مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 13-11-2008, 12:32 PM   #14
كريّم
عـضـو
 
صورة كريّم الرمزية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
البلد: ببريده بعد وينهوبه
المشاركات: 280
تلك هي أدلة المحرمين ، قد سقطت واحداً بعد الآخر ،‌ و لم يقف دليل منها على قدميه . و إذا انتفت أدلة التحريم بقي حكم الغناء على أصل الإباحة بلا شك ، و لو لم يكن معنا نص أو دليل واحد على ذلك غير سوط أدلة التحريم . فكيف و معنا نصوص الإسلام الصحيحة الصريحة ، وروحه السمحة ، و قواعده العامة ، و مبادئه الكلية ؟

أولاً: من حيث النصوص


استدلوا بعدد من الأحاديث الصحيحة ، منها : حديث غناء الجاريتين في ليت النبي ( صلي الله عليه و آله و سلم ) عند عائشة ، وانتهار أبي بكر لهما ،‌ و قوله : مزمور الشيطاني في ليت النبي ( صلي الله عليه وسلم ) ، و هذا يدل على أنهما لم تكونا صغيرتين كما زعم بعضهم ، فلو صح ذلك لم تستحقا غضب أبي بكر إلى هذا الحد .

و المعول عليه هنا هو رد النبي ( صلي الله عليه و سلم ) على أبي بكر ربضي الله عنه و تعليله : أنه يريد

أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة ، و إنه بعث بحنيفية سمحة . و هو يدل على وجوب رعاية تحسين صورة الإسلام لدى الآخرين ، و إظهار جانب اليسر و السماحة فيه .

و قد روي البخاري و أحمر عن عائشة ذات قرابة لها من الأنصار ، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) فقال : « أهديتم الفتاة » ؟ قالوا : نعم . قال : « أرسلتم معها من يغني » ؟ قالت : لا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) « إن الأنصار قوم فيهم غزل ، فلو بعثتم معها من يقول : أتيناكم أتيناكم . . فحيانا و حياكم » ؟

و هذا الحديث يدل على رعاية أعراف الأقوام المختلفة‌ ، و اتجاههم المزجي ، ولا يحكم المرء مزاجه هو في حياة‌ كل الناس .

و روي النسائي و الحاكم و صححه عن عامر بن سعد قال : دخلت على قرظة بن كعب و أبي مسعود الأنصاري في عرس ،‌ و إذا جوار يغنين . فقلت : أي صاحبي رسول الله أهل بدر يفعل هذا عندكم ؟ ! فقالا :اجلس إن شئت فاستمع معنا ، وإن شئت فاذهب ، فإنه قد رخص لنا اللّهو عند العرس .

و روي ابن حزم بسنده عن ابن سيرين : أن رجلاً قدم المدينة بجوارٍ فأتى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه ،‌فأمر جارية منهن فغنّت ، و ابن عمر يسمع ، فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة ، ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال : ني أبا عبد الرحمن ؛ غبنت بسبعمائة درهم ! فأتى ابن عمر إلى عبد الله بي جعفر فقال له : إنه غبن بسبعمائة درهم ،‌فإما أن تعطيها إياه ،‌ و إما أن ترد عليه بيعه ، فقال : بل نعطيه إياها . قال ابن حزم : « فهذا ابن عمر قد سمع الغناء و سعي في بيع المغنية ، و هذا إسناد صحيح ، لا تلك الملفقات الموضوعية » (انظر المحلى : 9/63 ) .

و استدلوا بقوله تعالى : ( وَ إِذَا رَأَوُاُ تَجِارَةً أَوُ لَهُوًا انفَضّواُ إِلَيُهَا وَتَرَكوكَ قَآئمَاَ قلُ مَا عِنُدَ الّلَه خَيُر مِّنَ اللَهُوِ وَمِنُ التِجَارَة وَ الّلَه خَير الرَازِقِين) الجمعة( 11 ).

فقرن اللهو بالتجارة – و هي حلال بيقين - ،‌ و لم يذمهما إلا من حيث شغل الصحابة بهما – بمناسبة قدوم القافلة‌ و ضرب الدفوف فرحاً بها – عن خطبة النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) ، و تركه قاماً .

و استدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم : أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه . وهم القوم يقتدي بهم فيهتدي .

و استدلوا بما نقله غير واحد من الإجماع على إباحة السماع ، كما سنذكره بعد .

- ثانيا:ً من حيث روح الإسلام و قواعده :


( أ ) لا شيء في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، و تستطيبها العقول، و تستحسنها الفطر،‌ و تشتهيها الأسماع،‌ فهو لذة المعدة . و المنظر الجميل لذة‌ العين، و الرائحة‌ الذكية لذة الشم . . إلخ،‌ فهل الطيبات - أي المستلذات - حرام في الإسلام حلال ؟

من المعروف أن الله تعالى كان قد حرم على بني إسرائيل بعض طيبات الدنيا عقوبة لهم على سوء ما صنعوا ، كما قال تعالى : ( فَبِظلُمِ مِنَ الَذِينَ هَادواُ حَرَّمُنَا عَلَيُهِمُ طَيِبَاتٍ أحِلَّتُ‌ لَهمُ وَ بِصَدِهِمُ عَن سَبِيل اللَه كَثِيرَاَ (60)وَ أَخُذِهِم الّرِبَواُ وَ قَدُ نهواُ عَنُه وَأَكُلِهِمُ أَمُوَالَ النَاسِ بِالُبَاطِلِ ) النساء(60-61) ، فلما بعث الله محمداً ( صلي الله عليه و آله و سلم ) جعل عنوان رسالة‌ في كتب الأولين أنه : ( يَأُمرهم بِالُمَعُروفِ وَيَنُهَهمُ عَنِ الُمنكَرَ وَ يحِلّ لَهم الُطَيِبَاتِ وَ يحَرِم عَلَيُهِم الُخَبَثَ وَيَضَع عَنُهمُ إِصُرَهمُ وَالأغُلالَ الَتِي كَانَتُ عَلَيُهِمُ ) الأعراف (157)
.
فلم يبق في الإسلام شيء طيب – أي تستطيبه الأنفس و العقول السليمة – إلا أحله الله ، رحمة‌ بهذه الأمة لعموم رسالتها و خلودها .
قال تعالى : ( يَسُئَلونَكَ مَاذَآ أحِلَّ لَهمُ قلُ أحِلَ لَكم الطَيِبَات )المائدة (4) .

و لم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم على نفسه أو على غيره شيئاً من الطيبات مما رزق الله ، مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء‌ وجه الله فيه ، فإن التحليل و التحريم من حق الله وحده . و ليس من شأن عباده ، قال تعالى : ( قلُ أَرَءَ يُتمُ مَّآ أَنزَلَ اللَه لَكم مِن رِزُقِ فَجَعَلُتمُ مِنُه حَرَمَا وَحَلَالَاَ قلُ ءَآلّلَه أَذُنَ لَكمُ أَمُ عَلَى الّلَه تَفُترونَ) يونس (59 ) ، و جعل سبحانه تحريم ما أحله من الطيبات كإحلال ما حرم من المنكرات ، كلا هما يجلب سخط الله و عذابه ، ويردي صاحبه في هاوية الخسران المبين ،‌و الضلال البعيد ،

قال جل شأنه ينعي على من فعل ذلك من أهل الجاهلية‌ : ( قَدُ خَسِرَ الَذِيُنَ قَتِلواُ أَولَادَهمُ سَفَهَا بِغَيُرِ عِلُمِ وَ حَرَمواُ مَا رَزَقُهمُ الّلَه افُتِرَآءً عَلَى الله قَدُ ضَلّواُ وَمَا كَانواُ مهُتَدِيُنَ) الأنعام ( 140 ) .

( ب ) و لو تأملنا لوجدنا حب الغناء و الطرب للصوت الحسن يكاد يكون غريزة إنسانية و فطرة بشرية ، حتى إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه ، و تنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه . و لذا تعودت الأمهات و المرضعات و المربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم . بل نقول : إن الطيور و البهائم تتأثر بحسن الصوت و النغمات الموزونة حتى قال الغزالي في « الإحياء » : «‌ من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال ، بعيد عن الروحانية / زائد في غلظ الطبع و كثافته على الجمال و الطيور و جميع البهائم ، إذ الجمل – مع بلادة طبعه – يتأثر بالحداء تأثر يستخف معه الأحمال الثقيلة و يستقصر – لقوة نشاطه في سماعه – المسافات الطويلة ، و ينبعث فيه من النشاط ما يسكره و يولهه . فترى الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها ، و تصغي إليه ناصبة آذانها ،‌ و تسرع في سيرها ،‌ حتى تتزعزع عليها أحمالها و محاملها » .

و إذ كان حب الغناء غريزة و فطرة فهل جاء‌ الدين لمحاربة‌ الغرائز و الفطر و التنكيل بها ؟ كلا ، إنما جاء لتهذيبها و السمو بها ، و توجيهها التوجيه القويم . قال الإمام ابن تيمية رحمه الله : إن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة و تقريرها لا بتبديلها و تغييرها .

و مصداق ذلك أن رسول الله ( صلي الله عليه و آله و سلم ) قدم المدينة و لهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : « ما هذان اليمان » ؟ قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية . فقال عليه السلام : « إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما : يوم الأضحى و يوم الفطر » (رواه أحمد و أبو داد و النسائي . ) .
و قالت عائشة : «‌ لقد رأيت النبي يسترني بردائه ،‌و أنا أنظر إلى الحبشة‌ يلعبون في المسجد ، حتى أكون أنا التي أسأمه - أي اللعب -فاقدروا قدر الجارية‌ الحديثة‌ السن الحريصة‌ على اللهو » .

و إذ كان الغناء لهواً و لعباً فليس اللهو و العب حراماً ، فالإنسان لا صبر له على الجد المطلق و الصرامة الدائمة .
قال النبي ( صلي الله عليه و آله و سلم ) لحنظلة – حين ظن نفسه قد نافق لمداعبته زوجه وولده ،‌و تغير

حاله في بيته عن حاله مع رسول الله (صلي الله عليه و سلم):‌« يا حنظلة,‌ ساعة و ساعة» ( رواه مسلم )
و قال علي بن أبي طالب : روحوا القلوب ساعة بعد ساعة ،‌فإن القلوب إذا أكرهت عميت .
و قال كرم الله وجهه : إن القلوب تمل كما تمل الأبدان ، فابتغوا لها طرائف الحكمة .
و قال أبو الدرداء : إني لأستجم نفسي بالشي ء‌ من اللهو ليكون أقوى لها على الحق .
و قد أجاب الإمام الغزالي عمن قال :‌إن الغناء لهو ولعب بهوه :‌هو كذلك ، و لكن الدنيا كلها لهو و لعب . . و جميع المداعبة‌ مع النساء‌ لهو ، إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد ،‌كذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال ،‌ نقل ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) و عن الصحابة‌ .

و أي لهو يزيد على لهو الحبشة و الزنوج في لعبهم ،‌ فقد ثبت بالنص إباحته . على أني أقول : اللهو مروح القلب ، و مخفف عنه أعباء الفكر ، و القلوب إذا أكرهت عميت ،‌ و ترويحها إعانة لها على الجد ، فالمواظب على التفقه مثلاً ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة‌ ؛‌ لأن عطلة يوم تساعد على النشاط في سائر الأيام ، و المواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات ،‌فالعطلة معونة‌ على العمل ، و اللهو معين على الجد ،‌ولا يصبر على الجد المحض ،‌ و الحق المر ،‌إلا نفوس الأنبياء‌ عليهم السلام .

فاللهو دواء القلب من داء الإعياء و الملل ‌،فينبغي أن يكون مباحاً ،‌ و لكن لا ينبغي أن يستكثر منه ،‌كما لا يستكثر من الدواء‌ ، فإذن اللهو على هذه النية يصير قربة‌،‌هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها ،‌بل ليس له إلا اللذة و الاستراحة المحضة ، فينبغي أن يستحب له ذلك ،‌ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه . نعم هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق ، و لكن حسنات الأبرار سيئات المقربين ،‌و من أحاط بعلم علاج القلوب ، ووجوه التلطف بها ،‌ وسياقتها إلى الحق ،‌علم قطعاً أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه » (الإحياء ص 1152 ، 1153 .) . . انتهي كلام الغزالي ،‌ و هو كلام نفيس يعبر عن روح الإسلام الحق .

آخر من قام بالتعديل كريّم; بتاريخ 13-11-2008 الساعة 12:37 PM.
كريّم غير متصل