ومرّت ساعات الحياة سريعة .. ومرّت أيامها كلمحِ البصر ، وكأن شيئاً لم يكن ! لا والله .. وكأن شيئا تطور وتطور .. حتى عاث في حياة هذا الابن وأنهكها وقلبَها .
كتبت الفصل الأول وأكملته بالثاني .. وما علمت أن حياته ستتغير من سيئة إلى ما كتبه الله له ، وما علمت أن هذه القصة سيكون لها فصلاً ثالثاً .. ولا وقتاً ثالثاً للكتابة به .. لكنها مشيئة الله فوق كل شيء ، وليكن هذا الفصل عِبرة من تلكم العِبر التي يجعلها الله في عباده ليهابه عباده ويجعلها الله في آخرين ليتوب آخرين .
غَاب .. حتى أوشك الناس أن يفقدوا هذا الابن ، وانقطعت أخباره حتى ظنوا أنهُ مات ! ولكن لا مُخبرَ ولا خبَرَ ، وتسَلل الفضول إلى عقولٍ باتت تقلب عينيها بين المَارة لتبحث عن تفاصيل وجهه القديم وعينيه السمراوين ولكن لم يجدوه، وإذا وُجّه السؤال إلى من يعرفه قال : لا أدري عنه شيئاً أتدري أنت ؟ ، وإذا وجه آخر سؤالا على من يعرفه قال : رأيته في عيدِ كذا أو مناسبة كذا ثم لا أدري عنه بعدها ، وظلت الإجابة تائهة والحقيقة غائبة ، والسؤال أين ذهب ؟ وما هي عيشته وفي أي منزلٍ يسكن ؟ أهو في ريفٍ يداعب خشاش الأرض ظهره عندما يَرقد ؟! أم في بيتٍ بالٍ في حارة نائيةٍ وأزقة متهدّمة ؟! أم أن الله وهبه ما وهب ، ورزقه ما رزق ، فصار في قصرٍ لا يدخله إلا من كان يرتقي لمعيشته ؟! .. كل تلك الهواجس والتخيّلات غير صائبة ولم تعبر في سكة الحقيقة قط ، وهذه الحقيقة :
التف حوله رفاقه السابقين الساذجين ، أشد من التفافهم الأول ، حتى أوقعوه في الفخ وأوقعوه في المصيدة ، ليست مصيدة سرقة ولا قضية تدخين ، بل سلبوه من أهله ورموه في ترويج المخدرات ، وما عهدته الحياة بهذه الصورة لكنها اعتادت على أن الرفاق لا يبالون بالمصائب ولا يودون أن ينتهي وقتهم في الحياة السوداء وحدهم ! بل يجرون ويُوقعون حتى يهدمون ثم يقتلون .
وفي ليلةٍ ليلاء ، ظلامها دامس ، ونجومها خافتة ، وفرحها موجوع ، وحزنها مستيقظ ، حاصَر رجال المخدرات هذا الابن ومعه عدة شباب في شارعٍ من شوارع الضياع ، وكبّلوهم وزجوا بهم خلف قضبان الفضيحة والندم والتحسّر ..
والأب ! في غفلةٍ من تلكم الغفلات التي أودَت بهذا اليانع ، فلا أدري إن كان يدري بهذا الخبر ، لكن الذي أعلمه أن أضلاعه ستتلوّى وعينيه ستفيض من الدّمع ، وأنامله ستتقطع من الندم ، سيلعن فواتير مؤسسته ، وعماله الذين اهتم بشؤونهم وقام على صحتهم وتفقد أحوالهم قبل أن يبدأ بابنه وينتهي به ، سيمزق جسده ويُحرق ذكرياته ، ليردد بينه وبين نفسه : أهو عَار أم دمَار ! اللهم لا شماتة .
* * *
انتهت الحكاية ! لالا .. لم تنتهي ، مازال هناك توبة ومازال هناك باب مفتوح ، ومازال الأمل يتنفس وله نور لم يُطفأ بَعد .
والأم ! حكاية أخرى من التوجد والألم .
وهكذا ، من فناء المنزل إلى باب البيت ، إلى زوايا الحارة ، حتى الدوران في الدراجات الهوائية ، حتى الحارة النائية ، ثم السيارة ، ثم الدوران ، فالتدخين فالأحلام والأوهام والرجولة الطاغية والقوة والبطولة ثم المخدرات ، حتى باب السجن .
ضَاع ، كما ضاع آخرين ، وهُدم شبابه ، كما هُدم شباب آخرين ، لكن اللوم كله يُصب على أبيه وعلى أوراق أبيه وعلى خزنة المال وعلى عشق الدراهم .
* شكراً لوقتك الذي قضيته هنا ..
كتبها من الألم ..
د / ماسنجر