قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*} (77) سورة الحـج
وقفت مليا عند هذه الآية فوجدتها من أعظم الآيات حديثاً عن الصلاة , ذلكم الركن العظيم من أركان الإسلام , وبيان ذلك أن الصلاة ذُكِرَتْ في الآية أربع مرات , مرتين خصوصاً , ومرتين عموماً :
فالخصوص : هو قوله سبحانه : " اركعوا " , " واسجدوا " , فهذان الركنان العظيمان من أركان الصلاة , الركوع والسجود , جاء الأمر بهما صريحا واضحا لا لبسَ , وقد عبر بالجزء وأراد الكل , فالركوع والسجود جزءان من الصلاة والمراد كلها , ولكن هذين الجزأين أعظم أجزاء الصلاة وأظهرها , ولذلك يجيء التعبير كثيرا عن الصلاة بهذين الركنين " { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (125) سورة البقرة , {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (43) سورة آل عمران , {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ } (112) سورة التوبة , {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } (29) سورة الفتح .
وقد يعبر عن الصلاة بأحدهما كما قال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (48) سورة المرسلات , والمراد الصلاة .
وقال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا*} (60) سورة الفرقان .
وبدأ بالركوع ؛ لأنه قبل السجود في الصلاة , وهو أعظم من السجود , لأنه موضع تعظيم لله تعالى , والسجود موضع ذلة وصغار لله تعالى , ولأن الركعة الواحدة في مقابل سجدتين , ولأن الركعة تُدْرَكُ بالرُّكوع , ولا تُدْرَك بالسُّجُود .
وقد جاء الركوع في القرآن بمعنى السجود في قوله تعالى : " وظن داوُود أنما فتناه فاستغفر ربه وخرّ راكعا وأناب " سورة ص .
أما الأمران العامّان فهما : " واعبدوا ربكم " " وافعلوا الخير " .
فالأول : العبادة , ولا شك أن أعظم أنواع العبادة هي الصلاة .
والثاني : فعل الخير , ولا شك أن أعظم أفعال الخير هي الصلاة .
فالصلاة إذن جاءت في الآية خصوصا ثم عموماً .
وما النتيجة ؟
النتيجة " لعلكم تفلحون "
إنه الفلاح العظيم الدائم , فمن حافظ على هذه الأوامر الأربعة , وخص عبادة الصلاة بالعناية فهو أهل للفلاح في الدنيا والآخرة , ولا يفعل ذلك إلا المؤمنون الصادقون , ولهذا بُدئت الآية الكريمة بنداء الإيمان " يا أيها الذين آمنوا " .
فانظروا – رحمكم الله تعالى - كيف ارتبط الإيمان بالصلاة , وارتبطت الصلاة بالإيمان رباطا وثيقا لا حياد عنه .
ولهذا قال تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) سورة المؤمنون , فذكر أول وصف لهؤلاء المؤمنين فقال : {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) سورة المؤمنون , وذكر آخر وصف لهم بقوله : {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (9) سورة المؤمنون .
فالمؤمنون على تعدد صفاتهم إلا أن أبرز صفة لهم هي الصلاة ( خشوعا وحفاظا ) , ولهذا كان الحفاظ على الصلاة , والقيام بها حق قيام أعظمُ نجاة من ضد الإيمان , وهو النفاق , لأن المنافقين قصّروا في جانب الصلاة {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } (142) سورة النساء
والصلاة فرق بين المرء والشرك والكفر كما جاء بذلك الحديث الشريف .
والحديث عن الصلاة طويل , ولكني أردت بيان عمق المعنى الدلالي في هذه الآية من سورة الحج , وعلاقتها بالصلاة .
ولذلك شرع بعدها سجود التلاوة , وهو صورة من صور الصلاة .
فلنتأمل كتاب ربنا لعلنا أن نكون من المفلحين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أخوكم : علي الحامد
19/8/1433 هـ
__________________
وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الفتَى وهْوَ عاقِلٌ ,,, يُطِيعُ الهَوَى فِيما يُنافِيه رُشْدُهُ
يَفِرُّ منَ السُّلوان وهْوَ يُرِيْحُـهُ ,,, ويأوِي إلى الأشْجانِ وهي تَكُدُّهُ
[ محمود سامي البارودي ]