.
.
| المشهد الثاني ..
خرَجت من مسجد القبلتين .. وما كنت أفكر إلا في صوت إمامه الذي صعد بروحي إلى الغيوم وكأنها تُمسك بالمصحف وتتمعن به كلمةً كلمة وآيةً آية ، نزلت من عتبات الخروج وإذا بآخر عتبة من تلك .. تجلس طفلة صغيرة متكئة على حديد بوابة الدخول .. ثنَت رجليها على بعضهما ولا أظن إلا أن شعرها قد جمعته ثم ربطته بذلك الخيط البالي منذ أيام ذهبت .. تركت الدنيا في عينيها حلما مستحيلاً ضائعاً .. وظلت تجري خلف عقباته حتى مكثت هُنا .. ولو رأيت مقلتيها عن قرب ! لوجدت أنها تنادي وتصرخ لا الصراخ الذي نسمع ولا النداء الذي نعرف .. وبين أهدابها أناخ الفقر ركائبه .. ومازالت تنتظر تلك اللحظة التي يُبعدها عنها .. ووجنتيها قد تبدلت رائحتها من رائحة الزَهرة اليانعة الأنيقة إلى رائحة الدراهم التي تلوكها الأيدي وترسلها فيما بينها .. وخشيت أن أفتح يديها لأتمعن بطفولتها فأرى أن أرقام الورقات قد التصقت بها وذهبت النعومة أدراج الطريق .. ما وضعت تحتها قماشاً ولكنها جلست على خطوات الغادين والسائرين .. وأوساخ الأحذية تتعلق بثيابها كلما ساروا بالقربِ منها .. وغبار الأرض قد ترك أثره في قدميها .. مررت من جانبها فإذا بها تعد " الريالات " وتحتضن العشرات خوفاً من أن يذهب بها الريح ورغبة في معرفة ما خرجت بهِ لتلك الليلة ..
أضعت مسيري وأنا أنظر إليها .. وذهبت بي نفسي بعيداً حسبت أنها لن تعود .. ما الذي أرى ؟ أهي طفلة على هيئة فقر .. أم فقر على هيئة طفلة ؟! .. أتكون عاصفة الألم قد هبّت حولها ولطختها بشيء من كوارثها ثم تركتها تلهث هكذا ؟! أم أن بقايا العيش قد سكبت عليها وظلت تسبح في ماءٍ تظن أنه حلواً ؟! .. وما ذنبها إلا أنها طفلة صغيرة قيل لها افعلي كذا وكذا حتى نأتيكِ .. وحَسِبَت أن هذا هو العيش وتلك هي الحياة .. ولا تدري أن خلف هذا المسجد حديقة نائية .. هي مكانها وهي حلمها وهي طفولتها .. على الأرجوحة تضحك وتلهو .. وبين كتل الرمل تعبث بنعومتها ثم تنام على ضجيج تلك النزهة .. لا أن تبكي على فقرها وتنفض وسخ الدنيا من يديها .. ثم تنام على رائحة الأحذية .. !
تأملت .. ووجدت أن تلك الصورة تتكرر في كثير من الأماكن ، والمدن ..
وأيقنت .. أن نظرتها الأخيرة التي بعثرتني .. كانت تمتلئ بالحديث الذي لا يفهمه إلا إياي ..
وذَهَبْت ..
__________________
[POEM="type=1 font="bold large 'Traditional Arabic', Arial, Helvetica, sans-serif""]على مهلك .. ترى ذكراك ماتت = وأغصان الفراق اليوم حيّه
عيوني .. عن لقاك اليوم صامت = وحبّك زال عن دنياي ضيّه[/POEM]
سَلمان
|