(( 2 ))
وقد أخرجتْ الأحداثُ الأخيرة بعضَ خبايا النفوس، من رأيٍ فاسد في قلب قليل الجرأة، أو حقدٍ دفين في صدر لئيم .. !
فللبعض رأيٌ سقيم في علماءِ الدين، انفلت به لسانُه في لحظة جيشانٍ عاطفي.
ولمن هم أشبه بالمنافقين أهواء وأمنيات باحوا ببعضٍ منها لما رأوا أن الفرصة قد سنحت.
ولذا فإننا نلاحظ مواقفَ مختلفة للناس – لاختلاف أهوائهم - تجاه أحداث التفجير الأخيرة في أرضِ الحرمين الشريفين – حرسها الله من كيد الكائدين - فلكل قوم تفسير خاصٌّ للأسباب، ورأي في العلاج.
ومن الأطروحات المخالفة في تشخيص المرض، وعلاجه ما يلي :
1- رأي يقول: إنَّ من أسباب ما حدث من إرهاب هو أن العلماء يعيشون في أبراج عاجيَّة، والعلاج هو : أن ينزلوا من تلك الأبراج ..!
وهذه الدعوى قال بها أحد المذيعين في برنامجٍ عن (الإرهاب)، وليس عجيبا أن تصدر تلك الدعوى عن مثله؛ لجهله الظاهر، وبعده عن مجالس أهل العلم. لكن العجيب أن تصدر مثل تلك القالة عمن ينتسب للعلم والدعوة ! فوا أسفا على العلم والدعوة !!
وردي على من ينعي على العلماء بعدهم عن الشباب، أو تقصيرهم في علاج التطرف، وغفلتهم عن قضايا الأمة المصيرية : «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر».
فهذه مجالس العلماء مسجلة على الأشرطة ومدونة في الكتب، شرحوا فيها الإسلام، وبينوا سبيل المؤمنين، ومنهج الاعتدال في الدين، وحذّروا من التطرّف وأشكاله، ووضّحوا العلاج الصحيح للغلو والإرهاب والانحرافات بأنواعها، وأخرجوا – في ذلك - الفتاوى والبيانات، وألقوا الدروس والمحاضرات، وتنقلوا بين القرى والمحافظات، وفتحوا مجالسهم للسائلين، وتحملوا أذى الناس، ومخاصمات الشباب، وكتبوا الكتبَ والرسائل والمقالات، وشجعوا القادرين على تأليفها وقرضوا لهم ..
ومع كلِّ ما بذلوه ودعوا إليه يقال عنهم وبكل صفاقة وجه : «يعشون في أبراج عاجيَّة» .. «انغمسوا في جزئيات أخذت عليهم حياتَهم، وتركوا قضايا الأمة الكبرى» .. «علماء حيض ونفاس» .. إلى آخر الأحكام الجائرة ..
والمتأمل في تلك الأحكام يعرف دوافعها؛ فمنهج العلماء الربانيين في علاج قضايا العصر قائم على ما شرعه الله عزَّ وجل، أما المخالفون فلهم أراء أخرى مبنية على (الجهل المركب)، والأهواء الشخصية أو الحزبيَّة، ولذا؛ فالعلماء لم يعملوا شيئا – في نظر المخالفين -؛ لأنَّ أقوال العلماء خالفت أراء المخالفين .
وقد سُئِل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله – عمَّن يقع في أعراض العلماء فقال: «لا يقع في أعراض العلماء المستقيمين على الحق إلا أحد ثلاثة: إما منافق معلوم النفاق، وإما فاسق يبغض العلماء؛ لأنهم يمنهونه من الفسق، وإما حزبي ضال يبغض العلماء؛ لأنهم لا يوافقونه على حزبيَّته وأفكاره المنحرفة». [حوار مع عالم، جمع وترتيب: عمر العمر: صفحة: 44، حاشية رقم: (1)].
2- وآخر: من الأسباب (أحادية الرأي، ونبذ الآخر)، والعلاج : أن نفسح المجال للتعدّدية، ونحاور الآخر من دون أن ننابذه أو نقمعه.
قلتُ: القائلون بهذا القول درجات، فمنهم من يعني بالآخر : (كفار أمريكا وغير أمريكا)! ومنهم من يقصد أصحاب (الفكر التنويري)، أو أهل البدع والضلالات.
وفي جريدة القبس الكويتية، ردَّ الدكتور حمد بن إبراهيم العثمان – وفقه الله – على تلك الدعوى، فكان مما قال : «توصيف الخلل هو بداية الحل، وإلا فإن الجهود كلها ستفرغ من حقيقتها. والتوصيف الذي تذكره مؤسسات الدولة الدينية هو أن الخلل في التزام رأي واحد، والبعض يلقي المسؤولية على أهل السنة أو السلفيين، إما تصريحا أو تعريضا.
كما أن التوصيف الخاطئ استتبعه علاج خاطئ، وذلك من خلال توظيف مؤسسات الدولة الدينية لنشر الفكر الخرافي ودعوة رموز هذا الفكر إلى البلاد. علماء أهل السنة في الجزيرة وهم سلفيون اعتقادا ومنهجا، ما كانوا يوما ما دعاة تطرف، فالعلامة عبد العزيز بن باز في المملكة وهو إمام المسلمين، وعلامة الكويت محمد بن سليمان الجراح، نموذجان للمنهج السلفي، والإسلام الفطري، وهما من دعاة القول الواحد فيما لا يحتمله إلا قول واحد.
فمسائل العقيدة والإيمان بأصول الدين للأمور الخبرية الثابتة كأسماء الله وصفاته والإيمان بالملائكة وغيرها من مسائل الدين، لا يمكننا أن نقول فيها بأكثر من قول، فالملائكة مثلا خلقها الله من نور، فلا يمكن أن نقول إن الله خلقها من طين، أو نقول إن التعدد في هذه المسألة جائز.
وأهل السنة فيما يجوز فيه التعدد والتوسعة يقولون بذلك ولا يضيقون، فمن جهر بالبسملة ومن أسر، فالأمر واسع، وكذلك رفع اليدين في تكبيرات الجنازة بعد التكبيرة الأولى، فمن رفع فلا حرج عليه، ومن لم يرفع فلا حرج أيضا، دعاة التعدد استصحبوا هذا الأصل حتى في أخطر المسائل التي لا تحتمل التعدد ..»
ثم قال :
«وقبل أن اختم مقالي لعلي أصحح العبارة المشهورة لدى العامة «الخلاف لا يفسد للود قضية»، فهذا بعيد إعماله في كل خلاف، فكيف أود من يكفرني ويستبيح دمي ومالي وعرضي؟
والصواب أن يقال كما قال ابن السيد البطليوسي «إن اختلاف الناس في الحق، لا يوجب اختلاف الحق في نفسه».
والله أعلم» اهـ.
|