الفريدة الثامنة : الريح العاصف والريح القاصف , والفرق بينهما .
جاء في لسان العرب :
عصفت الريح تعصِفُ عَصْفاً وعُصُوفاً , وهي ريحٌ عاصفٌ وعاصِفَة ... إذا اشتدت , وفي التنزيل " والعاصفات عصفاً " يعني الرياح , والريح تعصف ما مرت عليه من جَوَلان التراب تمضي به .. وريح عاصفة : شديدة الهبوب ... والمعصِفات : الرياح التي تثير السحاب والورق وعصْف الزرع .. وهي من العصف وهي السرعة يقولون : أعصفت الناقة في السير إذا أسرعت . انتهى من لسان العرب ( عصف ) 9 / 248 .
وجاء في اللسان أيضاً :
القصْف هو الكسر , وقصف الشيء يقصِفه قصفاً أي كسره .
وريحٌ قاصفٌ وقاصفة : شديدة تُكسِّرُ ما مرت به من الشجر وغيره . ( لسان العرب ( قصف ) 9 / 283 .
جاءت الريح في البحر في القرآن الكريم بتعبيرين :
الأول : الريح العاصف وهي قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (22) سورة يونس
فبين سبحانه أن الريح العاصف هنا جاءت شديدة لتحرك السفينة وتسبب لها الاضطراب حتى هلع ركابها والتجؤوا إلى الله تعالى لينجيهم , ولذا جاء بعدها : {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ } (23) سورة يونس
والعاصف هنا هي الريح شديدة السرعة .
وهي تكون في البر والبحر , فأما البحر فكالآية السابقة , وأما البر فكقوله تعالى : {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} (18) سورة إبراهيم
وقد تكون الريح العاصف ريح خير وبركة كقوله تعالى عن ريح سليمان :
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} (81) سورة الأنبياء , والدليل على أنها ريح خير وليست ريح عذاب هو قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ} (36) سورة ص .
الثاني : الريح القاصف , فهي ريح مفاجئة شديدة لا تبقي ولا تذر , وهي تكسر السفن وتكسر كل ما تواجهه , ولذا جاء التعبير القرآني عنها بالهلاك المحتوم {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} (69) سورة الإسراء .
فعبر عن الريح هنا بأنها قاصف مغرقة و هي ريح بحرية .
وقد جاء في لسان العرب كما سبق أنها قد تكون في البر فتقتلع الأشجار .
ولو تأملنا الكلام عن الريح القاصف لوجدنا أنه قال سبحانه : (قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ ) فكانت صفة القصف ليست للريح كلها وإنما لقطعة منها , وكأن القطعة الكبرى هي الريح العاصفة المذكورة في آية يونس ولذا قال سبحانه في سورة يونس : ( جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ )
ولكم أن تتخيلوا أحبتي الكرام حين تهب الريح العاصفة الشديدة في البحر على السفن , فيأذن الله تعالى لقطعة من هذه الريح أن تكون أعنف وأشد وطأة فتأتي بطريقة مفاجئة شديدة فتحدث انقلاباً شديدا للفلك وغرقا هائلاً , وهذه الريح هي القاصفة .
ويدل على أن الريح القاصفة جزء من الريح العاصفة أن القرآن لم يذكر القاصفة إلا مرة واحدة في سورة الإسراء , في حين أنه كرر العاصفة في أكثر من آية , ليدل على أنها هي الريح الأصل , وهي الأم .
قد يقول قائل : كيف تكون الريح قطعاً , فجزء منها عاصف وجزء منها قاصف ؟
فالجواب على ذلك :
أن هذا بأمر الله تعالى , وهو القادر على تنوع الريح , وكما جعل الله تعالى الليل قطعاً فهو قادر على جعل الريح قطعاً وأجزاء كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (27) سورة يونس
ولنلحظ الفرق في النطق بين العاصفة والقاصفة .
فهما متقاربان في اللفظ لا يفرق بينهما إلا الحرف الأول وهو فاء الكلمة .
( عصف ) ( قصف )
وحرف القاف حرف شديد قوي مفخم , ينطلق فيحدث صوتا انفجاريا في الفم , ويخرج الصوت معه أفخم ما كان .
أما العين فهي صوت رخو رقيق وهو مع ذلك صوت مجهور قوي ولكنه ليس بقوة وفخامة القاف , فناسب مجيء الصوت القوي للحدث القوي وهو القصف , ومجي الصوت الأضعف للحدث الأضعف وهو العصف .
وهذا يسمى في لغة العرب : مشابهة اللفظ للمعنى , ولابن جني كلام جميل ولطيف حول هذا الموضوع في كتاب الخصائص : باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني : 2 / 154 .
فليراجعه من أراد الاستفادة .
في ختام كلامي ألخص ما سبق :
1. أن الريح العاصف والريح القاصف يكونان في البر والبحر , وليس كما توهمه كثير من الناس أن العاصف في البر والقاصف في البحر .
2. أن الريح العاصف أوسع وأكبر من الريح القاصف , في حين أن الريح القاصف تكون سريعة ومفاجئة .
3. أن الريح العاصف قد تكون رحمة , أما القاصف فهي لا تكون إلا عذاباً لأنها تحدث غرقا في البحر ودماراً وانكساراً في البر .
والله تعالى أعلم .
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ
يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ
[ محمود سامي البارودي ]