القسم الثالث
طليعة التنكيل
سابعاً : إنكار الجهاد والبراءة منه :
إن الذي يقرأ هذا البيان الممسوخ من أوله إلى آخره يخرج بنتيجة واضحة مؤداها إلى أن الإسلام ليس فيه جهاد في سبيل الله ، ولا قتال للكفار حتى يكون الدين كله لله ، كما تقرأ في كلامهم إنكار (الصراع) أو (الصدام) أو (الإرهاب) و (التطاحن) ، كما تقرأ في طياته لمزاً للمجاهدين في مواضع والبراءة منهم .
و قد زادوا البلاء حينما نسبوا هذه (الانهزامية) إلى الشريعة حيث قالوا : (وليس من شريعتنا أن نلزم الآخرين بمفاهيمنا الخاصة، هذا هو خيارنا الشرعي) ، وقد كذبوا في ذلك على الله وعلى الشريعة ، فالله سبحانه يقول (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) ، ويقول (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ...) ، وقوله تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ، وغيرها من آيات السيف الكثيرة ، وهي من آخر ما نزل من القرآن ، وكما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ) ، وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث بريدة في الصحيح (اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله) ، وغيرها من الأحاديث ، كما أن سيرة الصحابة ترد هذا القول ، وعليه إجماع المسلمين ، قال الشوكاني رحمه الله [1]:
"أما غزو الكفار ، ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام ، أو تسليم الجزية ، أو القتل ، فهو معلوم من الضرورة الدينية ، ولأجله بعث الله رسله ، وأنزل كتبه ، وما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ بعثه الله سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلاً لهذا الأمر من أعظم مقاصده ، ومن أهم شئونه ، وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام ، ولا لبعضها ، وما ورد في موادعتهم أو تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ بإجماع المسلمين".
وإنما ذكر هؤلاء المثقفون الجهاد فيما يشترك فيه جميع البشر مع الحيوانات أيضاً وهو الدفع للمعتدي حيث قالوا : (لكن حينما يفضل طرف أن يصنع الصراع مع المسلمين, أو يتجاهل حقوقهم ؛ فإن الإسلام يقابل ذلك بالمقاومة والمدافعة التي هي أحد مقاصد الجهاد) .
والكلام في الجهاد على قسمين ، فقهي ، وعقدي :
أما القسم الأول :
وهو الفقهي ، فأعني به حكمه ، وهل هو فرض عين ، أو كفاية ، وهل المسلمون يستطيعون الجهاد ، أو ينتقلون إلى البديل وهو الإعداد لضعفهم ، ونحو هذا ، فهذه مسألة عملية فقهية تكليفية قد تختلف فيها الاجتهادات ، والأمر فيها قد يكون متسعاً.
وأما القسم الثاني :
وهو العقدي ، وهو اعتقاد مشروعيته ، فهذا أمر قطعي ، ضروري ، ثبت بالتواتر في القرآن والسنة ، وعليه أجمع العلماء ، فإنكاره ، أو البراءة منه ، كفر وردة .
ففرق بين من يترك ذكر الجهاد مطلقاً في حواره مع الكفار لمصلحة معينة، أو يبين أن الجهاد لا يمكن في هذا الوقت للضعف .
وبين من ينكر الجهاد أصلاً ، وينسب هذا للشرع ، ويقرر مراراً إنكاره لـ(التصادم) و (الصراع) و (التطاحن) ، والسعي لـ(التعايش) مع الكفار ، وأنه ليس من (شريعته) إلزام الغير بمفاهيمه ، وأن أساس التعامل مع الكفار (البر والإقساط) ، وأن الأصل في (الدماء والعدل ) المساواة بين المسلمين وغيرهم ، ونحو هذا ؛ فهذا إنكار لقطعيات الدين وضرورياته .
ثامناً : لغة الاستجداء والذلة والمهانة :
سبق أن ذكرت في المقارنة بين بيان الأمريكيين ، وبيان المثقفين ، الفرق بين الفريقين في (اللغة) التي يخاطبون بها الناس ، وأن لغة المثقفين قائمة على (الانهزامية) و (التخاذل) ، و(الاستجداء) ، ولكني سأنقل عبارات فيما يلي ، وأظن - والله تعالى أعلم - أن أبا جهل (فرعون هذه الأمة) ، لا يرضى أن تنسب إليه لما فيها من ذلة ، فمن ذلك قولهم:
1- (و تعاليم الإسلام تصف النصارى بأنهم أقرب للمسلمين من غيرهم ...)الخ كلامهم وتملقهم للصليبيين في الوقت الذي يصبون فيه العذاب صباً على كثير من المسلمين !!.
2- (ونحن المسلمين ننظر إلى إشكالية العلاقة بين الدين والدولة نظرة أخرى تختلف عن هذا التصور، وتصورنا يحمي إرادة الأكثرية، ويحفظ حقوقها، ويحمي كذلك حقوق الأقلية ...) ثم ردوا على طلب المثقفين الأمريكيين بفرض العلمنة ، بأن الأكثرية مسلمون ، فقالوا (و نرى أنه لا يمكن تطبيقه في المجتمع المسلم لأنه يحرم أفراده من حقهم في تطبيق أحكام حياتهم العامة ويتعدّى على إرادتهم بحجة حماية الأقلية ولا يصح عقلاً أن نحمي حقوق الأقلية بحرمان الأكثرية من حقوقها) ، فالمثقفون يقولون : لماذا تظلمون يا (أمريكا) الأكثرية بفرض العلمانية (يا حرام!!) .
3-( إن المسلمين من حقهم أن يكونوا متمسكين بدينهم وقيمه وتعليماته ، هذا خيار من الصعب محاولة تعويقه ؛ لكننا نقدم المفهوم الوسطي المعتدل) .
4-( وسيجد العالم الغربي فيه فرقاً كبيراً عن المفاهيم والتصورات التي يحملها عن الإسلام، هذا إذا كان جاداً في الاعتراف بنا وبديننا ومقدراتنا) .
5- (حين نؤمن أن العالم يواجه مشكلة الإرهاب والتطرف بالمفهوم الشامل الذي ذكرناه, فكذلك ينبغي أن نقدر أن ثمة مجموعة من المشاكل يواجهها العالم في: الحقوق، والحريات، والأوليات الإنسانية (التعليمية، والصحية، والغذائية، والأخلاقية) يفترض أن تحظى باهتمامنا) فهذه المشاكل والأولويات ، ولا مكان للإيمان بالله ورسوله !!! .
6- (إننا ندعو إلى انفتاح جاد من الغرب على الإسلام، وقراءة مشاريعه، والتعامل بهدوء مع الواقع الإسلامي ) .
7- (ولئن كان الغرب يعتبر أحداث الحادي عشر من سبتمبر تتجه لزعزعة الأمن المدني في الغرب فمن الممكن أن نشاركه الشعور وحتى الموقف في رفض ضرب الأمن المدني في العالم) .
8- (ولذا فإن إيجاد مساحة أوسع للحوار، وتبادل الرأي يلتقي فيها أهل الفكر والعلم والثقافة هي – من وجهة نظرنا – البديل للغة العنف والتدمير) .
وأنا أقول لهؤلاء الذين استكانوا وذلوا للكفار رجاء أن ينظروهم (بعين الرحمة) ، أنا أخبركم بنتيجة هذا الخطاب مقدماً :
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم )
(ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) .
(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسداً من عند أنفسكم).
فيا ضيعة التوحيد ، والعلم ، والدعوة ، والابتلاء ، والله المستعان .
خاتمة الطليعة
وأختم هذه الطليعة ببعض التنبيهات :
أولاً : أن عمدة شبهة أصحاب هذا البيان الممسوخ هو قولهم :
إن المسلمين في (ضعف) ونريد أن نكسب هؤلاء ، أو على الأقل (نحيدهم) فنكف شرورهم ، والإجابة على هذه الشبهة[2] وما ماثلها يطول إلا أنني أختصر الجواب بذكر قاعدة تعينك أخي الموحد على نسف شبههم كلها ، وهي كما يلي :
أن تعلم أن أصل الدين وقاعدته الإيمان بالله سبحانه والكفر بالطاغوت ومنه البراءة من الكفر وأهله ومعاداتهم وبغضهم ، فلا يصح الإيمان بالله إلا مع الكفر بالطاغوت ، وهذا معنى الشهادة ، وعليه قوله تعالى (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) ، وقوله تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) ، فإذا علمت أن هذا أصل من أصول التوحيد وركن من أركانه فتركه والتخلي عنه لا يحوز إلا في حالة الإكراه . وفي حالة الضعف فإن المسلم قد يجوز له التخلي عن الجهاد ، ولكن لا يجوز له بحال ترك الكفر بالطاغوت :
فقد قال تعالى عن إبراهيم (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إننا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) ، هذا وإبراهيم عليه السلام كان في (ضعف) و (قلة من الأنصار) حتى ألقوه في النار ، ومع هذا صدع بالكفر بالطاغوت والبراءة منهم ، وانظر إلى قوله (وبدا) يعني (ظهر ، و بان) ، وقوله (العداوة والبغضاء) فقدم العداوة على البغضاء لأن ذلك آكد ؛ فإن الرجل قد يقول : أنا أبغضهم ، ولكنه في الحقيقة لا يعاديهم ، وقوله (أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) فجعل هذه العداوة و البغضاء أبدية لا تنتهي إلا بـ(الإيمان بالله) وحده .
ولم يدع قومه إلى (حوار) في سبيل (التعايش) ينطلق من (الأهداف المشتركة) ؛ فإنهم من بني آدم ! ، وكلهم من أمة واحدة ! ، وقد قال تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) .
وفي مكة :
كان النبي صلى الله عليه وسلم في (ضعف) و (قلة من الأنصار) و (الأعوان) تحت تسلط (كفار قريش) وفي بلدهم ، ومع ذلك نزل قوله تعالى (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) وقد قيل إن عدد الصحابة لما نزلت – في السنة الثالثة للبعثة – لا يزيد على الأربعين ، ثم إن المسلمين لاقوا صنوفاً من العذاب والأذى :
فمنهم من قتل كآل ياسر ، ومنهم من عذب كبلال وخباب ، ومنهم أخرج وهاجر كمهاجرة الحبشة ، ومنهم من حوصر كالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في (شعب أبي طالب) .
فهم مستضعفون ، قلة ، بين يدي عدو كافر لا يرحم ، منهم من مات وقتل ، ومنهم من ارتد عن دينه بسبب ما يلقاه ، ومنهم من عُذِب عذاباً شديداً ، ومنهم من خرج وهاجر ، وكأني بأحد (الانهزاميين) لو كان معهم لقال : لا بد من (بعد النظر) و (سعة الأفق) و (الواقعية) و (العقلانية) ، فلا بد من (دعوة جادة) لجميع (المفكرين الأحرار من كفار مكة) لـ(الحوار) من أجل التعايش ، ولا بد من كتابة بيان لا يفهمه إلا المثقفون من (كفار مكة) لعقد حوار مثمر ، بناء على الأهداف المشتركة فيما فيه صالح (قريش) و (مكة) و (البشرية) .
ولكن هيهات ، هيهات : فقد نزل قوله تعالى ( فلا تطع المكذبين ، ودوا لو تدهن فيدهنون) يعني : لو صانعتهم ولاينتهم ، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب بياناً فيه أقل من عُشْر ما في هذا البيان من مهانة وذلة – وحاشاه – لجعلوه أميراً عليهم ، ولكن هذه عقيدة الإسلام ، وملة إبراهيم عليه السلام ، وأصل التوحيد .
واعلم أنه لولا أصل (الكفر بالطاغوت) و (البراءة من الكفر وأهله) ما حصل على الرسل ولا لأتباعهم ما حصل من القتل والتشريد والابتلاء ، فإن مجرد إقامة الشعائر والعبادات لا يجعل الكفار يعادونهم هذا العداء ، أفلم يكن لديهم (بعد نظر) كما عند هؤلاء فيكسبونهم بالمداهنة ، أو على الأقل يحيدونهم؟!! تعالى الله سبحانه وتعالى .
وهناك فرق بين ترك الجهاد عند الضعف ، وبين ترك (عقيدة الولاء والبراء) ، فالأول مسألة عملية فقهية – مع الإقرار بمشروعية الجهاد – تخضع لاجتهاد ذوي النظر ، أما المسألة الثانية فمسألة عقدية ، فهي ركن من أركان التوحيد ، وأصل من أصول الدين وقواعده .
ثانياً : أن الله سبحانه قد قال (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) ، ألم يسمعوا بهذه الآية ، فما لهؤلاء القوم لا يفقهون حديثاً ؟!!.
ثالثاً : أن الموقعين على هذا (البيان الممسوخ) لا للكفر كسروا ، ولا للإسلام نصروا ؛ بل على العكس ، سيتضرر منه المسلمون ، وسينتفع به الكفار .
أما انتفاع الكفار به : فإن أعداء الله من كفار أمريكا وغيرها يعلمون دين الإسلام جيداً ، ويعلمون عقيدة الولاء والبراء فيه ، وأصل شريعة الجهاد في سبيل الله ، فلن يغرهم هذا البيان وهم الذين يعرفون القرآن وآياته ، ولديهم مراكز دراسات متخصصة في هذا الباب ، ولكنهم سينتفعون به من جهة جعله أداة لضرب (المجاهدين) في شتى بقاع العالم : (بفتوى مشايخكم ودعاتكم) الذين أقرونا على الإرهاب الاصطلاحي ، و أنكروا الصدام والصراع ، ودعونا إلى التعايش !!، وسيجعلونها أداة لمسخ تعاليم المسلمين التي تؤصل (الولاء والبراء) .
وأما مضرته على المسلمين فكونه سيمسخ البقية الباقية من عقيدة المسلمين في (الولاء والبراء) و (الجهاد في سبيل الله) .
رابعاً : أن الجهاد في سبيل الله – الذي استحى المثقفون منه – ما شرعه الله إلا رحمة للعالمين ، فإن نجاة الأمم بسببه ، فلم ينتشر الإسلام من الأندلس غرباً وحتى الصين شرقاً خلال قرن من الزمان إلا بالجهاد في سبيل الله ، فبالجهاد حرّر المسلمون الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، وفي هذا سعادتهم في الدنيا والآخرة .
وأخيراً :
فهذه (الطليعة) التي بين يديك إنما تخبرك ببعض ما في هذا البيان من مزالق عقدية خطيرة ، وتفصيلها سيكون في (التنكيل) إن شاء الله ، يسر الله سبحانه إتمامه .
|