اسمع ـ يا صاحب الحبر الأصفر ـ ماذا يقول عنا شيخكم وأديبكم الرائع الجاحظ في وصف فضائلنا التي لم تنالوا ولو جزءاً يسيراً منها، يقول: (الْكَلْبُ حَيَوَانٌ كَثِيرُ الْوَفَاءِ، قَلِيلُ السَّآمَةِ، صَبُورٌ عَلَى الْجَفْوَةِ، حَمُولٌ لِلْجِرَاحَاتِ الشِّدَادِ، وَمِنْ طَبْعِهِ أَنَّهُ يَحْرُسُ صَاحِبَهُ وَيَحْمِي حُرْمَتَهُ، شَاهِداً وَغَائِباً، نَائِماً وَيَقْظَاناً، وَهُوَ أَيْقَظُ الْحَيَوَانِ عَيْناً فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ لِلنَّوْمِ، وَهُوَ فِي نَوْمِهِ أَسْمَعُ مِنْ فَرَسٍ، وَإِذَا نَامَ كَسَرَ أَجْفَانَ عِيْنَيْهِ، وَلاَ يُطْبِقُهَا وَذَلِكَ لِخِفَّةِ نَوْمِهِ. وَمِنْ أَنَفَةِ الْكَلْبِ أَنَّهُ لاَ يَرْضَى بِالنَّوْمِ، وَالرُّبُوضِ عَلَى عَفَرِ التُّرَابِ مَتَى رَأَى الْبِسَاطَ، وَلاَ يَرْضَى الْبِسَاطَ إِذَا هُوَ وَجَدَ الْوِسَادَةَ، فَمِنْ نُبْلِهِ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ دَائِماً أَنْبَلَ مَوْضِعٍ فِي الْمَجْلِسِ)!
إننا يا سيدي أحمد، نتمتع بصفات منحنا إياها العلاّم الحكيم، من منكم يملك ما قاله الجاحظ عنا؟! ويكفي أنه يقول أننا نجيد فضيلة التعلم، لا ندّعي العلم والمعرفة كما تفعلون، بل نُمارس حياتنا وفق إمكانياتنا المُتاحة، وقدرتنا على التعايش في ظل فن الممكن، بعيدين عن المثاليات والفضائل المُجردة، ويكفي أننا نتمثل آداب الطعام على الطريقة (الكِلابية)، التي آمنّا بها! اسمع أيضاً ما رصده الجاحظ من خلال إقامته بيننا في وصفنا ـ وليس من رأى كمن سمع: (وَالْكَلْبُ يَقْبَلُ التَّأْدِيبَ وَالتَّلْقِينَ وَالتَّعْلِيمَ، حَتَّى لَوْ وَضَعْتَ عَلَى رَأْسِهِ مِسْرَجَةً، وَطَرَحْتَ لَهُ طَعَاماً، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، فَإِذَا أَخَذْتَ الْمِسْرَجَةِ مِنْ رَأْسِهِ وَثَبَ إِلَى الطَّعَامِ. وَمِنْ عَجِيبِ طِبَاعِهِ أَنَّهُ يُكْرِمُ الْجُلَّةَ"2" مِنَ النَّاسِ، وَأَهْلُ الْوَجَاهَةِ، وَلاَ يَنْبَحُ أَحَداً مِنْهُمْ، وَرُبَّمَا حَادَ عَنْ طَرِيقِهِ، وَيَنْبَحُ الدِّنِسَ الثِّيِّابَ مِنَ النَّاسِ، وَالضَّعِيفَ الْحَالِ، وَمِنْ طِبَاعِهِ الْبَصْبَصَةَ وَالتَّرَضِّي، وَالتَّوَدُّدَ وَالتَّآلُفَ، بِحَيْثُ إِذَا دُعِيَ بَعْدَ الضَّرْبِ وَالطَّرْدَ رَجَعَ، وَإِذَا لاَعَبَهُ صَاحِبُهُ، عَضَّهُ الْعَضَّ الَّذِي لاَ يُؤْلِمُ، وَأَضْرَاسُهُ لَوْ أَنْشَبَهَا فِي الْحَجَرِ لَنَشَبَتْ! وَفِي الْكَلْبِ مِنْ اقْتِفَاءِ الأَثَرِ، وَشَمِّ الرَّائِحَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَالسُّلُوقِي مِنْهَا يَعْرِفُ الْمَيِّتَ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْمُتَمَاوِتِ، حَتَّى أَنَّ الرُّومَ لاَ تَدْفِنُ مَيْتاً حَتَّى تَعْرِضَهُ عَلَى الْكِلاَبِ لِتَتَيَقَّنَ مِنْ مَوْتِهِ)!
أحمد ـ أيها الكاتب ـ إنه ليُزعجنا أن تصفوا الحقير من أبناءكم بالكلب الذي يحرس أموالكم وأغنامكم، ويحمي خيامكم في السابق، ومنازلكم في اللاحق، في حين أنكم تصفون النجيب من أبناءكم بالذئب، الذي يأكل بهائمكم، ويغدر بكم، ويحتال عليكم!
إننا ـ يا صاحب الحبر الأصفر ـ أتينا إليك يسوقنا العشم، ويحدونا الأمل، أن تطلب من قومك أن يكفوا عن الزج باسمنا في متاهات النجاسة، ودهاليز الخساسة، ومواقع الشتم، ولولا عشمنا فيك، لأخذنا ثأرنا بأيدينا، وأنت تعرف أننا لسنا قليلي حيلة ولا جبناء، ولا نخاف في الدفاع عن أنفسنا لومةً من بني آدم!
إننا نتطلع إلى ذلك اليوم الذي تتركوننا فيه نمارس حياتنا التي خُلقنا من أجلها، إننا نحدثكم الآن بمنتهى الأدب، وإذا لم يتوقف قومك عن الخوض في شؤوننا الداخلية، فلا يلوموا إلا أنفسهم، وقد أعذر من أنذر! ولتعلم أننا نستفيد من أخطائنا، وقد أثبت عالِمكم الكبير بافلوف أن الكلب لا يُلدغ من نفس الجحر أكثر من مرّتين!
إننا يا أبا سفيان، لا نتشرف بكم، واعتذر لنا من الإمام الشافعي الذي تمنى مجاورتنا، لأننا نريد أن نعيش بسلام، إننا نحب الحياة، ولن ننسى نصيبنا منها، وأنتم أناس أُلهمتم في نفوسكم الفجور والشرور والغرور.. إننا نعتذر للإمام الشافعي عن تحقيق أمنيته التي قال فيها:
لَيْتَ الْكِلاَبَ لَنَا كَانَتْ مُجَاوِرَةً * وَلَيْتَنَا لاَ نَرَى مِمَّنْ نَرَى أَحَداَ
إننا يا سيدي نُطالبكم أمام هيئة الأمم المُتحدة، أن تعودوا إلى كُتب تراثكم، لتجدوا الغريب والعجيب من احترام أسلافكم البشريين لنا، ففي مناقب الإمام أحمد بن حنبل أنه بلغه أن رجلاً من وراء النهر عنده أحاديث عن الرسول، فرحل إليه، فوجده يُطعم كلباً، فسلم عليه ابن حنبل، فرد السلام، ثم انشغل عن ضيفه بإطعام الكلب، فاغتاظ ابن حنبل، إذا أقبل الشيخ على الكلب ولم يُقبل عليه! فلمّا فرغ الشيخ، التفت إلى ضيفه وقال: (كأنك وجدت في نفسك، إذ أقبلت على الكلب ولم أقبل عليك)؟! قال: (نعم). قال: (قال رسو الله صلى الله عليه وسلّم "مَنْ قَطَعَ رَجَاءَ مَنْ ارْتَجَاهُ، قَطَعَ اللهُ مِنْهُ رَجَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَلِجِ الْجَنَةَ" وقد قصدني هذا الكلب، فخفت أن أقطع رجاءه فيقطع الله رجائي منه)! فقال ابن حنبل: (هذا الحديث يكفيني)، ثم رجع!
يا أحمد، لقد أنصفنا الكاتب الفرنسي، حين قال: (عندما عاشرت الناس ازداد حُبِّي لكلبي)!
انتهى حديث كبير وفد بني كلاب، وخرجوا من عندي بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم، وخرجوا وأنا أغطي وجهي خجلاً من أفعال بني قومي! إنني شعرت بما شعر به شاعرنا الكبير أحمد الصافي النجفي، عندما رأى احتيال البشر على الكلاب في إخفاء الصيد الذي تصيده الكلاب، فقال وأقول معه، ولنا الحق فيما نقوله:
صِرْتُ أَخْشَى مِنْ نِسْبَتِي لأُنَاسٍ * فَضَحُونَا حَتَّى أَمَامَ الْكِلاَبِ
* هوامش:
1. 1. الكلَب: بفتح اللام، هو الداء والمصاب به كِلب، بكسر اللام،
. أو كَلِيب، وكانت العرب تعتقد أن الكلب المسعور قد سيطرت عليه الجن!
6. 2. الجُلّة: عِلية القوم وكبارهم.
أحمد العرفج:
Arfaj555@yahoo.com