(12) أن التضييق الذي تمارسه أكثر الحكومات العربية على الشعوب هو سبب رئيس في تعاطفها المطلق مع كل ما يصدر عن هؤلاء، وإمدادهم بمزيد من الأفراد وقد صرحت المصادر الغربية نفسها بهذه الحقيقة ( منها الواشنطن بوست بعد الحادث بخمسة أيام فقط ) وقد جاء الدليل على هذا جلياً بعد الانتفاضة المباركة، حين أوذي بعضهم بسبب إبداء رأيه في الأحداث، أو توزيع فتاوى عن مقاطعة الشركات الأمريكية، فما كان منه إلا أن فارق البلد وخرج للجهاد ، وبقدر ما تعطي الحكومة في أي بلد الفرصة للإنكار على ما يجري في فلسطين وغيرها وحرية الاحتجاج والتعبير، وإيصال المساعدة للمجاهدين هناك ونصرتهم – بقدر ذلك تكون قد تجنبت تفريخ الخلايا الانتقامية التي لا تستشير ولا تبالي بالإقدام على أي عمل كبير أو صغير ، وقد أثبتت الحوادث المتكررة أنهم إذا قالوا فعلوا وإذا توعدوا وَفَوا، وهم أناس يفرغون أنفسهم لما نذروها لـه، ويجتهدون في الإخلاص فيه، ويكثرون من الدعاء والتضرع، ويدعو لهم صالحو المسلمين في كل مكان، وهم مع هذا مضطرون مكروبون بما جرى لهم وما يجري لأمتهم ، فتأتي أعمالهم بما يشبه المعجزات سواءً في أفغانستان أو في الشيشان أو في الصومال أو في كشمير أو في البوسنة، وإذا صح أن ما حدث من تفجيرات في الخبر وعدن وشرق إفريقية وأمريكا من أعمالهم فهي شواهد أخرى .
إن الانفتاح على هؤلاء، وإتاحة الحرية لهم في عرض ما لديهم، ومحاورتهم على ضوء قاعدة المصالح والمفاسد الشرعية هو الحل الصحيح والوحيد، وإلا فسندخل في متاهة لا قرار لها. ولا أدل على ضرورة هذا من معرفة أسباب تسرب الغلو في الفكر والعمل إلى بعضهم كما سنعرضه مجملاً في الفقرة التالية .
وأول ما يجب المبادرة إليه بهذا الخصوص: تغيير الخطاب الدعوي والخطاب الإعلامي الرسمي من النمطية التقليدية، إلى العرض الصريح الواعي لأسباب المشكلة، والنظر العادل إلى القضية وبيان مسؤوليتنا جميعاً: الحكومة، والدعاة والمربين والمجتمع عن كل ما حدث ويحدث، على ضوء الكتاب والسنة، وبما يخدم مصلحة بلادنا وأمنها اللذين يجب أن ننشغل بهما عن الانسياق وراء الإعلام الأمريكي وغيره في الحديث عن مصلحة أمريكا وأمنها .
لقد شن العدو علينا حرباً نفسية منهجية، ووُجِدَ فينا سماعين لـه مروجين لمفاهيمه ومصطلحاته ، وإلا فمتى كان البنتاجون ((بريئاً)) وهو بتعبير المفكر الأمريكي الشهير "غور فيدال" وأمثاله - بل عند العامة هناك - ((وكر جهنم)) أو ((وكر المؤامرات الشريرة في العالم )) أو (( عش الشياطين )) فضلاً عن كونه أكبر هدف عسكري في العالم. وقالوا مثل ذلك عن وكر الجاسوسية وعش المافيا ومركز الربا وغسيل الأموال أعني مركز التجارة العالمية !!
إن الإعلام الأمريكي نفسه لم يستخدم هذا المصطلح إلا بعد الحادث ونقلناه نحن هنا بلا تحفظ، فوصم بعض كتابنا وخطبائنا إخوانهم المتهمين في الحادث بكل عيب وشين وأسبغوا البراءة على من لا يدعي براءته أحد من قومه.
إن أمريكا في كل حروبها ومنها هجومها الأخير على أفغانستان تعلن أنها تستهدف الأهداف العسكرية. ومعها أهداف أخرى مثل خزانات الوقود ومحطات الكهرباء ومراكز التموين والإمداد وهذه الأخيرة عمالها مدنيون غالباًَ، وقد أهلكت قرية بكاملها قرب جلال أباد وأحياء سكنية في كابل وما سمعنا أحداً أنكر عليها ممن رفعوا عقيرتهم بالحديث عن أبرياء أمريكا !! وكأن بعض المسلمين يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين أمريكا، نعوذ بالله من المسخ والخذلان .
(13) قبل عشرين سنة هرعت ألوف من شباب المسلمين إلى أفغانستان بحسن نية وسلامة فطرة يدفعهم الشوق للجنة والاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في نصرة إخوانهم المظلومين . وكانت حكوماتهم ما بين محرض على ذلك وراضٍ عنه .
وبعد سنوات أصبحت أخطر قضية أمنية لدى كثير من الدول العربية هي قضية ((العائدون من أفغانستان)). وأصبح مجرد وطء قدم الشاب لهذه الأرض كافياً لتصنيفه مع المجرمين المطلوبين، الذين تتنادى الأجهزة العربية الأمنية وتهرع في كل مكان إذا قال أحدهم هاهنا "أفغاني" !! فتشكل الشبكات السرية التعاونية للقبض عليه ثم تشكل المحاكم العسكرية الجائرة لتحاكمه !!
فكيف حدث هذا ؟
قبل الحادث الأخير تساءل كثيرون – منهم الكاتب المعروف فهمي هويدي عن سر التحول الهائل عن التأييد المطلق للقضية الأفغانية إلى النفور الشديد والتجاهل العجيب وقال: (( هذا التحول يحتاج إلى رصد ودراسة للتعرف على تلك المخططات الجهنمية التي تلاعبت بمدارك الناس وعقولهم، ونجحت في جذبهم إلى أفغانستان تارة، ثم حققت نجاحاً أكبر في تنفير الناس من أفغانستان حتى أصبحت هذه الكلمة ترتبط بكل ما هو مفزع وشرير، وكيف أننا استجبنا للموقفين المتناقضين – سياسياً وإعلامياً – فرضينا حين رضيت واشنطن وسخطنا حين سخطت)).
وبعد الحادث أجمع كل العقلاء أو المتعقلين في العالم على أن الحل ليس تجريد حملة عسكرية شعواء لا أمد لها ولا حدود. ولكن بدراسة الأسباب ومعالجتها، وعاد السؤال ومعه أسئلة أخرى.
فهل الألوف المؤلفة الذين هرعوا إلى بلاد الأفغان قبل عشرين سنة هم مجموعات من الأشرار الحاقدين المعادين للقيم والحضارة، أو من اللصوص المارقين الساعين لهدم الرفاهية والاستقرار في بلادهم والعالم، كما يصورهم الإعلام الغربي وأذياله عندنا؟
أم أن أعداء الحق والعدل والسلام وكرامة الإنسان هم الذين اضطروا بعض هؤلاء ليفعلوا ما يرونه جهاداً وقربة وإن سماه الآخرون إرهاباً وهمجية ؟!
وكيف تسلل الغلو وانتهاج العنف إلى بعضهم وحَوَّله إلى بلده ومجتمعه أحياناً ؟
وما قصة هذا المصطلح ((الإرهاب)) والاستخدام المراوغ لـه ؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات لا بد أن تعيدنا إلى تاريخ الصراع بين الإيمان والحق والكرامة وبين الكفر والباطل والإذلال في البلد العربي الذي اقتدت به الدول الأخرى ولا تـزال في هذا المضمار (مصر) !!
كان للدعاية الناصرية قصب السبق في إعلان الحرب على الدعوة الإسلامية وإلصاق التهم بالخيانة والاغتيال والتخريب بالدعاة , ولا نزال نذكر المذكرة الخطيرة التي أعدتها الأجهزة المعنية بالقضاء على الإسلام في مصر. ومنذ ذلك الحين حتى اليوم والدعوة في هذا البلد المعروف بالتسامح طوال التاريخ تلاقي من المحن وصنوف الأذى الشيء الكثير، دون أن ينجح ذلك في استئصال التدين من شعب متدين بفطرته .
وأول عملية منظمة - وظَّفت ما سمي فيما بعد (( الإرهاب )) لتشويه المتدينين - كانت ضد التنظيم الخاص للإخوان الذي اتهمته الناصرية بالعمالة للصهيونية والاستعمار ومحاولة اغتيال جمال عبد الناصر تلك المسرحية التي لم يصدقها أحد , ولكن أودع العلماء والدعاة في السجون بسببها. ثم حين وضعت قائمة التهم – لمحاكمة سيد قطب رحمه الله ومن معه – كان على رأسها ((محاولة اغتيال سفيري أمريكا وبريطانيا في مصر)) !! وكأنما أنشأت أمريكا وبريطانيا التنظيم وأمدته بالمال والسلاح – حسب الزعم الدائم للدعاية الناصرية – لكي يقتل سفيريها !!
وانهزمت الناصرية في كل ميدان، واتضحت الحقائق. وخفتت هذه التهمة أو حُفِظت حتى قُتِل السادات. والواضح أن الذين قتلوه أياً كانوا لم يخرجوا عن الإجماع العربي على رفض زيارته للدولة الصهيونية الذي قرره مؤتمر بغداد، ولم يزيدوا على أن ترجموا عملياً ،ما قرره الزعماء نظرياً، وحضوا عليه الشعب المصري من خلال ثلاث إذاعات من ثلاث عواصم غير الوسائل الأخرى، وهو أنه خان الأمة في أقدس قضاياها وأن الواجب على الشعب المصري التخلص منه !!
وكان السادات قد فتح الباب لجمعيات دعوية مختلفة في الجامعات المصرية لا تديناً ولكن لكي يقاوم الشيوعيين والناصريين، وكانت هذه الجماعات في أغلبها ارتجالية مقتصرة في دعوتها على بعض أمور الإيمان الظاهر غالباً. إلا أن هناك خلايا محدودة من خريجي السجون الناصرية - الذين ذاقوا فيها من صنوف التعذيب ما لا يتحمله البشر - ذهب بهم الغلو إلى تكفير غيرهم . ومن ذلك تكفير الجماعات الإسلامية نفسها . وقد اتُّهِموا بقتل الشيخ الذهبي رحمه الله، وهي تهمة لم يصدقها كثير من الناس حتى أولياء الدم ، وكانت أصابع الاتهام تشير إلى أجهزة الأمن التي أرادت وضع حد لهذه الجماعات بالتخلص من الشيخ ومنها معاً، وسرعان ما أطلقت حملة رهيبة من الاتهام بالهجرة والتكفير شملت كل ذي لحية وجلباب وكل ذات حجاب ، وملأ السادات السجون حيث تلاقحت الأفكار ، وحلَّت الخلايا العنقودية - كما وصفها هيكل - محل الجمعيات الارتجالية، ثم كان قتله إيذاناً بدخول مرحلة جديدة من الاضطهاد وهكذا أفسح المجال لنشوء أو توسع جماعات جديدة تنتهج المقاومة المسلحة للتغيير ومنها "الجهاد" و "الجماعة الإسلامية" وعاصر هذه المرحلة قيام الجهاد الأفغاني الذي اجتمع لـه من أسباب جذب المتطوعين ما لم يجتمع لغيره، وكان ذلك فرصة للطرفين : الحكومة - التي تريد مسايرة رغبة أمريكا في محاربة السوفييت وفي الوقت نفسه تريد التخلص من هؤلاء ومن المتدينين عموماً بقذفهم في فوهة المدافع الروسية - والشباب المتدين الذي وجدها فرصة للهروب من وطأة السجن والملاحقة والعذاب النفسي من المجتمع والأهل وإحياء فريضة الجهاد .
وفي أفغانستان التقى المتطوعون القادمون - من كل مكان حتى من مصر نفسها – بلا منهج ولا تنظيم بهؤلاء الذين يحملون منهجاً في التغيير وفكراً تنظيمياً ومعاناة طويلة.
وهكذا تأثر بعض الشباب بهم على اختلاف فيما بينهم وتفاوت في الغلو أو الاقتناع باستخدام العنف. وظلت مصر مصدر الوقود لهذا الغلو والتفرق، فقد كانت شناعة التهم والمجازفة في الاتهام والتعميم وهي من الفنون التي يجيدها الإعلام المصري وقد ذاقها كثير من البلاد العربية، ثم كانت الحملة الشرسة التي بلغ سجناؤها 40 ألفاً – بالإضافة إلى التطبيع مع اليهود ونشر الفاحشة والرذيلة ونبذ شريعة الله ومنع قيام أي تجمع على أساس الدين أسباباً لإعطاء هذه الجماعات شرعية، وإيجاد نسبة من التعاطف معها، ليس فقط بين المجتمع بل داخل الأجهزة الأمنية نفسها.
وهكذا دخلت مصر في دوامة من العنف الاجتماعي بسبب إرهاب الدولة والتشبث بالحل الأمني أو الحسم – كما سماه جلادوها – فقد بلغ هذا الإرهاب في انتهاك الحرمات واقتراف الفظائع حداً جعل أكثر الناس رقة ولطفاً يضمر الانتقام أو يوالي أهله ، الأمر الذي أحرج أصدقاء الحكومة المصرية وعلى رأسهم أمريكا نفسها، ولاسيما حين تتابعت تقارير الخارجية الأمريكية، ومنظمات حقوق الإنسان وتواترت عن صنوف التعذيب وتعسف المحاكمات. حتى أن بعض التقارير الأمريكية، أثارت قضية التعذيب باستخدام فيروسات الإيدز.
وهكذا بلغ الشحن النفسي غايته داخلياً وخارجياً، دون أن تتراجع الحكومة المصرية عن مسلسل الحسم وحلقاته، من القتل والتشريد والسجن بالظنة أو لمجرد اللحية وغطاء الشعر للفتيات، ومضت قدماً في تحريض الدول الأخرى على الإسلاميين ونجحت مساعيها من خلال تبني مؤتمرات وزراء الداخلية العرب لذلك وسرعان ما سابقها النظام التونسي في هذا المجال، ناهيك عن النظام البعثي في سورية الذي كان قد دمر أهم مدينتين لأهل السنة حماة في سورية وطرابلس في لبنان وسجن وشرد عشرات الألوف !! بحيث تجاوزت مأساتهم مأساة الفلسطينيين !! وقل عن دول أخرى مثل ذلك .
وهكذا كان الإنجاز الوحدوي الوحيد للأمة العربية ! ، وأصبح هدف الذين يزعمون أنهم صنعوا العفريت لمواجهة السوفييت أن ينصبوا لـه المصائد أينما مر حتى لا يبقى لـه من أثر.
وقد صاحب توقف الجهاد في أفغانستان اشتداد الوطأة في البلاد العربية على كل من ذهب إلى أفغانستان، واستطاعت الحكومات العربية إقناع الغرب بعد جهد جهيد لمسايرتها في المواجهة والحل الأمني . وهكذا لم يجد كثير من الشباب الأبرياء فرصة للحياة المستقرة لا في الدول العربية ولا في الغرب، فأخذوا يبحثون عن مكان يجاهدون فيه ليهربوا إليه، وانضم الذين بقوا في أفغانستان إلى صفوف حركة طالبان.
ومن عاد منهم لبلاده قبل اشتداد الوطأة أو استطاع التفلت من التهمة أو خرج من السجن وجد الطريق مغلقة في وجهه، فالدعوة محصورة محاربة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفقود أو ضعيف ، والأمة غارقة في الشهوات الرخيصة واللهو والعبث ، وباختصار وجد كل ما يصادم القيم الجهادية التي يؤمن بها ولم يجد المحاضن الدعوية التي تهذب وتربي أو وجدها لكن طبيعته لم تقبلها ، وهذه قضية مهمة بالنسبة للدعوة والدعاة.فهم أولى الجهات بأن يعرفوا تقصيرهم ويعترفوا بمسؤوليتهم.
وفي ظروف القلق والمعاناة والحيرة اشتعلت الانتفاضة المباركة في الأرض المقدسة ، ودهش العالم كله للانحياز الأمريكي الصارخ لليهود، واستجمعت ذاكرة هؤلاء الشباب كل الأعداء الذين نكلوا بالمسلمين، وارتكبوا أبشع الجرائم في التاريخ سواءً في البوسنة أو الفلبين أو الصومال أو جنوب السودان أو تيمور أو في الجمهوريات المستقلة، وإذا بهم يتشخصون في شخص واحد هو "أمريكا" وما لها من توابع ، أي أن الانتفاضة الفلسطينية هي التي حددت ملامح هذا العدو الأخطبوطي بوضوح.
ولأول مرة تطابقت آراء المجاهدين في كل مكان مع آراء الحكومات العربية كلها بأن أمريكا غير عادلة، بل لا تحب العدل ولا تعرفه، ووصل العداء لأمريكا ذروته في الصيف الماضي حين اتخذت الحكومات العربية مواقف واضحة الدلالة على الإحباط واليأس من اعتدال السياسة الأمريكية ، فبعضهم حمّل أمريكا كامل المسؤولية عن الإرهاب الصهيوني وبعضهم حذرها جداً من عواقبه ؟ فلم يعد في إمكان بشر ولو قُدَّ من حجر أن يسكت على طائرات ف 16 والأباتشي وهي تلاحق سكان المخيمات الفقيرة المعزولة وتقتل النساء والشيوخ ثم يأتي الموقف السياسي في مجلس الأمن فيضفي العدالة المطلقة على الإرهاب الصهيوني ويتهم المستضعفين بالإرهاب !!
إن أشد الناس تحالفاً مع أمريكا في أوربا وغيرها استهجنوا ذلك وانضموا إلى موقف الشعوب الإسلامية التي سرى فيها الشعور بضرورة إيقاف هذا العدوان والانتقام للمظلومين سريان النار في الهشيم. فلم تقتصر على المتدينين بل وصلت إلى محترفي اللهو والتمثيل . وتجاهلت أمريكا كل هذا مع تكرار التحذير من عاقبته حتى أن مصر وجهت لها تحذيراً شديد اللهجة قبل الحادث بأيام فقط. أما العلاقات السعودية الأمريكية فقد وصلت إلى أسوأ مرحلة في تاريخها.
وفي ذروة ذلك الغضب والغليان وقع الحادث فابتهج لـه المسلمون في كل مكان ، لا شماتة ولا تعاطفاً مع الفاعل - الذي لم تظهر أي إشارة إلى هويته بعد – بل تنفيساً عن ذلك القهر وذلك الإحباط، وأملاً في أن يردع الأمريكيون حكومتهم الغاشمة بعد أن ذاقوا يوماً واحداً مما يذوقه المسلمون كل يوم، وفي كل مكان - لاسيما في فلسطين – وعلى مدى عقود طويلة !!
ولكن هل كان في ذلك عبرة لواشنطن ومن وراءها؟ هل اعترفوا بمسؤوليتهم في هذه المشكلات؟ هل راجعوا سياساتهم تجاه الشعوب الإسلامية أو اتجهوا إلى ذلك وفكروا في إعطاء الفرصة ليعبد هؤلاء ربهم في بلادهم بأمن ويدعوا إلى الله بصبر وحكمة ؟
إن الإجابة معروفة للعالم كله وأسوأ ما فيها أنهم لم يكتفوا بالتهرب من المسؤولية بل ألقوها كلها على عاتق المسلمين وشخصوها في شخص (( حكومة الإمارة الإسلامية في أفغانستان = طالبان )) وأجلبوا بخيلهم ورجلهم وإعلامهم وحلفائهم لتدميرها ومن ثم الانطلاق إلى غيرها !!
ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام مشكلة أخرى من صنع أمريكا نفسها ونجد ظلماً صارخاً تنتهجه أمريكا وحلفاؤها !!
فلنتعرف إذن على طالبان وموقفها بعدل في الفقرة التالية :-
(14) يتغير منهج السياسة الأمريكية وتتقلب مواقفها دون أن يعلم حلفاؤها وأولياؤها أو يفهموا. وليست هذه هي المشكلة ولكن المشكلة في أن التصنيف الأمريكي يأتي في كل مرة اعتباطياً، بحيث يصبح عدو الأمس صديق اليوم وحليف الأمس عدو اليوم بلا سبب واضح، بل ربما ادعوا صداقة من لم يصادقوه قط، أو مساعدة من لم يساعدوه بشيء، وربما قاتلوا من لا يزال سلاحهم في يده وغذاؤهم في بطنه وصادقوا من لا تـزال دماؤهم تقطر من يده ، وكل هذا فيما لا يمس الثوابت الدائمة في السياسة الأمريكية وأهمها :-
1) المحافظة على أمن إسرائيل وتفوقها العسكري على الدول العربية والإسلامية مجتمعة.
2) ضمان تدفق النفط. والسيطرة على الممرات الاستراتيجية .
3) عدم السماح بقيام دولة إسلامية حقيقية في أي مكان.
وفي أفغانستان انقلب الموقف الأمريكي بعد خروج السوفييت يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، إلى استثمار حالة الفراغ السياسي التي أحدثتها الأحزاب بتفرقها وتقاتلها على الدنيا وشرع الجيران في اقتسام ولاء المتحاربين ومنافسة الآخرين. فالروس يجتذبون فلول الشيوعيين وإيران تجتذب الروافض ، والهند تسعى لمنع النفوذ الباكستاني، والصين تقاوم المخطط الهندي، وتخشى سريان عدوى الجهاد إلى مسلميها المضطهدين. إلا أن باكستان أكثر الدول فرصة للفوز بحصة الأسد، وذلك بسبب وشائج الدين والقبيلة والروابط الاقتصادية ، وهي تسعى لكسب ولاء أمريكا وشراكتها التجارية.
وبالفعل هرعت الشركات الأمريكية لدراسة الجدوى الاقتصادية للمنطقة ووجدوا أن الفرص هائلة سواء في الجمهوريات المستقلة التي سارع اليهود والأمريكان باكتشافها بمثل مغامرات الأوربيين لاكتشاف أمريكا، أو في نفط بحر قزوين الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد نفط الخليج ، واستعاد المستعمرون الجدد ذكريات أجدادهم عن "طريق الحرير" الطريق القديم للقوافل التجارية بين شرق العالم وغربه، ووجد الأمريكان والباكستانيون أن العائق الوحيد يتمثل في فقد الاستقرار في أفغانستان التي لابد لكل طريق أن يمر منها.
وهنا أقنع الباكستانيون أصدقاءهم بأن لديهم حلاً يتمثل في طلاب العلم الأفغان الذين يدرسون في باكستان، ففيهم من الصفات ما يؤهلهم لضبط الأمن وإيجاد وضع مستقر، فالناس كلهم يحبونهم وأيديهم نظيفة من دماء الشعب وقد نجح بعضهم بالفعل في توطيد الأمن في ولايته - ومنهم الملا محمد عمر! - وبادرت الولايات الأخرى في الكتابة إليه للدخول في طاعته والإفادة من هيبته بالقضاء على قطاع الطرق، ثم إنهم في تصنيف الأجهزة الاستخباراتية العوراء آخر من يمكن أن يؤسس حركة سياسية منظمة، فضلاً عن أن يستقل بحكم دولة.
وهكذا أيدت أمريكا وباكستان ودول الخليج – التي كان منها مستثمرون أيضاً – قيام حكومة طالبان التي اكتسحت البلاد بسمعتها الحسنة وآثارها الحميدة وليس بقوتها أو بمعونة غيرها ضرورة . إلا أن الأمر الذي لم يتنبه لـه الباكستانيون ومن وراءهم هو أن أفغانستان لم تنتهِ معجزاتها، ولم تنفد مفاجآتها، وهكذا فوجئوا بأن طالبان ليسوا مجموعة دراويش يمكن باسمهم استغلال الدين وإقامة دولة ترفع شعارات جوفاء وهي في الواقع مطية لمطامعهم.
صحيح أن الطلبة لم يتعاطوا السياسة بحكم إقامتهم في بلاد الغربة وانحصار تعليمهم في العلوم الشرعية والتراث، ولكن صدق تدينهم ووجودهم في بيئة مفتوحة سياسياً وارتباطهم القبلي وليس الحزبي والتأييد الشعبي الواسع لهم – كل ذلك جعلهم يستقلون برأيهم ويقيمون حكومتهم وفق المنهج الذي يرون لا وفق ما يمليه عليهم غيرهم . وهكذا كان.
فليس صحيحاً ما يردد في الإعلام الغربي من أن طالبان صنيعة أمريكا وأن السحر انقلب على الساحر، ولكن الصحيح أن الأمريكيين يريدون إسلاماً أمريكياً، وهؤلاء أقاموه إسلاماً صادقاً حسب عقيدتهم ومذهبهم، ومن هنا افترق الطرفان. والشيء المتيقن هو أن نجاح طالبان كان أخلاقياً قبل كل شيء، وأنهم أعادوا للمسلمين شيئاً من الأمل الذي أحبطته الأحزاب، وأنهم بعثوا في الأمة فكرة قيام دولة العقيدة التي تراعي نصوص الكتاب والسنة والفقهاء وليس الأساليب العصرية الملتوية والقانون الدولي المطاط.
وفيما يتعلق بالإرهاب يجمع المنصفون على أن حكومة طالبان هي التي قضت عليه ووطدت الأمن في أرجاء البلاد كما قضت على كثير من مصادر الفساد ومنها زراعة المخدرات.
وكانت الأكاذيب الإعلامية الغربية عن اضطهاد المرأة والاتجار بالمخدرات من التفاهة لدى المسلمين بحيث أعطت نتائج عكسية، فضلاً عن منع التنصير وتحطيم الأصنام.
بل إن العلماء الذين زاروا أفغانستان للمباحثة بشأن تحطيم الأصنام صرحوا بأن ما رأوا عكس ما سمعوا وأنهم كانوا ضحايا التضليل الإعلامي الغربي ، ونبهوا المسلمين إلى ذلك .
وفيما يخص المشكلة الأخرى التي صارت أم المشاكل! وهي (( إيواء الإرهابيين )) ليس في إمكان أي ناظر بالعدل إلا أن يشيد بموقف طالبان الإسلامي الذي هو في نفس الوقت الموقف الإنساني والموقف الصحيح سياسياً من بقايا المجاهدين العرب .
فأي ذنب لطالبان في إيجاد إرهابيين مزعومين وهي إنما جاءت متأخرة عن نشأتهم وعن قدومهم للبلاد وكانت معزولة عن منهجهم وعن فكرهم ، جاءت وقد نبذتهم حكومة الأحزاب وتنكرت لهم وجحدت جميلهم فأحسنت إليهم وإلى العالم الإسلامي والعالم كله من جهتين :-
1- قيامها بواجب الوفاء للجميل لمن ناصروا الأحزاب بأنفسهم وأموالهم حتى إذا تمكنوا تركوهم بين فكي كماشة رهيبة ، أحدهما : حكوماتهم التي تنتظر عودتهم لتذيقهم ألوان النكال وتـزج بهم في غياهب السجون مع إخوانهم السابقين ، والأخرى : الفقر القاتل والتشرد في مخيمات اللاجئين شمال باكستان، حيث أمضى كثير منهم السنين تلو السنين يعاني الحر والقر ولا يأكل إلا من القمامة! وأي قمامة ؟ إنها ليست قمامة أثرياء الخليج بل قمامة مهاجري الأفغان وفقراء باكستان .
أما حفظها لحق الجوار – إلا بسبب شرعي – فهو مما تشكر عليه، مع أن للضرورة أحكامها. وقد ذكّرنا حالها بموقف الملك عبد العزيز من تسليم الزعيم الثوري رشيد عالي الكيلاني لبريطانيا حين التجأ إليه. وكانت علاقته ببريطانيا قد أخذت في الفتور بسبب علاقته الناشئة مع أمريكا فرفض تسليمه محتجاً بأخلاق العرب وشيمهم ولم ينكر عليه الأمريكان ذلك.
2- ضبطها لمن بقي منهم في أفغانستان : فبعد أن كانت الأمور فوضى أيام الأحزاب، وكان يمكن أن تتحول البلاد فعلاً إلى مفرخة للغلاة من كل جنس، جاءت طالبان لتفتح لهم المساجد والحلقات ليتعلموا ويعلِّموا وتفاهمت مع الحكومات ذات العلاقة بشأنهم بأن تعهدت ألاّ تسمح بعمل أي شيء ضدها وأبلغتهم أنها اشترطت ذلك عليهم وفي حالة ثبوت مخالفتهم لهذه الشروط فهي ستحاكمهم أو تسلمهم لحكوماتهم !
وقد سمعنا وقرأنا جميعاً لرئيس تنظيم القاعدة التصريح تلو التصريح بأنه لا يستهدف أبداً بلاد الجزيرة بشيء، وأنه ليس ضد حكومة بلاده، ولا يريد تعكير الأمن فيها، وهذه التصريحات وأمثالها انتشرت في كل مكان ونقلتها بعض الصحف الغربية وكان لها دور في تهدئة الشباب في اليمن ودول الخليج، بعد أن كانت المرشَّح الأول للعمليات التي قد يخطط لها هؤلاء، وكل هذا بفضل طالبان التي قوبلت بالظلم والاتهام بأنها ترعى الإرهاب وتؤوي أهله!!
هل نقول هذا دفاعاً عن طالبان ؟
وماذا عسى أن يرجو المدافع عن طالبان لاسيما في هذه الأيام ؟!
إننا نقولـه دفاعاً عن الحق والحقيقة، وليعلم العالم مقدار الغطرسة الأمريكية والحقد الأمريكي على كل ما يمت للإسلام الحقيقي بصلة، وليعلم الجور والحيف الذي يضطر المعتدل من المسلمين بل الغافل أن يتحول إلى متطرف في الحكم عليها، ومجاهر بالعداوة لها ، ولتعلم الحكومات العربية أنه لا مخرج لها من كل أزمة إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج الخلفاء الراشدين، وفتح المجال للدعوة وتربية الشباب تربية إيمانية متوازنة، وليعلم الدعاة في هذه البلاد وغيرها أن الصبر على هؤلاء الشباب واحتواءهم بالمعاملة الحسنة والتفهم لمواقفهم هو الحل الصحيح والمقدمة الحقيقية لتهذيبهم وتربيتهم وليس التشنيع بهم على المنابر وترديد ما يقوله أعداء الله عنهم .
__________________
اللهم أنصر اللإسلام والمسلمين
[IMG]www.buraydahcity.com/vb/attachment.php?s=&postid=8682[/IMG]
|