بَعدَ أحدَاثٍ دَاميَةٍ شَهدَهَا العَالَم بأسرِهـِ شَرقهِ وَغَربهِ .. تَصنَّعَ الحَاقدونَ عَلى هَذَا الدِّين وَأهلِهِ .. مُستَغِلِّينَ هَذهِ الظُّروفِ التي تَعصِفُ بِهذهـِ الأمَّة .. فَهَذَا يَنخَرُ بِجَسَدِها.. وَذَاكـَ يُحاولُ الرُّقي عَلى أكتَافِ عُلَمَائِها ..
حتى وَصَلَ بِهمُ الحَالُ و الله المُستَعَانِ إلى أن جَعَلوا العُلَمَاءَ والمَشَايخَ والدُّعَاةُ الذينَ يَدعُونَ إلى هَدي اللهِ وَسُنَّةِ نَبيِّهِ أفكَارُهم مَشبوهةٌ !! فَزَجُّوهم في السَُجونِ ، وَكمَّموا أفوَاهـَ الحقِّ وَكأنَّهم يَتَكلَّمونَ بِمَا لا يَفقهون وَلا يَعقِلون .
والذينَ ينَعقونَ ويَتَعرَّضونَ على ذَاتِ الإلَهِ وحُسنَ خَلقِهِ والتَّشكيكُ في الدِّينِ الذي إرتَضَاهـُ لِعِبَادِهـ قد أطلِقَ سَرَاحُهم بِدَعوى بَاطِلَة وَحُجَّةٌ زَائِفَة بأنَّ أقلامَهُم تُعتَبَرُ مِن الآرَاءِ الحُرَّة .. فَتَجدُهم يَنعقونَ في طُرقَاتِ الحّقِّ وخَلفَ كُلِّ مَعروفٍ يَلهثون { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} الآية

إنَّ السِّيَاسَةَ التي تَنتَهِجُ القَبضَ عَلى العُلمَاءِ وَأهلِ الحَقِّ وَأصحَابِ الصِّراطِ المُستَقيمِ وَتكمِيمِ أفوَاههم مَا هي إلا سِيَاسَةً عَوجَاءٌ تَحْفِرُ لِنَفسِها بِيدِهَا لِتُهلِكُها ..

وإلا فإن كَانَوا يروا بأفكَارهِم أنَّ السِّجنَ سَيُغيِّبُ أهلُ العلمِ وُيذهِبَ عَنهُم أفكَارَهم وَتَحفُّظُهم وَيَزيَدَهم غَيضَاً وَتَرَاجُعَاً عَن تَمَسُّكِهم بِمَا هُم عَليهِ .. فإنَّ السِّجنَ كَانَ مَلاذَ للِّنبي يوسُفَ عليهِ السلام: { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } الآية . ولا يَزيُدهم سِجنُهم إلا إيمَاناً وَتَثبيتاً .

وَسُجِنَ مَن سُجِنَ مِن العُلمَاءِ والسَّلَفِ والتَّابِعينَ عَلى مَرِّ العُصورِ إلى يَومِنَا هَذا .. ولَنا في إمَامِ أهلِ السُّنةِ وَالجَمَاعةِ أَقرَبُ الأمثِلَة .. ولَم تَتَّخِذَ دَولَةً مَاضِيَة سِيَاسَة زَجِّ العُلَمَاءِ بالسِّجُونِ إلا كُتِبَت لَها نِهَايتُها ..

وَلَم تَكن المِحنَةُ التي حَلَّت بإمام أهل السُّنَّة والجَمَاعَةِ إلا مُواسَاةٍ لِعلَمَاءٍ قَد امتِحِنوا بِشيءٍ مِن ذَلِكـَ .. والإمَامَ أحمَدَ قَد كُذِبَ وأفتريَ عَليهِ .. ومَن حَولَ السُّلطَانِ يُحَرِّضُونَهُ عَليهِ وَيَتكَلَّمونَ وكَأنَّهم يَسعَونَ لإرضَاءِ وَليِّ الأمر ِ وَهم أبَعدُ مِن ذلكـَ حَتى أنه في إحدى جَلسَاتِ الإمَامِ مَعَ الخَلِيفَة قَالَ الإمَامُ أحمَد : [ تريد أنْ تغلب هؤلاء كلهم ؟ وجعل بعضهم يقول : ويلك ! الخليفة على رأسك قائم ، وقال بعضهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اقـتله ، وجعلوا يقولون : يا أمير المؤمنين : إنه صائم وأنت في الشمس قائم ، فقال لي : ويحك يا أحمد ما تقول ؟.. إلخ ]

فأصْبَحوا يُلَبُّونَ مَطَالِبِهم وَيتَقرَّبونَ مِنَ السُلطَانِ بِنِفَاقهِم .. حَتى أنه كان من المتعصبين على الإمام .. محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ، وأحمد بن دُوَاد القاضي ، وبشر المريسي ، وكانوا معتزلة قالوا بخلق القرآن ، فقال ابن دُوَاد وبشر للخليفة : اقـتله حتى نستريح منه ، هذا كافر مُضِـل .
حَتى الإمَامُ أحمَدُ رَحِمَهُ اللهُ لَم يَسلَمُ مِن التَّكفيرِ والإنتِقَاصِ .. وَمعَ ذلِكـَ كَانَ يَومُه يَومَ الجَنَائز .
إنَّ مَن يَسجِنِ العُلَمَاءَ كَمن يَسجِنُ قُبطَانَ السَّفينَةُ وَقَائِدُها ..

إنَّ سِيَاسَةِ حُبِّ وَلي الأمرِ وَطَاعَتِهِ أصبحَت دِرعَاً لِحَثَالَةِ هَذا المُجتَمَعِ الرَّاقي الذي صَنَعَهُ وَلي الأمرِ .. وحُبٌّنَا لِوَلي أمرِنَا ليسَ مِنْ أجلِ حَثَالَةٍ نَخشى أقوَالَها وافْتِرَائِهَا وَ بُهتَانهَا .. وَلا نِفَاقاً نَتَسَتَّرُ خَلفَهُ كَما هِي حَالهم.. بَل حُبُّنا لِوَليِّ الأمرِ زَرَعَه أولئِكَ الأخيَارُ والدُّعَاةُ مِن خِلالِ آياتٍ رَبَّانية وأحَاديِثٍ نَبَويِّة شَريِفةٍ ..
أمَّا أولئكَ المُنَافِقونَ وَالحَثَالَةِ السَّاقِطةَ .. وَمَن رَمَوا هَؤلاءِ المَشَائِخُ والدُّعَاةُ بِأنَّ أفَكَارَهم مَشبوهَةٌ قَد زَرَعوا حُبَّ وَلي الأمرِ للمَساكِينَ ممن هُم تَحتَ أيديهم بِتَعليِقِ صُورَ وَليِّ الأمرِ عَلى حيطَانِهِم وصُدورِهم .. أي أنَّه بِزوَالِ الصَّورَةِ يَزولُ حُب وَلي الأمرِ .

فَشَتَّانَ ممن عَكَفَ عَلى تَعليمِنَا حُب وَلي أمرنَا يُكَررُ عَلى مَسامِعنَا قَول َالنبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ : { من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية } .. وَذَاكـَ الذي استَغلَّ جَهلَ الكِبَارِ وَعدَمِ وَعي الصِّغَار بِتَوزيِعِ صُوَرِ وَليِّ الأمرِ عَلى طُلاَّبِهِ وَ تَعلِيقِها عَلى مَلابِسِهم فَيَقولُ لَهم [ هَكَذا تُحِبُّونَ وَلي أمرِكُم ] .

إنَّنا لَنَعيشُ في زَمنٍ أَقربُ مَا يَكونُ لِحالِ هَذهـِ الأمةِ في آخرِ زَمَانِها كَما صَوَّرهـُ بِذلكـِ النبي صلى الله عليه وسلم قائلا : [ سيأتي على الناس سنوات خدعات يصدق فيه الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق الرويبضة ] قيل :ـ وما الرويبضة ؟قال (( الرجل التافه يتكلم في أمر العامة )) رواه ابن ماجه وهو صحيح .
وقال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود (( لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شر مما كان قبله أما إني لا أعني أميراً خيراً من أمير ، ولا عاماً خيراً من عام ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاء ويجيء قوم يفتون برأيهم )) الفتح (13/21)

إنَّ دَولَتنَا حَمَاهَا الله .. شَرَّفهَا الله بِقومٍ جَعلوا كِتَابَ الله نُورَ دَربِهِم وحَديثَ نَبيِّه دَليلِهم .. وَرايَةُ الإسلامِ تُرَفرِفُ على أرضِهم ..
فَعَسَاهُم أن يَسلَموا مِن حَثَالَةٍ أحدَثوا ثَغَرَاتٍ بِكيَانٍ شَريفٍ بُني على الشَّريعَةِ الإسلاميَّة لَيَبُثُّوا سُمومَهم .. وَكُتَّابٌ مَللنا مِنْ سَمَاعِ فَحيحِ الشَّرِ مِن أقلامَهم مِن أجلِ أن يُزَعزِعوا عِزَّا غَشَا هَذِهـِ الدّولَةَ التي عَزَّها اللهُ بالإسلاَمِ .. وَصُحُفٌ تُلبِسُ الحَقَّ بالبَاطِلِ عَبر سُطُورٍ وَهميَّةٍ .. ظَاهِرها فيهِ الرَّحمَةُ وبَاطِنُها مِن قِبَلِهِ العَذَاب .
حَفِظَ اللهُ هَذهِ الدَّولَةَ سَامِيَةً بِتَطبيقِ شَرعَ الله وَحُدودَهـُ .. وَكلُّ مَن أرَادَ الخَيرَ لِهَذا الدِّينِ وَأهلِهِ ..
أدَامَ اللهُ عَلينَا نِعمَة الأمنِ والأمَنَ والخَيرَ والاطمِئنَانَ .. وَرزَقَ وُلاَةَ أمورِناَ بِطَانَة صَالِحَة نَاصِحَة تَدُلُّه عَلى الخير وَتُعينُه عَليهِ .. وَأهلَكـَ بِطَانَةً فَاسِدَةً تُريهِ الباطلِ عَلى أنَّهُ خَير .