تلك هي الأدلة المبيحة للغناء من نصوص الإسلام و قواعده ، فيها الكفاية كل الكفاية و لو لم يقل بموجبها قائل ، و لم يذهب إلى ذلك فقيه ، فكيف و قد قال بموجبها الكثيرون من صحابة و تابعين و أتباع و فقهاء ؟
و حسبنا أن أهل المدينة - على ورعهم – و الظاهرية – على حرفيتهم و تمسكهم بظواهر النصوص – و الصوفية – على تشددهم و أخذهم بالعزائم دون الرخص – روي عنهم إباحة الغناء .
قال الإمام الشوكاني في « نيل الأوطار » : « ذهب أهل المدينة و من وافقهم من علماء الظاهر ، و جماعة الصوفية ، إلى الترخيص في الغناء ، و لو مع العود و البراع .
و حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع : أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأساً ، ويصوغ الألحان لجواريه ، ويسمعها منهن على أوتاره . و كان ذلك في زمن أمير المؤمنين على رضي الله عنه .
و حكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضاً عن القاضي شريح ،وسعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، و الزهري ، و الشعبي . و قال إمام الحرمين في النهاية ، و ابن أبي الدنيا : نقل الأثبات من المؤرخين : أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات ، و أن ابن عمر دخل عليه و إلى جنبه عود ، فقال : ما هذا يا صاحب رسول الله ؟ ! فناوله إياه ، فتأمله ابن عمر فقال : هذا ميزان شامي ؟ قال بن الزبير : يوزن به العقول !
و روي الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالة في السماع بسنده إلى ابن سيرين قال : « إن رجلاً قدم المدينة بجوار فنزل على ابن عمر ، و فيهن جارية تضرب . فجاء رجل فساومه ، فلم يهو فيهن شيئاً ، قال : انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعاً من هذا . قال : من هو ؟ قال : عبد الله بن جعفر . . فعرضهن عليه ، فأمر جارية منهن ، فقال لها : خذي العود ،فأخذته ، فغنت ، فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر . . . إلى آخر القصة .
وروي صاحب «العقد» العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي : أن عبد الله بن عمر دخل على ابن جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود ، ثم قال لا بن عمر : هل ترى بذلك بأساً ؟ قال : لا بأس بهذا .
و حكى الماوردي عن معاوية و عمرو بن العاص : أنهما سمعا العود عند ابن جعفر .
و روي أبو الفرج الأصبهاني : أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره .
و ذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك . و المزهر عند أهل اللغة العود .
و ذكر الأدفوي : أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع جواريه قبل الخلافة . و نقل ابن السمعاني الترخيص عن طاوس ، و نقله ابن قتيبة و صاحب « الإمتاع » عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن الزهري من التابعين . و نقله أبو يعلى الخليلي في « الإرشاد » عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدينة .
و حكى الروياني عن القفال : أن مذهب مالك بن أنس أباحة الغناء بالمعازف ، و حكى الأستاذ أبو منصور الفوراني عن مالك جواز العود ، و ذكر أبو طالب المكي في « قوت القلوب » عن شعبة : أنه سمع طنبوراً في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور .
و حكى أبو الفضل بن طاهر في مؤلفة في « السماع » : أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود .
قال ابن النحوي في « العمدة » : و قال ابن طاهر : هو إجماع أهل المدينة . قال ابن طاهر : و إليه ذهبت الظاهرية قاطبة . قال الأدفوي : لم يختلف النقلة في نسبتة الضرب إلي إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر ، وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم ( يعني بالجماعة : أصحاب الكتب الستة ، من الصحيحين و السنن ) .
و حكي الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية ، وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن ابن اسحاق الشيرازي ، وحكاه الأسنوي في «المهمات » عن الروياني و الماوردي ، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور ، وحكاه ابن الملقن في «العمدة » عن ابن طاهر ، وحكاه الأدفوي عن الشيخ عز الذين بن عبد السلام ، وحكاه صاحب «الإمتاع » عن أبي بكر بن العربي ، و جزم بالإباحة الأدفوي .
هؤلاء جميعاً قالوا بتحليل السماع ، مع آلة من الآلات المعروفة - أي آلات الموسيقي .
و أما مجرد الغناء من غير آلة ، فقال الأدفوي في « الإمتاع »: إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله ، و نقل ابن طاهر إجماع الصحابة و التابعين عليه ، و نقل التاج الفزاري و ابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه ، و قال المارودي : لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة و الذكر .
قال ابن النحوي في « العمدة » : و قد روي الغناء و سماعه عن جماعة من الصحابة و التابعين ، فمن الصاحبة عمر – كما رواه ابن عبد البر و غيره ، و عثمان – كما نقله الماوردي و صاحب البيان و الرافعي ، و عبد الرحمن بن عوف – كما رواه ابن أبي شيبة ، و أبو عبيدة بن الجراح – كما أخرجه ابن قتيبة ، و أبو مسعود الأنصاري – كما أخرجه البيهقي ،و بلال ، و عبد الله بن الأرقم ، و أسامة بن زيد – كما أخرجه البيهقي أيضاً ،و حمزة - كما في الصحيح ، و ابن عمر – كما أخرجه ابن طاهر ، و البراء بن مالك – كما أخرجه أبو نعيم ، و عبد الله بن جعفر – كما رواه ابن عبد البر ، و عبد الله بن الزبير – كما نقل أبو طالب المكي ،و حسان – كما رواه أبو الفرج الأصبهاني ، و عبد الله بن عمرو – كما رواه الزبير بن بكار . و قرظة بن كعب – كما رواه ابن قتيبة ، و خوات بن جبير ، و رباح بن المعترف – كما أخرجه صاحب الأغاني و المغيرة بن شعبة - كما حكاه الماوردي ،عائشة و الربيع – كما في صحيح البخاري و غيره .
و أما التابعون فسعير بن المسيب ، و سالم بن عبد الله بن عمر ، و ابن حسان ،و خارجة بن زيد ، و شريح القاضي ، و سعيد بن جبير ، و عامر الشعبي ، و عبد الله ابن أبي عتيق ، و عطاء بن أبي رباح ، و محمد بن شهاب الزهري ، و عمر بن عبد العزيز ، و سعد بن إبراهيم الزهري .
و أما تابعوهم ، فخلق لا يحصون ، منهم : الأئمة الأربعة ، و ابن عيينة ، و جمهور الشافعية » . انتهي كلام ابن النحوي . هذا كله ذكره الشوكاني في « نيل الأوطار » (نيل الأوطار : 8/264 – 266 – طبع دار الجيل – بيروت . ) .
* * * * *
- قيود و شروط لابد من مراعاتها :
و لا ننسى أن نضيف إلى هذا الحكم : قيوداً لا بد من مراعاتها في سماع الغناء :
1- نؤكد: إن ما أشرنا إليه أنه ليس كل غناء مباحاً ، فلا بد أن يكون موضوعة متفقاً مع أدب الإسلام و تعاليمه .
مثلا لا يجوز التغني بقول أبي نواس :
دع عنك لومي ، فإن اللوم إغراء و داوني بالتي كانت هي الداء !
ولا بقول شوقي :
رمضان ولي هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاق
و أخطرها منها : قول إيليا أبي ماضي في قصيدته « الطلاسم » :
جئت لا أعلم من أين ، و لكنى أتيت !
و لقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت !
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟ لست أدري !
لأنها تشكيك في أصول الأيمان : المبدأ ، و المعاد ،و النبوة . و مثلها : ما عبر عنه بالعامية في أغنية « من غير ليه » و ليست أكثر من ترجمة من شك أبي ماضي إلى العامية ، ليصبح تأثيرا أوسع دائرة .
و مثل ذلك الأغنية التي تقول : « الدنيا سيجارة و كاس » . فكل هذه مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يجعل الخمر رجساً من عمل الشيطان ، ويلعن شارب « الكأس » و عاصرها و بائعها وحملها و كل من أعان فيها بعمل . و التدخين أيضاً آفة ليس وراءها إلا ضرر الجسم و النفس و المال .
و الأغاني التي تمدح الظلمة و الطغاة و الفسقة من الحكام الذين ابتليت بهم أمتنا ، مخالفة لتعاليم الإسلام ، الذي يلعن الظالمين ، و كل من يعينهم ، بل من يسكت عليهم ، فكيف بمن يمجدهم ؟!
و الأغنية التي تمجد صاحب العيون الجريئة – أو صاحبة العيون الجريئة – أغنية تخالف أدب الإسلام الذي ينادي كتابه : ( قل لِلُمؤمِنينَ يَقُضواُ مِنُ أَبُصَارِهِمُ . . . ) النور(30) ، ( وَقل لِلُمؤُمِنَاتِ يَغُضضُنَ مِنُ أَبُصَارِهِنَ ) النور(31)، و يقول ( صلي الله عليه و سلم ) : « يا علي ؛ لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة » .
2 – ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها ، فقد يكون الموضوع لا بأس به و لا غبار عليه ، و لكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول ، و تعمر الإثارة ، و القصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة كما يشاهد اليوم على الفضائيات، و إغراء القلوب المرضية – ينقل الأغنية من دائرة الإباحة إلى دائرة الحرمة أو الشبهة أو الكراهة من مثل ما يذاع على الناس و يطلبه المستمعون و المستمعات من الأغاني التي تلح على جانب واحد ، هو جانب الغريزة الجنسية و ما يتصل بها من الحب والغرام ، و إشعالها بكل أساليب الإثارة و التهيج ، و خصوصاً لدى الشباب و الشابات .
إن القرآن يخاطب نساء النبي ( صلي الله عليه و سلم ) فيقول : ( فَلا تَخُضَعُنَ بِالُقَوُلِ فَيَطُمَعَ الَذِي فِي قَلُبِهِ مَرَض ) الأحزاب(32) . فكيف إذا كان مع الخصوص في القول الوزن و النغم و التطريب و التأثير .
3- و من ناحية ثالثة يجب ألا يقترن الغناء بشيء محرم ، كشرب الخمر أو التبرج أو الاختلاط الماجن بين الرجال و النساء ، بلا قيود ولا حدود، و هذا هو المألوف في مجالس الغناءو الطرب من قديم . و هي الصورة الماثلة في الأذهان عندما يذكر الغناء ، و بخاصة غناء الجواري و النساء .
و هذا ما يدل عليه الحديث الذي رواه ابن ماجه و غيره : « ليشربن ناس من أمتي الخمر ، يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف و المغنيات ، يخسف الله بهم الأرض و يجعل منهم القردة و الخنازير » .
و أود أن أنبه هنا على قضية مهمة ، و هي : أن الاستماع إلى الغناء في الأزمنة الماضية كان يقتضي حضور مجلس الغناء ، و مخالطة المغنيين و المغنيات و حواشيهم ، و قلما كانت تسلم هذه المجالس من أشياء ينكرها الشرع ، ويكرهها الدين .
أما اليوم فيستطيع المرء أن يستمع إلى الأغاني و هو بعيد عن أهلها و مجالسها ، و هذا لا ريب عنصر مخفف في القضية ، ويميل بها إلى جانب الإذن و التيسير .
4- الغناء – ككل المباحات – يجب أن يقيد بعدم الإسراف فيه ، و بخاصة غناء العاطفة فهي ليست حباً فقط ، و الحب لا يختص بالمرأة وحدها ، و المرأة ليست جسداً و شهوة لا غير ، لهذا يجب أن نقلل من هذا السيل الغامر من الأغاني العاطفية الغرامية ، و أن يكون لدينا من أغانينا و برامجنا و حياتنا كلها توزيع عادل ، و موازنة مقسطة بين الدين و الدنيا ، و في الدنيا بين حق الفرد و حقوق المجتمع ، و في الفرد بين عقله و عاطفته ، و في مجال العاطفة بين العواطف الإنسانية كلها من حب و كره و غيره و حماسة و أبوة و أمومة و بنوة و أخوة و صداقة . . . الخ ، فلكل عاطفة حقها .
أما الغلو و الإسراف و المبالغة في إبراز عاطفة خاصة ، فذلك على حساب العواطف الأخرى ، و على حساب عقل الفرد و روحه و إرادته ، و على حساب المجتمع و خصائصه و مقوماته ، و على حساب الدين و مثله و توجيهاته .
إن الدين حرم الغلو و الإسراف في كل شيء حتى في العبادة ، فما بالك بالإسراف في اللهو ، و شغل الوقت به و لو كان مباحاً ؟!
إن هذا دليل على فراغ العقل و القلب من الواجبات الكبيرة ، و الأهداف العظيمة و دليل على إهدار حقوق كثيرة كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود و عمره القصير ، و ما أصدق و أعمق ما قال ابن المقفع : « ما رأيت إسرافاً إلا و بجانبه حق مضيع » ، و في الحديث : « لا يكون العاقل ظاعناً إلا لثلاث : مرمة لمعاش ، أو تزود لمعاد ،أو لذة في غير محرم » ، فلنقسم أوقاتنا بين هذه الثلاثة بالقسط ، و لنعلم أن الله سائل كل إنسان عن عمره :فيم أفناه ، و عن شبابه : فيم أبلاه ؟
5- و بعد هذا الإيضاح تبقى هناك أشياء يكن كل مستمع فيها فقيه نفسه و مفتيها ، فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستثير غريزة ، و يغريه بالفتنة ، و يسبح به في شطحات الخيال ، و يطغى فيه الجانب الحيواني على الجانب الروحاني ، فعليه أن يتجنبه حينئذ ، و يسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على
قلبه و دينه و خلقه ، فيستريح و يريح .
- الغناء و الطرب في واقع المسلمين :
و من نظر في أحوال المسلمين ، و تأمل في واقعهم المعيشي ، لم يجد خصومة بين المسلم المتدين و بين الاستمتاع بطيب السماع .
إن أذن المسلم العادي موصولة ب « طيبات السماع » تلتذ بها ، و تتغذى عليها كل يوم .
من خلال القرآن الكريم الذي تسمعه مرتلاً و مجوداً و مزيناً بأحسن الأصوات ، من أحسن القراء .
و من خلال الأذان ، الذي تطرب لسماعه كل يوم خمس مرات بالصوت الجميل . و هو ميراث من عهد النبوة ، فقد قال النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) للصحابي الذي كشف له عن ألفاظ الأذان في رؤيـا صادقة : « علمه بلا لاً ، فإنه أندى منك صوتاً » .
و من خلال الابتهالات الدينة ، التي تنشد بأعذب الألحان ، و أرق الأصوات ، فتطرب لها الأفئدة ، و تهتز لها المشاعر :
و من خلال المدائح النبوية التي توارثها المسلمون منذ سمعوا ذلك النشيد الحلو من بنات الأنصار ، ترحبياً بمقدم الرسول الكريم عليه الصلاة و السلام :
طــلـع الـبـدر عـلـيـنـا من ثـنـيـات الـوداع
وجـب الـشـكـر عـلـيـنـا مــا دعـا لـلـه داع
و أذكر أني منذ نحو عشرين سنة سمعت هذا النشيد من تلميذات مدرسة إسلامية في إندونيسيا ،يغنينه بلحن جماعي مؤثر رقيق ، و كنا و فداً من دولة قطر . فرقت له قلوبنا ، و سالت أدمعنا على خدودنا من فرط الرقة و التأثر .
و في الأعصر الماضية المسلمون أن ينشئوا ألواناً من « طيبات السماع » يروحون بها أنفسهم ، و يجملون بها حياتهم ، و خصوصاً في القرى و الريف . و قد أدركنا ذلك في عهد الصبا و مطالع الشباب . و كلها ألوان فطرية نابعة من البيئة ، معبرة عن قيمها ، و لا غبار عليها .
من ذلك : فن المواويل : يتغنّى بها الناس في أنفسهم ، أو يجتمعون على سماعها ، ممن كان حسن الصوت منهم ، و أكثرهم يتحدث عن الحب و الهيام و الوصل و الهجران ، و بعضها يتحدث عن الدنيا و متاعها
و يشكو من ظلم الناس و الأيام . . . الخ .
و أكثرهم كان يتغنى بها بغير آلة ، و بعضهم مع « الأرغول » ، و من هؤلاء الفنانين الفطريين : من كان يؤلف « الموال » و يلحنه و يغنيه في وقت واحد .
و منها : القصص المنظومة ، التي تتغنى ببطولات بعض الأبطال الشعبيين ، أبطال الكفاح ، أو أبطال الصبر ، يسمعها الناس ، فيطربون بها ، ويرددونها ،و يكادون يحفظونها عن ظهر قلب ، مثل قصة « أدهم الشرقاوي » ، و شفيقة و متولي » ، و « أيوب المصري » ، و « سعد اليتيم » ، و غيرها .
و منها : الملاحم الشعبية للأبطال المعروفين ، مثل « أبي زيد الهلالي » ، و التي كان يجتمع لها الناس ، ليسمعوا القصة ، و يستمعوا معها إلى أشعار أبطالها على نغمات « الربابة » من « الشاعر الشعبي » الذي تخصص في هذا اللون ، و كانت هذه الملاحم لها عشاقها و تقوم مقام « المسلسلات » في هذا العصر .
و منها : أغاني الأعياد و الأفراح و المناسبات السارة ، مثل : العرس ، وولادة المولود ، و ختان الصبي ، وقدوم الغائب ، و شفاء المريض ، و عود الحاج . . . و نحوها .
و قد ابتكر الناس أغاني و أهازيج لحنوها ، وغنوها بأنفسهم في أحوال و مناسبات مختلفة ، مثل جني الثمار أو القطن و غيرها .
و مثل : أهازيج العمال و الفعلة ، الذين يعملون في البناء و حمل الأثقال و نحوها ، مثل : « هيلا ، هيلا . . صل على النبي » . . و هذا له أصل شرعي من عمل الصحابة ، و هم يبنون المسجد النبوي و يحملون أحجاره على مناكبهم . و هم ينشدون :
اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار و المهاجرة
حتى الأمهات ، حين يهدهدن أطفالهن ، و يهيئنهم للنوم ، يستخدمن الغناء ، و لهن كلمات مشهورة ، مثل : « يا رب ينام ، يا رب ينام . . . » .
ولازلت أذكر « المسحراتية » في شهر رمضان المبارك ، و هم يوقظون الناس بعد منتصف الليل بمنظومات يلذ سماعها منغمة مع دقات طبولهم .
و من جميل ما يذكر هنا : ما اخترعه الباعة في الأسواق ، و الباعة المتجولون : من النداء على سلعهم بعبارات منظومة موزونة ، يتنافسون في التغني بها ، مثل بائع العرقسوس ، و باعة الفواكه و الخضروات ، و غيرهم .
و هكذا نجد هذا الفن – فن الغناء – يتخلل الحياة كلها ، دينية و دنيوية ، و يتجاوب الناس معه بتلقائية و فطرية ، و لا يجدون في تعاليم دينهم ما يعوقهم عن ذك . و لم ير علماؤهم في هذه الألوان الشعبية ما يجب أن ينكر . بل أكثر من ذلك تجدها جميعاً ممزوجة بالدين و معاني الإيمان و القيم الروحية و المثل الأخلاقية ، امتزاج الجسم بالروح : من التوحيد ، و ذكر الله ، و الدعاء ، و الصلاة على النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) . . . و ما شابهها (لا أجد من الألحان و الأغاني الشعبية ما ينكره الدين ، إلا ما كانت تصنعه النائحة المستأجرة مما يهيج الأحزان ، و يثير الجزع ، و يحرم المصاب من الصبر على البلاء ، و الرضا بالقضاء .
و هذا الذي لاحظته في مصر ، و جدت مثله في بلاد الشام ، و في بلاد المغرب ، و غيرها من بلاد العرب .
* * * * *
- لم شدد المتأخرون في أمر الغناء ؟
يلاحظ أن المتأخرين من أهل الفقه أكثر تشديداً في منع الغناء - و خصوصاً مع الآلات – من الفقهاء المتقدمين . و ذلك لأسباب :
1- الأخذ بالأحوط لا الأيسر
إن المتقدمين كانوا أكثر أخذاً بالأيسر ، و المتأخرين أكثر أخذاً بالأحوط ، و الأحوط يعني : الأثقل و الأشد . و من تتبع الخط البياني للفقه و الفتوى منذ عهد الصحابة فمن بعدهم يجد ذلك واضحاً ، و الأمثلة عليه لا تحصر .
2- الاغترار بالأحاديث الضعيفة و الموضوعة
إن كثيراً ك الفقهاء المتأخرين أرهبهم سيل الأحاديث الضعيفة و الموضوعة ، التي امتلأت بها الكتب ، و لم يكونوا من أهل تمحيص الروايات ، و تحقيق الأسانيد ، فراجت لديهم هذه الأحاديث ، و لا سيما مع شيوع القول بأن تعدد الطرق الضعيفة يقوي بعضها بعضاً .
3- ضغط الواقع الغنائي
ضغط الواقع الغنائي بما يلا بسه من انحراف و تجاوز ، كان له أثره في ترجيح المنع و التحريم . و هذا الواقع له صورتان أثرت كل واحدة منهما على جماعة من الفقهاء .
غناء المجون و الخلاعة
الصورة الأولى : صورة « الغناء الماجن » الذي غدا جزءاً لا يتجزأ من حياة الطبقة المترفة ، التي غرقت في الملذات ، و أضاعت الصلوات ، و اتبعت الشهوات ، و اختلط فيها الغناء بملابسة الفجور ، و شرب الخمور ، و قول الزور ، و تلاعب الجواري الحسان المغنيات ( القيان ) بعقول الحضور ، كما شاع ذلك في حقب معروفة في العصر العباسي .
و كان سماع الغناء يقتضي شهود هذه المجالس بما فيها من خلاعة ومجانة و فسوق عن أمر الله .
و من المؤسف أن البيئة الفنية في يومنا لا زالت مشربة بهذه الروح ، ملوثة بهذا الوباء . و هذا ما يضطر كل عائد إلى الله ، من الفنانين و الفنانات – الذين أكرمهم الله بالهداية و التوبة – أن ينسحب من ذلك الوسط ، ويفر بدينه بعيداً عنه .
غناء الصوفية
و الصورة الثانية : صورة « الغناء الديني » الذي اتخذه الصفية وسيلة لإثارة الأشواق ، و تحريك القلوب في السير إلى الله ، مثلها يفعل الحداة مع الإبل ، فينشطونها ويستحثون خطاها ، حين تسمع نغم الحداء الموزون بصوت جميل . فتستخف الحمل الثقيل . و تستقصر الطريق الطويل ، و هم يعتبرون ذلك السماع عبادة و قربة إلى الله ، أو – على الأقل – عوناً على العبادة و القربة .
و هذا ما أنكره عليهم أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية ، و تلميذه الإمام ابن القيم ، اللذين شنا على الغناء هجوماً عنيفاً حاداً ، و خصوصاً ابن القيم في « إغاثة اللهفان » الذي شحذ كل أسلحته ، و أجلب بخيله و رجله لتحريم الغناء ، واضح – على غير عادته – بغير الصحيح ، و غير الصريح ، إذ كان نصب عينيه ذاك النوع من الغناء ، و قد رأي فيه هو و شيخه أنه بقرب إلى الله بما لم يشرعه ، و إحداث أمر في الدين لم يكن على عهد النبوة ، و لا عهد الصحابة . و ربما لا بسه بعض البدع ، و لا سيما إذا وقع في المساجد .
أنشد ابن القيم مشنعاً :
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه إطراق لاه ساهي !
و أتى الغناء فكالحمير تناهقوا و الله مار قصوا الأجل الله !
دف و مزمار ، و نغمة شادن فمتى رأيت عبادة بملاهي ؟
و في بعض فتاوى ابن تيمية ما يجيز الغنائ إذا كان لرفع الحرج و الترويح .
* * * * *
- تحذير من التساهل في إطلاق التحريم :
و نختم بحثنا هذا بكلمة أخيرة نوجهها إلى السادة العلماء الذين يستخفون بكلمة « حرام » و يطلقون لها العنان في فتاواهم إذا أفتوا ، و في بحوثهم إذا كتبوا ، عليهم أن يراقبوا الله في قولهم ، و يعلموا أن هذه الكلمة «حرام » كلمه خطيرة : إنها تعني عقوبة الله على الفعل ، و هذا أمر لا يعرف بالتخمين و لا بموافقة المزاج ، و لا بالأحاديث الضعيفة ، و لا بمجرد النص عليه في كتاب قديم ، إنما يعرف من نص ثابت صريح ، أو إجماع معتبر صحيح ، و إلا فدائرة العفو و الإباحة واسعة ، و لهم في السلف الصالح أسوة حسنة .
قال الإمام مالك رضي الله عنه : ما شيء أشد على من أن أسأل عن مسألة من الحلال و الحرام ؛ لأن هذا هو القطع في حكم الله ، و لقد أدركت أهل العلم و الفقه ببلدنا ، و إن أحدهم إذا سئل عنه كأن ا
الموت أشرف عليه ، و رأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا ، و لو و قفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا ، و إن عمر بن الخطاب و علياً و عامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل – و هم خير قرون الدين بعث فيهم النبي ( صلي الله عليه و آله و سلم ) فكانوا يجمعون أصحاب النبي ( صلي الله عليه و آله و سلم ) و يسألون ، ثم حينئذ يفتون فيها ، و أهل زماننا هذا قد صار فخرهم ، فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم . . قال : و لم يكن من أمر الناس و لا من مضى من سلفنا الذين يقتدي بهم ، و معمول الإسلام عليهم ، أن يقولوا : هذا حلال و هذا حرام ، و لكن يقول : أنا أكره كذا و أرى كذا ، و أما «حلال » و « حرام » فهذا الافتراء على الله. أما سمعت قول الله تعالى: (قلُ أَرَءَيُتم مَّا أَنُزلَ الّلَه لَكمُ مِن رِزُقِ فَجَعَلُتمُ مِنُه حَرَامَا وَحَلَالَا قلُ ءَآلله أَذِنَ لَكمُ أَمُ عَلَى الله تَفُتَرونَ )(سورة يونس(59)) لأن الحلال ما حلله الله ، و رسوله ، و الحرام ما حرماه .
ونقل الإمام الشافعي في « الأم » عن الإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة : « أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا : هذا حلال و هذا حرام ، إلا ما كان في كتاب الله عز و جل بيناً بلا تفسير .
وحدثنا لبن السائب عن الربيع بن خيثم – و كان أفضل التابعين – أنه قال : إياكم أن يقول الرجل : إن الله أحل هذا أو رضيه ، فيقول الله له : لم أحل هذا و لم أرضه ! و يقول : إن الله حرم هذا ، فيقول الله : كذبت ، لم أحرمه و لم أنه عنه !
وحدثنا بعض أصابنا عن إبراهيم النخعي أنه حدث عن أصحابه : أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه ، قالوا : هذا مكروه ، و هذا لا بأس به ، فأما أن يقول : هذا حلال و هذا حرام ، فما أعظم هذا » .
|