مسرحية أصحاب الغار دراسة نقدية للناقد عصام طلعت
بقلم الناقد والباحث/ عصام طلعت
دراسة تطبيقية تحليلية لمسرحية أصحاب الغار لعلي أحمد باكثير* المسرحيــة :
يمكن تعريف المسرحية بأنها : إنشاء أدبي في شكل درامي مقصود به أن يعرض على خشبة المسرح بواسطة ممثلين يؤدون أدوار الشخصيات ويدور بينهم حوار، ويقومون بأفعال ابتكرها مؤلف.
- نموذج المسرحية : " أصحــاب الغـــار " : مسرحية أصحاب الغار للأستاذ / علي أحمد با كثير ، الذي يعد أحد الرواد الأوائل لفن المسرحية العربية ، وربما كان هو الرائد التالي للأستاذ " توفيق الحكيم " في هذا المضمار . فقد تعددت أعماله فتجاوزت أربعين مسرحية وتنوعت واتخذت ألواناً شتى متفاوتة بين المسرح الاجتماعي ، والمسرح التاريخي ، والمسرح السياسي .
ولعل ميزته الكبيرة التي اتسم مسرحه وتفرد بها بين نظرائه من الكتاب المسرحيين – مع محافظته على أصول الفن ورعايته الواعية لقواعده وحدوده – هي توجيهه وتوظيفه توجيهاً عربياً وإسلامياً قوياً ، بل تلك هي سمته وميزته في كل أعماله الفنية والأوربية التي لم تقتصر على المسرح وحده .
* الفكرة العامــة :
إن مسرحية " أصحاب الغار " مأخوذة عن قصة الثلاثة الذين حبستهم الصخرة في الغار – كما ورد في الحديث النبوي الشريف بروايات " مسند أحمد 2 / 116 و 142 وفتح الباري شرح صحيح البخاري 5 / 356 و 7 / 313 " فصاروا في مأزق صعب لم يجدوا منه مخرجاً إلا بتوسلهم على الله تبارك وتعالى بصالح أعمالهم السالفة التي أتوها فيما مضى ، فانحلت عقدتهم وانفرجت أزمتهم .
ويبدو أن الفكرة العامة واضحة جلية في الثلاثة الذين لجأوا إلى الغار لتفادي غزارة المطر وإذا بصخرة تغلق عليهم فم الغار ويحاول كلاً منهم في أن بصل إلى حلٍ لهذه المشكلة دون جدوى إلى أن يخبرهم أحدهم " هـارون " بأن ينبذوا الخلافات ويصفوا أنفسهم ويبتهلوا إلى الله ويدعونه بقلوبٍ خاشعة بأن يفرج عنهم همهم ، واقترح عليهم أن يسرد كل واحدٍ منهم قصة يظهر فيها أن ما قام به من عملٍ كان لوجه الله خالصاً فيتوسل كلٌ منهم بذاك العمل عسى الله يفرج عنهم .
ويبدأ كلٌ من هـارون ومتـى ويوسـف في سرد قصصهم والتي تحمل في فحواها معاني رائعة إنسانية ألا وهي البر بالوالدين والبعد عن الرذيلة وعدم الظلم ، حتى شاء الله تعالى أن يفرج عنهم وتتدحرج الصخرة وينفتح الغار وينجون .
* الشخـوص : رئيسة وثانوية .
تعددت الشخصيات ، ولقد برزت بصورة تعطي حيوية للحركة الدرامية داخل البناء المسرحي ، ولقد وظفها الكاتب من خلال المشاهد التي أتاحت للقارئ عملية المعايشة بصورة متنامية .
- يوسـف : الذي يخشى السيل ويخشى الصخرة ويبدو بناء شخصيته أنها خائفة متعقلة للأمور وكل ما يظنه يجده قد حصل . ومن بداية المسرحية حتى نهايتها تجده يكثر من الكلام حتى قيل له على لسان " متـى " : كل هذا من سوء تشاؤمك ولكنه يطلب السماح من أصدقائه
وحينما يقص علينا سره الذي بين منه انصرافه عن الفحشاء خوفاً من الله ، وهذا العمل الصالح كان سبباً في تزحزح الصخرة .
- هـارون : الشخصية العاقلة داخل القصة المسرحية والتي تزن الأمور وتعمل دائماً على التوفيق بين الشخوص الاخرى في خدمة الحركة الدرامية للمسرحية ، وهي الشخصية التي تتسم بالتدين والتي نراها في حواره : " لا حول ولا قوة إلا بالله " . ولما انسد فم الغار قال : " تعال يا متى ، اجلس قريباً مني . إننا هالكون لا محالة إلا أن يتداركنا الله بلطفه . اقترب متى وأنت أيضاً يا يوسف .هات يدك . وهو صاحب الفكرة الإيمانية أن يتوسل الجميع إلى الله بصالح أعماله . ولكن ألاحظ أن هارون أخذ مساحة كبيرة من زمن المسرحية وقد طالت جملته الحوارية خاصة في المناظر المتعددة ففي المشهد الذي نجد فيه هارون واقفاً وبيده صحفة من اللبن وأمامه زوجته " حنـة " .
- متــى : شخصية قائمة على التعقل ووزن الأمور ، ونجده يتحاور ويسخر أحياناً خاصة حينما تبين للجميع حسن رأيه قائلاً : أرأيت يا صاحب الرأي الحصيف لو لم ندخل الغار لجرفنا هذا السيل الهائل ونجده يحكم على هارون بانه الأصلح حتى يبدأ بسرد قصته ونجده يحلل ويستقصي وكأنه ناقد للاحداث وهو الذي يهتف : الصخرة تتزحزح ! . ونجد تلك الشحصية نامية ، فهو الثري صاحب المزرعة ويستأجر الأجراء . والذي يعيد الحق لصاحبه حتى لو طال الزمان ولو جار عليه واجتاح ماله .
ومن الشخصيات الثانوية التي ساعدت على تنامي الحدث للوصول إلى درجة الحيوية في الأداء للوصول إلى العقدة ومن ثم الحل والنهاية :
- زوجة هارون : والتي تدعى " حنـة " فهي تتعجب من صنيع هارون الذي يقف ويلصق الصفحة ببطنه ، وتخشى على اولادها الجوع والعطش . وأرى أنها ساعدت في رسم الصورة لهارون في بره لوالديه .
- ابنة عم يوسف : وهي " الحبيبـة" التي أولع بها يوسف وتنامي حبها بداخله حتى وسوس له الشيطان أن يغريها بالمال فاستعصمت منه ، ولما المت بها سنة من السنين الضائقة ذهبت إليه تطلب المال " ستين ديناراً " ولكن يوسف اشترط عليها أن تجود عليه بنفسها فقالت إذا أردت وعرض عليها الضعف وإذا بها تبكي خوفاً من الله وكانت السبب في بعده عن الفحشاء ، وتوبته إلى الله .
- زوجة متـى : " تمـارا " لعبت تلك الشخصية دوراً كبيراً وهي تمثل الشر والطمع في مال الأجير الذي حرم اجره وأوردت لذلك مبررات ، وعملت إلى تبيان شخصية " متـى " الراجي رحمة الله والذي يريد أن يكفر عن سيئاته.
- سليمــان : وهو الاجير لدى " متـى " والذي استقل أجرته وتركها وذهب ، وقد بحث عنه " متـى " كثيراً ليرد عليه ماله وقد شده لما أعطاه " متـى " الأنعام " ورعاتها وكان حقه صاع الأرز ولم يكن ليصدق ما حدث من صاع أرز إلى أنعام ورعاة فيتحول من أجير إلى سيد حتى أراد أن يترك نصفها " لمتـى " .
* الزمــان : -
ليلاً كان أو نهاراً ، فعنصر الزمن في هذه المسرحية اتسق مع المكان وأثناء نزول المطر والرعد يقصف بشدة .
* المكــان :
وادٍ ضيق بين جبلين ، والغار ، وبيت هارون ، وبيت يوسف ، وبيت متى . فنجد أن المكان يتغير حسب الحدث وينتقل بحيوية من الغار وإلى بيت كل من ( متـى ويوسـف وهـارون ) مما أضفى على المسرحية عنصر الحيوية والتشويق .
* الحــدث :
يعد الحدث أساس الفعل المسرحي ومحور العملية الفنية ، وهو محاكاة للحياة البشرية ( طبيعيا محتملا ) . ويتحرك الحدث تدريجياً بفعل الصراع بين الشخوص .ويكون الحدث الرئيس بمثابة المحور الذي تتخلله أحداث فرعية تشترك فيها الشخوص لتعرض الفكـرة و هــــو ما يسمى بالـــوحدة العضوية ، والوحدة من ضرورات العمل الناجح .
ويتضح من استقراء المسرحية أن الحدث الرئيس هو دخول الثلاثة الغار خوفاً من المطر ومن الرعد ، وتحدث المفاجأة العظيمة وينسد فم الغار ويسوده الظلام ، وهنا يظهر الوازع الديني الذي يسيطر على قلب كل مؤمن حين تشتد الأزمات فلا ملجأ من الله إلا إليه ، ويقترب كل
واحدٍ منهم إلى الله ويتوسل إليه بصالح الأعمال وأهمها :
1 – بر الوالدين .
2 – العفة وخشية الله .
3 – إعطاء الأجير حقه والبعد عن الظلم .
وبان لنا أن هذه الأعمال الصالحة السالفة الذكر كانت تصحب كل حادثة للشخصيات الثلاث ( هـارون – يوسـف – متـى ) .
والنهاية نجدها في استجابة الله تعالى لتوسلهم وفك عنهم كربهم وتتزحزح الصخرة وينفتح فم الغار أوسع مما كان وتتدحرج الصخرة غلى أسفل ويتعانق الثلاثة في بهجة وفرح قائلين . الحمد لله . الحمد لله .
* الحــوار :
لقد اتسم الحوار في هذه المسرحية بما يلي : -
- الحيوية .
- الإيجاز .
- التركيز .
وقد لاحظت ان الجملة الحوارية تتسم بالحيوية وعدم الجمود بل انه يسوق إلينا التشويق والإثارة الذي يرمي نهايةً إلى حيوية الحركة والتي تجعلها تتمثل الشخصيات في أزمتهم وصراعاتهم وأفكارهم التي تعتمل بين جنوبهم وفي دخائل نفوسهم ونجد ان الجملة الحوارية موجزة موحية ، تعمل على إظهار الصراعات دون إخلال في المعاني أو جمود في الموقف المسرحي . والتركيز صفة عامة في مسرح " باكثير " واتضح ذلك خاصة في مسرحية " أصحاب الغار " ، فالجملة الحوارية قصيرة وموجزة وموحية وتعمل على تبيان الشحصيات وما يعتمل في صدورهم .
وسمة التركيز في الحوار عملت على إظهار الصراع على السطح وأبان صفة كل شخصية وثقافتها بل وعملت على تنامي الحدث سريعاً للوصول إلى النهاية فالقارئ أو المشاهد لا يغفل ولو لثانية واحدة عن تتبع الأحداث نظراً لحيوية الحركة وتركيز الحوار .
* البنــاء :
إن الحركة الخفية التي تدب في الأحداث نتيجة تعقدها وتباين الأهداف من الوهلة الأولى من بداية المسرحية حيث المطر يهمي ، والرعد يسيطر على المكان ، والخوف يجتاح قلوب الثلاثة الأبطال وتفكيرهم في النجاة ، ويبدو تعقد الحدث حينما يلجئون إلى الغار كحمى ومأوى يقيهم شر ما حدث .
العقدة ( الحبكة ) :هي سلسلة الحوادث التي تجري في المسرحية مرتبطة برابط السببية ( وهي نقطة التأزم في الحدث ). ولكل حدث في المسرحية عقدة . وجميع العقد مرتبطة بالعقدة الرئيسية كارتباط الأحداث الفرعية الرئيسة بالحدث الرئيسي ، وهذا الارتباط يؤدي إلى جذب المشاهد وإثارة انتباهه .
وتزداد الأحداث تعقداً حينما ينسد فم الغار عليهم ويسود الظلام المكان ، وقد تشابكت الآراء واختلفت وتباينت من قبل ، فهناك من يرى دخول الغار والآخر يفند ذلك .
وباستقراء المسرحية تجد في القصص الثلاثة صراعات مختلفة خارجية نجدها فيما بين :
- الزوج وزوجه .
- الأجير وسيده .
وقد أدى ذلك البناء المتماسك القوي إلى إبراز عنصر التشويق والإثارة ، وعمل على جذب الانتباه والمعايشة للأحداث بكافة أشكالها ، ولا يمكن لأحدٍ أن يتوقع النهاية إلا مع آخر مشهد للمسرحية .
ومن الجدير بالذكر أن الحوار هو المظهر الخارجي ، والصراع هو المظهر الداخلي والذي لا يظهر إلا على ألسنة الشخصيات من خلال الجمل الحوارية ، والتي بدورها تجسد الصراع .
إن مسرحية " أصحاب الغار " للكاتب علي أحمد باكثير " تحتوي على صراعات عدة مما جعلها تُخلق لتعيشَ في أذهانِ القراءِ من خلال ما تحمل من معانٍ إنسانية وأخلاقيات سامية ، تجسدت في القصة المسرحية للفرسان الثلاثة .
فالمقصود بالصراع المسرحي انه الاختلاف الناشئ عن تناقد الأراء ووجهات النظر بالنسبة لقضية أو فكرة ما بين شخصيات المسرحية ، ولذلك يقول النقاد " لا مسرح بلا صراع " فلو اكتفى الكاتب بتقديم شحصياته دون أن يصفها في مواقف تظهر ما بينها من صراع فإنه لا يكون قد كتب مسرحية حقيقية .
إنما قيمة المسرحية في اجتماع شخصياتها إزاء قضية أو فكرة تتصارع فيما بينها حولها فتتفق أو تختلف لتنتهي غلبة وجهة نظر هذه الشخصية أو تلك .
وما الحياة التي نعيشها سوى مسرحية متعددة الصراعات متشعبة الأهداف وإذا كان الصراع يعمل على تعقد الحدث وهو انسداد فم الغار " ولا حول ولا قوة إلا بالله " ويظهر في الأفق صراع من نوع أخر داخلي يزلماوال النفس ، وقد ظهر في نفس كل شخصية باقتراب الهلاك المحقق فما الحل ؟ وكيف النجاة ؟ ، ونجد في موقف " تمارا " زوج " متـى " حيث إن هدف الزوجة الاحتفاظ بالأنعام ومن أجل ذلك تبرر هدفها وتسوق حجتها بأن زوجها هو الذي ثمره ، وهذ الموقف يضاد موقف " متـى " الذي يريد أن يعيد للاجير حقه ليبرأ زمته أمام الله ، فهذا صراع قوي جداص بين الخير والشر ، بين الأخلاق واللا أخلاق وتستمر تعقد الأحداث في مجملها في الغار ويلوح الحل من بعيد ، بعد الصراخ النفسي ، والهواجس الشيطانية ، والتي هدأت بالدعاء والتوسل إلى الله ، مما أدى إلى انفراج الصخرة وتدحرجها إلى اسفل والسبب العناية الإلهية وتقبل الله دعاء الصالحين من عباده .
* الســرد :
لقد أبدع الكاتب في سرده للاحداث وتصنيفه للمشاهد أيما إبداع فلم يقف موقف الراوي الذي يفقد العمل المسرحي حيويته ، ويضيع على القارئ اتساق الفكر ومعايشة الحدث ، فإذا به يصنف المشاهد بطريقة رائعة حينما يسرد الحدث في جمل موجزة موحية لتبرز الهيكل المسرحي بصورة تعتمل في النفوس وتشوق الاذهان إلى اكتمال أجزاء الصورة من خلال الحوار ونلمس ذلك ونحسه في قول الكاتب بداية :
" وادٍ ضيق بين جبلين ، السماء مجللة بالسحاب الداكن ... "
ثم ينتقل بعدها قائلاص : " ثلاثة رجال يمشون في وادي ، وهم يتلفتون نحو الجبل ونحو السماء في وجل .. "
تجد ان سرد الحدث عمل على إضفاء نوع من الحيوية ، وإشعال الحركة الدرامية المسرحية ، ونلمس ما يتصف به السرد من إيجاز حسب ما يقتضيه المشهد المسرحي مثل : " داخل الغار يتسرب إليهم بعض النور من فم الغار . وقد اشتد هدير السيل . "
* الوصــف :
لقد ساعد كل من السرد والوصف في تجسيد من الحدث والصراع كليهما ، فوصف المكان بأسلوب بلاغي موحٍ يعمل على جذب انتباه القارئ وإثارة ذهنه ، ويجعله يتخيل الحدث دون أن يراه أو دون أن يمثل على خشبة المسرح ، مثل قول الكاتب في وصفه للجو :
" السماء مجللة بالسحاب الداكن ، والرعد يقصف بشدة ، والمطر يهوي بغزارة .. "
فهذا الوصف لذلك المشهد يوحي بالموقف الرهيب ، والخوف الشديد من البقاء خارجاً في ذلك الجو ، والذي يمهد للمشهد الذي يليه ألا وهو الاحتماء بالغار .
ونجد في قول الكاتب : " يظهر وهو يلهث من الجري ... وقوله أيضاً في وصف الغضب الذي سيطر على متـى عندما انطبقت الصخرة عليهم وعم الظلام في الغار " قال محتداً .. "
في الحقيقة إن السرد والوصف في المسرح يتضاءل دورهما على عكس ما نلمسه في الرواية حيث إن المسرحية تعتمد على الحوار والصراع .
|