الموقف الأول : كان الخليفةُ يزيدُ بنُ معاوية بلغ من الفسادِ في رعيتِه ما جعلَ بعضَ أهلِ المدينةِ يزمعون على الخروج عليه فأبى أفاضل الصحابة ، فقد روى مسلم قَالَ : جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، فَقَـالَ : اطْرَحُوا لأَبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً. فَقَالَ : إِنِّي لَمْ آتِكَ لأَجْلِسَ أَتَيْتُكَ لأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُـولَ اللَّهِ e يَقُولُهُ ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ :"مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" ، وفي البخاري أنه t جمعَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ وقَالَ : "لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ إِلاَّ كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ". وذكر قول النَّبِيَّ e: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قال شيخ الإسلام ابن تيمية(منهاج السنة:4/529) : "وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد"أ.هـ. لكن غلبتْ العاطفةُ العقلَ والهوى الاتباعَ فلم يستمعْ الناسُ لهدي النبيِّ e وأصحابِه فخلعوا بيعةَ يزيدَ فأرسلَ إليهم مسلمٌ بنُ عقبةَ فأستباحَ المدينةَ ثلاثةَ أيامِ ، قال الحافظ ابن كثير : "قتـلَ خلقاً من أشرافِها وقرائِها ، وانتهبَ أموالاً كثيرةً منها ، ووقعَ شرٌ وفسادٌ عريضٌ .. ووقعوا على النساءِ حتى قيلَ : إنه حبلتْ ألفَ امرأةٍ في تلكَ الأيامِ منْ غيرِ زوجٍ ، والله أعلم".
الموقف الثاني : وكان ابنُ عمرُ وغيره من الصحابةِ رضي الله عنهم يصلونَ خلفَ الحجاجِ على ظلمِه وجورِه ، بل قدْ روى البخاريُّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ : أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ فَقَالَ : اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلاَّ الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ e". وكان الحسنُ البصريُّ يقولُ : إن الحجاجَ عذابُ اللهِ فلا تدفعوا عذابَ اللهِ بأيديِكم ، ولكن عليكم بالاستكانةِ التضرعِ ، فإنَّ اللهَ تعالى يقول ]ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون. لكنن ابن الأشعث كان له مطامحُ سياسيةٌ وكان يقول : والله لأجهدن أن أزيله عن سلطانه إن طال بي البقاء. فاستغلَ طيبةَ بعضِ الأخيارِ والصالحينَ من التابعينَ الذين يتميزونَ غيضاً من ظلمِ الحجاجِ وفجورِه ، فهيجهمْ على خلعِ الحجاجِ ثم الخليفةَ عبدِ الملك فخلعوه فتفرقتِ الكلمةُ وعظمَ الخطبُ ، وبعدَ قتالٍ ذهبتْ فيه دماءٌ وأموالٌ ، انصرف المسلمون فيه عن قتالِ الكفارِ. انهزمَ ابنُ الأشعثِ ومن معه ، ففرَ إلى ملكِ التركِ الذي كَانَ يقاتله بعد أن كان يجاهدُهُ في اللهِ ، فسلمَه لجندِ الحجاجِ ، فلمَّا كَان في طريقِ العودةِ مات منتحراً. وقُتَلَ من أتباعِهِ بينَ يدي الحجاج ثلاثينَ ومائةً ألفاً. قال شيخَ الإسلامِ ابنُ تيمية وذكر أن مفسدةَ الخروجِ أعظمُ من مصلحتِهِ(منهاج السنة النبوية:4/527) : "وقلَّ من خرجَ على إمامٍ ذيْ سلطانٍ إلا كانَ ما تولدَ على فعلِهِ من الشرِّ أعظمَ مما تولدَ من الخيرِ" حتى قال : "وأما أهلُ الحرةِ وابنُ الأشعثِ وابنُ المهلبِ وغيرُهم ، فهزموا وهُزمَ أصحابُهم ، فلا أقامَوا ديناً ولا أبقَوا دنيَا ، والله تعالى لاَ يأمرُ بأمرٍ لا يحصلُ بِهِ صلاحُ الدينِ ولا صلاحُ الدنيا"أ.هـ.
عباد الله وعلى هذا سار أهلُ السنة على هدي نبيهم وسلف هذه الأمةِ حتى صارَ تركَ الخروجِ على الحكامِ شعاراً لهمْ ، فهذا الإمامُ أحمدُ بنُ حنبـلٍ إمامُ أهلِ السنةِ والجماعةِ رحمه الله حينَ أظهرَ أمراءُ بني العباسِ في زمنِه بدعـةً كفريةً بدعةَ خلقِ القرآنِ ونفي الصفاتِ ، بل امتحنوه وسائر علماء وقته ، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات ، وقطع الأرزاق ، ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو ، معَ ذلكَ لم يفارقْ رحمه اللهُ شعارَ أهلِ السنةِ بلزوم الجمَاعةِ مع أنهم ضربوه وحبسوه وآذوه أذيةً عظيمةً ، بل لما جاءه قومُ من أهلِ بغدادَ وقالوا : إنَّ الأمرَ ـ يعنون: القولَ بخلقِ القرآنِ ـ قد تفاقم وفشا ، ولا نرضى بإمارتِهِ ولا سلطانِهِ. فقالَ لهم الإمامُ أحمدُ(كما في السنة للخلال:1/133) : "لا تخلعوا يداً من طاعةٍ ، ولا تشقوا عصا المسلمينَ ، ولا تسفكوا دماءَكم ودماءَ المسلمينَ معَكم ، وانظروا في عاقبةِ أمرِكم ، واصبروا حتى يستريحَ برٌّ أو يُستراحُ من فاجرٍأ.هـ. وقال : "سبحانَ اللهِ الدماءَ الدماءَ ، لا أرى ذلك ولا آمرُ به ، الصبرُ على مانحن فيه خيرٌ من الفتنةِ : يُسفك فيها الدماءُ ، ويستباحُ فيها الأموالُ ، وينتهكُ فيها المحارمُ ، أما علمتَ ما كان الناسُ فيه - يعني أيام الفتنةَ –". وهذا شيخُ الإسلامِ أحمدُ بنُ تيمية الحراني رحمه الله حين نصرَ حكامَ عصرِه عقيدةَ الأشاعرةِ فآذوه أذيةً عظيمةً لنشرِه عقيدةَ السلفِ الصالحِ حتى إنه ماتَ مسجوناً رحمه الله ، ومع ذلكَ هاهو يقولُ(الفتاوى:35/13): "وأما أهلُ العلمِ والدينِ والفضلِ فلا يرخصونَ لأحدٍ بما نهى اللهُ عنه من معصيةِ ولاةِ الأمورِ وغشِّهم والخروجِ عليهم بوجهٍ من الوجوه ، كما عرفَ من عاداتِ أهلِ السنةِ والدينِ قديماً وحديثاً" ، وهو القائل: "ولعله لا يكادُ يعرفُ طائفةٌ خرجتْ على ذيْ سلطانٍ إلا وكانَ في خروجِهَا من الفسادِ ما هوأعظمُ من الفسادِ الذي أزالتْهُ"أ.هـ.
|