أقفلت الباب على نفسي داخل غرفتي .. و إتخذت أحد أركانها مجلساً لي ..
كانت تلك الجلسة جلسة مودّع ..
وزّعت نظراتي على كل محتوياتها .. كنتُ أودّع الكل ..
ودّعت الكُتب .. وما بها من كلمات التي طالما كانت رفيقة لي في لحظات خلوتي بنفسي ..
ودّعتُ مذكّرتي التي أطلقتُ عليها إسم "الحلم" .. ودّعتها وشكرتها على كل لحظة قضيتها معها .. وعلى كل ورقة منحتني إياها لأنثر بها كل ما كان يجول في خاطري ..
ودّعت أقلامي والتي ما زلتُ أشعر بحرارة أصابعي على جسدها بسبب كثرة حملي لها ..
ودّعت لوحتي الصغيرة ذات الألوان الجميلة .. ودّعتها على الرغم من أنّي لم أشعر بوجود ألوانها في تلك اللحظة لحزن تحمله بداخلها ..
ودّعتُ نافذتي التي تطلّ على حديقة المنزل و الشجرة ذات الأغصان الكبيرة .. ودّعت كل طائر كان يقف على تلك الشجرة ليطربني بتغريده ..
كفكفت دموعي و أزلت أثار الحزن عن وجهي بإبتسامة أخرى صنعتها لأخرج وأقابل بها والدتي ..
حملتُ حقيبتي و قصدتُ مكان جلوسها .. كان أخي الأكبر منّي سنّاً وشقيقي الوحيد جالساً معها ..
قرأت في عينيه كلمات الوداع إلا أنه كان يحاول الهروب من نطق أي كلمة قد تؤثر سلباً على مشاعر والدتي ..
وقبل أن أكمل معهما الدقيقة الخامسة .. إتصل بي صاحبي الذي سيقوم بمهمة إيصالي لمطار الملك خالد الدولي ليخبرني بأنه ينتظرني في الشارع ..
إحترتُ في كيفية النهوض أمام والدتي .. إلا أنّها بادرت بذلك وقالت .. "إذهب لصاحبك .. لا تجعله ينتظر طويلاً" ..
ونحن في طريقنا إلى مدخل المنزل الرئيسي .. أمسكَت يدها الدافئة يدي التي كانت باردة و ترتجف من الخوف ..
ثم طلبت منّي أن أذهب معها بسرعة لتريني شيئاً في حديقة الفناء الخلفي .. أخرجت من جيبها منديلاً بداخله بذرة فاكهة المشمش ..
وقالت لي .."هذه بذرة من فاكهة المشمش التي أكلتها أنت بالأمس .. سوف أضعها تحت التربة هنا و أقوم بسقيها ورعايتها كل يوم حتى تعود إلينا بعد سنة في الإجازة وتراها بعد أن تنمو"
إندهشتُ من فعلتها تلك و قبّلت رأسها شكراً وعرفاناً لها ..
حانت لحظة الوداع الأخير .. وقفتُ بجانبها هي وأخي بالقرب من باب المنزل .. أبلغتها سلامي لأخواتي وأخبرتها بأني أتفهّم حالتهن النفسية حتى لا تغضب عليهن ..
كنتُ أسمع أصوات أنفاسها و نبضات قلبها و أنين روحها .. كنتُ أريدها أن تبكي حتى أرتاح أنا و ترتاح هي .. لكن لم يحدث ما كنت أتمناه ..
قبّلت رأسها و يدها .. و ودّعت أخي بنفس الطريقة .. إلتفت قليلاً للوراء لعلّي أشاهد أخواتي يقفن خلف باب المنزل الداخلي .. إلا أنهن لم يكنّ هناك .. على الرغم من شعوري بوجودهن ..
خرجتُ و أغلقتُ الباب ثم وضعت الحقيبة في سيارة صاحبي .. تحركّت السيارة قليلاً ثم أوقفها صاحبي فجأة .. لقد نسي أن يغلق باب السيارة الخلفي ..
وبينما هو يقوم بإغلاقه .. سمعتُ بكاء والدتي و أخواتي وهن يرددن إسمي ..
نظر إليّ صاحبي وسألني إن كنتُ أريد الذهاب إليهن ..
تردّدت كثيراً في تلك اللحظة .. ثم نظرتُ إليه و قلت له .."دعنا نرحل يا صاحبي .. لأني لو ذهبت إليهن .. لن أنفّذ ما طلبته منّي والدتي أبداً" ..
.
.
إنتهت
بندر
آخر من قام بالتعديل بندر 1430; بتاريخ 17-03-2010 الساعة 03:55 AM.
|