إهداء لكل من يقول : إن الليبرالية التي أتكلم عنها هي بدعة من أفكاري
البليهي في ختام مكاشفاته: عز المسلمين في الليبرالية
صوت الأخدود - « عكاظ - عبد العزيز محمد قاسم » - 2 / 6 / 2009 م - 11:01 م
في الحلقة الأخيرة من مكاشفاته، قال المفكر السعودي إبراهيم البليهي «إن في الليبرالية عز المسلمين، وإنها هي المناخ الأنسب الذي يتيح للإسلام أن يجسد مبادئه العظيمة في العدل والمساواة وحفظ الكرامة الإنسانية وإسعاد البشر»، ورفض البليهي الحكم على الغرب من خلال بعض الانحرافات السلوكية، مؤكدا أننا نتوهم أن الغربيين قد تخلوا عن الفضائل بسبب تساهلهم في العلاقات الجنسية، وهذا تقزيم لمعنى الأخلاق في رأيه، وتطرقت المكاشفة إلى تعريف الليبرالية والعلمانية لديه، وإلى تفاصيل المكاشفة:
استغراب حيال موقفك من الغرب، فأنت حين يأتي الحديث عن أمراض الحضارة الغربية تقلل من شأنـها، فالانحرافات الجنسية الشائعة هناك، التي تهدد نظام الأسرة، أنت تراها فقط مجرد «صندوق زبالة في قصر فخم»، كما قلت في أحد لقاءاتك؟
ــ الأخلاق مضمونٌ جوهريٌّ، ومعنى شامل، إنـها التجسيد العملي التلقائي للأفكار والعلوم والآداب، إن الازدهار يمكن أن يتحقق مع نقص المعارف والتقنيات؛ لكنه محالٌ إذا غابت الأخلاق الإنسانية البانية، فلا يمكن أن يزدهر أي مجتمع إلا إذا كان ملتـزماً تلقائيا بأخلاق الأمانة والإتقان والصدق والإخلاص والتحقق والانضباط والشفافية والتواضع والعدل، والاهتمام بالمصلحة العامة، والاعتراف بالأخطاء، وعدم التعصب الأعمى للمواقف والآراء، وكشف المخالفات، والمحاسبة على التجاوزات، وتكريس الاهتمام لأي فكر جاد أو عمل نافع، واستهجان الإهمال ورفض التسيب، واحترام حقوق الآخرين، ورفض الظلم، إلى غير ذلك من الأخلاق البانية، وهي أخلاق يعيشها الناس في الغرب سلوكاً تلقائيا من دون تكلُّف، ومن غير استدعاء للانتباه، فتنساب منهم هذه الأخلاق سلوكا عفويا؛ لأنـهم معتادون عليها مما جعلهم يحققون هذا التفوق الحضاري الباهر.
لكن دكتور إبراهيم دونك الفضائح الجنسية والانحرافات السلوكية.
ــ إننا نتوهم أن الغربيين قد تخلَّوا عن الفضائل بسبب تساهلهم في العلاقات الجنسية، وهذا تقزيمٌ لمعنى الأخلاق، فنحن نحصر الأخلاق إيجاباً أو سلباً في العلاقات الجنسية، وهذا خطأ أخلاقي، وخطأ معرفي، فكل سلوك جيد هو أخلاق جيدة، وكل سلوك رديء هو أخلاق رديئة، فتبادُل الاحترام مثلاً بين الناس هو أخلاق جيدة، وعكسه أخلاق رديئة، وتجويدُ العمل أخلاق جيدة، وعكسه أخلاق رديئة، والاهتمام بالواجبات أخلاق حميدة، أما الإهمال فهو أخلاق سيئة، وهكذا، فالأخلاق ليست محصورة في العلاقات الجنسية، ومن المعلوم أن الغرب قد امتاز في أخلاقه البانية، ولولا ذلك لما حقق هذا الازدهار العظيم، فلا يمكن أبداً أن يتحقق الازدهار مع انحطاط الأخلاق، لكننا تشبَّعنا تلقائيا بتصورات خاطئة عن الغرب إن الإنسان تتكوَّن تصوراته بالامتصاص التلقائي من البيئة التي ينشأ فيها، ونحن قد ترسَّخَتْ في أذهاننا صورة شائهة عن الغربيين، لذلك فإننا حين نذهب إلى بلدانـهم لا نرى إلا ما يتفق مع الصورة الراسخة في أذهاننا عنهم، فنـركز على الجانب الهامشي السيئ عندهم، ونتجاهل كل الجوانب الجوهرية الإيجابية المضيئة، إن في الغربيين نقائص كثيرة، لكن مزاياهم تفوق عيوبـهم، وبسبب هذه المزايا حققوا هذا السبق المطْلق، لقد رفعوا شأن الإنسان، واكتشفوا قابلياته، ووفَّروا له البيئة الحافزة لبناء ذاته، وأتاحوا له الفرص لاستثمار قدراته.
رصد الأخلاق
تتكلم عن الأخلاق والسلوك، وهذه لا ترصد إلا من خلال المعاملة، فهل توافقني في أنه لا بد أن تعيش في أرضهم، وترى الممارسة والتطبيق الحقيقي للأخلاق كي تحكم عليهم.
ــ بالعكس، أعارضك معارضة تامة، فمعرفة أخلاق أي مجتمع لا تستوجب أن يعيش المرء معهم، ولو كان ذلك صحيحاً لما كان للتاريخ أي معنى، ولأصبحت المعرفة مستحيلة، فنحن نتعلم آداباً وعلوماً ومعارف أنتجتها أجيال مَضَتْ منذ قرون، إننا نعرف أخلاق أمم غابرة طوتـها الأزمنة السحيقة، فكيف بأخلاق مجتمع نشاهد ونسمع ونتابع أوضاعه على مدار الساعة؟ إننا نلتـزم بتعاليم ديننا، ونعرف سيرة رسولنا، ونقتدي بسلوك الأخيار من أسلافنا، ونحن لم نصاحبهم، ولم نعش مع أحد منهم، وإنما قرأنا عنهم فقط، حيث تفصلنا القرون عنهم. إننا نتباهى بكرم حاتم الطائي، وفروسية عنترة بن شداد، وبطولة كليب، وعظمة الخلفاء الراشدين، وأخلاق الأصفياء من السابقين، ونحن لم نعش معهم، وإنما قرأنا عنهم. فالقول «إنني لن أعرف أخلاق الغربيين حتى أعيش بينهم هو قولٌ ساذج، ويتعارض مع البداهات، فلا يستلزم الأمر أن أعيش في الغرب لأعرف أخلاقهم، ليس هذا فقط، بل إن التغيرات النوعية التي وفَّرها الغربيون للعالم قد جعلت الدنيا كلها بمثابة وطن واحد، فلم يَعُدْ الأمر الآن مجرد قراءة، وإنما نحن نعيش معهم ومع غيرهم، ونتفاعل مع كل العالم طول الوقت، إن أوروبا وأمريكا وأي بلد في العالم أصبح الآن أقرب إلينا من بعض مناطق المملكة قبل خمسين عاماً، فالعالم أصبح قرية كونية، وما يحصل في أي مكان يعرفه الأبعدون عنه مثل ما يعرفه الأقربون إليه، فالبُعْد المكاني لم يَعُدْ حائلاً، كما أن القُرْب المكاني لم يَعُدْ مزية، فالمعرفة صارت مرهونة بدرجة الاهتمام والمتابعة والاستقصاء، وليست مرهونة بالقرب المكاني؛ لأن الغرب نفسه قد وفَّر من وسائل التواصل وسبل المعرفة ما أزال كل العوائق، وألغى جميع المسافات، ومن الغريب أن تكون مثل هذه البداهات بحاجة إلى مثل هذا التوضيح.
أسير الترجمات
تقر هنا بأنك تقرأ ترجمات فقط لكل هذه الكتب والتاريخ الذي تقول به، هل أستطيع المجازفة والقول إن فكرك أسير لهذه الترجمات فقط؟
ــ إن أكبر فيلسوف غربي (عمانوئيل كانط) لم يكن يجيد إلا اللغة الألمانية، وأمثاله كثيرون من قادة الفكر والرأي والعلم، وهو يعلن أن أشد الأشخاص تأثيراً فيه هو الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو والفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم، وقد اطلع على إنتاج كل منهما مترجماً من اللغة الفرنسية بالنسبة لروسو، ومن اللغة الإنجليـزية بالنسبة لهيوم، إنَّ كانط يؤكد أن هيوم قد أيقظه من سباته المعرفي الوثوقي، وأن روسو قد أيقظه من سباته الأخلاقي. فالترجمة هي وسيلة التواصل بين الأمم، فالمعارف ليست محصورة بلغة أجنبية واحدة، وإنما هي موزعة بين الكثير من اللغات: الإنجليزية، الألمانية، الفرنسية، الإيطالية، اليونانية، الأسبانية، الروسية، اليابانية، الصينية، السويدية، النرويجية، والهولندية وغيرها، فهل المطلوب أن يتعلَّم كل فرد جميع اللغات ؟ إن الترجمة هي الوسيلة الصحيحة لنقل الأفكار والعلوم والفنون والآداب، حتى الذي يتعلَّم إحدى اللغات الأجنبية بعد كبره سيجد صعوبة في الفهم؛ لأنـها لغة طارئة عليه وليست تلقائية، وقد التقيتُ كثيراً بمتعلمين للعربية من الألمان واليابانيين والأمريكيين وغيرهم، ورغم الوقت الطويل الذي قضوه في تعلُّم العربية، والجهد الشاق الذي بذلوه، فإنـهم يتعثرون في اللغة تعثراً شديداً، ومثل ذلك يقال عن العرب الذين يتعلمون في الكبر لغات أجنبية، لذلك فإن العربي الذي يتعلم الإنجليزية مثلاً يفضَّل قراءة الترجمات بدلاً من المعاناة في فهم الأصل الأجنبي؛ لأن المترجم الماهر المتمكن المحترف يوفَّر له الجهد بتقريب المعنى، فلغة الأم يسهل بـها الفهم والتعلُّم، أما اللغة الطارئة فتبقى عصيَّة وغير تلقائية إلا بعد جهود مضنية، إن كل الأمم التي ازدهرت بما أخذته من الغرب كاليابان والصين قد اعتمدت على الترجمة لتوطين العلوم والأفكار والآداب والفنون.
الليبرالية والإسلام
لنأخذ منحى آخر.. تنادي بالليبرالية، وترى أنـها تخدم الإسلام كيف يكون ذلك؟
ــ نعم بالليبرالية سيعز المسلمون، إ
ن الليبرالية هي المناخ الأنسب الذي يتيح للإسلام أن يجسد مبادئه العظيمة في العدل والمساواة وحفظ الكرامة الإنسانية وإسعاد البشر، فمن حقائق الواقع الإسلامي أن للمسلمين نحو ستين دولة، وأن أكثر هذه الدول مازالت شديدة التخلف، ولا يمكن أن يكون الإسلام ذاته هو المسؤول عن هذه الأوضاع البائسة المزرية، وإنما الوصاية عليه هي التي انكمشت بتعاليمه، وحجبت أضواءه، وأوصدتْ عليه في أُطر ضيقة، فالليبرالية بما تتيحه من تنوع وتكامل وحراك ومرونة ونشاط وتوقد، هي التي ستتيح لأضواء الإسلام أن تكون بكامل سطوعها وأقصى درجات إشعاعها،
بدليل أن ماليـزيا، وهي من أشد الدول اهتماماً بالإسلام وبقضايا المسلمين، قد تبنت الليبرالية، فاستطاعت بذلك أن تحقق إزدهارا مشهودا رائعا يستحق الاحتذاء، وكذلك تركيا بعد وصول الإسلاميين الليبراليين إلى الحكم، فلقد حَدُّوا من الهيمنة المطلقة للعسكريين، وتمكنوا بليبراليتهم الإسلامية من تحقيق قفزات مهمة في كافة المجالات، وإذا أتيح لتركيا أن تستمر بـهذا الانفتاح الناضج والنمو السريع الشامل فإنـها سوف تصبح من الأقطار المهمة، ليس فقط على مستوى منطقة الشرق الأوسط وإنما في العالم كله، أما إن عادت قبضة العسكريين وخنقوا الليبرالية الوليدة فسوف تعود تركيا إلى ركودها الباهت وتختنق وعودها المضيئة، إن تميز ماليـزيا وتركيا من بين الدول الإسلامية يدل على أن المناخ الليبرالي هو الحل.
تقول عز المسلمين في الليبرالية، لو عكست لك المعادلة وقلت: لا عز لليبرالية إلا بالإسلام، هل توافق على ذلك؟
ــ
الليبرالية ليست دينا ولا مذهبا، وإنما هي بيئة حرة مفتوحة لحركة الدين، ومناخ لنموه وميدان لنشاطه وساحة لتطبيق تعاليمه ومجال لإبراز عظمته وتجسيد مبادئه، فالإسلام هو دين الله الحق، فهو الأحق بأن تتاح له هذه البيئة المفتوحة لتنعم الإنسانية كلها به. إن واقع المسلمين البائس يؤكد أن تخلف المسلمين قد حجب أضواء الإسلام وأساء إليه وشوه تعاليمه، ولن يتحقق تصحيح هذا الواقع المقلوب إلا بالبيئة الحرة أي بالليبرالية.
تعريف الليبرالية
ثمة إشكالية كبيرة من آرائك خاصة لما قلته عن الإسلام والليبرالية، ورفضك الواضح لعكس المعادلة..عموما يحتاج الأمر إلى تحرير مفهوم الليبرالية، ومعلوم لديك أن مفهومها ليس واضحاً عند الكثيرين، فما هو تعريفها في نظرك؟
ــ إنـها كلمة لاتينية تعني الحرية، لكنها بمعناها الفلسفي تعني الحرية المسؤولة المنضبطة بالأخلاق والشرع والقانون، أما أسباب غموض مفهوم الليبرالية في ثقافتنا فيعود إلى أن الكلمة لم تعرَّب، وإنما بقيت في العربية بلفظها الأجنبي، مما أبقى المعنى غائماً، أما السبب الثاني فهو حساسيتنا الشديدة في التعامل مع الفكر الغربي، فنحن نتوجَّس من أية فكرة وافدة خاصة إذا كانت ذات محتوى سياسي أو ثقافي أو اجتماعي، فنحن لانتقبَّل من خارجنا سوى المعلومات كمسائل مبتورة من سياقها الفلسفي أو التقنيات الجاهزة، أما الأفكار فنرفضها ابتداء من دون أن نحاول فحصها، فيحرمنا ذلك من أن نتعرَّف على محتواها مع أن الأفكار هي مصدر الإزدهار.
إن كل الاتجاهات الفكرية والسياسية والحزبية والثقافية والدينية في العالم العربي قد حاربت الليبرالية؛ لأن قبول الليبرالية يستلزم التخلي عن الانغلاق الثقافي والاستبداد السياسي والذوبان الاجتماعي، بينما أن الجميع في البيئة العربية قد تربوا على الرؤية الأحادية المغلقة، فالذين يملكون أية سلطة ثقافية أو معرفية أو سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو عشائرية قد اعتادوا أن يكونوا أصحاب الرأي الأوحد: «لنا الصدر دون العالمين أو القبر» لذلك لم تكن البيئة العربية مهيأة ولا مفتوحة لهذا المفهوم الإنساني الرفيع، لقد حوربتْ الليبرالية من قبل الانقلابيين العرب، وكذلك حاربـها عامة الناس والقوميون والبعثيون والناصريون والإسلاميون، وربما كان الماركسيون العرب هم الأشد عداء لليبرالية؛ لأن ولاءهم للاتحاد السوفييتي وللمعسكر الشرقي وللأيديولوجيا الماركسية قد جعلهم يربطون بينها وبين الرأسمالية التي كانوا يرون ضرورة إسقاطها ومواصلة الحرب ضدها حتى يتحقق هذا الهدف، وهذا فهمٌ خاطئ لأن الحس الإنساني في الليبرالية يروَّض وحشية وأنانية وجشع الرأسمالية.
بين الليبرالية والعلمانية
يخلط كثيرون بين الليبرالية والعلمانية، هلا أجليت الفرق، وأين موقع الديمقراطية بينهما؟
ــ
الليبرالية يمكن تلخيصها أن جوهرها هو الحرية المسؤولة، وأن ارتقاء الإنسان علماً وأخلاقاً وكرامة وسعادة هو هدفها، وأن آليات العمل فيها تتنوع بتنوع الثقافات ويُقصد بـها فلسفيا المناخ الحر أو المذهب الحر أو البيئة الثقافية والإجتماعية والسياسية والاقتصادية الحرة، إنـها تتأسَّس على رد الاعتبار للإنسان الفرد، والاعتراف بحقه في الاختيار، وضمان الحريات الأساسية له، وتنظيم الحياة والقوانين والإجراءات والمؤسسات على أساس أولوية الفرد بوصفه فرداً ذا كيان مستقل، يتحمل مسؤولية نفسه ويلتـزم بأداء واجباته ويكون مصون الحقوق ومحفوظ الكرامة، إن الليبرالية هي الثمرة اليانعة للرؤية الإنسانية الناضجة عن طبيعة الإنسان والثقافة والسياسة والمجتمع والفرد، والتـزامٌ بما تقتضيه هذه الرؤية فكل إنسان هو كائن فريد، وهو لن يحافظ على فرادته ولن ينمي قابلياته ولن يحقق ذاته ولن يصون كرامته إلا إذا كان حُرًّا، أما إذا جرى إفساد وردْمُ قابلياته وتقييد تفكيره وتكبيل عقله ومراقبة حركته وتضييق الخيارات أمامه وإغلاق الكثير من الفرص دونه فسوف يفقد ذاته ويتحول إلى دمية تحركه البيئة ويتلاعب به الأيديولوجيون.
إن الليبرالية ليست من منتجات بادئ الرأي، وإنما هي ثمرة التفكير الفلسفي الناضج، إنـها مناخ جياش مفتوح تظهر داخله وتنمو وتتطور الأفكار والأدوات والتطبيقات والآليات، فخلال الممارسة الحية والنقد الموصول تتطور ثقافة المجتمع وتتنوع منتجاتـها فيرتقي أسلوب الحياة تلقائيا، إن الليبرالية تعني الحرية المنضبطة بالشرع، فهي ليست حرية فوضوية، ولكنها حرية ناضجة محكومة بالشريعة والقوانين، إنـها الرؤية الأشمل والأوسع للمجتمع المدني، إنـها المناخ الإنساني الرحب المفتوح الذي يتسع للجميع ويتعاون فيه الجميع ويتساوى فيه الجميع، فالكفاءة هي معيار التفاضل والناس سواسية أمام القانون والشأن العام محل عناية الجميع، إنه يقوم على الشفافية والعلن والأمانة والمحاسبة، فالجميع معنيون به ومسؤولون عنه ومشاركون فيه.
أما العلمانية فهي أحياناً تكون متعارضة مع الليبرالية، فلا يوجد تلازمٌ بين العلمانية والليبرالية، فعلمانية أتاتورك مثلاً كانت ضد الليبرالية؛ لأنـها قامت على الاستبداد وحُكْم الفرد، وحاربتْ الإسلام وكتمتْ أنفاس المتدينين وغيرهم من المعارضين، وكذلك كانت علمانية أكثر الحكومات في العالم الثالث تقوم على القمع، أي أنـها ضد الليبرالية، فالحكم قد يكون علمانيا كما هي حال صدام حسين وأتاتورك وغيرهما ولكنه ليس ليبراليا، بل يكون حرباً على الليبرالية؛ لأنه يصادر حقوق الآخرين في التفكير والتعبير والتنظيم والمشاركة ويقمع الحريات، وهذا يتنافى مع الليبرالية تعارضاً حادًّا وتاما.
أما الديمقراطية فهي آلية من آليات الحكم الرشيد، وهي لا تنمو وتنضج إلا في بيئة ليبرالية؛ لأن التقييد في أي جانب من جوانب العمل يؤدي إلى إجهاض الجهد أو صرفه عن مجراه وإبعاده عن هدفه.
مناخ الليبرالية
تحدثت عن مناخ الليبرالية.. هل يمكن وصفه؟
ــ تجارب الأمم الأخرى تؤكد أنه لا يمكن أن يتحقق أي ازدهار حقيقي، ولا تنمية مستدامة إلا في مناخ ليبرالي مفتوح، تستثمَر فيه كل الطاقات، وتُكتشف فيه المخالفات، وتُصحَّح فيه الأخطاء، وتوقف فيه التجاوزات، وتُبنى فيه القدرات، وتتفتَّح فيه الإمكانات، وتتعاضد فيه كل المكوَّنات، فبمقدار الانفتاح الليبرالي يكون الازدهار، وبمقدار الانغلاق يكون التخلف، فأسبانيا مثلا كانت منغلقة ومتخلفة وما أن هلك فرانكو وتحقَّق الانفتاح حتى صارت من أسرع البلدان نموًّا، وكذلك اليونان بعد انتـهاء موجة الانقلابات العسكرية. أما الشاهد الأكبر فهو الصين، فقد كانت تنوء بأثقالها تحت قبضة الماركسية الخانقة، ولكن ما إن انزاح عنها كابوس الماوية وعنجهية الثورة الثقافية حتى انطلقت الطاقة الصينية الباهرة، فحين جاء دنغ زياو بنغ بعد ماوتسي تونغ أرخى القبضة الماركسية وفتح الأبواب واستشرف الآفاق فتدفق عطاء العقول وتعاضدت السواعد ونمت الأفكار وتطورت المهارات واستوطن الأمل، وخلال سنوات قصيرة صعدت الصين هذا الصعود المدهش الذي جعلها محط أنظار العالم، وما ذلك إلا بفضل القدر المتاح من الليبرالية.
إن اليونانيين، الذين مكنتهم البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية الحرة، وصراع الأفكار في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، من أن ينجزوا ذلك الإشعاع الفكري العظيم وتلك الحضارة الباهرة، هم الذين اختنقت عقول أحفادهم، وتدهورت أوضاعهم، وغمر الظلام بلادهم، حين سيطر عليها الفكر الأوحد المغلق، وحَرَمَها من تلاقح العقول وتزاوج الأفكار وتنافُس الاتجاهات، فانحدر الخَلَفُ انحداراً شديداً يتناقض تناقضاً حادًّا مع صعود السلف، وليس ذلك التدهور الجذري سوى النتيجة الحتمية لتحول الخلف من الانفتاح إلى الانغلاق، فالازدهار مرهون بالصراع المتكافئ للأفكار، وهاهم اليونانيون الآن قد عادوا إلى الانفتاح فأخذوا يصعدون حثيثاً نحو الازدهار.
أضرب لنا أمثلة لكي تبرهن على رأيك؟
ــ إن الشواهد التي تؤكد أن المناخ الليبرالي هو الشرط المحوري الأساسي للازدهار تمتد في طول الأرض وعرضها، وتتجسَّد في غرب العالم وشرقه، فأية مقارنة مثلاً بين ألمانيا الشرقية أثناء حرمانـها من الحرية وألمانيا الغربية التي كانت تنطلق بسرعة في الأجواء الحرة تكشف هذه الحقيقة بمنتهى الوضوح، وكذلك الفرق بين كوبا بنظامها الماركسي المغلق وسنغافورة بنظامها الحر المفتوح.
ثم انظر إلى دول أمريكا الجنوبية، بمواردها الطبيعية والبشرية الهائلة، التي ظلت مع كل هذا الثراء الطبيعي فقيرة ومتخلفة وبائسة خلال تعاقب العسكريين على الحكم، وما إن تنفسَّت المناخ الليبرالي حتى بدأت تشق طريقها بسرعة فائقة نحو الازدهار فصارت تسعى بقوة وكفاءة لتصبح إحدى القوى العظمى في العالم.
وها هي جنوب أفريقيا تزدهر إزدهاراً عظيما وهي محاطة بطوفان التخلف الأفريقي، إنـها البلد الوحيد المزدهر في أفريقيا، وليس من فرق بينها وبين جيرانـها سوى فرق الحرية، إن المناخ الليبرالي قد أتاح لذلك البلد بأن يصبح ضوءاً ساطعا في محيط حالك الظلمة.
وماذا عن المجتمعات الإسلامية؟
ــ ولا تختلف المجتمعات الإسلامية عن بقية المجتمعات الإنسانية، فهي تحتاج المناخ الليبرالي؛ لكي تفكر بطلاقة وتتعلَّم بفاعلية وتعمل بمهارة وتتحرك بمرونة وتنمو بسرعة، فتتكامل فيها الطاقات وتنضج القابليات وتنفتح الآمال وتتنوع التطلعات، وبذلك يتحقق الازدهار، إن ازدهار العقول مرهونٌ بما يتوافر لها من الحريات ومن تكافؤ صراع الأفكار وتبادُل الاعتراف بين الاتجاهات، إن الإسلام يخاطب الناس بالعقل ويواجههم بالحجة ويقنعهم بالبرهان: «قل هاتوا برهانكم» إنه لا يعمل في الظلام، بل إنه لن يزدهر الازدهار الذي يليق به بوصفه دين الله الخاتم وباعتباره الحق المطلق إلا في المناخ الليبرالي المفتوح، إنه ليس خاصا بقوم دون غيرهم، وإنما هو دعوة عامة تعمل في العلن وتُعلن مبادئها وتعاليمها لكل البشر، إنـها دعوة للناس كافة، فتوصيل حقائق الإسلام العظيمة إلى كل الناس يتطلب القدرة على التواصل مع الجميع، إن الليبرالية هي البيئة المناسبة لهذا الدين العظيم الذي يقوم على مخاطبة العقل ويتأسَّس على الإقناع وليس على الإخضاع،
فالليبرالية هي الحرية المنضبطة بالتشريع، أي أنـها مناخٌ مفتوح يطمئن فيه الجميع، ويتاح لهم سماع كل الحقائق، والإطلاع على كل المعارف، والاستفادة من كل الاتجاهات، والمواجهة بين جميع الآراء. إن عز الإسلام لا يكون بالهيمنة عليه أو الوصاية على مضمونه، واحتكار الحديث باسمه، وإنما عزه يتحقق حين تتاح له المواجهة المباشرة مع كل من يختلفون معه أو يختلفون فيما بينهم من داخله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أشهد الله من فوق سبع سماوات أني لم أقرأ هذا اللقاء إلا صباح هذا اليوم
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ( جوهر الليبرالية ) كما أراه وقرأت عنه أنا لا يضاد الأديان والأستاذ : ( إبراهيم البليهي ) دليل على ذلك ، وإلا ما معنى أن أتفق معه في ذلك وأنا لم أقرأ له ؟
الجواب لكم ...