..
لقد أشارت أحد الأخوات إلى كلمات شيخ الإسلام التي يتحدث بها قلبه المؤمن قبل لسانه ، و له من المواقف العجيبة ما يحار الإنسان من أيها يتخار و ينتقي ، و هؤلاء هم بقية السلف في إيمانهم و عزيمتهم فقد نقل عنه تلميذه ابن القيم أنه قال : " في الدنيا جنة - يعني جنة الإيمان - من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة " و لما عظمت عليه المحنة و اشتد به الكرب و ضاقت الدنيا بأحبابه و طلابه ، حتى أن خادمه إبراهيم بن أحمد يقول : " فلما كان بعد صلاة العصر وقفت أبكى ، فقال لي الشيخ : لا تبك ، ما بقيت هذه المحنة تبطىء ، فقلت له أفتح لك في المصحف ؟ فقال افتح ، فطلع قوله تعالى : { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } ، فقال افتح في موضع آخر فطلع قوله تعالى : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } ، فقال افتح آخره ، فطلع قوله تعالى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } . فلما صلينا المغرب بقي يدعو بدعاء الكرب ، و أنزل الله عليه من النور و البهاء و الحال شيئا عظيماً كأن وجهه شمع يجلوه مثل العروس " .
و إنك لتعجب من قول ابن القيم حينما قال عنه : " و لما دخل القلعة - السجن - و صار داخل سورها نظر إليه فقال : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } ، و علم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشا منه قط ، مع ما كان فيه من ضيق العيش و خلاف الرفاهية و النعيم ، و مع ما كان فيه من الحبس و التهديد و الإرجاف ، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشا ، و أشرحهم صدراً ، و أقواهم قلباً ، و أسرهم نفسا ، تلوح نضرة النعيم على وجهه .
و كنا إذا اشتد بنا الخوف و ساءت منا الظنون ، و ضاقت بنا الأرض أتيناه ، فما هو إلا أن نراه و نسمع كلامه ، فيذهب عنا ذلك كله ، و ينقلب حالنا انشراحا و قوة و يقينا و طمأنينة " . انتهى كلام ابن القيم .
والله لا يملك الإنسان نفسه وهو يتحدث عن إمام كهذا ، و لعلك ترجع إلى موضوعي [ دائما و أبداً أنت على خير ] ، و تتأمل في رسالة هذا الإمام إلى أهله ، و هو في غياهب السجن .
اللهم إنا نسألك برد عفوك ، و لذة مناجاتك .
أعتذر عن الإطالة .