لماذا ننتقدهم؟
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ
في دولة (المجتمع المدني) لا يمكن أن تكون قياساتنا على (ما كان) فحسب، وقول فلان، ورأي آخر. المصلحة تتطلب منا أن نراعي الظروف الموضوعية التي تمليها مصالحنا الحالية والمستقبلية كسعوديين، انطلاقاً من القاعدة الشرعية التي تقول: (أينما تكون المصلحة فثم شرع الله). وأهم هذه المصالح أن ندرك أن (النقد) هو جزء رئيس في مسيرة التقييم والتنمية والإصلاح بغرض التطوير ومواكبة العالم المتحضر. وطالما أن الفتوى الشرعية هي اللبنة الأساسية التي يقوم عليها الشأن العام في هذه البلاد، فلا بد من الحوار حولها ونقاشها. والذين يرفضون نقدها، ويرفضون تقييم الفتاوى السابقة التي عرفها تاريخنا، تحت أي حجة، هم في الواقع يتحدثون خارج ثقافة عصرنا، حيث (النقد) أهم آليات الإصلاح، إضافة إلى أن حجج هؤلاء هي في الغالب حجج (عاطفية) وليست البتة عقلانية، إذ يعتبرون الحديث عنها، وإبراز أخطائها، ومحاولة الاستفادة منها كي لا نكرر الخطأ، تعريضاً بالأشخاص، أو (لومهم)، أو تقليلاً من قيمتهم، وهم - ربما - (يفزعون) لهم من هذا المنطلق تحديداً، وهذا عين الخطأ.
وكنت في مقال سابق قد تعرضت بالنقد لبعض الفتاوى أو الآراء الفقهية التي عرفها تاريخنا، ومع الزمن اتضح للجميع أنها كانت مجرد (اجتهادات) خاطئة.. وقد قوبل مقالي هذا بالكثير من الاحتجاجات من قبل القراء، كما جاء في صفحة (عزيزتي الجزيرة)، وأريد في هذا المقال أن أوضح موقفي، والسبب الذي دعاني إلى أن أورد هذه الأمثلة.
بدءاً أود أن أؤكد هنا أنني عندما أتحدث عن هذه الفتاوى لا يعني البتة أنني أحمّل من أصدروها (كأشخاص) المسؤولية كاملة، وإنما جزء من المسؤولية، فالذين أصدروها هم في نهاية الأمر مجتهدون، وليس لدي أدنى شك أنهم يملكون آلية الاجتهاد من الناحية النظرية، غير أنهم - أيضاً - نتاج طبيعي لثقافة عصرهم، وليس لثقافة عصرنا، وهذا بيت القصيد.. فالذي يحرّم الأكل بالشوكة والسكين، أو التصوير، أو الراديو، أو التلفزيون، اتضح الآن أن تحريمهم لتلك الممارسات القادمة إلينا من الخارج ناتج عن طبيعة ثقافتهم، وثقافة عصرهم، ورؤيتهم للحلال والحرام التي لا يمكن فصلها إطلاقاً عن الدوافع الموضوعية التي أخرجت هذه الاجتهادات آنذاك.. ومن أجل أن نتفهمها، وندرك أسبابها، يجب أن نقرأ طبيعة وثقافة المرحلة الزمنية التي أفرزتها.
واستناداً على ما تقدم، وامتداداً له، فإنني أرى أن كثيراً من علمائنا (الآن) لا يكترثون بمعطيات وثقافة العصر الذي يعيشون فيه، وكأنهم ينتمون إلى زمان غير زمانهم، وثقافة غير ثقافتهم، وظروف غير ظروفنا التي تحكم حياتنا ومصالحنا. وهم بذلك يكررون نفس أخطاء أسلافهم.. وإلا ماذا تسمي تحريم عالم مشهور ومعاصر (للبرنيطة أم رفرف) مثلاً؟، أو أن يعتلي المنبر واعظ شاب لم يتجاوز عمره منتصف الثلاثينيات، ويحمل شهادة في العلوم الشرعية كما يقولون، ويدعو للاستعاضة عن إتاحة الفرصة للمرأة لكي (تعمل) بأن تمنحها الحكومة (أعطية) أو (مكافأة)، وتبقى في بيتها!.. معنى ذلك أن هذا الواعظ (جاهل) بطبيعة مجتمعنا الذي نعيش فيه، حيث إن فلسفة (العمل) اليوم ليست فقط لمجرد امتصاص (الفاقة والحاجة) كما يتصور، وإنما هي عقد بين طرفين، من خلاله تتحول المجتمعات من وضع (المستهلك) إلى وضع (المنتج)، وهذا ما تقوم عليه من حيث المنطلق فلسفة (التنمية) الاقتصادية التي هي هم قيادتنا وشغلها الشاغل. وتصبح الفتوى، وبالذات عند الحزبيين، أكثر خطورة عندما يتحول مفهوم (الجهاد) من كونه معنى متعدد الوجوه للكثير من الأعمال الخيرية، إلى قصره (فقط) على (القتال)، أو (الجهاد السياسي) على وجه التحديد، كما هي بعض فتاوى مشايخ الحزبيين الصحويين التي تتحدث عن مفهوم الجهاد، وهذه - بالمناسبة - أهم مرتكزات التنظيمات (الصحوية الحزبية) كما تقول خطاباتهم على تنوعها التي هي - رغم هذا التنوع - منتج فكري ابتليت به بلادنا بعد أن دلف إلى واقعنا المحلي فكر (الإخوان المسلمون)، الذين يعتبرون - مثلاً - أن مفهوم (الطاعة) السياسية في الإسلام يشترك فيه (العلماء) والأمراء، وطبقوه على أرض الواقع عندما قام (أسلافهم) في مصر، ولأول مرة في تاريخ الإسلام، لعقد (البيعة) للمرشد العام (للتنظيم) على (المصحف والمسدس) كما يقول تاريخهم المنشور والمعلن، متجاوزين حقيقة أن (البيعة) التي يترتب عليها مفهوم (الطاعة السياسية) عملياً في الإسلام، هي (فقط) لصاحب السلطة السياسية، ولم يعرف التاريخ الإسلامي أبداً أن عالماً من العلماء أو فقيهاً من الفقهاء قد طلب (البيعة) لنفسه قبل أن (يبتدعها) الإخوان.. أما الصحويون، وانطلاقاً من (تدليس) الإخوان، فهم يطالبون دون أن يعوا بطاعة (الفقيه) أو (العالم)، إضافة إلى طاعة صاحب (البيعة) الذي يقف على قدم المساواة في خطابهم مع من يشغل قمة الهرم السياسي في الدولة، فيتبعهم بعض (البلهاء) خارج تنظيمهم عن جهل وحماس، دون أن يعوا طبيعة المأزق الذي يضعون أنفسهم فيه. والسؤال: هل نسكت عن هذه الطامة مثلاً، أم الواجب نقدها؟
لذلك، وأمام هذه المبررات، لا بد لأي ناقد أو كاتب موضوعي يتحدث في الشأن العام، من أن يستعرض هذه الفتاوى، ليس بغرض لوم أصحابها، أو التعريض بهم، أو التقليل من علمهم، وإنما لتكون (حجة) موضوعية تدعم أقواله، وتوضح المرامي والأهداف التي يسعى للوصول إليها، خصوصاً وهو يرى أن أخطاء الأمس تتكرر، الأمر الذي يجعل قراءة ما جرى (بالأمس)، ضرورة علمية كي لا نقع في نفس الأخطاء (اليوم)، فضلاً عن أننا مأمورون باتباع سنة محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام، وليس باتباع (عالم) معين، مهما بلغ فضله وعلت منزلته، فكلنا خطاؤون. ومع كل ما تقدم يبقى النقد، أي نقد، وجهة نظر شخصية بحتة، تحتمل الصواب في ظن كاتبها، وقد تحتمل الخطأ في نظر بعض قارئيها. هذا كل ما هنالك أيها السادة.
http://www.suhuf.net.sa/2006jaz/may/28/ar3.htm
رابط (الرد) :
http://www.suhuf.net.sa/2006jaz/may/28/rv1.htm