مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 30-10-2011, 07:40 AM   #10
أبو سليمان الحامد
كاتب مميّز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537

الحلقة الثانية :

قال تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ , فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران

التعبير بالبيت هنا : فيه دلالة على ما يضيفه البيت لساكنيه أو زائريه من الأمن والأمان وطمأنينة النفس والاستقرار , فهو أول بيت تهوِي إليه القلوب { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } (37) سورة إبراهيم .

ومن المعلوم أن بيوت الناس لها حُرْمَةٌ وفيها الطمأنينة والسكن والأمن{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } (80) سورة النحل , فهذا حال البيوت التي يصنعها الناس وتضاف إليهم , فكيف بالبيت الذي وضعه الله وأضيف إليه حين يقال : بيت الله ؟؟

وقوله سبحانه : " أول بيت " اختلف العلماء على قولين :

فقال بعضهم : إنه أول بيت على الإطلاق وجد على الأرض قال به عبد الله بن عمر ومجاهد والسُّدِّي .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والضحاك : إنه أول بيت وضع للناس مباركاً , فالأوليّة في قوله ( أول ) متعلقة بالحال ( مباركاً ) تعلقا معنويا وليس إعرابياً .

ورجح ذلك ابن كثير .

وقوله " للناس " اللام فيه للتعليل أي لهداية الناس جميعاً , فالبيت وضع من أجلهم .

وإما أن تكون لشبه الملك أي أن البيت لهم يتعبدون فيه .



" للذي ببكة " : اللام الداخلة على الاسم الموصول تفيد التوكيد , ويؤتى بها بعد ( إنَّ ) زيادة في توكيد الخبر , وتسمى المزحلقة .

ببكة : البكُّ هو الزحام والضيق , وسميت بذلك لازدحام الناس فيها , وقد سمى الله مكة في القرآن بعدة أسماء : " مكة , وأم القرى , والبلد الأمين , البلدة " ولكن التعبير هنا جاء بفلظ ( بكّة ) لأن الحديث سيكون عن الحج وفرضيته على الناس , وهو موسم الزحام والضنك , فناسبَ اللفظُ الحال والسياق .

" مبارَكاً " حال من الاسم الموصول " الذي " , وقد بارك الله في البيت الحرام من جميع النواحي , فجعله قبلة للمسلمين حتى قيام الساعة , وجعله مكانا لنزول وحيه , ومبعث خير أنبيائه , ومبنى خليله .

والبركة في هذا البيت باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها , بركة في الدين والمال والنفس والصحة والوقت .

" وهدى للعالمين " هدى : معطوفة على مباركاً , ولعله من عطف الخاص على العام , لأن الهداية جزء من البركة , من بركة البيت الحرام أن جعله الله هداية للناس , يصلون إليه , وينبع منه نور الوحي , ويأوي إليه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم .

وقدم البركة على الهداية لأن البركة في البيت الحرام من عند الله تعالى ولهذا عبر عنها باسم المفعول , أي أن الله تعالى جعله مباركاً , وأما هدى فهو مصدر أسند إلى البيت نفسه , أي وهدىً هو للعالمين , وتقديم ما كان من عند الله أولى وأجل .

وكلاهما من عند الله ولاشك , ولكن المسألة هنا مسألة لغوية , فالمبارك اسم مفعول أسند لما لم يسم فاعله , وأصل فاعله لو سمي هو الله تعالى , فوجب تقديمه .

وأما هدى , فمصدر مبني للمعلوم , وفاعله ضمير يعود على البيت , فوجب تأخيره

والله تعالى أعلم بالصواب .

قوله تعالى : " فيه آيات بينات "

الضمير في كلمة ( فيه ) يعود إلى البيت , والآيات البينات : هي العلامات الظاهرات على شرف هذا البيت وقدسيته , ومنها : مقام إبراهيم , والحجر الأسود , والحطيم , وزمزم , والمشاعر كلها .. [ تفسير البغوي ]

قوله سبحانه : " مقام إبراهيم " للعلماء في إعرابها أربعة أقوال :

الأول : أنه مبتدأ وخبره محذوف والتقدير : " منها مقامُ إبراهيم " .

الثاني : أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : " بعضها مقام إبراهيم " .

الثالث : أنه بدل بعض من كل من كلمة ( آيات ) .

وهذه الأعاريب الثلاثة ترجع إلى معنى واحد , وهو أن المقام بعض الآيات وليس كلها .

الرابع : أنه عطف بيان ,, وهذا إعراب الزمخشري . ومعناه حينئذ إن الآيات هي المقام نفسه . لأن عطف البيان يأتي بيان لما قبله فيكون هو هو .

وضعف العلماء القول الرابع لاعتبارات معنوية بأن المقام جزء من الآيات وليس هو الآيات كلها , ولاعتبارات نحوية بحتة مذكورة في كتب النحويين .

" ومن دخله كان آمناً " الضمير في " ومن دخله " يعود إلى البيت , وليس إلى المقام , فالمراد أن من دخل البيت فهو آمن , وهذا استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا } (126) سورة البقرة , وكما قال عليه الصلاة والسلام عام الفتح : " من دخل البيت فهو آمن " .

والتعبير بقوله : " كان " وهي تفيد الكينونة المطلقة التي لا ترتبط بزمن معين , وقوله ( آمناً ) جاءت بصيغة اسم الفاعل , وصيغة الاسم تدل أيضا على الثبوت والاستمرارية , وهي صفة ثابتة في الحرم بإذن الله تعالى , ولهذا من أراد أن يخرق هذه الصفة الثابتة فإن الله تعالى يصب عليه العذاب الأليم : " { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (25) سورة الحـج



ثم لما ذكر الله تعالى ميزات هذا البيت العتيق ( أول بيت وضع للناس , مبارك , هدى , فيه آيات بينات , فيه مقام إبراهيم , من دخله كان آمنا ) أنزل الله تعالى فرضية الحج إليه والزيارة لهذا البيت العتيق الذي هذه صفاته , فصارت صفة سابعة له .

ومعنى قوله : " ولله على الناس " أي ولله فرض واجب على الناس .

وهذا الأسلوب من أقوى أدلة الوجوب والفرضية , كما تقول : لله عليّ أن أفعل كذا , فهذا أسلوب نذر عظيم .

حج البيت : الحج هو الزيارة في اللغة .

والبيت : ( ال ) هنا للعهد الذكري : أي البيت المذكور آنفاً .

ولأن زيارة البيت لن تكون بميسور الناس كلهم جاءت رحمة الله هنا بالتخصيص بعد العموم " من استطاع إليه سبيلا " أي أن الحج لا يجب إلى من وجد الاستطاعة , ووجد السبيل الموصل إلى البيت العتيق .

و( مَنْ ) هنا من قوله : " من استطاع " بدل بعض من كل من كلمة " الناس "

والتعبير بالناس هنا , والحج واجب على المسلمين فقط , ولا يجوز إلا من المسلمين فقط دليل على أن المسلمين هم الناس الحقيقيون وحدهم كما قال الشاعر :

وإن الذي حانت بفَلْجٍ دماؤهم ,,, هم القوم كل القوم يا أم خالدِ



( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) :

أي ومن كفر بالبيت العتيق كُفْراً بأهميته , وكُفْراً بوجوب الحج إليه , وكفراً بعظمته , فإن الله تعالى غني عنه , كما قال سبحانه : {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } (7) سورة الزمر .

وناسب أن يذكر غنى الله تعالى عن الكافرين هنا بأن الله تعالى لم يوجب الحج على العباد لأنه محتاج إليهم سبحانه , بل ليعبدوه ويوحدوه , والحاجة في النهاية عائدة إليهم , فهم الفقراء إليه , وإلا فهو الغني جل جلاله , ولو اجتمع الناس قاطبة على عبادته فلن ينفعوه بشيء , ولو اجتمعوا كلهم على الكفر به لم يضروه بشيء .



والله تعالى أعلم .
__________________

وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ
يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ


[ محمود سامي البارودي ]
أبو سليمان الحامد غير متصل