوع. ولقد نهض محبوه للمحافظة على استمرارية جهوده، وذلك بإنشاء مركز يحمل اسمه، ويؤدي ذات المهمات التي كان ينهض بها بمفرده. ولقد شُغل بعض الأدباء والمفكرين والمتخصصين بقضايا تاريخية أو تراثية أو فكرية أو أدبية وتمخض اهتمامهم عن منجزات كادت تصل إلى مستوى المشاريع، نذكر في هذا الصدد الدكاترة (عبد الرحمن الأنصاري) و(سعد الراشد) وجهودهم في علم الآثار، ومعالي الدكتور (علي النملة) وجهوده في علم الاستشراق، والدكاترة (سعد البازعي) و(ميجان الرويلي) وجهودهم في علم المصطلح، والدكتور (سالم محمد رشاد) - رحمه الله - وجهوده في تحقيق مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مشروع رعته (جامعة الإمام)، ومعالي الدكتور (عبد الله بن عبد المحسن التركي) واهتمامه بالموسوعات التاريخية والعلمية. |
موقعنا في سياق المشاريع الثقافية..! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل ولو ذهبنا نستبق المسكونين بالهم الثقافي والتراثي لتداخلت أمامنا القضايا، ولتشابهت علينا المسميات، فطائفة من الذين شغفتهم الأضواء حباً، وأنهكهم الإعلام ترويجاً يودون أن يستقروا في أذهان الغير على أنهم أرباب المشاريع وروادها، وما هم منهم لا في العير ولا في النفير، وإمعانهم في تكرار الادعاء جعل البعض يظنهم كذلك. ولو نظر المصدِّقون لهم إلى مواصفات المشروع وشروطه لما غلبت على ظنهم تلك الأقاويل، ولقد علمت أن قادة الفكر العربي يعايشون أكثر من مائتي مشروع ثقافي جماعي، تندرج تحته المنتديات والمنظمات والهيئات والروابط، وهذا عدد قليل إذا قيس بالمساحة والكثرة والحضارة والتاريخ. وحين أومأت إلى طائفة من العلماء والمفكرين محلياً تساءل البعض عن آخرين، لا يقلون عنهم هماً وإنجازاً، وما كان في نيتي التقصي، ولو كان ذلك من همي لكنت أشرت إلى مشروع (البابطين) وهو مركز حافل بالتراث، وقريب منه الصالونات والمنتديات والأندية والروابط كصالون (الرفاعي) رحمه الله، و(خوجة) و(المبارك) وآخرين، كانت لهم اهتمامات ثقافية لا تقل بمجموع منجزها عن منجزات أصحاب المشاريع. وعلى المستوى العربي نجد رجالات علمية وثقافية تضارع في أدائها وفي منجزاتها ما أنجزه غيرهم، ولسنا بصدد الحصر الإحصائي، ولا العزوف عما لا تهوى أنفسنا، ولكننا نشير فقط إلى ما في الوطن العربي من بدايات موفقة، تحتاج إلى مزيد من الدعم والمواصلة، أو التقويم والتسديد. ومما يدخل في نطاق المشاريع الفردية - على سبيل المثال - مشروع (محمد عابد الجابري) في نقد العقل العربي الذي يقع في أربعة أجزاء كبار، وهو مشروع استرجاعي نقدي تقويمي للبنية والمكون، وللبعدين: السياسي والأخلاقي، ولما يزل مجال أخذ ورد. ودونه مشروع (كتب غيرت الفكر الإنساني) للباحث (أحمد بن محمد الشنواني) وقد نيف على عشرة أجزاء، ودعوى تغييرها متفرقة أو مجتمعة للفكر الإنساني دعوى فيها أكثر من قول، وفائدتها أنها أجملت الوصف والتحليل لعشرات الكتب المهمة، وذلك المشروع الفردي مخاض مشروع مؤسساتي تبنته (الهيئة المصرية العامة للكتاب) وهو مشروع (الألف كتاب) الأولى والثانية. ويضارع هذا المشروع المؤسساتي مشروعات مماثلة كمشروع سلسلة (اقرأ) وسلسلة (زدني علماً) و(كتاب الهلال) و(عالم المعرفة) السلسلة الشهرية التي تصدر من الكويت و(كتاب الرياض)، وتلك مشاريع عملية تقصد إشاعة الثقافة، ولا تخص علماً ولا ظاهرة بعينها، كمن فرغ لخدمة (الحديث النبوي الشريف) أو (العقل العربي)، ومن ثم يصدق على مثل هذه المنجزات مسمى (المشاريع الثقافية) وإن لم تبت لها النية، ومما هو في هذا المجال (مشروع الفهرسة) للشخصيات والمجلات، ويأتي على رأس ذلك مشروع الأستاذ (حمدي السكوت) وزملاؤه، فلقد نال بذلك جائزة الملك فيصل العالمية. وكذلك (شوقي ضيف) في تاريخه للأدب العربي عبر العصور الإسلامية. وعلى المستوى النسائي نذكر (سلمى الجيوسي) و(سلمى الحفار)، فقد اهتمت الأولى بترجمة عيون الإبداع العربي، واهتمت الثانية بآثار (مي زيادة). وعلى مستوى المؤسسات نجد (مؤسسة الفكر العربي)، و(منتدى الوحدة العربية)، و(مؤسسة الإنماء العربي)، و(منتدى المثقف العربي) للدكتور (عبد الولي الشميري)، وما لا يحصى من المنتديات، وتلك تلحق بالمشاريع، ولكنها تعيش في ظلها. ولأن القصد من هذه الأمثلة الإشارة لما يمكن أن يصدق عليه مفهوم المشروع فإننا نكتفي بالإشارة العابرة لبعض المشاريع وإن أشرنا له لا نود أن نأتي بمثله، لكونه تزيداً لا قيمة له، أو لكونه مناهضاً للثوابت الحضارية، ولكن يظل المخالف في نطاق المشروع الثقافي. وسيان عندنا في هذا السياق أن يكون المشروع على ما نريد ووفق رغباتنا أو لا يكون، فاكتساب صفة (المشروع) لا يخضع لموافقة الهوى، إذ إنه نوع من الفعل الفردي أو المؤسساتي يكتسب الصفة ولا يظفر بالتأييد. ولو ربط هذا المفهوم بالمنازع السياسية أو الفكرية أو غيرها لما اكتسب أي عمل مفهوم المشروع، وهذا يذكرنا بالخلاف حول مفهوم الحضارة بين (مالك بن نبي) و(سيد قطب) رحمهما الله، وهو اختلاف شكلي أريد له أن يكون فكرياً. وإلى جانب المشاريع التأليفية أو التحقيقية تقوم مشاريع بحثية تجميعية مؤسساتية. هذه الاهتمامات تأتي على شكل مراكز بحوث، تخص (مدينة) أو (شخصية)، ففي (المدينة المنورة) جاء الاهتمام بتاريخ المدينة الحديث، وبخاصة ما يخصها إبان الحكم العثماني، وما يتعلق بالجانب الإداري والمالي، وما يمكن تسميته بما أهمله التاريخ السياسي أو العلمي. ولتدارك ذلك أنشئ (مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة) ومهمته تجميع شتات البحوث والأوراق والسجلات والآثار وكل متعلقات المدينة المنورة. وللجمع بين الدراسة والتنقيب تولى المركز إصدار مجلة محكمة اسمها (مجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة). ولقد حفظ هذا المركز من المعلومات ما كان عرضة للضياع، ولما يزل ينقب، ويرتب، ويصنف ويدرس ويبدو أثره المعرفي بعد استكمال متطلباته. وعلى سبيل الاهتمام الشخصي نجد (دارة الملك عبدالعزيز) تهتم بتاريخ الجزيرة العربية الحديث، وتتابع ما كتبه الرحالة والمستشرقون عن مناطق المملكة وبخاصة أولئك الذين أتيح لهم الاتصال بزعماء البلاد، ممن كانت طبيعة عملهم متعلقة بالظروف السياسية للجزيرة العربية إبان الأدوار الثلاثة للحكم السعودي، إضافة إلى التاريخ الشفهي الذي اضطلعت به الدارة، وكذلك المراسلات الرسمية والشخصية مما له علاقة بالجوانب السياسية والمالية. ولقد كانت (مجلة الدارة) بحد ذاتها مشروعاً تاريخياً. ولا تقل عنها في هذا المجال (مجلة الدرعية) التي يرأس تحريرها الأستاذ (محمد بن عمر بن عقيل) وهي مجلة فصلية محكمة تعنى بتاريخ المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية وتراث العرب، ولا تقل (مكتبة الملك عبد العزيز) عما سلف من مراكز ودارات، وبخاصة أن المكتبة ترعى الموسوعات والندوات والمؤتمرات. وما أنجزته تلك المراكز ومجلاتها في مجالها من إضافة معرفية لا يقل عما ينجزه ذوو المشاريع المعلنة، وإذا كان التعويل على المنجز فإن أعمال تلك المراكز والدارات والمجلات المتخصصة لها من الأهمية ما تستحق معه أن تسمى مشاريع تاريخية أو فكرية أو علمية، ولعل الاختلاف حول المشروع وحدوده استدعى مثل هذه الجوانب. ولقد بدت أعمال ثقافية استثنائية، لم يكن على بال أصحابها أن تكون على سنن المشاريع، ولكنها بعمقها وشمولها وثباتها واستمراريتها تجاوزت حدود المشاريع. فالعلامة (علي جواد الطاهر) ت 1417هـ بدعم ومساندة من العلامة (حمد الجاسر) نهض بمهمة تفوق أصحاب المشاريع، وبمفرده أنجز (معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية) في أربعة مجلدات، وهو عمل فهرسي شامل، لا ينهض به إلا فريق عمل، ولا ترعاه إلا مؤسسة قوية، وقد سد بعمله فراغاً ما كان له أن يظل، حتى ينهض له أستاذ عراقي زائر. والتقاطه لهذه الفكرة ونهوضه بها يقربه من ذوي المشاريع الثقافية. ولعل أكبر وأجود مشروع موسوعي (الموضوعية العربية العالمية) التي دعمها الأمير (سلطان بن عبدالعزيز) وجند لها أكثر من ألف متخصص وباحث، وقد تناولت هذا المشروع بالدراسة. ومشروع المؤسسات تذكرنا بمشروع الأمير (مشعل بن عبدالعزيز) (موسوعة مكارم الأخلاق) وموسوعة الدكتور عدنان الوزان (حقوق الإنسان) كحقوق المرأة وحقوق الطفل، وقد صدرت في عدة مجلدات. وإن كان ثمة إشارة إلى ذوي الهموم الثقافية والتراثية فإننا لا نجد بداً من الإشارة إلى طائفة من أساتذة الجامعات الذين سكنهم هم التراث، وعملوا على خدمته تجميعاً وتحقيقاً. فالأستاذ الدكتور (عبد الرحمن العثيمين) في (جامعة أم القرى) يفوق باهتمامه وإتقانه لعمله ما تقوم به بعض المؤسسات أو ترعاه من مشاريع ثقافية. والأستاذ الدكتور (عبد العزيز المانع) في (جامعة الملك سعود) لا يقل عنه إنجازاً وإتقاناً. ولقد راد لأولئك العلامة (ابن بليهد) في كتابه (صحيح الأخبار) و(أحمد عبد الغفور عطار) في (الصحاح) و(ليس من كلام العرب). ولو ذهبنا نتحسس عن ذوي الاهتمامات والمنقطعين لتخصصاتهم لخرجنا عن مقاصد الحديث، والمتابع للمشاهد يعرف سلفاً أن هناك من تتنازعهم عدة اهتمامات، تكاد تقترب بهم من سدة المشاريع. والحضور الإعلامي، والاشتغال بأكثر من ظاهرة، وسرعة التحول من قضية إلى أخرى، والاهتمام الذي لا ينجز عملاً لا يكون أصحابه من ذوي المشاريع وإن ادعوا ذلك أو ادعاه لهم غيرهم. وإذا قامت شخصيات أو جماعات أو مراكز بمهمات تاريخية أو جغرافية أو تراثية أو موسوعية فإن بعض الوزارات قد نهضت بتنفيذ بعض المشاريع المعرفية، ف(وزارة التربية والتعليم) نفذت عدة مشاريع ثقافية، منها (سلسلة آثار المملكة العربية السعودية) حيث أصدرت عن كل منطقة مجلداً عن الآثار، بلغت ثلاثة عشر مجلداً، تقصت فيه آثار كل منطقة. وفعلت مثل ذلك حين أصدرت موسوعة عن رجال التربية والتعليم. وفي هذا المجال نهض أفراد أو مؤسسات أو مجموعة متخصصة بعمل موسوعات، وقد جاءت تلك الأعمال متفاوتة في جودة الأداء، وهي بلا شك مشاريع لها وعليها. ف(دائرة الإعلام المحدودة) نهضت بمشروع (معجم الأدباء والكتاب) وكانت تنوي إصداره في أجزاء، إلا أنها عدلت عن ذلك، وأصدرته بطبعة معدلة تحت عنوان: (معجم الكتاب والمؤلفين)، وقد شكلت للمشروع المتواضع لجنة علمية، لإجراء بعض التعديلات والإضافات، وكنت واحداً من بين أعضاء هذه اللجنة. كما قامت مجموعة من الأدباء بإصدار (موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث.. نصوص مختارات ودراسات) صدرت الموسوعة في عشرة مجلدات، تناولت الأدب والنقد والإبداع الشعري والسردي مع تراجم ونماذج، ولقد قوبلت تلك الموسوعة بنقد حاد النبرة، وعلى الرغم من ذلك فإنها تعد إضافة جيدة وجهداً مشكوراً، ولا يخلو أي عمل من نقص يمكن تلافيه، كما فعلت (دائرة الإعلام المحدود) حين أصدرت الطبعة الثانية تحت إشراف لجنة علمية، وعلى هذا السنن قام أفراد بجهود مماثلة نذكر من ذلك على سبيل المثال (موسوعة الأدباء والكتاب السعوديين خلال ستين عاماً) للأستاذ أحمد بن سعيد بن مسلم)، ورائد أولئك جميعاً الأستاذ (عبد السلام الساسي) والأستاذ (عبد الله بن إدريس) والأستاذ (عبد الرحمن العيد) والأستاذ (محمد بن أحمد العقيلي) وآخرون من بعدهم، وقد لا تصل مثل هذه الأعمال إلى مستوى المشاريع، ولكنها تمثل إرهاصات لا يستهان بها، ولا يجوز تجاوزها. وحين نتقصى مثل هذه المشاريع أو ما يمكن أن يسمى مشروعاً، وهو غير ذلك فإننا نود الدخول في التقويم والتخطيط واستعراض ما يمكن استعراضه من الحاجة الملحة لتغطية حاجة الأمة الثقافية بالمشاريع المعرفية والثقافية، وما لم نقوِّم العطاء ونتقصى الحاجة فإن الزمن سيمضي دون أن نظفر بعمل ذي جدوى. وإن كان ثمة رغبة في مراجعة المنتج، وتقويم الأعمال القائمة، والبحث عن مواطن النقص، فإن أهم شيء يجب أن نتخذه: توحيد الجهود، والتنسيق بين المؤسسات والجماعات، والتعويل على العمل المؤسساتي، ثم النظر في حاجة الأمة المتمثلة بأمور كثيرة من أهمها: - الترجمة: والحديث عن أهميتها وإشكالياتها العويصة يحتاج إلى مؤتمرات وأكفاء يتقنون اللغتين والموضوع. - الوصول إلى المخطوطات العربية التراثية المنهوبة من خزائن العواصم العربية عبر القرون الخوالي، والعمل على استعادتها، أو استعادة صور منها، وتحقيقها، وجعلها في متناول المتخصص العربي. ولقد كان لمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية جهود لا يستهان بها، كما كان للمجامع العربية جهود مماثلة ولكنها دون المؤمل. - المصطلح: وإشكالية المصطلح مرتبطة بإشكالية الترجمة، فكل مجمع وكل مترجم يعرب أو ينقل أو يترجم وفق جهده وإمكانياته، وقد أدى ذلك إلى التعدد والفوضى. - العمل الموسوعي: وهذا الهم نهض به أفراد وجماعات ومؤسسات، ولكنه جنح إلى الفوضوية، ولم يكن الناهضون بمثل ذلك على شيء من أصول الإعداد الموسوعي، وصناعة الموسوعة تختلف عن صناعة البحث أو الكتاب. - المعاجم: وتلك الرغبة تتطلب مؤسسات متخصصة قادرة على استقطاب العلماء الذين يتوفرون على معرفة متخصصة وخبرة عميقة تميز بين العمل الموسوعي والعمل المعجمي. ولو ذهبنا نعدد نواقصنا الثقافية لأذهلتنا الكثرة. وأهم شيء في هذه الظروف أن تعمد المؤسسات والجماعات إلى التنسيق بين الأعمال، وتوحيد الجهود، وتبادل الخبرات، والمواد، والكفاءات. ولعل أقرب شاهد على الفوضى ما نراه من منجزات مبعثرة ومكررة تمارسها (مجامع اللغة العربية) في الوطن العربي، وبخاصة في مجال الترجمة، وعلم المصطلح، والتحقيق. إن المجتمع المدني مجتمع مؤسسات ودراسات وتخطيط وتخصص واستشارات، فهل نمتلك هذا الهاجس، لنحقق ما نحن بحاجة إليه في مختلف الحقول المعرفية. أرجو ذلك. |
دعوا الحداثة فإنها منتنة..!
د. حسن بن فهد الهويمل ما كنت أود أن تعاد أسمال الحداثة للرفو ولا للشماتة، بعد أفول نجمها، وتفرق جمعها ولا سيما أن هذا الزمن زمن مثقل بالمشاكل، وأن كؤوسها تدار بين أقوام يجتالهم الشك والارتياب، وينتابهم الخوف والترقب، ويحتنكهم شيطان الفرقة. وما كنت أود أن تزل أقدام بعد ثبوتها، ولا أن يُزين للبعض حب الجدل لذات الجدل، ولا أن تستثار كفاءات شرعية وأدبية كنا نعدها لفك الاشتباكات وإطفاء الأزمات. وصراع الحداثة وصرعتها جاءا في وقت كنا فيه أبعد ما نكون عن الاختناقات المحلية والعربية والعالمية. وكان المتحدثون عنها: تأييداً أو معارضة لا يحسون بالخوف، ولا ترعبهم أشباح الفتن العمياء، ولا ترهقهم قوى البغي صعوداً، والفرقاء يجادلون ويجاهدون، وكل فرد منهم محمي الساقة والمقدمة. وفي العقدين الماضيين أخذت (الحداثة) من الجهد والوقت ما فيه الكفاية، ولم نعد بحاجة إلى مزيد من اللجاجة. والذين اتخذوها شرعة ومنهاجاً، والذين اعتزلوها، يصر كل واحد منهم على قوله، وقلَّ أن يعطي أحد منهم الدنية فيما يذهب إليه. وقليل ممن استبان وجه الصواب قنع بكتمان رؤيته، ولم يبدها إلا للخاصة. والأذكياء الذين تعرت أمامهم سوءاتها، مارسوا الالتفاف الغبي، فقالوا عن الحداثة: إنها مجرد التجديد، ومضوا يروجون لهذا الرأي، ليضربوا عصفورين بحجر: تبرئة أنفسهم من لوثة الحداثة بمفهومها الفكري والأخلاقي. واتهام خصومهم بأنهم ضد التجديد. والمطمئن أن أهل الذكر والعارفين ببواطن الأمور يدركون كم هو الفرق بين (الحداثة) و (التجديد) . ولقد كنت وما زلت أبدئ وأعيد القول: بأن الحداثة شيء آخر، مختلف جداً عن التجديد، وأن من وقف في وجه التجديد جرفه تياره، وفاته قطاره، وكم سخرت من أناس ألجمهم الحق، فراحوا يصفون خصومهم بالتقليديين، ولما أزل مستهدفاً بوابل من هذه الاتهامات الجائرة، التي قابلتها بالصبر والمصابرة والمرابطة على ثغر الأصالة. وعزائي أنني بذلك أسفهم الملّ. وما استأت إلا من شدات مبتدئين، تقبلوا تلك المفرقعات الفارغة، وتصوروها أقوالاً محكمة لا يأتيها الباطل، ولم يترددوا في اجترارها ببلاهة معتقة، ويقيني أن الزمن كفيل بإحقاق الحق، وتعرية الزيف، والخطورة ليست في افتراء الأقاويل، وإنما هي في تزييف الوعي، وتضليل الرأي العام، فالمصطلحات الغربية كما ضوال الإبل، تحمل غذاءها وسقاءها، ومن تمطاها قصدت به مراد أهلها. وما كان لي أن أعيد القول مرة ثانية، لولا ما أراه من حرص المشهد الصحفي على جر الأقدام، وتجريد الأقلام، وإعادة المناكفات جذعة. على أن تلك الزوبعة المفتعلة رهينة الأجواء الباردة، فكل المتداول حديث معاد، واجترار ممل، لا يقبل به إلا المقوون، الذين يبهرهم كل شيء، أو المصابون بعمى التعصب للأناسي أو القضايا. وكيف لا يبلغ التعصب بصاحبه حد العمى؟ وطائفة من المتعصبين للمذاهب الفقهية يقولون برأي شيخهم، وإذا واجههم خصومهم بنص قطعي الدلالة والثبوت، تمحلوا القول بالضعف أو النسخ أو الخصوص أو دخلوا في متاهات التأويل. ومن أراد ترويض نفسه على استفحال الاختلاف، فليقرأ كتب الفقه المقارن في المسائل لا في الأصول، أو ليقرأ كتب الخلاف في المذهب الواحد، مثل كتاب (الإنصاف...) ، ومن يتهيب الخوض في لجج المعارف الإنسانية يظل قعيداً كما الطاعم الكاسي، وما كان لنا النهي عن استشراف المستقبل والتنقيب عن المنجز الإنساني، وإنما النهي عن الجدل العقيم والاجترار الممل لقضايا لم يبق فيها مجال للحديث. والراصدون لفيوض القول، لا يحتاجون إلى مزيد من الإضافات، فالحداثة أخذت نصيبها، ولم يبق فيها مجال لمتحدث. وإذا كنت أعتب على بعض المؤسسات الثقافية نزوعها إلى التحريش، ورغبتها في نبش الماضي القريب فإنني أود استدعاء قضايا وظواهر لم تأخذ حقها من البحث، وهي من الأهمية بحيث تستأهل الاستدعاء. وعند تداول الآراء حول ما يجد من قضايا يجب تفادي الصدام ومحاولة التمكين للحوار المتكافئ، الحوار المعرفي الذي يتجاوز الأناسي إلى القضايا، ويهدف نشدان الحق، والزهادة بالانتصار الوقتي الزائف. والمؤسف أن جهدنا المهدور نراه أشلاء مبعثرة تحت أقدام القضايا والظواهر التي ليس لنا فيها ناقة ولا جمل، والمتابع لحراكنا الثقافي، لا يراه إلا حيث يكون زامر الآخر، أما زامر الحي فإنه لا يطرب. ويوم أن كانت الحداثة على أشدها، كانت لي صولات وجولات حادة النبرة معها ومع الحداثيين: الواعين لمفهومها، والمخدوعين ببريقها، تناولت مجالاتها: التنظيرية والإبداعية، وكنت قد بادرت إلى إلقاء محاضرة في (نادي الرياض الأدبي) قبل عقد ونيف، وتولت طباعتها فيما بعد (دار المسلم) تحت عنوان (الحداثة بين التعمير والتدمير) ، وكنت أعِدُ نفسي وأمنّيها برصد تجربتي النقدية في كتاب اخترت له اسم (أَكْتبُ ما حدث لأنه حدث) ولكن تقدم السن، وتتابع المسؤوليات والمهمات حال دون إنجاز الكتاب على الرغم من توفر المادة، ولست أشك أن في كل تأخيرة خيرة، فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى تنقية الأجواء من الشوائب، والاشتغال في القواسم المشتركة، وما فات فات، ولنا الساعة التي نحن فيها. وتلك المراجعة لا تعني النكول عن الحق، ولا إعطاء الدنية في الثوابت. فالحداثة التي جالدناها وجاهدنا أصحابها، ما زلنا على رأينا فيها وموقفنا من ذويها، غير أن هناك سوء فهم والتباساً في المفاهيم، أديا إلى أخذ المقيم بالظاعن، مع إصرار وعناد من كل الأطراف صعَّدا الجدل، وحولاه إلى تلاسن شخصي. وإذا كان مثل ذلك قد حصل فإن وزره على الذين تجاوزا القضايا إلى الأشخاص، فأطلقوا الأحكام، وعمموا الاتهام، وأوغلوا في السخرية، وأمعنوا في التهميش، وانشغلوا بالاستهزاء والإقصاء. حتى لقد عف المقتدرون، وغلبوا جانب السلامة، ولاذ بعضهم بالصمت. وما دام أن سامر الحداثة المحلية على الأقل قد انفض، وأن أنصارها ومريدوها تفرقوا أيدي سبأ، فإن من الفضول أن نعيدها جذعة، ونكرر الأخطاء والتجاوزات التي كانت سبباً في ضياع القضية. ومهما علت الأصوات حول مفهوم الحداثة ومشروعيتها فإنها ستظل مصطلحاً غربي الولادة والنشأة والهم والهدف، يتداوله الدارسون والمنظرون والمبدعون وفق متطلباته ومقتضياته، وهي مخالفة لمتطلبات الحضارة العربية والإسلامية ومقتضياتها على حد سواء. وليس باستطاعة المعول على الآخر أن يتخلص من شوائب المصطلح، ولا أن يفرغه من محتواه. وحتى لو استطاع ذلك أو بعضه فإنه يظل منجذباً إلى أصوله ومقتضياته. والذين استقبلوا المصطلح يختلفون في مواقفهم ومفاهيمهم ورغباتهم. فطائفة منهم صاروا إليه نكاية بالحضارة الإسلامية، ومعاذ الله أن يكون من أبناء بلادي من يضمر ذلك، فهم أبناء الفطرة والسيرة، وعهدنا بهم أنهم رجّاعون إلى الحق، وآخرون منهم تساوت عندهم الأنوار والظلم، وقليل من المتعالقين يعيشون تحت وطأة التبعية والشعور بالنقص. والحضارة الإسلامية قادرة على تبني نظريات ومصطلحات، تستجيب للحاجة، وتسد الخلال، وتشق بها الطريق إلى التفاعل الإيجابي في مشاهد الحضارة الإنسانية. وليس في الحضارة الإسلامية من الضوابط ما يعوقها عن اللحاق بالحضارة الغربية ومنافستها. ولملمة لشتات القول أستعيد ما قلت من قبل،: إن لكل متواصل مع الحداثة حداثته الخاصة التي تنجيه أو ترديه، وعلى المنصف ألا يعمم الأحكام، ولا أن يوحد المواقف، وإذا كانت هناك حداثة فكر وفن وقيم معنوية فإن هناك حداثة حسية في الأزياء والمساكن وسائر التصاميم والصناعات. ولسنا معنيين إلا بحداثة (العهر والكفر) فهي وحدها التي نجالد ونجاهد، واستبراء للعرض والدين لا نتهم أحداً بعينه، وإذا رأبنا أمره قدمنا حسن الظن، وعلى الحائمين حول الحمى كف الغيبة عن أنفسهم. ولما كانت مشاهدنا العربية قابلة للتبعية، محبة لإشاعة الجدل فإنها لم تتح فرصة التفكير في المبادرات بالقدر المتكافئ مع الإمكانيات، ولم تفكر طائفة من النخب المدانة في طرح البدائل ومحاولة التعريب والترجمة وامتصاص نسخ الحضارات. واختلاف التصورات والرؤى حول مفهوم الحداثة أضل كثيراً من الناس، وعمق الخلاف فيما بينهم. فالبعض يرى أنها تعني (التجديد) ليس غير! ومن ثم لم يكن منه تحفظ ولا تمنع ولا استثناء ينجيه من سلق الألسنة. والبعض الآخر يرى أن شرط الحضور الفاعل لا يكون إلا في اتباع سنن الغرب حذو القذة بالقذة، يفعل ذلك للنجاة من التخلف، أو لإرضاء الآخر، وكسب وده، وما علم أولئك أن النجاة بالاستقامة على المحجة، واستشعار أن الآخر لن يرضي إلا باتباع ملته. ومعضلات المشاهد كافة في تشابه المصطلحات على الناهضين بمهمة العصرنة وفي تعدد خيارات الخلوص من الهوان. وإذا كانت الأمة العربية تعيش حالة من الضعف والتخلف، وحاجتها ماسة لإصلاح أوضاعها كافة فإن نخبها لم يتفقوا على صيغة موحدة لأسلوب الحل وسنِّ طريق محدد للخلاص، وهم من قبل ومن بعد لم يتفقوا على أسباب التخلف، ومتى تشابهت عليهم الأسباب تعددت الحلول. وهذا الاختلاف المضاعف من شأنه أن يعمق التخلف، وأن يرسى قواعده، وأن يجعل الأمر غمة. لقد حاولت بعض المؤسسات إعادة الجدل حول (الحداثة) بعد أن فقدت ألقها، وكان بود الإعلاميين أن يعيد الأطرافُ المتحاورون خطاب التشنج والتنابز، غير أن الطرفين أدركا اللعبة الإعلامية، فاتخذا طريق الموضوعية، وإن تمسك كل واحد بما يرى من قبل وفي سبيل الرغبة في الصخب وطحن القرون تلقف المحررون الصحفيون أطرافاً من الجدل الذي تفاوتت نبراته، فوصف البعض اللقاء بأنه اجترار للخلاف القديم، وحجَّر البعض السعة حتى نفى أن تكون لدينا حداثةٌ خاصة، متصوراً أن الحداثة لا تكون حتى تصطبغ بالإقليمية، وحتى تكون منتجاً محلياً، فيما ذهب آخرون إلى أن الحداثة ليست قضية، ولكنها إشكالية تتسع لعدة قضايا، ولقد طغت إشكالية المرجعية والمفهوم في الجدل المفتعل، وما أود قوله أن المتحفظين على الحداثة يهمهم بالدرجة الأولى أن يُهْدى المبدعون إلى الطيب من القول، وإلى الأصيل من الفن، وإلى الفصيح من اللغة، ولست أتوقع معارضة على ذلك. وكل الذين تحدثوا أو استُفْتُوا في الحداثة، أطلقوا العنان لأنفسهم في غياب المفهوم، وغبش الرؤية. فالذي يقول: كلنا حداثيون، ولا يستثني، يتصور الحداثة مجرد التجديد، والذي يرى الحداثة إشكالية، وليست قضية، يعتمد استمرارية التغيير. فالحياة عنده بكل ما هي عليه كالنهر المتدفق، بحيث لا يكون هناك ثبات ولا توقف، وكل شيء عنده قابل للتحول المستمر، ومتى تلبثت الحداثة ولو للحظة واحدة فإنها تناقض نفسها، وأخطر ما تواجهه الأمة عدم التمييز بين الثابت والمتحول، وبين ما هو فكري، وما هو عقدي. وحين تتعدد المفاهيم بتعدد المتحدثين يظل المتلقي في أمر مريج. ومكمن الخلاف في التعويل على مفاهيم متناقضة، ومتى اختلفت المرجعية استحال الوفاق. والحديث عن الحداثة في معزل عن المفاهيم والمقاصد والمرجعية والنشأة والنسق الحضاري يعد من الرجم بالغيب. وإشكالية المشهد أن السواد الأعظم يجهلون أصول ما يتحدثون عنه، وبضاعتهم ما تناثر من أقوال غير مؤصلة، ومثل هؤلاء ك (السماسرة) الذين يرقبون الجالب على مشارف الطريق، ومهمتهم اجترار ما يفد، وعقدة العُقد أن كلمة (حداثة) كلمة حمالة، فإن ردت إلى جذرها اللغوي، وسعت أشياء كثيرة، وكان المتحدثون والمتتبعون لها في حل وسعة، فهي تدور مع جذرها حيث دار. وإن ردت إلى مصطلحها ومصدرها الفني والدلالي فالناس فيها أوزاع، ذلك أنها أشأم من وافد البراجم. فالغربيون لهم رؤيتهم التي لا يمدها دين، ولا يعصمها خلق، ولا تحكمها عادة، ولا يبرهن عنها شرط فني. والشرقيون الذين تلقوها تتنازعهم مفاهيم الجذر اللغوي والمقتضى المصطلحي، والذين تهافتوا عليها، أحسوا أنهم غير قادرين على التمكن من الجمع والمنع. فالمصطلحات لا تكون كذلك، حتى تكون جامعة مانعة. وحين أسقط في أيديهم راحوا يغيرون الصيغ فيقولون (الحداثة) و (الحداثوية) بحيث جعلوا الحداثة: تجديداً في الفن واللغة، لا يتجاوز الآخذون بها حدود التجديد، وجعلوا (الحداثوية) انقطاعاً ورفضاً وهدماً. وهم قد استعاروا هذه الصيغ للصحوة الإسلامية، فقالوا: (إسلامي) و (إسلاموي) واستعاروها للقومية والوحدة العربية فقالوا: (عربي) و (عروبي) وفوضوية المصطلحات ليست لها بداية ولا نهاية، والدخول في معمعتها مضيعة للجهد والوقت. والمؤسف أن إعادة الجدل حول الحداثة في ظل هذه المفاهيم وتلك المستويات الثقافية سيزيد حدته وتوتره، مع أنها لن تحقق أي جدوى، فالمعنيون أحرقوها، كما قيل عن (النحو العربي) أحْرقه قومه، ومن الخير للبلاد والعباد أن نطوي صفحة الحداثة، وأن نتجه صوب المستجد في المشهد الثقافي، فلم يعد هناك مزيد من الجهد والوقت، ولم تعد أوضاع الأمة قابلة لمزيد من التنابز بالألقاب. |
شوقي ضيف في عمره الثاني
د. حسن بن فهد الهويمل ما من مشتغل بالأدب العربي وفنونه: قديماً وحديثاً إلا ويذكر (شوقي ضيف 1910- 2005م) حاضراً في المشاهد كلها، وفاعلاً في المؤسسات أجمعها، وهو بهذا الحضور المتنوع: تأليفاً وتحقيقاً وتعليماً وعملاً، والممتد طوال سبعين عاماً، قد صنع لنفسه عمراً ثانياً (والذكر للإنسان عمر ثاني). و(ضيف) الذي خلف للمكتبة العربية أكثر من خمسين كتاباً في مختلف المعارف الإنسانية، بمعدل كتاب واحد عن كل سنتين من عمره تقريباً لم يكن متفرغاً للتأليف، ولا للتحقيق، وإنما كان حضوره المؤسساتي يفوق عمله التأليفي. وهو من خلال الإشراف والمناقشة والتحكيم و(المجمع اللغوي) و(الجامعات العربية) التي طاف بها زائراً أو معاراً شكل قاعدة عريضة من الطلبة المنتشرين في آفاق المعمورة. إذ كان حفياً بهم وبدراساتهم ورسائلهم العلمية وبحوثهم للترقية، رعاهم ودعمهم وسهل أمورهم، واستعان بهم كما يشاع في الأوساط الجامعية، وهي استعانة تفاوت القوم حول مشروعيتها، ولا أحسبه معيباً في ذلك، فالطالب بعض أستاذه. وقدر هذا العملاق أن رحيله المتوقع جاء والأمة العربية عندها كل بنات الدهر، وقد تمر وفاته كما لو كانت وفاة رجل غريب الوجه واليد واللسان. وتلك الظروف تذكرنا بوفاة (طه حسين) أثناء حرب رمضان عام 1973م. وإن كان ثمة أدباء وكتاب قد أبّنوه أو تفجعوا عليه فإنهم لم يقولوا، ولن يقولوا إلا ما خف حمله ورخص ثمنه، يذكرون أطرافاً من محاسنه وجانباً من إسهاماته. وكان بودنا لو أن المقربين منه والمقتدرين منهم فرغوا لأعماله يدرسونها، ويقوّمون ما اعوج منها، ويشيدون بإسهاماتها في سد الحاجة. والمتابع الحصيف للمشاهد المعرفية كافة، يستبين بيسر على حجم إسهاماته ودورها في إثراء كافة الأوساط الثقافية والأدبية والأكاديمية. وخير أعماله موسوعته في تاريخ الأدب. وما من علم من أعلام الأدب الحديث كتب في (تاريخ الأدب العربي) إلا قصرت خطاه دون ما كتبه (ضيف). فمن الأعلام من كتب عن سائر العصور، وفق المنهج التاريخي التسجيلي، لا يحيد عنه قيد أنملة. فعل ذلك (الرافعي) و(الزيات) و(زيدان) و(الإسكندري) بالاشتراك. و(الهاشمي) و(فروخ) و(أبو الخشب) و(ناصيف) و(الفاخوري)، وقارب هذا المنهج من المستشرقين ولكن بطرائق متفاوتة (بلاشير) و (كارلو نالينو) و(بروكلمان) وإن كان له منهجه الفهرسي. ومنهم من كتب عن إقليم أو فترة أو عصر من العصور، فعل ذلك (البهبيتي) و(البركاتي) و(سلام) و(أبو رزاق) و(المهدي) و(الهادي). وكل أولئك لم يسدوا المجال الذي سده (ضيف) في كتابه الجامع المانع (تاريخ الأدب العربي) الذي غطى فيه العصور الأدبية من الجاهلية حتى عصر الدول والإمارات (ليبيا، تونس، صقلية). وهو المجلد التاسع من تاريخه الذي وقف فيه على أعتاب العصر الحديث، حيث قال في مستهله: (هذا الجزء من تاريخ الأدب العربي قبل العصر الحديث). ولست أعرف ما إذا كان قد أنجز تاريخ العصر الحديث أم أن الشيخوخة أدركته قبل ذلك، ولقد قيل إنه أصدر المجلد العاشر، ولم أره، فإن كان لم ينجز تاريخ تلك الفترة الأهم، فإن واجب طلبته أن يسدوا ذلك النقص الذي قد يحتاج إلى أربعة أجزاء، ليكون تاريخه شاملاً للأدب العربي. والتاريخ الحضاري لهذه الأمة المعطاء حفل بطلاب نجباء تلقوا الراية من أساتذتهم باليمين، ليواصلوا المسيرة. فهذا (السبكي) يكمل (مجموع النووي) بعد أن توفي قبل إكماله، وهذا (عطية محمد سالم) يكمل (البيان في تفسير القرآن الكريم بالقرآن) للشنقيطي، وآخرون أكملوا كتاب (الأعلام) للزركلي. والاستدراك أو التكميل منهج العلماء الأوائل، وبه تسد الحضارة خلالها. وتاريخ الأدب الموسوعي الذي أنجزه يفوق من سبقه ومن لحق به في أمور كثيرة، إذ لم يكن راصداً كما هو عند أصحاب (المنهج التاريخي)، ولم يكن بعيداً عن هذا المنهج، لقد كان واعياً لمكامن العصور الأدبية، متقصياً لحراكها العلمي والفكري والفلسفي ولظواهرها وتحولاتها واهتمامات علمائها، فهو لا يؤرخ للأدب وحسب، ولكنه يؤرخ للثقافة والفكر والحضارة والمدنية وسائر العلوم الإنسانية. وهو في تاريخه لا يعمد إلى الرصد والوصف، ولكنه يحلل ويقوم، ويستخلص النتائج، ومن ثم فإنه يسد كل الخلال، ولا يسد غيره مسده. وميزة (ضيف) أن كتبه لما تزل حاضرة المشهد الأدبي، يسترفدها كل دارس ومدرس. وما فتئت ألم بها، إما مدرساً أبسط القول فيها، أو دارساً أرجع إليها مسترفدا أو مستشهداً، وما عدت إليه إلا وأحسست أنني أمام عالم مهيمن على فنه، وما أحلت إليه دارساً إلا وجد عنده ما يشفى غلته، فمنهجيته تتسم بالتأصيل والتقصي. ومهما أوتي من علم فسيظل عرضة للنقص أو الخطأ، وكل ما أنجزه هو أو غيره بحاجة إلى من يعيد النظر فيه، لا للإدانة ولكن للتسديد. إذ مازال في نفسي شيء من بعض آرائه، وهي هنات متوقعة من أي عالم مثله، أدركت ذلك حين أسند لي قبل عقد ونيف من الزمن تدريس العصر العباسي لطلاب (كلية اللغة العربية) بفرع جامعة الإمام في القصيم. ففي حديثه عن بعض الظواهر الفكرية التي كان لها أثرها على الأدب العربي عرض لآراء المستشرقين حول ظاهرة (التصوف)، وهم إذ نفوا أن يكون التصوف إسلامياً، فقد جالدهم وجاهدهم، وأصر على أنه إسلامي الأصل والمنشأ والولادة، وما هو كذلك فيما أرى، ولكنه الفعل ورد الفعل. ولقد حاولت يومها أن أكتب إليه ليعيد النظر في المسألة على ضوء المرجعيات العلمية، ولكن الأيام مرت سراعاً، وأذكر أنني تحفظت على ما ذهب إليه، وأحلت الطلبة إلى مراجع تنفي أن يكون التصوف إسلامي المنشأ. والتصوف الذي أعني تصوف الفكر والمعتقد والخرافة والدروشة، وليس تصوف الورع والزهد والقناعة. ويوم أن علمت بوفاته، أعدت قراءة التعليقات التي كنت أمليتها على الطلبة، ليكتبوها على هوامش التاريخ. فلقد قال رحمه الله بالنص:(وإذن فالتصوف إسلامي في جوهره وفي نشأته ونموه وتطوره، وهو الرأي العلمي الصحيح). وجاء تهميشي على رأيه:(لابد من التحفظ على هذا الرأي، ولابد أن تستعرض سائر الأقوال بالتفصيل ويرد عليه). و(ضيف) بقوله المحتدم يرد على طائفة من المستشرقين، منهم (نيكلسون) في مبحثه عن (الحلاج) في كتابه (في التصوف الإسلامي)، وعلى (جولد تسيهر) في كتابه (العقيدة والشريعة). وهو قد نقم من (فون كريمر) الذي يذهب إلى أن التصوف يعود في أصوله إلى (المسيحية) و(البوذية) ويعول في هذه الإحالة على عقيدة (الحلاج) القائمة على (وحدة الوجود). وكنت أقول للطلبة: (صدق المستشرقون وإن كذبوا) فالتصوف الفكري لم يكن إسلامياً، والفلسفة الوضعية لم تكن إسلامية، وعلم الكلام نشأ بسبب الجدل بين علماء السلف والفلاسفة حول قضايا الغيب والخلق والذات الإلهية والنفس وبخاصة الذين تأثروا بالفلسفات الوافدة عبر الترجمة أو الدخول في الإسلام أفواجاً. فهذا (ابن تيمية) يرد على الفلاسفة والمناطقة والمتصوفة، ويستوعب مناهجهم ومذاهبهم، وما هو منهم، وليسوا منه. فوجود الظاهرة لا يعني انتماءها. وحين تشيع الأفكار والمناهج والمذاهب فإن ذلك لا يمس الحضارة المستقبلة لها، فكل الحضارات تتوارث وتتكامل، وما بعث الرسول إلا ليتمم مكارم الأخلاق، ومن ثم فليس هناك نص بريء ولا حضارة بريئة. وفلاسفة الإسلام ك(ابن سينا) و(الفارابي) و(الرازي) و(ابن رشد) لا يسأل الإسلام عما بدر منهم، لأنهم لا يلتزمون مراده في كثير مما يذهبون إليه. و(ضيف) حين يخطئ في مرجعية التصوف وأصوله يقع في الخطأ مرة ثانية في كتابه (الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية) وذلك حين يعول على آثار الأدباء عن الترف والغناء في الحجاز. ولقد تصدى له أكثر من دارس، لعل من افضلهم زميلنا الأستاذ الدكتور (عبدالله بن سالم بن خلف) في رسالته للدكتوراه (مجتمع الحجاز في العصر الأموي بين الآثار الأدبية والمصادر التاريخية)، وأذكر أن (نادي القصيم الأدبي) استضاف الدكتور الخلف لعرض وجهة نظره حول ما ذهب إليه (شوقي ضيف)، ولقد ألقى محاضرته (وقفات مع آراء د. شوقي ضيف في مجتمع الحجاز في العصر الأموي) مساء يوم الأحد 9-7- 1418هـ، فكان ذلك مؤذنا بحرب كلامية مع بعض إخواننا المصريين، تجاوزت المنصة إلى الصحف، وبخاصة مداخلة زميلنا طيب الذكر الأستاذ الدكتور (أحمد يوسف)، وأحسب أن الأمر تجاوز الحوار المعرفي إلى المناكفات الإقليمية. وظاهرة الغزل والترف والجواري والغلمان ومجالس الشراب المتداولة في الموسوعات لا يمكن تعميمها على مجمع يزخر بالعلماء والزهاد. وخطأ (ضيف) في تعويله الكلي على كتاب (الأغاني) لإثبات ما ذهب إليه في موضوع (الغناء) و(المرأة) و(الغزل) و(الترف) و(التعميم) الذي قيل: إن الأمويين أغدقوه على الحجازيين لشغلهم عن منازعتهم السلطة. ولا أحسبه في جمعه العشوائي قد محص وصحح وراجع، ومن ثم وقع في الخطأ الذي استدركه عليه أكثر من دارس، ولإيمانه بما ذهب إليه فقد أكده في كتابيه (العصر الإسلامي) و(التطور والتجديد في الشعر الأموي). و(ضيف) متعصب لمصريته إلى حد كبير، وهو تعصب مقبول ومستلطف، تجلى ذلك في كتبه: (البارودي رائد الشعر الحديث) و(شوقي شاعر العصر الحديث) و (دراسات في الشعر العربي المعاصر) و(الأدب العربي المعاصر في مصر) و(مع العقاد). واستقطابه حول الذات المصرية شأن كثير ممن كتبوا عن الأدب المصري من المصريين، وتلك سجية بلغت دركاتها في الدعوة إلى (الفرعونية) حيث تحولت تلك الدعوة إلى حزب سياسي، يود عزل مصر عن العالمين الإسلامي والعربي، وليست تلك أولى الدعوات الهدامة التي تنسل من مصر على يد أبنائها العققة، ويتصدى لها أبناء مصر البررة. ومصر قطب العالم العربي، لا يغمطها حقها إلا عقوق جاحد. وهذه القطبية لا تخول إنكار الآخر في سبيل تكريس الذات. هذا الاستقطاب آذى المغاربة، وحفز الطرفين على المجادلة غير الحسنة وأفرز مناكفات وسعتها كتب متدوالة. و(ضيف) الذي مرت أعماله بهدوء، له منهجيته التاريخية والموضوعية، وله وسطيته في النفي والإثبات، على الرغم من تتلمذه على يد (طه حسين) المتفرنس إلى حد الإيذاء، والمستفز إلى حد اللجاجة. وحياته الحافلة بجلائل الأعمال تجاوزت إسهاماته المجال التأليفي إلى التحقيق، الذي بدأه ب(الرد على النحاة) ل(ابن مضاء القرطبي)، وهو كتاب قيم غفل عنه المهتمون بالنحو المقارن، ففيه تتضح رؤية المشارقة والمغاربة ومشاربهم الفكرية. ويتجلى جدلهم حول (العامل) و(العلة) و(القياس) و(التحليل) و(المصطلح) وجاء بسط ذلك في كتابه (المدارس النحوية). وله اهتمامات خاصة بالنحو والنحاة، ولقد راعته إخفاقات المناهج النحوية وضعف الدارسين ومن ثم أنجز عملين (تجديد النحو) و(تيسير النحو التعليمي قديماً وحديثاً مع منهج تجديده). ومؤلفاته تنم عن رصده للحركة العلمية والثقافية، فهو لا يتزيد في التأليف، وإنما يسد خلالاً تستدعيها اللحظات المعرفية. فكلما استضافته جامعة عربية، نظر فيما ينقص الأستاذ الجامعي، ثم نهض لاستكماله، فعل ذلك عندما استضافته جامعات (الأردن) و(الكويت) و(السعودية). والمتابع لمؤلفاته يجد أن أوائلها يفوق أواخرها، من حيث المنهجية والموضوعية والعمق والدقة والشمول، ذلك أن المسؤوليات في آخر حياته شغلته عن المراجعة. فلو نظرنا إلى كتابه (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) الذي طبع قبل نصف قرن، وهو رسالته للدكتوراه، لوجدناه يفوق في عمقه ودقته وشموله وترابطه ومنهجه ما لحق به من كتب، ولا يقل عنه كتابه (الفن ومذاهبه في النثر العربي). ويتنازع جهوده في التأليف خمسة حقول: الدراسات الأدبية، والنحوية والبلاغية، والإسلامية، وتحقيق التراث. فله في (الدراسات الأدبية) زهاء عشرة كتب، منها (تاريخ الأدب العربي) الذي أصدر المجلد التاسع منه قبل اثنتي عشرة سنة. وله في مجال الدراسات (البلاغية) و(النقدية) أكثر من عشرة كتب ركز فيها على الفنون ك(المقامة) و(الرثاء) و(ترجمة الشخصيات) و(الرحلات). وله في مجال الدراسات النحوية زهاء أربعة كتب. أما في التحقيق فقد حقق سبع مخطوطات آخرها (السبعة في القراءات). ولأن لداته من أمثال (العقاد) و(زكي نجيب محمود) و(أحمد أمين) و(طه حسين) و(بنت الشاطئ) قد كتبوا سيرهم الذاتية فقد كتب هو الآخر سيرته الذاتية في جزأين تحت عنوان (معي)، صدر الجزء الأول في سلسلة أقرأ عام 1981م، وصدر الجزء الثاني عن دار المعارف عام 1989م، ولعله حين كتب (مع العقاد) في جزأين، وحين كتبت زوجة (طه حسين) (معك) اختار عنواناً لسيرته (معي)، وقد اعتمد على المنهج التقريري الوصفي، ومن ثم لم تدخل السيرة عنده حقل الإبداع السردي، كما هي عند (طه حسين) في (الأيام) ولما كانت من صفاته الوداعة والهدوء، فقد جاءت سيرته بعيدة عن المزايدات والمناكفات، كما هي عند (عبدالرحمن بدوي). وضيف الذي طاف أرجاء الوطن العربي أستاذاً زائراً في جامعاته ترك آثاراً باقية: إما تأليفاً أو دراسة أو طلاباً يذكرونه ويشكرونه. ولقد توجت جهوده بأنه اختير رئيساً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي دخله عضوا عام 1976م، وهو قد حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1979م، ومنح جائزة الملك فيصل العالمية للآداب عام 1983م، وفي عام 1990م كرمه تلاميذه بإصدار كتاب يحمل اسم (شوقي ضيف سيرة وتحية)، أشرف على إعداده صديقنا الأستاذ الدكتور (طه وادي). والكتاب يقع في قسمين: قسم الدراسات عن شوقي، وقسم الدراسات المهداة إليه. ولقد تناول الدارسون في القسم الأول منهج شوقي في الدراسات الأدبية والنحوية والبلاغية ورؤيته الشمولية وجهوده اللغوية، وأسهم في الكتابة طائفة من طلابه الذين يقودون الحركة الأدبية في الوطن العربي أمثال (يوسف نوفل) و (ماهر فهمي) و (محمود حجازي) و(مازن المبارك) و(النعمان القاضي) وآخرون، ويقع الكتاب في أربعمائة صفحة، طبعته دار المعارف في مصر. ومن قبل هذا كتب الدكتور (عبدالعزيز الدسوقي) سلسلة مقالات عن (ضيف) في مجلة الثقافة، ثم صدرت مجموعة في سلسلة (اقرأ) عام 1987م وطابع المجاملة فيها هو الغالب، حيث عده رائد النقد والدراسة الأدبية، وما هو كذلك. و(شوقي ضيف) برحيله المتوقع، سيترك فراغاً، وسيثير قضايا، سكت عنها طلابه ولداته يوم أن كان حاضر المشاهد، ورجل مثل شوقي ضيف سيكون كما الشهيد المصلوب الذي قال فيه الشاعر: (علوٌ في الحياة وفي الممات... لحقٌ أنت إحدى المعجزات). |
إخفاقات السرد بين تجريب القص وغياب النقد 1-3
د. حسن الهويمل (السرد) مصطلح بإزاء (الشعر) وبإزاء (الحوار) . و (السردية) نمط إبداعي يميزه شرطه وشكله ولغته وتقنية معماره. ولا تكون السرديات مجرد الكتابة الحاكية لحدث ما. إن هناك أركاناً تداولها النقاد ك (الحكاية) و (الحبكة) و (الشخصية) و (اللغة) و (التكنيك الفني) أو ما يسمى ب (الشكل) أو (البناء) و (الزمان) و (المكان) . وأي قول لا يحتكم ذووه عند الاختلاف إلى مرجعية، لا يكون فناً، وليس شرط المرجعية أن تكون مكتوبة، فكم من معهود ذهني يفعل فعل الشرط المكتوب، والتماس المرجعيات أو الإحالة إليها، لا يعني الحدَّ من التحرف الراشد للتجديد. ومن المثبطات أن محاولة الأخذ بحجز المتهافتين على التجريب، الرافضين لكل سلطان مغامرة محفوفة بالمخاطر. ومواجهة الروائيين والقصاص المخفقين بما هم عليه مؤذن بمناكفات مُسِفَّة على حد: (ما تركِ قولُ الحقِّ لي صديقاً) . لقد كانت لي تجاربي غير السارة، فعندما تحدثت عن تاريخ السرديات المحلية فضَّلت ألا أكون حيادياً، يصف الواقع كما هو، بل غامرت في التقويم، وتحفظت على الاندفاع غير المحسوب وغير المتزن في التجريب، وأبنت نصحي لكل المغامرين الذين نكّبوا عن ذكر العواقب جانباً. هذه الرغبة المنطقية في الانْحياز الفني واللغوي والدلالي أثارت طائفة من السرديين والنقاد، بحيث حكموا بضعف إمكانياتي وبدائية تجربتي في النقد السردي، حتى قال قائلهم: (إن اشتغالي بالسرديات فضيحة نقدية) . ولما أحسست أن طائفة من ذوي الشأن لم يستبينوا النصح، ولم يقارعوا الحجة بمثلها، لم أعاقب بمثل ما عوقبت به، ولم أصبر، ولم أكن في ضيق مما يقولون، وإنما مارست الدراسة التطبيقية للنقد البنيوي للرواية، وتعمدت نشرها تباعاً، حتى نيفت على ثلاثين حلقة. ولست أدري عما إذا كان المعترضون يصرون على حنثهم، أم أنهم لاذوا بالصمت، فما عاد يعنيني قولٌ لا يهدي إليّ عيوبي. والقارئ المتابع لكل مستجد، يكشف كل يوم عن جهل جديد بما يكتسبه من معارف لم يكن يعلمها من قبل. وكل معلومة يضيفها إلى رصيده المعرفي تعدل أو تلغي أو تضيف إلى ما قد قاله من قبل. ومن تصور أن قوله السالف قول فصل، وأنه لا معقب لرؤيته، فقد جمع بين الجهل والحمق، بل ربما زاد جهله، فصار كمن يجهل أنه يجهل. وهذا ما عرف بالجهل المركب، وما أكثر الذين يقترفون ذلك، ولا يدركون أنهم كذلك. لقد جئنا متأخرين إلى المشهد السردي، وكان مجيئاً متواضعاً يقعد به ضعف الرواد وهيمنة الشعر. فمحاولات (عبد القدوس الأنصاري) و (أحمد السباعي) و (محمد المغربي) لم تتوفر على أصول الفن، ولم يكن المشهد حفياً بالسرديات، كما لم يكن التأسيس من بعد على يد (حامد دمنهوري) مسنوداً بالقبول ولا بالنقد المعرفي المتمكن. ولما جاءت مرحلة الانطلاق، وكثر الموهوبون والمقتدرون والأدعياء واستخفهم نقد مساير أو مجامل، كانت المشاهد كلها تتخبط في لجج التجريب والحداثة وطوفان المستجدات والمترجمات. ومما زاد الأمر تعقيداً الإلحاح على حرية التعبير والتفكير، والتوسل بالواقعيات اللغوية والسلوكية، وطغيان أدب الاعتراف. ولما تزل حركة النقد السردي متواضعة وغير مطمئنة. فهي إما: انطباعية أو متشايلة أو مدارية. ولما يكن لدينا نقد روائي مضارع للنقد الشعري، ولا نقد روائي معرفي معياري، كما هو في بعض أنحاء الوطن العربي. والعائدون من البعثات، لم يكن رهانهم على السرديات، وإنما استزلهم سلطان الشعر، وألهاهم التنظير، واستهلكهم العمل الأكاديمي، فكان أن خلا الجو (لقبّرات) باضت وصفرت. ولأني خبير - كبني لهب - بمشهدنا الأدبي وإيقاعاته المتسارعة، فقد تجرعت مرارة المزايدات، وإصرار البعض على جودة ما يفيض به على مشهده، واستكباره على الناصحين، ورفضه لكلمة الحق. وعلاقتي بالسرديات لم تكن حديثة عهد، كما يحلو للبعض إشاعته، للتقليل من رؤيتي، وإن كان تخصصي في الشعر المعاصر، وسلطانه قد بطأ بالحضور السردي: إبداعاً ونقداً، وفوت على المبدعين السرديين مثولهم أمام مرايا النقد بكل تشكلاتها: المسطحة والمقعرة والمحدبة والمتجاورة. لقد كانت متابعتي للإبداع السردي وتحولاته الفنية واللغوية والدلالية: محلياً وعربياً سبباً رئيساً للإلحاح في التساؤل المشروع. والمبدعون المبتدئون لا يروق لهم أن يُسألوا عما يفعلون، فهم يريدون الحرية المطلقة والشاملة: الحرية المطلقة من سلطة الدين والسياسة والمجتمع. والحرية الشاملة للأبعاد الفنية واللغوية والدلالية. أو على الأقل الأخذ بنهم، والمطالبة بإلحاح. وليس من مصلحة المشاهد أن تكون بهذه الفوضوية لا سراة لها، ولا سراة إذا جهالها سادوا. وكم هو الفرق بين السلطة والتسلط، والحرية والفوضوية، والتجريب والتخريب. ومن قلّب لمشهده الأمور فقد أراهم ما يرى من زائف القول. وهذا التفلت ضرب الفن السردي في الصميم، وأثار جدلاً (أيديولوجياً) وفنياً وأخلاقياً ولغوياً. وحق (الحرية) ومشروعية (التجريب) عول عليهما من لا يعرفون حدود الحرية وأمداء التجريب، ولحق بهم من لم تكتمل عندهم آليات الفن، ولم تنضج عندهم التجارب، ولم يتوفروا على الأجواء الملائمة، فكانت الإخفاقات الموجعة في ظل نقد غائب أو مداهن. والنقد حين لا يؤدي وظيفته، ولا يتوفر الناقد على ثقافة بمقتضياته المعرفية وبحسه الذوقي تكون الفوضى والتخريب، وهو ما لا يوده الحريصون على التوازن. والفوضى باسم الحرية، والتخريب باسم التجريب أبرز سمات الإخفاقات السردية: محلياً وعربياً، وهي التي شغلت المشهد، ولم يصل المتصارعون على حلبته إلى حل وسط، يفك الاشتباك، ويكفل الحرية المنضبطة والتجريب المشروع. وفي خضم الصراع الذي لا تحكمه شرعة ولا منهاج، تحولت الظاهرة السردية إلى إشكالية مأزومة، أحس معها المؤصلون والمحررون لمسائلهم بالحرج. فالناقد المعرفي المعياري الأخلاقي لا يمكن أن يقيم وزناً للانفلات الفني واللغوي، ولا أن يسلم لفلتات العهر والكفر تحت أي اسم. وقدره الموجع أنه متى وجد نفسه ملزمةً بالتصدي لظواهر العبث والمجون والانحراف الفكري والسقوط الأخلاقي فإنه سيواجه بألسنة حداد، تتنادى بأنديتها، ثم لا تكون لديه زبانية تحميه من سلقها. وإشكالية الصراع الفكري والفني والأخلاقي تنتاب المشاهد العربية كافة، وتكاد تصدع الوحدة الفكرية. ولو عاد الأطراف المتشاكسون إلى كلمة سواء، لاقتربت الأزمة من الحل، فما استعصى على قوم منال إذا حكمتهم المرجعية، ونشدوا الحق. لقد تمرد روائيون على الثوابت، وكان أن لجت المشاهد وكان العتو وكان النفور، ورمّت الجروح على فساد، فما يدري ذوو الشأن متى تعود إلى الانفجار. والإبداع بكل أنواعه القولية والفعلية تحكمه ضوابط وذوائق، وتسهم في تشكله بيئات وحضارات، وهو أشد وثوقاً بالأجناس البشرية، وقد تؤدي خلطة الحضارات إلى التجانس، ولكنها لا تغلي فناً على حساب الفن الآخر، ولا تهمش حضارة أو تزوي أخرى، فالتكافؤ والتكامل والتفاعل حق مشروع لكل الحضارات، وأي هاجس للهيمنة أو الإقصاء مُؤذِن بفساد الفن. وإذا كانت كل وجوه الحياة مضبوطة بسننها وأنظمتها ومعاييرها فإن (الفن القولي) وجه من وجوه الحياة، وهو الأحق بالانضباط. والقول بالنظام واحترام خصوصية كل نوع فني لا يعني الجمود والرتابة والنمطية، وفي الوقت نفسه فإن التكسير والمغايرة المطلقة والذوبان في الآخر والتحلل من كل الضوابط والأعراف والمسلمات لا يعني التجديد. إن هناك تقليداً معيباً، ومحافظة محترمة، وتجديداً مطلوباً، وحداثة محظورة، وتخريباً مرفوضاً. وكل متعالق مع وضع من هذه الأوضاع يرى أنه الأحق والأصح. والمتابع للأعمال السردية والدراسات النقدية تنتابه الحيرة في التعرف على أنواع (الفن القولي) ، حتى لا يدري ما القصة وما الرواية. والشعر الأكثر تميزاً مسه طائف من الفوضوية، فلم يعد متميزاً عن السرد بعد مجيء (قصيدة النثر) وتحولاتها الشكلية واللغوية والدلالية. وهذا الخلط العجيب حمل المتواطئين مع العابثين على إطلاق مصطلح (الكتابة) والاستغناء به عما سواه من أنواع الفن القولي، وكأن إطلاق هذا المصطلح منقذ من تمييع الفوارق بين فنون القول، وحاضر النقد وماضيه يفرق بين الأجناس وأنواعها. والعمل الروائي حين يكون جنساً سردياً له أنواعه، يكون بجملته من نصيب مصطلح (أدبية النص) ، ويكون على المبدع أن يتوفر على مقتضيات (الأدبية) ، مثلما يتوفر الشاعر على متطلبات (الشعرية) ، و (أدبية النص) مصطلح تشعبت فيه الآراء، ولما يستقر النقاد معه على وصف جامع مانع. يقول (توفيق الزيدي) : (إن الأدبيّة مفهوم غامض إلى حد الحيرة مجرد إلى حد الاستعصاء) . ومع الغموض والتجريد فقد تقصاه في كتب التراث ووقف على رؤى متعددة تشكل بمجموعها مفهوماً واضح المعالم. والتراث النقدي يلمح إلى مستويات النص السردي بالانطباعية، وقد يشير إلى ما هو داخل النص أو خارجه من تخييل أو إيقاع. فحين يكون هناك استحسان، يكون هناك مفاضلة، ثم يكون تعليل يتحول إلى شرط أسلوبي. وتحقق (الأدبية) يكون بالضوابط والانضباط، ضوابط اللغة والفن والانضباط الأخلاقي، وإن كانت الفنيات في معزل عن الأخلاق، تمشياً مع التوجيه الرباني {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون} فقد سماهم شعراء مع ثبوت الغواية والكذب. وتعويلاً على النماذج تدرج الأدباء في التأصيل لسائر فنون القول التراثية من الانفعالية إلى المفاضلة، ومنها إلى التأصيل. أما في السرديات المعاصرة فالأمر مختلف جداً، لأن القص وصل إلينا من الغرب ناضجاً، ولم تتح لنا فرصة الانفعال والمفاصلة والتأصيل الذاتي، كما لم نأخذ بما لدينا من أحسن القصص، هذه الصيرورة فوتت علينا لذة المبادرة. وعلى الرغم من أننا كما الطاعم الكاسي، فقد قام الجدل حول هذا اللون الإبداعي المجلوب، ومتى أحس المبدع أن السمة والضابط عائقان للإبداع دخل النقد في تنازلات مخلة بالأهلية. والمشهد النقدي الحديث تنازعته البنيتان: (اللغوية) و (الدلالية) ، ولم تثره (الفنية) بالقدر الكافي. ولقد علت نبرة الجدل حول حرية المبدع ومفهوم الحرية، وألفت كتب كثيرة حول هذا المفهوم المستعصي. وإشكالية الفن كامنة في التنازع حول مهمته بين الانفعالية والتوصيلية. فهل المبدع مصلح أو ممتع، موصل أو مثير؟ وهل من واجبه أن يفهم ضوابط الفن؟ بمعنى أن يكون على دراية تامة بأصول الفن أو لا يكون. الحق أن على المبدع أن يكون موهوباً بالدرجة الأولى، وأن يتوفر على الدراية والدربة، وأن يمر بتجربة ناضجة، وأن تظله أجواء كافية من الحرية. ولأنه جزء من المجتمع فإن عليه أن يحسن التعامل مع سلطاته الثلاث: الدين، والسياسة، والمجتمع. وفردية الفنان التي يلح عليها البعض، لا تعني تخويله الخروج المؤذي على المسلمات، إنه مطالب بالحفاظ على الفن من أن ينزلق في الفوضوية، ومسؤوليته فنية وأخلاقية، ومتى تعرض الفن للانحطاط أو للنمطية فإن الناقد مسؤول عن إقالة عثرته وذلك بصد المتهافتين، وتعليم الجاهلين، وحماية جناب القيم كافة. |
إخفاقات السرد بين تجريب المبدع وغياب النقد « 2 - 3 »
د. حسن بن فهد الهويمل وتفاقم الاختلاف حول المفاهيم السلبية للحرية: حرية التجريب الفني، وحرية التعبير الدلالي، يكاد يكون هو السائد المأزوم في أوساط السرديين، وإن تمخض عن شيء قليل من النفع فإن ضرر الممارسة أكبر، وحين يقوم التشريع على التغليب، فإنه لا مكان لهذه المفاهيم الخاطئة. وعوالم الفن تمنح المبدع حق الرصد لانفعاله، ولكن ليس من حقه أن يرصد أي انفعال، دون النظر إلى طبيعة المجتمع، وليس من حق النقاد أيضاً أن يطرحوا كل شيء للنقاش. وكل مسألة تأويلية فيها نظر؛ ذلك أن أي حضارة لها مقدسها الذي لا يجوز المساس به، ولها طرائق أدائها التي لا يباح العدول عنها، إلا إذا كان فيها عوج أو طول. والفن له حدود وقيود وشروط لا يسوغ تجاهلها. وكل هذه الضوابط لا تمنع من التجريب، ولا من التناغم مع سائر المستجدات، ولا مع استشراف المستقبل. ومشروعية التجريب والتناغم والاستشراف لا تعني الانسلاخ، ولا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وإذا كان الناس لا يصلحون مع الفوضى، فإن الفنّ هو الآخر لا يزدهر في ظل العبث بثوابته ومحقّقاته. وبعض الإطلاقات التراثية عن نكد الشعر، وعن عدم تألقه إلا في ظل الكذب، وعن كونه بمعزل عن الدين إطلاقات رهينة للمقتضى الإسلامي الذي لم يفرط في الكتاب من شيء. والحرية التي يحيل عليها كل مستخف، لا بد أن تكون منضبطة، سواء على مستوى الفكر أو الإبداع أو الممارسة. وليس هناك أي تعارض بين ضوابط الحرية وهواجس التنوير والنهضة والتحيز العلمي. والمجتمع لا يكون مجتمعاً سليماً حتى تسود أعرافه ومسلماته وضوابطه؛ فكل تجمع إنساني لا يقوم إلا على (عقد اجتماعي)، ومخالفة مقتضيات العقد باسم الفن أو باسم الحرية الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية خروج على المعقول. ومشكلة الحرية تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، وبخاصة بعد استفحال (الوجودية) بكل ما تعج به من غثائية وعبثية وتمرد فوضوي أشعل فتيله الإلزام (الماركسي) والهيمنة (الرأسمالية). إنّ هناك (وجودية) إزاء (الماركسية) و(ليبرالية) إزاء (البورجوازية)، وكلما تطرف قوم بآرائهم هيؤوا الأجواء لتطرف مضاد. ومع أن بعض المذاهب خبت نارها، وصارت رماداً بعد سطوع ثاقب، فقد توهم المستغربون أنهم باستعادتها يزيدونها سعيراً. لقد أعطت (الوجودية) الإنسان المتمرد لوجه الشيطان والنفس الأمارة بالسوء مساحة واسعة أفقدته إنسانيته وكرست حيوانيته، ولما يزل مرتبكاً يلح في تساؤله عن حدود الحرية؛ لأنها عشقه ومشكلته في آن؛ ولهذا لم يستطع تعريفها ولا معرفة حدودها. فهل هي انعدام السلطة، أم قمع التسلط؟، وهل هي المساواة، أم هي حرية التصرف؟، وهل هي موضوع نظري أم ممارسة واقعية؟. لقد تحدث (زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الحرية) عن معناها وضروبها ومجالاتها (النفسية، واللاهوتية)، وفرق بين (حرية الإرادة) و(إرادة الحرية) و(الحرية) و(التحرر) وعلاقتها بالوجود الإنساني، ولكنه في النهاية قطع باستحالة حل معضلاتها. ومن بعده تناولها على مستويات متفاوتة، وعبر مجالات مختلفة (سرّي نسيبة) في كتابه (الحرية بين الحد والمطلق)، و(محمد العزب موسى) في (حرية الفكر)، و(رفيق حبيب) في (المقدس والحرية)، و(إيزيا برلين) في (حدود الحرية), و(حسن سليمان) في (حرية الفنان).. وكل أولئك تحدثوا عن حرية الفن والفكر، ولم يتعرضوا بشكل مفصل للحرية الأخلاقية في الإبداع السردي، ولا للحرية السياسية والدينية. والذي يهمنا هنا (حرية المبدع السردي) بوصفها من أهم عوامل الإخفاق. وتناول الحرية بمفهومها الواسع، يمس الجانب الأخلاقي والفني والشكلي واللغوي، وهذه الأبعاد هي مجال المعارك النقدية، وبخاصة بعد استشراء (الحداثة) واضطراب المفاهيم حول مقتضياتها الفكرية والأخلاقية والفنية، وتعالق الأغبياء والمتغابين معها تعويلاً على مدلولها اللغوي. وهذا التخبط حمل طائفة من النقاد على إعادة القول في النقد الأخلاقي: تنظيراً وتطبيقاً، وهو ما زاد حدة الخلاف بين فلول الحداثة ومن خالفهم. لقد كان جديراً بالعمل الروائي بوصفه إبداعاً قولياً أن ينهض بمهمة التثقيف والتطهير والاستشراف والانطلاق في آفاق المعاصرة الواعية، وأن يعرف كم هو الفرق بين تجريب يحقق الأفضل، وعبث يمعن في إضاعة الجهد والمال والوقت، ويمكّن العاجزين والمقتدرين غير الموهوبين والموهوبين المتمردين على ضوابط الفن من تصدر المشاهد بكتابات فيها كل شيء إلا الفن السردي، وإذا تحقق الأفضل عند الموهوبين المجددين فإن طوفان التخريب أضاع لذة التجاوز إلى الأفضل. إنّ دعوى التعصرن هدف الأكثرين اندفاعاً في مهاوي الانسلاخ. والفرق واضح بين مارق من قيمة كما يمرق السهم من الرمية، ومارق بقيمة لتكون حاضر المشهد المعاصر.. وكل خارج على الضوابط في مجال السرديات يدعي أنه الأحق بالنبوغ والأكثر صلة بالتجديد المشروع. والتجديد المعتبر لا يقبل بالتفلت من قيود الفن وضوابط الحرية. وما جناية النقاد المواطئين بأقل من جناية المبدعين المتمردين لوجه العبث المضاعف: عبث في القيم الأخلاقية، وعبث في القيم الفنية. وإذا استقرت في الأذهان أصول الفن السردي، وتوارثها الأجيال بعد الانفتاح المبكر على الغرب، فإن ذلك لا يمنع من الإضافة والتعديل والمزج والابتكار. وحين يتمرد المبدع على المسلمات الفنية، فإن شرط القبول أن يأتي بما هو أحسن؛ ذلك أن التجديد لا يكون دركات، ولكنه يكون صعوداً في سلم الدرجات. والملتقي الواعي لا ينظر إلى الكم المنتج، ولا إلى المخالفة المطلقة، وإنما همه الكيف، وهدفه التحرف للأفضل، وهذا غير معتبر عند طائفة من هواة التجريب لذاته. لقد شُغلت السرديات الحديثة بعدة خطابات، تتفاوت في سلم الأهمية والمشروعية: - الخطاب الواقعي بشقيه: الاجتماعي والماركسي. - الخطاب المادي. - الخطاب السياسي بكل توجهاته. - الخطاب العقلي. - الخطاب (الوجودي) وتنازع الروائيون والقصاص والنقاد هذه الخطابات، فكان الراصد والمؤرخ والناقد والمحلل والمتبني والرافض والمكسر، ودخلت هذه الخطابات في تنازع البقاء، وتبدى التنازع في تكريس المقتضى، بحيث طغت المادية على الروحية، والعقلية على النصوصية، والعبثية على الموضوعية. وكادت تستوي في المشاهد الأنوار والظلم، ومع تحكّم المادة النافية للما ورائي، والعقل النافي للنص، والشهوة النافية للحرمات بالمضمون فقد تحكمت الحرية الوجودية بالفن، وظلت عناصر الرواية وأركانها المجال الأوفر لرهان النقاد وتجريب المبدعين المتذرعين بالحرية والمتوسلين بحق التجريب. وطال التجريب كل العناصر، فكان (البطل) مرتكز التجليات والتخليات الخطابية. نلمس ذلك في دراسات رصدية وتحليلية متعاقبة عند (أحمد الهواري) في (البطل المعاصر في الرواية المصرية)، وعند (أحمد الحجاجي) في (مولد البطل في السيرة الشعبية) وعند (حسن حجاب الحازمي) في (البطل في الرواية السعودية)؛ ذلك أن (البطل) جماع التنازع الحسي والمعنوي، ومن خلاله يستبين المتابع مراد المبدع. ولأن الشخصيات الثانوية بوصفها الصف الثاني وراء البطل تشكل العنصر الأهم في الإبداع السردي، فقد أصبحت هي الأخرى مجال التجريب. ومن متابعة البطل والشخصيات الروائية يتبين إخفاق عدد من الروائيين في إحكام صنعها. ولكونها كذلك فإن إحداث تحوّل في جلبها وتلبسها بالفعل، يتطلب مراعاة دقيقة لمختلف الرؤى الفنية، وليست العبثية في أدوار الشخصيات وسماتهم من التجديد المعتبر. وللشخصية الروائية أبعاد وأنواع، قلّ أن يحفل بها الكتبة الذين يملكون موهبة غير مصقولة، أو قدرة غير موهوبة، وكم تجني رغبة التجريب على فئتي الموهبة والاقتدار، فتظل الشخصية بكل أنواعها: المسطحة والنامية والنموذجية، وبكل أبعادها: المادية والاجتماعية والنفسية والفكرية متاهة لا يعرف المتلقي موقعه منها. فالمبدع المبتدئ والمقتدر المتعثر، يخلطان بين الأنواع والأبعاد، ثم لا يحسنان أساليب رسم الشخصيات. وإذ تكون السرديات العربية محيلة إلى ضوابط السرد الغربي، فإن على الروائي والناقد إمعان النظر في تقنيات رسم الشخصية من خلال التصوير القائم على الحدث والحوار، ومن خلال الاستبطان القائم على المناجاة الداخلية والتذكر والحلم، ومن خلال التقريرية في رسم الشخصية. ومع استشعار هذه الضوابط المتداولة لدى النقاد التطبيقيين والمنظرين فإننا لا نجد مانعاً من التجريب الذي يحمل على الاستجابة لتغيير مفهوم الإنسان المعاصر. لقد نال الشخصية الروائية من التجريب ما أثار سخط النقاد الذين يعون متطلبات المرحلة، ويدركون تنوع الشخصيات الروائية. وحتمية التعدد الشخصي تقتضي تصور كل شخصية كما هي في الواقع، ثم تحويلها من سياقها الوجودي إلى سياقها الفني، وهما سياقان مختلفان اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وهذا الوعي يقي من الوقوع في المسخ أو التضليل اللذين يحولانها إلى شخصية باهتة، بلا اسم ولا قدر ولا أعماق. والنقاد الغربيون تقصوا التحولات السردية إزاء الشخصية المقبول منها والمرفوض، وإن كان ثمة إضافة فلتكن خيراً مما أحدثوا أو يحدثون. والخطابات المتعددة تنطلق من رؤية المبدع، وليس شرطاً أن تستجيب لتطلعات المتلقي، ولا أن تجمجم عما في نفسه؛ فالروائي ليس على المتلقي بوكيل. ولقد يكون من عوامل نجاح العمل الروائي أن يستفز قارئه بقدر يغير من تطلعاته ومسلماته، غير أن هذه المغايرة محكومة بمعايير قد لا تكون حاضرة المبدع، وقد يتعمد المبدع تغييبها ليمعن في الإثارة. ومشروعية أي تحرف لا تنجي الفعل من ضوابطه، وعوالم القيم لا مكان للعبث غير المسؤول فيها: فنياً وفكرياً ولغوياً. وإذا تجاوزنا عنصر (الشخصية) في الرواية، نقف أمام (الشكل) الذي يعد من معضلات السرد. والمتابع للإبداعات يقف امام مفارقات أصبح معها (الشكل) إشكالية متنامية. وتفادياً للتشتت في الآراء سنصرف النظر عن الرؤى التنظيرية عند (هيجل) و(كولدمان) و(باختين) و(لوكاش) و(جوليا كرستينا) التي هالها صخب المنظرين، ومن ثم اعترضت على القول: ب(سيولة الرواية)، ورفضت انعدام الشكل، وأصرت على أن للرواية شكلها وقانونها وأسلوبها الخاص، وتحفظها على مقولة (روجي كابلوا) التي لخصها (حسن بحيري) في كتابه (بنية الشكل الروائي) ومفادها (أن الرواية ليست لها قواعد، فكل شيء مسموح به.. إنها تنمو كعشب متوحش في أرض بوار). ومثل هذه الاطلاقات غير المحددة تحولت إلى مهايع، تزاحم حولها كل من أعوزته الموهبة والثقافة، فكانت الفوضى في أبشع صورها. واتكاء على هذا الانفتاح عمد البعض إلى كتابة سطر أو سطرين، وعد ذلك بمواطأة مشتركة من النقاد إبداعاً قصصياً. ولقد استهوت تلك الظاهرة الشكلية عدداً من القصاص (السعوديين) فتسابقوا في كتابة خواطرهم التي تقبلها المغررون بالقبول الحسن. والمتابع لكتب (يمنى العيد) (الكتابة تحول في التحول) و(في معرفة النص) و(فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب) يقف على إرهاصات لهذه التحولات الجذرية، ولا أحسبها تقبل بهذا الاندفاع، ولا يرحب صدرها بهذا الحجم من القطيعة المتمثلة بالمعمار والإيقاع الدلالي، وهي بمجمل آرائها واكبت النقاد المغاربة الذين ألهتهم اللسانيات عما سواها، فكان ما هو معاش من انفلات فني ودلالي ولغوي وشكلي. |
إخفاقات السرد بين تجريب القص وغياب النقد3 - 3
د. حسن بن فهد الهويمل لقد تبدت الخلافات العميقة بين النقاد الغربيين حول علم اللغة وعلم الدلالة ومناحي الفن، واقتفى أثرهم كبار النقاد العرب بحيث تلقوا خلافاتهم وأمروها بوعي، أو بدون وعي على إبداعات المبدعين ودراسات الدارسين، الأمر الذي قاد المشهد النقدي إلى فوضوية مكَّنت المبتدئين من استغلال الموقف، والخلط بين القصة والأقصوصة، والرواية والخاطرة والمقالة والسيرة وسائر الفنون السردية. ومهما عوَّل المنظِّرون على مقولة: إن الرواية عديمة الشكل، فإن المبدع الحق لا ينفك عن سمات الإبداع التي تميِّز الجنس الروائي، ومضمونه وفنياته عن سائر الأجناس السردية والأنواع الشعرية، ذلك أن مجرد القول معطى كل إنسان له لسان وشفتان، أمَّا الإبداع فصعب وطويل سلمه. إن للقول الإبداعي سردياً كان أو نظمياً نظاماً مضمراً يعيه المبدع، ويتمثَّله دون عناء أو تعمُّل، وله جماليات يختزن مواصفاتها من خلال ما تتداوله المشاهد من نماذج متميزة، لقد تعقَّب النقاد البناء الإيقاعي، ليس فقط ما يتعلَّق منه باللغة، وإنما امتدت الرؤية إلى الإيقاع في بناء الرواية ومعمارها وموضوعاتها وشخصياتها، ونظروا إلى حركة الحدث والزمان والمكان، وإمكانية ضبط حركة ذلك كله.. ولم يكن الإيقاع وقفاً على التكرار كما يراه البعض، ومتى جاء التكرار لأغراض فنية أو نفسية أو فكرية توفرت الدلالة والإيقاع - أي إيقاع الحدث - وإذا اختلف النقاد حول تحديد عناصر الشكل الروائي، فإن هذا لا يخوِّل المبتدئين والمقتدرين العبث الكتابي باسم العمل الروائي، يقول (البحراوي): (وبالرغم من أن معظم النقاد متفقون على وجود شكل روائي ممكن فإنهم غالباً ما يختلفون بشأن أهميته).. ولست مع الذين يحصرون البناء الشكلي بالمكان والزمان والحدث والشخصية، ولا مع الذين يفاوتون بينها بالأهمية.. إن البناء الشكلي منظومة معقَّدة متساوية في الأهمية، وأي خلل بعنصر ينعكس أثره على بقية العناصر، كما يتداعى الجسم بالسهر والحمى لمجرد تعرُّض عضو فيه للمرض، والتجزيئية لا تحقق الشكل المتكامل. ومسايرة المنظرين والمطبقين تجرنا إلى متاهة المفاهيم واختلاطها، وكل الذي نأخذه على (حداثة الانقطاع) إسقاطها لكل تصور فني سابق، يحيل إلى الأنموذج أو إلى الشرط.. وبذات القدر نأخذ على (جمود التقليد) تكريس النمطية والثبوت.. وبين الانقطاع والنمطية سبيل قاصد متى اهتدينا إليه استطعنا استباق التجديد واستصحاب الضابط.. إن قراءة النص الإبداعي يجب أن تتخذ مسارين: داخلي تفكيكي، وخارجي تصوُّري. فالنص شكل يستشرفه القارىء من بُعد، فيرى تكوينه اللغوي والشكلي، وجمالياته، والنص بنية زمانية ومكانية وموضوعية وشخصية، ولا يتم اكتشافه إلا من خلال آليات نقدية مزودة بمعارف متعددة، تجلو الأشياء، ثم تقوِّمها.. والنص لا يتوفر على الفائدة والمتعة إلا إذا التزم بقدر كافٍ من الضوابط الفنية واللغوية.. إن هناك بناءً روائياً شمولياً وبناءً داخلياً لكل عنصر، كبناء الأحداث والشخصيات، ثم هناك بنية عميقة وبنية سطحية، تكون العميقة شمولية والسطحية جزئية، وتلك رؤية (توليدية) (تشومسكية).. لقد كانت محاولات التجديد الشكلي الواعي على يد (نجيب محفوظ) الذي جاء معماره الفني المتميز مواكباً لموضوعاته ومستجيباً لها، ولقد جسَّد هذا التميُّز (نبيل راغب) في كتابه (قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ).. ولقد أشرت من قبل إلى أن الحق الإبداعي لا ينتزعه الاختلاف حول البُعد الموضوعي، فالإبداع حق لصاحبه وإن أوغل في العهر والكفر. والمسألة الأهم يتنازعها الحضور المجامل والغياب السلبي.. وغياب النقد أو حضوره المضلل يكون في المبالغات التي لا تحتمل، والإطلاقات التي لا تحد، فإذا تحدث ناقد عن عمل رضي عن صاحبه أضفى عليه من الثناء ما لا يمكن تصوُّره، وإذا انطلق القارىء من التقريظ إلى النص أصيب بخيبة أمل، وإخفاقات السرد في الخروج المتعمَّد على كل الضوابط الفنية واللغوية والاخلاقية تحت مكاء المضللين وتصديتهم. ذلك بعض القول عن (الشكل) بكل ما يعج به من تناقضات لا يمكن توقع الجمع بينها.. وعند الحديث عن (المضمون) فحدِّث ولا حرج، لقد ملَّ الروائيون والنقاد المثاليات، وتملق العواطف في قصص المآسي والمغامرات، وأرادوا مواجهة المجتمع بكل ما يعج به من آلام، وما يعانيه من نكسات، فكانت (الواقعية الاجتماعية)، وهي واقعية تقترب من الفضائحية، وقد واكبها في بعض المجتمعات قلق فكري وتمرد سياسي وثورة اجتماعية أعنف من الثورة السياسية، فإذا مرَّت بنا مذابح بشرية اقترفها الثوريون تحت أي مسمى، فليست المذابح الأخلاقية بأقل منها، لقد تسرَّبت من الواقعيات (التسجيلية) بشكل اعتراف ومن (التحليلية) بمقاربة تبريرية.. والاعتراف والتبرير مناقضان للمقتضى الاخلاقي، وليس ذلك من تسجيل ما حدث لأنه حدث، وهو التبرير الذي يعوِّل عليه الخطاؤون غير التوابين، وليس هو كما في القرآن من قصص الأنبياء ك(يوسف) مع امرأة العزيز، و(موسى) مع اللتين سقى لهما، إنه المجاهرة بالإثم.. وفي الحديث (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) وحديث (إذا بليتم بهذه القاذورات فاستتروا)، ولن نشير إلى بعض الأعمال الواقعية التسجيلية التي تصوِّر الممارسات الجنسية دون حياء أو خجل، ولك أن تقرأ (الخبز الحافي) أو (وليمة لأعشاب البحر) أو ما شئت من أعمال أخرى أوغلت في الخطيئة.. ولك أن تقرأ (آيات شيطانية) أو (العار لا جا) ل(تسليمة نصرين)، والدراسات التحليلية لمثل هذه الأعمال، للدكتور (إبراهيم عوض) والدكتور (محمد عباس). ومع تأكد المقترحات فقد ساند النقد هذا العهر بحيث أضافه إلى (صراع الحضارات) ليمنحه شرف المقاومة، تجد طرفاً من ذلك في كتاب (الصراع الحضاري في الرواية العربية رؤية تحليلية نقدية) لدكتور (عبد الفتاح عثمان). والمتابع للمشاهد يقف على إسفاف أخلاقي يصل حد العهر والتهتك، وبه يفقد النص شرف المعنى.. والظاهرة الروائية العربية مدانة بالهبوط المزدوج: هبوط في الأداء، وهبوط في الدلالة، فليس هناك شرف في اللفظ ولا شرف في المعنى، وقد يتوفر المبدع على جماليات فنية ولغوية، ولكنه يخفق في البُعد الدلالي، وذلك ديدن الكبار.. وحين ننحي باللائمة على الظاهرة الروائية، فإننا لا نغمط المستوفين لحقوقهم، الملتزمين بحقوق الآخرين، فحق المبدع في حرية التفكير والرأي والتعبير لا تلغي حق المتلقي في كف الأذى، ولا تخوِّل المبدع الإمعان في العهر والكفر وضرب اللغة والفن، فكل ذلك من الإيذاء الذي لا يحتمل.. ومع التأكيد على احترام القيم والثوابت فإن طائفة من النقاد لا تعرف تلك الحدود، ومن ثم تلزم المبدع ما لا يلزم، وتلك أذية تقع على المبدع، وهي أذية غير مبررة وغير مشروعة.. والمصداقية تتطلَّب الشهادة على النفس والأقربين. والممتعضون من انهيارات الشكل والمضمون لو ينظرون إلى (لغة النص)، لهالتهم الركاكة والعامية والترهل والتسطح، و(البنيويون) يرون أن النص (لغة)، ومع ذلك لا يأطرون العابثين على لغة الفن، وإنما يسايرونهم باسم (الواقعية اللغوية)، والنظرة المعيارية للغة السرد تقوم على الإنجاز والمجاز والانزياح والخيال والفصاحة والحركة والتشخيص، غير أن المناهج اللغوية الجديدة حين اقتحمت عوالم النقد حوَّلت المفاهيم، وأصبح القول في اللغة وعن اللغة مخالفاً لما سلف، كنا نسمع بالتعبيرية والتصويرية، وكانت مفاهيم ذلك متفاوتة، واليوم بدأ الحديث عن الكلمة الشعرية، وعن دورها الجمالي، أو التوصيلي الحيادي، والمعذرون لوسطية اللغة الروائية يركنون إلى التنوع النمطي والصوتي نظراً لتعدد الشخصيات والمستويات. وفي هذا الإطار نظر النقاد إلى اللغة بوصفها ظاهرة مستقلة تملك خصوصيتها، أو بوصفها وسيلة يحكمها النوع وتشكِّلها الغاية، فهناك وحدة أسلوبية ووحدة لغوية.. وإذا سلَّمنا بأن هناك وحدة نظام، يجب على كل مبدع أن يحترمها في القول والإبداع، فإن هناك لغة شاعرة وخصوصية ذاتية على حد (الرجل هو الأسلوب)، وإذا كانت للسرديات الإبداعية لغة معينة فإنها لا تتعارض مع وحدة النظام ولا مع لغة المبدع، والمبدع الواعي للغته وفنه يوائم بين التصوير والتعبير والتوتير، ويتقن اللحظة الحرجة الفاصلة بين الحكي الشفوي العامي والإبداع السردي. لقد فرَّق (ميخائيل باختين) بين (غير الفني) و(شبه الفني) و(الفني) وجعل الفني متمثِّلاً للكلمة الشعرية، ومثلما اختلف النقاد حول (الشكل) اختلفوا حول اللغة، فبعض النقاد يرى أن الرواية شكل مختلط تلفيقي، أو هو تشكُّل هجين، وآخرون يؤكدون على الفروق وخصوصية اللغة.. والروائيون المخفقون لغوياً ليسوا على وعي بالجدل الدائر حول اللغة والأسلوب، ولغة إبداعهم مرتبطة بإمكانياتهم، بمعنى أنهم يجسِّدون قدراتهم، ولا يحققون مذهبهم اللغوي، وإمكانياتهم المتواضعة توحي بالضعف والجهل: ضعف المحصول اللغوي، والجهل بنظام اللغة النحوي والصرفي، مع العجز عن التوفر على جماليات اللغة، والأعمال الروائية لا تكاد تجد فيها ما يشدك بأسلوبه على حد: (الناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة). لقد عوَّل العابثون باللغة، والعاجزون عن تطويعها على دعوى (النص المغلق)، والذي يعني في هذا المجال ارتباط اللغة والأسلوب بالعمل الأدبي الذي يمتلك الاكتفاء بذاته، والانكفاء على ذاته، وحقه في تشكيل نظامه اللغوي، بحيث لا تفرض عليه شروط مسبقة أو خارج ذاته.. وأحسب أن (البنيويين) انطلقوا من واقعية اللغة، وعوَّلوا عليها، وهم قد ربطوا اللغة بالمتكلم من حيث هو إنسان مغاير، فالمتكلم صاحب رؤية وموقف وقدرة ومستوى اجتماعي، وهو قد يكون في إطار (الثقافة الشعبية) بإزاء (الثقافة العالمة) كما تقول (يمنى العيد)، وكلمة الإنسان بهذا التفاوت معبِّرة عنه أولاً، وعن دلالتها ثانياً، إنها تصوِّر الإنسان، وبقدر ما يكون الإنسان تكون الكلمة، هذه الكينونة أبعدت الكلمة عن خصوصيتها، وربطتها بخصوصية الإنسان.. وانجراف الكاتب مع القول بأن اللغة مادة التفكير والكلام في آن، واضطرابه في فهم ذلك، وبخاصة حين يكون الحديث في المجال الأخلاقي أو الديني، أدى إلى مزيد من التبرير والتغرير، وهو في الحالين مكتنف بالاعتراف السلوكي أو التصور العقدي، وحين لا يحكم أمره يُلقيه الاضطراب في مكان سحيق. وإشكالية اللغة من حيث نظامها وقوة أدائها تزداد تعقيداً، كلما أمعن الأسلوبيون المحدثون في التعامل معها، ذلك أنهم يستبعدون الحق الإلهي، ويتداولون الضوابط والأنظمة، وإشكالية الدال والمدلول والشكل متنامية في ظل تغييب الضوابط والمرجعية وشرعنة الحرية والتجريب وفق مفاهيم لا تقبل بالحد ولا بالضابط، كل هذه تعمِّق الخلاف، وتعرِّض الإبداع السردي إلى انهيارات مخيفة، ومهمة النقد ووظيفته في هذه الظروف تفهُّم القضايا والظواهر واستكناه المشاكل، والوقوف على الأسباب والدواعي، والبدء في رحلة العودة إلى جادة الصواب، فما عاد بالإمكان احتمال مزيد من الإخفاقات.. وإذا كنا نرى أعمالاً متفوِّقة، ومبدعين متألقين من شباب وكهول، فإن ذلك الحضور المشرف لا يشفع للإخفاقات الواضحة، ومن قدَّم هذه النماذج النادرة لإسقاط الدعوى فقد ضلَّ سواء السبيل. إننا لكي نوقف الزحف نحو الهاوية فإن علينا أن نبحث عن المبدع الموهوب الذي تعهَّد موهبته بالدربة والدراية، ومكَّن الموقف من النضوج، وأن نبحث عن الناقد الملم بكل قواعد الفن، والمستوعب لكل نماذجه، والمسيطر على مناهج النقد الحديث وآلياته، وتحوُّلات الفن ومقوماته، وضوابط اللغة وانزياحاتها، وعلينا قبل ذلك وبعده أن نحترم المصداقية وألا نقول إلا الحق، ومن أمن المتابعة جاء بالعجائب. |
الماء والفسائل وفوضى المضاربات والفرضيات..!« 1 - 2»
د.حسن بن فهد الهويمل ما من مخاضات فكرية أو سياسية أو اقتصادية، إلا وتسبقها موجات من الآراء وزخات من التخرصات. وما الرعد والبرق إلا مبشرات أو محذرات. فقد يتحول الرعد إلى صواعق، وقد يخطف البرق أبصار المشرئبين. والمصيخون للشائعات، والمستطلعون للرأي العام، تتفرق بهم بنيات الطريق. وكم من قرارات مصيرية استعان متخذوها على قضائها بالكتمان، ولكن الذين يدركون ليلهم يسبقون إلى التنبؤ بها، قبل أن ترى النور. وكل معني بالشأن المحلي، يتيح لنفسه فرصة للفرضيات، ومجالاً للخطرات، وقد يبني من الأماني قصوراً، ثم يهدمها النهار. وقد تعلو موجات الآراء، وتنهمر زخات التعليقات بعد أن تضحى القرارات. وليس بمستبعد أن تكون الشائعات كما الحشرات النافعة التي تخصب لمواجهة الحشرات الضارة، وتوظيف الشائعة لاستطلاع الرأي العام بعض الأساليب الرصدية الحكيمة للتعديل أو للتبديل أو للإلغاء (ويأتيك بالأخبار من لم تزود). وما أضر بالأمة إلا الصمت السلبي، أو الرغاء الرخيص. وإذ يكون المواطن هو المستهدف بهذه المخاضات فإن من حقه أن يقول، ومن واجب المسؤول أن يسمع، ومن مصلحة البلاد والعباد الالتقاء على كلمة سواء. والراصد للمخاضات الحاضر منها والباد، يرى أن البلاد قد مرت بتجارب متعددة، أفرزتها خطط التنمية التي سبقت ظلها، وخلفت انفجارات: تعليمية وسكانية وزراعية وعمرانية، لم تستوعبها شرائح المجتمع. وتفرقت بالناس الطرق، حتى لم يجد أحدٌ فضلة من جهد أو وقت، ليقول في الشأن العام كلمة عابرة، فالناس كلهم في شغل شاغلون. وكل من فتح فمه أو أطلق يده أو ركض برجله عاد بالخير العميم. ففي ذلك الزمن العجيب شرَّعت الدولة أبواب خزائنها عبر البنوك: العقارية والصناعية والاستثمارية، وأطلقت الأيدي في الإنفاق، واعتمدت كل ما بلغها من مشاريع، وواكب ذلك ازدياد في أسعار النفط وانفلات في إنتاجه. وفي تلك الأجواء المحمومة اندلقت أقتاب المشاريع في الوهاد والنجاد، حتى كادت تلد الأمة ربتها، ويتطاول الناس في البنيان. ولما كان التمام مؤذناً بالنقص على حد: (توقع زوالاً إذا قيل تم) أخذت بعض المشاريع بالتراجع، وذلك بعدما تبين للمسؤولين ضعف العائد، وتضخم الإنفاق، وهشاشة التأسيس. ومن تحت أنقاض التراجع المرتبك نسلت ظواهر الإفلاس والبطالة والعمالة السائبة، وانكمش كل شيء، وعاد النهمون إلى الاجترار. وفي ظل تلك الظروف أدرك الناس أنهم مضوا في التوسع بغير حساب. وما عاد أحد يحتمل تبعات هذا الاندفاع، ولا مصميات هذا التراجع، وفي هذا الوضع غير الطبيعي احتنك الناس الإحباطُ والخوف والترقب، فكانت النجاة بالأبدان دون ما تفرق من آليات وأصول عينية كالآبار والمعدات وأطلال المشاريع، ومهما تفرقت بنا طرق القول فإننا كسبنا التجربة، وخسرنا التمسك بما أنجز. والخطأ المقدور على محاصرته، وحسر آثاره، ناتج طبعي للعمل، وإن كان كل مسؤول بما كسب رهين، إلا أن الخطيئة ألا نكترث مما بدر، أو حين تتكرر الاندفاعات والتراجعات دون مساءلة أو حساب، أو حين يستفحل الخطأ ويتجذر ويبقى كل نازح على بئره، أو حين تكون ردة الفعل مضرة بثروة الأمة وإنسانها. والأعمق استياء حين يمتعض المتصرفون بالشؤون من المساءلة، ويضيقون ذرعاً من تحسس الناس عن مصالحهم ومصائرهم وماذا يراد بهم ولهم. والمؤكد أنه قد مس الجميع طائف من مثل هذه الإخفاقات غير المقصودة، وبدت أطلال المعدات الزراعية خاوية، تتآكل مع الزمن، مؤكدة خطأ التجربة، قبل أن تعفيها الروامس والسماء، وأخشى أن نكون رهينة لتتابع الأخطاء المتشابهة. وهل تنتفع أمة من تجاربها إذا لم تكن أخطاؤها العارضة مواعظ تقيها الوقوع بمثلها. ولما كانت التجارة حرة، والسيولة النقدية متدفقة، فقد تدافع الناس وراء المساهمات والأسهم، ولم يأتل أولو الفضل والسعة في محاصرة التصحر، وجاء الدعم بالقروض مغرياً لكل من نكب عن ذكر العواقب جانباً. لقد أغرت الدولة بعطائها السخي من لا يقدر على تصريف شأنه العادي، فيتحول بقدرة قادر إلى رجل أعمال تتخطفه الشركات والوكالات، ولم يلبث أن ثوى مع معداته، يعوزه قوت يومه وليلته، تخيفه الديون، وتمضه الهموم. والسنبلة والنخلة والأسهم والمساهمات وسائر المؤسسات والمضاربات حين لا تحكمها الأنظمة وتسددها المراقبة ويتداولها المسؤولون العليمون الأمناء الأقوياء، تكون عرضة للفشل. ومكمن الخطورة حين ترتبط المشاريع بالثروات القومية ك(الماء) و(الطاقة)، وبخاصة بعد ما أصبح (الماء) مشكلة عالمية، لا ينفك الإعلام العالمي من تداولها، وتكريس الخوف من الشح أو النضوب ومن (حروب المياه). وما اختلفت الدول النامية إلا من بعد ما أحكم المتسلطون الكبار لعبة الهلع والفزع من النضوب، الأمر الذي حفز الوجلين على تصعيد المراجعات من الجدل إلى الصراع والصدام حول حقوقهم من المياه المشتركة والأنهار العابرة، لقد ثارت قضايا السدود والتحويل التعسفي لمجاري الأنهار، واستنزاف المياه الجوفية، وتبع ذلك سيل من الدراسات والمؤتمرات والكتب. وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والتآمر لم يعد الماء قضية محلية، كما لم يعد قضية علمية، وإنما أصبح لعبة سياسية، تقف جنباً إلى جنب مع (السامية) و(سلاح الدمار الشامل) و(تخصيب الأورانيوم) وتصدير (المبادئ) و(الديمقراطيات). لقد أقبل الناس على هذه اللعب وقبلوها، ودخلوا فيها أفواجاً، والتقى المسلمان بسيفيهما أو كادا. وفي الشأن المحلي، فإن هواجس الخيفة تلوح من خلال التكاثر في الغرس والتفاخر فيه، واللغط المعاد حول (الماء) و(النخلة) وتقصي ما تستهلكه التمرة من الماء لتصل إلى فم المستهلك، وما يتطلبه كوب اللبن من كميات المياه ليستقر على المائدة. وإذ نكون مع الترشيد والتوعية، ومع تطوير أساليب الري فإننا ضد التصحر والاستيراد. إننا بحاجة إلى خطاب متوازن يحفظ (الماء) ويحقق الاكتفاء. والتكاثر واللغط يمهد بهما المكاثرون والخراصون لبوادر التولي من الزحف. وما ينجي الأمة من تكرار العشرات، واستنزاف المياه، وإضاعة الأموال إلا مواجهة الذات بكل ما لها وما عليها، وتجافي التبرير والتعذير وتزكية النفس، وتبادل أنخاب الثناء. فالتكاثر غير المحسوب، كالتخوف غير المبرر. ومما تطمئن إليه نفوس الذين شقوا في الشأن الوطني أن المسؤولين عن (الماء) و(الزراعة) ومتعلقاتهما مخلصون وصادقون. نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً. والصدق والإخلاص لا يعصمان من الوقوع في الخطأ، والوقوع فيه لا يقدح بالأمانة ولا بالمصداقية، ولكنه يشكك في القدرة على الحسم الإيجابي، ويستدعي الإيقاف والمساءلة، ومن أنيطت به مسؤولية وطنية مصيرية، فإن عليه أن يهيئ نفسه ويوطنها على تقبل ما يقال من نقد أو مساءلة، متى كان القصد منهما التوعية والتصحيح، والمعالجة والتسديد. فالخطأ أو التقصير عرض مرضي، والدواء ليس شراباً سائغاً، وإذاً لا بد في تجرعه من تحمل المذاق العلقمي. والاندفاع غير المحسوب في الأداء والدعم يستتبع تراجعاً سلبياً، وعلى مدرجة الذهاب والإياب تتساقط ثروة البلاد، وتخور عزمات أهل الدثور، وتضعف القوى، وتنعدم الثقة، وتعود الأمة إلى تصحرها، تأكل مما لا تزرع، وتلبس ما لا تنسج، وأضعف الإيمان تحقيق الاكتفاء الذاتي، فيما هو مقدور عليه. ولما لم يكن أصحاب الدثور ممن كانت لهم يد في الزراعة إبان الاندفاع غير المحسوب من القاعدين عن المكارم، فقد تدارك بعضهم الأمر بعد التراجع في زراعة القمح، وتوجه إلى غرس (النخيل) و(الزيتون) و(الأعناب) والتوسع في الفسائل إلى حد يقترب من الاندفاع الأول. وحين توضع العقبات في طريق المتحرفين للعمل أو المتحيزين لقطاع الزراعة، ينفض سامرهم، لتتحول الفسائل إلى أعجاز نخل خاوية، ثم تكون النكسة الثانية أدهى من الأولى وأمر. وغياب المسؤول أو حضوره السلبي سيان، فلا خير في غفلة تستفحل في ظلها الفوضى، ولا خير في حضور تغل فيه الأيدي، وتكثر فيه العقبات، كغلاء الأسمدة والمبيدات والطاقة وسائر المعدات. والإشكالية ليست في فشل المشاريع الزراعية، وإنما هي في عقابيل الفشل، وبخاصة ما ستواجهه الطبقة الزراعية، التي اعتمدت في دخولها على الزراعة، وفي العمالة التي نهضت بها. ففي كل إقدام تتشكل الشرائح المهنية، وفي كل إدبار ينفرط عقدها، ثم تترك في العراء، لتأخذ طريقها مع من تعول إلى مدن مكتظة بالعمالة الرخيصة. ومع التحفظ على المواجهة نتحفظ على الاندفاع، و(مشاريع النخيل) كادت تقتفي أثر السنابل، وقد تواجه ذات المصير الذي واجهته زراعة القمح والشعير، والخطأ سيكرر نفسه في ظل غفلة مألوفة. وأحسب أن الطامة الكبرى حين تبدأ هذه المشاريع العملاقة بالإنتاج، وتكون من الغزارة والرداءة النوعية وبدائية التخزين، بحيث لا تستوعبها الأسواق المحلية، ولا تقبلها الأسواق العالمية، وحينئذ يصاب المزارعون بإحباط الكساد، مضافا إلى إحباط التخلي والتخذيل وارتفاع نسبة التكاليف. وقد لا يجد المزارعون وأصحاب المشاريع إذ ذاك بدا من التخلي الاضطراري عن مزارعهم ومشاريعهم التي أنفقوا عليها الأموال الطائلة، واعتمدوا عليها في معائشهم. والتولي سيسهم في ارتفاع البطالة والفقر والديون والمنازعات، ويفرض إشكاليات غير مقدور على احتوائها. وهذا الوضع مؤذن بخلل اقتصادي، يستتبع خللا سكانيا وأمنيا، ويفرض على الدولة التزامات مالية، لو أنفقتها في دعم تلك المشاريع، لسارت الأمور على ما يرام. وأحسب أن مرد ذلك كله ممارسة الفوضى باسم الحرية التجارية، وتحامي الدولة إرسال عينها ووضع يدها. وكم نسمع بين الحين والآخر على المستوى العالمي من يطالب بتدخل الدول في الأسواق لحفظ العمالة والأثرياء والمستهلكين وإقرار التوازن بين أطراف العمليات التجارية. فالحرية التجارية غير المنضبطة مدعاة إلى فساد كبير، ولو استعرضنا مشاكل الإفلاس، وصكوك الإعسار، والتحايل، ومضاربات الأسهم، ومساهمات العقار، والشيكات بدون أرصدة، والتزييف والتزوير، وما تلاقيه المحاكم والغرف التجارية، وما تفيض به السجون، لكان أن عرفنا أن الحرية الفوضوية أسوأ من الضوابط التعسفية، وطفرة الأسهم والمساهمات والتبذير المحموم في الدعاية مؤشر انكشاف وانحسار وبوار، فعلى حساب من تنفق الملايين للدعاية، وعلى من تقع مسؤولية الكشف عن مصداقيتها. وإذا كان القانون لا يحمي المغفلين فإن السلطة المتوازنة مسؤولة عن حماية المخدوعين بالدعاية. وكل عمل لا تحكمه ضوابط وأنظمة ورقابة صارمة وتخطيط مستقبلي، ولا يراعى فيه حجم الإنتاج ولا طرائق التخزين والتصنيع والتسويق، يكون مآله الفشل، وما من مضاربات تجارية مرتجلة إلا ويكون أصحابها على كف عفريت، وما تحققه تلك الاضطرابات من مكتسبات غير مشروعة لا يعول عليها، ودروس الطفرة أعطتنا شواهد، لو وعيناها، لكنَّا أقرب إلى السلامة. ولما لم يكن الناس مطمئنين على سلامة المضاربات، فقد أصبح العقار هو الملاذ الآمن، ولكن قفزاته غير الطبيعية، جعلته معرَّضاً لنكسات موجعة. وليست مضاربات الأسهم عن ذلك ببعيدة. وكلُّ الخبراء والمحللين لا يثقون بهذا التضخم، ولا بتلك الزيادات غير المبررة وغير المشروعة. ودخول المضاربين غير المؤتمنين وغير المجربين، ستكون له عواقب سيئة، ولقد مس الزراعة طائف من الجهل والمغامرة. ومن الخير للدولة، ولرجال الأعمال، ولصغار المضاربين والمساهمين والمندفعين وراء المشاريع أياً كان نوعها أن يفكروا، وأن يقدروا، وأن يقيسوا أمورهم قبل أن يجدوا ما وفروه من قوت يومهم هباءً منثوراً، ويجدوا المضاربين بأموالهم قد تنازعهم الفقر المدقع والديون المذلة، وتلقتهم مكاتب الشرطة والمحاكم والسجون. والمآلات التي قد لا يلتفت إليها المسؤول أن شطراً من هذه الانكسارات تتحمله خزينة الدولة، ويغالبه موظفوها، وينعكس أثره السيئ على أخلاقيات الأمة. لقد تحدث الناس عن معوقات الاستثمار التي نيفت على المائة، وسرهم ما تعهد به المسؤولون من وعد جازم لإزالتها، وتلك المعوقات (البيروقراطية) لم تحد من الفوضى، ولم تقمع المغامرات، وهذا مؤشر على حضور غير فاعل وغير سديد. وحين نخوف ونحذر وننحي باللائمة على ضعف المتابعة وجماح المغامرين، فإننا لا نغمط ومضات مضيئة في سياق ذلك كله، ولا ننسى كفاءات متميزة، وظفت جهدها ومالها وخبراتها في سبيل الصناعة والزراعة، فكان حضورها مشرفاً ومفيداً، ولكن العتب كله والمؤاخذة جلها على نقص القادرين على التمام. |
الماء والفسائل وفوضى المضاربات والفرضيات!
د. حسن بن فهد الهويمل وحين نتجه بالحديث صوب التوسع المشهود في غرس (الفسائل) وتخويف المسؤول عن عقابيل الاندفاع غير المحسوب، وتلويحه بالحد من الإسراف في الغرس الذي يعد من ركائز الأمن الغذائي، بحجة المحافظة على المياه الجوفية، نجد أن التخويف من الجفاف والتصحر حين يبلغ ذروته، يضع الأمة تحت طائلة الخوف المبالغ فيه، وقد يعرضها لتراجع غير منظم، ربما يستتبع نكسات ما كان لها أن تكون في ظل ظروف مواتية وكنت أود من جهات الاختصاص أن يوجهوا شطراً من جهدهم إلى دراسة أساليب الري، والبدء من حيث انتهى الآخرون، وذلك بتقصي التجارب المحلية والعالمية، والتوفر على كل الدراسات، وخاصة ما أنجزه (البنك الدولي) و(معهد الموارد العالمية)، والعمل على إشاعة أحسنها في الوسط الزراعي، للتمكين من ثقافة زراعية، يفقدها كل المزارعين. ولما لم نكن من دعاة التلقي والقبول الفوري فإننا نود النظر في مدى علمية كل طرح، ومعقوليته، ومناسبته لأوضاع البلاد التي لها شيء من الخصوصية، وتثمين تجارب المشاريع الزراعية المحلية، وبالذات تجارب المتحملين لتبعات الفشل، والمصرين على التنقيب عن كل مفيد، ودعم الآخذين بها، وتمكين المزارعين من استعمالها، لتكون بديلاً لطريقتي الغمر الموحل أو الرش المبخر، كما يجب أن يفرق المسؤول بين المياه السطحية والعميقة في رصد النضوب أو الانخفاض، فالمجربون يؤكدون غزارة المياه الجوفية في بعض المناطق وسرعتها في استعادة وضعها وثباتها وتجددها في بعض المواقع والجهات المسؤولة لن تكون قادرة على بعث الثقة والاطمئنان في نفوس المواطنين الذين يجتاحهم هاجس الخوف من شبح النضوب الذي يشيعه الأباعد ويلوح به الأقارب إلا إذا توفرت على مراكز معلومات وفرق تحليل وتصنيف لما يرد من آفاق المعمورة ومن الداخل. ومن خاف من وقوع شيء لم يقع، تعجل الشيء قبل أوانه. والمجربون يعرفون القدر المعقول من الاحتياط، فلا يجوز أن يصل حد الحرمان. ذلك أن القيم السلوكية حين لا تتوفر على الوسطية والتوازن تقع في المحذور، ولهذا قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}. فالوسطية هي القوام المأمور به، والمطلوب في كل شيء، حتى في العبادة، ولهذا نهي عن الغلو، وذم المنبت. ولقد جاء في الأثر ضرورة الاقتصاد في الوضوء، ولو كان أحدنا على نهر جار، ولا أحسب التوفر على الاكتفاء الذاتي في الأساسيات الغذائية مضر بالثروة المائية، فنحن مطالبون على الأقل بالتوفر على الاكتفاء الذاتي في الأساسيات، كالغذاء ومتعلقاته كالأعلاف، وبخاصة الشعير وسائر المطالب الضرورية للحياة الكريمة. ومن أهم الأساسيات: الحبوب والتمور، ولا سيما أن القمح مسيس، وله تأثيره على القرارات المصيرية في الدولة التي تعتمد على الاستيراد أو المساعدات. وسبيل الاكتفاء القاصد أن تكون عندنا مدن صناعية لكافة الصناعات الخفيفة، وبالذات الوسائل الزراعية، ومشاريع زراعية تنهض بها الشركات والجمعيات ورجال الأعمال، كي توفر الأمن الغذائي، وتستوعب الأيدي العاملة من المواطنين الذين إن لم تتح لهم مجالات العمل، اقتحموا المدن بحثاً عن عمل غير متوفر، وعندئذ تمنى الدولة بظواهر البطالة والفقر، وهما مصدر كل شر. والمتابع للوقوعات، يدرك ارتفاع نسبة الجرائم بشكل غير طبيعي وغير متوقع، مع ما تتمتع به البلاد من قوة في الحق، وارتفاع في الدخول. وإشكالية البلاد التي لا يغمض فيها إلا القاعدون إنها دولة الشباب الذين تفيض بهم المدارس والجامعات وأسواق العمل، وتضايقهم العمالة السائبة الرخيصة، ولا يمكن استيعاب هذه النسب العالية إلا في قطاع الزراعة والصناعة، فإن لم يكن القطاعان في مستوى نسبة الشباب والعمالة، ارتدت الطاقات المهدرة إلى أمن البلاد واستقراره. وتشجيع الصناعة والزراعة وحمايتهما ودعمهما، ليست فقط للتوفر على الغذاء والكساء والآلة وحسب، وإنما هو أيضاً لاستيعاب القادرين على العمل من الشباب الذين يجدون أنفسهم في الحقل والمصنع، ومن الحصافة الإبقاء على هذه الشرائح في مواقعها المناسبة لها. وحين لا يكون حقل ولا مصنع تستفحل الهجرة إلى المدن، فيقضى على الريف، وتختنق المدن، وتضطر الدولة إلى معالجة البطالة ببطالة مقنعة، وليس هناك أخطر من اضطراب التركيبة السكانية. وإذا استفحلت البطالة بشقيها: المكشوفة والمقنعة، تحولت مؤسسات الدولة إلى مكاتب للضمان الاجتماعي. ومواجهة البطالة بأسلوب اتكالي، يضيع الطاقات، ويحرم البلاد منها. ودعم الزراعة بالقروض والمساعدات والشراء التشجيعي والتسهيلات، يحول دون الهجرة، ويحمي المجتمع الزراعي من الانقراض، ويخفف الأعباء على المدن المختنقة. ولأن المملكة مترامية الأطراف، طويلة الحدود مختلفة الأجواء والتكوينات الجغرافية، فإنه من الضروري استغلال الحدود الجغرافية بالمشاريع الزراعية العملاقة وبخاصة (البسيطاء) في منطقة الجوف، وربط الشركات الزراعية بأجهزة حكومية شورية إشرافية داعمة: مادياً وفنياً، ويكون من بعض مهماتها تحديد الأنواع والمقادير المنتجة، بحيث لا يتجاوز الإنتاج طلب السوق، ومراوحة الاستيراد بين أنواع الفواكه والخضراوات، وعند الاستيراد يجب تحديد الأنواع المنتجة محلياً للحيلولة دون المنافسة غير المتكافئة، فيمنع استيراد المسموح بزراعته، وتمنع زراعة المسموح باستيراده. وفي ظل هذه الظروف المضطربة عالمياً ونزوع العالم إلى التكتلات الاقتصادية والاستعداد الهيكلي والإجرائي (للعولمة) وشروط الدخول في المنظمات العالمية واختراقات الشركات العالمية، وتسييس كل شيء، لا بد من دعم المزارعين من خلال التسهيلات، وتوظيف الخبرات، وضمان استقرار الأسعار لكافة احتياجات المزارع من بذور وأسمدة وآلات وطاقة. وقبل هذا وبعده لا بد من إنقاذ المزارعين من السماسرة الجشعين، ومن فوضى الإنتاج، وعشوائية التسويق ومزاحمة الاستيراد. وسبيل ذلك إنشاء شركات استقبال وحفظ وتعبئة وتسويق، والرصد الدقيق للطاقة الاستيعابية، وتوجيه المزارعين إلى ذلك، فلا يترك التحري للمزارع. ولو ضربنا مثلاً ب(الطماطم) و(البطاطس) و(البصل) وهي السلع الرئيسة لتبدت لنا فوضوية الإنتاج والأسعار، فتارة تصاب تلك الأنواع بالكساد، فتترك لتذوي في منابتها، وتارة تشح حتى يتطلع المواطن إلى المعلبات أو الاستيراد، والمزارع والمواطن متضرران في الحالين. وإذا لزم تنظيم الإنتاج لزم كذلك تنظيم الاستيراد، فلا يفاجأ المزارع بمنافسة غير متكافئة، والواجب حفظ كافة الحقوق للمواطن بوصفه مستهلكاً وللمزارع بوصفه منتجاً، ولثروات الوطن بوصفها مستنزفة. والتباكي على نضوب المياه الجوفية يقمع السواعد القوية، ويطفئ نصاعة الجباه السمراء المتفصدة عرقاً في وهج الظهيرة، وهي تنسج حلة الصحراء بجنات معروشات وغير معروشات والنخل والرمان مختلفاً ألوانه وأكله، وتدعها تقلب أيديها على ما أنفقت فيها، وتنظر إليها، وهي خاوية على عروشها، وعندئذ نكون كمن يداوي بالتي كانت هي الداء. إن ما يفعله البعض من التخويف إجهاض جنائي لأجنة العطاء، ودحو فضولي فهواجس الخوف من أشباح المستقبل، وإنما ذلكم كله أو بعضه من تخويف أعداء الأمة، كما الشيطان يخوف أولياءه. وزيادة الإشفاق والحرص على ثروات الأمة قد يدخل مرحلة التوجس والخوف غير المشروعين، وهناك ينقلب الأمر إلى ضده. ولسنا نشك أن القول في الغزارة كما القول في الشح وخوف النضوب. إنها رهانات يلز فيها العقلانيون والعاطفيون، وما من إثارة تحسم الخلاف، وتقر في جوف الأرض ما فيها. والمتخوفون يحيلون إلى محدودية المصادر، وانعدام مصبات الأنهار ومنابعها، وشح الأمطار، والإسراف في الاستنزاف. وإذا كان الفرقاء مجربون ودارسون يختصمون حول مسلماتهم، فإن من المصلحة أن يلتقوا وجهاً لوجه، ليطرح كل طرف حيثياته، والمواطن يسمع إلى براهين كل فريق، ويقرر مصيره على علم وبصيرة. واللقاء الذي أجري مع رجل الأعمال الشيخ (سليمان الراجحي) في (جامعة الملك سعود) مساء يوم الثلاثاء 13-1- 1426هـ أسلوب جميل وحضاري، ولا شك أنه وضع أقل النقاط على بعض الحروف، وزيارة معالي وزير المياه والكهرباء لمشروع الجوف ربما أنها مكنته من الوقوف المباشر على بعض الظواهر السارة. فما أحوجنا إلى المكاشفة والشفافية وكسر الحواجز وخلطة الآراء وتظافرها، لمعجمة كل الحروف. ومن الخير للبلاد والعباد أن تنهض وزارات: الزراعة والتجارة والمياه والصناعة والعمل لرسم (استراتيجية) موحدة شاملة تضع في اعتبارها التوعية والترشيد وإيجاد فرص العمل وحماية الأموال التائهة بين الأسهم والمساهمات، وأن تتخلى عن تجاذب الرداء الذي يحمل القضية، ثم لا تتمكن من النهوض بها إلى مكانها. إن الراصد للحراك يروعه اختلاف وجهات النظر، وتفاوت مستوى الحماس، وعدم إيمان المواطن بخطاب المؤسسات، وتصرفه بمعزل عن كل ضابط أو نظام. ولأن قضاءنا وقدرنا الأزليين التصحر والجفاف والحرارة فإن رهاننا على (النخلة)، وعلينا أن نتميز في تجويد المهنة، وحماية الإنتاج، والتأكيد على الفنادق والمطاعم ومقاصف المدارس تقديم التمر غذاء وحلاوة، كما تفعل الخطوط السعودية. لقد تجسدت أهمية الفسائل في حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على غرسها في أحلك الظروف، ولا أحسب ظرفاً عصيباً يبلغ فجيعة قيام الساعة، فعندها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، في هذه اللحظات المذهلة يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها). والمعروف أن هذه اللحظة فوق التفكير وفوق التقدير، ومع ذلك نبه الرسول الرؤوف الرحيم بأمته إلى أهمية الأمن الغذائي. وإذا كانت (إسرائيل) في سباق مع الزراعة والصناعة، وما أحد خوفها من نضوب الماء، فإننا في المقابل نجد من يوجف بلسانه وقلمه، ويلوح بمسؤوليته، ليضع العصي في عجلات الزحف السليم. والغرب الذي يخوف من نضوب الماء، ويدس أنفه في خصوصيات الشعوب، يغري الدول النفطية على مزيد من الإنتاج، بل يمارس الضغط لرفع الإنتاج، وما سمعناه يوماً يحذر من نضوب البترول، ولأنه لم يقل في الشأن النفطي شيئاً فإن متلقي الأقاويل يلزمون الصمت، لأن القول ما قالت حذام. وفي سياق أهمية (النخلة) فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم عشرين مرة جلها في التذكير بالقدرة والنعمة والجمال والأمن الغذائي، وما من جنة أو حديقة إلا وهي محفوفة بالنخل، وكيف يسوغ لبعضنا أن يلقي في روعنا الخوف من تكاليف النخلة، والشح عليها في منابتها. إنها شجرة طيبة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ولو أن (البلديات) اعتمدت النخلة والزيتونة في الحدائق والشوارع، لكان أن جمعت بين الجمال والمنفعة، وتخلصت من شجر يؤذي بخريفه ولقاحه وشوكه. ولكي نجسد الخسارة الفادحة فإن علينا أن نسأل: كم شجرة زينة في مدن المملكة؟ وكم ينفق عليها من مال وماء؟ وما الذي يضير لو أن هذه الأشجار التي تعد بمئات الآلاف بل بالملايين كانت من النخل والزيتون؟ وما الذي يضير لو أن هذه الحدائق والأشجار سقيت من آبار سطحية ومن مياه معالجة؟ وما الذي يضير لو أن البيوت مكنت من استعمال نوعين من المياه: مياه للطهو والشرب وأخرى للغسيل والسقي والطرد، أليس ذلك من الفرائض الغائبة؟ لماذا يشتغل المسؤولون بالتخويف السلبي؟ أليس من الأجدى أن نوعي الجاهلين، وأن نستبق كل جديد في عالم الزراعة والمياه؟ وحملة التوعية التي تقودها وزارة المياه والكهرباء بادرة طيبة، ولكنها تأتي على استحياء. وعوداً إلى أهمية (النخلة) في بلد واسع المساحة شحيح المياه نقول: إذا كانت المجاعة تهدد العالم، وتطل بشبحها المخيف على ملايين البشر فإن من بيده سبع تمرات لا يُخشى عليه الهلاك. ولقد مرت الأيام وما في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الأسودان: التمر والماء، وما شبع أهل بيته تمراً إلا حين فتحت (خيبر). لقد كانت النخلة أولى ركائز الاستقرار الاقتصادي، لطول عمرها، وقلة مؤونتها، وثبات أصلها، وحلاوة ثمرها، واحتوائه على مركبات رئيسة في الغذاء الصحي، وتحمله كل الأجواء، وطول صلاحيته. وإذا كانت الطفرة قد عدت بأيدينا وأعيننا عنها، فإن الزمن كفيل بإعادتنا إليها، وحين نعود، وقد ضيقنا عليها الخناق، ورضينا بالتصحر، لن نجد إلا التراب نسفه، كما المل. فهل يعيد المشفقون حساباتهم، وينظرون إلى الغد المخيف؟ لقد آن لنا أن نحسم أمرنا، وأن نحاصر الفوضى والارتجال، فالعصر عصر العلم والمؤسسات والتخصصات، والتوقيت والتقدير وقبول النقد والتوجيه والشفافية والمساءلة واستشراف المستقبل. ومن بطأت به غفلته واتكاليته لم يسرع به تبذيره. لنكن في مستوى مرحلتنا معرفة وثقة وحسن أداء. لقد بدأت فكرة الغرس، وفسيلة السكري تباع بثلاثة آلاف ريال، وبعد التوسع أصبحت الفسيلة بمئتي ريال، وفي ظل هذا التوسع يجب أن يضع المسؤول يده لا للمنع ولكن للترشيد والدعم وتهيئة الأساليب المفيدة للري والمعالجة والإصلاح والتسويق والتخزين والتعبئة، وتعويد الناشئة على استعمال التمر كمادة غذائية. وإذ لا نشك أن ثروة البلاد المائية تقوم على مصادر غير مأمونة وغير متيقنة وغير منضبطة، فهي إما جوفية لا نعلم حجمها إلا من خلال تحريات العلماء أو من خلال التجربة غير المعتمدة عند ذوي الشأن، أو هي مستمدة من الأمطار الموسمية غير المضمونة. يضاف إلى هذين المصدرين التقليديين مصدران مكلفان: (التحلية) و(المعالجة)، وهذه المصادر تقوم إلى جانبها معوقات، تتمثل بالجفاف والحرارة وضعف التعويض الجوفي. ومن عيوب البلاد وأهلها أنهم الأكثر استهلاكاً، والأكثر تحلية، والأرفع تكلفة، والأسرع في ارتفاع نسبة الطلب. ومواجهة هذه المعوقات بتسليع الماء أو خصخصته، وتحديد استنزافه يجب ألا يمتد إلى الزراعة، وإذا امتد التسليع للاستهلاك السكاني يجب أن تراعى الدخول وألا ينظر إلى التكلفة. وآخر شكوانا التعويل على وزرائنا ذوي الشأن، فهم أهل الصدق والإخلاص، وأهل الطمأنة. |
ليس كل ما يُثْقَفُ يلتقط..! (1-2)
د.حسن بن فهد الهويمل أخشى ما نخشاه في ظل انفتاحنا على الآخر، وتدافعنا عند عتباته، واتساع هوامش حرية التفكير والتعبير أن نكون ك(آل فرعون) يوم التقطوا (موسى)، فكان لهم عدواً وحزنا، وكم هو مفيد لو كان ما نَثْقَف من الغرب بحجم ذلك الطفل التائه في اليم، ولكنه الزبد الذي يذهب جفاء وقدر أمتنا العصيب أن مشاهدها الفكرية والسياسية والاجتماعية والأدبية تموج بالظواهر والمذاهب والتيارات والسلوكيات، وكأنها نثار أعراس يتهافت عليها الدهماء والرعاع. واستقبال المغاير فكراً وحضارة ودنية حين لا يكون المتلقي واعياً بالفوارق، يكون كحاطب ليل، يهوي بيده على كل سواد، فيعود بخشاش الأرض وهوامها، ويخطئ جزل الحطب. والراصد الحذر للحراك الثقافي والسياسي يفزعه الإعجاب المطلق والقبول المطلق، والتزكية المطلقة لكل ما هو متداول في المشاهد الغربية مما هو صالح لهم ومستجيب لحاجاتهم وإذا تهافتنا على أشيائهم غير المتسجيبة لحاجاتنا القائمة أخذناها بقوة وكأنها الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكأن قادة الفكر وأساطين السياسة في الغرب أبناء الله وأحباؤه، اصطفاهم لنفسه، وخصهم بفضائل الأعمال وروائع المنجزات، وأنهى بهم التاريخ، وعهد إليهم إنقاذ الإنسانية من براثن التخلف وقعر الانحطاط. وما الغرب في راهنه إلا متغطرس بقوته، مدل بمنجزه، نابذ لدينه المزور، مكب على شهواته، عالم بظاهر الحياة الدنيا. الأمر الذي مكنه من السيطرة على المادة التي محضها تفكيره وجهده، فيما أهمل الجانب الروحي، وغفل عما يُحييه {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}. والجانب الروحي معادل للجانب المادي، والحياة الأخرى معادلة للحياة الدنيا. وقولنا هذا لا نزكي فيه واقعنا، ولا ندخل به مع الغرب لزز التفاضل، ولكننا نصف الواقع كما هو، وواقع العالم العربي والإسلامي واقع مؤلم لا يطاق، ولكن إنقاذه لا يكون بالتخلي عن الإسلام والارتماء في أحضان الغرب، إنه شيء آخر لم يهتد إليه الظلاميون ولا المتعلمنون. لقد ألَّه الغرب عقله وأحب شهواته، ونفى ما سوى المادة، وقال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثلما أوتي الغرب. وما الغرب في علمه البحت وجده وانضباطه واحترامه لإنسانه إلا استجابة لإعداد المستطاع من القوة التي أمر بها الإسلام، وندب إليها، وفقد محاسنه التي يدل بها ويتغنى بها الظلاميون ليست لفقد مذهبه في الحياة، بمعنى استحالة تحقيق ما حققه إلا باتباع ملته. والتحذير من التهافت على قيمه ومبادئه لا يعني الاستغناء عما سبق إليه من جلائل الأعمال. ونفيه على الإطلاق كاستقباله على الإطلاق، سواء بسواء. وإشكالية المشاهد العربية أنها موزعة بين هاتين الفئتين: فئة نافية لا تقبل من الغرب لا صرفاً ولا عدلاً، وفئة مستقبلة له لا تقبل به بديلاً، ولكل فئة حجج واهية، كرسها الفهم الخاطئ للإسلام أو التمسك الأعمى بالعادات على حد {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ}. وإذ تفوق حضارة الغرب سائر المعهود من الحضارات في العلوم والصناعات والمكتشفات المثيرة للانتباه والمبهرة للعقول، وإذ تَحْكم العالم بقوة السلاح والمال والإعلام، وإذ تسومه سوء العذاب، وتقيمه على الضيم راضياً أو كارهاً فإن ذلك كله لا يعني إسقاط ما سلف أو ما هو قائم من حضارات خذلها أبناؤها، كما لا يعني تجاهل سنتي: (التداول) و(التدافع)، وإذا فاقت حضارة الغرب في فترة من الفترات، فليس معنى هذا أن يتخلى المسلمون عن حضارتهم، وبخاصة عندما تتسع حضارة الإسلام لما سبق إليه الغرب أو سبق به، ومعارف الغرب وعلومه البحتة ومنجزاته العلمية هَمُّ الحضارة الإسلامية ومبتغاها، وليس في الإسلام ما يمنع من تحقيق ما حققه الغرب من علوم وصناعات ومكتشفات، ودعاة العلمانية بالتولي والتهافت سيفقدون دينهم ودنياهم، فالحق ضالة المؤمن. وأي حق حسي أو معنوي أنجزه الغرب فنحن أحق به، وأقدر على تحقيقه، ومن ثم يجب أن نبادره مستصحبين كتابنا وسنة نبينا، لنأتي بمثله أو بأحسن منه، وليس هناك ما يمنع من الاستفادة عبر أي طريقة مشروعة، بل ليس هناك ما يمنع من التتلمذ على الغرب، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أناط تعليم أبناء المهاجرين والأنصار بالأسرى من المشركين. إن علينا أن نصالح، وأن نعايش، وأن نبعث الثقة فيمن حولنا من الحضارات والمدنيات، لنبلغ ولو آية، ولنستفيد من منجز الآخر. وإذا قبلنا من الغرب ما أنجز من علم بحت، أو وسيلة إجرائية، أو منهج معرفي، ثم اختلفنا في حكم شيء منه، وجب أن نرده إلى الله والرسول، بحيث لا نقع تحت طائلة المسخ، ولا نعرض أنفسنا لنواقض الإيمان. إن في ديننا فسحة، لو عرفناها لاستوعبنا كل جميل في حضارات الغير. إذ كل علم نافع أو عدل شامل أو حرية منضبطة، تنطلق من الإسلام وتعود إليه، والجهل والظلم والعبودية مقترفات لا يقرها الإسلام، ومن أراد العزة فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. ومما يثير تخوفنا الاندفاع غير المحسوب، وتلقي ما لا حاجة لنا به من علوم نظرية، أو تبني مذاهب فكرية، لا يستقيم أمرها مع مبادئ الدين الإسلامي، وذلك ما نراه حاضر المشاهد كلها. فما استقبلنا من الغرب مصانعه ولا معامله ولا مختبراته وما حصلنا على شفرات علومه، وما أفاض علينا إلا ما يفسد أفكارنا وأخلاقنا، و(العولمة) التي ينفذ بها عبر كل وسائل الإعلام ووسائط الاتصال لا (تعولم) إلا الأفكار والفنون والآداب والألعاب والأخلاق، وتلك لا تصنع آلة ولا تقر نظرية، أما العلم فحق خاص لا تجوز الإفاضة به على أحد، وكأن الله حرم ذلك على المسلمين فأمسكوا به وأسروه بضاعة، وما نقمنا من دعاة التنوير إلا قبولهم بنفاية الحضارة وسقطها. والمتابع للطرح الإعلامي يروعه ما يرى وما يسمع من تحولات موجعة وانسلاخ معيب. وإذا قوبلت هذه الانهيارات بالموعظة الحسنة والدفع بالتي هي أحسن، لويت أعناق النصوص، وحُمِّل المستدرك ما لا يحتمل، وقُوِّل ما لم يقل، واشيع عنه أنه خائف متخلف، وأنه رجعي مثبط، وما هو كذلك. فالمسألة ليست في تقبل ما عند الغرب من حقائق علمية، وليست في العمل على إقالة عثرة الأمة الاسلامية والأخذ بيدها من قعر تخلفها، المسألة في التبعية المخلة بالأهلية، وفي الانسلاخ من القيم الفكرية والأخلاقية، وفي الوقوع تحت براثن الغرب، وممارسة الثقافة المتذيلة ثقافة الانبطاح وإذلال النفس. وتلقي سائر الظواهر المتداولة في المشاهد الغربية على إطلاقها مظنة الفساد والضياع، والمتداول يؤكد ما دعى إليه أساطين الاستغراب ورؤوس الفتنة، فالتنوير الغربي يتبناه من لا علم عنده ولا نباهة، والصحوة الشرقية يضطلع بها من لا فقه عنده، والدهماء أشتات بين سراب القيعان فالقائلون عن (حقوق المراة) وعن (الديمقراطية) وعن (الليبرالية) وعن سائر القضايا والظواهر المتداولة دون تحديد قول زائف موغل في الضياع. وكيف يسوغ لمفكر مسلم محكوم بعقيدة، ومقيد بنص، ومخلوق للعبادة، ومستعمر في الأرض أن يسترفد المستجدات في مختلف المعارف النظرية، ثم لا يعرف أنه ينتمي إلى حضارة ذات شرعة ومنهاج. إننا مع (حقوق المرأة) التي كفلها الإسلام. والمعضلة ليست في المعية، بل هي في نوع الحقوق، ومدى تعارضها مع القوامة والطلاق والتعدد والإشهاد والإرث وسائر الأحوال الشخصية. فالمرأة في النهاية محكومة بما شرع الله لها، وتحفظنا على المختصمين حول المراة في غياب ما شرع الله، واستنكارنا لوضع المرأة في الغرب لا يعني حسم القضية لصالح الرجل، والمدافعون عن (حقوق المرأة) ممن يصفون أنفسهم بالتنويريين لا تقبل دعوتهم على إطلاقها، وإذاً فلا بد من تحديد المطلوب واستشعاركم هو الفرق بين المباح والمتاح، وفقه الأحكام، وفقه الواقع، فما هو مباح شرعاً قد لا يكون متاحاً واقعاً، وعند تنازع المباح والمتاح لا بد من الرجوع إلى المؤسسة الدينية لتمارس حقها في ذلك. والقول في الشأن النسائي قول في الوقوعات، وليس قولاً في النظريات والمبادئ، وليس أدل على ذلك من استياء أحد المتحدثين عبر منابرنا من اتخاذ صالتين إحداهما للرجال والأخرى للنساء، وتصوره أن مثل ذلك إهانة للمرأة وشك في صلاحها وحماية نفسها. والدين الإسلامي يمنع الاختلاط وقاية، ويمنع الخلوة حماية، وقصة (يوسف) وحديث (الإفك) دروس حية، وما دام أن الفائدة بالفصل والتفريق حاصلة، وأن الطرفين يتبادلان الآراء حول مجمل القضايا دون اختلاط مثير للشبهات فإن المصير إلى تلك الدعوة مدعاة للهم أو للشك، وليس شرطاً أن يكون الإضرار في ذات الاجتماع. فالاختلاط المنضبط يجر إلى اختلاط غير منضبط. والعزل بين الرجال والنساء مطلب إسلامي، حتى لقد أوصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بين الأبناء والبنات في المضاجع، فهل هذا التفريق يعد اتهاماً للأبناء والبنات الأشقاء، أم هو درء للمفاسد؟ وكذلك حين قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن (الحمو) إنه النار، فهل كل شقيق يحتمل تعديه على زوجة شقيقه؟ إن الخلوة والاختلاط والتبرج بدايات الفتنة والمفسدة، والذين يلوحون بالمطالبة، لا يحددون المطلوب، ولا يعرضون للمفاسد القائمة، والإطلاقات المجردة في قضايا حساسة تثير الوحشة والتخوف، والعاقل من وعظ بغيره. إن اتخاذ الاحتياطات لا يعني الاتهام، والأنظمة والضوابط والرقابة والمساءلة ليست مدعوة ولا داعية للاتهام، فمن أمن العقاب أساء الأدب، والمال السائب يعلم السرقة، والله يقول: (ولا تزكوا أنفسكم) والإنسان معرض للفتنة، وعليه ألا يعول على ثقته بنفسه، ويوسف قال لربه: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}. فالمفاسد الأخلاقية لم تنشأ إلا من التزكية التي ليست في محلها، ومن الثقة التي لا مكان لها. ولقد سئلت مذنبة عما حملها على التمكين من نفسها، فقالت: قرب الوساد وطول الرقاد. وبصرف النظر عن (قضايا المرأة) فإن كثيراً من المتعاملين مع المصطلحات والقضايا يتقبلونها بقبول حسن، ولا يأخذون بأحسنها، وإنما يأخذونها بحذافيرها، دون أن يضربوا أدنى حساب لحضارتهم المغايرة، ولو أنهم حين تلقوا ركبان المصطلحات في مختلف حقول المعرفة الإنسانية استشعروا أنهم أهل حضارة عريقة مغايرة، تؤكد على الرد إلى نصوصها المقدسة كل ما اختلفت فيه، فيما لا ترد الحضارة الغربية المتعلمنة إلى نص مقدس. وكم هو الفرق بين حضارة لا تحيل وأخرى تحيل، وكان على الذين يدَّعون اعتزازهم بحضارتهم أن يعرفوا مقتضياتها، إنها حضارة العقل والنص، فمن غيب أحدهما فقد أخل بالمطلوب، ومن غلب العقل على النص وقع فيما وقع فيه أهل الاعتزال، ومن عطل العقل واكتفى بظاهر النص وقع فيما وقع فيه الظاهريون. إن الحرية التي يتخذها المستغربون مناطاً لخطاباتهم ولآرائهم حريةٌ غير منضبطة، فيما تأتي الحرية الإسلامية محكومة بضوابط، وإذا عوَّل أحد على الحرية فإن واجبه أن يفرق بين الحرية كما يراها الإسلام والحرية كما تراها الحضارة الغربية، وإذا طالب أحد بحقوق المرأة فعليه أن يسبق بتحفظاته على ما هو قائم من تبرج واختلاط وخلوة لا يقرها الإسلام. وليس في ذلك القيد الإسلامي معوق عن الأخذ بما ينفع الناس من أمور دينهم ودنياهم. إذا لم نر الإسلام يمنع من علم ولا يحول دون عمل، لا في حق المرأة ولا في حق الرجل، وإذا تحفظ على شيء من ذلك فإنما هو من باب سد الذرائع ودرء المفاسد، وكيف يكون ذلك وهو الداعي إلى إعداد القوة والسعي في مناكب الأرض؟ ولمزيد من الحرية قال الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (أنتم أدرى بأمور دنياكم) وقال: (استفت قلبك). والدراية والاستفتاء رهينا المقتضيات والمقاصد الإسلامية، وليسا مطلقين، وعلى المسلم أن يستشعر القول الثقيل والمكاره التي حفت بها الجنة، فالإسلام ليس ادعاء يطلقه الإنسان، إنه اعتقاد وقول وعمل. |
ليس كل ما يُثْقَفُ يلتقط..! 2 - 2
د.حسن بن فهد الهويمل والتعالق مع المصطلحات الفكرية والأدبية والسياسية الخالصة، والمصطلحات التي يتنازعها أكثر من حقل معرفي يحتاج إلى معرفة تامة بظروف تشكلها، وجذورها الفلسفية والفكرية، والتحولات التي طرأت عليها عبر تحركها التاريخي والنوعي، واختلاف المفكرين في حضارة المنشأ حول الشمول والمحدودية والمفهوم، والإلمام التام بمقاصدها، ومدى توافقها أو تعارضها مع حضارة الجالب. فما كل مصطلح قابل للجلب، وما كل مصطلح مستحق للنفي. فكل حضارة ترث أو تقترض ما يناسبها من الحضارات السالفة أو المجايلة، وكل نص يعيش في ظلال نصوص حاضرة أو غابرة، وكل مفكر لا ينطلق من فراغ، إنه محصلة مقروءة، وابن بيئته الفكرية والسلوكية، وربيب حاضرة، وقد قيل: - (قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت). وما شقيت الأمة إلا برجلين: رجل يقول: كان أبي. ورجل يقول: كان الغربي. وكأننا بأمس الحاجة إلى القول: خلّ كان (فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس). ومن تصور أنه بفكره أو بحضارته بريء، فقد وهم، وما بعث الرسول إلا ليتمم مكارم الأخلاق. والعقلاء الواعون يعرفون حواضن المصطلحات، فما من حضارة إلا هي آخذة بنواصي مصطلحاتها، وهو أخذ يدع بقية لمصطلحات أخرى، وقد يكون المصطلح ذا شقين: (أيديولوجي) لا يصلح إلا للحضارة المنتجة، و(إجرائي) صالح لكل حضارة. ولو ضربنا الأمثال ب(الديمقراطية) و(الليبرالية) لوجدناهما ينطويان على المبدئية والإجرائية، ومن ثم لا يجوز التبني المطلق، ولا النفي المطلق. ف(الديمقراطية) (أيديولوجيا) تحيل إلى الشعب لِسَنِّ أي شرعة أو منهاج، وهذا الجانب (الأيديولوجي) الذي لا يجوز القبول به، ذلك أن (الإسلام) يحيل إلى النص والعقل المؤول، و(الديمقراطية) بعد تشريع الشعب، لها آلياتها ووسائلها وأسلوبها الإجرائي ومؤسساتها (البرلمانية) و(النيابية) وطرائق الوصول إلى السلطات التشريعية والتنفيذية. وكل هذه لا أجد فيما قرأت محرماً على أحد الأخذ بشيء منها. أما (الليبرالية) فموقف وممارسة، وتلك قد لا تكون خاضعة للتفصيل، لأنها أشبه بالكل الذي لا يتجزأ، ولنا عودة مفصلة عن تذبذبها بين الفكر والإجراء. وما نراه من تعالق واستفادة لا يكون شيء منه ما يفعله دعاة التنوير الشاربون لطفح الغرب شرب الهيم. والمتعالقون مع المصطلحات أوزاع: فالبعض يظن أنه بالإمكان التوفيق أو التلفيق بين سائر المصطلحات، دون استثناء، والبعض الآخر يرى أن ذلك ممكن مع المصطلحات المتناظرة، وهو ظن قد يردي صاحبه من حيث يدري أو لا يدري، وطائفة أخرى لم تكن على شيء من المعرفة ولا على شيء من التأصيل ممن بهرتهم المكتشفات والمنجزات، يستبقون القبول بالمصطلحات دون انضباط. وإذا قيل لهم: إن المصطلح لا يخلو من وضر الحضارة المنتجة. قالوا: إنه إجراء يأخذ حكم الوسيلة. أو قالوا: إنه بالإمكان إفراغ المحتوى وملؤه بما يناسب الحضارة المستعيرة، ولسان حالهم يقول: - (إنما نحن مصلحون) والحق أنهم مفسدون ولكن لا يشعرون. وحتى مع إمكان ذلك، فإنه ليس من الرشد قمع الذات عن المبادرات، متى كان بالإمكان سك المصطلحات العربية المستجيبة للنوازل. فما الذي يمنع أمة الإسلام بكل ما هي عليه من ثروة علمية وفقهية وفكرية وعراقة تاريخية أن تسك مصطلحاتها، وأن تنجز مفاهيمها ومقتضياتها. وإذا وجدت الفائدة في مصطلح غربي، ثم لم تكن هناك محاذير، فلا بأس من الترجمة ما أمكن ذلك أو التعريب أو النقل في أضيق نطاق، وإعطاء المصطلح مقتضيات لا تناقض الحضارة المسترفدة. وإذ يدعي بعض المستغربين أن هناك مبادئ وإجراءات ووسائل لا يُحسن فهمها ولا التفريق فيما بينها إلا أولو الألباب، وأن المعترضين يجهلون الفروق بين المبادئ والإجراءات، وهي واضحة، كالمحجة البيضاء، فإن على المتهافتين على لعاعات الغرب والمتأبين عليه علواً واستكباراً أن يتخلصوا من المستغربين، وأن يستنوا لأنفسهم طريقاً قاصداً ينبذ إلى الآخر على سواء، ثم لا تكون مصائر الأمة على قادة الفكر غمة، واستمراء التنابز لا يدفع غوائل الفرقة، والتبصر بالأمور يحول دون التهالك الماسخ أو التمنع الحارم. ولن يكون التوفيق الحكيم إلا بالتأصيل والتأسيس لسائر المفاهيم، وتحرير المسائل، بحيث تكون ماثلة للعيان، لا يختلف في فهمها اثنان. وربط مصالح الأمة المصيرية بالمؤسسات العلمية المتخصصة، فما عادت المبادرات الشخصية مجدية، وعلى كل الأطراف أن يعززوا آرائهم بالبراهين القطعية الدلالة والثبوت. وليس من حق أحد الاكتفاء بالتسفيه والتجهيل لمن خالفهم. وما من متابع لجدل (الغربنة) و(العوربة) إلا ويدرك الفرق بين المبادئ والوسائل، والإحالة إلى عجز التفريق حجة أوهى من بيت العنكبوت، والمتمسكون بحق الكينونة السوية يؤكدون على أن المبادئ لا يجوز المساس بها، ولا الخروج عليها، أما الوسائل فإن من حق المتمسك بمبادئه أن يتخذ منها ما يراه مناسباً، لتمثل هذه المبادئ وتطبيقها. ولكن مثل هذا القول يحتاج إلى تفصيل وتحفظ وتحديد، ولا يجوز إطلاقه على عواهنه. فالوسيلة تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة. فلو ضربنا مثلاً بمصطلح (الليبرالية) الناسلة من رحم الاقتصاد، والممتدة إلى الدين والسياسة والاجتماع كما (العولمة) لوجدناه يقدس الفردية والحرية المطلقة ويتخذ العنف سبيلاً لتحقيق المراد كما (الوجودية) القائمة بكليتها على الحرية الفردية التي لا تحيل إلى ضابط نصي، فيما تقوم الحرية في الإسلام على ضوابط لا يجهلها إلا الأوباش، ومن ثم فليس هناك إمكانية للقبول بهذا المصطلح على إطلاقه، وإن عدّه البعض وسيلة لا مبدأ. والحق أن (الليبرالية) (أيديولوجية) في الأساس، وقد أحيطت بآليات تنفيذية، والرجوع إلى المعاجم والموسوعات المترجمة تؤكد ذلك. ويقال مثل ذلك عن (الديمقراطية) إذ لها جانبان: - مبدئي وهو الرد إلى الرأي العام، وإجرائي وهو تطبيق العدل والحرية والمساواة عبر مؤسسات وكيانات، وعلى ضوء ذلك يمكن الاستفادة من آليات الغرب ووسائله وإجراءاته، فهي من ظاهر الحياة الدنيا، ومن أمور دنيانا التي نحن أدرى بها. ولسنا نشك أن الحضارة الإسلامية مرت بحالات خلط عجيب بين المبادئ والوسائل، وأن الخلافات تراكمت حول ذلك، الأمر الذي أدى إلى تخلف ذويها وابتعادهم عن كتابهم المحكم، وكلما ابتعدت الأمة أو تعرضت لتخلف وضعف وضلال تداركتها عناية الله، ولقد طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأنه على رأس كل مائة سنة يبعث الله من العلماء والمصلحين من يتعقب تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ويتصدى للجدل العقيم، وينفي ركام الخلاف البيزنطي. ومع الوعد بتعاقب المصلحين فإن هناك تطميناً آخر، يتمثل بالفئة المنصورة التي نرجو أن يكون كل من يشهد أن لا إله إلا الله، ويحيل إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم منها. وإذا سلمنا بوجود المماحكين المغالين في الدين، الذين يخلطون بين المبادئ والوسائل، ويحرمون ما أحل الله، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، فإننا لن نسلم لمن يتخلون عن المبادئ بإخضاعها لوسائل لا تناسبها. فحين يقول قوم ب(الاشتراكية) أو ب(الليبرالية) أو ب(العلمانية) السياسية بوصفها وسائل وتطبيقات فإن ذلك يعني التخلي عن مبادئ إسلامية قائمة، تغني عن مبادئ الغرب والشرق. كما أن هناك وسائل وإجراءات مغايرة ومغنية أيضاً، وليس من الحكمة أن تنسلخ الأمة من فكرها السياسي، وتحل فكراً آخر مع إمكان الاستفادة المحدودة، مع الاحتفاظ بجذور الفكر السياسي الإسلامي. ولقد غُرِّر بعدد كبير من العلماء والمفكرين والأدباء إبان الحروب الباردة، فقيل عن اشتراكية (أبي ذر)، وقال (شوقي) يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: - (الاشتراكيون أنت زعيمهم)، وكلما اجتاحت المشاهد العربية لعبة سياسية، نهض السرعان من المتعالمين لاستقبالها، وتبنيها، وشرعنتها، حتى كادت تتحول مشاهدنا إلى أمكنة يكون العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان. وإذا كان المفكرون قد آذوا وأوذوا في سبيل مبادئهم، فإن نقاد الأدب ومنظريه قد عانوا مثل ذلك لقد فرق شملهم، وشتت جمعهم ما جدّ من مصطلحات غربية، لم يفهمها الداعون إليها، ولم يحسنوا التعامل معها، والمشاهد الأدبية ملئت بالمترجم والمنقول والمعرب ك(البنيوية) و(التحويلية) و(التفكيكية) و(النقد الثقافي) وما درى المستغربون ما هي عليه من أفكار ومقاصد، لا تناسب القيم الحضارية للأمة العربية، وكلما خبت نارها في بلد المنشأ نفخنا رمادها التماساً لجذوة أو قبس، ثم لا يكون نصيبنا إلا الرماد الذي يعشي العيون، ويزكم الأنوف. وأمام طوفان (الاشتراكية) يوم إقامتها، جاء من يحاول التوسط، فكتب البعض عن (التكافل الاجتماعي) وعن (العدالة في الإسلام). وعند طغيان أي مذهب ترانا نتزلف إليه، وندعي أن في ديننا ما يشابهه، وما كان أحرانا بالثبات والثقة بعقيدتنا، والاشتغال بهمومنا، والأخذ من الغير بعزة واقتدار، دون تملق أو اعتذار. وفي مجال الأدب استعيدت نظرية (النظم) الجرجانية، لتكون في مواجهة (البنيوية) والفرق بين الظاهرتين واضح. فنظرية (النظم) أسلوبية بيانية خالصة، فيما تأتي ل(البنوية) أمشاجاً بين الفلسفة واللغة ممتدة إلى النقد بعد أرذل العمر، والتهافت غير الواعي مظنة الضعف والتهالك، وتلك الممارسات رققت تلك المبادئ وطوعت الأذهان لها. وحين سقطت الشيوعية وانقض سامر (البنيوية) سقط معها ركام هائل من الكتب والدراسات والتوفيقات والتلفيقات التي نشأت في ظلها، وماتت معها، كما الأجنة في أحشاء الحيوانات الميتة. ولك أن تقول مثل ذلك عن (الوجودية)، لقد استخفت بعض أساطين الفكر الحديث أمثال (عبد الرحمن بدوي)، حيث نهض بها، وادعى أنه ابن بجدتها، وترجم لنفسه في موسوعة الفلاسفة على أنه زعيم الوجودية العربية. وحين خبت نارها، بقيت الكتب والدراسات تمثل مرحلة تاريخية، تدين الواقع العربي الذي يرقب القادم من الغرب، لينهض إليه، ويمنحه الشرعية. ولقد أحس (بدوي) باندفاعه، فراح يكتب عن القرآن والحديث والرسول، ليكفر عن ذنوبه، وإن قيل إنه بما يكتب عن الإسلام يتعرض لجائزة الملك فيصل. والمستعرض للمشاهد السياسية والأدبية والفكرية تمر به مذاهب وتيارات استنفرت كل الجهود واستنزفت كل الطاقات، وفرقت بين الأخ وأخيه، ثم انقض سامرها، وخوت على عروشها، وأصبحت كأعجاز نخل خاوية، تحكي التفاهة والتسرع والتبعية. وكل الذين أفنوا زهرة شبابهم في ترويض الرأي العام لكل وافد، انقلبوا على أعقابهم، وأدى ذلك إلى اضطراب فكرهم، والتياث آرائهم، وفقد مصداقيتهم. لقد استقبلنا تلك المصطلحات بذات الجهد وبذات الإمكانيات، واستفدنا منها، وما سلمنا لها القياد، وحين ثوت في مشاهد الأدب، لم يضرنا ذلك شيئاً، لأننا لم نضع بيضنا في سلالها، كما فعل غيرنا. وإذا احتملنا على مضض فلتات الألسنة من أبناء جلدتنا، وأحسسنا الظن بهم، وترقبنا أوبتهم إلى طريق الرشاد فإن من التفريط أن نحتمل فلتات من وافدين لا يدرون ما مقتضيات الكتاب وما نواقض الإيمان. وما أضر بنا إلا وافد حركي يؤز الشباب حتى يخرجهم عن مسارهم السليم، أو مقيم متفلت على الالتزام، يلتف حوله من لا يعرف حدود ما أنزل الله، فهذا وذاك، يتساوى ضررهم، لأن الحياة الفكرية قل أن تتخلص من الفعل ورد الفعل. فالمتشدد والمتفلت صنوان، وقولهما مدعاة إلى تمزيق الوحدة الفكرية للأمة. لقد تحولت مشاهدنا إلى ساحة للسمسرة، أفقدها الثبات والتأصيل، وفوت عليها فرصة التأمل وتلاقح الأفكار. فأين (الرومانسية) و(السريالية) و(الحداثة) و(البنيوية) وها نحن في أوج القول عن (العولمة) و(الليبرالية) و(حقوق المرأة) وفي المقابل القول في (الجهاد) و(البراء) و(الولاء) و(بلاد الكفر) و(الذمي) ولقد قيل عن دين (البحتري) الذي تحول من (القدرية) إلى (الاعتزال) ومنهما إلى (السلفية): - (هذا دين سوء يدول مع الدول) (أخبار البحتري) (للصولي) (ص123). ومصائبنا المصمية أننا لا نتعظ، ولا نعتبر، ولا نستفيد من الإخفاقات، ولا نلتفت إلى الوراء منذ أن عاد (الطهطاوي) خالعاً العمامة ومعتمراً القبعة، ومنذ أن تلقف الراية منه لفيف من العائدين من الغرب أو القارئين للمترجمات، والأمة مع هذه الأمواج البشرية الممسوخة في بوار، وليس فينا رجل رشيد، يستعرض اللعب والخدع، ويسائل الذات عن مقترفاتها، ويقوِّم المنجز، وكل حياتنا تهارش حول ملمات ليست في العير ولا في النفير. ومثلما يقال عن المستغربين يقال عن سائر الحركات الفكرية والدينية، فكل طائفة لا تحسن إلا تزكية نفسها، والله يقول: - {..فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. إن المفجوعين بتخلف الأمة العربية لم يدعوا فرصة للمراجعة والتأمل بل اهتاجوا كما المرتاع الأعزل، وما أرداهم إلا ظنهم السيئ بالإسلام، فلقد استحوذ عليهم المستشرقون بما يشيعونه من اتهامات جائرة ضد الإسلام، وما (العلمانية) و(التنوير) إلا بعض ما أسر به المبشرون والمستشرقون لمن تبعهم من المرتابين والجهلة والمتسرعين ومرضى القلوب. ومعالجة أوضاع الأمة لا تصلح بالإطلاقات والتعميمات، لابد من قانونية اللغة، وتحديد المراد، فالزمن لا يحتمل الإطلاقات، إنه زمن يملؤه دخن الفتن. وما علينا من بأس حين نوجه سؤالاً لأولئك المتحمسين ممن يعدون أنفسهم بالتنويريين وممن ينحون باللائمة على من سواهم لنقول لهم: - ما المبادرة الفكرية أو العلمية أو الأدبية أو السياسية التي قلتم بها ثم لم تكن بضاعة غربية ترد إليه؟. ثم ما الخطاب الفكري أو الأدبي أو السياسي الذي استقر في المشهد، وآتى أكله ووجد فيه العامة خلاصهم؟. |
ويسألونك عن (الليبرالية) 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل - أما قبل :- فإن التناوش مع المصطلحات السابحة في سماء المشاهد العربية كما الجراد المنتشر، يستدعي التأكيد على حرية التفكير والتعبير، والأخذ بما جد من أمور الحياة الدنيا، وتفضيل حوار الحضارات على الصدام، وقبول السلطة، ورفض الاستبداد، والإذعان لحاكمية الدين، والتحفظ على تسلط المتدين، واستباق المنجز الإنساني الذي تقوى الأمة به وتستغني، والجنوح للسلام دون الاستسلام، والفصل بين العنف والدفاع المشروع، والإيمان بسنة التدافع والتداول، والنظر إلى الغرب بوصفه موضوع درس لا منجم استرفاد، وتفادي الخلط بين المبادئ والوسائل، والأفكار والعقائد. وعلى ضوء ما سبق فإن رؤيتي ليست حدية حادة، ولا ثنائية صارمة، بحيث لا تقبل الوسطية ولا المنطقة الرمادية، وبهذا الانفتاح أرفض تمييع الإسلام، وتلميع الطغام، والانفلات والركون والمداهنة، وإعطاء الدنية في الدين، وأجتهد ما وسعني الاجتهاد لمعرفة حدود ما أنزل الله. - وأما بعد:- فكم يثار بين الحين والآخر جدل صاخب حول مقتضيات المصطلحات المنقولة أو المترجمة أو المعربة. وهو جدل يمس التفكير، ويؤثر على المواقف والمبادئ، وليس هو من باب الاختلاف المعتبر. وكل الذين يخوضون في مصائر الأمة، ثم لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، يثيرون اشمئزاز الرأي العام، ويشدون أعصابه، وقد يدفعون به إلى الاحتقان المخيف، ومن لم يتلطف في خطابه ويلن، ينفض الناس من حوله، حتى ولو كان رسولاً من أولي العزم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}. ومن لم يحسب للرأي العام حسابه، فإنه يعرض نفسه للإيذاء، (ومن هاب الرجال تهيبوه). والمشاهد الفكرية والسياسية والاقتصادية والأدبية تموج بالنقائض والنقائص، وإشكالياتها أنها مشرعة الأبواب منتهكة الحمى، فكل من عن له أن يثير الزوابع، أطلق لسانه وأجرى قلمه. وقد لا يكون الرأي العام واعياً للأهداف والنوايا والمقاصد، فيصبح كموات الأرض يحييها السابق، وما من متعقب لفلتات الألسنة، مصيخ للحن القول إلا ويصاب بالإحباط. فالرأي العام كما الشعوب والقبائل: إما أن تتعارف وتتقارب. وإما أن ترتاب وتتنافر. وذهنيته مرتبكة وسط ضجة السمسرة. وهو: إما موغل في الدين بعنف، مارق منه كما السهم يمرق من الرمية، يرتاب من كل صوت، كمن يحسب كل صيحة عليه. أو مبرمج تمر به المواعظ كما قطر الماء على الصفا. أو متسرع تجمعه الطبلة، وتفرقه العصا، يوفض إلى كل بارق. والطامة الكبرى ان يتحكم الهوى في النخب، حتى لا يكون لصحيح المنقول ولا لصريح المعقول دور في تشكيل الوعي. وما أضل الناس إلا اتباع الهوى، حتى لقد اتخذه البعض إلهاً. والذين يلتقطون المصطلحات من أفواه الإعلاميين، يظنون كل الظن أنها القول الفصل الذي يقطع قول كل خطيب، وبهذه المصدرية المدلِّسة تشكل مثقفو السماع، وبهم شُغلت المشاهد. ولو عاد المختصمون إلى المعاجم والموسوعات والدراسات: التاريخية والتحليلية والنقدية، لعرفوا أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يعقلون. وإذ تكون مشاهدنا حلالاً للطير من كل جنس باسم حرية التعبير، فإنها مشروع لفتنة عمياء، تؤدي إلى اختلال الوحدة الفكرية. ولو استأثر بالمشاهد أهل الذكر ممن نفروا للتفقه في الدين والسياسة والفكر والأدب لما اتسع الخرق على الرقع. ولو ان المبتدئين أعطوا القوس باريها، وأذعنوا للمؤسسات الكفيلة بتداول الآراء وحسم المواقف، لكان خيراً لهم. وليس من بأس أن تكون المشاهد مهيأة للاختلاف والتساؤل المشروع، ولكن البأس كله أن يجهل الناس ما هم عليه من فوضوية، ثم لا يبادرون إلى ايقاف التدهور. ومن جهل حاله استفحل به المجهول، حسياً كان أو معنوياً. فمريض الجسم ليس بأخطر من مريض القلب، ومن فاته التشخيص، أو جاء خاطئاً، فاتته فرص المبادرة لتلافي النقص. إن هناك اختلافاً ظاهر العوج بين أساطين الفكر المنتج لهذه المصطلحات، حتى لقد نسبت (الليبرالية) إلى ثلاثة من أساطين الفكر، لكل واحد منهم رؤيته: (جون لوك) و(جان جاك رسو) و(جون مل) حتى قيل:- (الليبرالية اللوكية) أو (الروسوية) أو (الملية). وهذا التنازع في حقل الفكر وبين أهلها، فكيف به في الحقول الأخرى، والحضارات المسترفدة، والقراء المختلفين، والمتعقب المقتدر يقف على آراء مجتثة، ما لها من مرجعية. ونظريات التلقي العربية غير بريئة، ذلك أن لها انتماءات متعددة، حتى داخل الفكر الواحد، وهذا الاضطراب يؤدي إلى اختلافات بعضها فوق بعض، كما الظلمات. وقضاء الأمة العربية أن مشاهدها مسرح للحرب الباردة بين الشرق والغرب. وهي اليوم مسرح اللعب التي تنفذ بالذخيرة الحية. والراصد للحراك الفكري والسياسي والثقافي يروعه ذلك الجدل المحتدم حول سائر المفاهيم. وجدلية المصطلح وإشكاليته كما القتيل الذي ضاع دمه بين القبائل. وطوفان المصطلحات النافذة إلينا بفوضوية، تحتاج إلى مؤسسات متخصصة تنقب في أحشاء المستجد، ثم تعمد إلى توحيد الترجمة أو النقل أو التعريب، تفادياً لوقوع الأمة في فوضوية المصطلحات، وهي بانغماسها إلى الأذقان في تلك الفوضى المستحكمة قد أصبح أمرها عليها غمة. وإذ يكون المصطلح المجلوب ناتج حضارة مغايرة، فإن له دلالته ومقتضاه ومراحل تحولاته، والمؤصل العربي يجب أن يضع كل الاعتبار للجذور والمنابع، وإن كان عشاق (الليبرالية) قد تلمسوها لدى فلاسفة اليونان قبل الميلاد، وهو إغراق لا مبرر له. ومتى هيئت المؤسسات المتخصصة والمطاعة لتلقي المصطلحات ودمجها في الحضارة المستقبلة، كان من أوجب الواجبات أن يعرف أساطين الحضارة المتلقية المقتضى الأصلي والدلالة المحدثة. وليس في الاقتراض والتعالق الواعيين ما يعيب، فكل الحضارات تتفاعل مع بعضها، ويرث بعضها بعضاً، وتماس الحضارات عند تفاوت الإمكانيات قد يؤدي إلى التأثير السلبي، وذلك ما تعانيه الحضارة الإسلامية في راهنها بمواطأة من أساطين الفكر المستغرب. وواجب المتلقي أن يعرف القواسم المشتركة، بحيث لا يتجاوز المباح، ولا يقصر دونه. ولقد أتيح لي الظفر بكتاب (مقدمة في علم الاستغراب) للدكتور (حسن حنفي)، الذي استهله بحديث (التبعية) وقال معلقاً بما يجب أن يكتب بماء الذهب:- (قد يعطي هذا الحديث الذي يقوم بديلاً عن الإهداء إيحاء بأنني رافض للغرب، متقوقع على الذات.. ولكني فقط أدعو إلى إبداع الأنا في مقابل تقليد الآخر، وإمكانية تحويل الآخر إلى موضوع للعلم بدلاً من أن يكون مصدراً للعلم). ونحن في زمن الانكسارات، لا نتطلع إلى موضعة الغرب، ولا نستنكف من أن يكون مصدراً للعلم، وإنما نتواضع إلى أبعد الحدود، ونعطي تنازلات لا مزيد عليها، ونرضى بأن نتلقى علومه، بدل أن نتلقى آدابه وفنونه ومعارفه الإنسانية وعاداته، فالحضارة الغربية ذات شقين: (علوم بحتة) و(معارف إنسانية)، وحاجتنا إلى الشق الأول دون الثاني. وإذا وجدنا في وسائل الشق الثاني ما يوفر الجهد والوقت والمال ويحقق أفضل الخدمات، فليس في ذلك ما يمنع من الاستفادة على أضيق نطاق، ودون تهافت أو انبهار. وعيب المستغربين أنهم تركوا ما هم بحاجة ماسة إليه، وركضوا وراء سنن من عاصرهم يتبعونها حذو القذة بالقذة. وما أحوجنا إلى إعادة النظر في علاقتنا مع الغرب، فنحن في أمس الحاجة إلى أشياء كثيرة سبق إليها. وغباؤنا المعتق حملنا على ترك ما نحن بحاجة إليه، والإقبال على ما ليس لنا إليه حاجة، ولا أحسب الغرب غافلاً عن هذا التصرف الأرعن. إن تغريره وتصديره لضريعه الاستهلاكي الذي يسمن الأجسام ولا يقني الأجيال جزء من اللعب والغزو والتآمر، وأعجب العجب تداول مصطلح (عقدة التآمر) بين المستغربين، لشرعنة الركون إلى الغرب وموالاته، حتى لقد أصبح البعض يرى الغزو والتآمر دعوى زائفة. والمستفيض إلى حد التواتر أن الغرب لا يريد لنا أن نتعلم صيد السمك، ولكنه يريد أن نتناولها عن يد ونحن صاغرون، إذ لا يريد الندية ولا التكافؤ ولا الاستغناء. لقد أطلت التوطئة، لعلمي أن المصطرعين في المشهد السياسي، سيفترون الكذب، ويشيعون حرصنا على القطيعة والصدام وحجب الرؤية والانكفاء على الذات. وما كنا متحدثين عن المصطلح الضجة، حتى يتبين الموقف المعتدل من الآخر. ومصطلح (الليبرالية) كمصطلح (العولمة) بدأ اقتصادياً، ثم تحول إلى السياسة والاجتماع، وكل مصطلح يبدأ متواضعاً ومحدوداً، حتى إذا تداولته المشاهد، أصبح كما كرة الثلج، تكبر في كل دورة، حتى تبلغ العنان، ف(الليبرالية) الاقتصادية: مذهب يدعو إلى الحرية الكاملة سعياً وراء امتلاكه قوة المنافسة والمزاحمة. فدعاته يريدون من السلطات المعنية ترك المبادرات الشخصية تمارس حقها التجاري بحرية تامة، بحيث تحقق مصالح الفرد والجماعة في آن، بوصف الاقتصاد ملكاً للأمة، ودور الفرد تحريكه ليس غير. و(الليبراليون) الاقتصاديون ضد أي تدخل، يعكر صفو الحركة الاقتصادية، كان ذلك الهاجس مبدؤه ومبلغ دلالته، ومع الأيام تغير، وتعددت حقوله. أما عن ظروف تشكله: فقد قام صراع أو تبادل مواقع بين ثلاثة مفاهيم متعلقة بالاقتصاد هي: (البرجوازية) و(البروليتارية) و(الليبرالية)، وذلك بعد الصراع المستميت بين (الماركسية) و(الرأسمالية) وفي ظل التنبؤ بإخفاقهما الذي تقصاه (حيدر غيبة) في كتابه (ماذا بعد إخفاق الرأسمالية والشيوعية) وهو طرح يحاول فيه استبدالهما بنظرية متوازنة، تتجاوز حتى (الليبرالية). وتعد (الليبرالية) زعزعة لما سبق، فهي تحمل أفكاراً جديدة متطورة، ذات طابع (راديكالي) وإذا قيل: (المذهب الاقتصادي الحر) فإنما يعنون (الليبرالية) الاقتصادية. وهذا المذهب لا يريد من المنظم تجاوز حد المراقبة من بُعد. ولقد حدث خلاف حاد حول مفهوم المراقبة لاستحالتها، فالمذهب (الليبرالي) ذو نزوع فردي، والمراقبة ذات انتماء جمعي، وظروف التشكل المتوترة مكنت المصطلح من الاتساع الدلالي والتحول المجالي، ومن ثم أصبحت (الليبرالية) ذات تحولات أفقدتها الموضوعية والمحدودية والثبات، حتى لقد كادت (الليبرالية) الاقتصادية تتحول إلى فلسفة في الاقتصاد، ولكل باحث فيها نظريته المغايرة، ولكنها مغايرة تبقي على المرتكزات (الديمقراطية) المتمثلة بتحكيم العقل، وتحرير الاقتصاد، وتفويض الأمر إلى الشعب. وأبرز العلماء الذين تبنوا هذا المذهب اقتصادياً وتشعبت آراؤهم:- - (أ. سميث 723 - 1790) - (بنتام 1748 - 1832) - (مالتوس 1766 - 1834) - ريكاردو 1772 - 1832) - (جون ستيورات 1808 - 1873) وكل واحد من أولئك يؤكد على الانسجام والتوافق. و(الليبرالية) في النهاية مواجهة للقوى التقليدية. - الملكية. - الكنسية. - الإقطاع. والسواد الأعظم من الحالمين بها أدركوها في خريف عمرها، ولم تمتد نظرتهم إلى جذورها ولا إلى حقولها، وما كان لديهم من الجهد والوقت ما يمكنهم من ذلك، وما كانوا يعرفون منها إلا ما تسمح به وسائل الإعلام وثقافة السماع، ولو ردوا خلافهم إلى الموسوعات والمعاجم والدراسات الراصدة والمحللة لعرفوا أن في حضارتهم ما يستجيب لمتطلبات العصر. وداء المشاهد الضحالة والتسطح والاندفاع الأهوج، وفوات التأصيل المعرفي والتأسيس الديني. والمتحفظون العلمانيون من الغربيين على (الليبرالية) يشغلهم شيئان: المجتمع المدني، والسلطة المشروعة للدولة. فيما يشغل المتدينين منهم، إضافة إلى ما سبق (الحق الإلهي). وعندما تندلق أقتابها في المشهد العربي المسلم، وتؤخذ من أقطارها، تتضاعف الإشكاليات. والمتابع لنشوء الأحزاب والمنظمات في العالم الثالث، وتذبذبها بين (الديمقراطية) و(الليبرالية) و(الدكتاتورية) و(التعددية) و(الطائفية) و(الأيديولوجية) يصاب بالذهول، ولا سيما إذا علم أن خطابات المحافل أمنياتٌ سرابية، وأن في العالم أكثر من خمسمائة حزب أكثرها في العالم الثالث، وبين الأنواع والأعداد تكمن الكارثة، وإذا كانت مشاريعها أضغاث أحلام، فإن الواقع لا يعدو تكريس التخلف وتعطيل التنمية. وعجز الثوريين عن بناء تنظيم حزبي قادر على إقالة العثرة أدى إلى إحباط وخيبات أمل متأصلة. وبالرجوع إلى كتاب (الأحزاب السياسية في العالم الثالث) للدكتور (أسامة حرب) يتبين سوء التوقيت والتقدير والادعاء العريض، ولست بحاجة إلى قراءة النتائج الحزبية فهي ما يراه العربي لا ما يسمعه، وكل حزب يصفي سلفه: وجوداً وسمعة، يقدم بين يدي خطابه حتمية (الديمقراطية) و(الليبرالية). |
ويسألونك عن (الليبرالية) 2-2
د.حسن بن فهد الهويمل وإذ تكون (الليبرالية) عصية التطويع والتحديد في المجال الاقتصادي بوصفه حقل المنشأ، فإنها في المجالات الأخرى أشد تأبياً، ولك أن تقول مثل ذلك عن مدعي الوصل بها، فكل واحد له رؤيته ومفهومه، ولا يكون منصفاً من يجعل المتبنين لها صنفاً واحداً، ولا من يتهمهم بالعمالة على الإطلاق والتعميم. أما ظهور بوادرها كمصطلح سياسي، فقد شارف حدود الحزبية في القرن التاسع عشر، ولم تكن وقفاً على مفكر واحد، ولا على فكرة واحدة، و(من هنا تبدو بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم (الليبرالية) أمراً صعباً وربما عديم الجدوى) (الموسوعة الفلسفية العربية ص 1155-2). وقد تصورها الراصدون من المؤرخين والدارسين تياراً (أيديولوجياً) لإلحاحها القوي على الحرية المطلقة من قيود المرجعية والتصدي لسلطة النظام: الملكي والكنسي. لكونها مواجهة قوية لسلطتين: السلطة السياسية، والسلطة الدينية، بوصفها حريات مقيدة. وحين تكون ردة فعل للتحكم الكنسي، أو التسلط السياسي، و(البرجوازية) الاقتصادية، فإن استدعاءها للمشهد العربي اقتصادياً كان أو سياسياً أو اجتماعياً يفترض وجود أجواء مجانسة. والمؤكد أنها لم تكن مشروعاً انقدح في الذهن، وإنما هي ردة فعل عنيف، استكملت وضعها من خلال الصراع مع القيم السائدة، والبعض تصورها مبدأً حزبياً وأسلوب تصرف، جسد ذلك (لابولاي إدوار) في كتابه (الحزب الليبرالي)، وكان من بين أهدافها المحافظة على مكتسبات (الثورة الفرنسية). والمصطلح بعد مشارفته على النضوج التنظيري، واكب أيَّ تحرف للحرية. وإشكاليته أنه يتذبذب بين الدلالة اللغوية، والمقتضى المصطلحي. وبالرجوع إلى (المورد) للبحث عن مجمل الدلالة اللغوية نجد أن الكلمة تعني: - تحرري. - متسامح. - متساهل. وبتجاوزها الدلالة اللغوية، أصبحت تعني (مبادئ حزب الأحرار). وتصريف الكلمة قد يؤدي دلالات أخرى. ولم تكن (الليبرالية) السياسية ببعيدة عن سالفتها الاقتصادية. فهي فلسفة سياسية تقوم على استقلال الفرد الذاتي، والمناداة بحماية الحريات السياسية والمدنية والدينية التي حدَّت منها مبادئ سالفة، ومع أنها ردة فعل، فقد أسست لنفسها، لتكون ذات قيم ثابتة. والهدف الأسمى لمفهومها السياسي أن يكون تدخل السلطة السياسية محصوراً في أضيق نطاق، وبخاصة فيما يتعلق بحياة المواطنين وشؤونهم الخاصة. وإشكالياتها في المجتمع الإسلامي أنها تتناقض مع الحرية الإسلامية المرتبطة بخصوصية الإسلام المحفوف بالمكاره، كما أن الحرية العلمانية لها خصوصية العلمانية، ومن الصعوبة بمكان الجمع بين المفاهيم المتناقضة، إلا إذا تنازل أحد الطرفين عن خصوصية حضارته، وذلك مكمن الخطورة. ف(الليبراليون) يرون أن مصلحة البلاد تقوم على العفوية، وأن مهمة الدولة القيام على دعم حركات التحرر من أي سلطة. ومع التهافت عليها من المكتوين بنار الواقع العربي فقد جاءت تنبؤات المنظرين والمحللين على توقع تلاشيها، لأن (المجتع المدني) يذعن للمؤسسات السلطوية، ويؤمن بالتخطيط والتنظيم. والنفس (الليبرالي) يرى أن في مثل ذلك قمعاً للحرية المطلقة. فهل تموت كما ماتت (الماركسية) و(البنيوية) و(الحداثة)؟ وهل نظل معها كما (جن سليمان) لا يدلنا على موتها إلا دابة الأرض؟ لا أستبعد ذلك. ونشدان الحرية تحت مظلة المبادئ والأحزاب الوافدة يعني أن ما نحن عليه من مبادئ تنقصها الحرية، في حين أنه لا مزيد على ما أقره الإسلام من حريات، وعلى مستوى الحرية السياسية نجد أن الفكر السياسي الإسلامي قد أسس لذلك، متمثلاً بمقولات نصية وعملية، ولقد فاضت المكتبة العربية بعشرات الكتب التي تتحدث عن الحرية في الإسلام، وأكتفي بمقولتين: ( متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) و(لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها). وفي ظل التذبذب واضطراب الآراء والتصورات، حاولت تقصي المفاهيم المتعددة بتعدد الحقول التي تتداول المصطلح، وبتعدد المتداولين له. إن هناك حقلاً فلسفياً له رؤيته، وحقلاً سياسياً له تصوره، وحقلاً اجتماعياً له توقعه، وحقلاً اقتصادياً له مفهومه، والفلاسفة والسياسيون والاجتماعيون والاقتصاديون لكل واحد تصوره. والراصد المعرفي لابد أن يستفتي كل الحقول، وليس من حقه، وهو المتلقي أن يستأثر بالتعريف، لكي يمرر المصطلح بكل أوضاره. وعلى افتراض إمكانية الجمع بين مفاهيم الحرية في سائر الحضارات، فما الداعي لتداول المصطلح المقنول بكل ما يحمله من مراوغة وتوهيم. والسؤال المفحم لكل الأطراف: هل الحرية في الإسلام تحتاج إلى فهم صحيح وتمثل صريح، أم هي بحاجة إلى استبدال؟. إن خلل التطبيق لا يستدعي النفي والاستبدال، وإنما يستدعي المراجعة والنقد. والإمعان في مقولات ذوي الشأن تكشف المضمرات. ففي (موسوعة لالاند الفلسفية) استهلها بالتعريف السياسي، ونظر إلى مقاصدها القائمة على استقلالية السلطة، وإعطاء المواطنين ضمانات في مواجهة التعسف. وهي من الجانب الفلسفي ترى أن الإجماع الديني ليس شرطاً لازماً ولا ضرورياً لتنظيم اجتماعي جيد، ومن ثم يطالب بحرية الفكر. وهذا التعريف يؤكد (أيديولوجيتها) وتعذر الأخذ بها على ما هي عليه، ومتى أجري التعديل على شيء من مفاهيمها فإنها تفقد كينونتها. وفي مجال نقد النظرية أحال المؤلف إلى السجال الذي أجراه (جاكوب) بين ما يسميه (الليبرالية) التجريبية والعقلانية. ولقد نظر إليها البعض نظرة إجرائية، بحيث تقتصر مهمة الدولة على الشرطة والعدل والدفاع العسكري. ومعضلتها أنها مصطلح منقول صيغة ودلالة، وأي محاولة للتهجين يجعلها تحصيل حاصل، وفوق ذلك فهي أوزاع بين التطور الدلالي والتنقل المعرفي، وكلما استدعاها حقل معرفي أمدها بدلالة جديدة، وهذا الذي حير كاتب مادتها في (الموسوعة الفلسفية العربية). ونقل المصطلح دون ترجمة أو تعريب أبقاه بكل متطلباته، بل عمق هذه الإشكاليات بشموليته، فهو في المشهد الغربي حر طليق، يتمتع بكل ما له عبر حقوله المعرفية الغربية، وتطوره التاريخي. ولو سألت محتضنيه عما يعنيه لقالوا: (الحرية). وفي ظل هذه الكلمة استباحوا كل شيء. والحرية ليست غائبة في الفكر السياسي الإسلامي، بحيث تضطر إلى التقاط (الليبرالية). وهي بمقتضياتها تتجاوز الحرية بمفهومها الإسلامي، ولو كانت قصراً على (الحرية) لكان نقلها من التزيد، إذاً هناك مقاصد مضمرة، تتجاوز الحرية المنضبطة إلى ممارسات ليست مكفولة في الإسلام، والاختلاف معها لا يحيل إلى شيء آخر يتجاوز القدر المباح من الحرية في الإسلام، فنحن مع الحرية المنضبطة، وضد الفوضوية باسم الحرية، وحين يسلم معنا المولعون بالمستجد، يكون الأخذ بها من الاستبدال المحظور. وتقصي جذور (الليبرالية) الاقتصادية بوصفها الأصل لكل التنقلات والتحولات يقتضي الرصد التاريخي ل(البرجوازية) بوصفها المثير لحركات التحرر، ولو من خلال كتاب (أصل البرجوازية) ل(ريجين برنو). والتحسس التاريخي لطرفي الفكر الاقتصادي (البرجوازي) و(الليبرالي) الغربيين يؤدي إلى مفهومين: - اقتصاد مقيد بضوابطه وطبقاته. - اقتصاد حر في تحركه ومعاهداته. ولقد كان مدار الصراع حول (القمح) من حيث نقله وتصديره، وهو السلعة المسيسة حتى الآن، ثم اتسع ليشمل المصنوعات والمنسوجات والتصدير والاستيراد الحر. و(الليبرالية) الاقتصادية ضد كل تدخل للدولة في الميدان الاقتصادي، ودور الدولة يقتصر على ضمان الحرية المطلقة ليس غير. وبعد الفوضى ارتفعت صيحات استغاثة تطالب بتدخل الدولة، لفك الاشتباك بين أطراف الاقتصاد، وهو ما لم ينتبه له المولعون بالمصطلحات المهترئة. والقمع لسلطة الدولة امتد إلى عدد من السلطات المشروعة، وقد نشأ صراع بين الدولة بوصفها ذات سلطة قانونية وحرية الأفراد، ذلك أن طغيان الحرية الفردية جاء على حساب حريتها وإضعاف سلطتها المشروعة، ولك أن تقول مثل ذلك عن (الدين) بوصفه واجبات والتزامات. ولم تكن (الليبرالية) المتداولة في المشهد العربي ذات صلة بالاقتصاد، بل لا يعرف المتداولون العرب أنها تعني شيئاً من ذلك، ولأنها فلسفة و(أيديولوجية) وليست مجرد إجراء فإن صاحب (قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية) يرى استحالة المراقبة الموضوعية، لانطوائها على نزعة فردية وحرية مطلقة لكل فرد من أفراد المجتمع. ولأنها قامت في وجه (البرجوازية) فقد تولدت عنها (البروليتاريا) وهكذا تتناسل المصطلحات بعضها من بعض على شكل ردود أفعال، ونحن ببلاهتنا ومحدودية وعينا وقصور معارفنا نتلقف المصطلحات المتلاحقة، دون وعي بجذورها الفلسفية، وظروفها السياسية والاقتصادية، وصراع العقل المعرفي مع السلطة الكنسية. و(الليبرالية) بعد تقلبات مفهومية ونوعية أصبحت (أيديولوجية) مناقضة في مفاهيمها للحضارة المستعيرة، ومن تصورها وسيلة وحسب، فعليه أن ينسف ركام الدراسات التي أنشأها المفكرون الغربيون أنفسهم. يقول (بوريكو) صاحب (المعجم النقدي لعلم الاجتماع) ص466: - (فإن الليبرالية هي أيديولوجيا تحكم على نوعية التنظيم الاجتماعي)، وهي كما قلت اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكل حقل معرفي تعريف لا يناقض ما سواه، ولكنه يخالف مخالفة تنوع لا مخالفة تضاد. ولقد أطلق هذا المصطلح لمواجهة الاستبداد السياسي بعد التحكم الاقتصادي والرقابة الاجتماعية الصارمة، وحقيقتها (السلطة بوقف السلطة). وإشكالية (الليبرالية) من خلال الموقف الإسلامي أن الفعل عند (الليبراليين) تبرره قيمته، ولا تبرره مرجعيته النصية، إذ لا مرجعية، بمعنى: هل يقبل المجتمع بشرعنة المحظورات الدينية؟ إن كان الجواب: بنعم، فهذا القبول كافٍ للتبرير. والعمل من خلال المنظور الإسلامي، يكتسب مشروعيته من النص القائم على جلب المصالح ودرء المفاسد وسد الذرائع. وفوق ما سبق من إشكاليات فإن مصطلح (الليبرالية) تحكمه جغرافيات فكرية متعددة، ففي (انجلترا) تستعمل بالمعنى الاقتصادي، وفي (إيطاليا) تستعمل بالمعنى السياسي الديني. وفي ظل فوضوية المفاهيم، فقد وضعها (هبمون) بإزاء (النظرية الانفلاتية) لأنها لا تعترف بأي حد مألوف وقانوني للحرية الفردية. بمعنى أن تفعل ما تشاء بشرط ألا يمس أحداً ضرر حسي من فعلك. وهي ذات صلة وثيقة بمعركة (الحداثة) و(الأصولية) وقد وصفها (ايميل بولا) بأنها تعني (تحرير العقل من أي سلطة). ولقد عرفها (شارل موراس) بأنها: - (مذهب متعدد الأشكال قائم على تحرير الإنسان من سلطة الله وشرعه وتنزيله، وبالتالي فهو مذهب يحرر المجتمع المدني من أية تبعية للمجتمع الديني). وفي ظل هذه المفاهيم تقع الدكتورة (زينب عبدالعزيز) في ردة الفعل العنيف، إذ تقول في كتابها (هدم الإسلام بالمصطلحات المستوردة): - (ومهما تنوعت أوصاف (الليبرالية) في حلبة صراعها المتعدد الأطراف والمستويات فهي تشير إجمالاً إلى صورة مجتمع بلا إيمان، وإلى حرية بلا ضوابط وبلا إله). وإذ لا نتهم أحداً بهذا المفهوم، إلا أنه مفهوم متداول، سواء قبلناه، أو لم نقبله، ونحن في تقصيها نحيل إلى المتداول بين أهلها، وما شهدنا إلا بما علمنا. وإذا كان المناوئون للحضارة الغربية يتصورونها رهينة (البرجوازية) و(الرأسمالية) و(الإمبريالية)، فإن المتطلعين لها يرونها خلقاً آخر، يراوح بين (الديمقراطية) و(الليبرالية) وفي ظل الفعل العنيف ورده الأعنف، راهن المناوئون لأنماط (الرأسمالية) العالمية على تلك المعطيات المناقضة، وكتب (لينين) نفسه كتاباً تحت عنوان (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية)، شنع فيه على النظام الاقتصادي الغربي. والعالم العربي بوصفه الصدى، فقد عاش رهين النقائض بين الشرق والغرب، ولم تكن له مبادرة تغنيه عن الطرفين، والذين يقيمون رهانهم على المتداول الإعلامي يحملون في أعماقهم قابلية التحول، متى انتصر خطاب على آخر. والغرب المستبد، سينشق على نفسه، وسيكون للحراك الأوروبي دور في تحول الخطاب، ولن يظل على مصطلحاته المتلاحقة، وبالتالي فإن عالم الصدى سيعيد الصوت كما هو بكل تحولاته، دون أن يحاسب نفسه عن (معلقاته) المادحة لما هو قائم قبل أفوله. والتهافت على (الليبرالية) كما التهافت على (الاشتراكية) حذو القذة بالقذة، ولو أن النخب التفتوا إلى الوراء، وفتشوا صفحات التاريخ الحديث، لوجدوا أنهم يوفضون إلى نصب المبادئ، وأنهم لما يزالوا أصداء أصوات بعيدة، ولقد اعتز (المتنبي) بأنه (الصائح المحكي والآخر الصدى)، وما كنا بتهافتنا وتبعيتنا كذلك. ولم تكن (الليبرالية) مخاض اللحظة، فما يتداول اليوم إن هو إلا اجترار لما سلف، فلقد صنف بعض الدارسين (النخب المصرية) إبان التأسيس للنهضة (الطهطاوية) متصوراً الحراك السياسي الأيديولوجي ذا أجنحة ثلاثة: - (العلمانية) و(الليبرالية) و(القومية)، وجعل من عمد الليبرالية: - (علي عبدالرزاق) و(طه حسين) و(أحمد أمين) و(محمد حسين هيكل) ولم يرَ (الليبرالية) مع هذا الجناح بصورتها الأصلية، فهي (ليبرالية) توفيقية. ولقد ادعتها أنظمة ثورية، كما ادعت (الديمقراطية)، ولأنها مجرد دعوى فرضية فإنها لم تكن مشروعاً عملياً، وإذ تصورها البعض ممارسة فعلية، فقد تلمسها في المشاهد، ولما لم يجد أثرها التمس أسباب فشلها، نجد ذلك عند (خلدون النقيب) في كتابه (الدولة التسلطية) في سبعة عشر موقعاً في كتابه وبخاصة (ص 62، 63) وهي لم تكن إلا ادعاء. وعند (محمد جابر الأنصاري) في كتابه (تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي). والمتهافتون عليها استحوذ عليهم رهان (فرانسيس فوكو ياما) الذي أشاع نظرية (نهاية التاريخ) وهي مقولة سبقه إليها (هيجل) وقد سرقها منه، ف(الليبرالية) معوَّلهُ، لكونها ذروة سنام التفكير الإنساني ومطبقة في الغرب تطبيقاً عملياً. وعلى أية حال فإن سامرها سينفض يوم أن يطرح الغرب نظرية أخرى، وعيب النخب الاسترفاد الغبي من (الطهطاوي) إلى يومنا هذا، ويا ليت قومي يستبدون ولو مرة واحدة (إنما العاجز مَنْ لا يستبد). |
أيها الكُتَّاب ادخلوا مساكنكم ...لا يحطِّمنكم تتابع الأحداث..!
د. حسن بن فهد الهويمل هل تكون نملة (سليمان) أحذر منا، وأحرص على جنسها، عندما صاحت بجماعاتها: { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}!. وهل سيبتسم صُنَّاع اللعب السياسية القاتلة من تنادي الكُتَّاب وتحذير بعضهم بعضاً من طوفان الأحداث المتداعية، كما الصخر حطّه السيل من عل؟. وهل سيأوي المفجوعون من هول المصائب إلى جبل يعصمهم من طوفان الكوارث الجسام؟. ولا سيما أن الحطم يتم بشعور اللاعب وبسبق إصراره، وليس كما حطم سليمان الذي لا يشعر بوجود النمل في طريقه.. ولست بهذا التحذير مُبالغاً في تصوُّر الأحداث المتسارعة كما وقع الحوافر، ذلك أن محترفي السياسة قراءة وكتابة ورؤية لن يكونوا أحسن حالاً من ذلك النمل، الذي راعه زحف الجيوش القادمة، والسعداء من الكُتَّاب مَنْ يمتِّعون أنفسهم بتناول القضايا المحلية، يخيفون بها الذين إذا قاموا إلى أعمالهم قاموا كسالى.. وما أكثرهم، وما أكثر المتأذين من التسويفات والمحسوبيات و(البيروقراطيات) الإدارية.ومثل هؤلاء أقل توتراً ممن يجيلون أنظارهم في الآفاق السياسية المكفهرة، وممن يستشرفون المستقبل المخيف، وممن يتابعون الأحداث العالمية المأزومة.. إن هذه الطائفة المعنَّاة تكاد تسف المل، وتتجرّع مرارة الانكسارات.. ومن ذا الذي يستطيع أن ينقِّب في مسرح السياسة، ويقرأ ما تحت السطور، ثم لا يُصاب بالرعب. وقدر المفكرين والكُتَّاب المفيد والمؤلم معاً، أنهم ينظرون إلى أحداث العالم رأي العين، ويتعقّبون لعب الأقوياء المهلكة حية على الهواء، ماثلة للعيان، عبر القنوات والمواقع والصحف والإذاعات، والأقل من المتابعين من يتقن قانون اللعبة، بحيث لا ينزلق في تأييد مطلق، أو يعتزل برفض صارم.. وقطع الأمر مع غياب الوثائق، أو حضورها مزوّرة لا يقل خطراً عن التردد، ورأس الابتلاء أن كل حدث مصيري يستبطن (شفراته) الخاصة به، بحيث يتطلَّب نظرية معرفية، ومستوى قرائياً خاصين بالحدث، مستدعياً ذلك كله تكسيراً للقناعات والمسلمات، وتجهيزاً لخطاب (دبلوماسي) مراوغ.. وفي ذلك تكليف بما لا يُطاق، وإيذاء للمشاعر المتبلِّدة، فضلاً عن الحساسية.. ومما يعمّق المأساة أن معايشة الأحداث حية كما خلقها الله، تُواجه بضعف وهوان، وقِلة حيلة، وتنازع بين الأخ وأخيه، وخوف الإنسان من أقرب الناس إليه، وتدخُّل فضولي ممن لا ينفك يفسد بين المرء وزوجه.. والكُتَّاب بما هم عليه من رهافة أحاسيس، ورقة عواطف، يستقبلون الأحداث المؤلمة طرية كما وقعت، ويتقرون آثارها ومخلفاتها بأيديهم، وهم كما أطباء الإسعاف في تلقّي حوادث السير، فقد يصل إليهم جزء من جسم المصاب، ويظل الباقي مختلطاً مع قطع الحديد في موقع الحادث.. ورحمة الله في هؤلاء وأولئك الإلف والأمل والنسيان، وإلا كيف يحتمل الكُتَّاب التعايش مع المغالطات والمتناقضات وتعدد المكاييل والمحو والإثبات في آن.. فاحتلال يُزكَّى، وآخر يجرم، وترسانة تفتش، وأخرى تبارك، وتقنية تُخفى، ومساعدات لا تسد رمقاً، تأتي بالتقتير والتكدير والإيذاء، وإصرار على تحويل المسرح السياسي إلى مسرح عرائس، تحركها أنامل فوقية، وضرب للمنظمات الإسلامية، ثم انتهاك للسيادة الوطنية، وذلك بإبداء الرغبة في التفاوض مع رموز تلك المنظمات، وتغرير للشعوب بحجة تصدير العدالة والحرية. وأي كاتب يتلوى على سفود السياسة، يرى أن من واجبه أن يعيش حضوراً واعياً لكل ما يسمع ويرى، وأن يكتب رأيه بعد التقاط الحدث بكل ملابساته عبر أي وسيلة إعلامية، أو سياسية.. فالأوضاع بلغت حداً من التدهور والفوضى لا يمكن معه امتلاك الأعصاب، ولا التّوفر على رباطة الجأش.. وكيف يتوفر الكاتب الفولاذي على شيء من ذلك، والمهيمنون كما (بلفور)، الذي أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، ثم لا يجدون حرجاً من أن يتبعوا تعدياتهم تباكياً على المصداقية والعدالة والحرية؟ إنه زمن الهون والحزن، وكيف لا يخاف الكاتب وهو الأسفل، إنه زمن جسَّد مآسيه (المتنبي) بقوله: (واحتمال الأذى ورؤية جانيه غذاء تضوى به الأجسام) (ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد) وإشكالية الأحداث المؤلمة أنها تعشي العيون، وتصم الآذان، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول للمتحسِّر، أو للمتنصِّل: (يداك أوكتا، وفوك نفخ).. وكل لاعب في مقدرات الأمم ومصائرهم، يتفنن في صناعة الخطاب الإعلامي المضلل، شأنه في ذلك شأن الشركات العالمية التي تُمارس من خلال إعلاناتها الدعائية الخداع البصري والسمعي، كي تستحوذ على المستهلك.. والكاتب قد لا يجد فرصة للتأمل، ولا إمكانية لانتظار ما تسفر عنه الأحداث من حقائق، تختلف عما أفضى به اللاعبون الكبار.. فهو إما مغلوب، أو مخدوع، أو مجند.. وحين تتكشّف الأمور، وتتعرّى المقترفات، يكون قد فرغ من تحديد موقفه، وإشاعته بين الناس.. ومن الصعوبة بمكان التّراجع، أو المراجعة، فقد قِيل ما قِيل إن صدقاً وإن كذباً.. وفوق إشكالية التّلون الحرباوي، يأتي تلاحق الأحداث الذي لا يتيح فرصة للمراجعة، ولا إمكانية للتقويم.. وارتباط كل لعبة بقانونها الخاص بها، وتراكم الأحاديث الفجة المرتجلة تصنع الذهنيات المضطربة.. والمَشاهد السياسية من أسوأ المَشاهد وأكثرها اضطراباً، وألصقها بالكذب، وأوسعها لتعدد الاحتمالات المتناقضة، وكيف لا تكون، والسياسة فن الممكن؟. والمصاب بداء السياسة يروِّض نفسه على قبول المتناقضات والتّعايش معها، ولا يعرّيها لوقتها، إلا المذكرات والسِير الذاتية، التي يكتبها صنَّاع القرار، حين تلفظهم مطابخ السياسة في مزابل التاريخ، يفعلون ذلك كي يتخلصوا من تأنيب الضمير، ويفروا من عار التاريخ.. وكل زعيم استمرأ القتل، والهدم، والسجن والتشريد، وإهلاك الحرث والنسل، ومسايرة اللعب، أو تنفيذها طوعاً أو كرهاً، حين يفارق سدة الحكم مغلوباً على أمره، أو منهياً دوره التمثيلي، تجر قدمه قناةٌ أو صحيفةٌ أو ناشرٌ، ليغسل الدم بالأحبار أو بالرغاء الرخيص.. وقد يفضي بمواجيز الأحداث، ليتولى المتخللون بألسنتهم صياغة المذكرات، مستميتين من أجل تخليصه من سبة الدهر.. وساعتها يبدو فيما يقول، أو يملي، أو ينيب كحمامة سلام، تتعثَّر بشراك الشائعات.. ولو سألته عما اقترف من خطيئات ماثلة للعيان، لما وجد بأساً من إلقاء اللوم على رفاق الدرب، وشركاء الذنب، وعصبة الحزب، أو أبناء القبيلة. ومع تعرية الاعترافات والمذكرات والسِير، وتضاربها، وفضح بعضها لبعض، يأتي حق الإفراج عن الوثائق السرية كالعهود والمواثيق والاتفاقات الدولية، وذلك بعد مرور الزمن المحدد للإفراج عنها، وتلك من أكثر العمليات كشفاً لما خفي، وإن كان الكشف انتقائياً، وعلى أضيق نطاق، وقد يدخل الكشف عن الوثائق تغنص اللعب، فما يعرف المتابع الصادق من الكاذب.. وكم من كاتب راصد، أو محلل اكتشف أنه يتسكّع في أودية التيه، وأن كل ما قال ركام من الأوهام.. فما يُقال عبر وسائل الإعلام في أعقاب الأحداث، أو ما يرهص لها، قد لا يكون صادقاً.. والذين يعوِّلون على ذلك، يكتشفون أنهم شهدوا وقائع الحدث، ولم يكونوا لدى المخططين إذ يختصمون، وأنهم كما الشاهد الذي سمع ولم ير، وما راءٍ كمن سمع، وتلك مصيبة المشهد السياسي.. وكم من مؤتمرين بعثت بهم دولهم، ليتدارسوا القضايا مع نظرائهم، فوجئوا بأن قضيتهم حُسمت بليل، وأن الاتفاقيات قد أخذت طريقها إلى المسرح العملي، وهم في غفلة عن هذا، يجادلون ويجالدون، ويظنون أنهم يكتبون التاريخ بمداد مخلوط بعرقهم ودمهم. ومع كل الأجواء الملبدة بالمكر والخديعة، فإن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات.. فالكاتب الذي يلامسُ القضايا، يختلف عن المنغمس في مستنقعاتها.. والمتابعون لملفات الأحداث المصيرية، وما كُتب فيها، وما أُجري حولها من لقاءات مع أطرافها، أو مع المراقبين، أو مع المهتمين، أو مع سائر الإعلاميين، يقفون على أشياء مذهلة.. والصامتون حين يفك أسرهم، ويأمنون على أنفسهم، ينطقون بما يقلب الأوضاع رأساً على عقب.. وسليم النية والطوية أمام هذه المتناقضات الصارخة ينتابه الشك، حتى في نفسه.وكيف لا يشك الإنسان في نفسه والخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) يسأل (حذيفة بن اليمان) رضي الله عنهما وأرضاهما عما إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عدّه من المنافقين.. لقد جاء جواب (حذيفة) بالنفي، ولكنه أتبع ذلك بنهي يُعمِّق الخوف والشك: (لا ولا تسألني عن غيرها)، أو كما قال.. إذ ربما ينكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تتابع الأسئلة، والصحابة قد نهوا عن السؤال خشية أن تفرض عليهم الإجابة، ولهذا يفرحون بالأعرابي حين يتفجَّر بالأسئلة غير هيّاب ولا وجِل. إن واقعاً كهذا، قمين بأن يُخاف، جدير بأن يُعتزل.. لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفتن، وذكر منها ما هو كقطع الليل المظلم.. والحل لا يكون وقفاً على المواجهة، فقد يكون الاعتزال، وكسر السيف، ورفع القلم، وكف اللسان هو الخيار الأفضل، وبخاصة عندما تنعدم الرؤية، ولهذا ندب الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة إلى كسر السيف، والعض على جذع شجرة، حتى يأتي الموت.. ومشاهد الأمة العربية وأحداثها المرعبة، تكاد تفوق قطع الليل المظلم، وتكاد تقتضي كسر القلم وتكميم الأفواه.. والمفجع أن الدهماء من الناس تخوض في الحديث عن تلك الفتن، وكأنهم أطفال يلهون بيوم مطير، وما علموا أنهم فوق أرضة ملغَّمة. لقد مرَّت الأمة العربية بنكسات مُوجعة، وحروب أهلية دامية، وتناوش حدودي مُخيف، وإخفاقات عِرقية وطائفية، وأثرة حزبية، وعنف ثوري دموي، وتسلط عنيف، ولما يزل الإنسان العربي صابراً محتسباً، يتحرّف للخروج من هذه المآزق الخانقة.. وأمله ألا يغلب عسر يسرين، وبوارق الأمل تلوح في أفق ملبد بالغيوم، وكل أمله أن يَصْدُقَه القول أرباب اللسان والقلم، فلا يزيفون وعيه، ولا يصعدون ارتيابه، ولا سيما إذا اجتالته اللعب الكونية، وامتطى صهواتها مغلوباً على أمره.. فكم من لعب خادعة تهافت في أُتونها الخليون، كما يتهافت الفراش على اللهب.. وكم من أحلاف جائرة، انصاع لها الخائفون، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.. وكم من تكتلات هشة ظاهرها الرحمة، وباطنها من قِبلها العذاب، وإن بدا أصحابها باسمين، فإن الهمَّ يطويهم كما يطوي الأعرابُ شنانهم الفارغة من الماء.. والشأن العربي إما مترمّد تذروه الرياح، أو رماد يُرى خلله وميض نار قابلة لأن يكون لها ضرام، والقلة الأقل من الكُتَّاب كما رجال الدفاع المدني، يتقحّمون الأُتون بالكمامات، والدروع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. والنفعيون رضوا بأن يكونوا من آليات اللعبة، فاستخفوا بمصلحة الوطن.. ولو أعاد هؤلاء وأولئك قراءة ما قالوه بالأمس القريب، لتمنوا أن يكون بينهم، وبين ما كتبوا أمدٌ بعيد، فواحدهم: إما متسرّع لم يُتح له تسارع الأحداث فرصة للتأمُّل.. أو جاهل يظن كل الظن أنه ابن بجدة السياسة.. أو أجير في سوق النخاسة الإعلامية، لا يبالي في أي وادٍ هلكت أمته.. والقلة القليلة من تتثبّت، وتقلّب الأمور، وتقدّر، وتستخير، وتستشير، قبل أن تضع السواد على البياض، فالكلمة عندها إما عمار، أو دمار، والإسلام يحث على القول السديد والكلم الطيب. إن زمن التيه قائم على أشده، على الرغم من سقوط الأقنعة، وتعري اللعب، وافتضاح اللاعبين.. فماذا قِيل عن الحرب (الأفغانية)، التي أعادت ترتيب المسرح السياسي؟ وماذا يُقال اليوم عنها؟ وماذا قِيل عن الحرب (العراقية) و(الإيرانية) يوم أن كانت على أشدها؟. وماذا يُقال عنها اليوم؟ وماذا سيقول أزلام النظام العراقي البائد، لو تمت المحاكمة على وجهها الصحيح، ولم (تُفبرك)؟ وماذا قِيل ويُقال عن الحركات والأحزاب والمنظمات والرموز الأحياء منهم والأموات؟. وعلى المتابع أن يُمسك الأحداث حدثاً حدثاً، ثم ليقرأ ما قِيل فيه يوم أن كان مشتعلاً، وما يُقال عنه حين تحوَّل إلى هشيم مترمِّد، ليرى كم هو الفرق بين قول وقول.. ومع كل هذا فالكُتَّاب لا يعيدون قراءة ما كتبوا، فضلاً عما كتبه لداتهم، ليختطوا لأنفسهم طريقاً قاصداً، ينجيهم من معرَّة التناقض، وعذابات الضمائر.. وهل يكون التّحرف والتّحيز في الهروب من مدرجة الطريق والدخول في المساكن، كما فعلت النمل، أم تكون النجاة في ملاقاة الأحداث بصبر ومصابرة ومرابطة؟. ما زالت الخيارات غامضة، والمشاهد مكفهرة، والرؤية متدنية، ومن يعش من الكُتَّاب فسيرى اختلافاً كثيراً. وفي كل يوم تطلع فيه الشمس، تتكشّف الأحداث عن زائف القول.. ولو عملت مجسات ومسابير فيما مضى، وفيما هو آتٍ، لكانت الأمور أكثر بشاعة، وفوق هذا فإن ثورة الاتصالات جعلت الحبكة تتفكك في مهدها، ولم يكن بإمكان منفذي الحدث، وحائكي خبره أن يطيلوا أمد الكذب والتغرير، لقد بثَّت وكالات الأنباء الطريقة المؤلمة التي قُبض فيها على (صدام حسين)، وجاء مجند أمريكي من أصل عربي، ليكشف كذب الحبكة، بتصويره طريقة القبض عليه، وليس مهماً أن يكون القبض عليه كما صوَّرته الوكالات، أو كما حكاه الضابط الأمريكي، ولكن الأهم أن الإعلام لا ينفك من الكذب والتّفنن في صناعة الخبر.. ويُقال مثل ذلك عن الطريقة التي اغتيل بها (الزعيم الشيشاني)، لقد صوَّرته وكالات الأنباء كما يريد منفذ الحدث، غير أن (زوجة) القتيل نفت ذلك، وذكرت تفاصيل الحدث.. وها نحن الآن مع صورة جديدة ل(صدام حسين)، قد يأتي اليوم الذي يكشف فيه عن أهداف تسربها، وقل مثل ذلك عن تسريب ممارسة تدنيس القرآن الكريم، إنها لعبة تجرُّ بها الأقدام والأقلام، وتلك أمثلة حية لاضطراب الأخبار وافتعال الأحداث، وليس ذلك الاضطراب داخلاً فيما يُقال: (آفة الأخبار رواتها).. ولكنه داخل ضمن مقولة: (كذب المنجمون وإن صدقوا).وبعد لقد كان المجرِّبون يقولون: آخر الطب الكي.. وكان يجب أن يقول المكتوون بنار التّقلبات السياسية: آخر الطب الصمت. |
المسند من خلال إسهاماته الأدبية
د. حسن بن فهد الهويمل الحديث عن شخصية موزعة الاهتمامات، وعبر زمن طويل، ولاسيما إذا كان المتحدث يعيش معها الخلطة، ويشاطرها المسؤولية حديث لا يمكن أن يكون بريئاً. إذ للعواطف سلطانها وحقها المشروع، متى أمكن ترويض جماحها. ولقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليها وسلم مع زوج ابنته من أسرى بدر، ولكنه لم يستبد، بل استشار الصحابة، فكان أن أطلقه ورد قلادتها التي ورثتها من أمها (خديجة)، فعل ذلك، وهو يعلم أن الأسير سيقضي ما التزم به لقريش، ثم يعود مسلماً. والحديث عن عالم وأديب وتربوي وإعلامي، لم تشغله عوارض المرض ولا تعدد المسؤوليات عن أن تكون له يد مع العلماء والأدباء والإعلاميين عبر التأليف والصحافة والإذاعة والتلفاز، إضافة إلى عمله في قطاعات خيرية وإعلامية متعددة حديث متشعب، وهذه الإسهامات المتنوعة، يتعذر تناولها في حديث مقتضب، ومن ثم لابد من التقاط زاوية من نشاطاته، ومحاولة تغطيتها وفق المتاح. ولأن التنازع بين المهمة والوقت يحسم دائماً لصالح الوقت دون النظر إلى المهمة فإن ذلك مؤذن بالتخلي عن جوانب مهمة في حياة المدروس، وتناول جهود الشيخ (عبدالعزيز المسند 1353هـ - ...) العلمية والعملية يستدعي تصور الحواضن المعرفية التي أسهمت في تشكل الذهنية والمعرفية، فما من مترجم أو مؤرخ لعالم إلا ويلم بشيوخ المدروس ومقروئه، ذلك أن مفاتيح الأديب ما يقرؤه. و(المسند) يتوفر على إمكانيات أدبية تضارعها إمكانيات أخرى، ليست بأقل أهمية منها، وإمكانياته الأدبية، لم تبرح أرض المحافظة، والفرق بين المحافظة والتجديد كالفرق بين المحافظة والتقليد. وكل منشأ في التراث تشده أمراسها إلى شوامخ القيّم الفنية والدلالية، بكل ماهي عليه من جمال وجلال، وكثير من جيل التأسيس المعرفي يصعب عليهم التخلي عن انتمائهم ومكتسبهم. والراصدون للحياة الأدبية في المملكة يوزعونها بين أجيال ثلاثة. - جيل الرواد. - وجيل التأسيس. - وجيل الانطلاق. ولما كانت المملكة مجموعة مناطق متفاوتة، فقد تم توحيدها إقليمياً بعد معركة التكوين التي خاضها الملك عبدالعزيز رحمه الله وجاءت معركة البناء لتوحيد البلاد علمياً وأدبياً، وكل متحدث عن مرحلة ما بعد التكوين يجعل منطلقه أدباء الحجاز. وقد تكون هناك إيماءات إلى ماطق أخرى.. وجيل الرواد تتنازعهم سمتا: التقليد والمحافظة، مثلما تتنازعهم أنواع الإبداع. أما جيل المؤسسين فهم الذين تواصلوا مع أدباء مصر والشام ممن واكبوا النهضة التعليمية في الحجاز، وإذ كان (المسند) حاضر التواصل مع أدباء مصر والشام، لانتقاله بالقوة من نجد إلى الحجاز، حين عزم الملك عبدالعزيز على النابغين من أبناء نجد باستكمال دراستهم، وبهذا اللحاق المبكر تشكلت مشاربه من ينابيع التراث الإسلامي، ومما جد في الساحة الأدبية والتعليمية والإعلامية، ومن هذا الجيل ومعه تشكلت شخصية (المسند) العلمية والأدبية، وهو قد أدرك نهايات جيل الرواد وبدايات جيل التأسيس، ولما لم يكن جيل التأسيس على وتيرة واحدة، فقد تنازعتهم تيارات أدبية وثقافية. فطائفة منهم سارت باتجاه الانطلاق والتفاعل الواعي مع المستجد الأدبي والاجتماعي، فيما سار آخرون باتجاه الرواد، متمترسين وراء كتب التراث وأنماط الحياة السائدة، وبقيت طائفة أخرى في موقعها محققة ذاتها الواقعية. ولأن (المسند) ممن لم يضعوا كل بيضهم في المشهد الأدبي، فإنه مقل لا يقدر أحد على تصنيفه. لقد اشتغل في مواقع كثيرة، وكان عملياً أكثر منه تنظيرياً أو كتابياً، والمتحدث عن جوانبه العملية سيجد الشيء الكثير، ولاسيما في قطاع الجمعيات الخيرية والمجال التعليمي. وفوق تأثير المهمات العلمية والتعليمية، امتدت إليه الوسائل الإعلامية، فاستجاب لها. والعمل الإعلامي وإن كان يستمد نجاحاته من الخلفيات الأدبية والثقافية فإنه يبتعد بها عن الصياغة الأدبية والتأنق الأسلوبي، ليقربها إلى العامة أكثر من زلفى. وإذ يكون العملُ الخيريُ والتوعيةُ الإعلاميةُ والعملُ الإداريُ ممارساتٍ عمليةً مهمةً، إلا أنها تأتي على حساب الأداء الأدبي إنشاءً ودراسة. ولقد قلت ذات مرة عن شاعر لم يأبه بالموهبة، ولم ينقطع للإبداع إنه (شاعر مع وقف التنفيذ)، فإنني أقول عن المسند: (إنه أديب مع وقف التنفيذ)، بمعنى أنه يملك الاستعداد، ويتوفر على الثقافة والإطلاع، ولكنه لم يشأ استغلال هذه الإمكانيات وحصرها في حقل معرفي واحد، بحيث يُعرف في الأوساط الأدبية كما عُرف غيره من نقاد: منظرين أو مطبقين، ومن شعراء أخرجوا للناس أعمالهم الشعرية، أو سرديين أخرجوا للناس أعمالهم السردية. لقد جعل الإمكانيات الأدبية مساندة للعمل الإعلامي والتأليف الاختياري، والمقالة الصحفية. وحين نقول بأن ممارسة (المسند) للكتابة بشقيها التأليفي والمقالي تأتي حسب الفراغ والرغبة، نقول بأنها مرتبطة بلغة تراثية علمية، لا يشوبها لحن ولا عامية ولا عجمة. بل أكاد أجزم بأن تأسيسه وتأصيله لآليات اللغة العربية لم يكن عبر الدرس الأكاديمي المتخفف، وإنما كان تأصيلاً عبر حلقات الدرس التقليدي. وهو تأصيل يعتمد على الاستظهار والتطبيق. وتراثية (المسند) تمس المكتسب وطرائق الأداء ومجالات التناول، وتلك الصفات الثلاث حين يقع الأديب تحت طائلتها، يكون ذا سمة محافظة وليست مقلدة. والأدباء المؤسسون الذين بدأ معهم (المسند)، ثم فارقهم، يتنازعهم العمل التأليفي وممارسة التعليم والتعلم، إذ لم تكن عندهم مراحل فاصلة، فهم طلبة وطلاب في آن، على حد: (رهبان في الليل فرسان في النهار)، وقد لا يواكب ذلك تحول سريع، فالمؤسسون والرواد من أكثر الأدباء أناة، فمشيهم لا ريث ولا عجل، ووعي الآخر بهم وعنهم يتشكل على ضوء اهتمامهم، إذ هناك علماء برزوا من خلال مؤلفاتهم، وآخرون برزوا من خلال إسهاماتهم العلمية أو العملية. و(المسند) وإن أسهم في التأليف، إلا أنه لم يشأ أن يكون مرتهناً لهذا الجانب، ومن ثم تعددت حقول اهتماماته، وتعذر حصره في مجال من المجالات. وباستعراض إسهاماته التأليفية والمقالية والبرامجية الإعلامية، بوصفها وثائق إثبات لأدبية النص عنده، وبخاصة برنامجه التفسيري الممتد لعشرات السنين، نجد أنه يمتلك لغة توصيلية، تأخذ حظها من الأدبية، غير أن التأنق الجمالي والانزياح المغرق لا يشكل أولوية عنده، فيما تقوم سلامة اللغة ووضوحها وأدبيتها. والمتابع لمقالاته وكتبه لا يجد اختلافاً بيناً بينها، إنه يكتب كما يتحدث، ويتحدث كما يكتب. وهذا باستثناء برنامجه (منكم وإليكم) الذي يتخذ طابع المشورة والنصيحة لشريحة من المجتمع، مما يتطلب تفصيح العامي وتعميم الفصيح. والفرق بين الكتابة والشفاهية واضح، وكل كاتب للمقالة لا يرى نفسه محترفاً، لا يخضع للأسلوب الصحفي، ولا يجد حرجاً من توحيد كتابته التأليفية والصحفية. وعنصر التنافس حين لا يشكل عاملاً رئيساً يظل الكاتب مشغولاً بتوصيل الرسالة وسلامة الوسيلة. وأياً ما كان الأمر فإن (المسند) بوصفه موضوعاً يتنازعُه العلماء والأدباء، فهو على شاكلة (الطنطاوي) الذي آلمه نفي الفقهاء والأدباء له معاً، فإذا خاض معترك الفقهاء قيل له: ليس هذا العش عشك فأدرج، وإذا خاض معترك الأدب شاح الأدباء بوجوههم عنه، وهو الأديب المتمكن والفقيه المتبحر. وتلك إشكالية المثقف، فهو يأخذ من كل شيء بطرف، وقد يعرف كل شيء عن شيء، ويعرف شيئاً عن كل شيء، ولكنه مع تعدد اهتماماته، وتنوع مجالاته، لا يقيد هواه في الحقول التي يلم بها، إذ لا يتلبث فيها إلا قليلاً. واستعراض عموده الأسبوعي في جريدة (القصيم) سابقاً، وفي جريدة (الجزيرة) لاحقاً (ما قل ودل) يكشف عن كاتب يتوفر على لغة أدبية مشوبة بالعلمية، وعلى خلفية ثقافية ذات مصدرين قويين: الفقه والثقافة، والمصدر الثقافي يستمد لحمته وسداه من كتب التراث الأدبي والتاريخي. ولهذا يوصف مقاله بالنص الثقافي، وليس بالنص الإنشائي، والكتبة المحترفون تغلب عليهم الإنشائية، ومن ثم لا يصنعون ثقافة، ولقد عُرفت شخصيات كثيرة، تهتم بثقافة النص، نجد ذلك عند معالي الدكتور الخويطر، وعند الأستاذ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وعند الشيخ عبدالله بن خميس، وعند آخرين من شرق البلاد وغربها. لقد سبق لداته من نجد حين تشكل وعْيُه الصحفي من خلال صحافة الحجاز، يوم أن كان يدرس هناك، كما أتيح له العمل فيها مصححاً ومراجعاً، وهي بحق صحافة الأدب الحي، إذا لا يلي أمرها إلا الأدباء المؤصلون لمعارفهم، وصحافة الأمس بهذه الكوكبة أصبحت ذات صلة بالعلم والأدب، فيما جاءت صحافة اليوم ذات صلة بالفن الصحفي والخبر التسجيلي والتحليلي، حتى كادت تنفصل عن أدبية النص، ولم يعد النص الأدبي مطلب القارئ الذي يريد من الجريدة أن تكون إخبارية تتابع الحدث ساعة بساعة، ومادة النخبة ليست القضية الرئيسة في صحافة اليوم. وهي وإن توفرت فإنما هي لشريحة محدودة، ولسنا بصدد الموازنة بين صحافة الأمس واليوم، إذ البون شاسع، وعالم اليوم يكاد يختلف كلية عن عالم الأمس، وصحافة اليوم تشكل (إمبراطورية) متعددة الإمكانيات، فهي بما هي عليه من قدرات متنوعة تلاحق المتغيرات، وتستخدم أحدث الوسائل وأكثر الإمكانيات. وما نود الإشارة إليه التأكيد بأن صحافة الأمس تهتم بالمادة واللغة ودسامة الموضوعات ومحدوديتها، ومن فتحوا عيونهم عليها طبعتهم بطابعها الموضوعي الصرف، البعيد عن فنيات الصحافة من حيث الإثارة والاستمالة والإمتاع، إنها صحافة الفائدة وحسب، والشيخ (المسند) في مطلع شبابه عاش تلك العوالم، فكان الكاتب الموضوعي البعيد عن الإثارة. وهو إذا كتب المقالة الأدبية والاجتماعية فقد كتب الشعر، وكم قلت بأن الشعر ملكةٌ واقتدار، فأصحاب الملكة شعراء يحتاجون إلى ثقافة وموفق، أما المقتدرون فهم أولئك الذين خالطوا الشعر وحفظوا الشعر ودرسوه وألفوه وألفوا عنه، ثم قالوه في أضيق نطاق، وما أفرج عنه من مقطوعات ظفرت بها ابنته (الدكتورة غادة)، تشي بأنه ناظم مقتدر، وليس بشاعر، وهو قد أراح الدارسين والنقاد فقال بالنص (أنا لست شاعراً بالملكة ولا أقرض الشعر وإن طلبته قلته)، وما أكثر الذين قالوه اقتداراً، ثم انصرفوا عنه، لإيمانهم بأنه ملكة قبل كل شيء، من أمثال (طه حسين) و(حمد الجاسر) و(المنفلوطي) وعشرات آخرين، لقد توقف عدد من الأدباء عن نظم الشعر، نجد ذلك عند (أحمد محمد جمال) و(أحمد عبدالغفور عطار) و(راشد بن خنين) وهؤلاء متفاوتون في الإمكانيات، وقد يكون لسان حالهم أن جيده لا يقدرون عليه ورديئه لا يقبلونه لأنفسهم، أو أنهم كما الشافعي الذي قال: (ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد). وفي مجال التأليف فإن له أكثر من عشرة كتب، تمثل التنوع الثقافي، وهي بالجانب الشرعي ألصق، وقد يكون الدافع إلى تأليفها الشعور بأهمية القضية، ويهمنا منها ماله مساس بالثقافة والأدب، ومن بينها (الأندلس تاريخ وعبرة) و(الصين ويأجوج ومأجوج) و(سفينة الصحراء)، وقد تحسب هذه المؤلفات الثلاثة على (أدب الرحلة) وإن كان المنهجُ وأسلوبُ العرض يختلفان شيئاً قليلاً عن ذلك. ففي الأول يعتمد على التاريخ الأندلسي، ويحاول إثارة المشاعر والبكاء على الأطلال، فالأندلس هو الفردوس المفقود. وفي الثاني يسجل مشاهداته فيما سماه العالم المجهول، ويميل مع من يرون أن يأجوج ومأجوج عالم إنساني حي. فيما يحكي الثالث رحلة العقيلات على ظهور الجمال، ولقد طبقها مع لداته من هواة الرحلة كما لو كانوا من العقيلات وسلكوا طريق العقيلات المتجه نحو الشمال، وقد دوَّن مراحلها، وجسد ما كان يفعله المسافرون على الإبل، ووثق كل ذلك بالوصف والصور، ويعد كتابه هذا من أدب الرحلة التسجيلي. ولأنه يحمل هم استحضار القدوة الصالحة، فقد قدم الشخصيات الإسلامية والأحداث التاريخية، جاء ذلك في كتب ثلاثة: (المنهج المحمدي) و(إمام الصابرين) و(متى ينتصر المسلمون) والواقع المعاش بأمس الحاجة إلى قراءة الأحداث التاريخية وسير أعلام النبلاء للاقتداء ومعرفة رجالات الفكر والعلم، وفي نهاية المطاف: من يكون عبدالعزيز المسند العالم والأديب والكاتب والإعلامي والإداري والتربوي؟ إنه خليط من هذا وذاك وسيظل مادة حديث لكل من راقته الشخصيات المتعددة المواهب والاهتمامات نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحداً. |
النص الهادف تربيةُّ وتهذيبُّ..!(1 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل كل عالم أو مفكر أو أديب، يجب أن يسأل نفسه، قبل أن يضع سواداً على بياض: من يكون؟ وتساؤله لا يكون - بالضرورة - عن انتمائه الإنساني، فتلك نزعة مادية نوعية، تدخل ضمن مدلول {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} والمسلم يعي الحق الإنساني في سياق الحق العقدي، وقد لا يترتب على ذلك كبير فائدة، وإن كان قاسماً مشتركاً، يحل كثيراً من الإشكاليات. ومدار الكينونة الأهم إنما يكون عن الانتماء العقدي والمذهب الفكري، ليتم على ضوء ذلك تحديد هم الإنسان ومساره وحراكه الثقافي. فهو إذ يكون إنساناً بإزاء أمم أخرى: طائرة أو سابحة أو زاحفة أو ماشية، فإنه يكون منتمياً إلى (عقيدة) تفرض عليه الاستجابة لأمرها والعمل على إشاعتها، وليست كذلك بقية الأمم غير البشرية التي عُرضت عليها الأمانة، فأبت حملها، وأشفقت منها، وحملها الإنسان، لظلمه وجهله، فكان أن حُمِّل مسؤولية التكليف. وكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه يكون ملتزماً بالانتماء، حتى (اللا منتمي) يعد منتمياً إلى عدمية الانتماء، لأنه بالتخلي وبالالتزام يصبح صاحب موقف مضاد للانتماء أو موافق له، والمسلم ينتمي إلى عقيدته المبلغة إليه بنص قائم محفوظ، وهو في عقيدته بإزاء أناسي آخرين: يهوداً كانوا أو نصارى، يحملهم ولاؤهم وعملهم على عدم الرضى إلا باتباع ملتهم، وتَمثُّل العقيدة يعني النهوض بمتطلباتها السلوكية: تلبساً ودعوة. وحين يتحدد انتماء الإنسان بطوعه واختياره، أو بولادته، وأسلمة أبويه له، تتحدد مهماته: الإبداعية والعلمية والعملية، وتتراتب تلك المهمات في سلم الأهمية، وليس هناك أهم من إشاعة القيم السلوكية: قولاً وعملاً، إذ المسلم مطالب بالجمع بين الحسنيين: القول السديد والعمل النافع، ولهذا كبر مقتاً عند الله أن يقول المسلم ما لم يعمل، ويكون في الدرك الأسفل من النار حين يكون منافقاً يظهر الإسلام ويبطن الكفر. ومهمة المسلم في الحياة: ذاتيَّة وغيرية. ومن الغيرية الاهتمام بأمر الإسلام، وحب الخير للمسلمين، ومجالات الاهتمام والحب كثيرة من أهمها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والنصيحة لله ولرسوله ولِئولي الأمر، والحب في الله، وكف الأذى، وفي الحديث (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). وعلى ضوء ذلك يكون (تهذيب السلوك) جزءاً من مهمة المسلم المقتدر، وهو هم مشترك لكافة المؤسسات: التربوية والتعليمية والتثقيفية والأدبية. و(الأدب الإسلامي) بكل أبعاده: الإبداعية والنقدية أدب هادف ملتزم، وليس ملزَماً، ولهذا فهو يحمل رسالة التوعية والتهذيب، وهو إذ يحمل هم التهذيب السلوكي، فإنه في الوقت نفسه يحمل هم تربية الأذواق وإمتاعها، وواجبه أن يحفظ التوازن بين أدبية النص السردي وشعرية النص الشعري والمضامين الأخلاقية. فلا تجعله مهمةُ يدعُ الأخرى كالمعلقة، ذلك أن مقاصد الأدب الرفيع تنمية الأذواق، وإمتاع العقول، وإشباع العواطف. والأذن تعشق قبل العين أحياناً، والصوت الجميل مطلب إسلامي وإنساني، وفي الحديث (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وإذا كان الشعر إنشاداً، فإن القرآن ترتيلاً وتغنياً، والله قد أمر بترتيل القرآن. والمشركون تواصوا باللغو وبعدم السماع أملاً في الغلبة، وكل ذلك للحيلولة دون التأثير الجمالي للأصوات بوصفها تصدع بالنص الهادف، وجمال اللغة بحسن الصياغة، وسبيل ذلك الجرس والإيقاع والتقفية والسجع غير المتكلف والتوازي، والنص الهادف يحافظ على الجمال والجلال، حين يمّارس التهذيب والتربية. ولا أحسبه بمبادرته للتهذيب السلوكي والتربية الذوقية يدّعي الاستئثار بهذه المهمة، ولا يعني الانقطاع لها، لأنه إبداع فني إمتاعي بالدرجة الأولى، وكم هو الفرق بين الفن وسائر المعارف الإنسانية. وهو إذ ينهض بالتربيتين: السلوكية والذوقية فإنما يتخذ طرقاً لا تعتمد الأسلوب الوعظي المباشر، ولا لغة العلم التوصيلية. فالأدب العربي منذ عصوره الأولى، حتى يومنا هذا، ينهض بعضُ شعرائه وأدبائه بهذه المهمات، ثم لا يكون ذلك على حساب اللغة الأدبية. ولقد قيل: (أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري) وذوائق النقاد تختلف، فحكيم المعرة وصف شعر (المتنبي) بالإعجاز ووصف شعر (البحتري) بالعبث، والنقد الأخلاقي الممتد منذ العصور اليونانية والمدن الفاضلة حتى العصر الإسلامي الذي فرق بين شعراء الغواية والهداية، وأسس للكلمة الطيبة جزءاً من مهمة (الأدب الإسلامي)، وشاهد على عمقه الزمني. وما تحرف الأدباء لإبداع النص الهادف، وتحيزوا لمفاهيم الأدب الملتزم ومقتضياته إلا من بعد ما اختُرقت أجواءُ الأدب العربي بتعديات على المقدس والمعصوم والأخلاق، ولوثت فضاءاته، ففي ظل هذه الظروف المتردية أخلاقياً وفكرياً، وفي ظل التمرد على القيم الفنية واللغوية لزم نهوض الخيرين لتدارك الأمر، والخلوص من لوثات الفكر وتردَّيات الأخلاق، وإذ تعمدت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة إفساد الأخلاق والأذواق فإن واجب الأدباء الإسلاميين إصلاحها، وما من عاقل رشيد يشك بأن إبداعات بعض الحداثيين وطائفة من الإعلاميين تضمر إفساد السلوك، ف(الحداثة) المنقطعة الفوضوية أدت إلى فساد الأذواق والأخلاق، وترديات النصوص تتطلب صحوة متوازنة، تعيد الأدب إلى مساره الصحيح، وتقيل عثرته. وما تخلف (الأدب العربي) عبر عصوره عن النهوض بمهمة التهذيب والتربية، وإن واكب ذلك جنوح فردي تعهده النقاد الأخلاقيون بالتقويم، ولو نظر المتابع الواعي إلى موسوعات الشعر العربي القديم والحديث لتبين له أن ما يلتمسه في (النص الهادف) نثار في تلك الموسوعات، وكل الذي يمتاز به (الأدب الإسلامي) بوصفه وعاء ذلك النص أنه يحول دون اختراق أجوائه بما يسيء إلى السلوكيات المهذبة، والذوقيات السليمة، والأفكار المستقيمة. وما تفرق الذين غمرتهم النصوص المدانة إلا من بعد ما جاءهم مصطلح (الأدب الإسلامي) ببيانه وحذرهم من مغبة القبول بالكلمة السيئة، وما كان هدف الأدب والأديب إلا إشاعة الكلمة الطيبة والقول السديد، ومن تصور الأدب الإسلامي غير ذلك، فقد وهم وجار في حكمه. ولهذا يكون تهذيب السلوك جزءاً من رسالته، لا ينقطع لها، ولا ينقطع عنها، إذ هو في الحالين يخل بمهمته الأخلاقية وأدبيته الأصيلة، لكونه إبداعاً قولياً له رسالة إصلاحية، وبرَاعته في حفظ التوازن، إنه يعرف كيف يتناول المهمة الأخلاقية، دون أن يكون ذلك على حساب فنيات الإبداع الشعري والسردي. وكل الذي يفصله عن (الأدب العربي) شعوره بأهمية شرف المعنى، وهو فيما سوى ذلك أدب عربي بكل ما يعنيه ذلك المصطلح من دلالات ومقتضيات، نقول هذا لنثبت أن (الأدب العربي) يحمل هذا الهم الذي أدركه الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) حين ندب إلى حفظ الشعر، بوصفه ديوان العرب. وإشكالية الأدب الإسلامي، أن الذين يتلقون مصطلحه، يتصورونه شيئاً آخر، وأنه مختلف جداً عن سائر الآداب، وأن إسلاميته على حساب شعريته وأدبية سرده. وما ساور أحداً من دعاة الأدب الإسلامي أيُّ شك بأهمية الشعرية على قواعدها والأدبية على أصولها. وما شهدت المشاهد الأدبية صراعاً خارج أطر القضية، مثلما نشهده حول ذلك المصطلح. ومعضلة المصطلحات الجديدة أنها تستقر في الأذان منذ أول يوم، ثم لا يكون من اليسير تغيير ما استقر، و(الأدب الإسلامي) استقر على غير مراد ذويه، ولما يزل يعاني من هذه المفاهيم الخاطئة، ومنشأ ذلك كله أزمة المصداقية، فلو أن خصومه تلقوا مفهومه من ذويه، ولم يفتروا مفهوماً غير مقبول، لكان ذلك مؤذن بقبوله والتفاعل معه، وعذر المتلقي أنه تلقاه من غير مصادره المشروعة، فكان الخوف من التصنيف والخوف على الأدب مرتبطاً بالمفاهيم الخاطئة، والمشفقون على وظائف الأدب وسماته من الأسلمة، كالذين يروجون تحفظاتهم وتخوفهم من أسلمة العلوم الإنسانية، كعلم النفس والاجتماع، وما دروا أن الأسلمة لا تمس قوانين العلوم ولا جوهر الأشياء، وإنما تطعِّمها بمقاصد الشريعة، وإذ يعتري الأدب سوءُ تعبيرٍ من الخصوم، فإن للمقصرين من الأنصار دوراً في غبش الرؤية، ولا أظن المقتضى المصطلحي مسؤول عن الجنايتين. فالمصطلح ذو شقين: - أدب يقتضي الأدبية والشعرية. - وإسلام يقتضي الاستقامة على الحق. ومن هنا يتبين لنا اضطراب المفاهيم فيما تتداوله المشاهد الأدبية. ولو أراد المناوئون فهم (الأدب الإسلامي) على ما هو عليه، لأعدوا أذهانهم، واستعدوا لقبول الحق، ثم ما وسعهم إلا مناصرتُه، والعملُ من خلاله، ذلك أنه أدب بكل ما تعنيه كلمة الأدب، وإسلامي بكل ما تقتضيه كلمة الإسلام. وليس في طرح هذا المصطلح ما يثير التساؤل، وإنما التساؤل هو في تصوره شيئاً آخر، يغاير (الأدب العربي). وما هو إلا أدب كأي أدب هادف، يستمد لحمته من رسالة حضارته التي ينتمي إليها. والإسلام حضارة شمولية، لا تدع شيئاً أتت عليه إلا تركت فيه نصاً ظاهر الدلالة أو مضمرها، تُستلهم الأحكام من ظاهر النص القطعي أو من دلالته الاحتمالية، ونظرية التلقي والتأويل تحدد المفهوم المباشر أو المفهوم المحيل إلى المقاصد والمقتضيات بمساندة القياس أو الاستحسان، وعبر آليات الاجتهاد، وعلى ضوء الأصول والقواعد التي يحيل إليها فقهاء الأمة عند غياب النص بمفهومه الفقهي. ف(النص) عند الفقهاء ما لا يحتمل إلا دلالة واحدة، ولهذا يقولون: (لا اجتهاد مع النص)، وعند غياب النص أو احتماله لعدة دلالات، يتوسلون بالمقاصد والأنساق والسياقات والأحوال، ويأتي من علماء الأمة من يستنبط الأحكام على ضوء المقاصد، وأدب كل أمة يسبح في فضاءات حضارتها، بحيث يستمد لحمته وسداه من مقاصدها، ومع أنه جزء مكمل لتلك الحضارة فإنه لا يكون متماثلاً مع الأجزاء الأخرى. لقد جاء القصص القرآني متوفراً على أحسن الأداء ومتضمناً لأحسن المضامين، وفي ظلاله سار القصص النبوي. والكلمة الطيبة تضطلع بمهمة التهذيب والتربية وتحتفظ بجمالياتها الإبداعية، وليس على الإبداع غضاضة إذا توفرت مقوماته لدى المبدع حين ينهض بمهمة التهذيب السلوكي والتربية الذوقية والأخلاقية، ومع تداخل المهمات بين الفنون والمعارف يعرف كل قوم مشربهم. فعلماء التفسير والحديث والفقه والتاريخ والفكر والأدب يعرفون رسالتهم وأبعاد فنهم، وشرط نصِّهم، ومع افتراقهم في الاستخدام اللغوي والمؤثرات الجمالية فإن للجميع غاية واحدة، تحددها آيات {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} و{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} و {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}ومع هذا التنصيص يجدون أنفسهم أمام حاجاتهم البشرية التي تجسدها آيات {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} و{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. إن الإسلام يقوم على الوسطية والتوازن، يعطي الجسم حقه، ويعطي الروح حقها، ولا يبخس من الحقين شيئاً، كما أنه بتوازنه لا يقبل الغلو ولا التطرف ولا الانقطاع للعبادة، ويؤكد على الرفق عند الإيغال في الدين. وليس في الإبداع نصٌ لا يحمل رسالة، وليست هناك حضارة تقبل نصاً ينقض عراها عروة، عروة ويفسد أخلاق ذويها. وما النص الهادف إلا بعض مطالب الأدب الإسلامي. |
النص الهادف تربية وتهذيب..!! (2 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل ومهمة (الأدب الإسلامي) ليست وقفاً على الفائدة الخالصة، وإنما هي خليط من الفائدة والمتعة، بل أكاد أجزم بأن الهدف الأسمى يقف حيث إشاعة الكلمة الطيبة، وتمكينها من النقاد عبر الكلمة الشاعرة أو النص الأدبي، وحين يحمل المبدع والناقد هذا الهم، يكون التهذيب السلوكي والتربية الذوقية عفويين يعبقُ بهما النص دون تعمُّل، وما من مبدعٍ متضلع من تراث حضارته، إلا ويكون إبداعه متعالقا مع مخرجات ذلك التراث، ذلك أنه تراث يعيش الخلطة مع النص المقدس والحكمة الموحاة، وهو نتاج ثقافة إسلامية مهيمنة، لا يحيد عنها إلا هالك، وأثرها بادٍ حتى على العرب من غير المسلمين. وما تفرق أدباء الأمة إلا من بعد ماجاءتهم حضارة الغرب، وهم فارغون من كنوز حضارتهم، إذ ما من محمدة في سائر مجالات الحياة إلا وهي ضالة المسلم، وكيف يفتقر الإسلام إلى قيم الغير؟ والله قد أكمله وأتم نعتمه ورضي الإسلام دينا. وعلماء التربية والنفس والاجتماع الفارغون من معارفهم، يجوسون خلال معارف الغرب، ويأخذون بأسوئها، وما في كتاب الله وسنة نبيه خير مما يجمعون، ومع ذلك فليس هناك ما يمنع من الاستفادة المشروعة من كل طارئ أياً كان مصدره. إن مهمة المبدع أن يجعل من بيانه سحراً حلالاً، لا يقود إلى بنيات الطريق ومتاهاته، وإنما يسلك بالمتلقي الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وليس في ذلك ما يضير، فالقرآن الكريم الزاخر بالقيم الأخلاقية السلوكية والدعوية، جاء في ذروة البلاغة والفصاحة والبيان، وكان إعجازه البياني مسرح الأدباء، ومجال البلاغين، محتفظاً بمكانته التي لا تنازع، ومن تصور أن شرف المعنى محسوبٌ على شرف اللفظ، فقد تقوَّل على الأدب الأخلاقي كل الأقاويل. وحين يؤكد الناقد الإسلامي على أهمية الاضطلاع بمهمة تربية السلوك، واستثمار آي الذكر الحكيم وصحيح السنة النبوية وسير السلف الصالح، فإنه لا يغمط الشعرية ولا الأدبية شيئاً من حقهما، ومناشدة التهذيب والدعوة إلى مكارم الأخلاق، لا يستجيب لها إلا الذين أشربوا في قلوبهم حبَّ القيم الأخلاقية السامية. ومهمة تهذيب السلوك مهمة كل مقتدر، وهي لذلك بعض مهمات الأدب الإسلامي، ولكل فن مسؤولية خاصة، ومسؤوليات مشتركة، والنهوض بالمهمة المشتركة لا يَفْترض التجانس بين التخصصات، بحيث يكون الأديب على ألق الشعر وسديد القول. ونكد الشعر يروضه الصدق ولا يغني عن صدقه كذبه، كما يقول (البحتري). إن باستطاعة القاص والروائي والشاعر أن يتوفروا على سائر القيم السلوكية، دون الإخلال بالشعرية والأدبية، ودون الخروج بالأدب عن خصوصيته الإبداعية وسمته الجمالية. ومن قعدت به إمكانياته الفنية والجمالية، لم تسبق به دلالته الدينية، وليس أضر على (الأدب الإسلامي) من ذلك المفهوم. لقد شاعت بين الطوائف والأحزاب والفئات أخلاقيات المداهنة وإعطاء الدنية، فكان أن هبطت الفنيات، وفقدت الضوابط، وأصبح كل مفرط محمي بمظلة الموالاة. ومن الخير للأدب الإسلامي ألا يقبل شرف المعنى دون أدبية النص أو شعريته. والمجاملة على حساب الثوابت إضاعة للقيم الباقية. والخائفون على خصوصية الأدب - وهو تخوف في محله - يجب أن يعرفوا أن المصطلح يسبق في تركيبه إلى الأدبية، فالفقيه والواعظ والنظَّام لا يكون أحدٌ منهم أديباً، ولا تصدُق على ما ينحتونه من القول سمةُ الأدب، وإن كانوا جميعاً يحملون هم تربية السلوك. والأديب المسلم يدرك مسؤولية الكلمة ومهمة المبدع ورسالة المفكر، وطريق النفاذ إلى المتلقي عبر المحفزات الجمالية، فهو لا يطلق لقلمه ولا للسانه العنان، بحيث يقول الكلمة، ولا يلقي لها بالاً، وفي الحديث الصحيح (إن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في النار) وحديث (وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم). وهو إذ يعي خطورة الكلمة، فإنما ذلك امتدادٌ لاحترام الإنسان. وهو حين يحرص على شرف المعنى يعرف جيداً القيمة الجمالية للكلمة وأثرها في إمتاع المتلقي واستمالته وإقناعه، وقدوته في ذلك (القرآن الكريم) الذي اعتمد في تأثيره وإعجازه على الجلال والجمال، فالجلال جمال معنوي كامن في النص، والجمال مدرك حسي، يتمثل في روعة النظم وجمال الصياغة والانزياح اللغوي والمجاز والإيجاز والاستعارة والتشبيه وسائر المحسنات اللفظية والدلالية. وليس هناك ما يمنع من توفر الجمال والجلال في النص.. ومع ما يكتسبه المتلقي في عوائد يحملها جمال النص وجلاله فإن الكلمة الطيبة الرقيقة الجميلة تسهم في ترقيق الطباع ولينها، كما المناظر الجميلة، فكلما خشنت المناظر خشنت الطباع، وحياة الصحراء والجبال ولوافح الرياح تخشن معها الطباع، وقد تصل بتأثيرها إلى حد الفظاظة والغلظة، وكلما رقت المناظر رقت الطباع، ولقد أدرك (يوسف) عليه السلام خشونة البادية وأثرها على الطباع، وحمد الله على خروجه من السجن ومجيء أهله من البدو، وكذلك بحث الفقهاء الموقف من (التبدي). وعلماء الاجتماع يرون أن هناك علاقةً بين طباع البشر وطبيعة الجغرافيا التي يعيشون فيها، وحتى التعامل مع المخلوقات له انعكاساته، وفي الأثر (ما من نبي إلا رعى الغنم)، ذلك أن طبيعة الغنم الهدوء والنظر إلى مواطن الأقدام، بينما رعاة الإبل الغالب عليهم الخشونة والغلظة، وإذا ألف الإنسان سماع الكلمات الرقيقة الجميلة الطيبة تركت في نفسه أثراً حسناً، ولهذا ندب الإسلام إلى القول السديد قال تعالى: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} وقال: { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ}وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقال: { لاَ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ}، وفي الأثر: ليس المسلم بالطعان ولا باللعان ولا بالمتفحش. فالكلمة الطيبة تسهم في تهذيب الأخلاق، وإن لم يتعمد المبدع ذلك، وتربية السلوك تأتي باستشعار المبدع، وتأتي كامنة في النص كما العبق. و(الأدب الإسلامي) الذي يأخذ على عاتقه مهمات تربوية لا ينسى أبداً دوره الأصيل بوصفه أدباً، يعتمد الجمال والإمتاع، فإذا كان المعلمون والخطباء والوعاظ يحملون هم التربية السلوكية، ويجعلون ذلك كل همهم فإن الأديب الإسلامي يعرف أنه مشاطر بهذه المهمة، ينهض بها عفوياً وقصداً، ولهذا استوفى الدكتور (شوقي ضيف) الجانب الأدبي في شعر الزهد والوعظ وعده ظاهرة أدبية في عصور الازدهار، مع أن طائفة منه مأخوذة بالنظم والمباشرة.. ولما كان إنتاج (الأدب الإسلامي) محسوباً على الأدب فقد يضع كلَّ الاعتبار لتقييد نفسه في محيط الأدب لا يبارحه، بحيث لا يكون الأديب واعظاً أو فقيهاً، والذين يبررون تخليهم عن الانضباط الأخلاقي بحجة أن مهمتهم ليست وعظية ولا تربوية، يرتكبون خطيئة التفريط في شرف المعنى المعادل لشرف اللفظ، ويصادرون شطراً مهماً من وظائف الأدب، وهي التأديب، وفي الأثر غير الصحيح (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فكلمة (أدب) قبل أن تكون مصطلحاً إبداعياً، هي ممارسة تقويمية، وتهذيب السلوك كامن في المصطلح ذاته. لقد تجاوز الأدب الظاهرة (الرومانسية)، وبقدر إغراقه السالف في الأحلام والأوهام أغرق في (الأدلجة) والتسييس، والأدباء والنقاد مسرفون في الحالين ف(المتأدلجون) و(الرومانسيون) لم يتوفرا على مطلب الوسطية التي ينشدها (الأدب الإسلامي). ولأنه كأي أدب عالمي يحافظ على أدبية السرد وشعرية النظم، وما يتطلبان من جماليات ممتعة ومستميلة ومقنعة، فإن الخلوص للتهذيب السلوكي قد يأتي على حساب الجماليات الإبداعية، وتلافياً لذلك لا يكون (النص الهادف) منقطعاً لمهمات العلوم الإسلامية، وإنما يحمل منها ما لا يؤثر على خصوصيته بوصفه أدباً بالدرجة الأولى، كما أنه لا يطالب المبدع أن ينقطع لأي مؤثر على فنياته، ولكنه يؤكد على سلامة النص من أي إخلال بالقيم الأخلاقية. وإذا اضطر المبدع أن ينطلق من قعر الواقعية فإن (الأدب الإسلامي) يود منه ألا يمارس الوصف والتسجيل المباشرين، فيقع في الحديث عن القاذورات الواجب سترها، ولا يترفع عن سفاسف الأمور، وينصاع إلى أدب الاعتراف المخل بالقيم. وكل من جنح إلى النص الواقعي فعليه أن يكون قدوته في ذلك ما قصه القرآن الكريم عن (يوسف) عليه السلام مع امرأة العزيز، لقد عرض لآثار لخلوة وفتنة النساء، وجاءت النهاية محققة انتصار الفضيلة، وكل أدب يحكم الصراع بين الفضيلة والرذيلة، ثم يجعل الانتصار للحق يعد أدباً إسلامياً، ولو ضربنا الأمثال بروائيين عرفوا بالواقعية السلوكية ك(نجيب محفوظ) وآخرين حاولوا حفظ التوازن ك(نجيب الكيلاني) لأدركنا كم هو الفرق بين مشيع للفاحشة ومحذر منها، وكلاهما اتخذ شخصياته وأحداثه من الواقع الاجتماعي، وتشابهت عندهم الأحداث ولم تتشابه المصائر والمآلات، مع أننا نتحفظ على بعض إبداعات (الكيلاني). وكل أداء تقبله الأذواق السليمة، ولا ينعكس أثره السيئ على الأخلاق، ولا يثير الغرائز الحيوانية، يعد من الأدب المقبول، وإن لم يكن في خدمة الإسلام المباشرة والمنقطعة. وفي الذكر الحكيم {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ذلك أن الإسلام يقدر النوازع البشرية، ومن ثم فإن مهمة المسلم عمارة الكون وعبادة الخالق وهداية البشرية والتمتع بالطيبات الحسية والمعنوية، لهذا يفسح المجال للمتعة واللهو البريء، وفي الحديث الصحيح: (إن الأنصار يعجبهم اللهو)، وحين نضع مثل هذه التحفظات وتلك الاستدراكات فإنا نود الحيلولة دون رغبات جامحة تريد من الكلمة الإبداعية أن تكون وعظية لا تبرح الوعظ إلى غيره أو لا توفر أدبية النص عند الإلمام بالوعظ. وكم هو الفرق بين الأدب الإسلامي والأدب الديني وأدب الزهد والرقائق والتصوف، إنه أدب لا يدعو إلى طائفية ولا إلى رهبانية، إنه أدب فكر وهم وإحساس إسلامي، يلتمس فيه القارئ نصاعة الإسلام ونقاءه وسمو أهدافه ونبل غاياته. إنه أدب عالمي يتسع لكل من يشهد ألا إله إلا الله، ويعتمد لغة الأمة وأخلاقياتها السامية، ويرفض العهر والكفر والتنازع وإثارة الضغائن، وكيف يحتويه شيء من ذلك، وهو يتخذ من خُلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة ونبراساً، وكان خُلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن، وأسلوبه اللين، ولقد أشاد القرآن بصفاته { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} إن (الأدب الإسلامي) وهو يحمل هم الإسلام الدعوي، يحتفظ بكل مقومات الأدب، فلا يساوم على شيء منها، ولا يقبل من الضعفاء أن يكونوا شواهد في سوح الأدب، إنه الأدب الرفيع فناً ودلالة، كل الذين يتوسلون إليه بالمعاني الجليلة لا يقبلهم، إلا إذا توفروا على جمال النص وشرطه الإبداعي. وحين يستبطن المبدع الإسلامي هم التربية السلوكية، والذوقية، يهيئ لها مجالاتها، فالقصة والرواية والسيرة الذاتية وأدب الرحلة وسائر السرديات والأنشودة والقصيدة والمسرحية (الشعرية والسردية)، كلها مجالات صالحة للتهذيب، وحين لا يحمل المبدع ذلك الهم فلا أقل من أن يتحامى الإساءة إلى المتلقي. لقد حث الإسلام على القول السديد، فإن لم يكن، فلا أقل من الصمت، وحث على تجنب القاذورات، فإن لم يكن بد من ذلك، فلا أقل من الستر، وتجنب المجاهرة بالمعاصي، وفي الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) و(إذا بليتم بهذه القاذورات فاستتروا فإن من بدت لنا صفحته أقمنا عليه الحد) وفي الذكر الحكيم: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، إن الكلمة مسؤولية، والمسلم مرتبط بها ومحيل إليها. |
شاعرية مع وقف التنفيذ
د. حسن بن فهد الهويمل لن أعيد مقولة: الشعراءُ أربعة، بحيث أضعُ شاعرنا في موقعه المناسب، فلربما تأخذني العاطفة، لأقول: إنه يجري ولا يُجرى معه. وهو فيما أعلم من أزهد الناس بالثناء، ولو كان الثناء شهادةً بما عُلم. ولن أستذكر ما قلت من قبل، وكان مثار إعجاب البعض، وهو أن الشعر: موهبة أو اقتدار أو هما معاً. وكم من أدباء ألفوا الشعر: قراءة وتدريساً ومناقشةً وتحكيماً، فقالوه اقتداراً، ولم يقولوه موهبة، فجاء موزوناً مقفى، يحمل إيقاعاً ودلالة، ولكنه لا يحمل نبض الشعر. ولقد مللت من تكرار القول: بأن الشعر: موهبةٌ، وثقافةٌ، وموقفٌ، وأجواء. فإذا تخلف عنصرٌ من هذه العناصر الأربعة لأي عارض تخلف الشعر. وإذا اكتملت العناصرُ اكتمل الشعر. و(المتنبي) الشاعر الفذ، الذي شغل الناس، ونام عن شوارد شعره، له شعرٌ رديءٌ، يود محبوه أن يدسوه في التراب، وإذا أمسكوه فإنما يمسكونه على هون، وسبب ذلك تخلف عنصرٍ من تلك العناصر التي قد تكون مفقودة عند الأكثرين من الشعراء. ولما كان الشعر كالجمال والحب والسعادة لايُعرَّف، فإنه معهودٌ ذهني لا تكاد تخطئه العين. واختلافُ النقاد حول التجريب الشكلي أو الانزياح اللغوي، أو ما شئت أن تقولَه عن التحولات التي خَرجت بالكلام إلى مضائق الإبهام والانقطاع والانطفاء، كلُّ ذلك يصبُّ في اختلاف المفاهيم حول الشعر. ومن قال بأن الشعر وزنٌ وقافيةٌ واجهه المعارضون بالنظم العلمي. ومن لم يقلْ ذلك يواجه ب(القصيدة النثرية). ومثلما اختلف السلف والخلف حول مفهوم أدبية (النص الأدبي)، اختلفوا كذلك حول مفهوم شعرية (النص الشعري). ولو رحتَ تسأل: ما الشعر؟ لتقطعت بك الأسباب، مع أن مفهومه أقرب إلى العربي من حبل الوريد، ولكن التمحل أبعد النجعة، وأخرج التجريب الشعري من دائرة الشعر إلى دوائر أخرى، فكان قولهم كما تفسير (الرازي) فيه كل شيء إلا التفسير. أقول قولي هذا تمهيداً للوصول إلى نقطة لقاء، تؤجل المشكلة الشعرية، ولا تحسمُها، لأن في حسمها قطعاً متعمداً لأرزاق النقاد، وكما قيل: (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق). وحين نَقْدر على تأجيل المشكلة، نعود لنبحث عن موقع شاعرنا (عبدالله بن صالح العثيمين) في هذه المعمعة. والشاعر أيُّ شاعر قد يقوَّم من خلال لغة الشعر، أو من خلال شكله، أو من خلال صوره وأخيلته، أو من خلال مضامينه. وكل ناقد يلقي بأدواته في زاوية من زوايا الشعر التي تتسع لكثرتها والتوائها وتنوعها لكل قائل، يود أن يقول ما يعقل وما لا يعقل، وما يفهم وما لا يفهم. ولأن الذوائق تختلف فقد يقال عن أي شاعر ما يصعد به فوق هام السحب، ويقال عنه من فئة أخرى ما يهوي به في مكان سحيق. وقضايا الأدب مفتوحة على كل الاحتمالات، لأنها ليست عملية رياضية، ولا حكماً شرعياً قطعي الدلالة والثبوت. ولهذا فالنقاد في حل مما يقولون، متى حاموا حول الحمى. والشعراء مع النقاد كما (كثير عزة) مع محبوبته، يودون أن يكون ما استحلوا: (هنيئاً مريئاً غير داء مخامر). ومع أن مناسبات التكريم تستدعي ذكر محاسن المُكَرَّم كما الأموات إلا أن ما بيني وبين الشاعر يجعلني في حل من ذلك، والذين لايعرفون ما أنا عليه من الخلطة، يتصورون أنني جئت لأبني له قصوراً من الثناء. ومع أنه شاعر لا غبار على شاعريته، إلا أنه لم يشأ أن يكرِّس نفسه في مشاهد الأدب على أنه شاعر وحسب، وحين تتعدد إمكانيات الإنسان يصبح نهباً لها، وقدرُ الأدباءِ المتعددي المواهب والإمكانيات أن الناس يذودونهم عن الموارد. فالشعراء يقولون: إنه مؤرخ، والمؤرخون يقولون: إنه شاعر، والأدباء والنقاد والكتاب يفعلون مثل ذلك، ومن ليعيش كما الأعراف. غير أن شاعرنا ومؤرخنا وأديبنا (عبدالله العثيمين) لم يأبه بالمقولات، فهو لا يبحث عن المواقع، ولا يعنيه أن يذوده الآخرون، وكأني به يردد مقولة الأعرابي: (الصدر حيث أجلس). ولقد قلت من قبل: إن سمة (الشاعرية) حين يجود بها من يحترم المصداقية لا تعني التسليم بأن كل ما أبدعه الشاعر يأتي في ذروة التألق، وكيف يكون ذلك والنقاد الأقدمون يختصمون حول (أبي تمام) و(المتنبي) ويطلقون مصطلحات (الحكيم) و(الشاعر)، وقد يتساءلون: هل جيد شعره أكثر من رديئه؟ لقد سلموا بالرداءة، ولكنهم لم يسلموا بالغلبة، ومع ذلك ظل (المتنبي) شاعراً لا يبارى، وظل من قبله (أبو تمام) شاعراً لا ينازع. وبعد: أعيذها نظرات صائبة ممن يعنيهم أمر الشعر أن يحسبوا أن قولي هذا تمهيد لحملة نقدية جائرة ضد من يملؤني حباً وإكباراً. وأرجو - في الوقت نفسه - ألا يكون قولي من باب (وعين الرضى). فلقد عرفت الأستاذ الدكتور العثيمين منذ أمد طويل، وكنت من قبل أعده شاعراً لا يبرح رحابه، ذلك أن معرفتي به بدأت من كتاب (شعراء نجد المعاصرون) الذي صدر قبل نصف قرن، وكنت إذ ذاك شاباً أتوقد حماساً وثورة، وكانت موجة (الوحدة العربية) تعصف بالمشاهد، وكان شعره كما شعر (المتنبي) يجمجم عما في نفوسنا. إنه تعبير صادق عما ننطوي عليه من تطلع ملح إلى الوحدة العربية. وما كنا إذ ذاك ندري ما اللعب السياسية. ولما أن تبين لنا أنها (فن الممكن) تجرعنا مرارات الخطابات الثورية. لقد كان شعره ملتهباً، يكاد يرتمي في أتون القومية وخطابها التشنجي، ولما يزل يعاني من تفكك الأمة وتناحرها، وعجزها عن النهوض من عثرتها. والراصد لإبداعاته التي استهلها ب(عودة الغائب) عام 1401ه، وختمها ب(دمشق وقصائد أخرى) عام 1424ه، وجاء فيما بين هذا وذاك (بوح الشباب) و(لا تسلني) و(صدى البهجة) وهو شعر خصه لتقديم الفائزين ب(جائزة الملك فيصل)، المتابع لهذه الأعمال يحس بتحولات شعُورية ونضوج فكري. ولعل تخوم شعره قصيدة (بقينا كما كنا) التي تعد أقوى تعبير عن خطاب المرحلة التي تألق من خلالها، وهذه القصيدة من أوائل القصائد، وهي بكائية تجسد خطاب الستينيات الميلادية: (بقينا على مرِّ الليالي كما كنا فلم نستفد منها ولا غيرت منَّا) ولأنه قد اكتوى بالوعود الثورية الزائفة، وركض خلف سرابياتها فقد صاح في وجه اللاعبين بعواطف الشعوب: (أتى بالمنى الخضراء حين مجيئه وعوداً ولم يصدق بما كان قد منَّى) وجيل الستينيات من شباب العالم العربي كافة، من المحيط إلى الخليج وضع كل بيضه في سلة الخطابات الثورية، ومن ثم فوجئوا بخيبات أمل، قتلت فيهم كل التطلعات، وعلمتهم أن الممارسة شيءٌ، والخطابَ الإعلامي شيءٌ آخر. و(العثيمين) من ذلك الجيل الذي عايش السرابيات، وتكشفت له الأمور عن خيبات أمل. والشاعر لم يستحوذ عليه الخطاب السياسي، ولم يكن ممن يستمرئون جلد الذات، ولا مقاومة السلطة بالطريقة الانتهازية. لقد وجّه نقده اللاذع وسخريته المرة للأمة التي أسهمت في الانكسار، وفي مطولته (رسائل من الجبهة) ينحي باللائمة على الأمة التي غفلت عن ثغورها، وشغلتها المتع الزائلة عن معايشة الأحداث بروح جهادية. فهذا الفدائي المجاهد يسأل أمه: (ألم تزل حفلات الرقص دائرة والليلُ يقتلُه التهريجُ والزار؟) والشاعر راصد أمين لأحداث أمته، وناقد بصير، يضع أصبعه على مفاصل القضية، وإذ ضاقت نفوس الخيرين من قرارات دولية، تصدر تباعاً، ثم لا يكون لها أثر في صد العدوان، فإنه يعبّر عن ذلك الضيق في قصيدة (الحل السليم): (كلُّ القرارات التي صدرت وتعاقبت من هيئة الأمم بقيت كما كانت بلا أثرٍ لا خففت بؤسي ولا ألمي مفعُولها حبرٌ على ورقٍ ووجودُها ما زال كالعدمِ) إن شاعراً يحمل هم أمته، ويعاني من انكساراتها، ويسجل أحداثها، لابد أن يقترب منها، بحيث يطمئن على وصول رسالته واضحة، ومن ثم جاءت لغته سهلة ممتنعة. وظاهرة (السهل الممتنع) تمتد إلى المفردات والتراكيب، وذلك ما يمكن أن توصف به لغة الشاعر، فيها سماحةٌ وعفويةٌ وتلقائيةٌ، ولكنها تحتفظ بقدر وافر من الشعرية. لقد عرضت للشاعر تحولات دلاليةُ، فيما لم أجد تحولاته الفنية بهذا القدر، وإن كانت قصيدته (الأساطير) خير مثال على مجمل التحولات: الشكلية والفنية والدلالية، إلا أن تحوله من الاجتماعيات إلى السياسيات أقوى وأوسع، فلقد كان متناغماً في اجتماعياته مع (الرصافي) وبخاصة في قصيدته (بائسة) وقصيدته (ماذا يريد المستغيث) وهي قصائد تستثير، وتلوم، وتجسد واقعاً اجتماعياً غفل عنه كثير من الشعراء. ولقد اتخذ سبيله إلى الموعظة عن طريق الحديث على لسان غني بطرت معيشته: (ما للفقير المستغيث وما لي؟ أنا قد نعمت بثروتي وبمالي وترفعت عيني الكريمةُ أن ترى كفَّاً معذبةً تُمدُّ حيالي) وهي فيما أرى من أجمل القصائد التي تجسد واقع بعض الأثرياء، وفيها استدرار للعواطف بأسلوب جديد، تسامت فيه المعاني والتراكيب، فكانت القصيدة وثيقة إدانة للأثرياء الجشعين، وأسلوباً جديداً في معالجة الأدواء الاجتماعية. ولأن الشاعر يحمل هم أمته اجتماعياً وسياسياً، فقد كان الراصد والمتابع، وكأن شعره قد تحول إلى وثيقة تاريخية للأحداث. فهو مع ثورة الجزائر، ومع المقاومة الفلسطينية، ومع مؤتمر وزراء الخارجية العرب في بغداد، ومع قضايا التحرير والمقاومة في جميع أنحاء الوطن العربي، يرصد، ويجسد، ويبدي استياءه من الصمت والتخاذل والتناحر، وكأنه موكل بقضايا أمته يذرعها جيئة وذهاباً. هذا اللون من الشعر المثقل بالهموم، لا تتاح له فرصة التحليق في فضاءات الخيال. إنه شاعر ملتزم بقضايا أمته، ومثلما التزم (الرصافي) و(عمر أبوريشة) و(بدوي الجبل) و(الشابي) وآخرون، فقد وقف شعره على تلك القضايا. ولم يفرغ لنفسه كما فرغ لها (عمر بن أبي ربيعة)، وأحسب أنه خص نفسه بالشعر الشعبي الذي رضي أن يجعله للهو البريء، وكيف لا يأخذ حقه من اللهو والرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الأنصار: (يعجبهم اللهو)، لقد حجب عن الناس ذاتيات ممتعة، وحجب نفسه عن مجالات الغزل والسخرية، وارتهن نفسه في ملاحاة أمته. لقد كان في مواجهته لقضايا أمته عنيفاً متسائلاً: (قالوا: الخلافات القديمةُ سوِّيت وتبددت ظُلَم وحُلَّ المشكل ومضت دعايات الوفودِ قويةً لمظاهر اللقيا تَبُثُّ وتنقل أتوهموا أن الحقيقة تنطلي ومكامن الزيف المقنع يُجهل ما عاد سراً أمرُهم فليستحوا أن يطمسو أسرارهم وليخجلوا) نقد لاذع، وتحدٍّ سافر، ولوم عنيف، وكأنه في تساؤلاته ابن بجدة السياسة، يعرف خباياها، ويعي مغالطاتها، ويلوب (لوبياتها). قلت إنني عرفت الشاعر من خلال كتاب (ابن إدريس) الذي ترجم له وذكر بعض خصائصه الشعرية، وقدّم نماذج من شعره، وهو في سن الطلب، ومع هذا فقد بدت بوادر شاعريته واتجاهاته الموضوعية. يقول عنه ابن إدريس: (شاعر تعتمل في نفسه من خلال شعره عواصف الثورة) و (هو من الشعراء الناقمين على المجتمع الذي تُقَدَّسُ فيه الماديات وتُحْتَقَرُ المثاليات الإنسانية). ولست معه حين عدّه من شعراء البؤس والحرمان، إنه شاعر مناضل ضد الظلم الاجتماعي، ومناضل ضد الظلم السياسي، وخطابه في الاجتماعيات لا يختلف عن خطابه في السياسيات: ثورة عارمة، وتحد سافر، ومساءلة ملحة. وحين أقول بأنه: (شاعر مع وقف التنفيذ) فإن ذلك يعني أنه لم ينقطع للشعر، ولم يشأ أن يظل في ركاب الشعراء، فهو العالم المتخصص بالتاريخ الحديث، وبالتاريخ السعودي على وجه الخصوص، وهو الكاتب المتعدد الاهتمامات، وهو الأستاذ الجامعي المتألق، وهو المترجم لكتب الرحالة والمستشرقين، وهو المسؤول، والمستشار، وهو الإنسان المتواضع. وكثير من المفكرين والعلماء كانت لديهم مواهب فنية لم يتح لها النفاذ. - كان العقاد شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا مفكراً. - وكان الرافعي شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا أديباً. - وكان المازني شاعراً، ولكنه لم يعرف إلا كاتباً. - وكان الشافعي من قبلهم موهوباً غلب الفقه على شاعريته، وقال في ذلك: (ولولا الشعر في العلماء يزري لكنت اليوم أشعرَ من لبيد) وكان (عبدالله بن صالح العثيمين) شاعراً، ولكنه شغل عن الشعر بالعمل الأكاديمي، والعمل الإداري، والتخصص العلمي، فكان لا يلم بالشعر إلا حيث يخلص من كل هذه المهمات، وهو حين يلم به لا يراه القضية الأهم، فهو متحدث يعبر عن مواقفه، وكاتب يجسد رؤيته، وما الشعر إلا قناة من عدة قنوات شُغل عنها. |
لوثات المشاهد الإعلامية..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل المصاب بداء المتابعة للنجوى الإعلامية، بوصفه وعاء القول بكل مستوياته واتجاهاته وغثائياته وافتراءاته، يمضه درك الإحباط، ويؤرقه التناجي الآثم، فما من خائض في حديث أو كاتب لزخرف القول ينقض غزل أمته من بعد قوة أنكاثاً إلا يزكي نفسه، ويعدها من الأخيار. وما هو في الحقيقة إلا شقي الأمة وأشقاها، حتى لكأنه عاقر الناقة أو قاتل علي، وكيف لا يكون كأحد الشقيين، وهو الساعي بين الناس بالفساد والإفساد، وقدر الراصد لحراك الإعلام أنه لا يجد إمكانية الفرز بين الضالع في الخطيئة، والقائل بالتبعية، والعاجز عن التمييز يتجاوز بالإدانة إلى غير الضالعين، واتقاء الإساءة كاتقاء الفتنة. وحين لا يكون الاتقاءان، يستوي الناقض المتعمد والببغاء المردد، وسائر الفتن، وفتنة القول بالذات إذا أقبلت لا يعرفها أحد، ولا يرتاب منها أحد، وإذا أدبرت يعرفها كل أحد، ويفر منها فراره من الأسد، ونحن نعيش لوثة الإقبال الأهوج ولجاجة الاهتياج الأعزل من العل والألف، كما يقول (الشنفرى): (ولست بِعلِّ شره دون خيره أَلفَّ إذا ما رعته اهتاج أعزل) وما يتجشأ الكلمات الفارغة إلا الفارغون، والكلمة التي لا يلقي لها المتحدث بالاً، كما الرصاصة، متى انطلقت، مرقت، أو استقرت في صدر ظالم أو مظلوم، ومن استخف بها، تصيدته فيما تصيدت كمتخذ الضرغام بازاً لصيده، وما أشعل أوار الفتن إلا الإعلام المحيل إلى حرية التعبير، وما أضل الناس عن سبل الرشاد إلا الإعلام الذي يصنع ما يشاء لفقده للحياء، وما قوض شوامخ الأمة إلا الإعلام المدفوع الثمن، ولو رُشِّد القول، وكفت الألسن عن التناجي بالإثم والعدوان، لمارس الناس حياتهم، كما صنعتها تربيتهم، وجسدها تعليمهم، واقتضاها معتقدهم، وحملها إعلامهم، ومصميات الأمة من سحرة البيان والمنشئين في الحلية، الذين يقلبون الحقائق، ويكرسون المفاهيم الخاطئة عن سائر القضايا المتداولة، والمرحَّلة من عقد إلى آخر، والمعلوكة كما اللبان، من حقوق وقضايا ومذاهب ومصطلحات مصابة بوضر الحضارة المصدر من (ليبرالية) و(ديمقراطية) و(عولمة) وتلك شعارات تمثل الطعم الذي يلوح به من سلبوا (الحرية)، وصادروا (الحقوق)، ومارسوا نخاسة اللحم الأبيض، وأيدوا الأنظمة الظالمة. وما تلك الشناشن إلا بعض التغرير والاستدراج المتعمد من اللاعبين الكبار الذين ما فتئوا يوحون إلى السماعين لهم بما يربك المشاهد الإعلامية، ويشغل المصلحين والناصحين عن ممارسة مهماتهم في أجواء ملائمة، وشهوة الإعلام المستفحلة عند المندهشين بالآخر والمبتدئين غير الحذرين تقوم على تقويض ما أنجزته الطائفة المنصورة في آفاق المعمورة من ثقافة متوازنة، ودعوة حسنة، نبهت الغافلين، وأبانت لهم طرق الرشاد، وعلمتهم العفو والصفح، والغلطات المصمية تتمثل في الخلط بين (الإسلام السلفي) و(الإسلام المسيس) لتمرير اللعب، ولسنا في هذا التحذير من دعاة (نظرية التآمر) المتنصلين عن المسؤولية، ولا من المستبعدين للكيد والمكر، فالحياة رهينة الصراع عبر الكلمة أو البندقية، ومن أرادها برداً وسلاماً، فقد يؤخذ على غرة: (ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ونام عنها تولى رعيها الأسد) والطيبون من الكتبة ومن دونهم يأخذون الوعد والوعيد على علاته، ولا يتثبتون، والأشد غفلة وسذاجة من يظنون أنهم بالسخرية والاستهزاء ينتصرون لقضاياهم، ويحققون الحضور المشرف، وما علموا أنهم بهذه (الغلوسات) إنما يخدعون أنفسهم، وما يشعرون، والجزر والمد في تداول الآراء يقتضي استحضار الثنائيات: الحسية والمعنوية، لا لتصعيد الحوار إلى الصراع، والصراع إلى الصدام، وإنما ذلك لاحتمال الأذى، وتحفيز النابهين على تغليب الحق على الباطل، والصدق على الكذب، والرفق على العنف، واللين على الفظاظة والغلظة، إذ لا مراء حول ثنائية التناقض أو ثنائية التلازم،{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(49) سورة الذاريات، وإذا كان بين ثنائية المحسوس تلازم مشروع، فإن بين ثنائية المعقول تناقض ممنوع. كالسلطة والتسلط، والكرم والإسراف، والحرية والعبودية، والفوضى، والانضباط، وكل شيء في الوجود له طرفان ووسط. {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (29)سورة الإسراء، والمعضلة فيمن يقرر الوسطية والتطرف، وهي معضلة تمتد إلى من يقرر الثوابت والمتغيرات، والاختلاف المعتبر وما علم من الدين بالضرورة، والمحظور والمباح. والناس مستخلفون على ما في أيديهم، ورعاة في مواقعهم، وكل مكلف على ثغر من ثغور الأمة التي ينتمي إليها والحضارة التي يتشكل من خطابها، وما من خلل إلا وراءه جهل أو تقصير أو عمالة أو مروق، وسد الخلل رهين التغيير {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (11) سورة الرعد، والتغيير المواكب لتحولات الحياة المنسجم مع إيقاع المقاصد غير التهافت على سراب القيعان، وإتيان البيوت من أبوابها أفضل من تسلق المحاريب و(فقه الأولويات) من المعارف الغائبة، وحين تكون المسائل نسبية فإن الحق واحد، لا يتعدد، ولا يتناقض، قد تتعدد الآراء تبعاً لنظريات: التلقي والتأويل والمعرفة، ولكنها لا تتناقض، وإشكالية (النسبية) تمد بالغي كل من ألجمه الحق، ومتى أحصروا وجدوا في فسح الثنائيات والنسبيات والتأويلات مجالاً لمطل الحق، وتصعيد الاختلاف المفتعل قد يؤدي إلى اقتتال الطوائف المؤمنة عبر أفرادها، حتى مع الاختلاف المعتبر، فضلاً عن المفتعل، على الرغم من أن كافة الطرق تؤدي إلى (روما) متى كانت متوازية لا متعاكسة، واقتتال المتناحرين بالألسن والأقلام ليس بأقل خطراً من الاقتتال الحسي، وواجب المقتدرين الإصلاح، وعند البغي يلزم صد الباغي، ولوثة المشاهد الإعلامية من كتاب ينقصهم التأصيل والتحصيل، وهو نقص يؤدي إلى الخلط بين الثوابت والمتغيرات والأفكار والعقائد، والخوض في قضايا (الفقه الأكبر) مع جهل نواقض الإيمان، وحديثنا عن لوثة المشاهد الإعلامية يستدعي النظر في اللغط المستحر حول مفردات الفكر الإسلامي ورجالاته، فما من منجز إسلامي سابق لأحداث (الحادي عشر من سبتمبر) إلا وهو مجال للتشكيك والاتهام والتحميل، وقد يتجرأ المتسرعون على تصفيته: ذاتاً أو سمعة، دون أن يطرحوا بديلاً قابلاً للمساءلة، وكأن الكتبة موكلون بتقصي مفردات الدين وأعيان العلماء والدفع بهم إلى درك الاتهام والتشكيك والتصنيف، تمهيداً لتصفية السمعة والمشروع معاً. وبصرف النظر عن دوافع تلك الحملات الظالمة والعنيفة والمتواصلة فإنها تصب في سلال الأعداء، وتمكنهم من رقاب الأبرياء: دولاً كانوا أو فئات أو أفراداً، وإشكالية حملة الفكر الإسلامي أنهم باقون فاعلون منذ أن قال جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم :(اقرأ) إلى (يوم الوقت المعلوم) الذي أنظر الله به (إبليس)، وحملة الأفكار المناقضة يمرون بحملة الفكر الإسلامي كما الأمواج التي يلغي بعضها بعضاً، وعلى المتردد أن يستعرض المشهد الفكري العربي منذ (رفاعة الطهطاوي) حتى (أركون) ولينظر كم استقبل المشهد من نظرية أو مصطلح أو فكر أو حزب، ثم ليسأل من حوله عن مصائرها ومصائر أهلها، ولعل أقربها وأعتاها (الماركسية) و(الوجودية) و(الحداثة) البادية كأعجاز نخل خاوية، والمتجلدة للشامتين، ولكن المنية إذا أنشبت أظفارها لن تنفع التمائم، وعلى الشاك أن يصيخ إلى لغط (العولمة) و(العلمنة) و(الغربنة) ولوثة (الديمقراطية) و(الليبرالية) و(القومية) ثم لينظر، هل يذهبن ذله وهوانه ما يقال عن قضايا أهلهن أدعياء؟ وفي ظل هذا التعاقب يظل الإسلام بتجذره وشموخه وشموله وتجدده على رأس كل قرن، يرقب مصطلحات جديدة، يوفض إليها الخليون كما النصب، وما من مفكر منفلت من فلكه، إلا له رؤيته فيما تعلق به من محدثات الأمور، وإذ تكون الإنسانية أمة واحدة في الإدارة الكونية، فإنها أمم في الإرادة الشرعية، ذلك أن العلم محصلة سنن كونية لا تتبدل ولا تتحول، وما سواه تتنازعه الحضارات والمدنيات، ولكل حضارة شروط وجود، ومؤهلات شرعية، وسمة خطاب. ولقد قلنا من قبل: إن خطاب القوة يختلف عن خطاب الضعف، ومع كل الرغبات فإنه لا بد من خطوط وحدود، لا يجوز تخطيها تحت أي مفهوم، والمجتمع المدني لا يتحقق إلا في ظل (سلطة سياسية) تحفظ توازنه، وتقوم على حماية أفراده وأفكاره ومسلماته. والأحكام والضوابط والمسالك والمدارك مرتهنة للكلام، حتى تأخذ طريقها إلى التفعيل، ولا يتم شيء من ذلك إلا من خلال الامتثال الطوعي أو الرقابي، والذين لا يعرفون السلطة، ولا يحترمونها، لا يعرفون الحرية ولا يتمثلونها، وكل مجتمع مدني محكوم بسلطات: الدين والسياسة والمجتمع، وقد تند واحدة من هذه السلطات، فتكون تسلطاً محضاً، أو تكون خليطاً من السلطة والتسلط، ونزع السلطة أخطر من نزع الحرية، وجنوح السلطة إلى التسلط أهون من جنوح الأمة إلى الفوضوية (ومن مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية)، والسلطة الجائرة أفضل من الفراغ الدستوري. والمتابع ليس بحاجة إلى أن يفتش في صفحات التاريخ القديم، فالأحداث الحية الماثلة من حوله أكبر شاهد، وكل من قال ما يعن له، دون النظر في ضوابط حضارته وأولويات قومه وخصوصية عشيرته يحول الحياة إلى فوضى (وجودية)، أو إلى عبث (سريالي)، أو إلى ضياع (بوهيمي) وتلك مصادر اللوثة الطارئة على المجتمع، ومع أن من المصلحة أن يكون الخصم ألج من الخنفساء، وأهجي من الحطيئة، إلا أن الأولوية في إرشاده وكسبه، فذلك أحب إلى المحتسب من حمر النعم، وقدوة المحتسب رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذي أغري به السفهاء والعبيد، ولم ينتقم لنفسه، بل ظل يدعو لقومه بالهداية ويعذر لهم، ويوم أن ظفر بهم، وتمكن من رقابهم قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكلما طلب منه قتل المعارض قال: لا. |
لوثات المشاهد الإعلامية..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل ومثلما استشرى داء الطفرة، وأصاب الأحداث والمراهقين بفيروس الاسترخاء والترف والاتكالية واللامبالاة والتكسير، فقد استشرى داء التمرد والفوضوية، فأصاب المشاهد الإعلامية بلوثة اللغو والجهر بالسوء، والسخرية والاستهزاء والتنقص من الخصوم واتهامهم بالرجعية والماضوية والتخلف والجمود والجهل، وقد تولى كبر ذلك من هم في سن المراهقة الكتابية ومن امتد معهم التصابي والتعاظم والادعاء، حتى فاضت أنهر الصحف بفضول القول المغثي، وحتى كدنا نعد البعض منها صحفاً فضائحية، لا تجد سوقها الرائج إلا في التحريش والتهويش واللجاج. وقد يحمل الصلف والاستعلاء بعض الكتبة على افتراء الكذب، والتقول على المخالف كل الأقاويل، واستباق المشاكل التي تهيج الرأي العام. والمشهد الإعلامي بهذه الفوضوية وذلك الانفلات لا يؤسس عليه، ولا يجس نبض الشارع من خلاله، لأنه يعيش حالة من الاهتياج والانفلات. وإذ يكون من المحامد ألا تكون هناك رقابة صحفية، وأن تكون هوامش الحرية واسعة لكل الحراك الفكري والثقافي والسياسي، فإن الإسراف في استغلال تلك الرخص بطرائق غير مشروعة مؤذن بالعودة إلى ضبط الإيقاع، وقمع التعديات، ومنع القراءات المريبة، والحيلولة دون تحويل الشائعات إلى حقائق، وتبادل الاتهامات، وتشكيل الجماعات الضاغطة. والمتابع للحراك الفكري والثقافي عبر المشهد الإعلامي يدرك الحيدة من الموضوعي إلى الشخصي، وتلك خليقة يخال البعض خفاءها، ومهما ظن البعض ذلك فإنها ستعلم من لحن القول. ومزبلة التاريخ ترقب كل مزايد على مثمنات أمته متطاول على كفاءاتها. والوقوع في المثمنات والكفاءات مؤذن بالتحول إلى درك التنازع المخل بالأهلية، وعند استفحال النقائض لابد من بوادر تحمي المشهد، وتقيل عثرته. ولا أحسب الامة بحاجة إلى (محكمة آداب) كما فعل (السادات) ولا إلى إعادة الرقابة الرسمية، التي تقيد حرية التعبير، ولا إلى لجنة إعلامية تفض المنازعات، وإنما نحن بحاجة إلى رصد دقيق لخطل القول، وتوعية رفيقة لمن لا يسيطرون على انفعالاتهم من (ساديين) و(مازوشيين) و(نرجسيين). فعندما يتدخل (رئيس التحرير) أو من دونه من ذوي الخبرة الصحفية بطريقته الخاصة وبخبرته المهنية، ويلفت نظر الذين لم يهدوا إلى الطيب من القول، ولم يوفقوا إلى القول السديد، وسيتثير فيهم كوامن القيم الأخلاقية، وحق الأخوة الإسلامية، ويأخذ بأيديهم لا على أيديهم، يكون ذلك سبيلاً من سبل محاصرة اللوثة الصحفية. ولو أننا استطعنا معالجة الجنح أولاً بأول، ولم ننظر إليها على أنها عوارض قابلة للزوال الطبيعي، أو أنها في إطار حرية التعبير، لما استفحلت اللوثة والغثائية بهذا الشكل، ولما استمرأها البعض، ولما استعديت السلطة من المتضررين لحفظ حقوقهم، وهل من المعقول أن يبلغ العنف والصلف والتعنت من البعض إلى حد استعداء الدولة لترويض جماحة من أفراد متضررين أو من جماعة محتسبين. ومتى أحلنا كل تطاول على المبادئ والقيم والأعيان إلى حرية التعبير، دخلنا نفق التناجي بالإثم والعدوان، مما يتحاماه ذوو الأعراض المصونة، ويرتع فيه من سواهم، وذلك ما نخشاه، إن لم نتدارك الأمر. لقد أضر بنا فهم (الحوار الحضاري) على يغر أوصوله، وفهم (الحرية) المشروعة على غير ضوابطها، وفهم (الحقوق الإنسانية) على غير وجهها فكان أن استشرت النقائض. ف (الحوار) لا يعني التنازل عن الثوابت، وخلط الملح الأجاج بالعذب الفرات لا يمت إلى التحضر بصلة، (الحرية) لا تعني مطلق التصرف، و(الحقوق) لا تعني ترك الإنسان يفعل ما يشاء، يأخذ ما له ولا يعطي ما عليه. فالحدود والتعزيرات والعقاب والثواب والقوة والعدل قيم حضارية ودينية، والوازع: ديني وسلطاني. والأخذ على يد السفهاء وأطرهم على الحق مبدأ إسلامي، وإنكار المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب أمر يقتضي الوجوب، ودرء الحدود والعفو والرفق واللين قيم إسلامية، لا يجوز تغييب شيء من ذلك باسم الحرية أو الحقوق. واشتغال المبتدئين بالقضايا المصيرية، وتعملق الأقزام بحجة نحن رجال وهم رجال مضيعة للجهد والمال والوقت وفي النهاية: لا يصلح الناس فوضى لا سرات لهم ولا سرات إذا جهالهم سادوا وما أضر بالأمة وقضاياها إلا المفاهيم الخاطئة للحرية والحقوق. وأمريكا التي يستقبلها مثقفو (الغربنة) ومختلسو مناهج المستشرقين وأفكارهم والحالمون ب (الليبرالية) و(الديموقراطية) هي التي أجهضت الحرية، وعبثت بحقوق الإنسان. وآخر شهادة تتداولها وكالات الأنباء ما نشرته (منظمة العفو الدولية) من أن الكرامة الإنسانية سقطت ضحية الحرب الأمريكية على الإرهاب، بسبب ما تمارسه (واشنطن) من انتهاكات خطيرة لكافة الحقوق الإنسانية، منها على سبيل المثال: وسائل التعذيب، واختفاء شخصيات وطنية، وإطلاق صواريخ وقاذفات على منازل مشتبه بها، ومعاملات غير إنسانية في السجون والمعتقلات، وتدنيس متعمد لمقدسات العالم، واستفزاز وقح لمشاعر المسلمين. وعلى الرغم من التعري الصارخ للتعدي والتحكم والوصاية نجد طائفة من الكتاب يشايلون الخطاب الأمريكي، ويرون فيه حمامة سلام وبلسماً لجراح الأمة المهيضة الجناح، وما علموا أن الصهيونية العالمية تسيطر على (المال) و(الإعلام) وأنها جادة في أجهاض المشاريع الإسلامية التي تتبناها مؤسسات الدولة وجمعيات المواطين الخيرية، وفي مواجهة هذا التعنت والتدخل السافر في أخص الخصوصيات يجنح العقلاء المجربون إلى السلم والدفع بالحسنى والاتقاء قدر المستطاع، مفضلين ركوب أهون الضررين. ولست أدري ماذا سيخرج به أصحاب ثقافة التملق والانحناء والصدمة الحضارية الذين ما فتئوا يمطرون مفردات الإسلام ورجالاته بوابل من الاتهامات التي تصب في ملفات الادعاء الغربي ضد الإسلام؟. ولست أدري هل قرؤوا الخطاب المفتوح للسعوديين من (تانباسي هسو) فاستجابوا؟ وهل آلمتهم الركلات التي يستدبرهم بها (حيراند بوزنر)؟ أم أن جراحهم ميتة ليس فيها إيلام، وأنهم سيظلون كما الأطفال أمام الحركات البلهوانية لمّا يفيقوا من الانبهار المتحبس والاندهاش المتخلف. أن يسبقنا الغرب في ظاهر الحياة الدنيا، وأن تكون مكتشفاته محل تأمل ومجال تفكير، فذلك الحق الذي لا يكابر به إلا معاند، وأن ننبهر ونفقد التوازن والسيطرة ونعيش ذهول الصدمة، فذلك الخسار والبوار، والمأزقية في تشابه البقر، وثقافة اليأس، وجلد الذات، وتلك خليقة المستغربين التي نواجهها. والذين يرمون بثقلهم في مواجهة ما يسمونه ب (الإسلامويين) يخلطون الأوراق بشكل يشي بأن وراء الأكمة ما وراءها، إذ لا يفرقون بين من يحيل إلى الكتاب والسنة، ومن يحيل إلى فكر الطائفة ورؤية الفرقة، ومن هو على المحجة البيضاء، ومن هو تائه في بنيات الطريق، وفي المقابل نجد من الإسلاميين من يخلط في مواجهته بين (مثقفي المارينز) وطلاب القيم الحضارية التي أنتجها الإنسان في ظل أي حضارة. والمزعج والمريب أن بعض الكتاب لا تراه إلا مستهزئاً بالخيرين مستعدياً على مؤسسات الدولة ذات المهمات الإصلاحية، وعلى الجمعيات الخيرية ذات الفعل الإنساني، وحجة أولئك الداحضة بوادر أخطاء في التطبيق، لا تضاف إلى المبادئ، ولا تخرج عن المتوقع والمعقول، وإنما هي ممارسات تطبيقية مفضولة وظواهر طبيعية متوقعة. وكان الأجدى بهذا النوع من الكتاب أن ينطلقوا من حضارتهم مصلحين مجددين، لا أن ينطلقوا من مستنقات الآخر، ملوثين لمن حولهم، وألا يروا مستهزئين بالمظاهر، كالذين قالوا: (ما رأينا مثل قرائنا...) أو مستعدين للسلطة، وكأنهم موكلون بالقعود للخيرين كل مرصد، إن هذا اللون من اللغط إمداد لأعداء الأمة، وتمكين لهم من رقابها، إذ كل ما تمسك به المؤسسات الغربية المعادية، وتعده حجة دامغة، إن هو إلا ذلك الطفح الرخيص من افتراء الكذب. وحين نحذر من النبش فإننا لا نمنح أحداً قداسة ولا عصمة، ولا نرى لمخلوق مكانة فوق النقد والمساءلة، ولكن نقد الذات يختلف عن جلدها، إن واجبنا جميعاً أن نواجه أعداء الأمة التي لا تفرق بين مداهن ومنافح، وأن نعرف أن مثمنات البلاد الحسية والمعنوية مستهدفة، وأن القبول باتهام الإسلام بصناعة الإرهاب شهادة من الأهل، يطير بها المتربصون فرحاً، ويعودون بها وثائق إدانة ومساءلة. لقد لُملمت أطراف الإرهاب والتطرف بعد هدم (البرجين) ووضعت في سلة الإسلام والمسلمين، ومؤسساتهم التعليمية والدعوية وجميعاتهم الخيرية، واستجاب لهذه الفرية بعض الكتاب الذين يحملون العلم على ظهورهم، ولا يستظهرونه في عقولهم، ولا يتمثلونه في سلوكهم، ومن ثم استدعيت كتب وشخصيات ومناهج وجمعيات يخدم فيها الإسلام والمسلمون. وكان حقاً على المرجفين أن يفرقوا بين الإسلام السياسي، والإسلام المسيس، وإسلام اللعبة الكونية، وإسلام الكتاب والسنة. ولو أنهم فعلوا ذلك لما وسعهم إلا تبرئة الإسلام والمسلمين من أي اعتداء لا مبرر له ولا شرعية. والإعلام الأمريكي المتصهين الذين يقود حملة التشويه صدرت من بعض مؤسساته الحيادية دراسة، تؤكد بالأرقام أن الهجمات الانتحارية لا يقوم بها مسلمون فقط، وأن أكثر من يقوم بها هم (الهندوس) وبخاصة (هندوس سريلانكا) الذين يسمون أنفسهم (نمور التأميل) كما أن أول هجوم انتحاري في التاريخ قام به اليهود، وذلك من أشار إليه (روبرت بيت) أستاذ جامعي أمريكي متخصص بالإرهاب. ومشهدنا الصحفي لا يعاني من (أزمة ثقافية) ولكنه واقع بطوعه واختياره في (ثقافة الأزمة)، بمعني أننا نتهافت على بؤر التوتر، وننقب عن الملفات الساخنة، وما من أمة ولا جماعة ولا أفراد إلا ولديهم من المشاكل والقضايا العصية ما لو عملوا على استدعائها لألهتهم عن كل عمل جاد، وفي الأثر (الفتنة نائمة) وهذا يؤكد أن الفتن موجودة، ولكنها نائمة، ومن الخير للإنسان السوي ألا يوقظها، ونبش القضايا النائمة تمثل ثقافة الأزمات. وكم نسمع ب (ثقافة الكراهية) و(ثقافة الموت) و(ثقافة الخوف)، وثقافات مضافات إلى ما لا نهاية، وهي كلمات تطلق على وقوعات لا على مبادئ. وكأنها الفتن التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة، ولو مُعجمت هذه الثقافات من خلال مقالات المرجفين، لكنا المصدر والمورد لكل الخطيئات، وكأن الله خصنا بهذا اللون من الثقافات. وليس من باب الصدفة أن تضاف كل هذه الثقافات الموبوءة إلى الخطاب الإسلامي المحلي، بوصفه الخطاب الفاعل والمؤثر، وقمعه يفتح ثنيات على حمى الله، والخطاب الإسلامي الرسمي المؤسساتي يمارس حق الدفاع عن نفسه، وليس مسؤولاً عن إسلام اللعب السياسية والتسيس (التكتيكي)، وهذه الإطلاقات التي تخلط الأوراق ماكرة بكل المقاييس، تلقاها السذج والمغفلون، وحسبوها من عند خطاب أمتهم. ولكي نجتاز المختنقات يجب أن نعدل عن نبش القضايا التي لا يشكل غيابها عائقاً لمسيرتنا الحضارية. وأن نشغل أنفسنا بإصلاح ذات البين، والتقريب بين وجهات النظر، وأن يكون نقدنا كما كان نقد الرسول صلى الله عليه وسلم (مالي أرى أقواماً..). ومتى اختلفنا في وجهات النظر، وجب علينا الرد إلى أهل الذكر وأرباب الحل والعقد، ممن يردون إلى الله والرسول، ذلك أن مصلحة الأمة في الالتفاف بجماعة المسلمين، واحترام العلماء الناصحين، والتقارب في وجهات النظر، ونبذ الحديات والتوترات، وتبادل الاتهامات. ويد الله مع الجماعة، والشذوذ مؤذن بفساد كبير، إن الراصد الحذر تتبدى له اللوثة بأبشع صورها، فالكتاب لا ينفكون من إثارة القضايا الساخنة، وتحميل التيار الإسلامي وحده مسؤولية الإخفاق والتوتر، وخطأ التشخيص يؤدي إلى مضاعفة العلة، وذلك ما نراه رأي العين في المشهد الإعلامي محلياً وعربياً. |
مأزق التعالق ومزايدة الفارغين..! (1-3)
د. حسن بن فهد الهويمل الراصد لكافة المشاهد الأدبية والسياسية والفكرية، يشد انتباهه ذلك التثوير المتعمد لقضايا قتلت بحثاً، وتفرق أهلها أيدي سبأ، والناجون منهم لا يقولون إلا معاراً أو معاداً من القول. والمصيخ لنجوى المختانين أنفسهم، يرتاب من استدعاء القضايا المحنَّطة، وبعثرة أوصالها على يد كُتاب لا يعرفون من الأشياء إلا رسمها ولا من الأفكار إلا اسمها، ولا يدرون كم تحت السواهي من الدواهي، ونكارة الاستدعاء أنه يأتي في ظروف بلغ فيها السيل الزبى، وطمع في مثمنات الوطن من لا يدفع عن نفسه، حتى لقد همّ الشجي أن يصيح: (إذا كنت مأكولاً فكن خير آكل وإلا فأدركني ولمَّا أمزق) ومثل هذا التثوير والاستدعاء مؤشرٌ على سوء التوقيت والتقدير. فالعقلاء المدَّكرون المدركون للعواقب المشؤومة، يتخولون الظروف المناسبة والأجواء الملائمة، ولا يدفعون بأطياف الأمة إلى بؤر التوتر، ومضائق التلاحي، ومقترفات التنافي. وكل رفيق مشفق على تماسك أمته، حريص على وحدتها الفكرية وترابط جبهتها الداخلية، له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. فهو لا يمارس عمله الدنيوي ولا اجتهاده الشخصي إلا بعد الاستخارة والاستشارة، وهو مع المقترفين من الرحماء، لمعرفته بالضعف الإنساني، حتى أنه يفرق في المساءلة بين أقوياء الإيمان وضعفائه، كما في قصة الثلاثة الذين خلّفُوا. وهو كذلك يفعل في الأعطيات، كما في أحداث (غزوة حنين) وكما يفعل مع المؤلفة قلوبهم حتى لقد أصبحوا من أهل الزكاة، وهم الذين أسلموا، ولم يؤمنوا، أو الذين يعبدون الله على حرف. وهو في الحدود يندب إلى الستر، ويتوخى التلقين ب(لعلك قبَّلْت..)، ويلوم الدافعين للاعتراف بالذنب والحائلين دون التراجع عنه. وهو لا يريد مواجهة الأخطاء التي يقع فيها أصحابه أو مصاحبوه من المنافقين، مخافة أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، وهو في المواقف الحرجة يجنح للسلام واللين ورأب الصدع. وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وفي الإسلام فسح (الاتقاء) وقبول (الإكراه) مع اطمئنان القلب بالإيمان، و(العدول) عن سبّ معبود الآخر إذا ترتب عليه سبّ للذات الإلهية عدواً بغير علم، وأحسب أنه من الانتهازية والمزايدة الرخيصة التهافت على القضايا المختلف حولها، وتحويلها إلى حدِّيات صارمة، وما ذاك إلا لتصور البعض أن الرياح تهب لصالحهم، وأن مثلهم كمثل المرخي عمامته الذي استغاث به (أبو حرزة): (يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا) وكأنهم بهذا التهافت يغتنمون الرياح قبل أن تسكن. وإذا حُفَّت الأمة بالأعداء المتربصين، واستبطنت بفئات ضالة مضلة، وكيلت الاتهامات الجائرة لمناهجها، وقادتها، وحركتها الإصلاحية، ودعاتها، ومؤسساتها الإسلامية، وإسهاماتها الداعمة للأقليات وللمراكز الإسلامية، فإن واجب حملة الأقلام أن يهبوا للدفاع عن بيضتها، وإن لم تطاوعهم أنفسهم، فلا أقل من الصمت، وذلك أضعف الإسهام. ومن البلية أن يلح البعض في التنقيب عن القضايا المعترك حول مشروعيتها، والممكن تأجيلها، وبخاصة ما يود الأعداء اختراق سيادتنا من خلالها، وأن يتذرع مُنْكُئو الجراح بدعوى الإصلاح، سواء في ذلك ما يتعلق بقضايا السياسة أو الدين أو المجتمع أو الفكر أو الأدب أو غيرها من الدعاوى التي تبدو في ظاهرها الرحمة، وبعض هذه المقترفات مظنة الاتهام بالمواطأة. إذ ما الفرق بين كاتب يعمم في الاتهام، ويوغل في التشكيك، ويتشفى بالتنقص، ويحمِّل المبادئ مسؤولية الممارسة، وإعلام مغرض يروِّج التهم ذاتها. أهذا من باب وقوع الحافر على الحافر؟، أم هو من باب كلُّنا في الهم غرب. ومع الشنآن لهذه الخلائق، فإن العدل والمصداقية تحملاننا على عدم الجزم بالاتهام، لكن الشنشنات لا تخلصنا من هاجسه. والذين يتعشقون نبش المسكوت عنه، وضرب السوائد المشروعة، والتحريض على قطع الصلة بالماضي، ووصل الحبال بأفكار الآخر وأخلاقه لا بعلمه وأشيائه (التقنية) ثم لا يحترمون مشاعر (الرأي العام)، إما جهلة أو مغرضون. والرسول صلى الله عليه وسلم احترم (الرأي العام)، وقدره قدره، حين دخل مكة، وفكر بإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ولم يمنعه من ذلك إلا أن قومه كانوا حدثاء عهد بكفر، ولو كان مصير الأمة مرتبطاً بتغيير البناء لفعله، ولم يبال. والمملكة حين قامت بتوسعة الحرم المكي الشريف، أبقت على (مقام إبراهيم)، مع ما يشكله من عقبة في المطاف، وأبقت على (أروقة الحرم) التي بناها الأتراك، مع أنه من المصلحة العامة إقصاء (المقام) وإزالة (الأروقة). وكل القادة والعلماء والمفكرين الناصحين لعقيدتهم الرحماء فيما بينهم يرفقون بمشاعر العامة، ولا يتعمدون الاستفزاز، وبخاصة حين تكون الأوضاع غير ملائمة، أو حين تكون القضايا من الثانويات المؤجلة. وهل أحد لديه أدنى شك في سوء الأوضاع العالمية، وعدم احتمالها لمزيد من نشر الغسيل. والمخلصون المجربون من يتفادون استدعاء أي قضية لا تشكل عائقاً لمسيرة الأمة، إذا كان في استدعائها إثارة للخلاف أو الخوف، وليس من المصلحة ضرب الرؤوس بعضها ببعض، وتأزيم المواقف بين فئات الأمة، والتمتع بصخب التكسير، مهما كانت العوائد. وجمع الكلمة مقدم على كثير من المصالح العامة، ومقدم على كل المصالح الفردية. وفي الحديث الصحيح (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: (أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم) وقال في حديث آخر: (من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)، وإذ نحمد الله على أن الخلاف لا يمس العلاقة بين الأمة والقيادة، فإن استدراج الرأي العام قد يقحم السلطة في الأزمة، وقد أقحمها في كثير من القضايا الثانوية، فضلاً عن الأولوية، والتناوش الصحفي يكاد يحتنك الهيبة والاحترام المشروعين. ولحرص المصطفى صلى الله عليه وسلم على وحدة الأمة وتماسكها نهى عن المنازعة وأمر بالسمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر والأثرة، وألا ينازع الأمر أهله، ولكنه مع حرصه على جمع الكلمة، ولمّ الشمل، لم يترك الأمر على إطلاقه، بل حدد مسوغات الخروج بالقول أو بالفعل على ولي الأمر الجائر أو المخالف، بقوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) وانظر إلى عدد من اللطائف التعبيرية التي غابت عن كثير من الناس: كقوله: (تروا) ولم يقل (تسمعوا) وربط الكفر (بالبواح)، وهو الظهور والمجاهرة، إذ ما خفي أمره إلى الله، وربط (البرهان) بالله دون غيره من العلماء، وأجمل اللطائف قوله (برهان) ولم يقل (دليل) ذلك أن (البرهان) لا يكون حتى يكون النص قطعي الدلالة والثبوت، فيما يأتي (الدليل) بنص احتمالي الدلالة والثبوت. فإذا اختلف العلماء حول الدلالة أو الثبوت، فلا برهان. وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير أعلام الأمة مليئة باللين والرفق والرأفة ودرء الحدود، وإقالة ذوي الهيئات عثراتهم، وكل من أطلق لقلمه ولسانه العنان في القضايا المختلف فيها والمسكوت عنها والمثيرة لمشاعر العامة لم يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة قدوة له. ومن المصميات ألاَّ يتوفر المزايدون على أدنى حد من المعرفة، وأشد من هذا وذاك التعالم، والتسلط، والتزكية، وشرعنة الفعل، ووصم المخالف بالتخلف، ووصف الصدمة الحضارية بالإعجاب البشري المشروع. والذين يحيلون إثاراتهم على الإصلاح والنصيحة والتصحيح، يغالطون أمتهم، فما من عالم ناصح أو مفكر واعٍ إلا ويحمل همّ الإصلاح والنصح والتصحيح. ولكن الإصلاح لا يكون بالتعالق المطلق مع الآخر، ولا يكون بالاقصاء والاستعداء، ولا بإدانة المبادئ، ولا بتحريف المفاهيم، ولا يكون في قلب الحقائق، ولا يكون بالتشايل مع الإعلام الخارجي المغرض، ذلك أنه إعلام موجه، لا يريد بالأمة إلا الضعف والفساد والتناحر. وهل عاقل يتصور أن أعداء الأمة يريدون لها القوة: المعنوية والحسية؟ وكيف يودون ذلك؟. والقوة المعنوية متمثلة بالإسلام الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبوحدة الأمة الإسلامية بكل فرقها ومذاهبها، والقوة الحسية متمثلة بأمر الله {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}، وما من عاقل مجرب أو متابع حذر يتصور قبول الصهيونية العالمية المتحكمة بوسائل المال والإعلام، ومن يشاركها الهمّ، ويشاطرها المسؤولية باستكمال القوتين: قوة الاقتداء والوحدة، والإعداد. وهل ما نتلقاه من الغرب بطوعهم واختيارهم يحقق لنا التوفر على القوتين؟ وهل حضوره العسكري والسياسي والإعلامي في مشاهدنا العربية والإسلامية ينطوي على خير للبلاد والعباد؟. ومتى سلمنا بسوء نواياه، وجب علينا أن نتخلى عن أي جدل يفضي بنا إلى الشقاق والتنازع. ومع أن الحق أبلج، فإن مصلحتنا في الكف عن منازعة الأقوياء، ما لم تضطرنا الأوضاع المتردية إلى قتال الدفع، ومتى اضطررنا إلى فك الاختناقات، فإن علينا الدفع بالتي هي أحسن، والجنوح للسلام، واتقاء الأقوياء المتغطرسين بالقدر المباح من التنازلات، {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}. وإذا كانت بوادر حضور الغرب في مشاهدنا لا تبشر بخير، فلماذا نبشر به، ونطرد الغربة عنه، ونطمئن إليه، ونحتفي برموزه من فلاسفة ومفكرين لا يقيل استدعاؤهم عثرة الأمة، ونهيئ للمعتدي الأجواء الملائمة لجمع الغنائم وطول البقاء، ولماذا نضيق بالمحذرين والمتحفظين على وجوده المطلق، ولماذا نخلط بين الإرهاب والمقاومة، وإسلام اللعب وإسلام السلف؟ ولماذا نبادره بإثارة القضايا التي يخادعنا بها؟ وتلك الإثارات تمهد الطريق له. لقد بدت نواياه ليس فقط من لحن القول، وإنما بدت من مباشرة الفعل والاحتلال المعلن بالقوة. ولسنا بمواقفنا المتحفظة نجهل قيمه ومنجزاته، ولا نحول دون الأخذ مما عنده، فحضارة الغرب منطوية على إيجابيات كثيرة، يستأثر بها وحدة، ولا يجود بفضله الكأس على من ظلوا يتغنون بأمجاده، وهو يشرب. والمدنية بادية للعيان في أنظمته، وتعليماته، واحترامه للدساتير والقوانين، وسعيه الدؤوب في مناكب الأرض للحرث والزرع والصناعة وبناء المعامل والمختبرات والمؤسسات التشريعية والتنفيذية القوية المحْكمة الصنع والمحَكَّمة في الشؤون العامة والخاصة. ومن المؤكد أن ديننا يحثنا على اقتباس ما صلح من كل الحضارات، والسير في مناكب الأرض، والبحث عن المنافع الدنيوية، دون النظر إلى مصادرها، متى كانت عامل قوة واستغناء، ذلك أنها من ضوالّنا، وكثير مما عند الغرب من مقطوع وممنوع يعد من ضوالنا. فهل جاد طائعاً مختاراً بشيء منها؟. وهل أخذنا نحن بأحسنها؟ بل هل خلاَّ سبيلنا حين نمارس ما يحيينا، ويقوي جانبنا؟، وماذا استفدنا منه بطوعه أو ببراعتنا منذ (حملة نابليون) حتى (حملة بوش)؟. وهل شيء من أوامر الإسلام ونواهيه يحول دون تحقيق ما حقق الغرب من ظاهر الحياة الدنيا؟ بحيث نفكر في التحول عن ثوابت ديننا وهل قضايا المرأة وحدها التي تبني منصات الانطلاق لآفاق المعارف؟. والفرائض الغائبة، تتمثل: في جلب علمه، لا في جلب مدنَّيته، وجعله موضوعاً خاضعاً للمساءلة والانتقاء، لا مهيمناً يفيض علينا بما يحفظ لنا أدنى حد من العيش الذليل، ولا يسمح بوجود مستقل، لا يركن إليه، ورب عيش أخف منه الحمام. ومن الفرائض الغائبة تخاذلنا وعجزنا عن الاستفادة من جوانب حياته الجادة المنضبطة، وتخاذلنا وعجزنا عن تمثل الإسلام قولاً وعملاً. ومع التأكيد على أخذ الحذر وتوخي المفيد فإن من الأجدى والأهدى مصالحته ومعايشته ومبادلته المنافع، والحذر من تقديم مبادئنا وقيمنا وعقيدتنا قرابين لاسترضائه. وقبل ذلك وبعده، يجب أن نعرف كيف نصطلح مع بعضنا، لتكون لنا كلمة واحدة في المحافل الدولية، تدرء عنا انتهاكاته الموجعة. وها نحن نطيل القول في التوفر على أدبيات الحوار مع الآخر، ولم تحن منا التفاتة لنرى حجم التردي في حوارنا مع بعضنا. فهل نحن واثقون من نجاحنا في الحوار الذاتي؟ وهل يصلح الحوار مع الآخر، ونحن شيعّ يضرب بعضنا سمعة بعض، بل قد يضرب بعضنا رقاب بعض؟. |
نعم حضارة الإسلام شمولية..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل كتب الأستاذ (محمد بن عبداللطيف آل الشيخ) في زاويته الأسبوعية (شيء من) 11 - 6 - 1426هـ متسائلاً عما إذا كانت الحضارة الإسلامية حضارة شمولية، ولم يرقب الجواب، بل بادر إلى النفي، وكان يجدر به إذ تصور نفسه الخصم والحكما ألا يقيم الدعوى، إذ من الفضول والتزيد أن تسأل وتجيب وتحكم. وليس مستبعداً اقترافه الأخطاء المنهجية. وكلمته المتسطحة بضاعة استشراقية لا ترقى لمنهجية المستشرقين ولا تضارع إحكام دعواهم، كلمة إنشائية مضطربة، تعتمد الابتسار، ولا تحسن الاستتار. وليس مزعجاً أن يعيد ما فرغ منه المستشرقون، فالإسلام صمد لصناديد الفكر، وأساطين الفلسفة، وجهابذة المنطق، أتوا إليه يجرون الجديد كأنهم مشوا بجياد ما لهن قوائم، وتكسروا تحت سفحه، كما الأمواج الملتطمة، وما زادوه إلا رسوخاً وثباتاً. والمخجل حقاً تلقف الراية بالرأي الفج والرؤية الناقصة.. ومصائد القضايا الكبرى في الإسلام أنها مرايا مقعرة، تكشف عن سمة المقتربين منها وعن مبلغهم من العلم. وما من كاتب سوَّلت له نفسه الاقتراب من جاذبيتها إلا تشظى في وهجها، وما هو في تقحمه إلا جرادة من جراد منتشر في سماء القضايا الحساسة، وكما ابتلعت المفازات أسراب الجراد، فإن فضاءات الإسلام قادرة على ابتلاع أي سابح فيها، وما حفزنا على الإجابة على تساؤله الإنكاري إلا أنه يشكل مع آخرين ظاهرة مريبة. وإلا فالحضارة الإسلامية ألفت هذه الموجات العاتية، وابتلعتها كما تبتلع الشواطئ أمواجها الأزلية، ونقض كلمته العشوائية أنكاثاً يكشف عن كاتب يفتقر إلى العلم الشرعي، والتأصيل المعرفي، ومنهج البحث العلمي. وهذا الإقواء أرتعه في نفاية المستشرقين، إذ لم يبتدر رأياً، ولم يفترس معلومة، وإنما وقع على بقايا من مفتريات من سلف منهم، وهو في إثارته الفضولية يشد عضد الذين أغثوا المشاهد الفكرية باجترار مقولات مهترئة، أكل عليها الدهر وشرب. والقول في الحضارة يختلف عن القول في مفرداتها، وهذا مكمن الخلل في تحرشه. فالمذاهب في الفروع، والطوائف في الأصول، والظواهر في الأفكار والنظريات في القضايا، كلها تضطرب وتتململ في جوف الحضارة الأم، كما البراكين في جوف الكواكب العملاقة، تثور ثم تخبو، وقد تتدفق حممها على السهول والمنحدرات، فتشكل جبالاً من الصخور، ولكنها مع كل ما تنطوي عليه، لا تنفصل عن الحضارة بكل اتساعها وامتدادها الزماني والمكاني. والقول عن مذهب ك(السلفية) مثلاً قول في جزئية من الحضارة، وتحجيم الحضارة من خلال رؤية العالم أو المذهب ممارسة فجة، ومؤشر جهل بأبسط متطلبات البحث المعرفي، علماً أن بعض العلماء يرى أن (السلفية) مرحلة زمنية مباركة، وليست مذهباً إسلامياً، وهو رأي يأتي في سياق الفعل ورد الفعل. وعندما نقول: الحضارة الإسلامية فإن ذلك المفهوم يتسع لكل المذاهب والملل والنحل، والمحطات الزمانية. والحضارة الإسلامية تشتمل على كل الفرق الإسلامية، وأي نحلة أو ملة أو عالم لم يُجمع المسلمون على كفرهم المخرج من الملة فهم مشمولون بالحضارة الإسلامية. وتحت هذا المفهوم لا يجوز لأي مستغرب أن يحصر الحضارة الإسلامية في مذهب أو مرحلة، فضلاً عن أن يحصرها في عالم أو عالمين، يبتسر من كلامهم ما يعزز رؤيته الفجة، ولو أخذنا مقولة الكاتب بالنص، وهي الحجة التي تنفي عنده شمول الحضارة الإسلامية، لوجدناه يقول: (فالإمام ابن تيمية رحمه الله - مثلاً - اتخذ موقفاً مناهضاً بشدة لعلم الكيمياء وعلم الفلسفة وعلم المنطق)، ولقد أقام المناهضة على ابتسار مُخل من إجابة (ابن تيمية) عن عمل الكيميائيين، ولو قرأ كامل الفتياء، واكتشف مقاصدها، لعرف أنه يُقوِّل (ابن تيمية) ما لم يقل، ويحمِّل قوله ما لا يحتمل. فالفتياء حول استخدام الكيمياء للغش التجاري، وليس لها علاقة في الموقف من الظاهرة، ولهذا ركز ابن تيمية على (الذهب) الخالص، وسماه (المخلوق)، ونفى أن يكون المخلوق كالمشبه، وهو ما يعمله الكيميائيون، ويدَّعون أصالته. و(ابن تيمية) لو اختلفنا معه جدلاً في بعض مواقفه يعد من علماء الأمة، يحتج به على مذهبه السلفي، ولا يحتج به على الحضارة الإسلامية، ذلك أن الحضارة الإسلامية وسعت المذاهب في الفروع والأصول، وسائر العلوم والمعارف، والملل والنحل، ما ظهر منها وما بطن. والكاتب لم يقل في تساؤله (هل السلفية حضارة شاملة؟) بل قال: (هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة) وبصفتي (سلفي) العقيدة (حنبلي) المذهب (تيمي) الفكر فإنني أقبل نقد السلفية وعلمائها، ولا أقبل التنقص من الحضارة الإسلامية، أو المساس بها كمفهوم عام، ولست بالانتماء منغلقاً، ولا نافياً، ولا مقتصراً على مصدريه واحدة، وقراءتي لقادة الفكر، وزعماء الإصلاح، ورواد النهضة من ماديين ووضعيين يفوق قراءتي لمن أنتمي إليهم. والاختلاف مع (السلفية) حق مشروع، إذ كل يؤخذ من رأيه ويرد إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، أما الاختلاف مع الحضارة الإسلامية، وحصرها في نحلة بعينها فخطأ مخل بالأهلية، ولا يقترف مثل ذلك إنسان ملم بحدود الحضارات ومتطلبات البحث فيها. لقد نفى الكاتب (شمولية الحضارة الإسلامية) وتلك جرأة جاهل، وليست رؤية عالم، ومكمن الأذية أنك لن تجد من تخاصم. فالشمولية حسب فهم الكاتب الغرائبي لا تتحقق إلا بالتسليم المطلق لكل ظاهرة، والإذعان الطوعي لكل ناعق، والقبول بكل رؤية فجة، وذلك عين التمييع والفوضوية. فعندما يتصدى عالم لنظرية أو مبدأ أو ظاهرة تبناها الفلاسفة أو المناطقة، وطبقوها على الغيبيات والمتشابه، أو استخدموها في الغش والتدليس، وتلقفها المستشرقون والمبشرون كشاهد على المحدودية، يكون هذا التصدي مسقطاً لدعوى الشمولية حسب رؤية الكاتب. وما درى المتجرئ على المسلمات أن هناك مواقف ضد المبادئ والنظريات، ومواقف ضد الإجراءات والتطبيقات، ومواقف ضد الإطلاقات والتعميمات. والمبتسرون لا يفرقون بين هذه المواقف، ولا يدركون مشروعية الاختلاف وحدوده. ونفي الشمولية لمجرد أن (ابن تيمية) السلفي وقف في وجه (المناطقة)، و(الفلاسفة) و(الباطنية) و(الجهمية) و(المعتزلة) وسائر النحل والملل، مؤشر جهل بالمفهوم، ف(ابن تيمية) يشكل مرحلة تحتويها الحضارة، ولا يحتويها. و(ابن تيمية) ليس وحده الذي وقف أمام طائفة من علماء الكلام والأصوليين والفقهاء والمفسرين والفلاسفة والمنطقيين. وكان الأجدر بالكاتب أن يخوض معترك الخلاف بين العلماء، ليرى ما يشيب من هوله الوليد، فأين هو من المدارس النحوية والمذاهب الفقهية، وقول العالم في المسألة، ومقدم المذاهب والمتقدمين والمتأخرين داخل المنظومة المعرفية الواحدة. و(ابن تيمية) ليس بدعاً بين علماء عصره، فضلاً عمن سلف ومن لحق، لقد قامت بينه وبين علماء عصره ملاحاة آلت به إلى السجن، ولمّا يزل خصومه إلى هذه اللحظة ينالون منه، حتى أن بعضهم حكم ب(كفره)، وكنت أود من الكاتب الإبقاء على شمولية الإسلام، والأخذ بالمواقف المتطرفة ضد (ابن تيمية)، ليكون الإضرار بفرد أهون من المساس بحضارة أمة. والعلماء المتميزون بسعة علمهم ورجاحة عقولهم، حين تبدههم النوازل، يهرعون إلى النصوص الشرعية، يستفتونها، فإن أسعفتهم، وإلا انطلقوا إلى مصادر التشريع الرديفة، والتي تفوق العشرة: كالإجماع، والقياس، وقول الصحابي، والمصالح المرسلة، والبراءة الأصلية، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستحسان. والعلماء الأفذاذ استخدموا عقولهم في الاجتهاد وتصور المقاصد. والرسول صلى الله عليه وسلم ندب إلى استفتاء القلب في قضية البر والإثم، وهو ندب يسقط حجة القائلين بتعطيل العقل. والأخذ بالنص القطعي الدلالة والثبوت، يسقط حجة القائلين بتفويض العقل. فالعقل عند السلفيين يدور في فلك النص. والنص عند المعتزلة يدور في فلك العقل. والخيرية في أن يخفق العالم في فضاءات التشريع بجناحي: النص والعقل. ومواجهة النوازل مرتهنة للقوانين والضوابط، ومن ثم نشأ علم الأصول والقواعد، وهي البديل الأمثل (للمنتطق الصوري) الذي واجهه الفلاسفة والعلماء والمفكرون، قبل الميلاد، وبعده، وفي العصور الذهبية للإسلام، وفي الحضارة الغربية المعاصرة. وأصول الفقه وقواعده قوانين استقرائية، فيما يقوم المنطق الأرسطي الذي تحاماه ابن (تيمية) على الصورية والنظرية. وإضافة لما سبق فإن الموقف من الفلسفة والمنطق والكيمياء مرتهن بالخفاء والتجلي، ومحكوم بمجالات التطبيق، فالعلماء لا يسلمون إلا بعد التصور، وقد يسلمون للنظرية، ولا يسلمون لمجال التطبيق. وكل جديد يظل مجالاً للأخذ والرد، حتى يستقر بشروطه وضوابطه ومعقوليته وإمكان تصوره، وتحقق انتمائه إلى العلم التجريبي، أو الفكر أو الفلسفة، فإذا بأن أن الظاهرة من العلم المنضبط بقواعده وأصوله انتزع الشرعية، وإن ظلت في دائرة الشك تخطاها العارفون إلى غيرها، ف(الكيمياء) ظهرت، واستخدمت في بادئ الأمر في غش المعادن، فكان تداول أحوالها عند العلماء مرتبطاً بالصناعات، بحيث جاء الافتاء بالمنع وتحريم استخدامها في الغش. والفلسفة والمنطق طبقاً في قضايا المغيبات، فأدى إلى نتائج مخالفة للنص القطعي الدلالة والثبوت، فحرم علماء الكلام الإسلاميين استعمالها، ولم يستبن العلماء المتقدمون للكيمياء إذ ذاك ما إذا كانت علماً أو سحراً، وحين تبين لمن خلف وجه العلمية المقننة أخذوا بالظاهرة، وبقيت آراء من سلف من العلماء تمثل مرحلة تاريخية وتتعلق بالاستعمال، والمتابع لآراء الفقهاء، يجد فيها الإباحة أو المنع أو التوقف، وكل عالم يسوق حججه، وبعض العلماء يتوقف، فلا يجيز، ولا يمنع، لعدم تحرر المسألة، وقد يتصور بعض اللعماء، أن الظاهرة تعارض ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فيفتي بالمنع. مثال ذلك ما حصل حول القول بدوران الأرض، فلقد سئل الشيخ (ابن باز) رحمه الله عمن قال بدوران الأرض وثبات الشمس، فأفتى بالتحريم، لأن الشمس تجري لمستقر لها، وفي قراءة (لا مستقر لها) ولما قيل له: إنه لا تعارض بين الدوران والجريان عدَّل من فتياه. ونصائح العلماء في التزهيد بالدنيا والتحفظ على التطاول بالبنيان، لا يعني أن ذلك يمثل رؤية حضارية، وأن الإسلام ضد العمارة، وإنما الموقف وعظي ترغيبي لا إفتائي حدي، ف (ابن عثيمين) رحمه الله لا يحرم التطاول بالبنيان، وإن رأي أن الظاهرة مفضولة، وفات الكاتب أن الذين تحدثوا عن (الحضارة الإسلامية) جعلوا من سماتها (فن العمارة الإسلامية)، وبخاصة في المساجد والقصور. والشمولية التي خفي حدها على الكاتب تعني: الاتساع والاستيعاب. فالاتساع ذو ثلاثة مجالات: الزمان والمكان والمحتوى. ويتمثل المحتوى بشمول الحضارة لكل متطلبات العصر ومفرداته: الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقضائية والعلمية البحتة والمهنية التطبيقية. وبهذا فاقت الحضارة الإسلامية جميع الحضارات، و(ابن تيمية) يعد لحظة في الزمان ونقطة في المكان، لا تُعرف الحضارة به، ولكنه يعرف بها. أما الاستيعاب فإن الإسلام التهم ما سبق من حضارات، وتفاعل مع ما جدّ من حضارات. وما يعانيه المسلمون من ضعف وتفكك لا يحال إلى رصيد حضارة الإسلام، وإنما هو لحظة ونقطة. فالتاريخ الحضاري الإسلامي غير تاريخ المسلمين، ومن خلط بين التاريخين فقد أساء للإسلام، والخلط لم يأتِ اعتباطاً، إنه هدف رئيس للمستشرقين والمستغربين، وشمولية الحضارة الإسلامية تقتضي موضعة الحضارات المعاصرة، والأخذ بأحسنها، والحق ضالة المؤمن. ولو كانت الحضارة الإسلامية تتعمد نسف الجسور مع منجز الحضارات لكان للبرمين منها وجه من الحق، غير أنهم يلزمون ما لا يلزم، فيفترضون نفي حضارتهم، تمهيداً لإحلال حضارة الآخر. واعتراض علماء المسلمين على (الفلسفة) و(المنطق) لا يمس الشمول والثبات، فاختلاف وجهات النظر من مظاهر خصوبة الحضارة، وحين يعترض (ابن تيمية) على (ابن رشد) بوصفه فيلسوفاً، أو حين يعترض على (الكندي) بوصفه منطقياً، فإن ذلك لا يمس شمولية الحضارة الإسلامية. والمناطقة المعاصرون والسابقون ل(ابن تيمية) كانوا في منطقهم صوريين نظريين، ولقد تجاوز ذلك الإسلاميون إلى المنطق الاستقرائي، وهذا المنطق العملي هو الذي أخذ به الأوروبيون على يد (فرانسيس بيكون) و(مل). وما أخذ به (الفارابي) و(الكندي) و(ابن سينا) و(ابن رشد) لا يتجاوز حدود المنطق اليوناني، ومواجهة أولئك الفلاسفة دافعة المجال والنتائج، وليس الظاهرة، فلقد اتخذت الفلسفة مجال الغيب، وخلصت إلى نتائج مخالفة لمقتضيات العقيدة السلفية، وكذلك فعل المناطقة، فكان لابد من حماية المجال ونفي النتائج، أما إعمال الفكر والعقل فمطلب إسلامي، وعلى الكاتب العودة إلى كتاب (العقاد) (التفكير فريضة إسلامية) ليرى كيف عالج الموقف من (المنطق)، ولمزيد من المعلومات يحسن الرجوع إلى (علي سامي النشار) في كتابه (نشأة الفكر الفلسفي) المجلد الأول، وإلى (تطور المنطق العربي) ل(نيقولا ريشر) ترجمة (أحمد مهران) ليعرف الكاتب أنه يهرف بما لا يعرف. والمتعقب لآراء (ابن تيمية) في المنطق والفلسفة، يقف عند رؤية علمية عميقة، تبناها الفلاسفة والمفكرون والمناطقة المعاصرون، ذلك أنه يواجه المنطق الأرسطي في مجاله التطبيقي، الذي لم يعد ذا قيمة معاصرة، وحين تصدى علماء المسلمين لعلم المنطق الأرسطي، استطاعوا أن يقيموا منطقاً استقرائياً، يضبط إيقاع العقل، كما يضبط النحو إيقاع اللسان، فلم يكن رفض المسلمين للمنطق رفضاً سلبياً، ذلك أن المنطق الإسلامي منطق استقرائي تجريبي، وقد وظفوه في خدمة الطبيعة والطب والكيمياء ولم يُعمِلوه في (الميتافيزيقا)، وإذ يكون المنطق العربي بشقيه: الاستقرائي، والنظري، من مشمولات الحضارة الإسلامية، وإن اختلف العلماء حول الموقف منه، فقد أنجبت الحضارة الإسلامية في مختلف العصور أكثر من مئة وستين عالماً في المنطق، ذكر طائفة منهم (بروكلمان) واستدرك عليه (سزكين) ما فاته، وفات الاثنين أعداد كثيرة، ولهؤلاء المناطق ترجمات ومؤلفات وتطبيقات، والمؤلم أن ثروة الأمة العلمية نهبت من المكتبات العربية، ولم يستطع (معهد المخطوطات) التابع للجامعة العربية تصوير ما نهب، ولمّا تزد مصوراته عن نصف مليون كتاب، وهي نسبة تقل عن الخمس، وما كان صاحبنا على علم بما خلفته الحضارة الإسلامية، مما أصبح ركيزة للحضارة الغربية الباهرة. |
نعم حضارة الإسلام شمولية..! (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل وعزمات الكاتب الواهنة الواهية تصبو إلى إسقاط النظرية الشمولية للحضارة الإسلامية، وهي نظرية متواترة، تحيل إلى مختلف العلوم، ومدار المعارف الإسلامية على الشمولية، وهي مسلَّمة تكاد تكون مما علم من الدين بالضرورة، ولهذا جاءت حجته أوهى من بيت العنكبوت، ولم يظفر بحجة بالغة، تشد من عضده، واتخاذه سبيل التوهين التجزيئي من الخلائق المنبوذة عند المصطرعين حول القيم الحضارية، وكل متأخر في المجيء قد لا يجد ما يحمل نفسه عليه إلا سقْط المعارف، وملتوي المناهج، وكليل الآليات.. وما نود تداركه من باب الاحتراس، أن القول ب(الشمول)، لا يعني الاكتفاء والانكفاء، كما أن القول ب(الغزو) و(التآمر) لا يعني الإسقاط والبراءة، ومن عوّل على الشمول والغزو للمقاطعة والإسقاط، فقد حاد عن مستقيم الصراط، وإذ دلل على قصور الحضارة الإسلامية برفض (الكيمياء) و(المنطق) و(الفلسفة)، وهو رفض له سياقه وحيثياته ومجالات تطبيقه فإن إدراك ذلك من مثله بعيد المنال، وبالعودة إلى الفتوى التي استصرخها الكاتب، ولم تمده بالنصر، نجد أن السؤال الموجه ل(ابن تيمية) عن (عمل الكيميائيين) وليس عن ظاهرة (علم الكيمياء)، وجوابه مرتبط بالنتائج القائمة على ممارسة الغش، وقوله: (وحقيقة الكيمياء إنما هي تشبيه المخلوق) إنما يعني بها ما يفعله الكيميائيون، و(ابن تيمية) فرق بين المخلوق، وهو (الذهب) الخالص، والمصنوع وهو ما يشبهه، مما يعمله الكيميائيون، وإحالته في نفي الشمولية إلى رفض المنطق إحالة من يجهل المراد والأنواع والحدود، وما لا بد من تحديده أن نعرف المقصود ب(المنطق) أهو المنطق الصوري - الاحتمالي - أم هو المنطق الاستقرائي، أم هو المنطق الأولي، أم التقليدي، أم المنطق الرمزي، أم منطق الجدل، أم العلم، أم الرياضة، وأي نوع من هذه تصدى له (ابن تيمية)؟. والكاتب الجريء التقط الاتهام، ولم يستوعب المفاهيم، ولا المقاصد، ولا الحيثيات.. و(المنطق) الذي واجهه (ابن تيمية) وفنّده في كتابيه: (الرد على المنطقيين) و(نقض المنطق) يرتبط بالجانب الإلهي والفلسفة (الميتافيزيقية)، وليست له مواقف متشددة من المتفلسفة في (الطبيعيات)، والفتاوى تعبّر عن وقوعات محدودة، أما التأصيل ففي كتابيه اللذين أشرنا إليهما حول (المنطق: رداً ونقضاً) و(ابن تيمية) مستوعب ل(المنطق) و(الفلسفة) يعرف تجلياتهما وإخفاقاتهما، والذين يغالبون قراءة كتابيه في (الرد) و(النقض) يدركون تمكُّنه من المنطق والفلسفة (الميتافيزيقية)، ومتى استوعب معارف الخصوم، ووقف منها الموقف العلمي، كان ذلك مؤشراً شمولاً، وفلاسفة العصر الحديث وبخاصة الوضعيين منهم يفوقون (ابن تيمية) في التّحفظ على موضعة (اللا متشئ) و(اللا عيني)، ولا يعدون ذلك شاهداً على عدم شمول الحضارة، وعلى الكاتب استبانة آراء (زكي نجيب محمود) المبثوثة في كتبه، لتثبت فؤاده. وإذا نقم الكاتب على (ابن تيمية) موقفه من المنطق، وهو موقف جدلي لا يعاب فيه، فإن (فرانسيس بيكون ت 1626) و(جون ستيوارت مل ت 1872) قد اتخذا سبيل (ابن تيمية) في نقد (المنطق الأرسطي) الصوري، والتّحول إلى المنطق الاستقرائي، ولقد أنصف (جولد تسيهر) (ابن تيمية) في كتابه (العقيدة والشريعة) وصدق في ذلك، وهو كذوب، وموقف (ابن تيمية) من المنطق الصوري - وهو موقف يحسب له، ولا يحسب عليه - أدى إلى منطق استقرائي، يشبه إلى حد كبير مناهج البحث العلمي الحديث، ولم يكن (ابن تيمية) وحده الذي سخر من (المنطق) بل سبقه قبل الإسلام، بل قبل المسيحية (الرواقيون) و(الشكاك) ولقد أولع به (الغزالي)، ثم عدل عنه، بعد ما تبين خلله، وشايع (ابن تيمية) علماء وفلاسفة غربيون في الموقف من (المنطق) الأرسطي، ولو أن الكاتب توفرت له القدرة على قراءة الكتابين الآنفي الذكر ل(ابن تيمية) واستطاع أن يستوعب جدل (ابن تيمية) لأصبح موقف (ابن تيمية) من الفلسفة والمنطق والباطنية أقوى شاهد على شمولية الحضارة الإسلامية، ولكن الكاتب مبتسر لم يفهم ما نقل، وهذه الوساطة السلبية ستوقعه في الحرج، ذلك أن الحديث عن المنطق يتطلب الرصد التاريخي له منذ الحضارة اليونانية، ومروراً بالحضارة الإسلامية، وانتهاء بالحضارة الغربية، ومثل هذا التّقصي عصي المنال على المبتسرين المخفين الذين يرضون من اللحم بعظم الرقبة، وإذ قرر عدم شمولية الحضارة الإسلامية، وعول على رفض المنطق والتطاول في البنيان فإنني أرجو منه أن ندع القول والقول المضاد، ونعقد العزم على النظر الشمولي في فكر (ابن تيمية)، وإن كان خالي الوفاض، كليل الذهن فإنني أوجهه لقراءة الكتب التالية: - تكامل المنهج المعرفي عند (ابن تيمية). - منطق (ابن تيمية) ومنهجه الفكري. - (ابن تيمية) وموقفه من الفكر الفلسفي. - الإمام (ابن تيمية) وقضية التأويل، دراسة لمنهج (ابن تيمية) في الإلهيات وموقفه من المتكلمين والفلاسفة والصوفية، فعن طريق هذه الكتب سيضع قدمه على أول الطريق القاصد. وإذ لا نتوقع قدرته على تفكيك (المنطق) الذي يجالده ويجاهده (ابن تيمية)، ولا تحديد التعريف الجامع المانع له، ولا التعرف على المحطات التاريخية الهامة في مساراته التّحولية، ولا تحرير مفاهيم (الحد) و(القياس) و(التّصور) و(التّصديق) وهي عمد المنطق، فإننا في الوقت نفسه لا نتوقع قدرته على تحديد مفهوم (الحضارة) لا من حيث الرؤية الإسلامية المتأخرة عند (ابن خلدون) التي سمّاها (العمارة) ولا من حيث رؤية الموسوعيين الغربيين المعاصرين، ولا من حيث اختلاف التاريخ والعلم والفلسفة في تصورها، ولا ماهية الحضارة وتداخلها مع (المدنية) و(المجتمع المدني) و(الثقافة)، ولا التعريفات اللمحية عند (فاريك) و(بتسر) وهما أصحاب معاجم معتبرة، ولا رؤية علماء النفس ك(تايلور) ولا رؤية (الموسوعة البريطانية)، ولا جدل المفهوم والمقتضى الذي اصطرع حوله (مالك بن نبي) و(سيد قطب)، ولو ألم بما أعده مفكرون عرب وعجم عن تاريخ الحضارات ومسارها لعلم علم اليقين أن الحضارة الإسلامية شمولية تعددية، وسعت (الرياضيات) و(الفلك) و(الطب) و(العمارة) و(الملاحة) و(الجغرافيا) و(الصناعات) و(الموسيقى) و(الفلسفة)، وقامت على أسس لم تقم عليها أي حضارة ك(التوحيد) و(الوحدة) و(العدل) و(العلم) و(العمل) و(القوة) و(الأخلاق) وتدبير المال والوقت والجهد، ولو استنطقها لاستجابت لكل خواطره. ولأن العالمية والشمولية صنوان، فقد شكك فيهما المستشرقون من أمثال (وليم بيور و(شك كبناني) وحجتهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف غير الجزيرة، وأنه لم يوجه دعوته إلا للعرب، وعاضدهما (جولد تسيهر) الذي أحال إلى (لا نتول فرانس) وحجة (تسيهر) أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم بانتشار دينه واستمراره، ولن نرد على منكري العالمية والشمول من مستشرقين أو مستغربين، ولكن نحيل إلى طائفة من الكتب منها على سبيل المثال: (دفاع عن العقيدة والشريعة) (للغزالي)، و(قضايا معاصرة في ضوء الإسلام) و(خصائص الدعوة الإسلامية) و(الحضارة الإسلامية) ل(متز) و(روائع الحضارة العربية والإسلامية) ل(الدفاع) و(حضارة الإسلام وأثرها في التّرقي العالمي) ل(جلال مظهر)، والحضارة الإسلامية كما يقول (العقاد) قوة غالبة، وقوة صامدة، وعقيدة شاملة.. وعن الشمولية يقول في كتابه (الإسلام في القرن العشرين): (يبدر إلى الذهن أن الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب، ولا بد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات، فليست هي مما يراه الناظر الوثني أو الناظر البدوي لأول وهلة، قبل أن يطَّلع على حقائق الديانة، ويتعمَّق في الاطلاع) ويستطرد إلى القول: (الناظر القريب قد يدرك شمول العقيدة الإسلامية من مراقبة أحوال المسلم في معيشته وعبادته). ويتحقق مفهوم الشمول عند (العقاد) بتوازنه بين المادة والروح، حيث يقول: (إذ لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح) وهو بهذا يومئ على المسيحية واليهودية المحرفتين، وشمولية الحضارة الإسلامية بالتوازن من جهة وبالمساواة من جهة أخرى، فالتفاضل في التقوى المقدور عليها لكل إنسان، وليس للعرق ولا للغة. وينهي (العقاد) بحثه بقوله: (وهذه العقيدة الشاملة هي التي أفردت الإسلام بمزية لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية)، والكاتب تشابهت عليه مفاهيم الشمول ومجالاته، ونقص معارفه حمله على الأخذ بمقولة المستشرقين دون استيعاب لحيثياتهم، وتصوره أن الموقف من المنطق، وغش الكيميائيين، والموقف من المتطاولين في البنيان هي كل المعاول التي يهدم بها دعوى الشمول تصور بدائي.. وفاته أن فن البناء الغربي تأثر كثيراً ببناء الأقواس والقناطر والمنحنيات وهندسة القباب وفن الزخرفة والنقوش العربية، ويقيني أن الكاتب لو مكن نفسه من رصد حملات الاستشراق، واستوعب أطرافاً من مقولاتهم، لكان لقوله بعض التأثير، ولكنه سمعهم يقولون شيئاً فقاله. وكم كنت أتمنى ان كانت لدى الكاتب بقية من أحبار أن ينفقها في سبيل الدفاع عن حوزة الدين المنتهكة، لا أن يشد عضد المستشرقين الذين لا يشفي صدورهم إلا التقليل من شأن الحضارة الإسلامية، وحماة الثغور ليسوا ممن يخدعهم الخب، بحيث لا يأخذون حذرهم، حيث يتواصى الفارغون بأخذ الإسلام من أطرافه والنيْل من مفرداته من مثل: - خرافة الإعجاز العلمي. - عدم شمولية الإسلام. - اقتصار الحضارة الإسلامية على حفظ الحضارة اليونانية، ونقلها كما هي إلى الغرب. - تاء الخجل في ظل الخطاب الذكوري. - تقلب مفردات الحضارات البائدة في اللغة العربية، وليست في عقول العلماء العرب، وهذا النقد السلبي التجزيئي يحقق إعجاز التنبؤ في نقض عرى الإسلام عروة عروة. وكل الذين دخلوا جحور المستشرقين قبل التحصن، نسلوا منها، وليس في غيابهم إلا الحشف وسوء الكيل، والذين يخوضون في الفلسفة، وهم ليسوا من أهلها، أو يجادلون في قضايا الدين، وليسوا من أهل الذكر، أو يتناجون في أنواع الفنون، وليسوا على شيء من الموهبة أو المعرفة، يكونون مثار سخرية، ولن يظفر بالاحترام إلا رجلان: رجل تختلف معه، وهو على جانب من العلم والوعي والسيطرة التامة على قضاياه، ورجل يعرف قدر نفسه فلا يخوض في القضايا الكبرى حتى يستكمل المعلومة، ويجود المنهج، ويتقن الآلة.. والخبيرون بالمعارف والمذاهب يعرفون الأدعياء بسيماهم، ومن تحدث في غير فنه جاء بالعجائب، وما ارتبكت مسيرة الأمة إلا حين انبرى للقضايا الكبيرة من لا يحسن الورود ولا الصدور، وكم يحلو لي تقصي معركة من معارك الفكر أو السياسة أو الأدب أو الدين، لأقف على طرائق المصطرعين، وما يحيلون إليه، وما يحكمون به، وما يُحكِّمونه من طرائق تفل الخصوم، ولقد تبيَّن لي أن بعض المتقحمين كما الفراش يبحثون عن الأضواء، لكنهم يحترقون قبل الدخول في دوائرها، ولا يضرون الحقائق شيئاً، ومما لا شك فيه أن تقحم الإنشائيين يربك المسيرة، ويعكر صفو الرؤية، وقد يؤثر على الضعفاء والمتسطحين، ولربما يكون تقحم المتسطحين لعبة من اللعب التي تبطئ بالفهم. ولا أظن أن ظاهرة الإثارة، وتهافت الفارغين على القضايا الكبرى من الصدف، إنها مكيدة حاذق أو تعالق أبله، ومن المصلحة تدبر الأمر مع الكائدين والمتعالقين، إذ ربما يكون خيراً من إجابتهم السكوت، ومتى كثر ترديد الكلام، وكثر المتعالقون واستسيغ جر العلماء الأفذاذ من أجداثهم دون اكتراث، فإن وراء الأكمة ما وراءها. لقد استمرئ التّنقص والتّندر - وأصبح ابتسار الكلام من سياقه وأنساقه من الظواهر التي تجاوزت العفوية إلى التربصية، وكما قلت من قبل من باب التحفظ: ليس كل متقحم يقع تحت طائلة الاتهام، فكم من غِرّ راق له الاهتياج الأعزل، دون معرفة ببواطن الأمور، عرَّض نفسه للاغتياب، وحرمها من الدعاء المأثور (رحم الله امرأً كف الغيبة عن نفسه) وكم من حائم حول الحمى وقع فيه، فندم ندامة الكسعي، وكم أتمنى لو كان خيار الكاتب (التّحدي) بدل (الاستجابة) وهي ثنائية المؤرخ البريطاني (أرنولد تويني) في نظريته الحضارية. إن الحضارة الإسلامية حضارة شمولية أصيلة قوية منيعة منتشرة، بدت في مواقع متباعدة: زماناً ومكاناً وإنساناً، تجلت زمن الخلافة العباسية في (بغداد) وزمن الخلافة الأموية في (قرطبة) وزمن الخلافة الفاطمية في (القاهرة) ومن الأندلس سطعت شمس العرب على الغرب، ولكي يتأكد صاحبنا من أن حضارة الإسلام تركت آثارها على الغرب فعليه أن يقرأ كتاب المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) (شمس العرب تسطع على الغرب)، والذين يتنقصون الحضارة الإسلامية أقل ما يوصفون به التبعية والانهزامية، قد يكونون متذيلين للاستشراق أو الشعوبية، والنقد والتقويم يختلفان عن التنقص والنفي وجلد الذات. وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب: 70-71). |
إذا طل منا سيد قام سيد..!
بقلم د. حسن بن فهد الهويمل أيها المفجوعون. أيها المنتحبون. أيها المصابون. تماسكوا، واجتازوا مرحلة الصدمة بالصبر والسلوان، وقول ما يرضي الله، لتتحقق لكم صلواته ورحمته وهدايته. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155، 156، 157). إذ لم يعد الوقت متسعاً للنحيب، ولا محتملاً للانكسار، ولا مناسباً للارتباك. لقد كانت وفاة الملك فهد صدمة مذهلة، ورحيله فاجعة مؤلمة، ولكننا على يقين أن {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (الأنبياء: 35)، ولقد أكد الله لرسوله أنه ميت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: 30) {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} (الأنبياء: 34). وإذ أقبل أبو بكر يجر رداءه، ليعلن موت الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يعلن بموته موت الأمة، وإنما جاء ليربط الأمر بمن لا يموت (ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت). لقد وقفت قوة الإيمان وقوة الإرادة وجهاً لوجه أمام حدث جلل. قوة الإيمان عند أبي بكر. وقوة الإرادة عند عمر. كانت قوة الإرادة بشرية، فخارت أمام المصاب الفادح، أما القوة الإيمانية فقد صمدت، وتجاوزت المحنة، (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت). ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144). واليوم نحن بحاجة إلى قوة الإيمان، فقوة الإرادة قد تخور، وتحملنا على فقد توازننا، وارتباك أوضاعنا. ذلك أن الملك فهد -رحمه الله- ، لم يكن ملكاً، يقبع وراء أبهة الملك، ولم يكن عابر سبيل، إنه الأب والقائد والتاريخ، إنه الإنسان الذي عرفناه، وعرفنا فيه الرائد الذي لا يكذب أهله. - رجل المبادرات. - رجل الملمات. - رجل الخبرة والمسؤوليات المتعددة. لقد تسلمت -رحمه الله- عدة حقائب وزارية، ولم يغب عن المشاهد المحلية والعربية والإسلامية والعالمية منذ نعومة أظفاره. وكان حكمه الذي امتدّ لأكثر من عقدين ذروة المسؤولية في حياته العملية، ومن ثمّ فقد وظّف كل خبراته وتجاربه لقيادة الأمة في ظروفٍ استثنائية يمر بها العالم، ظروف وسعت حروباً طاحنة، وسقوط إمبراطوريات عملاقة، وفشل مشاريع ثورية وقومية واشتراكية وقطرية وإرهاباً، ونزاعات واعتداءات وانهيارات اقتصادية، فكان الربان المحنك، الذي أرسى السفينة على شاطئ الأمان. وإذا قضى الله أن يترجل من مركز القيادة، فقد شاءت إرادته أن ينهض إليها رجل مثله، قضى حياته بالعمل، واكتسب الخبرات، وألم بالمسؤوليات. وقدر بلادنا الحميد أن تكون فوق هام السحب، لها حضورها الفاعل على كل الصعد. وأي حدثٍ جلل يمر بالمشهد السياسي العالمي، يكون لبلدنا معه شأن كبير. ووفاة شخصية كالملك فهد لابد أن يقف العالم كله، لينظروا ماذا سيكون. وما علموا أن السياسة هي السياسة، وأن المواقف هي المواقف. ومنذ أن أرسى الملك عبدالعزيز دعائم الملك، وأبناؤه من بعده يترسمون خطاه. لقد اجتاحت المنطقة أعتى العواصف، وكادت مثمنات البلاد تذهب أدراج الرياح، أمام غطرسة القوة، وجنون التصرف، وتصادم المصالح، وصراع الحضارات، واقتتال الطوائف والأحزاب والأعراق، ولكن البلاد والحمدلله خرجت من غوائلها بكل رباطة جأش، وقوة وإرادة وثبات، وصدق إيمان بالحق. وفي أحلك الظروف وأخطر الأحداث خرج القائد ليعلن موقف المملكة القوي الحازم الواضح أمام أي اعتداءٍ على الشرعيات، والتف العالم كله من حوله، وكان النصر المظفر. وعلى المستوى المحلي تعرضت البلاد لتحولات عالمية متسارعة، كادت تفقد معها البلاد خصوصيتها، فكان أن تلاحقت المبادرات الرصينة، لتفادي التخلف عن العالم المتسارع في إيقاعه، دون أن يمس التغيير ثوابت الدين وخصوصية الوطن. فكانت الأنظمة والمؤسسات الشورية والمناطقية والإجراءات الانتخابية في تتابع سليم. والقلم حين يراوح بين التأبين والتفجع، يتنقل الإنسان معه بين الألم والأمل والمملكة العربية السعودية منذ أن أرسى دعائمها المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز، وأقامها على قواعد الدين والوحدة والحرية والمساواة، وهي تنعم بالاستقرار السياسي، والأمن القومي، والرخاء الاقتصادي، وتداول السلطة بانسيابية وهدوء. لقد مات الملك فهد والموت يقين لا يدري أحد ماذا يكسب غداً، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34)، وبعد لحظات من الوفاة تلقى الراية عضده الأيمن وخليفته في كل مهماته خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله -. ألم ممض وثقة قوية. فقدنا رجلاً عظيماً. واستقبلنا رجلاً عظيماً. مات ملك وعاش ملك. إنّها إرادة الله، وهي إرادة نرضاها، ونحمده عليها. فما كنا في يومٍ من الأيام نخاف فراغاً دستورياً، ولا تنازعاً على السلطة، رجال أشداء، عرفوا عظم الأمانة، فكانوا في ساعات العسرة أقوى منهم في ساعة الرخاء، سمو فوق كل المعوقات الطارئة. لقد عرفوا أن الأمة حية لم تمت، وان شأنها أكبر من كل شيء، فكان ان التفت الأسرة، وقدمت للأمة المصابة خليفة عاش حياته راصداً لسياسات سلفه ومواقفه، مستوعباً لثوابت هذا الحكم التي لا تتغير بتغير القائد: العقيدة والوطن. لا تفريط في ركنٍ من أركان العقيدة، ولا تهاون في شبر من أرض الوطن، وحدة إقليمية ووحدة فكرية. لقد ارتبكنا، واهتزت أيدينا، وذرفت دموعنا. وأحسسنا أننا غير قادرين على التماسك، ولكن حملة الأمانة نسوا ما هم فيه، وفكروا فيما هم مقبلون عليه. نسوا آلامهم، وأعادوا للأمة التي وضعت كل مقدراتها في سلالهم اطمئنانها وأثبتوا لها:- أن القوة على الثغور، وأن الأصابع على الزناد، وأن العيون مفتحة في كل الاتجاهات. إنها إرادة الله، وهل أحد يرد القضاء، لقد قضى الله أن يموت ملك، وأن ينهض ملك. فالله نسأل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يجزيه عن الأمة العربية والإسلامية خير الجزاء، وأن يأخذ بناصية الخلف، وأن يستعمله في طاعته، وإعلاء كلمته، والسعي في حاجات أمته العربية والإسلامية، وأن يسبغ الصحة والعافية على عضده وولي عهده الأمين ليواصل المسيرة خلف قائده، وهو قد سار معه نائباً ثانياً، وهو الآن يسير معه ولياً للعهد، كما نسأل الله جل وعلا أن يرزق الأسرة الكريمة الثقة والاطمئنان، واجتماع الكلمة، وتحمل المسؤولية الجسيمة التي اختارهم الله لها. - إن الحدث عظيم. - والخطب جلل. - واللحظات حاسمة. ولم نعد بحاجة إلى تقصي مآثر السلف والخلف. ولا أن نبدي ما في أنفسنا من حبٍ وثقة، وما اجتاحها من حزن وألم مريرين، ولكننا نعلن للعالم العربي والإسلامي والعالمي، أن البلاد ستظل بخير -إن شاء الله-، وأنها ستتقدم من حسن إلى أحسن، وأن رجالاتها تلقوا الراية من اللحظة الأولى، وأنها لن تسقط ولن تتوقف. وثقتنا بالملك عبدالله وبالأمير سلطان أنهما عاشا طوال حياتهما مع والدهما وإخوانهما، ومع الراحل المحنك، يتخلقان بأخلاقه، ويستلهمان طموحاته، ويعرفان دخائله. وكل ما يبعث على الثقة والاطمئنان أن البلاد لم تظل في ترقب خائف لمن يمسك بمقاليد البلاد، وإنما بادر الراية الأحق بها، حيث اختارته الأسرة ورضيه الشعب وهيأه الراحل باختياره ولياً للعهد، وحين توقفت خطوة الملك الراحل، تحركت خطوة الملك القادم، وهكذا تظل المسيرة كما هي: (إذا طل منا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول) فليرحم الله خادم الحرمين الشريفين، وليسبغ عليه شآبيب رحمته، وليجعل ما عمله في خدمة كتابه ومقدساته في ميزان حسناته، وليوفق الله القادم الجديد، وليسدد على طريق الحق خطاه، ويشد عضده بولي عهده الأمين ورجالات حكومته الأوفياء، ولن نقول إلا ما يرضي ربنا:- {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. |
سياسة التوازن وتوازن السياسة..!
د. حسن بن فهد الهويمل هذه التظاهرة العالمية مع أتراح البلاد وأفراحها، لا يمكن أن يتخطّاها الرَّاصد دون أن يتساءل: هل هذا مرتبط بالأُسرة الحاكمة، أم باحتياطي النفط الأكثر عالمياً، أم بالمقدّسات الإسلامية؟. وهل هو بالفعل أم بالفاعل أم هو في ذلك كله؟. وكلُّ متقصّ لأسباب الاهتمام بأحداث البلاد، لا بد أن ينظر إلى كلِّ ذلك. فالتنقيب عن الأسباب الحقيقية، لا يمكن فصلها عن تاريخ البلاد، منذ بدايات التأسيس، والاهتمام العالمي يجب ألاّ ينسينا ما تعانيه البلاد من غبطة تتحوّل إلى حَسَدٍ يتميّز أهله من الغيظ. والمواطن السعودي المعايش لتقلُّبات الطقس السياسي، يرصد الجزر والمد، ويعرف أنّه مغبوط ومحسَّد، وكأنِّي به يوجِّه نداءه إلى تلك الأسباب الثلاثة مجتمعة، كما (المتنبي): (أزل حسد الحساد عني بكبتهم فأنت الذي صيرتهم لي حُسَّدا) والإعجاب والحسد يحملانه على ترجمة المواقف، وتحديد بواعثها، ومحاولة ترتيب أمره على ضوئها. والمتابع للتاريخ الحديث، يجد أنّ الأُسرة السعودية الحاكمة جزء من الكيان والتاريخ، فلقد مرّت الأُسرة والبلاد معاً بثلاثة أدوار، يحيل بعضها إلى بعض، ويرتبط بعضها ببعض ارتباطاً عضوياً، فهي ذات رسالة سياسية ودينية لا تحويل فيها ولا تبديل، قوامها ثلاث دعائم: وحدة إقليمية، ووحدة فكرية، ومنهج إسلامي واضح. فالدور الأول هو الأساس الذي تخطّى بالأُسرة وبالوطن إلى عتبات التاريخ، وحوّلهما إلى كيان مهم ومثير، تخطّى الإقليمية والقبلية إلى مشارف السياسة العالمية. تمثل ذلك باللقاء المبارك بين (محمد بن سعود)، و(محمد بن عبد الوهاب)، وخطورة هذا اللقاء أنّه قضى على الإقليمية والقبلية والتشرذم في المجال السياسي. وقضى على الجهل والبدع، وحمى جناب التوحيد في المجال الديني. ولقد أصبح هذا التحوُّل نذير شؤم على المستفيدين من تلك الأوضاع المتردية، كما أنّه كشف عن سلبية (الدولة العثمانية)، التي لم تكن تحفل بقلب الجزيرة العربية، وما يجتاحها من فتن عمياء، وأمراض وبائية، وفقر مدقع، وحروب على المراعي والموارد، وما هي عليه من ضياع وانفلات في السلطة. فكلُّ قرية لها أمير، وكلُّ وادٍ له سلطان، وكلُّ قبيلة لها زعيم. والناس كما قطعان الماشية غنيمة لمن سبق. وبداية العهد السياسي الشامل، والديني السلفي له ما بعده، ولهذا فكلُّ الخصوم يستعيدون تلك البدايات الحاضرة في نسيج الكيان، فالمستشرقون والرحالة والمناوئون يبدؤون من حيث بدأ الدور الأول. و(الدولة العثمانية) في ظل هذا التحوُّل الحضاري، ارتكبت خطيئتين: خطيئة المواجهة لهذا الكيان الحضاري الناشئ. وخطيئة تهميش قلب الجزيرة العربية، وعزلها عن العالم. وما انصبّ اهتمام العثمانيين في الجزيرة العربية إلاّ على (الحرمين الشريفين)، لمكانتهما: إسلامياً وإعلامياً، وهي دولة ما كنّا نود انهيارها، لأنّها تمثِّل رمز الخلافة الإسلامية، ولا ننقم عليها، لأنّ الغرب كاد لها وأرداها، ولا نصفها بالمستعمر ولا بالمحتل، كما يحلو للعلمانيين، ولكننا لا نقبل أن نعيش في ظل ظروف متردية، كان بالإمكان تجاوزها، فلقد تجرّع آباؤنا وأجدادنا مرارات الفتن والأوبئة والجهل. ولقد كان لقاء (المحمدين) بداية قوية، للتخلُّص من أوضار الجهل، وذل المرض، وشقاء الفقر. وإذ أحسّت (الدولة العثمانية) بأنّ هذه الدعوة السلفية ستكشف عن خرافات التصوُّف و(الانكشارية) وإهمال الأطراف من الولايات، فقد عملت على إجهاضها. وبالفعل أنهت الدور الأول بالحملة المشؤومة (حملة إبراهيم باشا)، التي أتت على الحرث والنسل، وأعادت نجد ومن حولها من الأعراب والحواضر إلى ما كانت عليه من قبل: تخلُّف وفقر ومرض وإقليمية وقبلية. ولأنّ الشرعية مع الأُسرة، فقد عادت إلى الحكم مرة ثانية على يد الإمام (فيصل بن تركي)، الذي أقام الدور الثاني من الحكم السعودي، وإذ نجت من حملة مدمرة، فإنّها لم تنج من التآمر الذي فككّ أوصالها، ولما لم يكن بمقدور العثمانيين الدفع بحملة ثانية كما سلف، فقد استخدمت الدسائس واللّعب السياسية، حتى انشق الأشقاء من آل سعود على أنفسهم، وبهذا التنازع الأُسري انتهى الدور الثاني عام (1308هـ). وفي نهاية العقد الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، تحرك الشاب الممتلئ حماسة وثقة (عبد العزيز بن سعود) من ملجئه في الكويت، الذي أمضى فيه مع والده وأُسرته زهاء عقد من الزمن، متجهاً صوب الرياض، وليس في يده عدة ولا عتاد، ولكنه يملك شيئين: - (المشروعية) و(السمعة). (المشروعية) وتتمثَّل باستعادة مُلك آبائه وأجداده، فلقد نفيت الأُسرة من أرضها. وانتزع من يدها حكمها ظلماً وعدواناً. و(السمعة) التي يحتفظ بها النجديون خاصة، وسكان قلب الجزيرة العربية على وجه العموم للأُسرة الحاكمة، فالأُسرة تحكم البلاد بالعدل واللين والمساواة، وتقيم شرع الله، ولا تأخذها نزعات قبلية ولا إقليمية. ولأنّ النجديين في مدنهم الرئيسة متحضرون، يعتمدون على الزراعة والتجارة، فقد كانوا أحوج ما يكونون إلى حكومة حضرية، تنهي التناوش على المراعي والموارد، ولهذا أصبحت حواضر نجد ترقب عودة الأُسرة بفارغ الصبر. ولما قدم الملك (عبد العزيز)، كانت عدّته وعتاده: الشرعية والسمعة. ومن ثم أقبل الناس بأنفسهم وأموالهم مختارين طائعين، وانضموا تحت رايته، وشكّلوا جيشه، وعدّته وعتاده. وبعد إنجازه لمعركتي: (التكوين) و(البناء) قضى نحبه، فتلقّى الراية من يده أبناؤه: (سعود 1953 - 1964م) و(فيصل 1964 - 1975م) و(خالد 1975 - 1982م) و(فهد 1982 - 2005م) - رحمهم الله جميعاً - و(عبدالله 2005م - ....) وفّقه الله، وكلُّهم يترسّمون خطاه، ويتخلّقون بأخلاقه. ولكلِّ عهد سماته ومبادراته وتحوُّلاته، وهي سمات ومبادرات وتحوُّلات تفرضها الظروف المعاشة، والأحداث المحيطة، إذ لم تضطرب أحوال البلاد داخلياً، ولكن أحداث فلسطين، واليمن، والعراق، والحروب العربية الإسرائيلية والحروب العربية العربية، والحروب الإسلامية، والفتن الداخلية، كلّها بطأت في تنفيذ الخطط التنموية الطموحة، ولكنّها لم تغيِّر ثوابت الملك. وسياسة البلاد الداخلية والخارجية لم تتبدّل، ولكنّها تتطوّر، لتوائم المتغيرات العالمية، وقد تكون هناك مبادرات ملفتة للنظر في بعض المحطات، كما حصل في عهد الملك (فهد) رحمه الله، إذ تحققت في عهده أكبر التحوُّلات للمجتمع المدني، وهي بمجملها تحوُّلات مصيرية تمثَّل بعضُها في: - النظام الأساسي للحكم. - نظام مجلس الشورى. - نظام مجلس الوزراء. - نظام المناطق. - إنشاء المجالس العليا والمؤسسات والهيئات والمنظمات. وأبرز ما في الأنظمة انتقال السلطة، وتداول المسؤولية، بحيث حددت مدة العمل لعضوية مجلس الوزراء والشورى وأمراء المناطق. ونظراً لأنّ المملكة تحتضن المقدسات الإسلامية، وتهفو إليها أفئدة الأُمّة الإسلامية، وفيها أكبر مخزون من النفط في العالم، ولها أعماقها الجغرافية والسكانية، وموقعها الاستراتيجي وعراقتها السياسية، وثقلها في العالمين العربي والإسلامي، فقد توخّى قادتها سياسة الاعتدال والوسطية والتوازن، والدعم السخي للشعوب الفقيرة، وفتح جسور الإغاثة في النكبات، والدخول كوسيط حمَّال في مجمل النزاعات الأهلية والحدودية، والمتابع لخطابات الملك (فهد) رحمه الله، وتصريحاته وكلماته يجد أنّها تركز على سياسة عدم الانحياز، ونبذ أيّ خلاف، وعدم التدخُّل في شؤون الغير، ورفض أيّ تدخُّل خارجي في سيادة البلاد وقراراتها المصيرية، وتؤكد على احترام العهود والمواثيق العالمية، والتعاون مع المؤسسات العالمية، وخدمة السلام والأمن الدولي، وتَتَبنَّى مجمل المبادئ الحضارية: كالعدل، والاستقرار، والتعايش السلمي. والحرص على إبعاد المنطقة عن الصراعات الدولية. ولكن الرغبة في توقّي الصراعات لم تتحقق، لانفراد بعض القادة العرب باتخاذ القرارات المصيرية، أو التورُّط في اللّعب الكونية. كما أنّ المملكة بقيادته - رحمه الله - كان لها أكبر الأثر في حل المشاكل المستعصية إقليماً وإسلامياً. وليس أدل على ذلك من (مؤتمر الطائف) لحل الأزمة اللبنانية و(مؤتمر مكة) لحل الأزمة الأفغانية، واستقطاب العالم لتحرير (الكويت). لقد كان حضور المملكة في القضايا كافة، يمثِّل الدعم: الحسي والمعنوي، ويحقق التوازن في إقرار الحقوق الإنسانية، وحقوق الشعوب والأقليات. وممارسة الدول لقضايا السياسة العالمية تتم عن طريق القنوات المشروعة كالمنظمات العالمية. وليس هناك أهم من احترام حقوق الشعوب في العالم الثالث المسكون بالفوضى والثورات الدموية، والتدخُّلات الأجنبية. وقد لا يتأتّى للشعوب المحكومة بالحديد والنار، والمهددة بالسجون والمنافي تقرير مصيرها، ولكن المملكة مع هذا تفضل احترام حقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها قدر المستطاع. والسياسة المتوازنة في المملكة تعارض استخدام القوة في حل القضايا، مهما كانت مستعصية. ولقد تبدت أفضال هذه الرؤية بعد احتلال (العراق) وتعرُّضه لفراغ دستوري. والمملكة عايشت تدخُّلات واحتلالات، وكان موقفها واضحاً. فاحتلال الكويت وأفغانستان والعراق شواهد على المواقف المتوازنة والذكية من قِبل المملكة. لقد حذّرت ونصحت وتحفّظت، ولكن لم يطع لها أمر، فكان ما كان. وسياسة الاعتدال والتوازن والدفع بالتي هي أحسن والتناجي بالبر والتقوى، تمثّلت في نجاح الدولة في تسوية النزاعات الحدودية مع جيرانها، لقد جنحت للسلم، وأعطت تنازلات معقولة ومقبولة، ومارست حقها بالهدوء والسكينة وطول النفس، وطرح عدة خيارات، كما مارست سياسة الخطوة خطوة، واستبعدت خطابات التشنج والتهييج، وإقحام الشعوب في الهتافات الغوغائية، وتفادت الحديات وللاءات، ولم تسمح لأيّ طرف التدخُّل في مشاكلها الحدودية مع جيرانها. وتمثَّلت سياسة طول النفس واللقاءات الثنائية، والاشتغال في الممكن، ورفع الملفات الساخنة. ومع رصدها لإيقاع التحوُّلات العالمية، فقد كانت استجابتها محكومة بالضوابط الشرعية، ومن ثم حاولت الانتقال إلى (المجتمع المدني) دون الوقوع في الممنوع، وتلك معادلة صعبة، لا يحسن تخطيها إلاّ أولو العقول الواعية والتجارب السديدة. فالتخطِّي إلى المجتمع المدني بمختلف صوره في زمن الخلطة المستحكمة والاندفاع الجامح، يحتاج إلى بصر وبصيرة، وحلم وأناة، ذلك أنّ التردُّد والاندفاع كليهما مؤذن بفساد كبير. والدولة بمختلف مؤسساتها استطاعت أن تحفظ التوازن، وأن تستدرك الأمر، وأن تأخذ من المتاح بأحسنه، ولهذا استطاعت أن تحقق متطلَّبات (المجتمع المدني) دون أن تفرِّط بشيء من ثوابت الدِّين، وفي إطار التحوُّل أعطت المرأة حقها في التعليم والعمل والتجارة، ولكنها لم تندفع، بحيث تمكنها من السّفور والتبرُّج والاختلاط والخلوة وممارسة الفن الهابط، ومفارقة مهماتها الأُسرية. ومع الخلاف القائم داخل البلاد حول هذه الحقوق، فقد حفظت التوازن، ولم تنصاع لأيّ من الطرفين، وظلّت ترصد لكلِّ الخطابات وتأخذ بأحسنها. وعلى مستوى القضية الأهم والأعقد والأخطر (القضية الفلسطينية) فقد واجهت المملكة تحدِّيات وتجاوزات وإحراجات، ولكنها تخطّت ذلك كلّه بالحكمة والروية، وكان لضلوع أمريكا في مساندة الكيان الصهيوني أثره الكبير في تحميل المملكة أثقل الأعباء. فأمريكا حليف قوي وصديق قديم مع المملكة، وليس من مصلحة الطرفين التفريط بتلك العلاقات التاريخية، بل ليس من مصلحة المنطقة العربية منازعة دولة كأمريكا، وأمريكا مع هذا منحازة إلى الكيان الصهيوني، وتلك معادلة صعبة لا يواجهها إلاّ الأشداء من الرجال. لهذا أصبح الخطاب السياسي في هذه القضية خطاباً حذراً ومعتدلاً، فلم يرض بالاعتراف، ولا بالتطبيع، ولا بالاتفاقات الثنائية مع الكيان الصهيوني، ولم يقع فيما وقع فيه غيره من الهرولة والاتفاقات المنفردة. وتلك من أصعب المواقف، فالدولة تواجه واقعاً عربياً يندفع إلى السلام دون ثمن، ودولةً كبرى يودُّ كلُّ رئيس فيها أن يسجِّل له التاريخ الحديث مبادرة إسرائيلية فلسطينية، كاتفاقية (كامب ديفيد)، ومع رفض المملكة قبول السلام بلا ثمن، فقد استطاعت أن تحتفظ بعلاقاتها الحذرة مع الولايات المتحدة، وأن تحتفظ في الوقت نفسه بالتزاماتها الإسلامية والعربية. لقد كانت مواقف المملكة من القضايا العربية قائمة على العدل وتبادل المصالح والدعم غير المحدود في الأزمات للأشقاء والأصدقاء، وليس أدلّ على ذلك من موقف المملكة من احتلال الكويت. أما موقفها من القضايا الإسلامية، فقد تمثَّل بالتواصل الإيجابي القائم على التعاون، وتقديم المساعدات، والدفاع عن حقوق الأقليات والتوسُّع في إقامة المراكز والمساجد والمنظمات، ولولا أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لكانت (أمريكا) برمّتها قاب قوسين أو أدنى من الدخول في الإسلام كافة. وعلى الرغم من ظروف الشك والارتياب من أي عمل إسلامي، فقد اضطلعت الدولة بمهمات جسام، تمثَّلت بالدفاع عن مجمل القضايا الإسلامية العادلة والمشروعة، ومساندة الحكومات والشعوب الإسلامية والأقليات والمنظمات والمراكز، أمام أيّ تعدّ يمسُّ كيانها أو سيادتها. وتلك المواقف الداعمة تجسَّدت منذ عهد الملك (فيصل) رحمه الله، الذي سعى لإنشاء منظمات إسلامية قوية، كرابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وبنك التنمية، ومنظمة الجامعات الإسلامية، ورابطة الأدب الإسلامي، وسائر المنظمات العالمية، هذه السياسة المتوازنة الحصيفة، جعلت المملكة في ذروة الاهتمام العالمي، وفي الوقت نفسه جعلتها مادة حديث للإثارة وكسب الأضواء، فكلُّ من تعجل الظهور قبل أوانه، تناولها من أيّ زاوية، مفترياً الكذب، وهو في قرارة نفسه يعرف الحقائق. تلك هي سياسة التوازن وتوازن السياسة، التي جعلت المملكة في السياق العالمي دولة استثنائية أحبها قوم، حتى جعلوها فوق هام السحب، وكرهها آخرون حتى تآمروا على قتل قادتها. ويقيني أنّ الطريق أمامها محفوف بالمخاطر، ولكن أرصدتها التجارية، وإمكانياتها النفطية، ومقدّساتها الإسلامية، وعراقتها السياسية قادرة على حمايتها متى أذن الله بذلك، وهو آذن إن شاء الله، فوعده الحق {... ... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }(محمد: 7)، {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41)، وخطبة التنصيب التي ألقاها الملك عبدالله، تنطوي على نصر الله وإقامة أوامره، وتلك بوادر النصر والتمكين. |
مأزق التعالق ومزايدة الفارغين..! (2-3)
د.حسن بن فهد الهويمل أحسب أن ما سبق نشره في (13 - 6 - 1426ه) توطئة لا بد منها، واستهلال لم يأتِ من فراغ، إذ هو مخاض رصد دقيق ومتابعة واعية لفلتات الألسنة حول الموقف من المبادئ والقيم الحضارية المهيمنة ك(الحداثة) و(الليبرالية) و(الاستغراب) وسائر المصطلحات الحاضر منها والباد. وكل المزايدات تتسم بالسخرية والتجهيل والتطاول والاستعداء من مبتدئين متذيلين، لا يفقهون شروط التعالق، ولا أدبيات الحوار، وهم لفيف من قراء وكتبة ما كنا نعرف إمكانياتهم ولا خلفياتهم الثقافية، ولا نعرف لهم قولاً محكماً في الشأن الفكري، ينفي عنهم جهل الذات، أو جهل الحال. ولسنا فيما نقول نحقر خطرهم، فالبعوضة تدمي مقلة الأسد، ولا نحقر ذواتهم، وقدوتنا فيمن طُلب منه إباحة الزنا، واتخاذ ذات أنواط، وما كان منه إلا التعليم، كما لا نود منهم الكف عن التساؤل، ولكننا نود منهم تساؤل المستعلم لا سؤال المستنكر، ليكون من المفيد تداول الآراء معهم. وحديثنا لن يمتد إلى سائر القضايا المثارة، ولن يوغل في التفاصيل، ولكنه محاولة ناصحة لإرشاد المزاحمين بالمناكب الغضة والأجنحة القصيرة. والدين النصيحة، وخشيتنا من أن تأخذهم العزة بالإثم. وتناولنا سيقتصر على بعض القضايا التي دأب الكتاب على ترديد القول فيها وعنها، إلى جانب ظواهر وقضايا ومذاهب، ليست من مفردات حضارتنا ك(العولمة) و(العلمنة) و(الليبرالية) و(الديموقراطية). ونفي المصطلح لا يعني نفي المقتضى الموافق لمقاصد الشريعة، وقد يمتد الحديث إلى قضايا اجتماعية وتربوية وغيرها. ف(الحداثة) بوصفها مفردة من تلك المفردات الفاقعة اللون، التي أدى التعالق معها إلى مزيد من التشرذم، حيث شغلت الأوساط الأدبية عن كل مفيد، وفرقت شمل الأدباء، وبخاصة بعد أن (أدلج) القول الإبداعي، وسيست القضايا، واجتالت المشاهد مذاهب مادية ووضعية، ليست من الإسلام في شيء. و(الحداثة) كما (الماركسية) من قبل، استأثرت بالمشهد الأدبي العربي ردحاً من الزمن، وقال فيها وعنها الأنصار والخصوم ما لا يتطلب المزيد. حتى لقد أصبحت من المعروف الذي لا يعرف، والذين أعادوها من كُتاب الشغب عبر رموزها أو عبر خصومها أو عبر مفاهيمها المتناقضة، أو عبر الكتب التي رصدت لمرحلة أصبحت في ذمة التاريخ لا يمتلكون التصور السليم عنها، وأن امتلكوه فإنهم لايتحرجون من لي ألسنتهم بالكذب. وحديثي عن (الحداثة) الموَّزع بين المقالات والمقابلات والتأليف والمحاضرات حديث رجل عاشها زمن الإقبال والإدبار، وعرف مالها وما عليها، وليس كما عابر السبيل، أو مثقف السماع، الذي لايجد حرجاً من التعالق مع كل طارئ. ولربما تكون (الحداثة) هي الوحيدة بعد (الماركسية) التي تحتل أكبر مساحة في مكتبتي: تنظيراً وتطبيقاً وإبداعاً، ولربما تكون الوحيدة التي عايشت أصحابها، وعشت معهم في (مصر) و(الشام) و(العراق)، فاكتشفت وجهها الآخر من خلال تصرفاتهم (البوهيمية) وممارساتهم (الوجودية)، حتى لقد رأيت البعض منهم يقلد في الأزياء والشعور و(الغليون) والحركات المتسمة بالفوضى، وكأني بهم مأخوذون بفرية العلاقة بين العبقرية والجنون، أو هكذا يتوهمون ويوهمون. وقولي فيها وعنها قول متابع لكل رموزها من غربيين ومستغربين منظرين ومبدعين مؤصلين وتبعيين، لا قول خب يخدعه الخب. والذين يتعمدون إثارة الزوابع باستدعاء المتحدثين عنها والمؤلفين فيها بأسلوب ساخر، وتشبع فارغ، لا مكان لهم ولا لطرائقهم في مشاهد الفكر والسياسة. وظنهم الذي أرداهم تصورهم أن السخرية بالمتصدين للغربنة بكل وجوهها سترديهم. و(الحداثة) التي ألهت بني جلدتنا عن كل مكرمة: ظاهرة فكرية وأدبية، بل هي ظاهرة حياة، وإذا سُلّم لها في جانب، فإنه من المستحيل التسليم لها في كل الجوانب، ولا يحق للمتعالقين أن يسفهوا من يتحفظ على تجاوزاتها: الفنية والفكرية والأخلاقية. ولو أن كل اختلاف يستدعي التسفيه والتجهيل والسخرية لفسدت مشاهد الفكر والأدب. والمعضل أن الذين يتحرشون ويحرشون، لا يلمون بشيء ذي بال عن المستجدات: الفكرية والأدبية والسياسية، ولا يعرفون أبسط مقاصدها، ف(الليبراليون) الذين تلقفوا الراية من (القوميين) بعد سقوطها ومن (الثوريين) بعد فشل الثورات وتعري أصحابها، لا يدرون ما الجذور (الأيديولوجية) لمناطهم. وإذا أراد الغواة تبني المنافحة العلمية عن (الحداثة الفكرية) ولا أحسبهم قادرين على ذلك، ولا أحسب السدنة المؤصلين لحداثتهم متفائلين بنصر مَنْ لايملك إلا الهتاف الغوغائي - فإنَّ على كل غاوٍ أن يحيي ليله، ويظمئ نهاره، ويمسح آلاف المقالات والدراسات والكتب المؤلفة والمترجمة: المنظرة والمبدعة والمطبقة. وأن يعرف الأنساق والسياقات والأجواء، فلا خير في كثير من النجوى المقوية. فالحداثة ليست من السهولة، بحيث يقال عمن تصدوا لها قولاً صحفياً أقرب إلى الإنشائية، وليست الإثارة الصحفية لقلب الطاولة على من عايشوها من المهد إلى اللحد. ومعاذ الله أن أكون غاضباً أو خائفاً، أو ساخراً بأحد، إذ ليس من المحامد أن ينهى أحد عن خلق ويأتي مثله، ولكنني لا أريد لمشاهدنا أن تكون مرتعاً للرجال الجوف الذين لايتوفرون على المعرفة ولا على مناهج البحث العلمي وآلياته. والمهمون المهابون من أهل الحل والعقد لن يختلط الشحم عندهم بالورم، لأنهم يتوفرون على كافة الإمكانيات، ويحسنون استخدام المجسات والمسابير، والوقوف على الحقائق طال الزمن أو قصر. وما نشاهده من إلحاح ولجاجة، ليس بإمكانه أن يلغي كل ما قاله الخبيرون بدخائل النفوس وجذور الظواهر، ولا أن يشكك بكل ما توصلت إليه بحوثهم وتحرياتهم. فأصحاب الفكر المتوازن أكبر منهم، وممن معهم من الذين يحسبون أن التعالق مع الحداثة على إطلاقه هو عين الصواب. وأدبُ الحداثة الفكرية، وأحب أن نضع تحت كلمة (فكرية) أكثر من خط، لأن هناك من يطلق الحداثة على التجديد، ومن يطلقها على المعاصرة، ثم لا يحسن التفريق بين التجديد والحداثة، حين يتحدث عن المنحرفين والساقطين، وإذ لا مجال للمغالطة في ظل توفر الوثائق الفاضحة التي يباركها المتعالقون، فإن من الكذب الصراح تضليل المتلقين بادعاء التجديد، وذلك من الالتفاف الغبي. والأهم من هذا وذاك أن الحداثة ليست رؤية أدبية وحسب، إنها ممارسة فعلية في علم الإدارة والاقتصاد والإعمار وسائر مستجدات الحياة. ونحن بتصدينا وتحدينا وصمودنا نعرف ماذا نعني ومن نواجه. ولقد قلنا إن الحداثة التي نواجهها هي (حداثة الفكر) وفق تصور الغرب الذي أنشأها، وليس وفق تصور المتعالقين معها من مثقفي السماع والتبعية. والأغرار غير الكرماء من الكتاب الذين يتصورونها مطلق التجديد، يجهلون أبسط المفاهيم. ونحن لا نتحدث عن هؤلاء، ولا نجد فيما يقولون قيمة معرفية، فما نحن إلا مجددون ومعاصرون، وتعلقنا بالتجديد لا مزيد عليه. وإذا أراد أحدٌ أن يتقحم سوحنا بهمز أو غمز أو تساؤل إنكاري، أو أن يجالدنا ويجاهدنا، فعليه أن يتصور رؤيتنا، وما نذهب إليه، وأن يعرف ما نحن عليه من مواقف متوازنة، وما نتوفر عليه من معرفة تاريخية وجذور فكرية للحداثة، سواء كانت كما أرادها أساطينها في الغرب، أو كما أرادها غيرهم من دعاة الاستغراب. ونحن هنا لا ندعي، ولا نزكي أنفسنا، وإنما نؤكد معرفتنا بالظاهرة وخبرتنا بها. فالحداثة عصارة أفكار ومذاهب وتيارات، وكل متحدث فيها أو عنها ، لا بد له من رصد دقيق لعقائد المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع، ومتابعة متأنية لسائر المذاهب الغربية، إذ لم تكن الحداثة نزعة خالصة، لا علاقة لها بما سلف من مذاهب وتيارات. ومراحل تشكلها ومرجعياتها أكثر من أن تحصر. فهل ألَّم المتعالقون بما كتبه المفكرون والساسة عن (عصر التنوير) وما يعج به من أفكار متناقضة، بوصفه الحاضن الطبيعي للحداثة الفكرية المنحرفة؟ وهل تعرفوا على (السريالية) و(الدادية) و(الوجودية) بوصفها المذاهب العبثية المرهصة أو المزامنة للحداثة؟ لقد كان جديراً بمن يستعذبون السخرية بالمختلفين معهم أن يرصدوا لتاريخ (النهضة العربية) وتحولاتها وانكساراتها من مشارف (الحملة الفرنسية) إلى (الحملة الأمريكية) ثم ليرجعوا أبصارهم كرتين إلى (ثورة الأنفوميديا) و(بنية الثورات العلمية) وتحولات العالم من اليقين إلى الشك، ومن الإيمان إلى التمرد والثورة على الثورة، وما خلفته من أزمات وصدمات، أدت إلى ثورة العقل على ذاته. وكل تلك المخاضات وسعتها مشاهد الغرب، فالحداثة لا يمكن تصورها بمعزل عن سائر المذاهب الفلسفية والاجتماعية ومفاهيم الحرية. وتلقيها من متعالق لا يحسن التفريق بين (قرنين) من الزمان، تقاس المسافة بينهما بالسنة الضوئية مؤذن بتفاقم الأمية. وذلك ما نراه متدفقاً عبر أنهر الصحف. ولست بهذه المناصحة والمكاشفة خائفاً أترقب من فلتات الأقلام، فأقلامنا وألسنتنا لما تزل قوية متحفزة، ولديها الاستعداد لمنازلة جديدة، ف(الحداثة الفكرية) (حرب ضد الله) وإفساد متعمد للأخلاق، وجناية سافرة على سائر الفنون القولية، ومن أنكر ذلك فليأت ببرهانه، وما أقوله أحكام محكمة، لم أتقوه بها من عندي، ولا من عند علماء الإسلام، إنها مقولة أرباب الحداثة الذين يرونها مشروعهم ورهانهم الذي أنتجه العقل المنصف بالكونية والشمولية. ورموزها الفاعلون هم أهل الحل والعقد الذين يرجع إليهم في الإفتاء، وإذا سألنا غيرهم عن مفهوم الحداثة، فقد ظلمنا المشهد الأدبي. وما قلناه، وما نقوله عن الحداثة إن هو إلا قول أربابها وأساطينها، يطلقه المنظرون، وينفذه المبدعون. فهل المنافحون يرون مرجعيات أخرى؟. لقد استبعدنا من لايثقون بهم من علماء ومفكرين إسلاميين، أملاً في أن يكون شهودنا من أهلها. والذين يودون أن يستبرئوا لدينهم وعرضهم، ويكفوا الغيبة عن أنفسهم، وينجوا من مآزق المصطلحات والمذاهب والمبادئ والظواهر الملتبسة بعد ما هلك فيها من هلك، عليهم أن يستبينوا طرق الاستقامة، التي يدعو بالهداية إليها كل مسلم في صلاته، وليست سهلة ولا ميسورة، والشيطان يتهدد، ويتوعد عندما أغواه الله {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف:16)، ومن سولت له نفسه أن يخوض خضم الحداثة مع الخائضين فعليه أن يصيخ لخطابات قائمة وأخرى خاوية، وأن يرصد للتاريخ الفكري العربي والغربي وسائر التحولات ما جد منها وما اندثر، تمشياً مع مقولة (كانت): - (فلسفة العلم بدون تاريخ خواء وتاريخ العلم بدون فلسفة العلم عماء). فالعالم اليوم أصبح كما القرية الصغيرة، مختلط الأصوات ملتق الأمواج، وليس بين عذبه الفرات ولا ملحه الأجاج برزخ يحول بين بغي أحدهما على الآخر. ومن تقحم أمواج المعارف والمبادئ دون أن يحصن نفسه أصابه دخنها، بل أرداه وباؤها. وذلك ما نراه، وما نسمعه عن أناسي، كنا نعدهم من المفكرين المتمكنين فإذا هم رئيس في مهب الريح. ودعك من ناشئة خالية الوفاض، غرر بها مَنْ لا خلاق لهم، واستدرجوهم من حيث لا يعلمون لمواجهة المتحفظين على كل طارئ والمتعاملين معه بحذر شديد واحتياط أشد. ولو كانت المواجهة متكافئة، أو كانت علمية يتجاذب فيها الأطراف حقائق المعارف، لما كان في ذلك مشاحة، بل هو عين الصواب. وعلماء السلف اختلفوا فيما بينهم، وكانت لهم مذاهب، وكان للمذاهب أئمة، وكان للأئمة أتباع وأشياع، وكانت لكل مذهب أصوله وقواعده ومقدم مذهبه ومفردات إمامه، وما كان في ذلك من بأس. ومن تصور أن الحضارة الإسلامية لا تقبل الخلاف، ولا تحسن الحوار الحضاري، ومن ضرب الأمثال في ضيق عطنها ب(الحلاج) ومحنة (ابن حنبل) و(ابن رشد) فقد ضيق واسعاً، والتقط وقوعات مبتسرة من سياقها، وقد لاتكون بالضرورة معبرة عن نسق الحضارة الإسلامية وسياقها، ولو فعل مع حضارة الغرب فعله مع حضارته، لكانت الأضيق عطناً والأعنف تعنتاً. لقد أبدع المتعالقون المسرحيات الشعرية عن مأساة (الحلاج) بوصفه متحرراً، ونسوا إعدام (جيوفروي فاليه) عام 1574م عندما ألف كتابه (ذروة الصفاء الروحي) المنكرة لوجود الله، وتضييق الخناق على (جول بيدل) عندما رفض التثليث، وآمن بوحدة الإله، فلكل حضارة شواذها المغردون خارج السرب، وليس من العدل الابتسار، والتقاط وقوعات خارج سياقها، وقد تكون هناك مسايرة بلهاء في العمليات الإبداعية ف(مأساة الحلاج) تفكيك ل(جريمة قتل في كاتدرائية). والبائسون من المبهورين يقعدون من أساطين الحضارة الغربية مقاعد للسمع الأبله، ثم يعودون إلى أوباشهم، ليقولوا لهم إنا سمعنا ورأينا شيئاً عجباً، يستقبل أهله المادة، ويصنمون العقل، ويعبدون الشهوات. والمؤلم أن الكذب الأبله أعذب الحديث، وتكراره وتقليبه يؤهله ويصدقه، وذلك بعض ما يفعله المصابون بداء الاندهاش، المستهلكون باستجداء الآخر. والصدام حول المستجدات من السنن الكونية، ومن الظواهر الصحية، ولكن لكل خافقة سكون يستدعي المراجعة والمساءلة والنقد والتقويم. وليس بدعاً أن ينبري لأي حركة فكرية أو دينية أو سياسية أو أدبية من يحرض على إجهاضها، والمتعالقون على غير هدى هم الذين يستفظعون المواجهة، ويعدونها من ظواهر التخلف، وعندما اندلعت الثورة (البلشفية) في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، انشق عليها عدد كبير من الأدباء والمثقفين والمفكرين، واحتضنتهم (أوروبا)، وأصدروا مجلات وصحفاً وكتباً تندد بالثورة والثوار، واشتهر منهم عدد كبير، استطاعت شهرتهم أن تدخل بهم مشاهد العالمية، أمثال (ديمتري) و(بالمونت) و(بوتين). وفي العصر الحديث نسمع ونقرأ لمفكرين وعلماء وأدباء غربيين يعارضون السياسة الغربية والفكر الغربي أمثال (جارودي) و(تشومسكي) و(تانباسي هسو) ولم يستخف أحد بعقلياتهم، ولم ينالوا من مكانتهم، وإن ضويقوا، وطوردوا من قبل المخابرات العالمية. والمستفيض أن الاعتراض قائم، وليس مؤشر ضعف أو تخلف، كما يتصور الفارغون، وإذ يكون الحكم على الأشياء فرعاً عن تصورها فإن أوجب الواجبات على المزايدين أن يعيدوا تكوين ذهنياتهم وبناء عقولهم، ليستبينوا الرشد قبل فوات الأوان، فإذا ضعف التكوين واعوج البناء جاءت بصائر الأمة حُولاً، على حد قول شوقي: (وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة جاءت على يده البصائر حولا) |
مأزق التعالق ومزايدة الفارغين..!! ( 3 - 3)
د. حسن بن فهد الهويمل وطائفة من المتعالقين إساءتهم لحضارتهم ممتدة من الكهولة إلى أرذل العمر، وليست عارضة يرجى زوالها، وكل ما يشغلهم ترديد ما يقوله المستشرقون، حتى لكأن قولهم بضاعة ترد لأصحابها. والقراءة الاستشراقية المحايدة لمفردات الحضارة الإسلامية تتسم بالمادية والوضعية والأنسنة، أما المنحازة فمفتوحة على أسوأ الاحتمالات. ولم يكن أحد من مفكري العرب وعلمائه المستغربين من يركنون إلى مناهج حضارتهم وآلياتها وتصوراتها في قراءة المفردات الحضارية في الغرب. بمعنى أن تكون القراءة لمفردات الحضارة الغربية من خلال نظرية معرفية إسلامية. وإذ يمتلك الغرب حق القراءة لمفردات الحضارة الإسلامية من خلال نظرية معرفية غربية، قوامها العقل المحض والمادية الملحدة، فإن من حق العربي أن يماثل من سواه، ومن ساواك في نفسه فقد عدل. ومن المذلة أن نشاطر المستشرقين نظرية القراءة، وأن تكون المشاطرة ناتج اندهاش صبياني، بحيث تكون أولى الخطوات الانبهار، ثم الإعجاب، ثم التمثل، ثم الإنابة في قراءة الذات. ولقد أفرز الاحتكاك غير المتكافىء مع الحضارة الغربية خطاباً استغرابياً، تقول به طائفة من مفكري العرب ك(الجابري) و(جعيط) و(أركون) ومئات آخرون، تعرف منهم وتنكر، والمؤذي أن ينبري جهلة متعالمون يحرفون مفهومك للأشياء، كي يسوغوا لأنفسهم وصفك بالتخلف والتقليد والماضوية والتكلس، وما شئت من تلك الكلمات الجاهزة. وإشكالية الخطاب العربي، أن المتنفذين فيه فئتان: الرافضون للغرب على الإطلاق. والآخذون بعصمه على الإطلاق. ولا مكان للوسطيين الذين ينشدون الحق، ويزورون عما سواه، متمثلين قول الباري: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. والذي يريد أن يؤصل لمعلوماته ويحرر مسائله، ويعرف (الحداثة) من حيث هي فكر وإبداع، يجب عليه أن يقرأ (الفلسفة الحديثة) القائمة على المادية والعقلية، والنافية للغيبيات كلها، وتصور الفلسفة الحديثة يتطلب ثلاثة أشياء: أولاً: الرصد التاريخي للتحولات الفكرية في الغرب من خلال أساطين الفلسفة الذين يخلطون بين التأليه والإلحاد أمثال: (هوبز ت 1679م). و(هيوم ت 1776م) و(شوبنهاور ت 1788م) و(دارون ت 1882م) و(ماركس ت 1883م) ونيتشه (ت 1900) و(راسل ت 1970م) و(هايدجرت ت 1976م) و(سارتر ت 1905م). وبخاصة الأربعة (ماركس، دارون، فرويد، سارتر) فهم عمالقة الفكر الحديث الماثل للعيان من خلال لحن القول التبعي، ولن نستدعي فلاسفة العلم ولا جدل اللاهوتيين مع الطبيعيين. كما أننا لن نؤكد على الإلمام بظاهرة الإلحاد في الغرب عند أعلامها من أمثال (وليم جودوين ت 1836م) و(شلي ت 1822) و(ستيورات مل ت 1873)، وإن كانوا جميعا لهم أثرهم فيما يجد من ظواهر. ثانياً: الرصد التاريخي والفكري ل(الثورة الفرنسية) لكونها منطلق الحداثة ول(عصر التنوير) من حيث رؤيته لما وراء الطبيعة والمنطق والأخلاق، وكل متعلقات الحياة التي تداولها (جون لوك) وبخاصة (مقالته في العقل البشري) و(فولتير) وقد أجمل الحديث عن طائفة منهم (ايسايا بيرلين) في كتابه (عصر التنوير) ومن لم يستوعب مطارحات مفكري (عصر التنوير) و(الثورة الفرنسية) فلا مكان له في الحديث عن (الحداثة). ثالثاً: والباحث المحترم لنفسه ولقارئه من واجبه السيطرة على المصطلحات المتشعبة والمتقلبة عبر الحقب التاريخية، ومن أراد أن يسيطر على مصطلح (الحداثة) بوصفه مصطلحا مراوغاً، ويكبح جماحه، ويفهم الحداثة على وجهها، ويحمي نفسه من ضحك العارفين، لابد أن يعرف تحولات الأفكار والعقائد، بعد تحول السيطرة من الدين إلى العقل، ومن العقل إلى العلم، ومن العلم إلى الفوضى، و(الفوضوية) ظاهرة نسلت من (السريالية) و(الدادية) و(الوجودية)، وهي في الأصل (نظرية سياسية) ولكنها امتدت للأخلاق والاجتماع، ولقد أسس لهذه التحولات اكتشافات فلكية وعلمية وفكرية، دفعت العقل المفتوح على كل الاحتمالات إلى التمرد والدخول في متاهات الفوضى والإلحاد. وقد أجمل الحديث عن (إرهاصاتها) عباس محمود العقاد في كتابه (عقائد المفكرين في القرن العشرين) مثل تحولات (مركز الكون) في الفكر المعاصر، (وقوانين المادة) المتسيدة، ومذهب (التطور) عند من أرهصوا (لدارون) وعنده، وعند من تلقوا الفكرة من يده دون وعي بجذورها ومناحيها، ولما تزل نظرية فرضية مدحوضة من العقل التجريبي، وسواء عولت على المادة والإلحاد، أو لم تعول، فهي الأكثر صخباً والأفشل نظرياً. ولأن (الحداثة) تشكل قواسم مشتركة لا قاسماً واحداً بين العلماء والادباء والفلاسفة، فلابد والحالة تلك من أن يلم الداخل في مآزقها بعقائد أولئك كل على حدة والذين يقاربون الحضارة الغربية وبالذات الأوروبية، لأنها تشكل المنطلق، ثم لا يحررون مسائل العقيدة في الغرب، وما يعكسه الخواء الفكري الذي استمرأ الإنكار المطلق لكل ما هو سائد بوصفه جزءاً من الانقطاع المعرفي الذي ربك المبتدئين، مثل هؤلاء يمارسون وجودهم كما (الأطرش في الزفة).. وعندما اقرأ لمثل أولئك رداً أو تساؤلاً أحس بالخجل والألم، الخجل من جهلهم، والألم من تغريرهم بالمبتدئين، ثم أنفجر بالضحك، وشر البلية ما يضحك. فالحداثة مخاض (ايديولوجيات) متشابكة، وأوروبا مرت بحالة زلزلة فكرية، صدعت كل شيء أتت عليه، وذلك بسبب تعارض الأصول العلمية مع الأصول الإيمانية المحرفة، وخلوصا من هذه الدوامة تلمَّس البعض نجاته المتوهمة بالرفض والإنكار أو التخلي، وصياغة معتقد وضعي يصنعه العقل وتباركه العاطفة والصائرون إلى الإنكار المطلق لا يجدون حرجاً في إنكارهم، ذلك أنه هروب من المساءلة والتحرير والتأصيل، والمنكرون للغيبيات استدبروا الأشياء والأفكار معاً، واشتغلوا في صناعة وجود على قدر عقولهم، لا يجدون فيه مشقة ولا عناء، والفلسفة الأوروبية قامت في معظم أمرها على النفي والإنكار، وعولت على عالم الشهادة، ولكن الثورات العلمية المتلاحقة نزعت من أيديهم كل شيء حتى المادة، فكانت فلسفة العلم، الأمر الذي أدخل النظريات في دوامة التناقض وتناسل القيم والمبادئ والمذاهب المرتجلة، وما (الحداثة) إلا شظية من شظايا فلك خرج عن مداره، والمبهورون الذين حولوا انبهارهم إلى ابتهاج بحضارة الغرب الفكرية لا الشيئية، يرون ذلك ناتج العقل والعبقرية، وما هو كذلك، فالمنكرون والنفاة يتخلصون من الأشياء، ولا يتخلصون من الأفكار السابقة، إذ ما من مذهب إلا وهو خليط من مذاهب شتى. وذلك الذي دعانا إلى لفت نظر الشداة المهرولين وراء سرابيات الحداثة، لإعادة النبش في أجداثها، ولقد نهيت عن نبش الحداثة، وإن رم جرحها على فساد، ذلك أن الوقت غير مناسب، والمتلاسنون لا تبلغ المعرفة تراقيهم، ولاسيما أن الفكر الغربي ك: (ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان) إن لكل مفكر غربي وجدانه ومنهجه وآلياته ومعتقده، وخلفياته المعرفية والثقافية، وهو مرتهن بهذه الخلفيات والأنساق. ولذلك الوجدان بشقيه (الخالص) و(العملي) إن صح هذا التوقع على شاكلة (إمانويل كانت) في نزعته النقدية للعقل البشري منطلقات علمية أو (ميتافيزيقية) توجه مساره ولهذا قال (جيمس استيفن) في نهاية القرن التاسع عشر، وهو يحيل إلى العلم بوصفه الحل الامثل للمعضل الكوني: (إذا كانت الحياة الإنسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها، فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين، إذ ما هي فائدته، وما هي الحاجة إليه، إننا نستطيع أن نسلك سبيلنا بغيره)، وهذا الصوت النشز ليس هو المسيطر الوحيد على الفكر الغربي، إذ هناك من الف بين قوانين العلم والعقيدة اللاهوتية، نجد ذلك عند (ماثيو) في كتابه (مقالات في البناء)، وآخرون فرقوا، ومنهم من تردد بين الإيمان والإلحاد، وحتى المذهب الواحد يتبناه ملحدون ومؤمنون على الطريقة النصرانية، نجد ذلك عند مفكري (الماركسية) و(الداروينية). لقد نشأ الصدام بين العلم والإيمان، وهو صدام، مفتعل، إذ لكل تفكير وجهته، ولا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول. كما يقول (ابن تيمية)، والمنعتقون من شرنقة الانبهار المردي، اكتشفوا الجفوة المفتعلة بين الدين والعلم، وهي جفوة أطلقها الماكرون صدقها المغفلون. وكل متحسس لنبض (الحداثة) في نشأتها الأولى ومنشئها، لا يملك القدرة على الرصد الدقيق لتحولاتها واتجاهاتها، إلا إذا تقصى الاسباب والعلل التي هزت الثوابت، واكتسحت السوائد، ونفت المسلمات، وهي أسباب نسلت من جرأة العلماء والمفكرين والفلاسفة على تلاحق المساءلة. فالمذاهب المادية ألهت المادة، وأسقطت التصديق والقداسة والاعتقاد، ونظرية (دارون) التي منحت من المصداقية ما لم تمنحه أي نظرية، صادمت الأخبار الصادقة،. ولما فعلت فعلها في الفكر الإنساني، سقطت كأسخف نظرية، وأكذب فرية، ولكن آثارها باقية في أذهان الكهفيين، واختراق المفكرين لأصول الديانات وتجميعها وتقديمها للمتلقي الإنساني الخالي الوفاض أدى إلى الميل إلى أنسنة الديانات، والتعامل معها بوصفها جهداً بشرياً. ولقد تولى كبر (الأنسنة) في الفكر العربي (محمد أركون) وإن تناوله من خلال التراث الأدبي ومن زوايا مغايرة، وذلك في كتابيه (نزعة الأنسنة في الفكر العربي) و(معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية) ومن بعده (نصر حامد أبوزيد)، الذي أنسن الذكر الحكيم بمجرد تلبسه باللغة. وظهور مذاهب مسيسة لعبت دوراً إكراهياً ك(الماركسية). أما الجانب الأخلاقي فتصدرته مناهج (علم النفس) و(علم الاجتماع) والتوت به إلى الفلسفة الأخلاقية التي اتخذها (الجابري) مناطاً لنقده للعقل العربي، وقد تناول ذلك في كتابه الرابع والأخير لمشروعه النقدي الذي قلد فيه (أمانويل كانت) حذو النعل بالنعل، كل ذلك يشكل جذوراً للحداثة المراوغة. والحداثة التي يتجاذبها الجذر العربي والمقتضى المصطلحي ستظل مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهي بهذه المراوغة الدلالية كنافقاء اليرابيع، كل من حوصر فيها نفذ بجلده مدعياً أنه يعني التجديد، وتسيد الجهلة والمبتدئين للمشاهد الإعلامية والأدبية سيزيد الموقف التباساً والتياثاً. ولو طلبنا الشواهد الدامغة من مشاهدنا العربية لضربنا الأمثال ب(أدونيس) وفي مكتبتي أكثر من خمسين كتاباً له وعنه، هذا فضلا عمن تعرض له مدحاً أو قدحاً في عشرات الكتب. و(أدونيس) من أساطين الحداثة، وممن يعول عليه كل الحداثيين، هذا الإنسان يقول الكفر البواح والإلحاد الواضح والعهر الفاحش. ومن لديه أدنى شك في ذلك، فليرجع إلى كتبه (الثابت والمتحول) و(الصوفية والسريالية) إضافة إلى أعماله الإبداعية، ومن بعده أو معه يأتي (يوسف الخال) و(أنسي الحاج) و(نزار قباني) و(معين بسيسو)، بوصفهم مبدعين مثلوا القدوة السيئة لمن جاء بعدهم من عشاق الإثارة والأضواء. أما على مستوى الإبداع السردي فحدث ولا حرج، فالروايات التي تنضح كفراً وعهراً تكاد تسود المشاهد، ويتقبلها الخليون بقبول حسن، وقد لا يجدون حرجاً من الدفاع عنها وعن أصحابه. ولك أن تتذكر (وليمة لأعشاب البحر) و(مسافة في عقل رجل) و(الخبز الحافي) و(أولاد حارتنا)، لتقف على تجاوزات لا يقبل بها العربي الجاهلي فضلاً عن العربي المسلم، ألم يقل عنترة بن شداد: أغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مخباها وكيف لا يحفل الشعر الجاهلي بالقيم الأخلاقية والرسول صلى الله عليه وسلم بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ولقد استوفى الأخلاقيات في الشعر الجاهلي الدكتور (زهدي الخواجا) في كتابه (الجانب الخلقي في الشعر الجاهلي). إن الحديث عن الحداثة وعن أنصارها وخصومها يتطلب الامتلاء المعرفي من فيوض المشاهد الغربية والعربية، ومن لم يتمكن من ذلك فعليه أن يلحق بمدارس محو الأمية، لا أن يتصدر منابر الثقافة. |
ليت شعري هذه السياحة لمن..؟
د. حسن بن فهد الهويمل في كل عام تغص المطارات، وتنوس المحطات، وتشتعل المنافذ، وتُستنفر القوى البشرية، لفك الاختناقات، وتسهيل العبور إلى آفاق المعمورة.. وما أحد أخذ أولئك المتدافعين بالنواصي والأقدام، وإنما هو خيار شخصي محض، والمتدافعون لا تجد فيهم المثني ولا المعذر لعقابيل السياحة ومتاعبها.. وعجائب السياحة لا تنتهي، فالسائحون في كل زمان ومكان، لا ينفكون منها، ولا ينفكون من ذمها، والشكاية منها.. ولقد شكا (المتنبي) وهو في (شعب بوَّان) من المبارحة، واشتكى من ملاعبها، فكان قدوة لمن خلف.. والاختلاف حول الظواهر والقضايا والأناسي ظاهرة صحية، ومؤشر إيجابي، متى أخذت الأمور بحقها.. وهذا التباين في المواقف والآراء لمح من خلاله رائد العبقريات مؤشرات العبقرية، فما اختلف الناس حول شيء إلا كان له شأنه الذي لا يُستهان به.. وما من عبقري إلا وللناس فيه مذاهب شتى، يرفعه قوم، حتى لا يعلوه مخلوق، ويهبط به آخرون، حتى لا يكون دونه مخلوق. والأشياء كالأناسي، فما من مؤسسة أو هيئة أو مسؤول إلا ولهم مستنهضون ومثبطون، مستفيدون ومتضررون. وليست العبرة بالفيض العاطفي، ولا بمجازفة المدح أو فاحش الهجاء، وإنما هي في الأداء المسدد والحضور الفاعل، والتصور السليم.. ولقد كان لي تناوش قبل عام مع هيئة السياحة، أحسبه مهذباً ومتوازناً، ومن نتائجه تقوية الروابط مع أربابها، ولم أكن يومها مادحاً، ولا قادحاً، بل كنت ناقداً يعيب نقص القادرين على التمام، ولا يطلب المستحيل، ولا ينكر الجميل. وحين يحلو للكاتب أن يتحدث عن عوائق السياحة ومشاكلها، فليس ذلك بالضرورة منصباً في أوعية المسؤولين دون غيرهم.. وإذ تكون الهيئة أو المنطقة طرفاً في كل متعلقات السياحة فإنهما لن تكونا مسؤولتين عن كل تلك المتعلقات.. وحين تكون الهيئة أو غيرها طرفاً، ثم لا تكون سبباً رئيساً فإن من أولويات مسؤولياتها أن تنقّب في المعوقات، وأن تلتمس الحلول، لا أن تبحث عن المعاذير، ولا أن تشجع المعذرين.. وحين تبدو المعوقات ماثلة للعيان، أو مهداة لها من الكتاب، ثم لا تكشف عن ساقها، وتركض برجلها، لتلافي أي معوق، يتحوّل التساؤل إلى مساءلة، والتذكير إلى نكير. وتجربتي مع صاحب السمو الملكي الأمير (سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز) ومن معه من صفوة العاملين مغرية بمزيد من المطالبات الطموحة، حيث استقبلوا ما سلف من نقد برحابة صدر، وأبدوا ما لديهم من مشاريع منفذة وأخرى تقرب التنفيذ.. وما استأت من شيء استيائي من تصريحات متذمرة، تشكو العوائق، وتضيق بالواقع الذي لا يبارك الخطوات التطويرية.. ولست أشك أن السياحة حمالة أوجه، وهي بحاجة إلى مزيد من التحديد والمكاشفة والعناية والدعم: الحسي والمعنوي، فالناس أعداء لما جهلوا، وفوضى السياحة فيمن حولنا مدعاة إلى مزيد من التساؤل، ومن عرف السياحة معرفتي بها خاف مما لا يخاف منه، وهي كما قضايا المرأة محفوفة بالشبهات. وإذ تواجه مشاريع السياحة بعض المعوقات، فإن ذلك مؤذن بمزيد من التفكير والتقدير والتدبير، فالتحفظ حق مشروع لكل مواطن، وواجب المسؤول أن يستمع وهو شهيد لكل تساؤل أو تحفظ، فإن كان ما يُثار مشروعاً، وجب تقبُّله بقبول حسن، وإن لم يكن مشروعاً، وجب دفعه بالتي هي أحسن.. وحين يتخوّف (الرأي العام) من المبادرات، أو حين يبدي تحفظه على التصريحات فإن على المسؤول أن يصيخ، وأن يتصرف بطريقة تبعث على الثقة والاطمئنان، ف(الرأي العام) ظاهرة طبيعية، لا يجوز تجاهلها، وكل الوسائل الإعلامية والتربوية والدعوية بحاجة إلى إتقان سياسته، وتحويله من المواجهة إلى المعاضدة، و(الرأي العام) المتشايل أو المتسائل لا يعد من جماعات الضغط المتربصة. وأي مجتمع مدني لا يخلو من جماعات ضغط وأحدية الرؤية، ورأي عام متعدد الرؤى والتصورات، ومثلما أن أي تجمع إنساني يتمخَّض عن سلطات متعددة: حميدة أو سيئة، فإن ذات التجمع حين يرقى إلى مستوى المدنية يتمخَّض عن جماعات ضغط وعن رأي عام حميدين أو سيئين، متأصلين أو عارضين.. وحق (الرأي العام) الملاطفة والتطمين، أما جماعة الضغط فشيء آخر.. ولكل ظاهرة آليات مواجهتها وتفكيكها.. وحين يفرز المجتمع مثل هذا النوع من الجماعات، ثم تجرؤ على تهييج (الرأي العام) تكون المواجهة أكثر تعقيداً.. وبلادنا والحمد لله لم تبلغ فيها جماعات الضغط ولا معارضة الرأي العام حد الظاهرة، وما يبدو من تساؤل أو تحفظ إن هو إلا ظاهرة طبيعية.. والموقف المتحفظ أو المتردد من المستجدات ليس حكراً على السياحة، فكل قطاع يشكو التساؤل والتأويل المخالف، وما نقوله عن السياحة إن هو إلا من باب ضرب الأمثال. ولما كانت الدولة تتجه صوب المأسسة، ولما كانت كل مؤسسة قادرة على ممارسة مهماتها وفق مقتضيات المصلحة العامة، فإن عليها معالجة قضاياها بالحلم والأناة، والذين يظنون أن حياتهم العملية ستمر كما السمن على العسل يجهلون سنّة الله في خلقه، وهي سنّة الاختلاف (ولهذا خلقهم).. فالاختلاف والصراع إكسير الحياة، ولا حياة بدون اختلاف، بل لا لذة ولا قيمة للحياة بدون صراع إيجابي. المهم ألا تصل طوائف الأمة وأطيافها إلى حد الصدام المؤدي إلى الفرقة والتّربص.. والمتابع للتاريخ الاجتماعي، وبخاصة ما تمَّ رصده عن (الرأي العام) يقف على محطات متوترة، ولقد وقفت على دراسات اجتماعية عن أحوال العامة ومواقفهم في العصور الذهبية لصدر الإسلام، وبالذات في الحواضر الإسلامية ك(بغداد) و(القاهرة) في العصر العباسي والفاطمي، فوجدت ما يُضحك ويُبكي في آن، وكم عنَّ لي أن أرصد تململ الرأي العام في التاريخ الحديث وأثره على مشاريع الدول ومبادراتها، وتراجع بعضها في بعض الأحوال أو تعديلها لبعض المبادرات.. والهدف من ذلك تسليط الضوء على أساليب المعالجة الحكيمة للمعارضات الإيجابية، وإثبات أن للرأي العام كلمته التي قد تعلو على كلمة السلطة الشرعية، وذلك مؤشر على أهلية (الفكر السياسي الإسلامي) وقدرته على مواجهة النوازل ومسايرة النظم السياسية الحديثة.. و(الرأي العام) عرف بمفهومه الحديث مع (الثورة الفرنسية)، لكنه بوصفه ظاهرة من ظواهر التجمع الإنساني يرجع إلى عهود تاريخية سحيقة، ولقد تمَّت رعاية مشاعره في الإسلام، بل روعي على يد رسول الرحمة. أحسب أن هذه التداعيات شطت بي عن صلب الموضوع، وهي وإن كانت تداعيات مرتبطة بالحدث والحديث إلا أنها مأخوذة بالاستطرادات (الجاحظية) المحببة إلى نفسي، وعوداً إلى متن الحديث، أقول: إن الناس في كل مكان يشكون من السياحة، بل أكاد أجزم أن سوادهم الأعظم لم يفهمها على وجهها. ومصطلح (السياحة) كأي مصطلح حديث تتشعب به المفاهيم، حتى لا يكون جامعاً مانعاً.. وهو في (النص التشريعي) يعني الصيام وجذره اللغوي: الذهاب في الأرض، وهو كافٍ لتحمل المتعلقات الحديثة، وللغويين تأويلات بعيدة المناط حول ذلك.. والشايع في كتاباتنا الإصلاحية جعل المؤسسة والمسؤولين فيها المصدر والمورد، فهم وحدهم المقصرون والمسؤولون، وما من كاتب عدت عينه إلى الواقع وما يعج به من عواتق، فالمقدمات الخاطئة تؤدي في النهاية إلى نتائج خاطئة. نعم هناك تقصير من المؤسسات ومن المسؤولين القائمين عليها، فهم في النهاية بشر عاملون، والعصمة للرسل وحدهم، لكن دعونا نتجاوز المسؤولين، ولو إلى حين، لنوقظ واقعنا المخدر بالتزكية والمثالية والادعاء العريض، ونقف به على تقصيره أو تثبيطه، والوقوف الشحيح معه سيكشف عن أكثر العقبات تعقيداً. ومن نماذج المعوقات: تفاوت الآراء حول مشروعية (الترويح) بوصفه من أهم مفردات السياحة.. وللتذكير فقد تناولت هذا الموضوع وتأزمه بين الإفراط والتفريط في محاضرة سلفت، مع أنه ضرورة خارج إطار السياحة، ولا سيما بعد الغزو المحموم عبر القنوات والمواقع وثورة الاتصالات، وسوف تأخذ المحاضرة طريقها إلى النشر بعد تنقيحها.. ومجمل القول: إننا لسنا مع الانفتاح المخل بالحشمة، ولا مع الورع المفوّت للزينة واللهو البريء الذي يعجب الأنصار. ولست أشك أن من المعوقات - وهي في نظري من المسلمات - ضعف التأهيل: الطبيعي والبشري، ونقص الاستعداد للتوفر على أجواء سياحية مغرية، وبخاصة في العنصر البشري، وإذ لا نفكر في تهيئة الكوادر البشرية في المنظور القريب فإن علينا أن نبادر في إنجاز ما يمكن إنجازه من الخدمات الأخرى، فالمساكن والمتنزهات والخدمات والمواصلات والأسعار والتسهيلات والعلاقات دون المستوى المطلوب، وإذ يكون لدينا ثلاث مناطق سياحية مهمة فإنها متفاوتة في الإمكانات: الطبيعية والصناعية. ف(أبها) تقدم قومها في الأجواء والدعاية وشيء من الاستعداد، وإن لم تزل دون المؤمل، أما ما سواها فمشيها وئيد، وقد يوصف بالتوقف.. ولأن البلاد تعتمد على الاستيراد والعمالة، فإن عوائد السياحة مدخولة، لكن النظر فيما تستنزفه السياحة الخارجية من المواطن مدعاة للتحرف السليم، وبين هذا وذاك ترتفع نبرة الاختلاف حول الضرورة والترف السياحي. وما تمارسه بعض المناطق من إعداد مكثف للبرامج الترويحية، يمتلك جذب المواطن، ولا يغري السائح الغريب، وهو عمل صاخب لا يتم إلا بالإنفاق الباذخ والجهد الجهيد، وليس هناك توازن بين الإنفاق والعائد، وليس في مجمله تأصيل للسياحة، وإذ أكون سائحاً بطبعي، ومنوعاً للسياحة في الزمان والمكان والراحلة والرفقة فقد خبرتها حتى لكأني (بنو لهب) أو (حذام). وفي كل عام أحاول نفض وضر العمل ومعاناة الرتابة بالفرار إلى منتجع سياحي داخلي أو خارجي، وقد أجمع بين الشتيتين، متى اختلفت آراء العائلة، فتكون الرحلة داخلية خاطفة، أنفذ بعدها بجلدي إلى رحلة خارجية، ولقد كانت رحلة العام المنصرم في منتجع (بلودان) أكثر إيجابية ومتعة، ومن فوائدها التّفرغ لقراءة فكر (عبد الله القصيمي) والخروج بملاحظات خاطفة تمثَّلت بمقالات (تداعيات قراءة دمشقية).. ولقد هممت أن أعيد الكرة في مصر، فاختار مفكراً مثيراً مثل (العشماوي) أو (فودة) أو (أبو زيد) لكن (القاهرة) و(الإسكندرية) كانتا محطة عبور إلى منتجع (مارينا) قرب (العلمين)، ولقد وجدت مكتبات صغيرة منتشرة في المنتجع الممتد على طول عشرة أكيال أو تزيد على الساحل الجميل بزرقة مائه، وصفاء هوائه، وخفة سكانه، وتقارب مدنه السياحية ومنتجعاته. ومنتجع (مارينا) الذي أنفقت فيه الشركات المحلية والعالمية المليارات من الدولارات، حتى فاق نظائره، ك(درة العروس) ينقصه الشيء الكثير، وينقص نزيله الشيء الأكثر، وهو منتجع ممتد عامر بالقصور والبحيرات الصناعية والأسواق والمطاعم والملاعب، وسوحه وأسواقه وبحيراته وشواطئه أشبه بملاعب الجِنَّة في (شعب بوَّان)، والمنصرف إليه والمنصرف منه كما وقع السهام ونزعهن أليم. وإشكالية السياحة الخارجية أنها محكومة بما لا يقبل به كل سائح من صخب سخيف يعده ذووه من الفن الرفيع، وما هو إلا العبث الوضيع، ومن تبرج وقح من فتيات عربيات وأعجميات كاسيات عاريات يعدونه من المدنية والتّحضر وحرية الممارسة الشخصية، وما هو إلا عين العهر والتفسخ.. والجميل في ذلك المنتجع الحديث أنه يتداخل مع مدينة (العلمين)، وهذه المدينة الصغيرة تتمطى على صفحات التاريخ الحديث، يعرفها كل من له أدنى إلمام بأحداث الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1942م تقدمت القوات الألمانية من (طبرق) ب(ليبيا) حتى مدينة (العلمين) في زحفها المدنس نحو الإسكندرية، وبعد عام من الزحف المشؤوم هزمت القوات البريطانية الألمان في معركتين رئيستين، عند تلك المدينة الصحراوية، ومنعت الألمان من غزو مصر.. ولقد ظلت المدينة الصغيرة الصحراوية البدوية تحتفظ بأشياء كثيرة، ولم يلحقها بالمدينة إلا ما اكتشف فيها من (بترول) ومن ذلك السيل الجرار من السياح العرب والغربيين الذين يقرؤون على صفحات الصحراء جنون الحرب وعنفوان التسلط، لقد أكلت الصحراء آلاف الجنود الغربيين وطمرتهم تحت سوافيها، ولم تزل صحراء العلمين تحدث الناس عن جنون الإنسان وتسلطه. مررت بهذه المدينة الصغيرة، ووقفت حول مواقعها التاريخية (وقوف شحيح ضاع في التراب خاتمه)، وتأملت أحياءها وأسواقها ومنعطفاتها، وعدت بالذاكرة إلى تلك الساعات العصيبة التي عاشتها تحت سنابك الخيل ومجنزرات الراجمات والدبابات وعجلات المدافع وآلاف المجندين من ألمان متغطرسين وبريطانيين ماكرين، وما حقق المعتدون من تلاحم جيوشهم إلا الخسار والبوار. وتأكد لي أن الآيات والنذر لا تغني عن قوم لا يؤمنون، فالمتغطرسون يعيدون الحرب جذعة، وشبابهم تزهق أنفسهم بعيداً عن ديارهم.. وقراءة المواجهات الشرسة في (العلمين) بين الألمان والبريطانيين ليست بأسوأ حال مما يجري في بقاع كثيرة من العالم: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا وما هو عنها بالحديث المرجم لقد جنت الحروب على موقديها وعلى وقودها من الناس والأشياء ويلات وعذابات، وستترك آثاراً سيئة على المدى الطويل، وكل من خرج خاسراً لا يفكر بالخسارة، وإنما يخطط لجولة أكثر خسارة، ويكفي شاهداً عدلاً على ويلات الحروب ما نشاهده في (عراقنا) الجريح، الذي يفقد ذاكرته وعروبته ووحدته، وليس بمقدور أحد أن يعيد له بعض ما فقد.. وستظل السياحة مشروع تساؤل ومضمار لزز لكل من أنفق فيها جهده وماله ووقته، ثم لم يعد بموعظة أو بمعلومة، ولما كانت السياحة سفراً فإنها تسفر عن وجوه الرجال وعما هم عليه من أخلاقيات. |
كتبة تحت الطلب..!
د. حسن بن فهد الهويمل في إحدى العواصم العربية، ونحن على مشارف النهاية من مؤتمر ثقافي تختلط فيه السياحة بالمهمة، أو تأتي في أعقابه لتمسح أتعابه، عنَّ لي أنا ورفيقي الذي سبقني بالسفر، وسيتخلّف عني بالعودة أن نقلب أوضاعنا المألوفة رأساً على عقب، فالسائح في أخريات أيامه يشغله ترتيب متطلّبات العودة، وتؤلمه مخاضات المغادرة، وتربكه مشاكل تصفية الحسابات مع المتعاملين، وتطييب خاطر المرافقين. وفيما سبق من زيارات عمل وسياحة امتدت على مدى ثلاثين سنة، أُتيحت لنا فرص ذرعنا فيها كلّ الطرق، ومشطنا كلّ الزوايا، وزرنا كلّ المتاحف والمكتبات والآثار، ولم تخف علينا خافية لها مساس بالسياحة، الأمر الذي حفزنا على استدعاء السائق، وسؤاله عما لم تطأه قدم سائح، وأمام هذه المفاجأة تلبث ملياً، يحك صدغه، ويجيل نظره، ويقضم أظافره. وبعد تردُّد وجل، قال: تلك مفاجأة لم أفكر فيها من قبل، وتضاحكنا من ارتباكه، وقلنا له: دعها مفاجأة من عندك، ونحن طوع بنانك. خرجنا من عامر المدينة، والتوت بنا أزقّة ترابية مليئة بالحيوانات الأليفة والأطفال المتربيين، وفجأة وقف بنا على مشارف طريق ترابي ضيق، لا تعبره إلاّ الدواب والكلاب، وما ان طلب منا الترجُّل، انتابنا الخوف، فالطريق خال معتم وفيه التواء ووحشة، والمباني تكاد تتعانق في السماء، لتزيد من الوحشة. لقد أحسسنا أنّنا دخلنا في دوامة الإرهاب أو ترويج الممنوعات، ونظرنا إلى بعضنا بارتياب، وفكرنا في أمر السائق، ربما يكون من أصحاب السوابق، لكنّنا نعرفه من قبل، كان أسبقنا إلى الصلاة، وكان أميناً، لم نعهد عليه خيانة قط. ولما اثَّاقلنا إلى المقعد الخلفي، ألحّ بالنزول، فلم نجد بداً من حزم أمرنا، والتوكُّل على الله، وتفويض أمرنا إليه، خرجنا من السيارة في خوف وترقُّب، وأحسسنا أنّ التعثُّر يعتري أقدامنا وألسنتنا، وقلنا بصوت متلعثم: - إلى أين يا عوضين؟ - إلى مكان لم تطأه قدم سائح. - وهل فكرت وقدّرت، نحن نخاف على سمعتنا، وعلى حياتنا، ولا نريد أن نُرى في مكان لا يليق بنا. - ما عليكما، فأنا أعرف من تكونان. ومشيناها خطى وئيدة، كأنّنا نحمل جندلاً أو حديداً، أو كأنّنا أسد (المتنبي) في وطئه للثرى، نحسب كلّ صيحة علينا، ونتنصّت تنصُّت المخبر. وفجأة هبّ لاستقبالنا أكثر من سمسار، كان في مقدمتهم رجل حليق الذقن، طويل الشارب، جاحظ العينين، حافي القدمين، حاسر الرأس، مهلهل الثياب، أسمر اللون، أغبر أشعث، نسل من باب ضيق. وقال: وبدون أيّ مقدمات: - فرح أم ترح؟ - قلنا بصوت مشترك: سل صاحبنا. - وانطلق السمسار إليه، وهو يردِّد: فرح أم مأتم. قال: لا هذا ولا ذاك. - إذاً ماذا تريدون. - مجرّد التعرُّف على (الوليَّات). وساعتها ضرب كفاً بكف، مفتعلاً الضحك الصاخب، وقال: الفرجة في السرادقات يا (باشوات)، هنا مجموعة من العجائز والأرامل والعوانس، ينتظرن من يحملهن إلى سرادقات التعازي، أو إلى مخيمات الأفراح بثمن بخس، يرد عنهن غوائل الجوع والفاقة. - قال السائق: نحن نريد أن نتعرَّف على هذه المهن، وأن نقابل بعض العجائز، وسوف نُكْرم الجميع. صاح السمسار بصوت يعرفه كلُّ من في الشارع إلاّ أنا وصاحبي، وهبّت العجائز والأرامل والعوانس من كهوفهن، كما الأسمال التي تعصف بها الرياح، وأشار بيده إلى من تجمّع منهن، فبدأ العويل والنحيب وشد الشعر، وتمزيق الملابس، وحثو التراب على الرؤوس. وكدنا نصدق أنّنا أمام كارثة لا تبقي ولا تذر، وما أن تألمت نفوسنا، وضاقت صدورنا، واغرورقت عيوننا، ضرب كفاً بكف، فانقلب النواح إلى ترنُّم، والعويل إلى غناء والنحيب إلى مكاء وتصدية ومواويل، والتلوِّي إلى تمايل، والارتعاش إلى زفن وهز أرداف، فانتابنا الابتهاج والسرور، ولم نتردّد في تكريم كلِّ من حضر. وعدنا، وقد أخذنا العجب من قدرة النسوة المحترفات على الخلط بين نوح الباكي، وترنُّم الشادي في لحظة واحدة، وكأنّهن (المعري) الذي لا يُجدي عنده هذا ولا ذاك في رثائيته الخالدة: غير مجد في ملّتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي وشبيه صوت النعيِّ إذا قيس بصوت البشير في كل ناد هذه الشريحة التي تحصل على قوتها من الفعل ونقيضه، تتحرّف لإتقان فنها والتأثير على جمهورها. وفي طريق العودة أخذنا بأطراف الحديث بيننا، وكان عن دهشتنا بهذا التلوُّن الحرباوي الذي لا يفصل بين متناقضاته الصارخة إلاّ لحظات. وفي غمرة الاندهاش التفت إليَّ صاحبي، وقال: ألا تظن أنّ مجتمعك الصحفي يشبه هذه الفئة من (النائحات) و(المترنِّمات)، قلت: كيف؟ قال: إنّكم أصداء للأجواء المحيطة بكم، يتحسس المتابعون من خلالكم اتجاه الريح وتقلُّبات الطقس، لا تفكرون إلاّ بالتدفُّق على أنهر الصحف نائحين أو مترنِّمين حسب الطلب، وما من رأي تتفوهون به إلاّ وهو على موعد مع النقض، تغزلون وتنقضون غزلكم بعد قوة أنكاثاً، وتبنون وتهدمون، وتركِّبون وتفككون، وترفضون أن تُسألوا عما تفعلون. لم أمتعض من هذا الاتهام، فليس هناك مجتمع ملائكي، كما أنّه لا يمكن أن يكون مجتمع الكتّاب مجتمعاً شيطانياً، لا يقول إلاّ العهر أو الكفر. والواقعيون غير المثالبين، فهم يروضون أنفسهم على اختلاط الأصوات وأنكرها، ويعرفون أنّ كلّ تجمُّع فئوي فيه علية وأراذل، وهل عاب مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن كانت فيه فئتا: اليهود والمنافقين؟. والواقعية المعتدلية لا تقبل تدهور المصداقية، ولكنها لا تمانع من المداراة والاتقاء وتقديم الصدقة بين يدي النجوى. ولكي نحسن الموقف، ونقر في المشاهد ما هو قائم، لا ما نشاء قيامه، نقر بأنّ المشاهد الإعلامية العربية تفيض بالكتّاب الذين لا يختلفون عن (النائحات) و(المترنِّمات)، وليست الإشكالية في وجود المتردية والنطيحة والموقوذة من الكتّاب، ولكنها في تشابه البقر على المتابعين والمتلقِّين، وعدم القدرة على التفريق بين أصحاب المواقف وأصحاب المصالح. فهل (أحمد بهاء الدين) بمثاليته وتوازنه مثل (محمد حسنين هيكل) بانتهازيته ومزايداته؟ وهل (جهاد الخازن) بمنطقيته ومعلوماتيته مثل (عبد الباري عطوان) بتسليعه للكلمة ولجاجته؟ وهل (مراد هوفمان) بمصداقيته وعفّة لسانه مثل (روجيه جارودي) بخلطه وارتزاقه بامكانياته، إنّ من الخطأ أن نجعل المسلّعين للألسنة والأقلام والأفكار كالكرام الكاتبين، ومن الخطأ أن نربط بين الضعف والخيانة، فالعملاء لا بد أن يكونوا مقتدرين على الإقناع والاستمالة، واللاعبون الكونيون يصنعون عملاءهم على عيونهم ويمهدون لشهرتهم واختراقهم للأجواء والأدمغة وبدوهم بمسوح الطهر والنقاء، ليخدعوا السذج والمغفلين. ولو أنّ نظّارة المشاهد الإعلامية ومن فيها يعرفون الصادق من الكاذب، لكان الأمر جد يسير، ولكن التمويه والتقنُّع يفوتان الفرص على الناصحين، وآلية الفرز غير قادرة على القول: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (سورة يس: 59)، والعقلاء المجربون لا يقطعون بنظافة المجتمع من متخللين بألسنتهم كما البقر، ولا يراهن على سلامة الأمة من المندسين الذين يتربَّصون بها الدوائر إلاّ الغر الذي لم يكتو بلهب اللعب، والمسلِّعون لإمكانياتهم المعرفية وقدراتهم البلاغية تعرف في وجوههم بؤس الشقاء وريبة الصدور، وكلّ مساوم على مثمّنات أمته يواجه، ولا يعالج، وموعظتنا لمن فيهم رسيس من المروءة لتدارك الأمر. ولو استحوذت علينا المثالية، وتحكّمت بنا الحدية، فحالت دون المصانعة والمداراة والاتقاء، لضرَّستنا الأنياب، ووطئتنا المناسم. وحين نضيق ذرعاً، بالتناقض في المواقف ومسايرة الأوضاع، وتقلُّبات الطقس، فإنّما نشير إلى كتبة لا يواجهون ضغوطاً، ولا يعيشون تحت وطأة التباس الأمور، وإنّما نقصد الذين يركبون رؤوسهم، ويسغفلون السذّج من الناس، ويقولون الشيء ونقيضه على مسمع ومرأى من المتابعين الراصدين، وهؤلاء المقترفون كمن بلوا بالقاذورات، ولم يستتروا، ومثل هؤلاء لا يحترمون مشاعر الناس، ولا يبالون بالمجاهرة، وكأنّهم ممن لم يستحوا، ومن لم يستح يصنع ما يشاء. والراصد لفيوض الإعلام العربي عبر صحفه وقنواته، يضيق ذرعاً، بمن يميلون مع السياسة العالمية حيث مالت، يناقضون أنفسهم، ولا يحتالون لتمويه كذبهم، فالسياسة في أبهى صورها، لا تعدو أن تكون (فن الممكن)، واللاعبون الجشعون لا ينظرون إلى الوثائق القولية عن اللعب السابقة من دراسات ومقالات وتصريحات وتحليلات ومعاهدات، والأغبياء المنفذون قد لا يعرفون قوانين اللعب، ولا يحسنون تهيئة النفوس لعكس الطريق، والذين يرقبون المشاهد في أمسها ويعونها في يومها ويستشرفون لمستقبلها، يفجؤون ويفجعون باختلاط المياه العذبة بالآسنة، وأكثر الناس تخدعهم اللعب، ويحسبون أنّ رهان الأقوياء هو نهاية التاريخ، ومن ثم لا يرفعون أقلامهم في سبيل تأهيلها، حتى إذا لعبت دورها، ورحلت لتحل محلها لعبة ثانية مناقضة قالوا عنها ما قالوه عن سالفتها، وهم بهذا يناقضون أنفسهم من حيث لا يشعرون. والمتابع للأحداث الجسام التي تمر بها الأمم يعرف كم هو الفرق بين خطاب ما قبل الحدث وخطاب ما بعده. ولعلّنا لا نجد حرجاً من استعادة الهدير الثوري، قبل نكسة حزيران، وخوار القوميين قبل الحروب العربية العربية، والرغاء الاستسلامي بعد اتفاقية (كامب ديفيد)، ولعلّنا نقفز لنرى ونسمع خطابات ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، وأثناء مقاومته في أفغانستان، وما بعد ذلك، وخطابات ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وما بعده. ودعك من الخطابات المرهصة والمشيِّعة لحروب الخليج الثلاث، وبعد الاستعراض السريع لهذه الخطابات والخطباء نتساءل: هل هناك تقارب بين الخطابات أم أنّ هناك تناقضاً صارخاً، لا يمكن تصوُّره ولا احتماله؟. وهل أحد يقدر على التبرير والتعذير، والتاريخ يحتفظ برموز الكذب والمبالغة وبراعة المراوغة؟ وأين المعذرون من (أحمد سعيد) و(الصحاف) و(هيكل) و(عطوان) وما هؤلاء نشزٌ في السياق ولا في الأنساق، والمؤلم ليس في التدافع على القول، ولكنه في توظيف القدرات المذهلة، لافتراء الكذب، كما يفعل (هيكل)، في هذه السن وفي ظل هذه الإمكانيات والتنفذ، ولقد هممت من قبل أن أنشر مقالاً في أعقاب صدور كتابه (خريف الغضب) تحت عنوان (من خريف الغضب إلى خريف السمعة) وحين وقعت على مستودته أسفت على تأجيله خوفاً من ردود الفعل. فما من متابع ل(هيكل) يشك في اقتداره وبراعته وجمال عرضه وغزارة معلوماته وكثرة أشياعه. وعندئذ هل (النائحات) اللاتي يحضُرن مأتماً ليمارسن البكاء والعويل، ثم ينتقلن في ذات اللحظة إلى سرادق احتفالي، ويمارسن الرقص والغناء، للحصول على البلغة وسد الرمق، كما الكتّاب المتقلِّبين بين لحظة وأخرى تكاثراً وجشعاً؟ أم الكتّاب الذين لا يمتلكون مواقف ولا يستبطنون (أيديولوجيات) كما (النائحات) و(المغنيات)؟ وحين نستلطف العجائز المرتزقات، فإنّه من الخطأ الفادح أن نستسيغ التذبذب الموقفي من كتّاب يعدون أنفسهم من قادة الفكر وحماة الثغور. وكلّ من تقلّب مع الطقس فهو نائح أو مترنِّم، ومن البلية أن يجد اللاعبون الكبار كتبة متطوعين، يريقون الأحبار ويبيعون ماء الوجه لشرعنة الاعتداء على حريات الشعوب والتدخُّل في شؤونها الخاصة وانتهاك سيادتها، ومن العار أن يعترض بعض الكتبة على إبداء مشاعر الاستياء من المقتولين بأفتك الأسلحة، وأن يحيل هذه المشاعر وهي أضعف الإيمان إلى وحشية المسلمين. (حبل الفجيعة ملتف على عنقي من ذا يعاتب مشنوقاً إذا اضطربا) وإذا كان اليمين المتطرف الأمريكي يقول بأنّ (إعصار كاترينا) عقوبة الخروج من (غزة)، فمن ذا الذي يلوم المقهورين في إبداء مشاعرهم العفوية، ثم لا يتردّد في تحميله على الخطاب الإسلامي ظلماً وعدواناً. وكتابات الحيص بيص تحال إلى حرية التفكير والتعبير، ويتطلّع هذا الصنف من الكتبة إلى أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وكيف يقرأ الراصدون والمتابعون ما يفيض به الإعلام العربي من نيل جارح لكلِّ ما هو إسلامي؟ لمجرد أنّ الغرب تحوّل من سلفيته وجهاديته أثناء حرب الأفغان إلى غسيل الأدمغة وشحن النقيض، ولم يتحرّج من وضع الإرهاب في سلة الإسلام، وفات الطيبين السذج أنّ الإسلام لافتة يعلقها على واجهته كلُّ من تحرّكت في أعماقه شهوة التسلُّط، ولأنّ الغرب القوي المتغطرس قد أحال كلّ تصرف مدان إلى الإسلام، فقد شايله البعض دون وعي، وأصبح الإسلام المصدر الوحيد للعمليات التي تنفّذ في أيّ مكان، وكأني بالحجر يكاد ينادي: أيها الغربي هذا مسلم ورائي تعال فاقتله، ومصيبة المسلم أنّه لا يملك كما اليهودي شجرة (الغرقد)، ليحتمي وراءها. أحسب أنّ هؤلاء الرجال الجوف، وتلك العجائز الخاويات يدخلون ضمن الأشباه والنظائر، ويختلفون في النوايا والمصائر، والأعمال بالنيات. بل أكاد أجزم بألاّ فرق بين كاتب (براقشي) يطلع كلّ يوم بموقف يحرض على أهله وعشيرته، وعجوز يحملها سمسار على ظهر عربته مع أخريات لإحياء مأتم أو عرس، وفي النهاية تموت العجائز، وتزهق أنفس الكتّاب، ثم يبعثون على نيّاتهم. |
درس في محو الأمية عن الحضارة الإسلامية..!
د. حسن بن فهد الهويمل قضيت نصف قرن ونيف في التعلم والتعليم على مقاعد الدراسة، وانخرطت في سلك التعليم، بعد حصولي على (الشهادة الابتدائية)، وكان من حولي يسمونني ب(الأستاذ الصغيِّر) وسط نخبة من كبار السن والعلم، أفدت منهم ما قيدت به نفسي، (ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا). والحاجة المادية إذ ذاك الجأتني إلى الجمع بين التعليم ليلاً ونهاراً، وإلى التعلم انْتساباً وانتظاماً، فكان أن مارست التدريس المسائي في (المدارس الليلية) لمحو الأمية بمكافأة زهيدة، وكان الدارسون يكبرون أبي سناً، ولما كان كرسي الطلب سحرياً - كما يقال - فلقد بُليت بمدرسة كمدرسة المشاغبين، يمارس أشقياؤها الهمز واللمز، كلما غفلت أو استدرت صوب (السبورة)، وكان المهذبون منهم يمتعضون، وقد يتفوهون بالاعتذار، كلما احمر وجهي، وأحرجني الموقف، ومنذ ذلك الحين أدركت أن الدور للعقل الرزين والعلم الغزير، وليس للسِّن واللَّسن، وأن التاريخ يعيد نفسه، ف(الرجل السبعيني) كما يحلو للساخرين إطلاقه عليَّ، لن يعدم المتخلقين بأخلاق المشاغبين من الأميين في همزهم ولمزهم، كما عرفت أن الأمية ماضية إلى يوم القيامة، وأنها ليست وقفاً على الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، فكل من (سَفِهَ نَفْسَهُ) البقرة 130: 2 وتقحم سوح ما يجهل أميّ يثير الشفقة والسخرية. و(أمية التخصص) ظاهرة مستفيضة، تؤكد ذلك، والعصر الذي فرض أدق التخصصات، وسَّع دائرة الأمية، وكم من حامل للأسفار. (كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول) والحياة المفتحة الأبواب على صنوف المعارف بحاجة إلى المثقف بمفهومه الأوسع، وهو: (من يعرف كل شيءٍ عن شيءٍ وشيئاً عن كل شيء)، إضافة إلى اتقان مهارة الوصول إلى المعلومة في أسرع وقت وأقل جهد مع دقة الملاحظة وقوة الحافظة، فثورة المعلومات والاتصالات والإعلام والمواقع والأقراص المدمجة والموسوعات والمعجمات وسهولة البحث والدخول على المواقع، قربت المعارف، وكشفت الأدعياء، وعرَّت الزيف، وفرقت بين المشِئين والمتضلعين، وبين النص الإنشائي المتسطح والنص المعرفي العميق. و(الثقافة) و(المثقف) مفهومان مشرَّعان على كل الاحتمالات، وإشكالية الأميين الذين لا يعرفون أميتهم أنهم يمارسون الجدل في القضايا الفكرية والسياسية والأدبية، وقد يتخطون ذلك، فيجرؤون على الفتياء الجازمة الصارمة في الدين والسياسة والفكر وسائر القضايا المصيرية، و(أجرؤ الناس على الفتيا أجرؤهم على النار)، وإذا أرشدت ضالهم، وسدَّدت مخطئهم، لم يكتفوا بالإصرار والاستكبار واستغشاء الثياب، وإنما يبيحون لأنفسهم الرتوع في عرضك المصون، مستدبرين القضايا مناط البحث، ومثل هذه الممارسات مؤشر جهل وإفلاس، فالقضايا هي مجال الاختلاف، ومن حق كل مقتدر أن يتعامل معها وفق رؤيته ومفهومه المحكومين بما لا تتحقق الحضارة إلا به، فحرية القول مقيدة بالرد إلى النص التشريعي القطعي الدلالة والثبوت، والثقافة المأخوذة على وجهها تسهم في فك اختناقات الأمية المجهولة، ولكنّ المترفين من القراء والكتَّاب لا يغالبون القراءة وفق نظرية (الاستقراء البيكوني) ولا يتمثلون القضايا على وجهها، والتسطح على الأشياء دأب المتسرعين والذوَّاقين، وتلك مصيبة المشاهد الثقافية. ومهما اختلفت الآراء حول القضايا الكبرى في الإسلام، كمفهوم الحضارة وعمقها وشمولها واحترام حملتها وحتمية الرد إلى نصها فإن هناك قاسماً مشتركاً يلتقي حوله الخصوم، وأدبيات الحوار والمناظرة لا يلقاها إلا ذو علم عميق، وعقل راجح، وتجربة واعية، والذين لا يفقهون ما أوتوا، ولا يتحلون بأدبيات الحوار يفرون من تلك القواسم المشتركة في محاولة مستميتة لحفظ ماء الوجه وتغطية الهزيمة النكراء، والعقلاء العالمون يستدرجون خصومهم المهتاجين العزل للتوغل في دوائر الضوء، كي يستجلوا اعترافاً لا إرادياً، يعريهم أمام الملأ، ويؤكد أنهم أميون فيما يخوضون فيه من معارف، ولا سيما أن قصة الحضارات السماوية والإنسانية مستوفاة وفي متناول اليد. وقول المقوين في (الحضارة الإسلامية) قول مكرور، يستعيره الضغث من الإبالة، والإشكالية ليست في مبتسرات المقوين على غير فهم ولا نظام، ولكنها في غياب الاستيعاب والفهم والتمثل، كما هي عند (ابن مسعود) رضي الله عنه، وفي عدم الخلوص من سلطة النص المبتسر إلى سلطة القراءة، حسب الرؤية (التفكيكية) عند (جاك دريدا)، وفي الافتقار إلى دقة الملاحظة، وذكاء الرصد، ونباهة التحري، كما هي عند (الجاحظ)، وضرورة الوصول بعد التقويض إلى ضرب الآراء بعضها ببعض، والخروج برؤى وتصورات مدعومة بالحجج والبراهين الأقوى، وآراء العلماء والمفكرين المتناقضة ثاوية في الموسوعات والدراسات المؤلفة والمترجمة، ودور المستدعي الحاذق سرعة الوصول، ودقة الانتقاء، وإتاحة التفاعل بين القول والقول المضاد، ورباطة الجأش عند اكتشاف الرأي ونقيضه، وتفادي الوقوع تحت هيمنة المتداول الغربي، كالقول ب(الكهنوتية) و(التنوير) فأمر (الدين) قائم على التجديد، وسؤال أهل الذكر لمن لم يعلم، والرد عند الاختلاف إلى الله والرسول، ولو عرف المتهمُون لعلماء الإسلام حقيقة (الكهنوتية) لكرموا علماءهم، ولو قرؤوا كتب الخلاف بين المذاهب وفي المذهب الواحد والفقه المقارن وحتمية الاجتهاد وندرة الإجماع لأكبروا الإسلام وعلماءه، وتداول القول الغربي دون وعي بمدلوله مؤشر أمية وادعاء. والفارغون المتنفذون في المشاهد والمواقع يجترون ببلاهة معتقة مهترئ القول الاستشراقي، ويعوِّلون على من يمرُّ بهم على مفتريات من سلف ومن خلف منهم، وإذا انتهبوا تهمة من أكاذيبهم، ادعوا أنها من عند أنفسهم، ليظفروا بردود الفعل التي تعرَّض لها المستشرقون، وحسبهم أن يبنوا لأنفسهم قلاعاً ورقية في بؤرة الضوء الزائف، وما دروا أن هذه البؤر تكشف عن ثقافة التسول والخنوع والتملق، والغرب يستميت في نفي (الغزو) و(التآمر)، ويدعي أن تشكيكه في اليقينيات الكبرى لإنقاذ المسلمين من خرافة الدين، وأن اختراقاته لأجواء الفكر والسيادة من أجل توفير (الحرية) و(الديموقراطية) و(المدنية) و(التحضر)، وإذا كان بالأمس يجند رجالاته من رحّالة ومبشرين ومستشرقين لتسريب هذه المفتريات التي لا تخدع إلا الأمي أو المبهور المواطئ فإنه اليوم يجد من المغلوبين من ينهض بإشاعة حسن المقاصد، ويستبعد ظاهرة (الغزو) و(التآمر) ويرى أن إشاعتها للتبرير والتعذير والإسقاط وتزكية النفس، ويصف أهل الذكر ب(الكهنوت) ويستعير آلية (التنوير) لمواجهة الحاكمية والهيمنة الإسلامية، والغرب فتح شهية (الغزو) و(التآمر) في العصر الحديث باتفاقية (سايكس بيكو) تلك المعاهدة السرية الماكرة بين دولتين دائلتين (بريطانيا) و(فرنسا) بشأن تقسيم الولايات (العثمانية)، وهو اسم مركب من ممثلي الدولتين (مارك سايكس) البريطاني و(جورج بيكو) الفرنسي، تم ذلك عام 1916م، ولم يفتضح أمر المؤامرة إلا عام 1917م على يد القوات الألمانية، وقد تسربت الاتفاقية وبنودها الاثني عشر من روسيا القيصرية بعد الثورة. ومضامين الاتفاقية وبنودها تجعل الأمة العربية قطيعاً مطيعاً، تتوفر له أجواء الحظائر لا ميادين اللزز والتنافس الشريف، وهو إذ فتح شهية الغزو والتآمر بما سلف، فقد أشبعها بمنظماته وصناديقه وهيئاته وعملائه ولعبه الكونية وحصاره ومقاطعته، ومن هذه الأجواء نسل اتباع الحضارة الغربية والذابون عن عواجيزها، وتنفسوا في أجواء القبضة المحكمة والضغط المرهق المدعوم بالغزو والاحتلال والاستيطان والقواعد، ظناً أن جحافل التغريب ستمضي قدماً من دول لأخرى، لتمنحهم الحرية المزعومة (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)، وما علموا أن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن تجربة الغزو العسكري الماثل للعيان والضربات الاستباقية المهلكة للحرث والنسل، يحرض عليها اليمين المتطرف، ليبقي على التفوق (الإسرائيلي) وها هو (كولن باول) يكشف بعض الحقيقة في قضية غزو (العراق)، ومقولته تمثل صحوة الضمير المتأخرة، وهل ينفع العراق كلمة اعتراف، ودون الذي يؤمّله فراغ دستوري، وقتل همجي، وطمس للتاريخ، وتمزيق للوحدة. وإذا لم يكن هناك (غزو) ولا (تآمر) فمن الذي بارك الدعوة إلى (الفينيقية) و(الفرعونية) و(البربرية) وأزهق أرواح مليون شهيد في (الجزائر)؟ ومن الذي ركل قبر (صلاح الدين) قائلا: - ها نحن عدنا يا صلاح؟ ومَن الذي أرهص للدعوة إلى (العامية) واستبدال (الحروف اللاتينية) ب(الحروف العربية)؟ ومَن الذي أقبل بجيوشه المدججة بالسلاح ليحتل أقوى دولة عربية؟ ومَن الذي ضرب المفاعلات أو منعها؟ ومَن الذي أجهض التجارب (الديموقراطية) في بعض الدول الإسلامية؟ ومَن الذي شوه الحضارة الإسلامية عبر (أفلام هوليود) و(مواقع الإنترنت)؟ ومَن الذي طارد العلماء العرب؟ وأين منكرو الغزو من (الحروب الصليبية) وحملة (نابليون)، وأمواج المبشرين، وحملات المستشرقين على القرآن والحديث والفقه والتاريخ الإسلامي وسائر المنجزات الحضارية للإسلام، مما تفيض به كتب المستشرقين؟ وأين هم ممن يتبنى المذاهب الهدامة، وينفق عليها، ويعلي من شأنها؟ وأين هم ممن يعزز الطائفية و(الإثنية) و(القومية)؟ وأين هم مما استفاض عن (الطابور الخامس) وسائر المنتديات التي يتبناها المناديب وكبار موظفي السفارات؟ سيقول المخذِّلون: يدُ الأمة أوكت وفوها نفخ، ونقول ما قال (مالك بن نبى): تلك القابلية للاستعمار، والمخذِّلون مثل السوء لهذه القابلية. والذين جندوا أنفسهم لتسويق الآراء الاستشراقية ما عرفوا أن ما يسوقونه بضاعة ليست من عند أنفسهم، إذ هي بضاعة الاستشراق التي استهلكت نفسها، ولم تعد مجدية يوم أن كانت تدار بأيدٍ قوية مدعومة في أوج جدتها وحدتها، فكيف يكون أثرها اليوم بعدما افتضح أمرها، وتلقاها بالشمال المشكولة جهلة مجندون، وصدق الله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). والذين يسخرون من تداول مصطلح (الغزو) و(التآمر) يعمقون السخرية بطلب ممارسته من (الشرق) المستضعف في (الغرب) المتغطرس. وكيف يتأتى (الغزو) و(التآمر) من أمة يخذلها أبناؤها العققة الذين غرسهم الغزاة ليجسدوا (الطابور الخامس)؟. والآخذون بعصم الاستشراق تدركهم أزماته، ويقعد بهم اجتراره، فالأولون الهالكون منهم لم يغادروا من متردم، فقد استوعبوا كل المتشابه في كل مفردات الثقافة الإسلامية، ونفذوا من كل الثنيات، وشككوا في عالم الغيب والشهادة، وطالت أذيتهم كل المعارف، ولم يتلقهم علماء الأمة وحماة الحضارة الإسلامية بثقافة الانبطاح، وإنما نفذوا إليهم بالحجج الدامغة والحقائق الملجمة، ومن جاء بعدهم من المتذيلين، لم يجدوا ما يقولونه لمن خلفهم من الأشياع والأتباع إلا اجترار مقولات مهترئة من الترديد. وأزمة الاستشراق الحديث ظاهرة للعيان، وهي حقائق لا مجال لإنكارها، وقد استوفاها المهتمون بالشأن الاستشراقي، والذين يستفزون قومهم بساقط الرأي، لا يعلمون بهذه الإخفاقات الاستشراقية، وهم فيما بين أيديهم كما أهل الكهفَ ووَرقِهم، وكنت أود من عقلائهم الأخذ على أيديهم واقتيادهم طوعاً أوكرهاً إلى مقاعد محو الأمية للحصول على مبادئ الجدل المعرفي، ومثلما أن الاستشراق بوصفه ظاهرة جدلية متذيل للاستعمار، ومشتغل في شأنه، فإن المتهافتين على مقولاته متذيلون للاستشراق المتذيل، وهذه المذلة تذكرنا بمقولة الشاعر: (ولو أن عبد الله مولى هجوته ولكن عبد الله مولى مواليا) ونحن هنا لا نمارس التنابز بالألقاب، ومعاذ الله أن نتهم شخصاً بعينه وإن قال كلمة الاتهام، ولكننا نقتدي بالبر الرحيم في تنبيهه: (مالي أرى قوماً يفعلون كذا)، ونحاول باللمحة وضع المتذيلين أمام أنفسهم عسى أن يرعووا، ويستعملوا ما وهبهم الله في طاعته، والذب عن بيضة الإسلام، والمستشرقون المعاصرون الذين يتخذهم المتذيلون مناطاً لتشبعهم مصابون بداء الضعف المعرفي واللغوي والفكري في مقابل الصحوة والتطور المعرفي وسقوط (الايديولوجيات) الخادعة، ك(الماركسية) و(الداروينية) و(الوجودية). والحضارة الإسلامية التي توصف بالتخلف والمحدودية، وتؤخذ بضعف المسلمين وتفككهم، ويعاد ترميم آلية الضربات الاستشراقية للإجهاز عليها، هذه الحضارة المحاصرة قابلة للمنازلة الشريفة والتحدي الواثق، والصمود المفحم، ومصدر بقائها تعهد الله بحفظها، واتساعها لكل ما يتطلبه إنسان العصر من صناعات واكتشافات وإعداد للقوة، والإسلام لا يشكل عقبة في طريق أي حقل معرفي، ويكفي قول الرسول: (أنتم أدرى بأمور دنياكم)، وما نشاهده من تخلف مادي مرده إلى سنة التداول والتدافع، ومع ذلك كله فإن (الحضارة الإسلامية) تمثل البنية التحتية للحضارة المهيمنة، وهي المستوعب الأقوى لما سلف من حضارات (يونانية) و(رومانية) و(آرية)، والشاهد الذي رأى كل حاجة، وألم بقصة الحضارة الإنسانية (ول ديورانت) يقول: (فإذا درسنا الشرق الأدنى وعظمنا شأنه فإنّا بذلك نعترف بما علينا من دين لما شادوا بحق صرح الحضارة الأوروبية والأمريكية وهو دين كان يجب أن يُؤدى من زمن بعيد). وقوله هذا يحيل إلى حضارات الشرق الأدنى التي سبقت الإسلام، ونفذت إلى حضارة الغرب عبر مشاهد الحضارة الإسلامية، فهي الناقل المتفاعل، وليس الوسيط المؤدي فقط كما يحلو لبعض المستشرقين. والحضارة الإسلامية استثمرت كافة المناهج والمبادئ وسائر المعارف التي نقلت بالترجمة أو بدخول الناس في دين الله أفواجاً يوم أن جاء نصر الله والفتح، واستوعبت الحضارة (السومرية) و(الفرعونية) و(البابلية) و(الآشورية) و(الفارسية) وتمثّل طائفةٌ من علماء الإسلام ما أبقته عوادي الزمن من مناهج وآليات، وما قامت النحل والملل، وما تفاوتت الفرق حول المنقول والمعقول إلا بسبب اتساع الإسلام لكل فيوض الحضارات، والعالم الإسلامي اليوم يشاطر الغرب في بناء الحضارة الإنسانية، فالعلماء والمفكرون الإسلاميون تتخطفهم حواضر العالم الغربي، والدول الإسلامية لم تتأب عن قبول منجزات الحضارة العلمية، وكيف يتحقق التمنع وهي المستهلك الأقوى لمنجز الحضارة الغربية؟ والغرب يعرف المارد، ولهذا يثقل عليه القيود، ولا يصدر إلا المنجز للاستهلاك، أما الشفرات والأنظمة والطرائق فحرام عليه، والإسلام حين يرفض السلوكيات الموبوءة يحال هذا الرفض المشروع إلى رفض منجز الحضارة المادي، وهذا محض افتراء، وإذا اختلف علماء الكلام والفقه مع نظرائهم في المنطق والفلسفة فإن هذا الحراك مؤشر استيعاب وشمول وتفاعل، يحسب للحضارة الناقلة، وإن كان ثمة مزيدٌ من الارتكاس فإنه سيكون على يد من وصفهم (عبدالوهاب المسيري) بقوله: (نعيش حالة تخلف ثقافي شامل، ومثقفونا يعيشون على نفايات الثقافة الغربية) اليمامة 6-8-1426هـ ولمكافحة الأمية أوجه بقراءة كتابين (قالوا عن الإسلام) لعماد الدين خليل، و(الإسلام في عيون غربية) لمحمد عمارة كبداية لفتح الشهية وتجاوز الأمية. |
تداعيات اليوم الوطني..!
د. حسن بن فهد الهويمل كلما ذكرنا (اليوم الوطني) تذكرنا: الزمان والمكان والإنسان واستذكرنا الظروف العصيبة التي أنجز فيها المؤسس ورجالُه هذا الكيان الكبير. وكل التداعيات تتجسد بشخص الملك (عبد العزيز) رحمه الله. والمتحدثون عنه من خلال هذه المناسبة، ينظرون إليه من زوايا متعددة، وستمضي المناسبة، وتمضي معها الأحاديث الطوال، وتبقى في شخصية الملك عبد العزيز مجالاتٌ رحبة للإشادة والدراسة. في طفولتي المبكرة سمعت الناس يتهامسون فيما بينهم عن وفاة الملك (عبدالعزيز)، وكلما أقبلت على أبويَّ لزما الصمت، أو صرفا الحديث إلى شأن آخر، لرهبة الحدث، والخوف من عقابيله. كان الناس كلهم في وجوم وترقب، ولقد كنت يوم ذاك مع لداتي نلعب حول (جامع بريدة)، والإمام يخطب مؤبناً ومتفجعاً، وبعد الفراغ من الصلاة التي لم نشهدها، سمعت المؤذن ينادي لصلاة الغائب على فقيد الأمة، لم يكن الحدث ملفتاً للنظر بالنسبة لنا كأطفال، ولهذا مضينا في لعبنا، وكل همنا التنقيب في ساحات الدكاكين الترابية عن شيء نمضغه أو نلعب به. وقبل هذا التاريخ، وأثناء زيارة (الملك عبد العزيز) الأخيرة للقصيم، قبل ستين عاماً، كنت مع أمي مختبئاً في عباءتها بين مئات النسوة اللاتي خرجن من خدورهن، ينظرن من تل رملي مطل على احتفالية (أهالي بريدة) بمقدم جلالته، كما خرجت عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتنظر إلى الأحباش، وهم يزفنون في المسجد. كان من أبرز مظاهر الاحتفاء العرضةُ السعودية، وما يصاحبها من زخات الطلقات النارية. ولما انتابني الخوف من اشتعال السماء بالنار، أسرعت بي أمي إلى البيت غاضبة من فوات المشاهد الممتعة. لما تزل تلك الصورة ماثلة أمامي، ولما يزل موقع العرضة والاحتفال، وكأنه إلى الآن يفيض بالرجال والنساء، لقد كان في تقاطع (طريق الملك عبد العزيز) مع (طريق الملك فيصل)، وكان (الملك عبد العزيز) بطلعته البهية يزجي الصفوف تحت عَلَم التوحيد بلونه التفاؤلي، ويشارك المحتفين الغناء والرقص الرجولي. وتمضي الأيام سراعاً، ويشُبُّ الطفل عن الطوق، وتسوقه المقادير، ليكون دارساً، ومدرساً، وأستاذاً جامعياً، ومؤلفاً، ومشرفاً، ومناقشاً، ومحكماً في متعلقات أدب الجزيرة وتاريخه المرتبط ارتباطاً وثيقاً ب(الملك عبد العزيز)، ويتحول (الملك عبد العزيز) من حاكم عربي مسلم إلى مادة تاريخية، تتقاطع مع كل الأشياء، وهكذا العظماء، يشغلون المشاهد: أحياءً وأمواتاً، وإذ لم تمر بي هذه الشخصية الفذة في حياتها إلا مرتين: مرة في الاحتفاء الذي أرهبني، ومرة في الوفاة التي لم ترعني. ولكنها أثارت فضولي وتساؤلي: من يكون هذا الشخص الذي جمَّد الحركة، وغير الأوضاع، وهزَّ النفوس، وأسال الدموع؟ لقد قرأت الكثير عن هذا الإنسان الفذ في كتب المؤرخين والرحالة والمستشرقين الأنصار منهم والخصوم، وسأظل أقرأ، وسيظل التدفق المعرفي عن بطولاته بازدياد، وكلما فرغت من قراءة تطوعية، أو رسمية، أحسست أن الشخص يكبر في عيني، وأحسست أنني أطلب المزيد. بالأمس دخلت مكتبتي، ووقفت أتأمل ما يخص الجزيرة العربية وتاريخها وآدابها ورجالاتها من كتب في التاريخ والأدب والسياسة، ووجدت ان الذين موْضَعوا (الملك عبد العزيز)، أخذتهم شخصيته، وبهرتهم عبقريته، وبخاصة أنه لم يتلق علم السياسة في الجامعات، وإنما حذق ذلك كله من دقة الملاحظة، وطول التجربة، ورجاحة العقل. والحياة مدرسة العباقرة والموهوبين، فكان أن اتفق الأنصار والخصوم على أنه شخصيةٌ استثنائيةٌ. كان فارساً ومتفرِّساً، وحليماً حكيماً. قوياً بغير عنف. وليناً بغير ضعف. يلبس لكل حدث لبوسه، فلا يضع السيف في موضع الكرم، ولا يضع الكرم في موضع السيف، قوياً في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، يمنح الثقة لرجاله بقدر ما يمنح الفرصة لخصومه، فإذا بالفئتين تستويان بالوفاء له والإعجاب به. كان شخصية جذابة مهيبة. يفد إليه كبار الساسة والمفكرين بمهمات مصيرية، وكل رهانهم أن يستحوذوا عليه، وأن يجعلوه غنيمة لدولهم، فإذا تراء الجمعان، أصبحوا هم الغنيمة الطائعة. يَصْدُق معهم، ويضعُهم أمام ضمائرهم، ويناشدُهم المصداقية، ويسبقهم إلى مكارم الأخلاق، فيكون لهم قدوة. لقد عرفت الملك عبد العزيز في الواقع، لأن كل ما نحن فيه، وما نعيشه ونعايشه ثمرةٌ من ثمرات جهده. وعرفته عبر الكتب، فكان أن تمكن ذاتاً ومعلومة، وسيظل ملء السمع والبصر. عندما أعددت رسالتي للماجستير (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد) كان تاريخ (الملك عبد العزيز) واهتمامُه بالأدب مادة خصبة لهذه الأطروحة، فانجذبت إليه، وانجذب معي المناقشون للرسالة، من أساتذة كلية اللغة العربية ب(جامعة الأزهر). وعندما أعددت كتاب (بريدة حاضرة القصيم)، كان (الملك عبد العزيز) مادة الكتاب في البعد السياسي والتعليمي والاقتصادي، وسائر وجوه الحياة المتحضرة، هذا الحضور أثار كوامن الرغبة في مزيد من الاختراق لحيواته الحافلة بجلائل الأعمال. وعندما أعددت رسالتي للدكتوراه، عن الأدب العربي الحديث في (المملكة العربية السعودية)، كان تاريخ (الملك عبد العزيز) ومنجزاتُهُ مصدرَ الرسالة وموردَها. وعندما درست شعر الشاعر الكبير (محمد بن عبد الله بن عثيمين) في كتابي (سعوديات بن عثيمين) تبين لي من خلال ثلاث وعشرين قصيدة مدحَ بها الشاعرُ (الملك عبد العزيز)، أن هذه الشخصية ثرةُ العطاء، متعددةُ الجوانب والمواهب، وأنها ألهمت الشاعر عيون الشعر. وعندما اشتركت في تأليف كتاب (الملك عبد العزيز في عيون شعراء أم القرى)، والذي يقع في مجلدين، ويشتمل على كل ما قيل في (الملك عبدالعزيز) من شعر على مدى ثلاثين سنة، أحسست أنني أتهجى تلك الشخصية، وأنني لما أزل في أبجدياتها. كان مسلماً لا يساوم على إسلامه. وكان عربياً لا يزايد على عروبته. وكان مواطناً متفانياً في حب وطنه. أنجز وحدة إقليمية لم يسبق لها مثيل. قَدِم إلى نجد من منفاه في (الكويت) تتهاداه التنائف أطحل، واختار شهر رمضان لنقص المؤونة وخوف العيون، يسري ليلاً، ويختفي نهاراً، حتى إذا بلغ مشارق الرياض، نثر كنانته، فلم يجد فيها إلا قوتين:- - مشروعية مطلبه، فهو سليل ملك عريق. - وسمعة أسرته الطيبة المتمكنة من القلوب. فكان أن خفق بهذين الجناحين، على وهاد الجزيرة ونجادها. ولأنه مُصلحُ فسادٍ، وجامعُ شتاتٍ، وموحدُ كلمةٍ، فقد تحركت المصالح التعارضة في وجهه، الأمر الذي طال معه أمد (معركة التكوين)، لأكثر من ثلاثة عقود، وفي النهاية حقَّ الحقُّ وزهقَ الباطل، وأعلن (الملك عبد العزيز) وحدة البلاد، تحت مسمى (المملكة العربية السعودية) ليبدأ بعدها (معركة البناء) الحضاري. هذا اليوم الذي وضعت فيه الحرب أوزارها، وأُعلنت فيه الوحدةُ، يُسمى ب(اليوم الوطني)، وهو ما نعيشه اليوم، ونتحدث عنه، وننعم بخيراته. هذا الكيان بكل ما يعج به من تعليم، وصناعة، وزراعة، وإعمار، وثراء، وأمن، واستقرار، وتلاحم، معطى من معطيات هذا اليوم، ومنجز من منجزات (الملك عبد العزيز) الباهرة. فهل يا تُرى يستحق هذا اليوم مثل هذه الاحتفالية؟ لتذكُّر الأمجاد، وتَذْكِير الأبناء ببناة الحضارة، والوفاء للآباء والأجداد الذين التفوا حول قائدهم الفذ، ومنحوه الأنفس والأموال. إن من واجبنا التوجُّه إلى الله بالحمد والشكر، وترجمة الحب إلى عمل إيجابي، لخدمة هذا الوطن، وتحقيق الحياة الكريمة لإنسانه، وتفادي الهتافات والشعارات الجوفاء، فالمواطنة الحقة: صدقٌ وإخلاصٌ ونزاهةٌ وعملٌ مشرِّفٌ وحمايةٌ لمثمنات الوطن، والتفاف إيجابي حول القيادة يتمثل بالوفاء والمناصحة. أحسب أننا لن نكون أهلاً لما وهبنا الله إن لم نشكر المنعم المتفضل، وندعو للمؤسس بالرحمة والمغفرة، ولعقبه بالنصر والتمكين، إن دولة آمنة مطمئنة، تشق طريقها وسط الأعاصير بثقة واعتزاز لجديرة بالبحث عن لحظاتِ تشكُّلها، والتعرفِ على بُناتِها، وتعريفِ الناشئة بلحظات التكون ومسيرة البناء عبر هذه المناسبة السعيدة، وتحويل هذا اليوم إلى محطة تذكر واسترجاع وتقويم واستئناف جاد للأداء السليم، وبخاصة في تلك الظروف العصيبة التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية. ويقضي (الملك عبد العزيز) نحبه بعد إنجاز وامتياز، ويترجل عن سدة القيادة، ليتلقى الراية من بعده أبناؤه. ويقضي رجال (الملك عبد العزيز) نحبهم ليتلقى المسؤولية من بعدهم أبناؤهم، وتمضي المسؤولية مع من ينتظر، ولم يبدلْ تبديلاً. هذا الكيان أمانة في يد أبناء المؤسس، وأبناء رجاله، و(اليوم الوطني) الذي يمر بنا كل عام، جدير بأن يكون مشروع فعل رشيد وقول سديد، ومحاسبة للنفس، واستشرافاً للمستقبل، وما لم نراجع أنفسنا بثقة واطمئنان وشفافية تحول اليوم إلى ممارسة نمطية غير مجدية، حفظ الله البلاد وأهلها وسدد على طريق الحق قادتها، وردَّ كيد أعدائها إلى نحورهم إنه ولي ذلك والقادر عليه. |
الرأي العام بين الاختراق والانغلاق..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل كل ظاهرة جديدة في لفظها أو في وجودها، يتوسل المتلقي بالتساؤل عن مدلولها اللفظي ومفهومها المصطلحي، وعن أمدائها ومجالاتها ومشروعيتها، وأسئلة مثل: ما الرأي العام؟ وما آليات الاختراق؟ وما وسائل الانغلاق، أو ما يمكن تسميته بالحماية والحجب؟. أسئلة مشروعة ومحتملة، وقد تكون الإجابة عصية، ولكنها ضرورية، وقد يكتفي المتلقي بالمعهود الذهني وإن قل أو ضل. وأصعب شيء عنده فيما أرى تعريفُ المعرَّف. فالظواهر العصية التجلي على حقيقتها هي البدهيات، ك(الحب) و(السعادة) و(الشعر) و(الجمال)، وتلك أشياء نعيشها، ونعيش معها، ولكننا لا نستطيع تحرير مفاهيمها وتحديد معانيها بالقدر الكافي، وكما قيل عن (الفقر) و(المسكنة). و(الحمد) و(الشكر)، (والكرم) و(السخاء) إذا اجتمعا تفرقا، وإذا تفرقا اجتمعا. فالدلالة تتغير بالسياق أو بالمناسبة، بالعموم أو بالخصوص، بالمجاز أو بالحقيقة، بالوضع أو بالعرف والشيوع. ومن ثم لا يغني الأصل الدلالي عما سواه من معطيات دلالية أخرى. وللخلوص من دوامة المفاهيم، وهي غصص المشاهد ومتاهة المختصمين، نعود إلى جذر المصطلح اللغوي. ول(ابن فارس) رؤية في الأصل الواحد والأصول المتعددة في كتابه (معجم مقاييس اللغة). ف(الراء، والهمزة، والياء)، أصل يدل على النظر بالبصر والبصيرة، وفي محكم التنزيل {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. و(الرأي العام) ألصق بالبصيرة منه بالبصر، وقد تكون له فراسة تحمل على الفعل ورد الفعل، وفي الأثر الضعيف: - (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه يرى بنور الله). وكلمة (العام) تلغي التشيؤ المحدد بوصف، ومثلما اختلف الفقهاء حول مفهوم (الإجماع) فإن علماء الاجتماع والسياسة اختلفوا في مفهوم (العام). والرأي ما يراه الإنسان الفرد أو الأناسي عبر أي تجمع يوحد بينهم، ويتحدد على ضوئه تصرفهم. والتلقي يعقبه التفكير ثم التعبير بالصوت أو بالفعل. والتفكير فريضة إسلامية: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}{أَفَلَا يَعْقِلُونَ}{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}. وتلك استفهامات إنكارية، تحفز على التعقل والتفكر والتدبر والتفقه. وحين ندب الله إلى التفقه في الدين استعمل فعل النفور، وهو السرعة والمبادرة {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. ولقد عاب الذكر الحكيم القلوب التي لا تفقه، والعيون التي لا تبصر، والأذن التي لا تسمع، ونقم على اتباع الظن، وما تهوى الأنفس، واتخاذ الهوى إلاهاً. وكل هذه اللفتات معالجة استباقية لترشيد (الرأي العام) وهو معرض لكل هذه الأدوات. وأخطر ما تعانيه السلطة التجييش العاطفي، وهو الداء العضال الذي يعاني منه (الرأي العام) وحمايته من اختراقات التضليل حماية لمثمنات الوطن وإنسانه. وأخطر الأحوال التضليل من الداخل. ف(الرأي العام) يحصن في الغالب من اختراقات الآخر المناقض. ولهذا أصبح الإنذار مطلباً شرعياً للتوعية وأخذ الحذر، فكأن القوم - وهم (الرأي العام) - مهددون بالتضليل، ولا سيما أن هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن المنافقين والكفار وما بدر منهم من دسائس ومكائد. وتيه (الرأي العام) من الخلطاء الذين يداهنون ويركنون ويهرولون ويحسبون أن (الليبرالية) و(الديمقراطية) مطلق الحرية، والعدل والمساواة، ولو أنهم عادوا إلى المعاجم والموسوعات الغربية المترجمة، لعلموا أن (الحرية) مفردة من مفردات تلك المصطلحات، وأن نجاح الغرب في تسليمه لأنظمته ودساتيره، وأن إخفاق المسلمين في عدم تفعيل مبادئهم، وأن حل مشاكلهم ليس في اللحاق بالآخر، ولكنه في إعادة النظر في الذات. وإذا كانت الإشكالية في التشكيل الذهني للرأي العام المؤثر في المسار والصيرورة فإنها الأصعب في تحديد (الرأي العام)، والتفريق بينه وبين جماعات الضغط والأحزاب والمنظمات والهيئات والنقابات، والتكتلات: العرقية والطائفية والإقليمية. وهي الأصعب أيضاً في تحديد مصادر التأثير عليه، وفي الخارج منه والداخل فيه. فهل النخبة - على سبيل المثال - من (الرأي العام)، أم هي مصدر التأثير عليه وتوجيهه؟ المستفيض أن هناك عقلاً جمعياً يتجلى في المظاهرات وجماهير الرياضة والفن، وسائر التكتلات، وعقلاً فردياً غير مندفع ولا مهتاج. والعالم والمفكر حين يندمجان في الجماعة، يكونان جزءاً من الرأي العام، وحين يعتزلانها، يكونان من النخبويين، يمارسان تشكيل الرؤية العامة. ولقد تجلت هذه الإشكالية في (شاعر غزية) الذي أبان لهم نصحه، وأقر أنه منها في الرشد والغواية، فهو في مناصحته نخبوي، وفي معيته جزء من (الرأي العام). وحديثنا عن (الرأي العام) لم يمتد إلى المكون والطبيعة والحد والتعدد والمجال، وإمكانية الاتفاق أو الافتراق مع المجتمعات الأخرى، ولا في طرق الاتصال وتحليل المعلومات وصناعة النجوم وضبط الدعاية، فذلك مجاله الدراسة الموضوعية المعتمدة على الخطة والمنهج والكم المعرفي. ومع أهمية ذلك فإننا سنقف بالحديث عند خطورة تشكل (الرأي العام) تشكلاً عشوائياً متعدد الرؤى والتصورات في غياب مؤسسات المجتمع المدني، أو عجزها عن مواجهة المرحلة بكل إمكانياتها الرهيبة. والحديث عن الاختراق والانغلاق يستدعي النظر في آلية النفاذ إليه، وآلية التمترس والحماية بالحجب أو بالاستباق. فالنفاذ تتنوع خطورته بتنوع المصادر والأهداف، والاحتراس تتنوع مستوياته بتنوع أساليب المواجهة. فالمنع، والرقابة، والتحذير، والتخويف، والتحريم، أساليب مشروعة، ولكنها مفضولة؛ لأنها دون التوعية والتربية والاستباق والتصدي المتكافئ والمنافسة على (الرأي العام) بوصفه مجال التحرف. إن (الرأي العام) المخترق أو المستبطن من الداخل بحاجة إلى آلية تشكيل لا إلى سياج حفظ، إذ لم يعد بالإمكان الاقتصار على الأمر والنهي والتخويف والتسييج، وإنما الإمكان والفائدة في التربية والتوعية، وتوفير الأجواء الملائمة، التي تمكنه من التضلع المعرفي السليم والمواجهة الذاتية. والإحالة إلى الحرية الشخصية، وحرية التعبير والتفكير والممارسة، والتعويل على البقاء للأصلح إحالة فيها نظر. فالحرية تختلف عن الفوضوية، و(العقد الاجتماعي) يضبط الحرية ولا يلغيها، ولا يمكن أن نتصور تجمعاً إنسانياً إلا بضوابط متفق عليها ومسلم لها، كما أنه لا هوية إلا بسمة مميزة. فالمسلم غير النصراني واليهودي والعلماني، ولكل قوم نحلة تحكم الحرية ولا تُحكّمها. والحرية التي لا يحكمها العقد حرية (وجودية) تقوم على الفوضى والرفض والعصيان. والحياة: حسية كانت أو معنوية، محكومة بنظام، ولا حياة بدون ذلك، وليس بين الحياة بضوابطها وبين الحرية تعارض. والذين تكبح جماحهم ضوابط الحياة يحتجون بالحرية. ومسخ السمة والخصوصية مطلب الآخر، وليس مقتضى الحرية {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. واتباع سنن الآخر قضية مسلمة (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، والتشبث بحرية القول والفعل تعزيز للإرضاء واقتفاء للأثر، وستظل حدود الحرية مجال تنازع. ومشكلة الإنسان بين التخيير والتسيير لما تزل مضمار لزز بين الفلاسفة وعلماء الكلام، وحرية الاختيار والفعل ضرورة ومطلب إسلامي، ولكن لا بد من ممارسة الحرية الإسلامية المقيدة بالمقاصد، وممارسة الأطْر والمناصحة بحدودهما الشرعية. والأمة الإسلامية أمة الدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرعاية (كلم راع....)، وتراتب المسؤولية التنفيذية. والمسؤولية الإسلامية لا تمضي مع مطلق الحرية التي يمارسها الغرب، ويركن إليها المستغربون. هناك حرية تحيل إلى (الديموقراطية)، وحرية تحيل إلى (الليبرالية)، وحرية تحيل إلى (الوجودية)، وحرية تحيل إلى (الإسلام)، وحريات متعددة بتعدد الملل والنحل، تلتقي وتفترق، إذ لكل حرية ضوابطها وأمْداؤها. ومتى ربطنا سائر المؤسسات بالمقتضى الشرعي طائعين مختارين، فلا بد من تمكين هذا المقتضى، ليأخذ دوره، وإلا طالنا المقت الكبير {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وشملنا عقاب من لا يتناهون عن منكر فعلوه. وسمة النخبوية الصادقة المخلصة تحديد (الموقف) و(المصدر) و(الانتماء) تحديداً لا تضطرب معه الرؤية، ولا يميَّع فيه الإسلام، ولا يلمَّع فيه الطغام، إذ كل متمرد أو متردد حين تلجمه الحجة يقول: لا مزايدة على الإسلام. والإسلام لا يتحقق إلا بثلاثة أشياء: الاعتقاد والقول والعمل. وما لم يصطحب المفكر والعالم والسياسي وسائر المتنفذين هذا الثالوث فقدوا المصداقية، وقالوا ما لم يفعلوا، وأضلوا (الرأي العام)، ويقال مثل ذلك عن مقتضيات المواطنة، فالشعارات والهتافات أصباغ حائلة، وما قتل الوطن إلا من وتَّنه من الثوريين. والخطورة أن الخطاب النخبوي مفردة من مفردات التأثير على (الرأي العام) الذي يتشكل من عدة مؤثرات تربوية وإعلامية وثقافية ودينية: محلية وخارجية. وليست رؤيته انبثاقاً ذاتياً فورياً، وما كان وجوده طارئاً، بل ظل كامناً في المجتمع الإنساني البدائي على شكل مفهوم صوري، تحول في النهاية إلى حقيقة تصديقية ماثلة للعيان، تحسب لها المؤسسة السياسية كل الحساب، ولا سيما في الأنظمة (الديمقراطية) التي توفر الحرية، وتحيل مؤسساتها إلى الشعب، ولا ترد إلى مرجعية نصية، ومن ثم لا يكتسب أي قرار شرعية النفاذ إلا بموافقة جماهيرية عن طريق الاستفتاء. أما المجتمعات الأخرى فمتفاوتة في كسب ثقته، فقد تحيل بعض تلك الأنظمة إلى النص الشرعي بوصفها تجمعاً إسلامياً، أو إلى مقاصده، وقد لا تكون إسلامية ولا (ديمقراطية)، ولكل قوم شرعة ومنهاج اختطوها لأنفسهم، أو توارثوها على مبدأ: إنا وجدنا آباءنا على أمة، فرضوا بها، أو فرضت عليهم. والفكر السياسي الإسلامي له مصادره النصية، المراوحة بين الاحتمال والقطع، أو الاجتهادية المتسعة للاختلاف المعتبر. ول(الشافعي) و(ابن عقيل) رؤية صائبة ودقيقة في ربط السياسة بالمرجعية الشرعية، فعند الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، و(لابن عقيل) تحديد وتفصيل: إذ يشترط عدم المخالفة، ولا يشترط التنصيص، أي لا يقول ب(لا سياسة إلا ما نطق به الشرع)، وهناك فرق بين ما نطق به ووافقه. وقد تحيل هذه الأنظمة قضاياها لكسب الثقة والمشروعية إلى (الرأي العام) المفترض فيه فهم المقاصد وتمثلها، وبخاصة حين تتعدد الخيارات. وأنظمة الحكم والدساتير هي التي تحدد آلية كسب الثقة ونفاذ القرارات. وفي المقابل فما كل قرار يُربط بنصه الشرعي، ولكن التدخل النصي يكون في حال الجهل بالمشروعية أو تعارض الآراء، استجابة لقوله تعالى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}} النساء 59). وإذ تكون أطر وآليات ومبادئ فإن (الرأي العام) يضل أو يهتدي وفق رؤية المتعالق النخبوي، والإشكالية هنا تكمن في عدم التفريق بين (الأطر) و(الأيديولوجيات)، ف(الديموقراطية) على سبيل المقال إطار من جهة و(أيديولوجية) من جهة أخرى، ومكمن الخلل في خلط السمات والخصائص. وإذا تعددت النظم السياسية، وقبلتها الشعوب، لم يعد هناك مجال للمفاضلة ولا للتصدير، فالناس أدرى بأمور دنياهم، ومن حقهم التمتع بسيادتهم المنوط أمرها بمجالس منتخبة أو مختارة على كل المستويات الدستورية والتشريعية والتنفيذية. وفيما يتعلق بالفكر السياسي الإسلامي فإن حرية الاختيار مقيدة بموافقة النصوص أو المقاصد الإسلامية. ومع تلك الضوابط المشروعة فإن (الرأي العام) عبر من ينيبه من أهل الحل والعقد يقرر نظام الحكم، وأسلوب التداول، وتراتب المسؤوليات. والفكر السياسي الإسلامي له تجربته ونظريته. والقبول الطوعي بالنظام يمنحه المشروعية، ويقتضي العمل على ضوء محققاته، و(الرأي العام) هو المؤشر على الشرعية. وقناعته بالنظام الذي لا يشكل عقبة في طريق التطور لا يخول لكائن من كان خلط أوراقه، وتفويت الفرصة المواتية لتلاحم السلطة مع الجبهة الداخلية. و(الرأي العام) لا يظهر عنقه إلا حين يحس بأن هناك حدثاً ما يصادم مسلماته وأنساقه وسياقاته، وليس هناك ما يمنع من القبول بالتغيير، ولكن يجب أن يكون وفق الضوابط والممارسة المرحلية التي لا تربك الأمة، ولا تعرضها لصدمة المفاجأة. وأياً ما كان الأمر فإن على المؤثرين على (الرأي العام) أن يلموا بأنظمة الدولة، وبخاصة (النظام الأساسي للحكم) و(نظام مجلس الشورى) و(نظام مجلس الوزراء) فكل هذه الأنظمة استبقت تحديث (الأطر) في ظل التأكيد الواضح على قواعد الشريعة الإسلامية. ولما تزل إمكانية الإضافات الأخرى على الأطر ممكنة وقائمة، أما القول عن إمكانية (الديمقراطية) أو (الليبرالية) أو (الدستورية) الغربية، وتجاهل تلك الأنظمة، فإن ذلك إرباك لا مبرر له، وتغريد خارج السرب. |
يا سلام عليك يا عباس ...... والله جمع راااااااااااااائع ....
استمتـــعت بقراءة بعض المقالات ... وسأعـــــود ... لهذه الحروف الجميييييييييييييييييله .... |
أيّها الأمير ألا تحب أن يغفر الله لك؟
د. حسن بن فهد الهويمل كلُّ من سمع تشنُّجات وزير داخلية العراق (بيان جبر صولاغ) التي ردّ بها على تحذيرات وزير خارجية المملكة العربية السعودية الأمير (سعود الفيصل)، أُصيب بالغثيان والاشمئزاز والإحباط، وأحسّ أنّ العراق سيظلُّ مرتهناً لمن لا يحسن الصدور ولا الورود، حتى يقيِّض الله له من يقيل عثرته، ويدرأ عنه عوادي الزمن، ويأذن بعودته إلى الصف العربي متخلِّياً عن الإيضاع في الفتن، وإذكاء الطائفيات والعرقيات، والاتجاه صوب التقسيم. والذين صدمتهم هذه الاهتياجات الرعناء، تنوّعت عندهم ردود الفعل، وكلُّها على حساب بلد مهيض الجناح. وبقدر الاستياء، جاءت السخرية من الذين شهدوا نكوص الوزير على عقبيه عبر صحيفة (الشرق الأوسط) 6-9- 1426هـ، ومحاولته مواراة سوأته، وذلك بعد أن تبيّن له أنّه شقّ عصا الطاعة، وخالف سياسة بلاده، وأحرج قادتها، وأكرههم على الاعتذار والتخلِّي عمّا بدر منه {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ}، والمستاؤون والساخرون من القول ونقيضه يزدادون احتقاراً له وللواقع الذي وسع مثله، والحكماء يقولون:- لا تقولنَّ شيئاً تحتاج معه إلى الاعتذار، ولا تدخلنَّ في أمر حتى تقدر على الخروج منه. والخوف والإشفاق من أن تشكِّل هذه المتناقضات موقفاً عدائياً من العراق الجريح، وتصوِّره خصماً واعياً لخصومته لدول الجوار وللمملكة على وجه الخصوص. ومن ذا الذي يستطيع امتصاص الاحتقان الشعبي، والتأكيد على أنّ هذا الرد غير الموفّق نزوة أحمق، وليس قرار أُمّة. ويقيني أنّ أسلوب المواجهة - عندي على الأقل - مختلف جداً، فما (العراق) وبعض مسؤوليه الموتورين والمتوتِّرين والشانئين إلاّ كما المريض الذي يهذي تحت تأثير المخدر، وحقه على كلِّ مسلم أن يواسيه أو يأسوه أو يتوجّع. لقد سمعت مع السامعين تلك التجشؤات الفارغة من رجل مغلوب على أمره، يمشي على أشلاء أهله وعشيرته، ولمَّا يستطع لملمة تلك الأشلاء الطافحة فوق حمام الدم والمهترئة تحت أقدام الراقصين على الجراح ومواراتها. وردّ المسؤول العراقي المتدنِّي إلى حد التخلُّف على تحذيرات سمو الأمير، ردٌّ غير مسؤول، يكشف عن خبيئة المتفوه، ولا يصيب المقصود بسوء. وما هو إلاّ ترديد للعنتريات الثورية التي يجترّها ببلاهة معتقة المسلِّعون للخطاب البلاغي أمثال (نزار قباني) و(أحمد مطر) وشعراء الهزيمة وكتّابها ورغاتها، فلقد ساءهم تفجير الله لكنوز الأرض لمن أخذها بحقها، ولم يجدوا من المآخذ إلاّ غرابة الجمع بين الإبل والنفط، والبدوي الذي مر من فوق الأرض على جمله فامتلكها. وإذ يكون الاختلاف في وجهات النظر مشروعاً، وتحفظ الدولة المعنيّة على ما تراه في غير مصلحتها الخاصة من حق مسؤوليها فإنّ هناك أساليب وقنوات (دبلوماسية) يمارس من خلالها الاختلاف والرد. وما دامت المملكة حمَّالة المآسي، وعاقلة الجناة، وسموم الفتن تشوي أطرافها، فإنّ مراجعة مسؤوليها لا يكون بهذا المستوى، كما أنّ إبداء النصح ليس من الوصاية ولا من التدخُّل في شؤون الغير. وأحداث العراق الدامية يمتد دخنها إلى دول الجوار، ومن حقهم الرصد والمتابعة وإبداء التخوُّف وإسداء النصح. وكم نسمع من يعيب الصمت العربي، ويلوم المتخاذلين من أهل الشأن. ولقد كنت ممن يفضِّلون مرور الكرام، واستذكار مقولة الشاعر:- (ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمة قلت لا تعنيني) ولكن طائفة من الردود العنيفة، تدعو إلى القطيعة، وتخلي المملكة عن دورها الرائد في الأخذ على يد السفهاء والأخذ بيد المتعثِّرين، هذه الكلمات الحادة غيَّرت وجهة نظري، وفتحت شهيَّتي للكلام التطميني، ليس رغبة في التصعيد، ولا حبّاً في توتير الأعصاب، ولا حاجة في استعداء المقصود بالكلمات الهجائية المسفة. وإنّما تحرُّفاً لإطفاء الضغائن، وتهوين الأمر، والتذكير بواجب الأخوة الإسلامية على حد:- (إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها) وعلى حد لفتات (المتنبي) ل(سيف الدولة)، وهو يطارد فلول (بني كلاب):- (وكيف يتم بأسك في أناس تصيبهم فيؤلمك المصاب ترفّق أيّها المولى عليهم فإنّ الرفق بالجاني عتاب) وأخشى أن يكون مثل هذه البذاءات غير المقبولة من الجرم الذي يجره السفهاء على قومهم، ثم يحل على غير جارمه العذاب. والعراق الذي يتقلّب على سفود الفتن منذ نصف قرن بحاجة إلى من يسارعون لإنقاذه، لا إلى من يطربهم نحيب ضحاياه وهذيان محموميه. وفي تلك الأجواء المكفهِّرة أذكّر الأمير المتعذب من واقع أُمّته بكلِّ ما يتوفّر عليه من رحابة صدر واستجابة لله ولرسوله إذا دعاهم، أذكِّره بما هو أعلم به مني، وأسوق له مواقف مشرقة في سير أعلام النُّبلاء، ولمَ لا يكون له بمن سلف أُسوة حسنة، وهو سليل أُسرة لها عراقتها في الشأن السياسي، ففي (حديث الإفك) دروس وعبر، أصبحت نبراساً لكلِّ من فتح الله عليه ووفّقه. فمن الذين أشاعوا الفاحشة على (عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها (مسطح بن أثاثة)، وكان (أبوبكر) الصديق رضي الله عنه، ينفق عليه لقرابته وفقره، ولما أن علم أنّه ممن أسهم في إشاعة الفاحشة على ابنته، بعدما نزلت براءتها في كلام يُتلى إلى يوم القيامة، أقسم ألاّ ينفق عليْه، وأن يقطع برّه وصلته. فنزل قول الله تعالى: -{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، فما أن سمع هذا الأمر، وهذا الوعد، حتى قال بملء فمه:- (بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي). فأمدّ (مسطحاً) بما كان يمدُّه به قبل أن يشترك في إشاعة الفاحشة:- (وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى ولكن تفوق الناس رأياً وحكمة كما فقتهم حالاً ورأياً ومحتدا) ومثلما بدرت تلك المواقف الإنسانية الفذة من (أبي بكر) بدر مثلها من أبي حفص (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، حين قدم عليه (عيينة بن حصن) برفقة ابن أخيه (الحر بن قيس) الذي شفع له بالدخول على عمر، و(الحر) أحد القراء الذين يدنيهم عمر، ويقبل شفاعتهم، فقال (عيينة) ل(عمر) حين أذن له بالدخول عليه:- (هِيْ يا ابن الخطاب! فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل) فغضب عمر، وهمّ بمعاقبته، فبادره (الحر) قائلاً:- (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، وإنّ هذا من الجاهلين، فكفَّ عمر، وكان وقَّافاً عند كتاب الله. وشاعر الحكمة والتروي زهير بن سلمى يقول: (ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم) والذين خاضوا معترك السياسة، وليسوا من أهلها، يأتون بما لا يستطاع احتماله، وما أضاع الشعوب، وهدَّم الديار، وأهلك الحرث والنسل إلاّ أغيلمة وجدوا أنفسهم بالصدفة على مدرجة السياسة المليئة بالألغام، فمشوا دون أن ينظروا إلى مواقع أقدامهم. وهل أحد لا يرثي ل(العراق) بكلِّ ما ينطوي عليه من عراقة وحضارة؟ وهل تغني أمجاد التاريخ عن قوم لا يفقهون؟ ومن أراد أن يرى الاستقرار والأمن والرخاء والتلاحم غضاً طريّاً فليزر بلاد البدو الذين يمتطون الجمال، ويشربون من ألبانها، ويتخذون من أوبارها بيوتاً، يستخفونها يوم إقامتهم ويوم ظعنهم. وكم من مكلوم يتمنى أن يجد دفء البلاد ورخاءها واستقرارها وتلاحم جبهتها الداخلية. وإذ تكون البلاد مهوى أفئدة الطائعين، فهي مسرح عيون الطامعين، وحين جمع الله لها من كلِّ شيء أحسنه، وفَّقها للمساندة والمساعدة، وممارسة الصُّلح والنُّصح. لقد قدَّمت البلاد وأهلها تضحيات لا يمكن تصوُّرها، فضلاً عن حصرها لكلِّ دول الجوار وشركاء الهم والعقيدة والمصير. تضحيات: مادية ومعنوية، عرَّضت خطط التنمية للتعثُّر والإبطاء، ووضعت مثمِّنات البلاد تحت طائلة المكر، وكادت تمس استقرارها بلا اضطراب. ولما لم نكن ملزمين بهذا القدر من الدعم فإنّ بإمكاننا ألاّ نفعل، بل كان بإمكاننا أن نكون كغيرنا قوَّالين غير فعَّالين. ولكنّنا مع النكران والمكر والإزلاق لمَّا نزل نستبق الخيرات بفتح الجسور الجوية للإمداد والرحلات المكوكية للإصلاح، وسنظل كما كنا، نفك الأسير، ونطعم العاني، ونواسي المصاب، فتلك سجية فينا. وإن قوبل إحساننا بالإساءة ومعروفنا بالنكران، فكم من أيدٍ كسرنا قيدها حتى إذا ذاقت طعم الحرية رمتنا بالحجارة وأزلقتنا بالأبصار، وكم من بطون جائعة أشبعناها حتى إذا أمتنا سعار الجوع سعَّرت تحت أقدامنا نار الحقد والضغائن. ومع كلِّ خيبات الأمل سنبقى كما كنا نطعم القانع والمعتر، لوجه الله، لا نريد منهم جزاءً ولا شكوراً. ولما نزل مع طبعنا نقابل الإساءة بالإحسان والذنب بالعفو، نفعل ذلك طبعاً لا تطبُّعاً، ونقف حيث يجب علينا أن نقف، ولو كان وقوفنا في جفن الردى، وهو مستيقظ لا نائم. أيُّها الأمير المسكون بهم أُمّته وقضاياها، لا يثنيك حاسد ولا حاقد ولا جاهل عما أنت قائم به ف:- (على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم ويعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم) لقد كنت وراء مصالح أُمّتك، مترجماً إرادتها، ومعبِّراً عن سياسة حكومتك، تنصح وترشد وتحذر وتعد وتتوعّد، وقد لا يستبينون النُّصح ولا في ضحى الغد، ولو استبانوه لما آلت أمورهم إلى وضع لا يُطاق، ومرض لا يرجى برؤه، ف({كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا}. والكلمات السوقية التي أطلقها مَن لا خلاق له إن هي إلاّ صراخ طفل جريح في وجه طبيبه الذي يضمد جراحه، دون أن يعلم أنّ العافية والسلامة بذلك التدخُّل الجراحي. وكيف لرجل مثلك في تجاربه أن يطلب عند المبتدئين ما عند نفسه، وأن يتصوَّرهم آذاناً واعية، وقلوباً حافظة، ونوايا حسنة، ومقاصد سليمة، إنّ هذا تكليف للأشياء فوق طباعها:- (ومكلف الأشياء فوق طباعها كملتمس في الماء جذوة نار) والأمير الممتلئ بهموم أهله وعشيرته الأقربين وبقضايا أُمّته من واجبه أن يريح قلبه من غمِّ العداوات والمناكفات والتلاسن، وأن يدفع الشر الذي تفيض به نفوس المرضى والمأزومين بالتي هي أحسن، وكيف لا تبادر إلى مثل هذه الفرص النادرة وطريق المغفرة والجنة في كظم الغيظ والعفو عن الناس. إنّ المؤمن كما النخلة في الثبات والارتفاع على الترهات، وليس من المعقول أن يجاري الشرفاء أصحاب الخلق الدنيء، والشاعر العربي يقول:- (إذا جاريت في خلق دنيء فأنت ومن تجاريه سواء) وما العيب إلاّ أن تكون مسابباً لمن لا خلاق له - كما يقول الشافعي -، وكم من الفرق بين الضعة والتواضع، بين الحلم والضعف، وقد يتصوّر ذوو الأنفة أنّ العفو من الذل والهوان. صحيح أنّ من يهن يسهل الهوان عليه، ولكن عفو المقتدر يُعَدُّ من صفح التفضُّل. والذين يطلقون الكلمات المسفة، ولا يلقون لها بالاً يفتقرون إلى أبجديات اللغة السياسية، وتنقصهم الخبرة والتجربة، وهؤلاء إثمهم أكبر من نفعهم، وحسبهم مرور الكرام. وها هو بعد أن بدت له سوأة كلامه، يلعق إمضاءه، ويراجع نفسه، ويصف سياسة المملكة بالحكمة والتوازن والهدوء، وينفي أن تكون تصريحاته رسمية أو معبِّرة عن رأي الدولة. وهو إذ يتخلّى عن تصريحاته فإنّما يؤكد من حيث لا يدري أنّه ركب مركباً صعباً ليس من أهله، لقد وصف تجاوزاته الشخصية بأنّها سحابة صيف، وما أكثر سحب الصيف التي تمر بأجوائنا ممن نتوقّع منهم الاعتراف بالجميل. وهو بهذه الحماقات الهوجاء لم يكن بدعاً من الأمر، فلقد تعرّضت المملكة وأبناؤها لتجاوزات من الذم والسخرية لو قيلت بحق غيرها لثارت ثائرته، وأفقدته السيطرة على مشاعره، ويكفي ما تعرّضت له البلاد بعد احتلال الكويت من إقبال المغفلين بسكاكينهم لاقتطاع حصتهم من (الكعكة) الشهية التي صوَّرها لهم جشعهم وسوء مقاصدهم، ولما خيّب الله ظنّهم، أقبلوا يردِّدون محفوظهم:- {عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف}ومرت كما سحابة صيف، وستظل سحائب الصيف يأخذ بعضها برقاب بعض، ونحن نتجرّع مرارات نكران الجميل. والكتّاب الذين انبروا لِصدِّ هذه المفتريات، أنحى بعضهم باللائمة على بلد مهيض الجناح، وما كان من القول السديد أن نجهر بالسوء، وألاّ تزر عندنا وازرة وزر أخرى، وبخاصة حين يبتدر الكلمات المجتثة من فوق الأرض من لا يغيِّر من الأمر شيئاً. وعلينا أن نروِّض أنفسنا على استقبال سحائب الصيف، وسماع عفا الله عما سلف، ولكن يجب ألاّ تكون ذاكرتنا مخروقة، ومن أغضب ولم يغضب فهو ....! |
الساعة الآن +4: 03:23 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.