بدأ الله تعالى سورة الكهف بالحمد , وهي خامسة خمس سور بدئت بالحمد , وهي : الفاتحة , والأنعام , والكهف , وسبأ , وفاطر .
وقد تكلمت عن معنى الحمد في حديثي عن سورة الفاتحة .
قوله تعالى : ( عبده ) هو محمد صلى الله عليه وسلم , والتعبير بالعبودية هنا تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم من وجهين :
الأول: أنه أضاف عبوديته لله تعالى , وهذا أكمل تشريف وأعظمه .
الثاني : الإفراد , فإفراد لفظ ( عبد ) في هذا المقام العظيم لهو دلالة على أن الموصوف بهذه الصفة له مكانة عند مولاه وسيده ليس لأحد أن يبلغها , وكأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو العبد الوحيد لله تعالى , وأي شرف أعظم من هذا الشرف .
وقد وصف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه عبده في أكثر من موضع فقد قال تعالى : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1) سورة الإسراء , وقال سبحانه : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (1) سورة الفرقان , وقال تعالى : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (36) سورة الزمر , وقال سبحانه : {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (10) سورة النجم .
ولم يأتِ في القرآن لفظ ( عبده ) لنبي غير محمد صلى الله عليه وسلم إلا في موضع واحد جاءت لزكريا عليه السلام وهي قوله تعالى : {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (2) سورة مريم .
قوله تعالى : ولم يجعل له عوجا : أي لا ميل فيه ولا اعوجاج , ولا خطأ فيه ولا زلل , ومثل هذا المعنى قوله تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء , وقوله تعالى : {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42) سورة فصلت .
وجاء لفظ ( عوجا ) نكرة في سياق النفي ليعم جميع أنواع الاعوجاج اللفظي والمعنوي , فالقرآن كامل من جميع جوانبه لا يستطيع مخلوق على وجه الدنيا أن يجد فيه ثغرة أو خطأ أو لفظاً زائداً عن موضعه , أو تكراراً مُخِلاً بالمعنى ( أبى الله الكمال إلا لكتابه ) .
كما قال تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء
وكما قال تعالى واصفا كتابه العزيز : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42) سورة فصلت
قيماً : أي مستقيماً عدلاً .
فإن قيل : إذا نفى الله تعالى عن القرآن الاعوجاج فقد ثبت أنه مستقيم , فلماذا كرر لفظ ( قيماً ) ؟
الجواب : أحد أمرين :
1. أنه كرره للتأكيد , فكم من أمر ينفى عنه العوج ثم عند السبر والتحقيق يوجد فيه نوع من الميل والخطأ , فجاء لفظ ( قيما ) إثباتاً بعد النفي لزيادة التأكيد على هذا المعنى .
2. أن معناه : قيّماً على الكتب السابقة , وسيداً عليها , وناسخاً لها , ومهيمناً عليها كما قال تعالى : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (48) سورة المائدة ( ذكر هذين المعنيين الزمخشري في كشافه ) .
( كبير المحايدين)