... تابع، صفحة 4 من 5
تعـــــرفين ( البير وغطاها .. !) .
- طيب .. أنتم ما لكم دور .. أنتم تعرفون القضية بكل تفاصيلها .. ؟
- الأستاذ خالد مدير الإدارة ، مهتم .. ويقدر ظروفكم ، ويحاول يساعد ، لكن يبدو أن الموضوع ( أكبر ) منه .. يعني ما يخفاك ..!
زوجها كان قد توفي في حادث، قبل ما يقرب من ثلاث سنوات ، في موقع تــــــحت الإنشاء ، يتبع للدائرة التي يعمل فيها . منذ ذلك التاريخ .. والشركة المنفذة للمشروع تماطل في دفع الدية ، بحجة أن الموظف ، حينما دخل موقع العمل ، لم يلتزم بشروط السلامة ، فهو لم يرتد الملابس الواقية ، المطلوبة في مثل هذه الأماكن . ثـــــم لمّا لم تفلـــــــح هــــذه الحجة ، اختلقت الشركة ذريعة أخرى لتمتنع عن الدفع ، وهي أن الموظف لم تكن طبيعة عـــمله مـــــيدانية ، وإنما جـــــــــاء ( تطفلاً ) .. لذا فهو يتحمل مسؤولية الـــذي حـــدث له.. !
الشركة يملكها أحد أصحاب النفوذ ، وهو ما قصده الموظف في حديــثه لها ،حينما ألمح إلى أن المحكمة لا تستطيع أن تلزم الشركة بالحكم ، الذي يقضي بدفع الدية .. فهذه هي ( البير وغطاها ) ..!
قضية التعويض التي تطالب بها ، وبقية حقوقهم المالية .. مرت بأطوار غريبة . أحـد القضاة ، الذين وقعوا تحت تأثير صاحب النفوذ ، حكم مرّة .. إلا أن الحكم لم يُميّز ، بأن الحادثة ليس فيها دية ، لأن ورثة المتوفى، على حد قوله ، يقبضون راتباً تقاعدياً ..! حتى الراتب التقاعدي كاد ألاّ يأتي ، بسبــب خطأ في إدخـــال البيانات الخاصة بــــزوجها ، ارتكبه الموظف الذي كتب مباشرته للعمل ، قبل سبع عشرة سنة .
استحقاقات نهاية الخدمة ، حــــــرموا مـــــنها ، لأن إدارة شـــــــــــؤون الموظــــــــفين والمــــالية ، ( تأكد ) لها ، أنه توفي بعد وقت الدوام الرســمي .. الساعة الثــــــــــــانية وأربعين دقيقة . كمـــــا أنــــه ،إضافةً إلى ذلك ، لم يكن مطلوباً منه أن يذهب إلى مــــــوقع العمل ، بل ذهب بدافع الفضول . حرمانهم من استحقاقات نهاية الخدمة ، فسر على أنـــــــه مــــــوقف ( وطني ) مــــن المدير ، لحفظ أموال الدولة..! هذه ( الذريعة ) أيضاً، هي التي أستـندت علــــيها شـــــركة ( صاحب النفوذ ) ، وأعدت على أساس منها تقريراً ، تماطل فيه ، في دفع الدية المقررة شرعاً .
- يا أخي .. أليس ظلماً أن يأكل ( هذا ) الرجل ،حقوق هؤلاء اليتامى ، وهو الذي ضاقت البنــوك بملايينه ، وينقطع مدى النظر عن الأراضي التي يملكها ..؟ كيف يبيح القاضي لنفسه أن يحرمنا حقاً قرره الشرع لنا .. أليس هذا ظلماً ..؟
- هذا ليس ظلماً .. بل ( ظلمات بعضها فوق بعض ) .. !
قررت أن تذهب للمحكمة المستعجلة ، لتقابل الشيخ حمد المقفي ، الذي أحيلت إليه قضية ابنها ، لينظر فيها . في الصباح الباكر ، أخذت معها أحد أبنائها. عندما وصلت المحكمة ، بعد جولات طويلة ، قام بها سائق سيارة الأجرة .. بحثاً عن موقع المحكمة ، كانت الساعة تشير إلى الثامنة وعشرين دقيقة . الجندي الذي يقف على باب المحكمة ، أخبرها أن أغلب (المشايخ ) لا يحضرون إلاّ عند الساعة التاسعة ، وبعضهم لا يأتي إلاّ في العاشرة .
- الحمد لله ..
همست في سرها . كانت تخشى أن تكون قد تأخرت ، فانشغل الشيخ ، وربما يطلب منها العودة في يوم آخر ، مع بدء الدوام الرسمي ..!
انتظرت إلى العاشرة .. في صالة عند مدخل المحكمة، ولم يأت الشيخ . أخبرها بعضهم أن ( الشيخ ) قد يتأخر أكثر.. وربما لن يحضر اليوم . حينما قاربت الساعة الحادية عشرة والنصف ، والشيخ لم يــــحضر .. وقد حان موعد خروج الأطفال من المدارس ، قررت أن تعود إلى البيت ، وتتحدث مع الشيخ عن طريق الهاتف .
بعد الصلاة ، في حدود الساعة الثانية عشرة وخمس وثلاثين دقيقة ، اتصلت على المحكمة ، وبعد تحويلها إلى مكتب الشيخ ، أفادها شخص ، يبدو أنه مدير مكتبه ، بأن الشيخ قد حضر ، وبت في ( عدد ) من القضايا ، ثم غادر بعد الصلاة .
لم تهتم بالوقت القصير الذي مكثه في مكتبه ، لكن لفت انتباهها أنه بت في عددٍ من القضايا في زمن يسير ، فسألته إن كان قد نظر في قضية ابنها . طلب منها أن تتصل عليه في وقت آخر ، بعد أن يراجع السجلات . اتصلت بعد نصف ساعة ، فأخبرها أن القاضي قد نظر في قضية ابنها ، وحكم عليه بسبعة أشهر سجن ، وعِــــوَض يدفع لخصمه ، مقداره عشرة آلاف ريال .
وقع الخبر عليها كالصاعقة . لاحظت أن القاضي ( قدر ) مدة الحكم بالسجن ، لتناسب الفترة التي أمضاها الولد مسجوناً ، بانتظار ( المحاكمة ) ،التي كان (الشيخ ) نفسه ، هو الذي يمطّطها .. فمرة (لم يجلس )، ومرة (لم يأت الخصوم ) .. !
لكن الغرامة .. أو ما سماه هو بــ ( العِوَض ) ، لماذا هذا المبلغ .. ؟ كيف حكم القاضي بدفع مبلغ كبير كهذا .. دون سماع رأيهم في القضية . ثم من أين تأتي هي بالمبلغ ؟ أسئلة كثيرة دوت في رأسها ، وملأت قلبها مقتاً.. فانفجرت تتظلم للرجل :
- هذا ظلم يا أخي .. والله إن الولد لم يعمل شيئاً ، يستحق عليه كل هذا .. بل هو معتدى عليه.. !
- هذا الذي ظهر للشيخ ، بعد أن نظر في القضية ..
- كيف نظر فيها .. ؟ هو لم يقابل الولد ، ولم يسمع أقواله ..!
- أنا ما عندي شيء .. ناقشي الشيخ .. اكتبي عريضة استئناف ، وقدميها للشيخ ..!
- متى ..!
- تعالي بعد غد .. سوف يكون الشيخ موجوداً .
- هل يمكن أن اتصل بالتلفون ..؟
- الشيخ لا يكلم النساء بالتلفون ..! ثم أنت بحاجة لعريضة مكتوبة .
أنزلت سماعة الهاتف ، واستسلمت لبكاء حاد .. عميق . لم يسيطر عليها الـشعور بـ (الفقد) ، مثلما يحصل الآن . زوجها مات فجأة ، ففجعها رحيله . الزوج لا يعوض .. والغياب هنا ، ليست حالة انكسار عاطفي ، وغيبة حسية فقط .. بل انهيارات تحدث في نظام اجتماعي متعدد العلاقات . في مجتمع يعلي من قيمة القوة ، بوصفها الحسي والمعنوي ، ويضع لها تراتيبية هرمية .. تتكيء على موروث قبلي ،لا يقيم اعتباراً لأي شكل ( تنظيمي ) ، ويستحوذ ( الذكر ) فيه ، على كل أشكال ( القوة ) ،المادية ، والاجتماعية .. والسياسية . في أوضــــاع كـهذه .. حين يغيب الـــزوج ،تعلق الآمال على الولد .
الفقد يتمثل الآن أمامها.. مثل حالة موت تدريجي : وفاة الأب .. حجز الولد لدى الشرطة .. ويبدو السجن الآن ، والغرامة المطلوب منها دفعها.. بداية غيبوبة طويلة ، وتجسيد موحش للفــــقد .. والدخول في رحــــــــــلة نحو المجهول . المحـــكمة تمثل بدايـــة الرحـــــــــــلة، ويـقف ( القاضي ) بواباً جامد الملامح ، موحش القسمات .. على عتبة ذلك المجهول . الاحساس بالفقد يزداد .. مع توارد ذكريات الزوج الراحل على ذهنها .. والشعور باقتراب المجــــهول ،الموحش .. يفغر فماً ، لابتلاع الابن الذي عقدت عليه الآمال .
ذهبت منذ الصباح الباكر إلى المحكمة . حين دخلت .. كانت تحمل شعوراً غير الذي أتت به في المـرّة الماضية . كرهت المكان ، وبدا لها مثل نفق رطب معتم ، يســــرق أنفاسها .. كلما أوغلت فيه . مصير ابنها مرهون بورقة تحرر داخل هذا البناء . لأول مرّة تشعر أن ( الحرية ).. قد تكون في نهاية ( نفق ) .. وأنها باتجاه واحد .. إلى الأمام ..!
انتظرت في غرفة على يمين المدخل .. نفس المكان الذي طلب منها أن تنتظر فيه المرّة الماضية ، لما جاءت لتقابل القاضي ، بعد حديثها مع الضابط ، الذي ذكر لها أن قضية ابنها في المحكمة المستعجلة . كانت قد نسيت حقيبة يدوية صغيرة .. المرّة السابقة ، ووجدتها في مكانها . لم تفرح بعثورها على الحقيبة .. ليس لأنه ليس فيها شيئاً ثميناً . لكن .. خطر على بالها ، أنه لم يدخل أحد هذه الغرفة بعدها .. فلا يوجد امرأة غيرها تراجع المحكمة . انقبض قلبها .. خاطر ( الفقد ) يتكرس: " كل النساء لهن رجال يراجعون عنهن "..!
لم تمكث إلاّ قليلاً ، حتى بدأت الغرفة تمتليء بالنساء . لست وحدك .. لست التعيسة الوحيدة . كان هذا حديث نفسها.. مع كل امرأة تدخل . التجمعات العارضة ، غالباً ما تكون وسيلة لبث الشكوى ، وتبادل الهموم . سمعت قصصاً .. دون مأساتها .. وأسوأ منها بكثير .
كانت قد أعلمت الجندي ، الواقف عند باب المحكمة ، اسم القاضي الذي لديه قضية ابنها ، ورَجَتْه أن يشعرها بحضوره إذا جاء . بين فترة وأخرى ترسل ابنها إلى الجندي ، ليسأله إن كان ( الشيخ ) قد حضر . قبل العاشرة بقليل ، جــاء الطفل ليخبرها ، أن العسكري يقول أن الشيخ قد وصل . صعدت إلى الدور الأول ، حيث مكــــتب القاضي . دخلت وعرّفت بنفسها لشخص في المكتب ، اتضح أنه الكاتب في مكتب القاضي ، الذي تحدثت معه على الهاتف ... يتبع
- 4 -
__________________
الصباخ | Buraydah City
|