... تابع، صفحة 5 من 5
قبل يومين . غاب قليلاً ، ثم سمح لها بالدخول علـــى القاضي . كان منصرفاً إلى مطالعة ملفات بين يديه ، عندما دخلت :
- السلام عليكم يا شيخ .. أريد أن أكلمك بخصوص الشاب منصور الناجي ..
- ماذا تكونين له ؟
- أنا والدته يا شيخ ..
- ما فيه رجل يتكلم .. بدلاً منك ..؟
- والده متوفى ..!
- الولد حكم عليه .. بلغك الحكم ..؟
- نعم .. لكن يا شيخ .. الولد مظلوم .. ما يستحق كل هذا ..!
- هذا الذي تبيّن لنا .. بعد دراسة قضيته ..
- لكن .. أنت يا شيخ لم تقابله .. ولم تسمع منه . الولد أوقف بوسط الشارع .. واعتدي عليه بالضرب ..
- اطلعنا على اعترافاته المصدقة شرعاً ، وعلى تقرير الشرطة ، وتم سؤاله عنها .. وهذا يكفي ..!
- لا يا شيخ ما يكفي .. فيه شهود إنه ما كان الباديء ..
- أنت تفهمينني عملي .. عندك اعتراض اكتبيه ، ولا تضيعي وقتي ..
يلتفت إلى كاتب السجلات عنده ، ويقول :
- دعها تكتب الذي تريده .. وأرفقه مع القضيه ، لترفع للتمييز ..
حاولت أن تقنعه بأن يستمع لها ، لكنه انصرف عنها ، وطلب منها أن تخرج لأنه سينظر في قضية أخرى .
خرجت تنوء بهم ثقيل .. وتبعها كاتب السجلات بورقة وقلم ، وطلب منها أن تكتب اعتراضها على الحكم . سألته بصوت واهن ، إن كان عليها أن تذهب إلى البيت ، وتكتب الاعتراض ، فأشار إلى مكان لانتظار النساء .. في آخر الممر ، ثم انصرف . عندما همت أن تدخل المكان الذي أشار إليه ، سمعت صوتاً يناديها :
- يا أخت .. يا أخت ..
التفتت إلى مصدر الصوت .. عرفته . إنه الشخص الثالث ، الذي كان موجوداً في مكتب القاضي ، حينما كانت تناقش ( الشيخ ) في موضوع ابنها .. وكان يجلس إلى جانب كاتب السجلات . وقفت تنتظر ، لترى ماذا يريد منها .. اقترب قليلاً وقال :
- السلام عليكم .. أنا كاتب عدل في المحكمة .. كنت موجوداً أثناء مجــادلتك للشيخ . اطلعت على قضية ابنك ، وأريد أن أنصحك بنصيحة .. لا تكتبي عريــــــضة استئناف ..
- لا أكتب ..! ابني مظلوم .. ثم من أين لي عشرة آلاف ريال ..؟
- أتفهم موقفك .. لقد اطلعت على القضية . خصومك أقوياء ، وقد استغلوا ثغرة في تقرير الشرطة .. واعتمدوا على تقرير المستشفى ..
- من يحمي الضعفاء أمثالي .. إذا كان خصومهم ( أقوياء ) إذن ..؟ ثم ما شأني أنا بتقرير المستشفى ..؟ انه مستشفى خاص .. لماذا يحملني القاضي فاتورة مستشفى خاص ..؟
- لا أريد أن أجادل في هذا كثيراً .. والوقت متأخر على ابنك . أنا بحكم اطّلاعي على تعقيدات المحاكم .. مشفق عليك ، وعلى الولد ..!
- لم أفهم ..
- ابنك .. بناء على حكم الشيخ في القضية ، سوف يخرج بعد أسبوع ..
- القاضي صمم الحكم ، لكي يغطي المدة التي أبقاه فيها في السجن .. بدون وجه حق ..
- ليس هذا ما أردت . الذي أريد أن ألفت نظرك إليه ، أن اعتراضك على الحكم ، يعني أن تحال القضية إلى قاضي التمييز .. ثم تعود للقاضي الذي حكم فيها، وهذا يعني شهرين على الأقل ، .. واحتمال نقض الحكم ، ضئيل حسب معرفتي .. هـــل فهمت ..؟
أطرقت قليلاً .. ثم وضعت الورقة والقلم على أول مقعد ، في غرفة انتظار النساء ، التي كانت تقف على بابها . شكرته .. وهي تتوجه إلى خارج مبنى المحكمة ، تدفع ابنها أمامها .
بعد العصر دق الهاتف . حينما ردّت جاءها الصوت من الجانب الآخر :
- السلام عليكم .. سارة ..؟
- نعم .. من الذي معي ..؟
- جواهر .. أم عمر . عسى الوقت مناسب ..؟
- يا هلا .. هذه الساعة المباركة ..
- زوجــــي رتب لكم زيارة لمنصور .. غداً الساعة العاشرة . سوف يمرّ سائقنا الــخاص ، في حدود الساعة التاسعة ، ليأخذكم إلى هناك ..
- الله يجزيكم خيراً .. ويجعله في ميزان حسناتكم .
لم تشأ أن تخبرها عن ( الحكم ) الذي صدر بحق ابنها ، أو النقاش الذي دار بينها وبين القاضي . كانت حريصة على أن ترى منصور .. وتبشره بقرب خروجه ، رغم أنها لم تتدبر .. حتى الآن ، المبلغ الذي حكم به القاضي ، مقابل الإفراج عنه .. ولا تدري كيف ستفعل ذلك ..!
استعدت ذلك المساء للزيارة . طبخت بعض الأكلات ، وحدثت إخوة منصور ، عن الزيارة المرتقبة ، وأعدت ملابس نظيفة ومرتبة ، ليقابلوا بها أخاهم .
حينما خلدت إلى فراشها ، بعد يومها المرهق .. تحدوها الآمال والأشواق لرؤية ابنها .. رأت في منامها ، كأنما منصور في سرداب مظلم .. طويل ، وسحابة قاتمة تطارده . كان يركض أمامها كالمجنون ،يمد يداً .. ويصرخ : أمي .. أمي . ظل يركض .. ويركض ، حتى ألجأته إلى باب ثقيل .. أخذ يهز الباب بعنف ليفتحه .. دون جدوى . أطبقت عليه السحابه ، وهو ما زال يمد يده .. ويصرخ : أمــي .. أمي ..!
كان صوته يتلاشى شيئاً .. فشيئا ، حين استيقظت من نومها فزعة .. مرعوبة ، أنفاسها تتلاحق .. وتشعر باختناق .
- ما هذا الكابوس ..؟ أعوذ بالله من الشيطان ..!
تتذكر أنها قبل النوم قد قرأت ( وِرْدَهَا ) ، وقبل ذلك .. كانت قد صلت الوتر ، وقرأت آية الكرسي والمعوذات .
ظلت مستيقظة حتى الفجر .. قلقة متوجسة . بعد أن صلت .. نامت إلى حدود الثامنة . حين نهضت ، جهزت الأكل للأطفال ، وبعد تناولهم لإفطارهم ، ألبستهم الملابس التي وعدتهم أنهم سيذهبون بها لزيارة منصور .
جاءت الساعة التاسعة ثم العاشرة ، ولم يأت سائق أم عمر .. جواهر ، ولم تتصل هي أيضاً. بدأ يتسلل إليها القلق .. قررت أن تأخذ سيارة أجرة ، ولا تنتظر أحداً . حين وصلت الطريق المؤدية إلى السجن ، وجدتها مغلقة .. وكان هناك دورية من الشرطة، طلب أحد أفرادها من سائق السيارة الرجوع .. ولم تفلح محــــــــــاولاتها وتوسلاتها ، بإقـــناع العســكري ،السماح لها بالعــــبور .. ولم يستمع لرجاءاتها المتكررة ، بأن لديها موعداً مهماً لزيارة ابن لها في السجن .. كان جامد الملامح تماماً .. !
عادت سارة تفكر بالطريق المغلق ، ووجه العسكري .. الجامد القسمات ، والرؤيا التي رأتها البارحة . كانت حزينة .. أنها لم تعـــد بنظرة ، تكحل بها عينيها ، من وجه مـنصور ..! أدار سائق الســيارة الــمذياع .. ربما ليبدد السكون . صوت المذيع جاء أجشاً مرتبكاً :
( موجز أخبار الساعة الثانية عشرة . شب حريق في السجن العام صباح هذا اليوم .. ) . لم يكن ثمة تفاصيل ، لكن المذيع بعد ذلك ، أورد تصريحاً لضابط كبير .. مفاده أنـه قد " تمت محاصرة السجن من جميع الجهات ، وأن الطرق المؤدية إليه تحت السيطرة " ..
أحست بوجع .. وحزن يشتعل ، وهبط قلبها إلى قاع جوفها .. تتذكر رؤيا البارحة :
منصور تحاصره السحابة القاتمة .. ثم تطبق عليه ..
صوت يتلاشى ، يدان ترتخيان .. وجرح يعوي في الأعماق ..!
- 5 -
- تمت -
__________________
الصباخ | Buraydah City
|