مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 28-11-2004, 10:09 PM   #2
أسد العقيدة
Guest
 
المشاركات: n/a
وهناكَ بيوتاتٌ كثيرة ٌ في المدينةِ النبويّةِ تقومُ على ما يُرسلهُ الشيخ ُ لهم من صدقاتٍ وهباتٍ ، وقد وقفتُ على شيءٍ من ذلكَ بنفسي ، وسمعتُ من غيري من الإخوةِ طرفاً صالحاً .

وهذا غيضٌ من فيض ٍ في حال ِ الشيخ ِ مع الصدقةِ والصلةِ والبذل ِ ، ومن عرفَ الشيخَ علِمَ أنّي قصّرتُ في وصفهِ ، وأمسكتُ عن كثير ٍ من حالهِ فيهِ ، خشية َ أن لا أنسبَ إلى المجازفةِ والمبالغةِ .

ولشيخِنا والدة ٌ يبرُّ بها بِرّاً عظيماً ، فهو إنّما يُكثرُ السفرَ إلى المدينةِ ويُقلُّ من المبيتِ خارجَها رِعاية ً لها ، وبِرّاً بها ، وقد كنتُ في مجلسهِ يوماً بعد صلاةِ المغربِ ، فقامَ الشيخُ يُصلّي الراتبة َ ، فسمِعتُ صوتاً يُنادي : مُحمّد ! مُحمّد ! ، فقامَ شيخُنا وقطعَ صلاتهُ وخرجَ ، فعلِمتُ أنَّ هذهِ أمّهُ ، وقد حدّثني – أعلى اللهُ قدرهُ – أنَّ تركَ الرقية َ والقراءةَ على المرضى بطلبٍ من أمّهِ ، فلا تجدُ الشيخَ قارئاً على مريض ٍ أبداً ، بِرّاً بأمّهِ وصيانة ً لها ، وفي أحدِ دروسهِ حرّجَ باللهِ العظيم ِ أنْ لا يحضرَ دروسهُ رجلٌ عاقٌّ لوالديهِ ، أو ممتنعٌ عن برّهم ، وقالَ : لولا أنّي لا أريدُ أن أحرجَ أحداً ، وإلا لأمرتهم بالخروج ِ الآنَ من الدرس ِ ، وإذا تكلّمَ عن برِّ الوالدين ِ خشعتْ جوارحهُ ، ورقَّ قلبهُ ، ودارتْ الدمعاتُ في عينهِ ، وشفّتْ روحهُ ، رضيَ اللهُ عنهُ وأعلى قدرهُ .

ويمتدُّ برّهُ ويتسلسلُ ليصلَ إلى أشياخهِ وإخوانهِ من أهل ِ العلم ِ ، فلهم عندَ الشيخ ِ منزلة ٌ وقدرٌ عظيمٌ ، فلا يكادُ الشيخ ُ في دروسهِ يذكرُ أهلَ العلم ِ إلا عقّبَ على أسماءهم بالترحّم ِ عليهم ، والدعاءِ لهم بالرضى عنهم ، وهذه من حسناتهِ الكبيرةِ ، والتي غرسها في طلاّبهِ وأحياها فيهم ، فلا يمرُّ عليهِ اسمُ العالم ِ أو الشيخ ِ إلا ودعا لهُ ، وترّحمَ عليهِ ، وأمرَ قارئهُ أن يفعلَ ذلكَ ، برّاً بهم ومعرفة ً لقدرِهم ، فهو يرى أنَّ لهؤلاءِ الأجلّةِ مكانة ً عظيمة ً علينا ، فهم أصحابُ الفضل ِ والسابقةِ ، ولا بُدَّ أن يُعرفَ فضلُهم ، ويُدعى لهم .

والشيخ ُ لا يسمحُ لأحدٍ كائناً من كانَ أن يقعَ في عرض ٍ عالم ٍ بمجلسهِ ، أو ينتقصَ منهُ ، وأشدُّ ما رأيتُ الشيخَ غاضباً حينُ ينتهشُ عرضُ عالم ٍ ، أو يُنالُ منهُ بحضرتهِ ، فيغضبُ الشيخ ُ غضبة ً مضريّة ً ، ويخرجُ عن طبيعتهِ المعروفةِ بالسماحةِ واللين ِ واليسر ِ ، طاعة ً للهِ ولرسولهِ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - ، ثمَّ عِرفاناً لحقِّ أهل ِ العلم ِ ولمكانتِهم ، وقد كُنتُ بحضرتهِ ومعنا رجلٌ في ضيافةِ الشيخ ِ ، وكانَ الرّجلُ يشربُ الشاي ، فإذا بهِ يقولُ للشيخ ِ : يا شيخُ ! ، ألا ترى أنَّ الشيخَ عبدَ العزيزَ بنَ باز ٍ يحتاجُ إلى إعادةِ نظر ٍ في بعض ِ الفتاوى ! ، وقد فهِمَ شيخُنا من حديثِ الرّجل ِ أنّهُ يقصدُ الغضَّ من الإمام ِ بن ِ باز ٍ – نوّرَ اللهُ قبرهُ - ، فلم يجدْ شيخُنا بُدّاً من أن أمرَ الرّجلَ بالخروج ِ من بيتهِ ، وقالَ لهُ : لا يجمعُني ومتنقّصُّ الشيخ ِ بن ِ باز ٍ سقفٌ، فخرجَ الرّجلُ من بيتِ الشيخ ِ ، وحدّثني الشيخُ لاحقاً أنَّ الرجلَ جاءهُ بعد أسبوع ٍ وهو يقولُ : أشهدُكَ يا شيخُ أنّي أتوبُ إلى اللهِ من الكلام ِ في الشيخ ِ بن باز ٍ وغيرهُ من أهل ِ العلم ِ .

والشيخ ُ ابنُ باز ٍ – رحمهُ اللهُ – أحبُّ النّاس ِ إلى قلبهِ من أهل ِ العلم ِ بعدَ والدهِ ، وقد قالَ لي مرّة ً : الجامعة ُ الإسلاميّة ُ انتهتْ بعد الشيخ ِ بن ِ باز ٍ ، و حينَ جنازةِ الشيخ ِ في مكّة َ – شرفها اللهُ – رآهُ بعضُ الإخوةِ متأثّراً باكياً .

أمّا الغيبة ُ والنميمة ُ والبهتانُ ، فهي عندَ شيخِنا من أكبر ِ الكبائر ِ ، ولا يسمحُ لأحدٍ أن يغتابَ أحداً أو يغضَّ من قدرهِ مهما كانتِ الدوافعُ والمبرّراتُ ، وقد كانَ لهُ مجلسٌ في بيتهِ يومَ الجمعةِ بعدَ صلاةَ العصر ِ كلَّ أسبوع ٍ ، يأتي إليهِ طلبة ُ العلم ِ للفائدةِ والمناقشةِ ، فكثرَ في مجلسهِ دعاة ُ الفتنةِ ، من الذينَ ينتقصونَ العلماءَ ، ويُثيرونَ الفتنَ ، ويقتاتونَ على التصنيفِ ، فما كانَ من شيخِنا إلا أن أغلقَ مجلسهُ ، وفضَّ ذلكَ المحفلَ ، وشيخُنا يُكثرُ من ذكر ِ قصص ِ العلماءِ في حفظِ اللسان ِ والتصوّن ِ عن الوقيعةِ في الصالحينَ ، فقد كانَ هذا دأبُ والدهِ ، بل هو دأبُ الصالحينَ جميعاً ، أنّهم أملكُ ما يكونون لألسنتهم ، فلا يذكرونَ أحداً إلا بالجميل ِ ، ويُمسكونَ عن الكلام ِ والتجريح ِ ، طاعة ً للهِ وديانة ً وقُربى ، على العكس ِ من الكثير ِ من دعاةِ الفتنةِ والسعاةِ بالباطل ِ ، الذين جعلوا ألسنتهم ناراً تأكلُ أعراضَ أهل ِ العلم ِ، ومقارضَ تقرضُ في مناقبِهم وتُذيعُ مثالبَهم .

والحديثُ عن عفّةِ اللسان ِ وصيانتهِ عن اللغو ِ ، يدعو حتماً للحديثِ عن الورع ِ والتواضع ِ ، وهذا من آثار ِ شيخِنا الحميدةِ ، أنّهُ ورعٌ متواضعٌ ، تشهدُ بذلكَ أفعالهُ وتدلُّ عليهِ آثارهُ ، خاصّة ً فيما يتصلُ بالفُتيا ومسائل ِ العلم ِ ، فقلَّ أن تُرى لهُ مسألة ٌ يُخالفُ فيها الإجماعَ ، أو ينتحي فيها طرائقَ أهل ِ الشذوذِ والتفرّدِ ، بل يسلكُ مسالكَ أهل ِ العلم ِ ، ولا يحيدُ عنهم ، فليستْ للشيخ ِ مسألة ٌ أو فتوى إلا ولهُ فيها سلفٌ وأثرٌ ، وقد كانَ كثيراً ما يُسألُ فلا يجيبُ ، ويكتفي بقولهِ : اللهُ أعلمُ ، أو يُحيلُ على أهل ِ العلم ِ الكِبار ِ ، وفي مجالسَ عدّةٍ رأيتُهُ يُحيلُ على شيخِنا ابن ِ باز ٍ – رحمهُ اللهُ ورضيَ عنهُ - ، وبعدَ موتهُ سمعتهُ يُحيلُ أكثرَ من مرّةٍ على الشيخ ِ العلاّمةِ المفتي عبدِ العزيز ِ آلَ الشيخ ِ – حفظهُ اللهُ - ، وما كانَ يفعلُ ذلكَ عن قلّةِ في علمهِ ، أو نقصاً في أهليّتهِ ، إنّما يفعلهُ ورعاً وتحوّطاً ، وبلغَ من تواضعهِ بينَ يدي أهل ِ العلم ِ ، أنّهُ امتنعَ دهراً من إلقاءِ الدروس ِ في بلادِ القصيم ِ ، لمكان ِ شيخِنا الإمام ِ ابن ِ عُثيمينَ – رحمهُ اللهُ ورضيَ عنهُ - ، وحتّى عندما ألقى محاضرةً هناكَ ، امتنعَ من أن يُجيبَ على الأسئلةِ فقهيّةٍ ، تواضعاً منهُ ، ورِعاية ً لحقِّ الأكابر ِ من العلماءِ ، وعندما ألقى درسهُ في مكّة َ بحضرةِ الإمام ِ بن ِ باز ٍ – رحمهُ اللهُ – لم يجلسْ على الكرسيِّ في مكانهِ المعتادِ مرتفعاً ، إنّما جلسَ على الأرض ِ ، كما يجلسُ الطلاّبُ ، وأكملَ درسهُ ، ثمَّ أبى عن الإجابةِ على الأسئلةِ ، وأحالها على الشيخ ِ ابن ِ باز ٍ – رحمهُ اللهُ - ، على حالةٍ من الاعترافِ بحقِّ أهل ِ العلم ِ ، وتواضعاً معهم وأدباً ، في طريقةٍ نادرةٍ قلَّ أن نجدَ لها نظيراً ، في زمن ِ التعالم ِ والتعالي ونفخ ِ الذاتِ وانتشار ِ الأنا ! .

أذكرُ مرّة ً أنَّ امرأة ً اتصلتْ عليهِ وأنا بحضرتهِ ، ففهمتُ من ردِّ الشيخ ِ أنَّها تسألُ عن أمر ٍ معيّن ٍ ، فلمّا قضى الشيخُ جوابهُ ، تغيّرتْ نبرة ُ صوتهِ ، ثمَّ قالَ لها : يا أختي في اللهِ ! ، واللهِ ما أفتيكِ ولا أفتي غيركِ إلا وأنا أتمثّلُ الجنّة َ والنّارَ أمامَ عينيَّ ، فإذا أفتيتكِ خُذي فتوايَ واكتفي بها ، وكنتُ كثيراً ما أسمعُ منهُ هذا الكلامَ ، فرضيَ اللهُ عنهُ ما كانَ أدينهُ للهِ وأخشاهُ ! .

وللحديثِ عن عبادةِ الشيخ ِ وتقواهُ وخشيتهُ وقعٌ آخرُ ، فقد عُرفُ الشيخُ بخشيتهِ وعِبادتهِ ، فهو رجلٌ عامرُ القلبِ بالإيمان ِ – نحسبهُ كذلكَ واللهُ حسيبهُ - ، وأثرُ ذلكَ بادٍ على وجههِ وسمتهِ وجوارحهِ ، ويعلمُ اللهُ أنّي إذا رأيتُ الشيخُ أشعرُ براحةٍ عظيمةٍ ، وتنفرجُ منّي الأساريرُ ، وينزاحُ ما يهمّني أو يغمّني من وصبِ الدّنيا ونصبِها ، لأنّي لا أراهُ إلا وأرى نوراً أجدُ أثرهُ في ومضاتِهِ ، أكادُ أقبسُ منهُ دونَ أن أرى لهُ جذوة ً تمدّهُ ولا أظنُّ مصدرها إلا في صدرهِ ، فهو حينَ يدخلُ إلى درسهِ يدخلُ مُطأطأً رأسهُ ، متواضعاً للهِ جلَّ وعلا ، في هيئةٍ من الإزراءِ بالنفس ِ ، والتعظيم ِ للهِ ، تكادُ تأخذُ القلوبَ وتأسرُ الألبابَ ، وإذا صلّى إماماً فإنَّ لصوتهِ وقعاً على النفوس ِ ، فهو يقرأ بخشوع ٍ وتبتلٍّ ، تقرأ في ثنايا ترتيلهِ الخشية َ والخوفَ ، وتسري إليكَ الهيبة ُ والسكينة ُ ، وقد صلّى بنا مرّة ً أحدُ الإخوةِ أماماً وبكى في صلاتهِ ، والشيخُ خلفهُ ، وكنتُ في خلفِ الصفوفِ ، وصوتُ الشيخ ِ وبكاؤهُ يصلُ إلينا في آخر ِ المسجدِ ، فدمعتهُ سريعة ُ الوكوفِ ، وقلبهُ تغشاهُ رقّة ٌ دوماً ، وعندما شرحَ حديثَ غزوةِ الطائفِ ، تغيّرَ وجههُ ، ونشجَ نشيجاًَ كتمَ معهُ بكاؤهُ وعبرتهُ ، إلا أنّهُ لم يتمكّنْ من ذلكَ في محاضرتهِ " واتقوا يوماً تُرجعونَ فيهِ إلى اللهِ " ، إذ انفجرَ باكياً في مبتدأها ، لأنّه ذكرَ فيها الحشرَ والنشرَ والموتَ ، وهذه عادة ُ الشيخ ِ في حديثهِ في الرّقائق ِ ، لا يكادُ يُمسكُ عينهُ وقلبهُ ، تغشاهُ الرّقة ُ ويعلوهُ الخوفُ والوجلُ ، وتستجيبُ عينهُ لداعي ذلكَ ، فيقطعُ حديثهِ كثيراً بالبكاءِ والنشيج ِ .

وقد حدّثني صاحبٌ لي أنّهُ طافَ مرّة ً على إثر ِ الشيخ ِ في مكّة َ ، في رمضانَ في عشرِها الأواخر ِ ، قالَ صاحبي : والشيخُ يبكي بصوتٍ مرتفع ٍ ، كنتُ أسمعهُ من خلفِ النّاس ِ ، وقد فعلَ ذلكَ في مدّةِ الطوافِ كلّها .

ومن أعجبِ قصصهِ في العبادةِ والتبتّل ِ ، ما حدثنيهِ أحدُ طلاّبِ الشيخ ِ أنَّ الشيخَ دعاهم مرّة ً إلى مزرعتهِ في المدينةِ النبويّةِ ، وبعدَ انتهاءِ العشاءِ وخروج ِ الشيخ ِ ، بقيَ بعضُ الإخوةِ في المزرعةِ ، فجاءهم حارسُ المزرعةِ وجلسَ معهم ، وحدّثهم عن الشيخ ِ خبراً عجيباً ، مفادُهُ أنَّ الشيخَ كانَ يأتي المزرعةَ يوميّاً ويُصلي على أرضِها مباشرةً من بعدِ العشاءِ إلى صلاةِ الفجر ِ ، ويبكي ويبتهلُ للهِ ويضرعُ بالدعاءِ ويلهجُ بالثناءِ بينَ يديهِ ، قالَ الحارسُ : وقد رأيتهُ كثيراً يُعفّرُ جبهتهُ بالسجودِ في الترابِ وينشجُ نشيجَ الطفلَ ويبكي للهِ تباركَ وتعالى .

وقد سمعتُ هذه القصّة أكثرَ من مرّةٍ ، من أكثرَ من مصدر ٍ ، وبمثل ِ هذهِ الأخبار ِ والقصص ِ يتبيّنُ للجميع ِ ، أنَّ هذه المكانة َ السامية َ للشيخ ِ ، والمنزلة َ العالية َ ، إنّما بلغها بالعبادةِ والزهدِ والانقطاع ِ إلى اللهِ ، وبالعمل ِ الصالح ِ والعلم ِ النافع ِ ، إذ أعرضَ عن القيل ِ والقال ِ ، وتفرّغَ لبناءِ نفسهِ وإصلاح ِ حالهِ ، فآتاهُ اللهُ ثمرة َ ذلكَ في الدّنيا علوّاً في الدرجةِ ، ورِفعة ً عندَ الخلق ِ ، وما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقى بإذن ِ اللهِ .

وبمثل ِ هذهِ الأعمال ِ الصالحةِ والذخائر ِ العظيمةِ ، حفِظَ اللهُ شيخَنا في علمهِ ونفسهِ وعقلهِ ، وبوّأهُ رُتبة ً عظيمة ً ، ووقعَ للشيخ ِ من القصص ِ ما يُؤذنُ أنَّ ذلكَ حفظ ٌ من اللهِ لهُ ، وعناية ٌ ربّانية ٌ خاصّة ٌ ، فكثيراً ما كانَ الشيخُ يقودُ سيّارتهُ مسافاتٍ طويلة ً وهو نائمٌ ، لا يدري عن الطريق ِ ، ويستيقظ ُ فجأة ً وهو قريبٌ من أحدِ الحواجز ِ ، أو على وشكِ الجنوح ِ إلى جانبِ الطريق ِ ، وقد سمعتُ هذا بنفسي من الشيخ ِ ، ولم أشكَّ قطُ – حينَ حدّثني بها - أنَّ هذا من حفظِ اللهُ لهُ ورِعايتهِ بهِ ، كأنّما يُهيّئهُ لأمر ٍ عظيم ٍ .

ومن أعظم ِ ما يدلُّ على مناقبِ الشيخ ِ ومكانتهِ ، قصّة ٌ وقعتْ وانتشرتْ في أوساطِ النّاس ِ في المدينةِ النّبويّةِ ، وهي حادثة ٌ معروفة ٌ ، مُلخّصُها أنَّ رجلاً – واسمهُ معروفٌ - من هواةِ التصنيفِ والوقوع ِ في الأعراض ِ ، لمزَ شيخنا في عرضهِ ووقعَ فيهِ بكلام ٍ بذيءٍ مُستقبح ٍ ، لا يجترأ قلمي على ذكرهِ مُخبراً بهِ وآثراً ، فكيفَ بي أن أقولهُ مُعتقداً لهُ ! ، وروّجَ ذلكَ الأفّاكُ الأثيمُ الكلامَ على الشيخ ِ ، ونشرهُ بينَ النّاسَ ، فدعا عليهِ شيخُنا ، وواللهِ ما مرّتِ الأيّامُ إلا والرّجلُ يُلقى عليهِ القبضُ في قضيّةٍ أخلاقيّةٍ وهي اللواطُ – أجارنا اللهُ وإيّاكم منها - ، بعدَ أن افترى على شيخِنا وقذفهُ في عرضهِ ، وهكذا ينتصرُ اللهُ لأوليائهِ ، ويذودُ عنهم .

ولعلَّ هذا يكونُ ذكرى لإخوانِنا الذين ابتلوا بالوقيعةِ في أعراض ِ أهل ِ العلم ِ ، أن يستلهموا منها العظة َ والعبرة َ ، قبلَ أن يقعوا في شركِ الفضيحةِ في الدّنيا ، وسوءِ الخاتمةِ عندَ الموتِ .

وللشيخ ِ موقفٌ مُباركٌ في رعايةِ حقِّ الجماعةِ وولاةِ الأمر ِ ، فهو يرى طاعتهم والسمعَ لهم ، وحينَ وقعتِ الأحداثُ الأخيرة ُ بادرَ باستنكار ِ ذلكَ والتشنيع ِ على فاعلهِ ، وحثَّ الشبابَ على لزوم ِ الكتابِ والسنّةِ ، وعدم ِ الخروج ِ على ولاةِ الأمر ِ ، ودعاهم إلى ضبطِ سلوكِهم وأحوالِهم ، وترشيدِ حماسِهم وتهدئةِ فورتِهم ، وذكرَ الولاة َ بخير ٍ ودعا لهم بالحفظِ والصلاح ِ ، وهذا هو موقفُ أهل ِ الحكمةِ والعدل ِ في الأحداثِ الجسام ِ ، أن يكونوا مع الجماعةِ ، ويقفوا في صفِّ الأمّةِ ، وأن لا يشقّوا عصا الطاعةِ أو يُحدثوا ثلمة ً يلِجُ منها الأعداءُ .

وفي ذاتِ الوقتِ كانَ شيخُنا من أشدِّ النّاس ِ تأثّراً بحال ِ إخوانهِ من المسلمينَ في الخارج ِ ، وقد سمعتهُ كثيراً ما يقنتُ لهم ، ويُذكّرُ بحقهم ، بل كانَ يبكي بكاءً شديداً عندما تقعُ حادثة ٌ للمسلمينَ أو مظلمة ٌ ، ويدعو النّاسَ للدعاءِ لهم ، والصدقةِ عليهم ، والقنوتِ في الصلواتِ ، فهو رجلٌ يحملُ همَّ إخوانهِ ، ولا تكادُ تمرُّ حادثة ٌ إلا وذكّرَ بما وقعَ لهم ، وقنتَ لهم وبكى تأثّراً بحالهم ومصابِهم .

وأختمُ بأمرين ِ :

أوّلهما : أمرُ الشيخ ِ بالمعروفِ ونهيهُ عن المنكر ِ ، فهو آمرٌ بالمعروفِ ناهٍ عن المنكر ٍ ، يقومُ بحقِّ اللهِ في هذا الأمر ِ ، ومن ذلكَ أنَّ مجموعة ً من الرافضةِ – عليهم من اللهِ ما يستحقّونَ – كانوا قد تحلّقوا وقوفاً في المسجدِ النبويِّ الشريفِ ، وأوعزوا إلى أشقاهم أن يقومَ ويُشعلَ سيجارة ً ويُدخّنَ في باحةِ الحرم ِ ، وهم حولهُ يحوطونهُ ويحرسونهُ ، قالَ شيخُنا : فلم أتمالكْ نفسي ، ودخلتُ في وسطهم وصفعتُ الرافضيَّ مُخمّساً – هكذا نطقها الشيخُ – على وجههِ ، فخنسَ الرافضيُّ ، وولّى قومهُ الدبرَ على حالةٍ من الخزي والعار ِ .

وشيخُنا يأمرُ من يصلّي وراءَ الرافضةِ بأن يُعيدَ صلاتهُ ، ولفتَ في حديثهِ عنهم – أخزاهم اللهُ - إلى أمر ٍ مهمٍّ ، وهو أنَّ الرّافضة َ قليلاً ما يتوبونَ ، يقولُ شيخُنا : ولعلَّ اللهَ غارَ على أعراض ِ صحابةِ رسولهِ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ – فقلَّ أن يوفّقَ أحدهم لتوبةٍ أو تغيير ٍ لمنهجهِ الخبيثِ .

الثاني : لُطفُ الشيخ ِ وظرفهُ وسعة ُ أخلاقهِ ، وهذا أمرٌ يعرفهُ عن الشيخ ِ من لزمهِ أو صحِبهُ ، أنّهُ فكِهُ الخلق ِ ، لطيفُ الرّوح ِ ، ليّنُ العريكةِ ، كثيرُ البشر ِ والمُلاطفةِ والمُداعبةِ لطلاّبهِ وأصدقاءهِ ، أذكرُ مرّة ً أنّهُ دعا بدعوةٍ في محفل ٍ بأن يقبضهُ اللهُ ويُميتهُ في المدينةِ النبويّةِ ، فجلجلَ المجلسَ وصدحوا قائلينَ : آمين ! ، فقلتُ بصوتٍ مرتفع ٍ : اللهمَّ أجمعينَ ! ، فقالَ شيخُنا وهو يبتسمُ : لا ما يصير كذا ! ، بعدين يصير زحمة .

ومرّة ً كنّا في أحدِ القرى معهُ ، وفي المجلس ِ أخلاطٌ من جُفاةِ الأعرابِ ، وقليلي العلم ِ ، ولا يعرفونَ حقَّ أهل ِ العلم ِ أو طريقة َ مُخاطبتهِم ، فبادرَ أحدُهم شيخنا بالسؤال ِ وقالَ : يا شيخ لو فيه رجلين أحدهم مزيّن لحيّته والثاني مدخّن ، مين يصلّي إمام ؟! ، قالَ شيخُنا وهو يبتسمُ : صلّ إنت ، أنت مو مزيّن لحيتك ولا شارب للدخان ، فضحك المجلسُ ، وكانَ غرضُ الشيخ ِ أن يلفتَ النّاسَ إلى السؤال ِ عن مسائلَ ذاتِ فائدةٍ مباشرةٍ ، ولهذا ابتدرتُ المجلسَ وسألتُ سؤالاً يُهمُّ الجميعَ ، فنظرَ إليَّ الشيخُ وقالَ : إيه هذي هي الأسئلة اللي نبغاها .

ومن رأى الشيخ َ علِمَ أنّهُ صاحبُ ابتسامةٍ لا تكادُ تُفارقُ وجههُ ، حتّى في أحلكِ الظروفِ ، وأشدِّ المواضع ِ ، فلا تراهُ إلا وهو يهشُّ ويبشُّ ، ويبتسمُ ويُبدي لكَ السرورَ ، وإذا سلمتَ عليهِ فإنّكَ تخرجُ من وراءِ ذلكَ بشعور ٍ أجمعَ عليهِ من يعرفُ الشيخ َ أو يسلّمُ عليهِ : وهو أنّهُ يعرفكَ وبينكما صُحبة ٌ! ، فلا ينزعُ يداً ، أو يكفُّ عن ترحيبٍ ، أو يقطعُ ابتسامة ً ، حتّى تفعلَ أنتَ ذلكَ ، وهذا من عظيم ِ خلقهِ وسعةِ صدرهِ .

على أنَّ فيهِ حدّة ً تكادُ تُقرأ من كلامهِ وأسلوبهِ ، فينثالُ من جنباتِ بعض ِ حديثهِ وهجُ الحدّةِ ، وزفرة ُ القوّةِ ، إلا أنّهُ يكسرُ ذلكَ كلّهُ بالحلم ِ ، ويردُّ نفسهُ إلى طبيعةِ التروّي .

كما أنّهُ تامُّ المروءةِ وافرُ الخلق ِ ، لا يوجدُ عندهُ ما يقدحُ في مروءةٍ أو يشينُ في طبع ٍ ، وإنّما هو العدلُ والوسطُ في الخلق ِ والطبيعةِ ، مع عفافٍ تامٍّ ، وتصوّن ٍ عظيم ٍ ، وغيبةٍ مأمونةٍ ، وحرص ٍ على أسبابِ السلامةِ ، وبُعداً عن البدع ِ والأهواءِ .

وهذهِ الأخلاق ُ الكريمة ُ والشمائلُ الحميدة ُ ، جعلتْ طلاّبهُ يحرصونَ كلَّ الحرص ِ على التشبّهِ بهِ ، في سمتهِ ودلّهِ وهديهِ وهيئتهِ ، ومن حضرَ دروسهُ فسيرى عجباً ، من تعظيم ِ الطلبةِ لهُ وتوقيرهُ ، وإظهار ِ الإجلال ِ لهُ ، والكثيرُ منهم يحرصُ أن يتزيّا على طريقةِ الشيخ ِ ، وذلكَ أنّهُ يحرصُ على لبس ِ الغترةِ البيضاءِ ، ويحسرُ جبهتهُ ، ويجعلُ غترتهُ في الربع ِ الأوّل ِ من طاقيّتهِ ، وهذه الطريقة ُ في التزيّي امتثلها طلاّبهُ ، وساروا عليها ، لقوّةِ ما أثّرهُ الشيخ ُ فيهم ، فقد وسِعهم بأخلاقهِ وفضائلهِ ، واستحوذ َ على قلوبِهم بشمائلهِ ، حتّى صارَ منهم ملءَ السمع ِ والبصر ِ والجوانح ِ ، وبمثل ِ هذهِ الكرائم ِ من الأخلاق ِ ، والنجائبِ من الخِلال ِ ، فاقَ الشيخ ُ أقرانهُ وألجمَ خصومهُ ، وصدقَ الشّاعرُ إذ يقولُ :

قاتلْ عدوّكَ بالفضائل ِ إنّها ********** أمضى عليهِ من السّهام ِ النُفّذِ

بقيَ أن أذكرَ لكم أنَّ شيخَنا لم يتزوّجْ بعدُ ، وقد ذكرَ سببَ ذلكَ أنّهُ مبتلى ببعض ِ العلل ِ والأمراض ِ ، التي تنتابهُ بين حين ٍ وأخرى ، فإن قدّرَ اللهُ لهُ وتزوّجَ فهذهِ طريقة ُ أنبياءِ اللهِ ورسلهِ – عليهم صلواتُ اللهِ وسلامهُ - ، وإن حالَ بينهُ وبينَ الزواج ِ عرضٌ أو مرضٌ ، فكم من إمام ٍ مفوّق ٍ لم يتزوجَ وملأ علمهُ الخافقينَ ، كابن ِ تيميّة َ والنووي وغيرِهم – رحمة ُ اللهِ عليهم أجمعينَ - ، نسألُ اللهَ أن يكتبَ لشخِنا الشفاءَ العاجلَ ، وأن يمدَّ في عمرهِ ويحفظهُ ، ويُبقيَهُ ذخراً للإسلام ِ والمُسلمينَ .

هذه قطوفٌ يسيرة ٌ من حال ِ شيخِنا ، كتبتُها على عجل ٍ دونَ ترتيبٍ لها أن مراجعةٍ ، والذّهنُ مكدودٌ والخاطرُ هائمٌ في أوديةِ الدّنيا ، والجسمُ قد لعبَ بهِ البردُ وفتَّ في عظامهِ ، لعلَّ اللهَ أن يُحيي بها رُفاتَ الفكر ِ البائدِ ، أو رميمَ القلمَ الجانح ِ ، فنحنُ بحاجةٍ إلى أمثال ِ هؤلاءِ الأئمّةِ الأعلام ِ ، وإلى من يُسدُّ فراغهم ، فقد تصرّمَ جيلُ العلماءِ الكبار ِ ، وبقيَ منهم طائفة ٌ يسيرة ٌ ، ولا ندري ماذا يُحدثُ اللهُ من أمر ٍ ، فإن لم نبتدر ِ الغاية َ ، ونستبقْ إلى العلياءِ والمجدِ ، في العلم ِ والعِبادةِ والصلاح ِ ، فإنَّ حالنا ستكونُ مشينة ً ، وخاتمة ُ فكرِنا ستكونُ غيرَ سديدةٍ ، ولن تُغني عنّا المدائحُ أو الأهاجي ، وإنّما هو العلمُ والعملُ ، واللهُ المستعانُ .

دمتم بخير ٍ .

أخوكم : فتى .

==========

تموتُ النّفوسُ بأوصابها ********* ولم تدر ِ عوّادها ما بها

وما أنصفتْ مهجة ٌ تشتكي ********* أذاها إلى غير ِ أحبابها

===========

لك الشكر ماهب الصبى، وما ترنم حمام على الربى ، وماصدح حاد وشدى

لا عطر بعد عروس .. ومابعد العود قعود

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أسد العقيدة
الأحد 16 / 10 1425 هـــــ
في الساعة التاسعة ليلا

أتمنى أن يرسل الإخوة شكرا للأخ فتى الأدغال على هذه الطروحة المباركة

ولكم الشكر الجزيل