مما لا شك فيه أن أحكام الإسلام هي الأكمل والأنصع والأحكم من بين كل ما عرفته
البشرية من أحكام، ولا يرتاب مسلم له أدنى مسكة من عقل ومثقال ذرة من إيمان من أن
ذلك إنما هو أثر من آثار صدور الشريعة عن الخالق عز وجل العليم الحكيم الرؤوف
بعباده الرحيم. ورغم وضوح هذا الأمر من حيث الجملة واستقراره في نفوس معظم
المسلمين إن لم يكن جميعهم، إلا أن بعض الجزئيات التي تثار هنا وهناك وبعض
حيثيات الشريعة التي تجتث من سياقاتها وملابساتها وضوابطها الشرعية لا تلبث أن
تثير الشكوك والشبهات في نفوس ضعاف الإيمان. وفي حين تنهمك كثير من الأقلام
والخطابات الدعوية المعاصرة في معركة وهمية مع خصوم الإسلام اللدودين
المجاهرين بالعداء عن كبر وعناد لا عن جهل وضلال عن نفس الحق، نجد الكثير من
المسلمين الذين بدأوا وتأثروا فعلاً بمجريات الفتنة المعاصرة هم أحوج ما يكون إلى
خطاب تأصيلي إصلاحي توجيهي يضبط لهم الثوابت ويزيل عن نفوسهم رهبة الظلام
ووحشته فيما يثار من شبهات وممارسات قد تزلزل إيمان الواحد منهم بفوقية واستعلاء
هذا الدين، وتنزوي بهم في أقبية الهزيمة والانكسار، والأمر جلل إي والله ، ولئن كان
مخاصمة أهل الباطل مطلوباً لتحصيل مصلحة الدعوة ونشر الحق، فإن أحداً لا يماري
في أن دفع المفاسد مقدمٌ على ذلك، وأي مفسدة أعظم من فتنة المسلم عن دينه كما قررت
الآيات الكريمة في غير موضع،قال تعالى :" واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من
حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل"(البقرة 191)، وقال تعالى:" يسألونك عن الشهر
الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام
وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل"(البقرة 217)، نعم إن فتنة
المؤمن عن دينه أكبر من أي "جريمة" أخرى، وأشد من أي "جريمة" أخرى، وإن
أولوية درء المفاسد وأولوية إزالة أكبر الضررين وأولوية منع الضرر ولو على حساب
تفويت المصلحة ، أقول : إن هذه الأولويات تدفع بنا حصراً وحتماً إلى توجيه خطاب
واحد يحدد مفهوم الجريمة اليوم في مسألة واحدة عنوانها " فتنة المسلم عن دينه"،
ويضع كل ما سواه من الجرائم جانباً مهما أثار الناعقون من ضجيج ومهما نقت
الضفادع ونبحت الكلاب لتشغلنا عن هذه الجريمة ومقترفيها ... لقد تتبعت لفظ الجريمة
في القرآن الكريم فوجدته يدور حول معنى واحد هو الكفر ؛ سواء أكان كفر التكذيب أم
كفر العناد أم كفر الاستحلال أم كفر الاستهزاء.. ولعمر الحق إن فتنة المؤمنين عن
دينهم لهي أشد إمعاناً في الكفر وفي استحقاق وصم الجريمة هذه، فإذا اجتمعت هذه كلها
فأي جريمة تربو على ذلك، أي جريمة؟ وها نحن اليوم نرى أبواق الإعلام وببغاوات
الحكومات والسلطات وأذناب حقوق الإنسان وللأسف أقلام الدعوة وألسنة المؤسسات
الدينية سرعان ما تنهمك في استنكار الحوادث الفردية التي يتلبس بها بعض إخواننا
المستضعفين، ويستغرق في نبش وتفصيل النصوص الشرعية التي تُحرم وتجرِّم
وتستنكر هذه الأفعال في حين لا صراخ لهم ولا عويل لانتهاك حرمات الله لا أقول
حرمات المسلمين، وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أقول غيره، ولا أريد
ضرب الأمثلة لأن هذا باب إذا فُتح فصعبٌ إغلاقه...نعم ، من السهل والمريح لنا اليوم
أن نتشدق ونحن نطبع على شاشات الحاسوب ونستشيط غضباٌ لارتفاع درجة الحرارة
في مكاتبنا المكيفة أو لعدم ضبط حلاوة فنجان القهوة الذي نحتسيه ونحن نفصل الأحكام
لإخواننا الذين يحتسون المر ويتجرعون الحنظل، أقول: من السهل أن نتشدق بآداب
القتال والحرب في الإسلام وحرمة قطع شجرة أو قتل طائر أو ترويع أمن امرأة أو
راهب.. ولكننا نسينا شيئاً هاماً: نسنينا أن هذه الشجرة اليوم مهندسة وراثياً من أجل
إفساد تربة بلادنا، ونسينا أن طائر اليوم مدربٌ على تحسس أخبار المسلمين، ونسينا أن
امرأة اليوم تتحكم بقاذفة قنابل بوسعها إبادة جميع المحتفلين بعرس أو فرح، ونسينا أن
راهب اليوم قد استطال لسانه النجس على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فما
عاد يستحق عهد أمنه صلى الله عليه وسلم... لقد نسينا ذلك كله، ووقفنا نقرأ ببلاهة
وسذاجة وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لجيشه ألا يحرقوا ولا يدمروا ولا
يروعوا...نعم هذه أخلاقنا وهذا ديننا وهو صالح لكل زمان ومكان، ولكن ليس هكذا
تُجتزأ النصوص وليس هكذا تُفهم جزئيات الشرعية، ليس بعيداً عن كلية :" فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"(البقرة 194) وليس بعيداً عن حكم رسول
الله صلى الله عليه وسلم في العرنيين الذين قتلوا واستاقوا الذود (أي الإيل) وكفروا
بعد إسلامهم ففعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل، ولا بعيداً عن قوله تعالى:"
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"(النحل- 126)... نعم نحن ننكر الباطل ولو
صدر من مسلم ولكن لا نغض الطرف عما هو أبطل منه وأشد منكراً، لقد عتب
المشركون على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى النبي صلى الله عليه
وسلم أن قام أصحابه بقتل المشركين في الشهر الحرام، فأقر الله تعالى حرمة القتال في
الشهر الحرام ولكنه سبحانه نبًّه على المنكر الأعظم والفتنة الأشد:" يسألونك عن الشهر
الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام
وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل"(البقرة 217)، وهكذا تكون كلمة
الحق متكاملة لا متآكلة، تحق الحق وما هو أحق ، وينكر الباطل وما هو أبطل، وهكذا
تجلو الشريعة ببهائها وجلالها وكمالها...نعم، لقد علت اليوم أبواق النعيق لاستنكار حجز
الرهائن الأبرياء من المدنيين بزعمهم، كما علت من ذي قبل لقتل "المدنيين" وترويع
الآمنين، وكما ستعلو فيما تأتي به الأيام فالأيام حبلى،ولسنا ننتظر من مجلس الأمن
خلاف ما تصدره صدورهم من قيح وصديد، ولكننا ننتظر من علماء ودعاة وربانيي
الأمة كلمة حق تزمجر في أرجاء الكون لتعلنها صريحة : ليست الجريمة سقوط أبنية
ولا موت أناس ولا فساد ثمر، إنما الجريمة كفرٌ بالله وفتنةٌ للمؤمنين والمؤمنات بلا
توبة، إنها الجريمة التي توعد الله تعالى بها :"إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم
يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق"( البروج 10)أما نحن، فلنعد إلى مكاتبنا
المريحة ولنمسك بأقلامنا الهزيلة ولنشخص بأبصارنا تجاه سهام العدو الجديدة لنتصدى
لها ببياننا القادم ولننتظر الزلة القادمة لإخواننا المستضعفين لنرميهم عن قوسٍ واحدة
بخطاب شرعي مرصع بنصوص الوحيين ، نصوص الوحيين التي يسترزق بعضنا
منها ويعيش بها، ويموت بعضنا الآخر لأجلها ويكتوي بجمر الفتنة لها، فيا لها من
مفارقة...
__________________
آخر من قام بالتعديل مجدالإسلام; بتاريخ 21-07-2004 الساعة 05:03 AM.
|