مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 26-06-2009, 01:04 PM   #8
الولاعة
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Jun 2009
البلد: على أارصفة الضياع
المشاركات: 1,429
قام عامر يتمطى فقد أرهقه الإنحناء وهو يتفحص النمل, وأخذ يلوي جسمه من جانب لآخر كأنه يهيء نفسه لفترة أخرى يقضيها في التسلي بمراقبة النمل, وجمد جسمه فجأه فقد تنبأ لغياب صاحبه هشام فصاح ينادي:
- هشام...
ولم يسمع جواباً, وفزع أمين واقفاً يتلفت في سرعة و ينادي:
- هشام...
واندفع أمين يبحث عن صاحبه في كل اتجاه في سرعة الملهوف.
كما اندفع عامر نحو الباب ظناً منه بخروج هشام.
وكم كانت المفاجأه ثقيلة.. فقد تبين له أن الباب قد أغلق, وأحكم إغلاقه, ودارت يداه تعبث حول الباب عله يستطيع فتحه, ولكنه قد أقفل بطريقة غير مفهومة.
وصاح يخبر أمين بخبر الباب, وكان أمين مازال في اندفاعه منشغلاً يبحتث عن هشام, حينما صدمه خبر انغلاق الباب.
والتقى الصديقان وسط الفناء بعيداً عن الجدران, وأخذ كل منهما ينظر في عيني صاحبه وقد امتلأت عيونهما بالخوف والحيرة والتساؤل. وقد بدا لأمين أن انفتاح الباب أول الأمر لم يكن وهماً, وما يؤكد ذلك انغلاق الباب واختفاء هشام.
وها قد بدت معالم من صدق حديث العجوز.
قال أمين:
- يا عامر علينا أن نبحث عن هشام فالثلاثة أقدر على مواجهة الصعاب من إثنين.. ولعل هشام الآن في ضيق يحتاج إلى من يعاونه في الخروج منه.. وقد خطر لي الآن أن نتتبع آثار قدميه لنرى أين اتجهت, فهيا بنا.
وذهب أمين إلى حيث كانوا يراقبون النمل وتبعه عامر. وبدأ الإثنان يتعاقبان الأثر, فإذا بهما يسيران في اتجاه مسار النمل.
وبدت آثار أقدام هشام واضحة على الأرض فتعجل عامر خطوة وأسرع في تتبع آثاره إلى أن أوصلته آثار الأقدام إلى الغرفة وأمين في قدومه أبطأ منه, فقد كان يدقق النظر في آثار الأقدام, كل ذلك يجري والعين ترقب.
وما إن دخل عامر الغرفة حتى ارتد فزعاً وهو يصرخ ويعدو كالريح إلى باب المخرج يطرقه بشدة كالمجنون, ويبحث عن طريقة يفتح بها الباب..
وما إن فعل عامر هكذا حتى تبعه أمين كالريح وقد طار قلبه هلعاً دون أن يفهم مالذي حدث!!
أخذ أمين يلح على عامر أن يذكر له ماذا رأى, وهو يحاول في نفس الوقت فتح الباب ولكن عامر كان يلهث فزعاً. فبدأ أمين يهدئه حتى يفهم الأمر.
وأخيراً قال عامر:
- بينما كنت أهم بدخول الغرفة التي انتهت إليها آثار الأقدام لمحت....
ثم سكت فقال أمين:
- ماذا لمحت؟
- جلباب هشام...
- هل رأيت هشام؟
- كلا لم أره, ولكني لمحت جلبابه وحذاءه على الأرض الغرفة وقد تبعثرا بما يوحي إليّ أنه قد أصابه مكروه, وقد تصورت أنه...
- تصورت ماذا؟
ولم يجيب فأردف أمين:
- أواثق أنك لم تره ؟
- نعم أنا واثق ولكنه... ولكنه...
صمت قليلاً ثم قال:
- ألست معي في أن ملابسه بوضعها الذي رأيتهه تؤكد أن مكروهاً قد ألم به؟
- يساورني يا عامر خوف مما تقول... ولكنك لست على يقين!!
- لماذا؟
- لأنك لم تره بعينيك.
- وما ما معنى الذي رأيته؟
- قد يكون الصواب إلى جوارك, يدعم شبهتك وقد لا يكون ويجب أن نعرف الحقيقة ونرى بأعيننا.
- تعني أن ندخل الغرفة لا لا أستطيع يا أمين, اذهب أنت وحدك.
- وأنت.. هل ستبقى وحدك؟
وفكر عامر في بقائه وحده, وقال:
- ليست لي قدرة يا أمين على دخول هذه الغرفة, كما أن قلبي ما زال منقبضاً وصدري ضيق, وهنا الفناء واسع والشمس تملأ المكان ضياء ونفسي تأنس إلى الضياء...
- يا عامر هيا نذهب فالنهار ما زال يؤنسنا.. وإذا ذهبت وحدي فستبقى وحدك كذلك وهذ يزيد وحشتك ثم يأتي عليك الليل.. ورأي أن نكون سوياً يؤازر أحدنا الآخر وننقذ هشاماً فنكون حينئذ ثلاثة بدلاً من اثنين.
وتردد عامر ولم يعد قادراً على أن يحسم رأيه هل يشارك أمين ويدخل الغرفة, أم يبقى وحده.
تنهد أمين ثم تحرك نحو الغرفة, فقام عامر مسرعاً ثم قال:
- انتظر...
وقف أمين والتفت ثم قال:
- هل قررت...؟
- أجل سوف آتي معك.
إبتسم أمين ثم قال:
- هذا جيد.
وفي طريقهما إلى الغرفة أخذ أمين يغني بصوت مرتفع ليذهب عنه الخوف, كان أمين يسبق عامر بخطوات قليلة وعامر خلفه تتردد خطاه ويستجمع عزمه.
وكان صوت أمين المرتفع الذي يغني به ليذهب خوفه بدأ ينخفض ثم انقطع ولم يبقى على باب الغرفة إلاَّ القليل, وقف أمين وبقيت خطوتان على دخوله الغرفة, ووقف عامر خلفه يبعد عنه خطوات, وما زال أمين واقفاً يستجمع شجاعته.. ثم مضى يقطع الخطوتين في حذر بالغ حتى وقف أمام الباب يقلب الطرف في الغرفة ويدقق النظرة في الأرض.
حقاً هذا هو جلباب هشام وهذا هو حذاؤه, ثم أطل برأسه قليلاً إلى الداخل.. رأى أثر قدمي هشام الحافيتين تمضيان إلى داخل إلى فتحة في نهاية الغرفة. ولا شيء غير الذي رآه....
نادى أمين:
- تعال يا عامر.
فأتى عامر متردداً ووقف إلى جوار أمين فأراه أمين أثر قدمي هشام الحافيتين تمضيان إلى الفتحة الجانبة. وبد لهما أن هناك غرفة أخرى دخل إليها هشام.. وكان عامر يتحدث إلى أمين مؤيداً قوله حينما أشار إليه أمين بالسكوت .. وأدار أذنه للداخل .. وكان صوتاً خفيفاً يأتيهما, وأرهف أمين السمع..
آه.. إنه خرير الماء .
لعل نبعاً في الداخل يصدر عنه هذا الصوت, وقد خطرت فكرة لأمين تفسر ما حدث.
فلعل هشام قد رأئ الماء الذي أسمع صوته فخلع جلبابه وحذاءه ومضى إلى النبع يستحم.
ودخل أمين متجهاً بهدوء ليرى الغرفة الداخلية والعين لم تغفل عن تتبعهما.
ودخل أمين.. وكان عامر ما زال بجوار الملابس التي تركها هشام في الغرفة الخارجية وحينئذ, أطلق أمين صرخة مدوية:
- اهرررررب يا عااااامر....
واندفع عامر بكل قواه مؤثراً النجاة بنفسه وخرج إلى الفناء الفسيح يعدو ويتلمس لنفسه مهرباً.
ثم ذهب إلى الباب يفتش عن وسيلة تسعفه في فتحه والخلاص مما هو فيه. وكان يبذل أقصى جهده بقوة لم يعهدها في نفسه من قبل.ولم يكن يقوى على الصياح لجهده الذي بلغ منتهاه التماساً لمخرج, كان يلتفت إلتفاتة الفزع نحو الغرفة من حين لآخر مستطلعاً ما عساه يخرج منها.
وجاء الليل , وارتحل الضوء مع الأنس والطمأنينة اللتين تصاحبانه أبداً.. وعيناه وعينا عامر تزدادان اتساعاً كلما زاد الظلام .. وهو على حاله من الخوف والجهد وعدم الاهتداء.
وغلبه الإعياء والإرهاق وأخذته إغماءة من شدة خوفه - ومضى الليل وما وعى من إغفائه..
ولا أفاق من نومه إلاَّ بعد أن لسعته أشعة الشمس صباح اليوم التالي.
فتح عينيه ينظر إلى الدنيا حوله وكأنه أفاق من أحلام ليل داهم الخطوب. وأخذ بصره يدور, فرأى جدران البيت حول الفناء عالية, فظن أنه في بيته الذي ألف أن يرى سقفه عندما يفتح عينيه كل صباح...
وخاطب نفسه قائلاً:
- ما الذي غير بيتنا.. لم تكن أبداً مثلما أراها الآن.
وسبحت عيناه في الفضاء وقد ملائهما دهشة المتسائل المستنكر يحاول أن يعي وأن يفهم..
وعندما هم بتحريك أطرافه ليرفع حسمه المسترخي على التراب لم تسعفه قواه لكثرة ما أنفقه بالأمس من جهد.
وفجأة..حضرته ذاكرته وتذكر كل ما كان من يومه الفائت.
فانتفض على قدميه واقفاً, والتصق بالجدار وعينه لا تتحول عن باب الحجرة, وأفكاره تتوالى سريعاً.
وامتدت يد من وراء العين التي ترقبه بصمت وهدوء عجيبين مشيرة إلى فتحة صغيرة في الجدار الذي يواجه عامر...
والمسكين لا يرى ولا يدرك ما يدور حوله. ومضت لحظات.
ثم خرجت من هذه الفتحة جموع لا يحصيها عد, من النمل الأبيض الكبير الذي يأكل الإنسان حتى عظمه في لحظات. وازداد اندفاعها من هذه الفتحة الضيقة, كأنه نبع من النمل الأبيض قد تفجر, وخرجت سيولة دافقة تغرق المكان وتندفع في كل اتجاه .. وتكدست موجات النمل, وركب بعضها بعضاً حتى علت مثل قامة الرجل الطويل وتدفق ذلك الموج نحو عامر الذي هو مصدوم من هذا المنظر العجيب وكاد النمل يحيط به إحاطة السوار للمعصم ولم تترك له إلا فتحة ضيقة لينجو بنفسه من هذا الخطر الداهم.
وعامر يرقب هذا الأمر دون أن تكون له فسحة للتفكير.. ويرفع يديه ليغمض عينيه من شدة الهلع. ثم يفتحهما ويفعل ذلك مراراً دون أن ينجيه قفل عينيه من هذا الخطر الداهم.
وما إن اكتملت الموجات حتى اندفع عامر من خلال الفتحة الضيقة التي تركتله, وأخذ يعدو منها والنمل يضيق هذه الفتحة رويداً رويداً وعامر يسرع عدواً خلال هذه الفتحة لينجو بنفسه قيل أن يطبق عليه النمل الأبي.
وأسلمته هذه الفتحة للغرفة الأولى ثم الثانية التي دخلها أمين بالأمس. وأطلق النمل بعضه على بعض بمجرد دخوله الغرفة الثانية التي لم يدخلها النمل ووقف عامر لا يستطيع أن ينظر خلفه ليرى النمل وهو ينحسر سريعاً عن المكان ويعود إلى الفتحة التي خرج منها بمثل سرعنه في الإنتشار وكأن حدث عجيباً لم يحدث...
وبقي عامر في الغرفة وقد جف حلقه من شدة الخوف. ووقع على الأرض يجهش بكاء ويئن أنينا..
وبينما هو على حاله.. امتدت إليه من وراء التي ترقبه يد طويلة, أصابعها كثيرة, واقتربت نحوه من خلفه في هدوء الأفعى المخيفة - تتحسس الطريق إلى ظهر عامر وتنفتح الأصابع الطويلة العديدة في كل اتجاه كأن كل إصبع له عمل محدد.
وعام المسكين غير دار بما حوله.. والأصابع في رخاوة أذرع الأخطبوط ورطوبتها وقوتها.. ودنت راحة اليد من ظهره.. ولمّا بقي بينهما بين ظهر المسكين قدر أصبع, وفي مثل لمحة البصر الخاطف أطبقت راحة اليد فالتصقت بظهر عامر والتفت أصابعها, كل منها يعمل عمله فتغيرت رجلاه وذراعاه بما لا يقدر عامر على الإفلات منه, والتف إصبع حول فمه يسكته عن النحيب والبكاء.
وساد المكان صمت يحاكي صمت القبور وارتفعت اليد بفريستها وأخذت تطول رويداً رويداً...


واتجهت به نحو ركن الغرفة الداخلي, ووقفت به أمام حجر في الجدار داكن اللون, وامتدت إصبعان من هذه اليد العجيبة إلى الأمام نحو الحجر كأنهما قرنا استشعار طويلتين, وعالجا الأحجار المحيطة بالحجر الداكن في درية ومهارة عظيمتين .. ثم بدأت الإصبعان في دفع الحجر إلى الداخل فانزلق الحجر أمام الإصبعين وطالت اليد.. ثم طالت, وهي تمضي في فحيح لفريستها في هذا الممر الضيق المظلم الطويل, الذي ينحسر عنه الحجر الداكن.
ومضت لحظات ولحظات, واليد تمضي في الممر حتى تكشفت أرضه عن قبو كبير, يقع أسفل الممر - وتدلت اليد العجيبة من سقف القبو وهي مطبقة على فريستها, ثم أنزلت عامراً بهدوء إلى أرض القبو وعادت من حيث جاءت.
وأقفل سقف القبو بعودة الحجر الداكن خلف اليد العجيبة التي أخذت تنسحب رويداً رويداً. تاركة عامر المسكين في غيبوبة ثانية.
أفاق عامر وهو يئن أنيناً متواصلاً.. والمكان كله يهتز لصدى الصوت.. كأنه يشارك عامراً أنينه.
وعيناه تنظران إلى سقف القبو لا تتحولان عنه.
وعلى صدره أيدٍ حانية تهدهده ليستجمع وعيه, ومال رأسه قليلاً فالتقت عيناه بعيني الأمين تنظران إليه بشوق وحنان عظيمين وسمع صوتاً يقول له:
- لله الحمد على سلامتك يا عامر.
وما كان هذا الصوت إلاَّ صوت هشام ينبعث من الجانب الآخر وأدار رأسه فالتقت عيناه بعيني هشام منفرجاً ثغره عن ابتسامة دونها عذوبة الجمال
الولاعة غير متصل