![]() |
التَدَيُّنْ
التَدَيُّنْ الشيخ/ ناصر الأحمد إن الحمد لله.. أما بعد: لا يخفى على أحد واقع المسلمين اليوم، فقد تسلط علينا أعداؤنا في كثير من الجوانب والبلدان، وتجاه هذا الواقع فإنّ بعض المسلمين قد يصيبه اليأس من صلاح أمر الأمة الإسلامية لما يرى من جهود الأعداء في محاربة الإسلام والتضييق على المسلمين، ومن جهة أخرى هو يرى يقظة الأعداء ومواجهتهم لأي جهد يبذله المسلمون، لاستعادة ما فقدوه من مجدٍ وماضٍ تليد. وربما كان هذا اليأس سبباً في القعود عن خدمة الدين والمساهمة في نفع المسلمين وتعليمهم ودعوتهم. ولكن يجب أن يَعلم المسلم أنه مهما ساء واقع الأمة وامتد كيد الأعداء فإن المستقبل لدين الله، والعزة لأوليائه، تشهد بذلك نصوص القرآن الكريم القطعية والأحاديث النبوية المتواترة، مما يبعث الأمل في نفس كل مسلم ويجعله واثقاً بوعد ربه مطمئناً بأنه على الحق مهما بلغت الأحوال والظروف، وإن التصديق بما أخبر الله تعالى به أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأمور الغيبية لمِن أجلّ الأعمال، وهو من ركائز العقيدة الإسلامية، ألم يصف الله تعالى حال المؤمنين في الأحزاب بما وصفه من حال الخوف والرعب: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [(10) سورة الأحزاب]، ثم بعد آيات قليلة يذكر حال المؤمنين الصادقين: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [(22) سورة الأحزاب]. إن من يشك في انتصار الدين وغلبته أو يشك في ذلك فهو كمن يئس من بزوغ النهار بعد اسوداد الليل أو شك في ذلك. إليكم بعضاً مما في كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مما يقطع بأن دين الله منصور وأهله ظافرون ولو بعد حين. فقد أشار القرآن إلى غلبة الدين وظهوره قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [(8) سورة الصف]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [(9) سورة الصف]. وقد وعد الله تعالى المؤمنين بالنصر فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [(39) سورة الحـج]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [(47) سورة الروم]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [(171) سورة الصافات]، {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [(172) سورة الصافات]، {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [(173) سورة الصافات]، ففي هذه الآيات، أخبر الله - سبحانه وتعالى - أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان فهذا لا ينقض القاعدة، وهي أن النصر لمن ينصر دين الله. وإن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، ولكن تأمل في كلام الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [(36) سورة الأنفال]، وتأمل في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [(15) سورة الطارق]، {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [(16) سورة الطارق]، {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [(17) سورة الطارق]، فمهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته فالله لهم بالمرصاد، وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداءً لنا كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [(1) سورة الممتحنة]، فبدأ بوصفهم بأنهم أعداؤه. أما من السنة النبوية فمن المبشرات بنصر الدين وغلبته ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزّاً يعز الله به الإسلام وذُلاً يذل الله به الكفر))، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) [أخرجه مسلم]. وإن المسلم حين يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة، وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقوداً يُشعِل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة. لقد أصبح التدين ظاهرة عامة في كل المجتمعات وكل الديانات، وليست خاصة بالمسلمين، فقد بدأت ومنذ زمن ظهور حركات ومنظمات ومؤسسات لدى اليهود ولدى النصارى وغيرهم من ملل الأرض تنادي بالرجوع إلى الأصول المنحرفة لديهم. وإن عدداً من الظواهر التي نشاهدها ونسمعها في عدد من الدول والحكومات أصولها دينية، وإن غُلّفت بغلاف اقتصادي أو ثقافي أو غيره. خذ على سبيل المثال المجتمع الأمريكي: إن التدين في الولايات المتحدة صَاحَبَ الدولة منذ نشأتها، فاكتشاف أمريكا كان من أسبابه الرغبة في نشر الديانة المسيحية خارج أوربا، فكثير من المهاجرين القدماء جاؤوا بعقائدهم معهم، وحاولوا المحافظة عليها وزراعتها في العالم الجديد واعتقد كثير من الأمريكيين لمدة قرن بعد إعلان الدستور أنهم يعيشون في دولة نصرانية، ولمزيد من التحديد في دولة بروتستانتية، ومن جهة أخرى وافقت المحكمة العليا في عام 1892م على أن أمريكا أمة نصرانية وهناك إحصاءات أجريت تقول: بأن أكثر الشعوب النصرانية تديّناً من حيث النسبة العددية هي إيرلندا في المقام الأول ثم أمريكا. وقد يبدو غريباً لدى البعض لو قيل أن في الأربعينات والخمسينات من القرن الميلادي الحالي كانت هناك رقابة شديدة وصارمة على المواد التي تستثير الجنس في الولايات المتحدة، سواء في الأعمال الأدبية أو غيرها، وكان يُنظر في أمريكا للمسرح في أواسط القرن الماضي على أنه مدرسة للرذيلة والفساد، لكن هذا الوضع لم يعجب اليهود فأغرقوها في الفساد. فقد تغلغل اليهود في الوصول إلى المناطق الحساسة في الدولة، فعندما استقلت أمريكا لم يكن عدد اليهود فيها يزيد على ألفين أو ثلاثة آلاف! ثم حدثت الهجرة اليهودية الأولى وذلك بين عامي 1654 و 1825م، ثم كانت هجرة اليهود الألمان وذلك خلال القرن التاسع عشر حيث بلغ عدد اليهود الألمان قرابة 250 ألف نسمة! ثم كانت هجرة اليهود من أوربا الشرقية حيث بلغ عدد المهاجرين ثلاثة ملايين ونصف يهودي! وحالياً يبلغ عدد اليهود الأمريكيين حوالي 6 مليون نسمة يشكلون حوالي 43% من مجموع يهود العالم. ويتمركزون في نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغو، ومنذ البدايات عمل اليهود بالتجارة وبرعوا في ذلك إلى حد أنه في عام 85م تم تصنيف الـ 400 شخص الأكثر غنى في أمريكا، فتبين أن 114 واحداً منهم من اليهود، أي أكثر من الربع! والأخطر من ذلك أنهم يهيمنون على كل ما يمت بصلة إلى صنع الأفكار وتسويقها من الجامعات إلى مراكز الأبحاث إلى مجمل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. إضافة إلى السيطرة القوية على "هوليود" حيث الصناعة السينمائية الأمريكية ويسيطرون على أكثر من 220 صحيفة يومية. وبدأ النفوذ اليهودي البارز في الدوائر السياسية والاقتصادية والإعلامية الأمريكية منذ زمن بعيد، والدليل على ذلك أن أول دكتوراه منحتها جامعة "هارفارد" في عام 1642م كانت بعنوان "العبرية هي اللغة الأم" وأول كتاب صدر في أمريكا كان "سَفْر المزامير" وأول مجلة كانت مجلة "اليهود"!!. تمكن اليهود من إبعاد الأمة الأمريكية عن تعاليم النصرانية وإن كانت محرفة فجعلوها دولة علمانية في سياستها واقتصادها وإعلامها وسائر شؤونها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم بعد مسيرة طويلة في الانحراف والتحلل والإباحية. فعدد المواليد غير الشرعيين من آباء مراهقين مليون حالة كل سنة. وفتاة من بين كل عشر فتيات بالغات دون سن العشرين يصبحن حوامل كل سنة معظمهن خارج رابطة الزوج، ونشر تقرير عام 80م عن عينة واسعة جداً ضمّت أكثر من 100 ألف رجل وامرأة فوجدوا أن نسبة 50% من النساء تحت سن الـ 35 اعترفوا بممارسة جنسية مع غير أزواجهن، وبعد هذا السن فالنسبة تصل إلى 70%. وأما الرجال فتبلغ نسبتهم 72%. وبناءً عليه فإن عدد المصابين بالأمراض الجنسية في عام 81م كان 20 مليون شخص من الجنسين! فكم هي الآن؟ أما قضايا الشذوذ فقد نشرت مجلة النيوزويك الأمريكية أن عددهم تجاوز الـ 20 مليون شخص. ومتوسط عمر الطلاب الذين يشربون الخمر في الولايات المتحدة هو 13 سنة. والخسائر الأمريكية بسبب الخمر حوالي 49 مليار دولار. واليوم هناك دعوات جادة من بعض العقلاء للعودة إلى الدين، وقد نشطت المؤسسات الدينية في الولايات المتحدة وأُعطيت الإمكانيات الضخمة وسُخّر لها كل الوسائل لتحقيق أهدافها. فللأصولية النصرانية في أمريكا أكثر من 20 ألف مدرسة ومعهد وكلية، وفي كثير من الكنائس التبرعات ملزمة، وفي بعضها تمرر القبعات أو الصحون على الجالسين ليضعوا فيها ما تيسر من المال، ويصل الأمر أحياناً إلى حد أن الرقم الذي يجمع سنوياً يزيد على 65 مليار دولار. ومع كل هذا الدعم وتوفر كل الإمكانيات الكبيرة فإن انتشار النصرانية في العالم ضعيف للغاية، وهذا ليس كلاماً نظرياً إنما هو كلام دقيق وإحصائي وعلى لسان القائمين على التبشير. ويكفيك أن تعرف بأنهم رصدوا لتنصير الصومال وحدها 196 ملياراً. ولا صحة لما يدعيه الأمريكيون اليوم من فصل الدين عن الدولة، فكثير من رؤسائهم كان له اهتمامات دينية، بل إن الدين يؤثر في سياساتهم وقراراتهم، وكان "جورج واشنطون" يرى أن الدين والمعنوية دعامتان توأمان للمجتمع تقف عليهما الشخصية والحضارة، وكان "فرانكلين" يحترم ما تحمله الكنائس بإجماع، وكان الرئيس "ريجان" يؤمن بنبوءات الكتاب المقدس، وكان يستخدم بعض المفاهيم والمصطلحات الدينية في خطبه وتصريحاته، وكان يُنظر للرئيس "كارتر" على أنه من المتدينين والمحافظين ومعظم الرؤساء يذهبون إلى الكنائس في أيام الأحد ويشهدون الاحتفالات الدينية. وما تمارسه أمريكا اليوم من سياسات وتدخلات بل وحروب إنما منطلقها منطلق ديني في المقام الأول كما صرح به كبيرهم الذي علمهم السحر بأن ما يقوم به إنما هي حرب صليبية، مع وجود بعض الأسباب الأخرى كأن تكون اقتصادية أو سياسية. وربما يجهل البعض بأن الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل منطلقه ديني أيضاً، لأن طوائف النصارى تعتقد بعودة المسيح عليه السلام ليحكم الأرض وعودته مشروطة بثلاث شروط: 1- لا بد أن تكون إسرائيل دولة. 2- لا بد أن تكون القدس عاصمة لها. 3- لا بد أن يعاد بناء قبلة أهل الكتاب التي هدمت بعد سبعين عاماً من ميلاد المسيح. ويعتقد النصارى أن معركة حاسمة ستقوم بينهم وبين المسلمين ويؤمن بهذا سبعة من رؤساء أمريكا يقول "كارتر": "لقد آمن سبعة رؤساء أمريكيين وجسّدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة فريدة؛ لأنها متجذّرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، لقد شكّل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون طليعيون، ونحن نتقاسم تراث التوراة". وهؤلاء السبعة يعتقدون أن الصراع بين العرب واليهود هو صراع بين داود وجالوت، وجالوت العصر هم العرب وداود هو دولة إسرائيل. فمن هذا المنطلق كانت وما زالت الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بقوة، ضاربة بالأعراف الدولية والجوانب الإنسانية عرض الحائط، يكفيك أن تعرف أن إسرائيل حصلت على معونات اقتصادية وعسكرية بين عامي 82- 89م ما يزيد على 24 مليار دولار. فكم وصلت الآن؟ إذن: الدين صار هو الذي يحرك معظم الشعوب والدول بغض النظر عن هذا الدين صحيحاً كان أم باطلاً. تختلف رؤية الناس للتدين وتعاليم الدين بحسب عوامل كثيرة: فمنهم من يتصور أن الدين مجموعة قيود وضوابط تحد من حرية الإنسان فكراً وسلوكاً. ومنهم من يلتزم بالدين وهو ضجِرٌ متبرم لكنه لا يستطيع الخروج على المألوف الاجتماعي من حوله. ومنهم من يرى أن الشخص له الحرية في ممارسة هذه التعاليم الروحانية متى شاء لكن يجب ألا يكون لذلك أي متعلقات سلوكية وفكرية في أمور الدنيا، وهؤلاء هم أصحاب الاتجاه العلماني على اختلاف توجهاتهم الفرعية. ومنهم من يتصور أن الدين منهج سياسي متطرف متزمت لا يقبل التفاهم ولا يحسن التحاور ولا همّ له سوى بسط سلطانه في الأرض بالقوة والقهر، وهذا التصور هو الذي يحرص اليهود والنصارى وأشباههم على ترويجه عن الدين الإسلامي، ويبدو أن له قبولاً في بعض أوساط المسلمين وغيرهم. ومن هنا أُلصق بالدين الإسلامي في الآونة الأخيرة مصطلح التطرف الديني، هذا المصطلح الذي صار كثيراً ما يُردد عبر وسائل الإعلام المختلفة بقصد أو بدون قصد. هذا المصطلح الدخيل أصبح اليوم هو الأب الروحي لغيره من المصطلحات التي لا زالت تدوِّي وتجلجل وتقرع الأسماع وتصمّ الآذان، كالتشدد والتعصب والانغلاق والأصولية، وأخيراً وليس آخراً الإرهاب، ومن الجدير بالذكر أن مصطلحاً كهذا ينصرف على الفور إلى الإسلام والمسلمين لمجرد سماعه من غير بذل أي جهد في التحليل والتمحيص؛ ذلك لأن الإشاعة التي برمجها أعداء هذا الدين في أروقة المخابرات التابعة للاستعمار الكافر في الشرق والغرب مدعومة بالجهود اليهودية والنصرانية؛ جعلت من هذا المصطلح تعبيراً بديلاً عن النشاط الإسلامي في أية بقعة من بقاع الدنيا. يجب أن نستبعد استعمال مصطلح التطرف الديني من إعلامنا وكتاباتنا ونشراتنا؛ لأن هذا المصطلح لا يدل على موجود، فضلاً عن أنه لا علاقة لنا به، وهو عندما أُطلق للمرة الأولى أُطلق على غيرنا، فالله جل ذكره يقول عنّا نحن المسلمين: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [(143) سورة البقرة]، إننا نقف وسط الخط من غير إفراط ولا تفريط، وعندما يطلق العالم الكافر هذا المصطلح علينا فإنه لا يطلقه على فرد في المجتمع وإنما يرمي به جماعات ومجتمعات وحركات عريضة، وعلماءَ أجلاّء، وقادة أفاضل، ورموزاً طاهرة، قادت الأمة إلى الجهاد في الليل الحالك لترفع سيف الاستعمار الآثم، والصهيونية المجرمة، والشيوعية المقبورة، والصليبية الحاقدة عن رقاب الأطفال، ولتصون أعراض المسلمات في كل بقاع الدنيا من عدوان الصهاينة والصليبيين. لقد أصبحنا في العالم الإسلامي نردد ما يقوله الغرب والشرق عنّا من التطرف والغلو والتشدد، ونستخدم مثل هذه المصطلحات ضد إخواننا وأبنائنا ممن ساروا مع قافلة الصحوة، وتشبثوا بأهداب هذا الدين الحنيف وما ذلك إلا تنفيذاً لكل ما لقنته لنا الهيئات الاستعمارية حول كون تلك الحركات والجماعات والمنظمات متطرفة متعصبة أصولية إرهابية، فسِرْنا وراءهم بحماس يفوق حماسهم، سرنا وراءهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، ولو دخلوا جحر ضب لدخلناه وراءهم، كما قال رسول هذه الأمة - عليه الصلاة والسلام -. لماذا قامت الدنيا ولم تقعد في فرنسا عندما ارتدين بعض الطالبات المسلمات اللباس الإسلامي؟ وبدأ الإعلام الآثم يمارس سياسة التحريض ضد الإسلام والمسلمين، ويصورهم على أنهم وحوش هذا العالم، وصار الخطاب عن التطرف الإسلامي والإرهاب الديني، أين هو التطرف؟ إننا لم نشاهد هذا الزخم الإعلامي، ولم نرقب مثل هذه التحذيرات المرعبة، ولا طرقت أسماعنا الأحاديث المفزعة عن الإرهاب والتطرف والهمجية عندما خاضت سكاكين الصرب في بحور الدماء في البوسنة والهرسك، إدارات المدارس والوزارات والحكومات والهيئات الشعبية هناك، كلها وقفت تنادي بطرد العرب والمسلمين، واليهود والنصارى دقوا الطبول؛ لأن اللحن أعجبهم، الكل صار يهتف بنغْمة متناسقة تنادي بوقف التطرف الديني. لماذا لم نسمع شيئاً والصهيونية اليوم تمارس أبشع أنواع التطرف الديني على أرض فلسطين، ويُبيح لنفسه قتل الأطفال والنساء والشيوخ من منطلق ديني. فالسؤال: هل التطرف كما صوره وتَحَدّثَ عنه الإعلام الأوربي من لبس فتيات للحجاب في مدارس فرنسا؟ أم التطرف عندما قَصفت الصواريخ والطائرات المدنيين في أفغانستان تحت مسمى عودة الحرب الصليبية من جديد؟ أين الإعلام الغربي كله عن هذا التطرف؟. يُحتقر الإنسان الأسود في أمريكا وتصل المعاملة في بعض الأحيان إلى حد القتل، لا لذنب سوى أن لونه أسود، ذلك هو التطرف، وتلك هي الجريمة والإرهاب والهمجية في عالم يدعي الحضارة واحترام الإنسان! وإذا أردت أن تدرك بعض المفارقات المضحكة فاعلم بأن البيض الأمريكان يصورون عيسى عليه السلام على أساس أنه أشقر ذو عيون زرقاء، والسود الأمريكان يصورونه على أساس أنه أسود! أليس هذا هو التطرف في الدين؟. إن أولئك الذين يحاولون جاهدين السير بقانون الله في الناس ليسوا متطرفين، وإنما هم بررة فضلاء أطهار زكاهم ربهم وأنِس إليهم الناس، رغم الجهود المبذولة لعكس المصطلحات وتجريم الأبرياء وتبرئة المجرمين! إن "هتلر" لسان حال ألمانيا النازية كان يقول وبصراحة: "الشعوب الشرقية يجب أن لا تعيش، وإذا قُدّر لها أن تعيش فيجب أن تُدرَّب كما تدرّب الكلاب الصغار!" إنه التطرف وإنها العنصرية والحيوانية والهمجية والبهيمية، إنها صفاتهم، وأما نحن المسلمون فلا نقول إلا كما قال ربنا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [(13) سورة الحجرات]، إنه اعتدال المسلمين ووسطية الإسلام. إن اليهود في فلسطين، والصرب في البلقان، والبوذيون في بورما، والهندوس في الهند وكشمير، والشيوعيون في جمهوريات آسيا الوسطى خصوصاً في تركمانستان وطاجيكستان والشيشان، كل هذه الملل وغيرها تمارس القتل والذبح والاغتصاب والتصفية العرقية، وكل ما هو محرّم إنسانياً وحيوانياً، يمارسون ذلك ضد المسلمين في طول الأرض وعرضها، لا لشيء سوى أنهم مسلمون، تحت مظلة الحماية التي توفرها لهم الأمم المتحدة ممثلة بالدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن، والتي تشكل عصابة تروج للانحراف والجريمة، والتخطيط الآثم للاعتداء على المسلمين وإذلالهم، وهتك أعراضهم والزج بهم في أتون الفضيحة الكبرى فقط لأنهم مسلمون! إذن مَن هم المتطرفرن دينياً؟ ولماذا يسكت العالم وسدنة النظام العالمي الجديد؟ إن سكوت العالم يعتبر نوعاً من أخطر أنواع التطرف الديني، بل يعتبر تطرفاً سافراً وعنصرية منحطة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً قط، عندما يُطلب من المسلمين الانصياع وبالعصا لمقررات صِيغت بأقلام المستعمرين، وذُيلت بختم الأمم المتحدة يُكافَأ اليهود والنصارى والهندوس والشيوعيون على قفزها فوق مقررات المنظمة الدولية!. ونحن لا ننكر وجود أفراد وطوائف وجماعات جانبت الصواب في بعض الجوانب وأصبح لديها شيئاً من الغلو، لكن يجب أن يُعلم بأن الغلو في الغالب هو رد فعل لفعل خاطئ سواء كان في حقيقة الأمر أم من وجهة نظر الغالي، فالرجل الذي اعترض على قسمة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين غلا وخرج على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - لظنه أن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - جور وظلم. ولو أردنا أن نتعرف على بعض الأسباب التي بسببها حصل شيء من الغلو عند من يطلق عليهم أنهم متطرفون لوجدنا أن في مقدمته غياب شرع الله عن الحكم في معظم ديار المسلمين، ثم تأتي بقية الأسباب: من غربة الإسلام وتعاليمه في كثير من الديار، وتغيبه عن الساحة في جوانب الحياة المختلفة مما يُشعر المسلم بالغربة، وهذه الغربة تعمل عملها في نفسية المسلم. ومن الأسباب: ترك المجال لكثير من الأقلام المأجورة تهزأ وتسخر من الدين، وأهله عبر مقالات في طول العالم الإسلامي وعرضه، وأيضاً: انتشار الفساد والتحلل الخلقي فنتيجة للسماح للتيار الغربي أن يكتسح ديار المسلمين انتشرت المباذل، وتحلل كثير من الناس من القيم الأخلاقية، وانتشرت الفواحش، ولا يملك الصالحون القدرة على التغيير، وأيضاً: سوء الأوضاع الاقتصادية مما قد يسبب الانفجار لدى البعض، ومن الأسباب: غياب دور العلماء في كثير من الأصقاع، والتخلي عن مهامهم وعدم التصدي لقضايا الأمة الكبار. والأسوأ انحراف بعضهم والعياذ بالله باحتراف العلم، حيث اتخذوه مهنة ولم يتخذوه رسالة، وقد يستثمر البعض التدين فيما يحقق له المصالح والمنافع الشخصية، ولا سيما في المجتمعات التي تحترم الدين وأهله مما يجعل الشخص يسعى إلى كسب ثقة الناس ومودتهم من خلال التظاهر بالدين، أو المبالغة في التمسك ببعض جوانبه فيما يبدو للناس. وغيرها من الأسباب التي تولد العديد من التصرفات الخاطئة. ومع كل هذا فينبغي أن يُعلم بأن ظاهرة التدين في ديار المسلمين ليست ظاهرة عابرة يمكن وأدها بسياط الترهيب أو التحريف، بل هي ظاهرة متأصلة في ديارنا، متجذّرة في شعوبنا، نعم! ربما تنجح السجون في قهر الشعوب وتحطيم كرامتها، لكنه نجاح هزيل عابر لا يصمد طويلاً أمام قوة الإيمان وصلابة أهل القرآن، ولهذا نذكِّر أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم بالبغي والعدوان بقول الحق جل وعلا: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} [(75) سورة مريم]. أن العلمانيون لا يرون شيئاً في الإسلام يمكن أن يطلق عليه اعتدالاً، فالإسلام والتطرف لديهم مترادفان أبداً. إن التيار العلماني يعتبر المتديّن خارجاً من دائرة الثقافة، واصطلحوا على أن المثقف لا بد أن يجعل الدين وراءه ظهرياً، مع أن الثقافة في لغة المعاجم تقوم على أركان: من أهمها العلم والدين. ولذلك فإنه بإمكاننا أن نحكُم على الثقافة بالمفهوم الحالي أنها في أزمة قاتلة. لقد حاول هؤلاء المثقفون جهدهم إنشاء تلك الفرقة والقطيعة بين العلم الطبيعي والدين، غير أن علماء الطبيعة أنفسهم كذبوا هذه العلاقة وبينوا أن ميادين الفكر التي لا تزال تبحث عن موضوع لها لا يمكن اعتبار نتائجها إلا وهماً وسراباً، وذلك عندما تكون هذه النتائج تتصادم مع حقائق العلوم الموضوعية. ولنا أن نقدم بعض الشهادات لأكبر علماء الطبيعة في هذا العصر هديةً إلى أولئك العلمانيين المثقفين الذين لم يأخذوا من الثقافة الغربية غير الكفر الذي يسمونه تنويراً: يقول الفيزيائي والفلكي الإنجليزي آرثور ستانلي: "إن الفيزياء الحديثة تقودنا بالضرورة إلى الله، ولا تبعدنا عنه، ولم يكن أي مخترع للإلحاد عالماً طبيعيّاً، بل كانوا جميعاً فلاسفة أنصاف معتدلين جدًّا". ويقول الإنجليزي "روثر فورد" الحائز على جائزة نوبل سنة 1901م: "وأيضاً العالِم النـزيه الذي كشف بعضاً من جوانب الوجود، لا ينبغي أن يكون مرتاباً في الله، إنه لتفسير خاطئ في الأوساط المتخصصة، أي: إن العالم الذي يعرف عن الوجود أكثر من غيره يتوجب عليه أن يكون بلا رب، العكس هو الصحيح تماماً". ويقول الفيزيائي الأمريكي أرثور الحائز على جائزة نوبل سنة 1927م: "بعيداً عن هذا جدّاً أن تكون في نزاع مع الدين، فقد تحول العلم إلى حليف للدين، فمن خلال فهم أفضل للطبيعة نتعرف بشكل أفضل أيضاً إلى الله، وإلى الدور الذي يجب أن نلعبه في مسرحية الكون". أين العلمانيون من هذه النقولات؟ إن هذه الحضارة المعاصرة لها جذور دينية من غير شك رغم إنكار هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالمثقفين لهذه الحقيقة الدامغة، سواء أنظرنا إليها مظاهر وصوراً، أو أصولاً وقواعد فكرية، فمن حيث المظاهر لنأخذ ثلاثة أمثلة: من آسيا نأخذ اليابان، ومن أوروبا بريطانيا والدول الاسكندنافية، ومن أمريكا الولايات المتحدة، وهذه الدول هي الأكبر والأكثر تقدماً ومدنية، فسنجد أن اليابان دولة متديّنة وأن اليابانيين الذين برزوا على غيرهم في العلوم الإلكترونية المعقدة يتدينون بالخرافات، ومنها اعتقادهم أن الإمبراطور هو من أبناء وسلالة الآلهة، إضافة إلى أن الراية اليابانية ترمز إلى تلك الخرافات الدينية البدائية. وأما بريطانيا فإن الصليب هو شعار رايتها وكذلك الدول الاسكندنافية كلها، ولا تزال الملكة في بريطانيا تركب العربة التي تجرها الأحصنة، ولم نسمع بأحد من المثقفين يقول بأن الملكة متخلفة. وأما الولايات المتحدة فيكفي للدلالة على توجهها الديني الرسمي ما هو مكتوب على ورقة المئة دولار عبارة "نثق بالله" ورؤساء الولايات المتحدة كما تقدم يحرصون دائماً على ارتياد الصلوات في الكنائس الأمريكية. وأما عندما ندرس أصول هذه الحضارة الغربية فإننا نجدها مرتكزة على أسس دينية، وهذا عكس ما هو متداول عند هؤلاء الذين يدّعون أنهم مثقفون. وأما المسلمون بوضعهم الحالي فإنه ليس لديهم ما يدخلون به إلى القرن القادم ولا يملكون من الأشياء المادية والنظريات العلمية ما يجعلهم يساهمون في صياغة الاستراتيجية القادمة، إلا أنهم في الحقيقة يمتلكون شيئاً هو أسمى من كل هذه الماديات والتقنيات المذهلة، إنهم يملكون هذا الدين الإسلامي العظيم الذي تفتقر إليه المدنية الغربية، وبعبارة أخرى إنهم يمتلكون دواءً خطيراً من شأنه أن يعالج مشاكل الإنسان التي تقوده إلى الشقاء والانتحار والبؤس المعنوي، إنهم باختصار يمتلكون قوة المستقبل. ولنتساءل هل حققت المدنية الغربية بوضعها الراهن سعادة الإنسان؟! إننا نشعر دائماً بأن العلم وتطبيقاته قد انحرف عن وظيفته الإنسانية المتمثلة في خدمة قضايا الإنسان من حيث هو إنسان، بل إننا نجد شياطين الفكر الغربي وفلاسفته قد وضعوا للناس مُسَلّمة هي: أن العلم والدين ضدان لا يلتقيان، فإما أن نأخذ بتلابيب الدين ونتمسك به فنبقى في تخلف دائم، وإما أن نترك الدين لكي نرقى في سلم المجد والرقي المادي والتقنية لنصل إلى درجة من الرفاهية تمكننا من تلبية رغباتنا وشهواتنا إلى أبعد الحدود، ولكن النتيجة والثمرة التي وعد بها هؤلاء الشياطين تخلفت بل كانت وبالاً وخسراناً، ففي غياب من الدين تسبب العلم والاستغلال المتوحش للتكنولوجيا في تلويث الطبيعة، وصار الإنسان في بعض المناطق من كوكب الأرض لا يجد الهواء النقي لكي يتنفسه، وفي غياب من الدين ظهر الظلم في أبشع صوره متمثلاً في استعمار شعب بغرض نهب ثرواته، وبعيداً عن توجيهات الدين صارت المرأة مفتولة العضلات كالرجل، وفقد الإنسان بالتالي إنسانيته وهو أغلى ما يمتلكه، وليس غريباً إذن بعد هذه الكوارث أن يتوجه الإنسان بتساؤلات عن قيمة هذا الوجود الذي طغت عليه المادة والفكر المادي، وعن الغاية التي يمكن أن يصل إليها بعد هذا البُعد عن قضايا الإنسان الأساسية. وبعبارة إسلامية: البعد عن الفطرة التي فُطر الناس عليها، فالتدين فطرة لا محيد عنها ومن لم يعبد ربه فقد يعبد نفسه. وبعد هذه الصدمة أدرك الإنسان المعاصر أن الدين هو الدواء الوحيد الذي لا مناص من استعماله لعلاج هذه الأمراض التي تفتك بالروح والجسد معاً، وليس أيّ دين بل الإسلام، والإسلام فقط، قال الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [(85) سورة آل عمران]. لقد أصبحت قضية فصل الدين عن الدولة، أو ما يسميه الغربيون فصل الدولة عن الكنيسة، من القضايا المسلَّم بها في الفكر الغربي السياسي، ومن ثم في الفكر السياسي العالمي الدائر في فلك الحضارة الغربية. ودعاة فصل الدين عن الدولة قد يعترفون بأن هذا أمر حدث لظروف تاريخية خاصة بالحضارة الغربية وبالديانة النصرانية، لكنهم مع ذلك يرون أنه أصبح أمراً لازماً لكل دولة حديثة، ويسوِّغون هذا بأن الأساس في الدولة الحديثة هو المواطنة. ويرون لذلك أن تكون الدولة دولة علمانية محايدة لا تلتزم بالدين ولا تحاربه ولا تنكره، بل تترك أمره للمواطنين يختارون ما شاؤوا من عقائد، ويلتزمون بما يريدون من قِيَم، ويمارسون ما يروق لهم من عبادات، فالسؤال هل هذه الافتراضات صحيحة؟. إن العلمانية يمكن أن تكون محايدة بالنسبة لكل الأديان، لكنها لا تكون كذلك إلا إذا كان مجال الدين مختلفاً عن مجال الدولة، أي إذا كان الدين والدولة يعيشان في منطقتين مستقلتين لا تماسَّ بينهما، وأن يكون الدين محصوراً بطبعه في بعض المعتقدات وبعض الشعائر التعبدية، وبعض أنواع السلوك الشخصي الذي لا علاقة له بتغيير واقع الناس، ولا يدخل لذلك في مجال الدولة، لكن الواقع أن هذا الوصف لا ينطبق على أي من الأديان الكبيرة المشهورة: الإسلام واليهودية والنصرانية، فما منها إلا وله حكم في العلاقات بين الجنسين وفي العلاقات الأسرية والاجتماعية، وفيما يحل أكله وشربه وما يحرم وهكذا، وكلها أمور تدخل بالضرورة في مجال الدولة. بل إن العلمانية اليوم لم تعد محايدة بين الأديان بل صارت هي نفسها ديناً يدافع عنه أصحابه ويحاربون به سائر الملل. وأخيراً: فمن العجب أن الكثير من المخلوقات عدا ابن آدم قد كمُلت في تدينها وعبوديتها لله جل شأنه، وخضوعها له، وذلِّها لقهره وربوبيته وألوهيته، إلاّ بعض المخلوقات العاصية كالشياطين وعصاة الجن وبعض الدواب كالوزغ الذي قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم)). إليك بعض صور التدين عند بعض المخلوقات: فهذا الديك مثلاً يدعو للخير والفلاح، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا الديك فإنه يدعو إلى الصلاة)) [رواه أحمد وأبو داود]. والفرس، قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس من فرسٍ عربيٍّ إلا يؤْذَن له مع كل فجر يدعو بدعوةٍ يقول: اللهم إنك خوّلتني من خوّلتني من ابن آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه)) فيقول : ((إن هذا الفرس قد استجيب له دعوته)) [رواه الإمام أحمد]. وأما النمل، فتلك أمةٌ من الأمم المسبحة لله سبحانه، مع صغر خلقتِها وهوان حالها وازدراء البشر لها، وهي التي قال الله عنها: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } [(18) سورة النمل]، هذه النملة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها: ((قَرصت نملةٌ نبياً من الأنبياء، فأمر بقريةِ النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أنْ قَرَصَتك نملة أحرقتَ أمةً من الأمم تسبِّح لله؟)) [رواه البخاري]. وأما الشجر، فقد قال الله عنه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [(6) سورة الرحمن]، وروى ابن ماجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا)). وأما ولاءُ الحجر والشجر للمؤمنين ونصرتُه لدين الله حينما يستنطقه خالقه فيُنبئ عن عمق عبوديته لربه وغيرته على دينه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال عنه: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله)) [رواه البخاري]. فانظروا إلى هذه المخلوقات الآنفة، إضافةً إلى الجبال الراسيات والأوتاد الشامخات، كيف تسبح بحمد الله، وتخشع له، وتشفق وتهبط من خشية الله، وهي التي خافت من ربها وخالقها، إذ عرضَ عليها الأمانةَ فأشفقت من حملها، وكيف أنه تَدكْدك الجبل لما تجلى ربنا لموسى عليه السلام، فهذه هي حال الجبال، وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتُها وخشيتها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر الله أنه لو أنزل عليها القرآن لتصدعت من خشية الله. فيا عجباً من مضغةِ لحم أقسى من صخر صلب! تسمعُ آيات الله تتلى عليها ثم تصرُّ مستكبرة كأن لم تسمعها! كأن في أذنيها وقراً! فهي لا تلين ولا تخشع! ولا تهبط ولا تصدّع! ولو وعظها لقمان أو تليت عليها آيات القرآن! ولكن صدق الله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [(46) سورة الحـج]. ويؤكد الباري - جل شأنه - حقيقةَ عصيان بعض بني آدم من بين سائر المخلوقات، واستنكافَهم أن يكونوا عبيداً لله الذي خلقهم وفطرهم، فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [(18) سورة الحـج]، فدل على أن أكثر بني آدم عصاةٌ مستكبرون ضالون، كما قال سبحانه: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [(116) سورة الأنعام]، {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [(13) سورة سبأ]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [(103) سورة يوسف]. إن الله جل وتعالى قد أودع في بعض الجمادات من الغيرة على دينه والتأذي من انتهاك ابن آدم لحرمات الله سبحانه، ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريحٌ ومستَراحٌ منه)) فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح؟ وما المستراح منه؟ قال: ((إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)) [رواه البخاري]. انظروا كيف يتأذى الشجر والدواب من الرجل الفاجر وما يحدثه في الأرض من فساد وتخريب، وإعلانٍ لمعصية الله تعالى، والتي لا يقتصر شؤمُها على ابن آدم فحسب. وفي مقابل ذلك فإن بعض الدواب تفرح بالتديُّن، وتشعر بأثره في ابن آدم، وببركته على وجه الأرض، ولذلك فهي تدعو له، وتصلي عليه، وتستغفر له، فقد روى الترمذي في جامعه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلُّون على معِلّم الناس الخير)). إنه لا سبيل لك يا عبد الله لتنال هذه الفضائل إلا بالتدين. فهذه ثلاث عشرة وسيلة تساعدك على ذلك: 1- الرفقة الصالحة: إن الانضباط مع الرفقة الصالحة من الأسباب القوية والمعينة على التدين، فحامل المسك إما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيباً. 2- العلم الشرعي: إن الاتصال بكتب العلم والكتب الإيمانية تحيي القلب وتساعد على التدين، فهناك أنواع من الكتب يحس القارئ بأنها تستثير في قلبه الإيمان وتحرك الدوافع الإيمانية الكامنة في نفسه، وعلى رأس هذه الكتب: كتاب الله تعالى وكتب الحديث، ثم كتب العلماء المجيدين في الرقائق والوعظ الذين يحسنون عرض العقيدة بطريقة تحيي القلب، مثل كتب العلامة ابن القيم وابن رجب وغيرهما. 3- فقه الدين: وتعلم الأحكام المهمة التي لا يستقيم دين المرء بدونها، فإن الجهل بمسائل الشرع والدين وما يترتب على ذلك من العقاب والجزاء من أسباب بعد صاحبها عن الدين. 4- الاستمرار في العبادة: وهذا أمر عظيم، وأثره في تقوية الإيمان ظاهر وكبير، المواصلة والاستمرار في العبادة، فلا تكن موسمياً تقبل في المواسم وتنقطع في غيرها، عليك بالاستكثار من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها لتعيش معظم أوقاتك في أجواء الدين. 5- النظر في موعود الله: لمن تمسك بدينه واستقام على شرعه، وأعظم موعود الله جنة عرضها السماوات والأرض، إضافة إلى رضى الرحمن والنظر إلى وجه الكريم الديان. 6- حفت الجنة بالمكاره: فالجنة دخولها مشروط بتحمل المكاره، والتدين يكون في بدايته تحمل مكاره وقبض على الجمر، ثم يتحول بعد ذلك لذةً وسروراً. 7- التدبر في سير المتدينين: وكيف عاشوا حياةً كريمة، وخُتمت لهم بخاتمة حسنة، ونالوا رضى الله ورضى الناس. 8- العيش في البيئة النظيفة: من أكبر المعوقات وجود الإنسان في وسط يعج بالمعاصي، فهذا يتباهى بمعصية ارتكبها، وآخر يترنم بألحان أغنية وكلماتها، وثالث يدخن، ورابع يبسط مجلة ماجنة، وخامس لسانه منطلق باللعن والسباب والشتائم وهكذا، أما القيل والقال والغيبة والنميمة وأخبار المباريات فمما لا يحصى كثرة. كيف يريد أن يتدين والجو مليء بالفيروسات؟! فعليك يا أخي بالدخول في الأجواء الإيمانية فإن هذا مدعاة للتدين. 9- البعد عن فتن الشهوات والشبهات: فإن ضررهما على الدين لا نهاية له ولا حد. 10- العزلة الإيمانية: والانقطاع عن الناس لبعض الوقت، والتفرغ لأداء بعض العبادات في جوٍ بعيد عن صخب الناس. 11- تعظيم الله تعالى: إن استشعار عظمة الله - عز وجل - ومعرفة أسمائه وصفاته والتدبر فيها وعقل معانيها واستقرار هذا الشعور في القلب وسريانه إلى الجوارح مما يعين كثيراً، فالقلب ملك الأعضاء وهو سيدها، فإذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت. 12- كثرة المحاسبة: محاسبة النفس مهمة في تجديد الإيمان، يقول الله - عز وجل - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [(18) سورة الحشر]. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا". وقال ابن القيم - رحمه الله -: "هلاك النفس من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها". 13- التخفف من التعلق بالدنيا وشهواتها: إن التعلق بالدنيا والشغف بها والاسترواح إليها إلى درجة أن يحس بالألم إذا فاته شيء من حظوظها كالمال والجاه والمنصب والمسكن من أخطر الأمور على دين الرجل، ويعتبر نفسه سيئ الحظ، ويحس بألم أكثر إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا. والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . . |
جزاكـ الله خيـــرا ً
|
بارك الله فيك اخي,,,
دمت بخير.. |
الساعة الآن +4: 08:05 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.