الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله . أما بعد :
فإن الله - تعالى - قد قسم الأرزاق ، وقدَّر المقادير ، وفارق بين الخلق ، فمنهم شقيٌّ وسعيدٌ ، ومنهم ذو الفضل والعلم ، ومنهم من يَنْعَم في جهالتِهِ ، ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ .
والحالُ الأصليةُ بين هؤلاء ، أن يستفيدَ الشقيُّ من عملِ السعيد ، ويستفيدَ الجاهل من علمِ العالم ، فالأولُ يسعى لنفيِ شقاوتِهِ عنهُ ، والثاني يسعى لرفعِ الجهلِ عن نفسِهِ .
ومَنْ سعى لرفعِ الجهلِ عن نفسِهِ إنما هوَ طالبُ العلمِ ، الذي يرجو كلُّ أحدٍ أن يكونَ هوَ ذاك الرجل ، للفضلِ والأجرِ المترتبِ على سبيلِهِ التي هوَ طارِقُها .
وليسَ بِرَافِعٍ طالبُ العلمِ الجهلَ عن نفسِهِ ، إلا بصُحبَةِ أهلِ العلم ، وملازَمَتِهِم ، والأخذِ الحَسَنِ عنهُم . ولا يَتَأَتَّى ذلك إلا باحترامِهِم ، وتوقيرِهِم ، وتبجِيلِهِم .
وفي الأخيرِ ظهرتْ فِئامٌ انتَسَبَت إلى العلمِ الشرعيِّ ، وأخَذَتْ تَتَشَدَّقُ بِهِ صباحَ مساءَ ، وتفتخرُ بِهِ ، وتَتَغَنَّى . وإذا أتيتَ حقيقَتَها وجدتَ أن غايةَ علمِهِم كتاباً قرؤُوهُ ، أو شريطاً سَمِعوهُ ، وكفى .
ثمَّ ليتَ الأمرَ اقتصَرَ على ذلك !!
فإنَّ بعضاً من أولئكَ - رَدَّني اللهُ وإياهُم إلى جادةِ الصواب - اتخذوا آراءً لا يحيدون عنها ، ويَتَمَسَّكون بها ، ولا يَتَزَحزَحُون قيدَ أنمُلةٍ .
ثمَّ ليتَ الأمرَ اقتصَرَ على ذلك !!
فقد بدؤوا بنشر آرائِهِم ، والتمكينِ لِوجهاتِ نَظَرِهِم بين الناس ( وهُم في ذلك مأجورون - إنْ شاءَ اللهُ - ، إذْ نَشَروا علمَهُم لم يكتُمُوهُ ، شَرْطَ أن لا يَتَزَبَّبُوا قبلَ أن يَتَحَصْرَمُوا ) ، لكنَّ الإشكالَ الكبيرَ ، والبليَّةَ والمصيبَةَ ، هي أنَّه صار عندَهُم : ويلاً لِمَنْ يُخالف !
فإنَّ مَنْ خالَفَهُم ( في مسائلِ الاجتهادِ التي تحتَمِلُ الإصابةَ والخطأَ ) ، فذاك هو الفاسقُ ، أو ذو الهَوَى ، أو طالِبُ مَصَالِحِ الدُّنيا ، أو عَدُوُّ الدِّينِ ، أو مُحَارِبُ المُسلِمِينَ ...
وَقَد عَمَّتْ هذه البَلِيَّةُ ، وَطَمَّتْ ، وصرنا - يا للأسفِ - نَرَى نَمَاذِجَ منها واضحةً بيِّنةً .
فيَا ترى .. لِمَ ؟ وكَيْفَ ؟ وما سَبِيلُ الخَلاَصِ ؟
لأجلِ ذا كتبتُ هذه الكلمات .
لمـاذا ؟
أولاً : دعوى النُّصحِ . وهذه دعوى فَضفاضَةٌ ، يتسَتَّرُ خلفَهَا الكُلُّ ، فَمِنْ مُقيمٍ بَيِّنَتَهُ على دعواه ؛ فهو بِهَا مُحِقٌّ ، وَمِنْ آخرين تَبقَى عليهِمُ البَيِّنَةُ ؛ وهم بِدَعواهُم مُبطِلون .
والصِّنفُ الثاني هُمُ المَعنِيُّونَ في موضوعِنا هذا .
وَمَنْ وَقَعَ في هذا السَّبَبِ ، فلا ضَيْرَ مِنْ أنْ يَجمَعَ غَيرَهُ مَعَهُ مِمَّا سَيَأتي .
ثانياً : الجَهْلُ . وهو هنا أقسامٌ :
1- الجهلُ بحقيقَةِ العالِمِ المَطعُونِ فِيهِ . فإنَّ بعضَهُم يُلقي الطُّعُونَ جِزافاً ، ويُشيرُ بأصابِعِ الاتِّهامِ إلى كُلِّ أَحَدٍ ، عَرَفَهُ أم لم يَعرِفْهُ . فإذا خالفَ ذلك العالمُ لَهُ مَنْهَجاً ، أَوْ جاءَ بِرَأيٍ مُعَارِضٍ لِرأيِهِ ، أَتَاكَ النَّيْلُ يَتَوالى ، وهو لا يدري عن ذلكَ العالِمِ وَقَدرِهِ ، وهل يَضُرُّ سَبُّهُ عَلَناً ؟ وهل يُعَطِّلُ مَصلَحَةً الكلامُ فِيهِ ؟ أَيَقْبَلُ هُوَ النُّصحَ سِرّاً ؟ وهل حَصَلَ مِنهُ ما يدعو إلى هذا الطَّعنِ - أصلاً - أو لا ؟!
2- الجهلُ بحقيقَةِ النُّصحِ . وهنا يأتي السَّبَبُ الأَوَّلُ ثانيةً ، فإنَّ النُّصحَ لَهُ فِقهٌ وطريقةٌ ، وسلوكٌ ومنهجٌ ، وليس كُلُّ مُرِيدٍ للنُّصْحِ يَصِحُّ أنْ يَنصَحَ ، وليس كُلُّ مَن نَصَحَ أَصَابَ في نُصْحِهِ .
وَمَنْ أرادَ أن ينصَحَ أَحَداً فَلْيَأخُذْ فِقْهَ النُّصحِ عن العُلَمَاءِ الأَجِلاّءِ الثِّقاتِ المأمُونينَ .
فَمَا هكَذَا النُّصحُ ، يا مُريدَ النُّصحِ .
3- الجهلُ بِمُتَرَتَّبَاتِ هذا الكلام . فإنَّهُ لا يدري عن كلامِهِ هذا ، هل سَيُشْغِلُ العالِمَ عن عِلمِهِ وتَعليمِهِ أو لا ؟ وهل سَيُنَفِّرُ عنهُ أُنَاساً كانُوا يَستَفيدُونَ مِنهُ أو لا ؟ وهل سَيُؤَلِّبُ عَلَيهِ أُنَاساً كانُوا تَارِكِيهِ أو لا ؟!
ثالثاً : الحَسَدُ . فإنَّ بعضَ مَنْ يَتَكَلَّمُ يَتَمَنَّى مَنزِلةَ هذا العالِمِ ، ويَرجُوها أو قُربَهَا ، وَليسَ ذلكَ بِحاصِلٍ لَهُ ، فَيُعمِي الشِّيطَانُ قَلْبهُ ، ويُغَطِّي عَقلَهُ ، ويأمُرَهُ فيُطيعَ، ويُرسِلَ الطَّعنَ والتَّجريحَ إلى ذلكَ العالِمِ ، يَرجُو زَوَال النَّاسِ عَنهُ ، وَشَكَّهُم فِيهِ ، وسُقُوطَهُ مِنْ أعيُنِهِم .
وَأَقبِحْ بهذا السَّبَبِ مِنْ سَبَبٍ !
رابعاً : الحَمِيَّةُ ( حَمِيَّةُ الجَاهِلِيَّةِ ) . فَإنَّ بعضَهُم يَتَتَلمَذُ على شيخٍ لَهُ ، يُحِبُّهُ وَيُجِلُّهُ ، ويُقَدِّرُهُ ويُبَجِّلُهُ ، فيجعَلُ رأيَهُ الرأيَ ، وقَولَهُ القولَ . فإنْ خالَفَهُ مُعاصِرٌ ، أو جاء برأيٍ غيرِ رأيِهِ ، أتاك هذا التلميذُ بقاموسِهِ ، وَنَصبَ نفسَهُ طاعناً في المُخَالِفِ ، فَوَيْلٌ لِمَن خالَفَ شَيخَهُ !
وما أَظُنُّ أَحَداً يَرضى بِهَذا ، حتى شَيخُهُ !
خامساً : قَصدُ الشُّهرةِ . ومَعلومٌ أنَّ المغمُورَ إذا أرادَ الشُّهرَةَ - بغيرِ حَقٍّ - ، سَجَّل اسمَ مشهورٍ - بِحَقٍّ - في قائمَتِهِ السَّوداءِ ، وأَخَذَ يتَكَلَّمُ فِيهِ في كلِّ مجلسٍ . فكذلك هنا .
وقد توجَدُ أسبابٌ أخرى .
كيـف ؟
يُسَطِّرُ صاحِبُنا طُعُونَهُ بأساليبَ عَديدَةٍ ، منها :
1- أسلوبُ الناصحِ المُشفِقِ . فيُظهِرُ نَفسَهُ ناصِحاً شَفِيقاً رَفِيقاً بالعالِمِ الفُلانِيِّ ، ويقولُ : أنت تفعَلُ كذا وكذا ، وهو خطأٌ ، فلا تفعَلْهُ ... ونحو هذه العِباراتِ . فهو بذلِكَ طَعَنَ فِيهِ ، وأبدَى مَسَاوِيهِ ، مُتَسَتِّراً بِدِثارِ النُّصْحِ والإِشفاقِ .
وَقد يَظهَرُ ناصِحاً مُشفِقاً على الناسِ ، فيَأخُذُ في النَّيْلِ مِن ذلك العالِمِ ، تحذيراً لطلبةِ العلم - مثلاً - مِن مَنهَجِهِ - بِزَعمِهِ - .
2- أسلوبُ المهاجِمِ . وهذا يبدُو فِيهِ طَعنُهُ صَريحاً ، فهُو يُظهِرُ التَّجرِيحَ ، ويُشَدِّدُ العبارةَ ، ويُؤَكِّدُ النَّيْلَ .
3- أسلوبُ المُقاوِمِ . وهنا يُظهِرُ نفسَهُ مُدافِعاً عن نَفسِهِ ، وربما عن شَيخِهِ ، أو أَحَدٍ ، فَيأخُذُ في الدِّفاعِ عن صاحِبِهِ ، ويَستَرسِلُ ، إلى أنْ تأخُذَهُ العباراتُ والكَلِماتُ إلى هاويةِ الطَّعنِ والنَّيلِ . يَحسَبُ ذلك دفاعاً ، أو يُحَسِّبُ نفسَهُ ذلك دفاعاً !
سبيـلُ الخَلاَصِ :
أولاً : صدقُ النِّيَّةِ في النَّصِيحَةِ ، والإخلاصُ بِهَا ، وَقَصدُ الخَيرِ والصَّلاحِ . وهذا لا يَكْمُلُ إلا بالثاني التالي :
ثانياً : فقهُ النَّصِيحَةِ ، وفهمُها ، ومعرفةُ أُسلوبِها وطريقَتِها الصحيحةِ السليمةِ ، بِتَلَقِّي ذلكَ عَمَّن ضَبَطَها ، وعرفها حقَّ المعرِفَةِ ، وأجادَ تَطبِيقها .
وهذان السَّبيلانِ هما شرطا قبولِ العَمَلِ في الدِّينِ ، والنَّصِيحَةُ دِينٌ ، بل هي الدِّينُ : «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» .
ثالثاً : تَوقيرُ العُلَماءِ ، وإجلالُهُم ، ومَعرِفةُ قَدرِهِم ، وإنزالُهُم مَنَازِلَهُم . وفي ذلك دُوِّنَتْ كُتُبٌ ، وسُطِّرَتْ أسفارٌ .
رابعاً : فِقهُ نتائِجِ العَمَلِ قبلَ الإقدامِ عَلَيهِ . فَزِنْ كَلِمَتَكَ قبلَ أن يَلفِظَها لسانُكَ ، وادرُسْها ، وَسَلْ نَفسَكَ : كيفَ ستَخرُجُ ؟ وأينَ سَتقَعُ ؟ وكيفَ سَتَصِلُ ؟ وما الذي سَيَتَرَتَّبُ عليها ؟
إنَّ مَن عَلِمَ أنَّ كَلِمَتَهُ التي سَيُخرِجُها ستُؤَدِّي بِهِ إلى المَهالِكِ والرَّزايا ، فأَخرَجَها ، لَهُوَ الجاهِلُ بِعَينِهِ .
خامساً : قبُولُ المُخالِفِ في مَسائلِ الاجتهادِ ، وعدَمُ التَّعنِيفِ عليهِ والتَّشدِيدِ ، وقد علَّمنا نَبِيُّنا صلى الله عليه وسلم أنْ نَقبَلَهُ بقوله : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» .
وراجِع هذهِ المسأَلَةَ في مَظَانِّها .
سادساً : انفِ عن نفسِكَ قَصدَ الشُّهرَةِ ، وَتَواضَعْ للهِ ؛ يَرفَعْكَ اللهُ ، فإنَّ «من سَمَّع سمع الله به ، ومن يراءِ يرائي الله به» .
سابعاً : لا تتكَلَّمْ إلا بدليلٍ ، فاجمعْ أدِلَّتَكَ ، واسبُكْ كَلامَكَ ، ولَطِّفْ عِبارَتَكَ ، كي تَصِلَ إلى مقصودِها بسَلامٍ آمِنةً .
تنبيه هام : لستُ بذلك أُعَمِّمُ الحُكمَ ، ولا أدخُلُ في النِّياتِ ، فلْيُعلَمْ .
خَلَّصَنا الله من الطعنِ والقدحِ والتشهيرِ بأهل السنةِ . آمين .
تَمَّ المقصُودُ ، وهو ناقِصٌ كنقصِ الإنسانِ ، فما كان فيه من صوابٍ فمِنَ اللهِ ، وهو بتوفيقِهِ وفضلِهِ ومَنِّهِ ، وما كانَ فيهِ من خَطَإٍ وخلَلٍ وزلَلٍ وخَطَلٍ فمني والشيطان . وأستغفر الله .
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
النادم
ليلة 28 رمضان
1426