مساءٌ أحلى من الشهد لكم أحبتي ..
ما أجملَ الذكريات حين نعيشها في عزلة مع النفس لساعة وسط هدوء الليل ، وسكون الصخب المذهب للذة الذكرى الماضية .
إن الإبداع الأدبي بنوعيه الشعري والنثري يخرج من رحم الهدوء والانغماس في نهر الذكريات العذب بعيدًا عن ضجة الحضارة القاتل لموهبة الكتابة الإبداعية .
فالإنسان يمر بكثير من المواقف المفرحة والمحزنة التي تستحق أن يرسم لها الأديب صورًا بخياله الواسع وإحساسه المرهف وذائقته الشعرية ، ولكننا لم نستغل هذه المواقف لنبدع من خلالها ، فنتعامل مع الأحداث بروتينية عجيبة دون أن نفعِّل دور الكتابة الإبداعية التي تنقل الحدث بسحر لا يستطيعه إلا من عايش ذلك الموقف .
فالإبداع الأدبي هو ترجمة بخيالات متفاوتة وبإحساس وذائقة شعرية لمواقف مرَّت بالإنسان محزنةٍ أو مفرحةٍ على حدٍّ سواء ، فلولا مشاعر الحزن على الفقد والفراق لما ظهر لنا فنُّ الرثاء ، ولنا أن نقف على شيءٍ من أبيات الرثاء التي ولَّدتها مشاعر الحزن ، فتقول الخنساء في رثاء أخيها صخرٍ :
ألا يا صخرُ لا أنساكَ حتى ** أفارقَ مهجتي ويُشقُّ رمسي
ولولا كثرةُ الباكينَ حولي ** على إخوانهم لقتلتُ نفسي
يذكِّرني طلوعُ الشمسِ صخرًا ** وأبكيه لكلِّ غروبِ شمسِ
ومنه قول أبي الحسن الأنباري في رثاء الوزير ابن بقية حين رآه مصلوبًا على باب بغداد والناس وقوف حول جثته :
علوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ ** لحقٌّ أنتَ إحدى المعجزاتِ
كأنَّ الناسَ حولك حين قاموا ** وفودُ نداكَ أيامَ الصلاتِ
إلى أن يقول :
ولو أنِّي قدرتُ على قيامٍ ** بفرضك والحقوقِ الواجباتِ
ملأتُ الأرضَ من نظم القوافي ** ونحتُ بها خلاف النائحات
ولولا المحبوبة ومشاعر الشوق والهيام لما قرأنا فن الغزل الذي أبدع من خلاله الشعراء في وصف المحبوبة وتفاوتوا في وصف شوقهم إليها ، ويكفي أن نستمتع بشيء من قول مجنون بني عامر :
وعهدي بليلى وهي ذات مُؤَصِّدٍ ** تردُّ علينا بالعشيِّ المواشيا
فشبَّ بنو ليلى وشبَّ بنو ابنها ** وأعلاقُ ليلى في فؤادي كما هيا
وذاك رمز العشق الآخر كثير عزة قال حين أُجبرت حبيبته عزة على شتمه :
هنيئًا مريئًا غيرَ داءٍ مخامرٍ ** لعزةَ من أعراضنا ما استحلَّتِ
وتراثنا العربي مليءٌ بروائع الشعر والنثر التي رسمها أدباؤنا في لحظات تنهض فيها همة القريحة ، وتبرز حينها مهارة القلم .
فهل نفك قيود القلم لحظة الإبداع ؟
وهل نمنح النفس وقتًا لتمارس هوايتها محلقةً في سماء الكتابة الوصفية للحظات مهمة في الحياة ؟
ختامًا .. أما آن لهذا القيد أن يُكسر ؟!!