(( سياط العقول ))


إن من الحكمة في الخطاب أن يوجه على حسب مقتضى الحال في لغة الموجه إليه حتى يؤتي ثماره ويعود بالنفع على الجميع , وإنه من الخطأ الفاحش أن يكون المخاطِب لا يعي قدر المهمة التي سيقوم بها وأكبر منه أن يجهل اللغة التي توصله إلى مايريد لأنه طبعا وعرفا سيعود عليه بالضرر وعلى المخاطب بالعناد والتكبر . .
وإن من البدهي أن اللغات تتغير والأجناس تتنوع ولكن يبقى في الأخير مع هذا التنوع وهذا التغير أن لغة العقل هي الحجة وأن القناعة ليست قناعة حتى تُدَعَّم بالدليل والبرهان , وإن قناعة تُتَبنى بفعل السياط لهي قناعة مركوكة سريعة الزوال حتى ولو طال بها الزمن فبمجرد نزول السوط تنزل تلك القناعة تلقائيا ..!
إن الحجج هي سياط العقول ولم تكن العقول لتقاد بالضرب والتضييق والتاريخ شاهد وكتب التاريخ مليئة بمثل هذه الأخبار كقصة الغلام الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصته وأنزلت بسببه وسبب قومه سورة تتلى إلى يوم القيامة هي سورة البرج وما أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وتضييق الكفار عليه وعلى أصحابه قبل الهجرة إلا دليل على هذا وجمع من العلماء ممن جاء بعدهم كأحمد بن حنبل وفتنة القران المشهورة وشيخ الاسلام ابن تيمية وسجنه وأخباره في السجن متسفيضة أشهر من أن تذكر وغير ذلك الكثير . .
وإن الدعوة بسياط العقول هي أسلوب انتهجه القران في دعوة الكفار والمشركين فهو إذا منهج رباني سار عليه القران وعمل به محمد عليه الصلاة والسلام وهو من الشرف بمكان أن يسير عليه كل داعية ومربٍ ومصلح كيف لا وهو أسلوب القران وأسلوب سيد الأنام الذي أثبت نجاحه أمام أعظم الناس عداوةً لهذا الدين وأمام أضل خلق الله ممن عبد الحجر والشجر وكم أذعن له من متجبر لما ضرب عقله بهذا السوط القوي السريع المفعول والأخبار في هذا أكبر من أن تحصر ونكتفي بذكر نماذج لها ومنها :
ذكر الله تعالى للحوار الذي دار بين إبراهيم عليه السلام وبين الذي حاجه في ربه لما قال له إبراهيم إن الله يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت فمباشرة ضربه نبي الله عليه السلام بالحجة الدامغة فقال إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت وخنس وخسر وأي حجة كهذه الحجة وأي تحد كهذا التحدي ..!
ومن ذلك ضرب الله لمنكري البعث المثل بالزرع وبداية الخلق ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه ..! ) ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) ..,
ومن ذلك مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بمثل هذا الأسلوب لما سأل أحد المشركين كم تعبد قال سبعة قال من لرغبك ولرهبك قال الله وبدأ يحاجه حتى قال اترك هذه الأصنام واعبد الله وحده ..!
وهذا ما سار عليه العلماء والمصلحون بعده كالشافعي لما جاءه من يحاجه في عدم دخول العمل بمسمى الإيمان قال الشافعي ومادليلك قال قوله تعالى (( الذين آمنوا وعملوا الصالحات )) فالواو هنا تفيد التفريق فمباشرةً سأله الشافعي وهل ترى أن الواو تفيد التفريق قال نعم قال الشافعي إذاً أنت تعبد إلهين فالله يقول (( رب المشرقين ورب المغربين )) فماكان منه أمام هذه الحجة القوية سوى الإذعان والرجوع أمام الملأ . .
ومما جرى لأحمد في الفتنة لما استدل مستدلٌ على خلق القران بقوله تعالى (( إنا جعلناه قرآنا عربيا )) والجعل الخلق فمباشرة يرد عليه الإمام بقوله تعالى (( فجعلهم كعصفٍ مأكول )) فهل الله خلقهم كعصفٍ مأكول . . فلم يصح المناظر من هذا السوط حتى أعلن رجوعه وتوبته ..!
ولو تتبعنا مثل هذه الأخبار لطال بنا المقام ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق ..!!
إن القناعات المبنية على حجج قوية ومتينة لا بد أن تكون صلبة أمام العواصف صعبة الإنقياد والتزحزح لا تضرها شبهه ولا تغيرها قوة ولذلك قدم من قدم روحه دفاعا عن مبادئه وقناعاته فحيت هذه المباديء بعد أن أسقاها بدمه وأحياها بروحه ..!
وإننا وإذ نرى اليوم كثرة النكوص على الأعقاب والتساهل في تغيير المباديء والقناعات لنؤمن إيمانا يقينا أن أهم سببٍ لذلك هو الإلزام بالمبدأ من دون حجة وبرهان وإجبار المتلقي على تبني منهجٍ معين بقوة السوط والتضييق , لذلك سهل التراجع عن تلك المباديء..!
إن المربي معلما كان أو والدا مهمته مخاطبة العقل وإن العقل لا يقاد بالسياط إنما يقاد بالحجة والحجة فقط ..!