يعاني مجتمعنا العربي عمومًا والسعودي خصوصًا من أزمة قلة المبدعين من أبناء هذا البلد ، وهذا يُنبئك عن استمرار تخلفنا أو تراجعنا – إن أرنا تلطيف العبارة - في شتى المجالات عن غيرنا من الشعوب ، وهذا نذير شؤم على مستقبل الأمة التي عاشت وما زالت تصارع مشكلة التخلف .
لست مع من يضيق دائرة الإبداع ويختزلها في محيط الصناعة المتقدمة أو الهندسة أو الطب ، إنما هذه الأمور جزء من الإبداع بل هي أسماها ، ولكن دائرة الإبداع تتسع لكل أمرٍ حسنٍ يعود على الفرد والمجتمع بالخير والفائدة .
إن أولَ خطوة نضعها في طريق صنع المبدعين كسرُ الروتين القاتل الذي يجلب السأم والملل ويدعو إلى الكسل والخمول ، فكثير من أبنائنا لا يعرف الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه ، بل تجده قد شارف على الانتهاء من الثانوية دون تحديد تخصص يرغب بدخوله ، فتجده يسير مع رغبات زملائه أو أقاربه دون دافع داخلي إلى هذا التخصص أو ذاك .
وللتخلف مظهر آخر يبدو بلباس الحضارة ، ألا وهو تحديد الأب أو الأخ أو غيرهما مسار الابن في تخصصه الجامعي دون اعتبار لميول الطالب نفسه ، فيُجبر الطالب على دخول قسم لايرغب به والنتيجة تخريج طالب غير فاعلٍ ومبدعٍ في مجاله أو الانسحاب في منتصف الطريق ؛ لعدم رغبته بذلك التخصص .
** البيئة صانعة الإبداع ..
أكاد أجزم أن شريحة كبيرة من أبنائنا تمتلك أدوات الإبداع ، وأعني بذلك الموهبة الفطرية ، ولكن المشكلة في تطوير المواهب وصقلها ، فلا نكاد نجد بيئة حاضنة للموهوبين ، فتوأد المواهب في مهدها .
فالبيت هو الحاضن الرئيس للموهوب ، ومع ذلك لا نجد اهتمامًا من الأب أو الأم أو أحد الإخوة بتلك الصفة التي نبغ بها الطفل ، بل إنَّ ثمة دراساتٍ تؤكد على وجود ارتباط بين انخفاض مستوى الإبداع والبيئة المنزلية التي تتفنن في قتل المواهب بنقدها الدائم للفشل .
إن اكتشاف مواهب الطفل يعتبر مهارة مستقلة قلَّ من يتقنها ، وبعد اكتشاف مواهب الطفل يجب أن نشجعه على ممارسة تلك الموهبة وصقلها وتطويرها سواء بإدخاله دورات في مجال ميوله أو توفير الكتب والأشرطة التي تعينه على تطوير نفسه أو إدخاله جمعية تُعنى بالموهوبين وتهتم بهم ، فأحيانًا بل دائمًا تقتل الميول في نفس الإنسان إن لم يجد بيئة تعينه على هذه الموهبة .
وإن ذهبت إلى المدرسة فإنك واجدٌ إهمالاً عجيبًا من المدرسة والمدرس بإبداعات التلاميذ ، فقلَّ أن تجد مدرسة تهتم بطلابها المتفوقين وتقيم لهم البرامج المشجعة والدورات المطورة واللقاءات المحفزة للإبداع والتفوق .
إن ارتفاع مستوى الإبداع مرتبط بتوفير التشجيع والتحفيز في المنزل والمدرسة وغيرهما .
إن مجتمعنا بأفراده ومؤسساته قاتلٌ للمبدعين والنابغين ، ولك أن تنظر إلى نسبة البطالة المستشرية في جسد مجتمعنا لتدرك حقيقة ذلك .
فكيف تريد من فرد أن يثابر ويجتهد وهو يرى زميلاً له في نفس التخصص قدَّر الله عليه أن يتخرج من جامعته دون أن يجد وظيفة مناسبة له تليق بتخصصه ، فالطالب إذًا يرى أنه مقبل على مصيبة عظيمة ومشكلة عويصة عند التخرج !! فأنى له الفرح بالتخرج ؟!
إننا مع الأسف نتفنن في الإغراق بالجزئيات والشكليات دون اهتمام بالجوهر ، فقرأت في صحيفة الجزيرة تصريحًا لنورة الفايز تطالب فيه بزيادة ساعات اليوم الدراسي دون أن تتطرق للآلية التي يسير عليها التعليم ، وكأن مشكلتنا الكبرى تكمن في عدد ساعات اليوم الدراسي !! متجاهلة المشكلة الحقيقية التي نعانيها وهي الكيف وليس الكم .
وفي نفس التصريح طالبت بزيادة نصاب المعلم والمعلمة إلى ثلاثين أو خمس وثلاثين حصة !! مدعية أن الدراسات أثبتت أن هذا هو النصاب الطبيعي !! وفعلاً شر البلية ما يُضحك .
وعوَّض الله تعليمنا خيرًا إذا كانت هذه تصريحات مسؤوليه ، ولا أعتقد أننا سنجد تقدمًا في التعليم مادام المسؤولون منصرفين عن مهمتهم الأولى – وهي الاهتمام بمخرجات التعليم – إلى أمور جانبية شكلية لا تشكل أهمية في تطوير المخرجات .