كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537
|
ما الذي يمنع الخطيب من الإبداع ؟
للخطابة منزلة كبيرة عند العرب قديماً , ثم جاء الإسلام فصارت شريعة من شرائعه , لها مكانها المعلوم في الدين ( يوم الجمعة , والعيدان , والاستسقاء ) .
وكان الخطيب قديماً يعتمد في خطابته على ما وهبه الله من الفصاحة والبلاغة , وقوة الحجة , وسلامة اللغة , وجودة البيان .
ثم تقهقرت همة الناس , وبعُدت عليهم الشقة من لسان العرب , فأصبح الخطيب المصقع عملة نادرة لا يكاد يوجد إلا بشق الأنفس , ومع الانفتاح التعليمي والمعرفي ظهرت خطابة جديدة لم تكن معروفة من قبل على المستوى العربي , وخاصة في هذه البلاد , وهي الخطابة المقروءة , التي يقوم فيها الخطيب بقراءة ورقة على الناس , ثم ينزل بعد أن يُسمعهم غثا من الكلام , لا يستقيمُ لسانُه , ولا يرتفِعُ بَيَانُه , ولا يسمو خِطابُه , بل تجد الخطبة محشوةً بما يُصِمُّ الآذان من اللحن الظاهر الجلي , قبل الباطن الخفي , ومن سقيم التكرار , وحشو القول ما يجعل السامع يتململ لعل الخطبة تنتهي .
كل هذا والخطبة بين يديه يقرؤها كما يقرأ الصبي كتابه في الإذاعة المدرسية , فليت شعري , كيف سيكون الأداء لو كان يرتجل الخطبة ارتجالاً ؟
إنك لو أعطيت طفلا في العاشرة من عمره ورقة من عيون الأخبار أو البيان والتبيين , وقلتَ له : إنك ستقرؤها أمام زملائك بعد يومين أو ثلاثة فاستعدَّ لذلك , فإني أجزم يقيناً أنه سيؤديها كما كتبها مؤلفها , سليمة نقية , فكيف بمن يعتلي منابر المسلمين وقد أمهر اسمه بلقب الدكتور أو الأستاذ أو الشيخ أو المعلم أو الداعية , أو غيرهم من الألقاب التي يغتر بها هذا الخطيب أو ذاك , وهو لا يحسن أن يقرأ خطبة مكتوبة معه قراءة سليمة !!
سؤال يتردد في داخلي كثيراً : ما الذي يمنع الخطيبَ من الإبداع لغة وأسلوباً , واختصاراً وترتيبا ؟
أليس يقرؤها من ورقة أمامه معدة مسبقاً ؟
ألا يستطيع ضبطها بالشكل كاملة كي يتوقى اللحن ؟
إن كان لا يستطيع الضبط فليُعْطِها من يستطيع , فالأرحام لم تعقم بعد من أناس منّ الله عليهم بمعرفة العربية , وإجادتها .
ألا يستطيع الخطيب قراءة الخطبة أكثر من مرة تلافياً للأخطاء ؟
ألا يستطيع ترتيب أفكارها , وتسلسل عناصرها ؟
ألا يستطيع حشد الأدلة قدر الإمكان بشكل موجز ؟
ألا يستطيع تلافي التكرار المخل لبعض الجمل , والفواصل , كي لا يكون عَيِيّاً , وهو يزعم الفصاحة ؟
إنك لتسمع الخطيب , وتُعجب بِجَهارة صوته , وقوة بيانه , وحسن لفظه , ثم لا يلبث أن يسقط من عينك حين تسمع منه لحناً عظيما لا يُغتفَرُ من مثله , فالفاعل أصبح منصوباً , والمفعول غدا مرتفعاً , والمخفوض تخلى عن الخفض إلى الرفع , ناهيك عن اللحن بالجمع , والمصادر , والأفعال .
لو كانت المسألة لحناً واحدا أو لحنين لاغتُفِرَ له ذلك , ولكنها منظومة متكاملة من اللحن لا تخفى على السامع , تتكرر كل جمعة , وكأنّ قواعد العربية نحوها وصرفها لا تعنيه من قريب أو بعيد .
لقد سافرت إلى أرض الكنانة ( مصر ) فصليت الجمعة هناك , فذهلت مما أرى من قدرة الخطيب على طرح الموضوع بكل فصاحة وبلاغة , ولا تكاد تجد عليه لحناً إلا تحلة القسم , علماً أنه يخطب مرتجلاً دون أن يستتر خلف ورقة مكتوبة يقرؤها أمام الناس .
فاصلة :
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً ## كنقص القادرين على التمام
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ
[ محمود سامي البارودي ]
|