مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 22-08-2010, 09:13 AM   #9
د / ماسنجر
طائر .. أتعبته الهجرة
 
صورة د / ماسنجر الرمزية
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
البلد: مَع حِبر الأحـرُف
المشاركات: 822



.
.

| المشهد الثالث ..

على أحدِ صفوف الإفطار كنا ، وإذا بأحدهم لم يتبين لي وجهه .. وقف عن يساري وأبعد بيدهِ قطعتين من الخبز وعلبة من تلك العلب وتمرات المُفطرين يريد أن يعبر ليجلس أمامي ولكنه لا يُريد أن تعتلي قدمه تلك النعمة التي وهبها الله إياه وإيانا ..

جَلس - بعد أن رفع يده بهدوء ليُلقي السلام علينا - ثم رفع قدمه اليمنى وثناها إلى صدرهِ .. وثنى قدمه اليسرى إلى الخلف على الأرض .. ولم أر ابتسامته ولا ملامح السعادة التي تغمر الصائمين وتلوح على شفاههم ومحياهم .. شاب وضع على رأسه غترة بيضاء لفّ طرفها على رقبته وكأنه ينوي إخفاء وجهه .. لبس ثوباً ناصع البياض ، وشعر بين الكثافة والقلة يظهر على ذقنه .. هدأ قليلاً وسكَن .. ثم لف ببصره حول سقف الحَرم .. كأنه يُهدر تأمله في ألوانهِ وزخرفتهِ .. قليلاً حتى جمَع عضلات وجهه ثم هزّ رأسه ببطء .. رفع يديه ووضعهما على ركبته اليُمنى ثم بدأ بالدعاء .. وحسبي أنه يدعي بينه وبين قلبهِ ، لا شفتان تتحرك ولا لسان يتضرع .. إنما هي جوارحه التي تتألم وتقرع الباب عل أمنيات إيمانية يستجيبها الله في تلك الساعة .. ولا يزال هكذا حتى جمع يديه على ركبتهِ ثم أنزل جبينه عليها .. كأنه يعصر الوجع ليستخرجه من قلبه ويلفظه لفظاً .. مكث على حاله قرابة الدقيقة حتى شعرت أن الألم يَخرج من قلبه ويُرسل على الناظرين إليه كلّ بقدرِ شعوره ..

شُرع الآذان .. واستقرت الله أكبر على آذاننا .. وانساقت جملهُ حتى فَتَحت قلوبنا وشَرَحت صدورنا وهيأت لنا جواً نقياً صافياً لنتذوق السماع ونتلذذ بالإفطار ..

أكل بضع تمرات : اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت .. ما كان أكلاً كأكل الناس ولا عجلة كعجلتِهم .. بل تأنياً وخفة .. يُمسك بالتمرةِ ويخرج نواتها ثم يأكلها ويسرح في طعمها مغمضاً عينيه لثوانٍ .. هكذا كَان .. ثم فتح " الزبادي " ومسح بالملعقةِ ما تعلق منه على الورقة التي تُغطيه .. وكأنه يقول : هذه البقية هي جزء من هذا كلها نعمة إنما هذه قد انفصلت عن بقيتها .. وأخذ قطعة خبز وفتّتها عليهِ ثم صب قليلاً من الماءِ .. وخلطه حتى تبدل لونه .. إلى أن انتهى من طعامه وفطوره .. أقيمت الصلاة ومد يده لتنظيف المكانِ وهو يتأنى في حملِ الطعامِ تقديراً له ..

من بداية جلوسهِ حتى ذهابه .. وطيور الحزن ترفرف فوق رأسه لتنغص عليه لحظته وهناءه .. تبدّلت ملامحه من نظرة الشبابِ إلى من بلغ أشدّه .. عينه بنقائها ! كأنها جمال من جمال .. ونفحة من نفحات الصفاء التي لا تتشوّه .. تحسّستها ! فإذا بها لسعة من لسعات الحزن الطويل .. وكدمة من كدمات الألم التي لن تزول .. تخيّلت محياه وهو يَضحك ! ونطَقت ملامحه نطقاً صامتاً : يَضحك ! وهل هناك حياة تزفهُ إلى ذلك ؟ تتخيله يضحك ؟ وأنا أتخيل السعادة كيف تزوره وهو على هذهِ الحَال ؟ ، كانت هذه الملامح .. فكيف بقلبهِ ولواعجه ؟! ..

نظَرت إليه قبل أن يختفي ، وحدّثه قلبي : بالودّ أن أحمل ما بين أضلاعك وأزرعه في صدري .. حتى تهنأ وتسعَد .. ولا أظنك بعمرك هذا قد ذقت فرحة من تلكم الأفراح التي تتنزل على رؤوس الناس وتُطلع بساتينهم ، وتُبهج نفوسهم .. على حُزنِك وهمّك ! إلا أنك ما أسأت للقمةِ عيشِكَ وسقاء عروقك .. بل حفظتها وصنتها .. وقدّرت مكانتها .. بل وعلمتني درساً لن يُنسى ، كلي ثقة بربي وربك أيها الغَريب .. أن يُزيح عن صدرك ما يَكتمه .. وعن أضلاعك ما يَلويها .. فلا تيأس : إن مع العسر يسراً .. ورحَـل ..


__________________
[POEM="type=1 font="bold large 'Traditional Arabic', Arial, Helvetica, sans-serif""]على مهلك .. ترى ذكراك ماتت = وأغصان الفراق اليوم حيّه
عيوني .. عن لقاك اليوم صامت = وحبّك زال عن دنياي ضيّه[/POEM]

سَلمان

آخر من قام بالتعديل د / ماسنجر; بتاريخ 22-08-2010 الساعة 09:34 AM.
د / ماسنجر غير متصل