ثانياً : مطالبة الناس حكوماتهم - أو عدم ممانعتهم - لإنقاذ الإقتصاد الأمريكي حتى تسلم استثماراتهم وممتلكاتهم ، فأمريكا تريد اقناع الشعوب في العالم بتبني ما ستفرضه على بعض الحكومات من ضخ سيولة في اقتصادها ، وأمريكا فعلاً أمرت بعض الحكومات الخليجية بضخ سيولة في اقتصادها ، ولن يكون هناك اعتراض لأن الناس اقتنعوا بأن عافيتهم تكمن في شفاء الإقتصاد الأمريكي .. إن مثل هذا التدخل ليس في صالح البلاد الأخرى ، لأن الإستثمار في بلادها أولى وأكثر فائدة لاقتصادها ، ولو لم تكن هذه الحكومات مستعبدة لسحبت استثماراتها من أمريكا الآن وبأقل الخسائر واستثمرت هذه الأموال في بلادها لبناء البنى التحتية وإنشاء المصانع والمؤسسات الحيوية ، فينتعش اقتصادها وتترك الإقتصاد الأمريكي للأمريكان ينقذونه من غباء إدارتهم وحمقها ، ولكن العبيد لن يسحبوا هذه الإستثمارات التي بدأ اليابانيون والصينيون بسحبها من أمريكا ..
هل من الممكن أن يتعافى الإقتصاد الأمريكي ؟
الجواب : إذا تركت أمريكا مغامراتها الخارجية وركّزت على مشاكلها الداخلية فإنها قد تتعافى اقتصادياً في غضون سنوات قليلة ، وهي لا تحتاج إلا إلى ضخ سيولة في اقتصادها ، وهذه السيولة يجب أن تذهب للقنوات الصحيحة وليس للشركات والبنوك الكبرى كما تفعل الإدارة الأمريكية الآن ، وهو ما حذّر منه بعض الإقتصاديون في أمريكا ، فإذا فعلت الحكومة الأمريكية القادمة هذا ، وضخت السيولة في مشاريع تخلق فرص عمل وتشغّل الشركات والمصانع ، وتوجد مصادر دخل حقيقية ملموسة للشعب – غير الربا الذي هو حبر على ورق – عندها سيتعافى الإقتصاد الأمريكي ، هذا إذا أوقفت مغامراتها الحربية الخاسرة في العراق وأفغانستان ..
إن علاج المشكلة الأمريكية سيحتاج إلى سنوات ، وخلال هذه السنوات سيكون تأثير أمريكا الخارجي ضعيفاً نسبياً ، وهذا ما حدى بالحكومة الأمريكية إلى شطب "كوريا الشمالية" من قائمة الإرهاب ، فهي تريد التركيز على بعض الدول لأنها لن تستطيع تحمل كلفة الإنتشار العرضي ..
ربما تظهر دول أخرى منافسة للإقتصاد الأمريكي (كالصين واليابان والهند والإتحاد الوروبي) وهذا ما يقصده بعض المحللين عندما يقولون بأن العالم لن يكون أحادي القطب بعد الآن ، فهذه الدول لم تتأثر كثيراً بما يحدث في العالم ، وخاصة الدول الثلاثة الأولى ، وإن كانت اليابان تضررت لوجود استثمارات ضخمة لها في أمريكا وكذلك بعض دول الإتحاد الأوروبي ، أما الصين فهي المرشحة الأولى لتكون وريثة الإتحاد السوفييتي في التصدي للهيمنة الأمريكية على العالم ، وإذا تحالفت الصين مع روسيا والهند فيما يسمى بـ "مثلث بريماكوف" فإن أمريكا ستفقد أكثر ثقلها السياسي والدولي ، والحيلولة دون تواصل هذا المثلث كان من أهم أسباب احتلال أفغانسان الواقعة في قلب هذا التحالف ..
لقد أعلنت أمريكا عزمها على ضخ (700) مليار دولار في اقتصادها ، وهذه الأموال قد تأتي عن طريق المخزون الإستراتيجي أو عن طريق الضرائب أو عن طريق اصدار سندات حكومية وبيعها على الهيئات والدول وهذا الأخير سيورطها أكثر ، وهذا المبلغ غير كافٍ لمثل الإقتصاد الأمريكي الكبير ، وأمريكا في حربها على الإسلام تخسر مقابل ما تضخه في اقتصادها ، وهذا ما يقوله المرشح الديمقراطي باراك أوباما ، فهو يريد سحب قواته من العراق لأنها تكلفهم الكثير ، ويريد تركيز جهوده في أفغانستان ليخرج بانتصار رمزي يحفظ ما وجوههم ، ونحن وإن كنا نريد أن تخرج أمريكا من أرض المسلمين إلا أن خروجها من العراق الآن سيبطئ من سقوطها ، ولو انتُخب مرشح الحزب الجمهوري "ماكين" فإنه سائر على خطى بوش في تدمير الإقتصاد الأمريكي ، بل وتدمير أمريكا كدولة ذات كيان ، لأن البطالة وضعف الإقتصاد من أسباب التوتر الأمني في أي دولة ..
يتسائل البعض : أليست أمريكا تسرق نفط العراق وتبيعه !! فكيف تؤثر الحرب على اقتصادها .
الجواب : إن العراق تنتج مليوني برميل في اليوم ، وهذا يعني أن مدخولها قرابة (150) مليون دولار في اليوم (55 مليار في السنة) وهذا بحساب السنة الأخيرة فقط ، هذا المبلغ لا يذهب كله للجيب الأمريكي ، فهناك فواتير تشغيل دولة العراق نفسها ، وهناك أمراء الحرب وتجار الدماء الذين تراضيهم أمريكا ببعض هذا المال كالرافضة والمرتدين وغيرهم ، فأمريكا لا تستطيع أن تغطي الحرب على الإسلام بهذا المبلغ ، فهي تدفع من جيبها ثمن هذه الحرب ، وما تدفعه يذهب لتجار الحرب من صانعي السلاح وشركات ما يسمى بإعادة الإعمار والشركات الأمنية والمرتزقة وبعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية ، وهذه الشركات ثبت أنها لا تعمل شيئاً يُذكر ، وإنما تأخذ هذه الأموال دون مقابل ، والأدهى من هذا أنها لا تدفع ضرائب لأنها أموال غير مسجلة رسمياً في كثير من الأحيان ، وكثير من هذه الأموال تودع في بنوك خارج أمريكا لتلافي المحاسبة ، فمن هنا قلنا بأن أموال أمريكا تذهب لخارجها دون مقابل ..
الخلاصة :
إن سبب هذه النكبة الإقتصادية هو سحب السيولة من الإقتصاد الأمريكي وتوقف الإستثمارات فيها ، وهذا ناتج من بعثرة أوراق المكر الأمريكي الذي أراد السيطرة على مقدرات العالم النفطية ، فالمجاهدون هم من جعلوا هذه الحرب مكلفة لدرجة لم يتصورها الخبراء الأمريكان ، فبصمود المجاهدين وعزمهم على مواصلة القتال - رغم كل الظروف - تباطأت عجلة الإقتصاد الأمريكي التي قد تتوقف إذا استمرت أمريكا في الحرب واستمر المجاهدون في الصمود تماماً كما حدث للإتحاد السوفييتي ..
كثير من الناس لا يستطيع استيعاب هذا الأمر ، وذلك لعدم تصورهم تكاليف الحروب الحديثة من الناحية الإقتصادية والنفسية ، فالجنود الروس كانوا يرقصون طرباً لما خرجوا من أفغانستان وكأنهم منتصرون ، وذلك لِما لحق بهم من ضغط نفسي كبير وإرهاب ورعب ، ودولة السوفييت انهارت سياساً لأنها لم تستطع التماسك اقتصادياً بسبب نزيفها في حرب أفغانستان التي لم يكن الشعب السوفييتي مقتنع بها ولا بأسبابها ، ولم يستطع تحمل تكاليفها على الصعيد النفسي والبشري والإقتصادي والعسكري ، وهذا هو الحاصل في حرب أمريكا اليوم ..
إن سنّة الله سبحانه وتعالى ماضية في الأمم ، وأمريكا ليست استثناء من سنن الله ، فهي دولة ظالمة جائرة معتدية ، فلا بد من سقوطها وانهيارها ، وهي ساقطة لا محالة ، ولكن سقوطها مرهون بقدر الله وحده ، وإنما دورنا أن نسأل الله تعالى تعجيل ذلك وأن ننال نحن من كل هذا بعض الأجر كما يناله المجاهدون إن شاء الله ، وأن نتعلّم وندرس المعطيات التي أمامنا ونحاول استغلال الأوضاع لصالحنا ، وأن لا نفشل كما فشلنا بعد سقوط الإتحاد السوفييتي ..
لقد انتصر المجاهدون ، بل انتصرت الأمة في حربها ضد الإتحاد السوفييتي ، ولكنها فشلت بعد الحرب في المحافظة على النصر ، فتنازع الناس وافترقوا وتقاتلوا فيما بينهم ، ففشلوا وذهبت ريحهم ، ثم أتت أمريكا لتقطف ثمار نصرنا وتنتزعه من أيدينا لتنفرد بالأرض !!
نعم ، انتصرت أمريكا لأننا لم نمتثل لأوامر الله .. انتصرت أمريكا لأن بعضنا تقاتل على حطام الدنيا .. انتصرت أمريكا لأنها حفرت لنا حفرة فوقعنا فيها دون بصيرة .. انتصرت أمريكا التي أعلنت شعار بريطانيا : "فرّق تسُد" ، ففرّقتنا ونحن المأمورون بعدم التفرّق !! المجاهدين تفرقوا وكانوا شيعاً ، والأمة تفرّقت وكانت شيعاً ، والجماعات المسلمة تفرّقت وكانت شيعاً .. انتصرت أمريكا لأنها عرفت كيف تفرقنا ولم نعرف نحن كيف نجتمع أو نتعاون أو حتى نكف عن بعضنا البعض ويكفي بعضنا شر بعض .. انتصرت أمريكا لأننا لا نتعلم من تأريخنا القريب جداً ، بل لم نتعلم من حياتنا وتجاربنا مع الكفار .. ولمَ لا تنتصر أمريكا وقد بذلنا لها جميع مقومات النصر !!
إنا والله لا نخشى الحرب مع أمريكا ولا مع غيرها لأنا نعلم أن أهل الإسلام أصدق في الحرب وأصبر من غيرهم ، ولأن قلوب المسلمين أخشع وأخضع ما تكون في الحرب ، ولكننا نخشى ما خشيه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال "والله لا الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم" (البخاري) .. إننا نخشى مرحلة ما بعد الحرب : مرحلة المكر والخداع والتضليل ، مرحلة الإشتغال بالنفس عن العدو ، مرحلة جمع الغنائم قبل انتهاء المعركة كما حدث في غزوة أحد ، وكما حدث في أفغانستان !! إن معركة الإسلام لا تنتهي حتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال ، فمن وطّن نفسه على هذا : لم يضره مكر أو كيد ، ولم تغره الدنيا ، ولم يشتغل بالغنائم الموهومة عن الجهاد في سبيل الله ..
إن على قادة المجاهدين مسؤولية عظيمة في توعية الأمة عامة وأهل الجهاد خاصة ، فلا بد من دروس مكثفة وإلزامية تُعطى للمجاهدين في العقيدة والفقه والفكر والأخلاق ، وهذه لا تستغني عنها جبهة :
- أما الفقه فظاهر أهميته ، وخاصة فقه الجهاد والسياسة الشرعية ..
- والعقيدة تشمل أكثر نواحي الدين ، ومن أهم هذه النواحي - بعد توحيد الله تعالى - عقيدة الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله ..
- وأما الفكر : فالتوعية بمخططات الأعداء ، وربط الماضي بالحاضر ، وجمع التجارب والإستفادة منها ..
- وأما الأخلاق : فكيفية معاملة الزملاء والقادة خاصة ، والمسلمين عامة ، بل وحتى الكفار ، فالمجاهد واجهة للأمة اليوم ، ولا بد أن يكون على درجة عالية من الأخلاق والمسؤولية ..
إن على القيادة العليا في كل جبهة أن تخرّج قيادات متوسطة وصغيرة ، وهذه القيادات ينبغي لها أن تُصقل وتُدرّب لحمل الراية في المستقبل ، وكل قائد من هؤلاء يدرّب على أساس أنه جبهة مستقلّة ، ولا بد لنا أن نعلم بأن العملية التربوية لا تقل في أهميتها عن العمليات العسكري ، وذلك لأننا أصحاب رسالة ومنهج ودعوة ، فلا بد من الأمرين معا ، ولا بد أن نُدرك بأن هذه الحرب باقية ماضية وإن سقطت أمريكا وهلكت ودُمّرت ، فإن السنّة في دعوة الأنبياء أن يوجِد الله لها الأعداء فيحصل الإختبار والإمتحان والتمحيص والإبتلاء ويتّخذ الله من عباده شهداء ..
قد تكون هذه هي نهاية أمريكا ، أو تكون نهاية انفرادها بالساحة الدولية ، أو تكون بداية ظهور قوى أخرى على الساحة ، وهذه القوى لا شك أنها ستصطدم بالقوة الإسلامية ، فدورنا نحن أن نستغل هذه الظروف ونخرج منها ونحن أكثر قوة وتأثيراً في الساحة العالمية ، وإن نحن استطعنا استغلال الظروف كما ينبغي ، وتوكلنا على الله واتقيناه فإننا لا شك سنكون قوة عظمى في المستقبل القريب ، ولكن لا بد من اليقضة والحذر في التعامل مع المعطيات ، ولا بد من انتهاز الفرص وعدم تفويتها ، ولا بد من تقوى الله ونصرة دينه ، فلا نصر إلا بنُصرة دين الله ، ولا قوّة إلا بالله ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ويكفيه الله غيره ..
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
كتبه
حسين بن محمود
10 شوال 1429هـ
|