بريدة ستي

بريدة ستي (http://www.buraydahcity.net/vb/index.php)
-   ســاحـة مــفــتــوحـــة (http://www.buraydahcity.net/vb/forumdisplay.php?f=2)
-   -   سيرة رجل يحبه قلبك (7) (http://www.buraydahcity.net/vb/showthread.php?t=1151)

ابو ياسر 03-12-2001 06:08 AM

سيرة رجل يحبه قلبك (7)
 
اعتراف سعودي
في تلك الأثناء كانت الحكومة السعودية قد اعترفت بطالبان فيما يعتقد أنه محاولة إحراج لطالبان للتعاون معها في قضية أسامة. ذهبت الحكومة السعودية شوطا أبعد حين أرسلت تدعو كل أعضاء حكومة طالبان والملا عمر شخصيا للحج و العمرة وتستضيفهم كضيوف رسميين. بل إن أحد الشخصيات الرئيسية في حكومة طالبان وهو محمد رباني رئيس الوزراء زار المملكة فعلا لآداء الحج لكن يبدوا أن "حسن الضيافة" لم تغير من مواقفه ولا مواقف حكومته. لم يتغير موقف طالبان من أسامة وردت بأدب عدة وفود أرسلتها الحكومة السعودية تفاوتت بين دبلوماسين ورجال أعمال وأقارب أسامة وشخصيات استخباراتية.
أسامة طرف في الحرب الأفغانية
تطور آخر حصل في تلك الأيام أدى إلى رفع أسهم أسامة عند الطالبان وهو تغييره موقف الحياد الذي التزم به في خلافات الفصائل الأفغانية واتخاذه قرارا بالدخول بقوة مع الطالبان ضد دوستم ووجه أوامر لرجاله بالقتال مع طالبان. وبعد أن أصر شاه مسعود أن يدخل طرفا في الحرب استصدر أسامة فتوى من طلبة العلم المرافقين له فتوى بأن قتال مسعود جهاد شرعي. كان لهذا القرار دور مهم في مساعدة الطالبان حيث إن طالبان لم يكونوا رتبوا أنفسهم بعد ، وكل انتصاراتهم الأولى حصلت تقريبا دون قتال بسبب حرص الناس عليهم وتنازل القواد الميدانيين لهم ، أما دوستم ومسعود فقواتهم أكثر تماسكا لأنهم أقنعوا أتباعهم أن الحرب عرقية وليست دينية وساعد على تماسكهم اعتماد دوستم على الاوزبك ومسعود على الطاجيك وسعى مسعود ودوستم إلى إقناع أتباعهما أن طالبان ليسوا إلا بشتون يريدون السيطرة عليهم. أضف إلى ذلك أن العالم الغربي لم يشعر بخطورة طالبان إلا بعد سقوط كابل وحمايتهم لأسامة ودعا ذلك إلى أن يحظى مسعود ودوستم بدعم سخي من روسيا وأمريكا وتركيا وإيران وجهات أخرى. كاد الطالبان أن ينهارون بعد أن واجهوا هذه القوات المنظمة المدعومة والمتماسكة وفي مرتين على الأقل كانت الكتائب التابعة لأسامة هي التي ردت تلك القوات عن كابل فحفظها له الطالبان وارتفع سهمه عندهم.
قضية أخرى رفعت أسهمه عندهم هو تفريغه عدد من الشباب المتخصصين لمساعدة الطالبان في قضايا التخطيط والإدارة والتنمية للدولة الجديدة ، حيث إنه رغم تواضع المجموعة التي مع أسامة ألا أنها بالنسبة لطالبان كانت فريقا من أساتذة الجامعات.
محاولة اختطاف أخرى
لم ييأس الامريكان وحلفائهم من محاولة الإمساك بأسامة. وبعد أن تبين أن إقناع الطالبان مستحيل فكر الأمريكان مع الباكستانيين والدولة الثالثة بإعداد خطة لخطف أسامة عن طريق عملية كوماندز منطلقة من الأراضي الباكستانية.
بدأ التدريب على العملية في نهاية ربيع عام 1997 على أن يتم التنفيذ في بداية الصيف وتم التكتم على العملية بشكل شديد لكن بسبب دخول باكستان طرفا فقد كان حفظ السر مستحيلا لأن المخابرات العسكرية الباكستانية فيها تعاطف كبير مع أسامة. تسرب الخبر لأسامة وجهات عربية أخرى فبادرت بتسريبه للصحافة فانفضحت الخطة الأمريكية وألغيت. الأمريكان لم يعترفوا بالقصة ابتداء ولكن اعترفوا بها بعد ذلك وأوعزوا إلغاء الفكرة إلى الخوف من وفيات في صفوف الأمريكان.
علماء طالبان مع بن لادن
في نهاية عام 1997 وبداية 1998 قرر أسامة أن يستعيد نشاطه فبدأ أولا مع علماء طالبان وباكستان. نجح أسامة في استصدار فتوى من حوالي أربعين عالما من علماء أفغانستان وباكستان تؤيد بيانه لإخراج القوات الكافرة من جزيرة العرب. وزعت الفتوى على نطاق واسع في باكستان وأفغانستان وسربت للصحافة حيث نشرت مقاطع منها جريدة القدس العربي.
كان أسامة يهدف لشيئين من هذا البيان ، الأول : مشروع إسلامي شامل لتجييش لعلماء المسلمين ضد الوجود الأمريكي في جزيرة العرب على أساس أن هذه التوقيعات ستجمع من جهات وبلاد أخرى ، والثاني : الحصول على غطاء أدبي وشرعي له داخل أفغانستان لأنه قرر إعادة التحرك إعلاميا ولا يريد أن يصبح في موقف الضعيف مع ملا عمر.
الجبهة الإسلامية العالمية
صادف هذا التطور -أو ربما كان من أسبابه أو من نتائجه و الله أعلم- تجمع عدد من قيادات الجماعات الإسلامية وخاصة جماعة الجهاد المصرية في أفغانستان وتقاطر عدد كبير من الوفود من باكستان وكشمير على أسامة. أحد هذه القيادات تمكن من إقناع أسامة بتوسيع مفهوم الحرب مع أمريكا إلى قتال لها في كل مكان. وتوسعت القناعة لتشمل بدلا من مقاتلة أمريكا قتل كل أمريكي في سن القتال في كل زمان ومكان ومعهم اليهود. الذين أقنعوا أسامة بالفكرة وضعوا لها مبررين شرعي وسياسي.
مبررهم أو المخرج الشرعي هو أن الأمريكان يحتلون بلاد الحرمين ولذلك فإن كل أمريكي يعتبر داعم لاحتلال الجزيرة العربية، وبما أن الأمريكان واليهود يقاتلون المسلمين في كل مكان وزمان ويستبيحون دم المدنيين من المسلمين فإن قتل الأمريكان واليهود مشروع أيا كان الزمان والمكان.
المبرر السياسي هو أن أمريكا أصبحت العدو الأول للإسلام وصارت تتربص بالمسلمين والجماعات الإسلامية الدوائر ولم يعد هناك قوة تنافسها ولذا فإن من الضروري أن يشعر المسلمون أنهم أعداء لأمريكا وأن تتحول هذه القضية لقضية إسلامية أولى في كافة أنحاء العالم الإسلامي.
تحولت القناعة إلى عمل وذلك من خلال إصدار بيان الجبهة الإسلامية العالمية في فبراير عام 1998 الذي يدعو إلى قتل الأمريكان واليهود في كل مكان وزمان. وقع البيان مع بن لادن عن جماعة الجهاد المصرية الدكتور أيمن الظواهري ورفاعي طه أحد مسئولي الجماعة الإسلامية المصرية كما وقعه رئيس أحد الفصائل الكشميرية وأحد القيادات الباكستانية المشهورة. وزع البيان و نشرته الصحافة وكان علامة تحول كبيرة بالنسبة لأسامة من عدة نواحي.
أولاً : مثل هذا البيان القفز إلى مشروع عالمي بدلا من التركيز على قضية القوات الأمريكية في جزيرة العرب.
ثانياً : مثل هذا البيان ما اعتبره البعض تخليا عن الحذر الذي كان يحرص عليه أسامة في الموقف الشرعي والإصرار على توسيع دائرة إباحة الدم.
ثالثاً : دخول أسامة لأول مرة كطرف في ما يشبه تحالف إسلامي من الجماعات الجهادية بعد أن كان يعمل مع مجموعته ويرفض التحالفات المعلنة مع إقراره لفكرة التعاون والتنسيق دون حلف معلن.
خلاف مع ملا عمر
لم يكن ملا عمر راضيا عن هذه النشاطات واعتبرها خرقا للالتزام الأدبي الذي كان بينه وبين أسامة في لقائهما المذكور. أرسل الملا عمر لأسامة يستفسر عن الذي حصل فكان رد أسامة أن الظروف التي كانت سببا للهدوء الإعلامي قد انتهت ولا داعي للاستمرار في الصمت واستخدم أسامة ورقة العلماء لتقوية موقفه وذلك لأن العلماء لدى طالبان لا يرد كلامهم رغم احترامهم جميعا للملا عمر. غضب الملا عمر لكن كظم غيظه وحاول الاستمرار في إقناع أسامة بالصمت. بدلا من الصمت اتخذ أسامة موقفا تصعيديا ودعا إلى مؤتمر صحفي في حدود شهر مايو 1998 رتب له سراً في منطقة قرب الحدود مع باكستان في ضواحي خوست ودعي له عدد محدود من الصحفيين. إضافة لذلك فقد كان أسامة أعطى مقابلة مطولة لمحطة ِABC الأمريكية قبيل المؤتمر بأيام. في المؤتمر وفي المقابلة أشار أسامة إشارة إلى احتمال حصول حوادث ضد الأمريكان خلال فترة قصيرة ولم يحدد أين.
أرسل الملا عمر إلى أسامة مرة أخرى يعترض على ما حصل و يطلب منه تفسيرا. لم يكن لدى أسامة أي أسلوب يقنع به الملا عمر إلا العلماء وفعلا رد عليه إنه يقبل بتحكيم العلماء. رفض الملا عمر الفكرة ليس عدم اعتبار للعلماء لكن منعا لفتح هذا الباب بحيث كل ما بدا لشخص أن يتمرد يقول نحتكم للعلماء. توترت العلاقات بين الرجلين لكن الملا عمر الذي كان يستطيع منع أسامة من النشاط الإعلامي فضل التحمل والاعتماد على الإقناع إلى أجل مسمى.
السفارات الأمريكية تتفجر
بعد تصريحات بن لادن بأنه سيضرب خلال أسابيع بقي الأمريكان في حالة ترقب وقد استعدوا في حالة تأهب قصوى ضد أي هجمات ولكن كل استعداداتهم كانت في المنطقة العربية والخليج و إلى حد ما القرن الأفريقي. وبينما الأمريكان في كامل التأهب أتتهم الضربة في الموقع الذي لم يتحسبوا له، سفاراتهم في كينيا وتنزانيا وذلك حين نسفت السفارتين شاحنتين ممتلئتين بالمتفجرات يوم السابع من أغسطس 1998 .
ولربما يكون من الأهم التعليق على التناول الغربي للقضية سواء من خلال جهات مسؤولة أو من خلال الإعلام ومراكز البحوث، بدلا من محاولة الغوص في حقيقة الانفجار، لأن آثار هذا الحدث سياسيا وأمنيا واستراتيجيا أهم من نفس الحدث، ويبدو أن انعكاسات مثل هذه الأحداث أهم من ذات الأحداث نفسها لما لها من تأثير خاص وطبيعة خاصة. رغم الحذر الذي ورد على لسان الناطقين الرسميين الأمريكان في وقتها عن اتهام جهات محدودة فإن الجهات الإعلامية والخبراء السياسيين والمصادر الرسمية التي ترفض ذكر اسمها تبرعت بكمية كبيرة من التعليقات والمعلومات والتحليلات التي تساعد في دراسة انعكاسات هذا الحدث. وعند تأمل ما صدر عن تلك الجهات تأملا عميقا يلاحظ الآتي:
أولا: كانت الحركات الإسلامية أو ما يسمى في الغرب بالأصولية الإسلامية في مقدمة المتهمين، بل إن كل الجهات الأخرى مثل إيران والعراق وليبيا استبعدت بسهولة وتحدثت جهات كثيرة عن الشيخ بن لادن وجماعة الجهاد المصرية، وأشير بشكل كثيف إلى تهديدات بن لادن في مقابلة مع محطة ABC الأمريكية بضربة خلال أسابيع، كما أشير إلى بيان جماعة الجهاد الذي نشر في جريدة الحياة قبل يومين من الانفجار، وربط بين بن لادن والجهاد المصرية من خلال بيان الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين الذي كانت تلك الجهتين من بين الموقعين عليه.
ثانيا: أعادت تلك التفجيرات فتح ملف انفجار الخبر ولم يعلن عن المسؤولين عنه لحد ذلك التأريخ. ولوحظ للمرة الأولى في الصحافة الأمريكية بالنسبة لمسؤولين أمريكان أن أمريكا تعتبر بن لادن مسؤولا عن انفجار الخبر بل وحتى عن انفجار الرياض. وكانت المصادر الأمريكية في السابق تكتفي بالتشكيك بالرواية السعودية عن تورط شيعة وإيران، وتشير إلى احتمالية وجود معارضة داخلية مسؤولة عن انفجار الخبر.
ثالثا: لوحظ في التعليقات الصحفية والدراسية أن الحادثين ربطا بالوجود الأمريكي في المنطقة عموما وفي المملكة خصوصا وربطا بسياستها مع إسرائيل والعراق ودعمها للحكومات في المنطقة وتعاونها في القبض على مطلوبين من الإسلاميين وتشجيع اعتقال آخرين. من جهة ثانية بدا لهذه القضية أهمية من خلال إحراج الأنظمة العربية المتعاونة مع أمريكا في سياستها ضد الإسلام، حيث ساد شعور لدى تلك الأنظمة أن هؤلاء الجهاديون تجاوزوهم إلى أسيادهم الأمريكان، بمعنى أن لديهم من القدرات اللوجستية أكبر من مجرد مواجهة تلك الأنظمة، وهذا فيه درجة عالية من الإحراج.
ومع كثرة القرائن على مسؤولية جهات إسلامية معينة عن الحادث إلا أن الجهات المعروفة لم تعلن مسؤوليتها عن الحادث، ولم يخرج رسميا إلى العلن إلا بيان ما يسمى "بالجيش الإسلامي لتحرير المقدسات"، وهو اسم غير معروف من قبل، لكن محتوى البيان يربط مباشرة بالجماعات التي اجتمعت حولها القرائن. فالبيان هاجم السياسة الأمريكية وطالب بمغادرة القوات الأمريكية لجزيرة العرب وطالب بإطلاق سراح الشيخ عمر عبد الرحمن وذهب البيان أبعد من ذلك في تحديد هوية من أصدره بالمطالبة بإطلاق سراح المشايخ المعتقلين في سجون المملكة من أمثال الشيخين آنذاك سلمان وسفر. ولربما تكون الجماعات التي تنفذ مثل هذه الأعمال فهمت آنذاك أن الرسالة يمكن إيصالها دون تبني العمل علنا، فالأمريكان والأنظمة العربية عرفوا من خلا ل القراءة المخابراتية للبيان من يقف خلف القضية، وأما الجمهور فيكفيه أن يقرأ المطالب في البيان دون معرفة الجهة، وإذا كان هناك ما لا تريد هذه الجماعات أن يربط بها من آثار سلبية للحادث فإنها تكون قد تخلصت منه من خلال عدم تبني الحادث بشكل صريح ومعلن.
الاستنتاج الأخير الذي لابد من الإشارة إليه أن الجهات الإسلامية التي يعتقد أنها خلف الحادثين قد أثبتت من خلال الحادثين أن لديها القدرة اللوجستية والفنية والبشرية على تنفيذ الحادث، وأنها استطاعت استغلال عنصر المفاجأة إلى أقصاه، وأنها استطاعت كذلك التنسيق بين الحادثين وبكمية تدمير هائلة.
الأمريكان يردون
لم يتحدث بن لادن علنا بل نقل عنه –نقلا- نفي مسؤوليته عن الانفجار. لكن يبدو أن الأمريكان كان لديهم استنتاج آخر توصلوا إليه منذ الأسبوع الأول بعد الانفجار وهو أن بن لادن مسؤول مائة بالمائة عن الانفجارين سواء اعترف أم لم يعترف. وبناء على تلك المعلومات المزعومة قام الأمريكان بعمليتهم المشهورة في ضرب السودان وأفغانستان. حيث انهالت على السودان وأفغانستان عشرات صواريخ كروز موجهة لضرب هدفين محددين في السودان وأفغانستان. لكن هل كان الرد الأمريكي ذكيا؟
نظرة ثاقبة في القضية تظهر أن أمريكا أصبحت تنفذ دون أن تشعر أجزاء من فقرات برامج الجماعات الجهادية، ولعل من تقدير الله أن تضاعفت فضائح كلينتون في تلك الفترة حتى يتدخل هذا العامل في توقيت الضربة الأمريكية، ومن ثم تتحول الضربة الأمريكية إلى عامل من عوامل تنامي الغضب والعداء ضد أمريكا في العالم الإسلامي، وهو عين ما تريده الجماعات الجهادية.
مثل ما استدرجت أمريكا صدام لاحتلال الكويت، وأعطت إشارات سياسية وعسكرية تشجع صدام على دخول الكويت من أجل أن تبرر إنزال وبقاء قواتها وهيمنتها في المنطقة فقد نجحت الجماعات الجهادية في استدراج أمريكا لهذه الضربة لتحقيق ما كانت تتطلع إليه هذه الجماعات من تجييش للرأي العام الإسلامي ضد أمريكا وإثبات ندية هذه الجماعات لتلك القوة العظمى، ومن ثم تبرير صراع طويل المدى مع أمريكا بعد هذا التجييش، بغض النظر عن صحة أو خطأ تلك السياسة.
لقد كانت الضربة الأمريكية بكل تفاصيلها من حيث التوقيت ونوعية الهدف والطريقة والكمية دليلا على ارتباك وسوء تقدير من قبل الأمريكان، ولا يمكن استراتيجيا أو سياسيا أو عسكريا تفسير هذه التفاصيل. وإذا لم تكن فضيحة كلينتون مع مونيكا وراء هذا التصرف فلا تفسير آخر إلا غلبة العنجهية والغرور على التخطيط والدراسة والحكمة.
بالنسبة للتوقيت لم تعلن أمريكا قبل الضربة اتهاما صريحا لابن لادن ولم تكن لتستطيع ذلك إلا بعد شهور من التحقيقات، وحتى بعد الضربة استمر المحققون من الكينيين والأمريكان يرفضون توجيه أصابع الاتهام لأحد، ولقد دأبت أمريكا دائما قبل حالة كينيا وتنزانيا على أن لا توجه ضربة إلا بعد أن تحصل على أدلة دامغة ولا تكتفي بالقرائن، ولا يمكن توفير هذه الأدلة الدامغة خلال أسبوعين فقط من حادثي كينيا وتنزانيا. ثم أن مسألة الوقت هامة كذلك لتهيئة الرأي العام العالمي للقبول بفكرة الضربة ـ على الأقل جزئيا ـ وهذا كله لم يحصل. ولذلك فقد كانت الضربة محرجة جدا لحلفاء أمريكا في المنطقة العربية والإسلامية. قارن مثلا بين هذا الاستعجال في توجيه الضربة وبين رفض أمريكا توجيه ضربة لإيران لحد الآن بحجة عدم وجود أدلة مع إن مزاعم السعودية عن الدور الإيراني في الخبر أقوى من أدلة أمريكا عن دور بن لادن في كينيا وتنزانيا.
أما بالنسبة للأهداف التي اختارتها أمريكا فقد كانت أهدافا مضحكة بل مخجلة، ولقد تبين بعد الضربة مباشرة أن اختيار هذه الأهداف عاد بالكارثة على أمريكا. فمثلا زعمت أمريكا أن مصنع الأدوية في السودان يستخدمه بن لادن لإنتاج السلاح الكيميائي أو على الأقل مقدمات للسلاح الكيميائي، وزعمت كذلك أن اختيار الهدف جاء بناء على معلومات استخباراتية مؤكدة. ومن المعلوم أن اتخاذ قرار بمثل هذه الضربة يعني أن الأمريكان يثقون بتقارير الاستخبارات تلك إلى درجة أنهم يتجاوزون كل المحاذير الخطيرة في هذه العملية. وهذا يعني أنه إذا استطاع السودان أن يثبت أن المصنع لا يتجاوز دوره كمصنع أدوية حقيقي-و هو ما حصل- فسوف تضرب مصداقية المخابرات الأمريكية وتضرب كذلك كل التبريرات الأمريكية لأي ضربة قادمة حيث تتابعت التحليلات عن هذا المصنع إلى أن تبين أن لا دخل له بابن لادن.
لكن بغض النظر عن دعوى المخابرات فقد كانت الضربة الأمريكية خطأ مركباً. فمن جهة كانت خرقا لدولة ذات سيادة وهذا مناقض لما يسمى بالقانون الدولي والأعراف الدولية وأساليب الأمم المتحضرة كما هي لغة أمريكا نفسها ، وهي قيم تزعم أمريكا أنها حريصة جدا على احترامها. من جهة أخرى كانت الضربة الأمريكية مفاجئة للسودان، حيث لم تصدر أي إشارات سابقة من أمريكا بوجود مثل هذا النشاط في المصنع بل أن أمريكا خففت لهجتها كثيرا ضد السودان خلال الفترة السابقة للضربة مما أعطى انطباعا بأن أمريكا آيست من ربط السودان بما تزعمه أمريكا من الإرهاب. وعلى كل حال يعلم كل المتابعين للحركات الجهادية عموما وبن لادن خصوصا أن علاقاتهم مع السودان قطعت تماما وأن هذه الجماعات غير راضية عن الحكومة السودانية وأنها تعتبرها قد تخلت عن واجب ديني لأجل دفع تهمة الإرهاب، بل أن بعض التيارات الجهادية تذهب إلى أبعد من ذلك فتصنف السودان مثل مصر والسعودية.
أما الهدف الذي ضرب في أفغانستان فهو كذلك من الأدلة على غباء أمريكي فادح في معرفة الفرق بين الدول والجماعات الإسلامية الجهادية وكذلك الفرق بين أفغانستان والعراق وليبيا. فمن المعلوم أن الجماعات المسلحة لا تعمل مثل الجيوش بمراكز خاصة للقيادة والاتصالات أو مراكز الدعم اللوجستي والذخيرة وهي أهداف تساعد في شل الجيوش إن ضربت بدقة. أما الجماعات الجهادية في أفغانستان فتجدهم أما في خندق أو نفق أو كهف أو خيمة بين الشجر، والعارفون بالوضع في أفغانستان استغرقوا في الضحك على تسمية المسؤولين الأمريكان للهدف المضروب بــ"البنية التحتية لابن لادن". وعلى كل حال فقد كان معظم أتباع بن لادن في أفغانستان موجودون حينها في شمال أفغانستان يحتفلون مع طالبان بانتصاراتهم على دوستم. هذا مع أن عددا كبيرا من اتباع بن لادن ومؤيديه خارج أفغانستان حيث يعلن بعضهم عن وجوده في اليمن والصومال وباكستان والآخر لا يعلن عن وجوده. ولذلك فما يسمى بالبنية التحتية تهويش ومحاولة لإقناع الرأي العام الأمريكي الجاهل فقط.
من جهة أخرى فإن ضرب أفغانستان من قبل أمريكا أخطر من ضرب السودان لأنه بمثابة إثارة وإغضاب للطالبان وإدخالهم في المعركة ضد أمريكا. ويبدو أن الأمريكان قارنوا أفغانستان بالعراق وليبيا ورأوا أثر الصواريخ هناك فتوقعوا نتيجة مشابهة مع أفغانستان وحصل العكس، حيث أن الأفغان عموما وطالبان خصوصا ينحون إلى التحدي والمواجهة بدلا من الانصياع والخوف، وهذا ما جعل ملا عمر زعيم الطالبان يقسم وقتها بأن يدافع عن بن لادن ولو اجتمعت على حرب طالبان دول العالم. ويبدو أن الأمريكان تضرروا ضررا إضافيا وغير متوقع في استهداف أفغانستان حين تبين أن معظم الضحايا من المجاهدين الباكستانيين في كشمير، وهذا ما دفع زعيمهم لأن يعلن على الملأ في مؤتمر صحفي أنه يعلن الحرب على أمريكا إضافة إلى الهند.
الطريقة التي عرض بها الأمريكان الضربة إعلاميا ورسميا كانت هي الطريقة التي تستميت من أجلها الجماعات الجهادية، وهي إظهار تلك الجماعات عموما وبن لادن خصوصا كخصم وند حقيقي لأمريكا وكقوة استطاعت أن تجبر أمريكا على التصرف بارتباك وتخبط. بن لادن لم يعد ذلك الشخص الذي تظهره بعض القنوات الأمريكية والغربية وتجادل من أجل الإقناع بأنه قوة يحسب حسابها، بل أصبح الآن البعبع الأول لأمريكا حسب تصريحات الرئيس الأمريكي والمسؤولين الأمريكان أنفسهم، ولقد شاهد الملايين في العالم الرئيس الأمريكي ووزير الدفاع ورئيس الأركان يحرصون على ذكر أسامة بن لادن في خطبهم وأجوبتهم للصحافة من أجل تبرير الضربة. هذا التصوير وتلك الطريقة أعطت زخما قويا للمحسوبين على التيار الجهادي وخاصة أتباع بن لادن و رفعت معنوياتهم و أشعرتهم كما لو كانوا قوة عظمى في مواجهة أمريكا، بل بدت تلك الضربات المستعجلة الخاطئة بمثابة دليل لهم على أنهم أفقدوا أمريكا صوابها فأصبحت تتخبط ولا تدري أين تضرب.
أما بالنسبة للرأي العام العربي والإسلامي فالقصة ليست بعيدة، حيث يعيش الناس أزمة بطولة وأزمة تضحيات وهم في انتظار من يشبع الشعور بالانتقام والتحجيم لأمريكا وإرهابها كما أرهبت المسلمين وضايقتهم في فلسطين والعراق والجزيرة وأفريقيا وتركيا وأماكن أخرى، ولذلك فقد كان منظر المسؤولين الأمريكان وهم يعترفون من خلال تلك الضربات بارتباكهم وخوفهم من بن لادن، كان ذلك بمثابة إشباع لهذا الشعور ورفع شعبية بن لادن، خاصة أن بن لادن ليس ممن يمكن أن يتهم بالعمالة مثل خصوم أمريكا المزعومين من حكام الدول العربية، فهذا الرمز الجديد تاريخه مختلف تماما عن تاريخ أولئك الزعماء أمثال القذافي وصدام، وإذا أعلن مواجهة أمريكا فلا يشك أحد في صدقية هذا الإعلان. وقد لوحظت هذه الآثار عمليا بعد الضربة حيث لم يعد من الحرج الأمني في كثير من البلاد العربية التصريح بالإعجاب بابن لادن وتأييده، أما في باكستان والمشرق الإسلامي فقد تجاوز الناس مجرد الإعجاب إلى اعتباره قائدا ومخلّصا للأمة الإسلامية من هيمنة الأمريكان، وخرجت المظاهرات بصوره المرفوعة هناك.
مما ينبغي معرفته كذلك أن الذين عاشوا مع بن لادن والمجاهدين العرب ومن تمكنوا من مقابلة بن لادن حتى من غير المسلمين يثبتون حقيقة هامة وهي أن هذا الرجل والمنضوين للجماعات الجهادية يعتبرون الموت في حربهم مع أمريكا من أعظم الأماني، ولذلك فلا يمكن اعتبار هذه الضربات ذات أثر في تخويف أو إرهاب تلك الجماعات، فلقد عاشوا سنين طويلة تحت القصف الروسي والشيوعي وخاضوا معارك كثيرة وشرسة مع الروس وغيرهم إلى درجة أنهم أدمنوا على هذه الأصوات ويجدون صعوبة في النوم بدونها كما يصفهم أحد الذين رافقوهم.
خاسر آخر في هذه المعمعة هو الحكومات العربية التي تعيش تحت كنف أمريكا، فلقد بدت هذه الحكومات حقيرة صغيرة بين قوتين عظميين أمريكا وبن لادن. وكأننا بتلك الحكومات عاشت حرجا شديداً أمام هذه الضربات الأمريكية فلا هم الذين أمكنهم تأييدها فيثبتوا العمالة المطلقة، ولا هم الذين أمكنهم استنكارها فيظهروا اعترافا غير مباشر بابن لادن. ولقد تبينت هذه المشاعر في الإعلام السعودي من خلال التجاهل الكامل من قبل التلفزيون والإذاعة و الصحافة الدخلية في المملكة حيث أورد خبر الضربات مقتضبا دون أي إشارة لابن لادن. أما الصحافة السعودية في الخارج التي لا يمكن أن تتجاهل بن لادن، فقد سمح لها بذكر بن لادن بشرط أن لا يوصف بأنه سعودي.
طالبان من جهتهم شعروا بعد الانفجار الأول وقبل الضربة الأمريكية بحرج شديد ولكن الأمريكان أنقذوهم من الحرج من خلال الضربة الغبية خاصة وأن الضربتين تزامنت مع دخول الأفغان العرب الذين يتبع معظمهم بن لادن مع طالبان في معركتهم ضد دوستم في شمال أفغانستان وكان لهم دور كبير في القضاء الكامل على دوستم بعد أن كان الهجوم الأول من قبل طالبان لوحدهم غير موفق. وخلال تلك الفترة حاول الأمريكان مرة أخرى التفاوض مع طالبان حول بن لادن ورفض الملا عمر التفاوض معهم، وعندها اكتفوا بإرسال رسالة للملا عمر يشرحون فيها مطلبهم وهو حرص الولايات المتحدة على أمنها وأمن مواطنيها وأن ذلك هو سبب حديثهم مع طالبان، واكتفى ملا عمر بالرد عليهم بأنهم إن كانوا جادين في طلب الأمن لأنفسهم فليخرجوا من العالم الإسلامي وخاصة جزيرة العرب.
التكملة بالحلقة الثامنة والسلام عليكم

راشد الراشد 03-12-2001 05:36 PM

ابو ياسر
 
<P><FONT color=#0000cc size=7>مشكور على الموضوع وعلى المعلومات وتسلم وماقصرت وننتظر المزيد من يا رائع يا مبدع يا متالق</FONT></P>


الساعة الآن +4: 04:46 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.