مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 19-11-2011, 07:46 AM   #273
أبو سليمان الحامد
كاتب مميّز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2006
البلد: في مكتبتي
المشاركات: 1,537


قال تعالى : {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا , قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا , قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا , فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا , قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا , قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا } .

قوله تعالى : ( فانطلَقَا ) الكلام هنا عن اثنين , فأين فتى موسى ؟
الجواب : أن الفتي بمثابة الخادم لموسى والخادم تَبَعٌ لسيِّدِه , والحديث عن موسى حديث عنه , لأن القصة سيقت لبيان الحوار بين موسى والخضر , فكانت الثنائية حاضرة [ أشار إلى ذلك ابن كثير رحمه الله في تفسيره ]
وقد يكون الفتى لم يذهب معهما , بل بقي بمكانه منتظرا عودتهما ,, والله أعلم .

وقوله انطلَقا : يدل على أنهما لم يبقيا في مكان واحد ليتعلم موسى من الخضر , بل سارا في الأرض ليجري الله على يد الخضر ما أراد لموسى أن يتعلّمَه .
وفيه أن الأنبياء والصالحين لم يكونوا ليستقروا في مكانهم دون أن يخرجوا للناس , فينكروا المنكرات , ويأمروا بالمعروف , ويصلحوا ذات البين .

( خرقها ) أي أحدث فيها خرْقاً .
( لُتغْرِقَ أهْلَها ) اللام هنا للعاقبة , أي أخرقتها فيغرق أهلها , لأن من المعلوم أن السفينة حين يكون فيها خرقٌ في ألواحها , فإن الماء يتخللها داخلاً , فيكون سببا في غرقها .
( إمْرا ) أي أمراً عظيما ومُنكَراً ,, يقال : أَمِرَ إِمراً , ومنه قول أبي سفيان في حديثه مع هرقل في البخاري : " لقد أَمِِرَ أمرُ ابن أبي كبشة " .
وهذا الإنكار من موسى عليه السلام , كان نسياناً بالشرط الذي اتفق عليه مع الخضر , ولكن عِظم المنكر من خلال رؤية موسى له أدى إلى هذا النسيان .
وهذا يدل على أن أنبياء الله تعالى يجري عليهم النسيان والسهو , فما بالك بمن دونهم من البشر ؟
ولهذا بادر الخضر بتذكيره بالشرط : أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ؟
والاستفهام هما استفهام إنكاري شديد اللهجة , فما كان من موسى إلا أن يعتذر بالنسيان , ويطلبَ من الخضر عدم المشقة عليه في ذلك , " قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا " فكأنه قال : لا تضيق عليّ ولا تشدد عليّ في ذلك , فالأمر أعظم من أني أسكت على مثل ذلك .

قد يسأل سائل : أليس الخضر قد أحدث في السفينة خرقاً , فلماذا لم تغرَق ؟
الجواب : أن الخضر قد أحدث فيها خرقا ليكون عيبا لها , فكسر بعض الألواح بالفأس , ثم أغلقه ببعض الزجاج كما تقول بعض الروايات ...
ثم انطلقاً فلقيا الغلام يلعب مع صبية فقتله الخضر قتلا ظاهراً .. والتعبير بالفاء ( فَقَتَلَه ) دليلٌ على سرعة تنفيذ الخضر لهذا الأمر , وأنه لم يمهل الغلام كثيرا للتعرف عليه , لأن الفاء تفيد العطف والتعقيب .
وهنا استحكم الغضب بموسى عليه السلام لهول ما رأى قائلا : " أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا "
فالغلام في نظر موسى ما زال شابا يافعاً زكياً لم يقترف ذنبا , ولم يزهَق نفساً يستحق عليها القصاص , فلماذا يقتل هكذا ؟ إنه لأمر منكَرٌ عظيم .
وقوله ( نُكْرا ) أي شديد الإنكار .
وكلمة ( نُكْراً ) أعظم من كلمة ( إِمْرا ) , لأن الحدث مع الغلام أكثر إيلاماً , فهو قتل ظاهر لا يحتمل التأويل , لنفس صغيرة زكية لم تقترف ذنبا في نظر موسى , وأما خرق السفينة فهو مظنة الهلاك , وليس هو الهلاك بعينه [ ذكره البغوي في تفسيره ]
فقال له الخضر : " أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا "
وهنا أورد كلمة ( لك ) لأنها غير موجودة في المرة الأولى , والسبب : تأكيد الإنكار من الخضر لموسى , لأنه نقضَ العهد مرتين , فكأنه يذكره بأن الشرط ( الصبر ) كان مطروحا عليك وليس على غيرك , فاصبر عليه ولا تعترض .
وهنا جاء الجواب القطعي من موسى عليه السلام الذي يحمل الحزم والصرامة في التعامل مع الأخطاء : " إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا "
فكأن موسى أعطى الخضر قراراً أكيداً بأنه إن اعترض عليه في الثلاثة فإنه لا يستحق أن يصاحِبَه , لأنه أعذرَ إليه في ذلك , ولا حرج عليك أيها الخضر في ترك صحبتي , لأني لا أستحق ذلك لعدم صبري ووفائي بالشرط .
وهذا إنصاف من نبي الله موسى من نفسه , وبيان الحزم والعزم الذي كان عليه ولو كان ذلك على نفسه ( عليه السلام )
وقوله : " قد بلغت من لدنّي عُذرا " : أي أعْذَرتَ فيما بيني وبينك , وبان لك العذرُ في مفارقتي .


__________________

وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ
يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ


[ محمود سامي البارودي ]
أبو سليمان الحامد غير متصل