حريق الشائعات
بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان الخطبة: ( الشَّائِعَاتُ: أَسبَابٌ وَآثَارٌ وَعِلاجٌ )
5/8/1423هـ
د. صالح بن عبد العزيز التويجري
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .. أما بعد:
أيُّها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والعمل بما يحبه ويرضاه، ألا وإن من تقوى الله مراقبة النفس، والتعرّف على دوافعها حين الفعل وحين التّرك، فكم جرَّ الهوى إلى الهوان، وقد يجتهد الإنسان بصناعة المعاذير والتفلّت من المحاسبة والعقاب، والله تعالى يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.
عباد الله: جعل الله الأمة الوسط شاهداً على أحوال الناس، فالعدول الخيار من هذه الأمة هم المؤتمنون على تقويم المجتمعات، ومدى قربها من الحق وبعدها منه، وفي الوقت نفسه قد تجد من ينصب نفسه طبيباً معالجاً وليست لديه أدنى مقوّمات التشخيص والعلاج.
قال الخبراء النَّصَحة إن الخواء الفكري والفراغ النفسي وإهمال التربية الصحيحة، والانسياق وراء شبهات العقل، وشهوات النفس، واعتياد الناس على اللهو واللعب وعدم الجدّ في الأمور جعلهم فريسة للشائعات، ومرتعاً خصباً لمروجي الأكاذيب، ودعاة التهويل والتضليل والتلاعب بالمشاعر حين كانت معظم مجالسنا وكالات أنباء غير موثّقة، فلا ضوابط للإلقاء ولا للتلقي، فشحنت النفوس بكل خبر مثير أو قصة غريبة، وقام البعض من المجلس كل يمارس أسلوبه في النشر والإضافة والحذف دون تروٍّ أو تبين وتثبت، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}. قال ابن كثير رحمه الله: "إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبرُ بها، ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحَّة، ثم ذكر ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"، وهل علم المفتري بالوعيد الشديد كما في حديث سمرة بن جندب عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يقصُّ حديث الرؤيا الطويل: "أما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدوا من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق" أخرجه البخاري.
عباد الله: ولكم أن تتساءلوا ما أسباب مرض الشائعات وما هي عوامل انتشاره؟ وما هي آثاره وجناياته، وما الطرق المثلى لعلاجه والتخلُّص منه، فأقول عن الأسباب ما يلي:
أولاً: ضعف الإيمان حتى بلغ الحال بأناس يفترون الكذب ويقتحمون سور الفجور، وإنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون؛ بل هي أقبح صفات المنافقين "إذا حدّث كذب" متفق عليه، كما هو الوصف المعصوم لحقيقتهم.
ثانياً: الحرمان من وسائل التعبير سواء الإعلامية أو الخطابية، فحين لا يجد الإنسان وسيلة آمنة يعبر بها عما يريد فإنه يلجأ إلى التنفيس عن نفسه وما صور الكتابة في شبكات الإنترنت أو الحيطان أو حمامات المساجد أو رسائل الجوال إلا نماذج يتنفّس من خلالها المحرومون من التعبير، وإن كنا لا نوافقهم على كل ما يقولون ولنا عليهم بعض المؤاخذات .
ثالثاً: الحجر على العقول والتحفظ على معلومات تهم الناس أو الشخص، والتعتيم على الحقائق، فهذا التكتم يحمل الناس على البحث عن وسائل لاستخراج المعلومات، ومنها التكهّن والاتصالات والشائعات، بحثاً عن إجابات تطمئنه على أهم ما يتعلق به أمناً أو خوفاً، غنىً أو فقراً، صحةً أو مرضاً، وهكذا حتى يتخبّط الناس في أمرمريج وحينها يضطر صاحب القرار أو راعي الدار إلى الإعلان عن حقيقة الأمر، ولكن بعد فوات الأوان وتعلق الناس بالأوهام التي لا تنقشع إلا بعد لأي، وطول عناء.
رابعاً: ومن أسباب الشائعات القضايا الكيدية سواء بين الشركات أو الأشخاص والمؤسسات، فتلك الشركة تشيع عيباً في مصنوعات شركة أخرى منافِسة أو مؤسسة غذائية تدعي أن غذاءً معيناً يسبب مرضاً أو منتهِ الصلاحية، أو شخص يكنّ لآخر بنشر الشائعات حوله وسوء الظن بمقاصده وأهدافه، ويضلُّ المجتمع ألعوبةً لهذا الاستفزاز، ومطيةً لنقل جراثيم الخصومات، "وبئس مطية الرجل زعموا" أخرجه أحمد وأبو داود.
خامساً: ومن أسباب الشائعات، الحماسُ غير المنضبط لقضية من القضايا، فتتحوَّل الأماني والآمال والطموحات إلى شائعات، وحبُّ الشيء يعمي ويصمّ، ويحول بين الإنسان واستجلاء الحقائق، فكم هي أخبار المعارك وحصائد الحروب، وكم هي الأماني والمكتسبات حين ينجلي الضباب، وهي مهرب نفسي أمام واقع لا يرضاه الإنسان ولا يستريح له.
سادساً: ومن أسبابها الولع بالغرائب والشعور بالنقص إذ هناك من ضعاف النفوس والعقول من يعشق رواية الغريب حتى ولو نفرت منه العقول، وهو حين ينقل ذلك يجد له مكاناً عند بعضنا ممن يزجّون أوقاتهم سخية بها نفوسهم لاستماع هذا النمط من الحديث الملفق، وهو في الحقيقة استهانة بالعقول، وتجرئة للسفهاء بتصدر المجالس بالكذب والزور، ومن تتبع غرائب الأخبار كُذِّب، "ومن حدَّث بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" أخرجه أحمد. بارك الله لي ولكم في القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى المستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
أيُّها المسلمون: فبحكم اختلاط المجتمع الإسلامي بطوائف مختلفة المستويات في الإيمان والولاء والتربية والتعليم والمقاصد والأهداف راجت كثيرٌ من الشائعات، وساهم بعضنا في نشرها عن وعي وبغير وعي أحياناً. فماذا حصدنا من الشائعات وما هي الصور القاتمة التي انعكست على المجتمع جرَّاء التمكين لها ولأهلها.
إن تضليل الآخرين ولبس الحقائق يعرض صاحبه للويل واللعن، فكم هم الذين مُنوا بخيبة أمل عند إفلاس الوعود، وصحاح الأخبار معالم على طريق السالكين، ولعن الله من غيَّر منار الأرض. أما فقد الثِّقة بين الناس، والشك في مصادر المعلومات حملهم على رد الصحيح لكثرة الأخبار الملفَّقة، ومن جرَّب الناس عليه كذباً فلن يكون محلاً للثقة بعد. ومن شؤم الشائعات القلق والريبة وعدم الاستقرار، فإن مشاعر الناس وعواطفهم تحوَّلت إلى سوق رائجة، فهم مرة يرهبون بالحروب الوهمية أو الأمراض الفتاكة أو الفقر، وأخرى بالوعود الكاذبة والأماني الطائلة، وهكذا. وكما قيل: وخوف الفقر فقر، كما أن خوف الموت موت، وكلمة واحدة أو فلتة لسان تجر على الشخص ذاته أو على أمته عواقب لا تخطر له على بال.
عباد الله: ومن مفاسد الشائعات على المجتمعات أنها تشوِّه المجتمع، وتجني على مقدَّرات الأمة وحقوق الأشخاص، ولا تسأل عن الصور التي تركتها الشائعات عن بلد أو شخص، وإن زالت الشبهة بعد ذلك، ونحن في زمن تطورت فيه أساليب النشر والتواصل وعن طريق مفتاح واحد لجهاز الإنترنت تنشر في العالم كله وفي لحظة واحدة ما تريد عن بلد أو شخص، أو قضية، وهذا مجال واسع للأدعياء في نشر كيدهم، وتشويه المجتمعات المسلمة بتصويرها على غير ما هي عليه.
ومن ذلك خلخلة الصفِّ، وتفريق الكلمة، وذهاب الوحدة والقوة، وهذا من شأن سعاة الفتنة من المنافقين بين المسلمين في المحن والأزمات، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}، والإيضاع هو الإسراع في نقل الكلام على جهة الإفساد، فكم تثبطت الهمم، وقتلت العزائم، وفُرقت الصفوف بسبب المسارعة في نشر الشائعات .
ومن حصائد الشائعات الندم والحسرة، فيا ترى ما هي حال الذين سارعوا في نشر الإفك، وكان يسعهم الظن الحسن بالمؤمنين، {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ}، وقـال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، وكل منا يسأل نفسه، وليكن صريحاً هل كنت يوماً ناقلاً متعجِّلاً، وما مقدار ندمك حين تكشف الأمر بخلاف ما تقول أو تظن، ومن هم الذين خسرتهم من رصيدك وهم أوفياء ولا زالوا على الولاء، وقد كسرت جسر التواصل معهم لوحشة ما نقلت:
فَلا تَقُلْ القَولَ ثم تُتبِعَهُ
بِلَيتَ مَا قُلتُ كنتُ لم أَقُلِ
عباد الله: ومهما قلنا عن مقاصد مروجي الشائعات ووسائلهم التي يستخدمونها فإن المجتمع المكون مني ومنك يتحمل جزءاً من المسؤولية عن ذلك، وله دور في محاربة وتقليل نشر الشائعة، فهل تصنع ما فعله عمر رضي الله عنه حين بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم طَّلق نساءه جميعاً، فجاء حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فاستفهمه: أطلقت نساءك؟ فقال: لا، فقال: الله أكبر ". أخرجه مسلم. فنـزلت الآية: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}، قال عمر: فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وهو استخراجه من معادنه. كما قال ذلك ابن كثير رحمه الله.
ومن وسائل محاصرتها مطالبة الراوي، وناقل الخبر بالمصدر الذي نقل عنه فإن جهالة المصدر مُسقط لقيمة الخبر، وتلحق الناقل معرّة الكذب، ولئن استساغ بعضهم السِّرعان من الناس اختلاق الشائعات فإن عليك أخي المسلم أن ترفض جعل نفسك راحلةً لنقلها، ومن مآسي الناس في هذا الشأن كون أحد رجال السند أو نقلة الخبر ثقةً أو وسيطاً صالح، وهذا لا يعطي الشائعة حقاً في القبول؛ بل لا بد من معرفة المصدر الذي نشأت فيه وولد الخبر منه، لئلا تفقد المصداقية، أو تفجع الناس بأخبار يشمت بها المتصيّدون ويفرح بها من شرِق بالصحوة، أو أن نضع في فم كاشح حجة.
ومن دورنا في درء كارثة الشائعة الاعتراف بالخطأ، وهي أولى خطوات تجاوز الأزمة، فإن المغالطة والتمويه تكرس تجديدها، وتزيد من تفاعلها فالمسؤول مع زملائه، والأب مع أولاده، والزوجة مع زوجها، وكل في مجاله، يُرغب إليه في مواجهة الحقيقة، والتخلص من قلق المغالطة، "فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" أخرجه أحمد والترمذي، وبهذا نقطع الطريق على الظنون ونسج الخيال حول التصرفات، ولئن وجدت النفوس سلوتها في تكذيب ما لا يروق لها واختلاق الشائعات حوله إلا أنها في النهاية ترضخ لسلطان الحقيقة القاهر وحيلة التملَّص من مواجهة الحقائق، فاربأ بنفسك عن فاحشة الكذب التي حرَّمها الإسلام، وأنف منها مشركو العرب.
فهذا يخفي سفراً مباحاً، وذلك يقطع مكالمة بريئة، والآخر يتكتّم على معلومات قابلة للنشر وعلاقات شريفة. ومن ذلك الوضوح في تصرفاتنا، وفتح الفرصة لمن حولنا ليعبروا عما بداخلهم وهم مطمئنون من المصادرة أو التشنيع لنكتشف الخطأ قبل استفحاله، ونعالج المرض قبل انتشاره، فإن القمع والإرهاب يحملان المحيطين بك على ممارسة الكذب والتمويه خوفاً من البطش، وينسجون الشائعات لتخفى حقائق التصرفات.
والمجتمع الواعي لا يسمع لمرضى القلوب أن يعبثوا بطمأنينة واستقراره، وإنها المأساة أن نحاصر الصراحة مع مجتمعنا وأهلنا، وتظل الخواطر والمشاعر حبيسة النفوس ثم نفاجأ بها نزيفاً يُكتب على ورقات الاعتراف في السجون أو المحاكم أو دور الإصلاح أو الارتماء إلى الخصوم، قال المتنبي :
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً
شرقت بالدمع حتى كاد يشرقُ بي
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار. اللهم ارزقنا اتباعه ظاهراً وباطناً، اللهم توفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، وأدخلنا في شفاعته، واسقنا من حوضه، واجمعنا به في جنات النعيم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح ولاة أمرنا، وارزقهم البطانة الناصحة الصالحة.
__________________
1) الملاحظات.
2) اقتراح موضوع خطبة مع دعمه بوثائق أو مراجع.
الرجاء التواصل عبر البريد الإلكتروني:
saleh31@gmail.com
حفظكم الله ...
|