مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 15-09-2006, 04:36 PM   #65
كرمع
كاتب متميّز
 
صورة كرمع الرمزية
 
تاريخ التسجيل: Jan 2004
البلد: بريدة
المشاركات: 541

( 7)


قبل الرحيل









في غرفة متطرفة من المسجد الجامع الذي يؤمه عبدالرحمن ابن الكفيل كنت أرتب الأغراض في سكني الجديد ..


عملي الآن هو حراسة المسجد وتنظيفه وترتيب الفرش ومتابعة دورة المياه - أكرمكم الله - وإطفاء الأنوار ..


الأرض بكل مافيها لاتسع فرحتي وأنا أحرك المكنسة الكهربائية داخل المسجد وهي تنوح بصوت مستقيم ..


لاتزال عالقة في ذاكرتي منذ كنت طالبا صغيرا في مدرسة قريتنا قرب كيرلا صورة أستاذنا الشيخ بوجهه الأسمر المبتسم وهو يكور حول رأسه عمامة بيضاء كبيرة متناسقة ولحيته البيضاء المسترسلة وهو يحثنا على تنظيف المسجد ويذكر لنا أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على وقت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لما افتقدها سأل عنها فأخبروه أنها ماتت ودفنوها فذهب عليه الصلاة والسلام إلى قبرها وصلى عليها ..


الآن .. جمع الله لي الدين والدنيا ..


يؤسفني كثيرا حال أولئك المصلين الذين لايبالون بنظافة المسجد أو دورات المياه .. كثيرا ماكنت أعثر على بقايا قشور لحبوب أو أعواد لمناقيش أسنان تحت الفرش !

وأتأثر كثيرا حينما أشاهد خربشات كثيرة على جدران دورات المياه تشتمل على رسومات فاضحة ..


كثير من السعوديين لايجلسون في المسجد أكثر من ثلاث دقائق فقط .. يأتون متأخرين .. ويخرجون مبكرين ..


أنا أشاهد ذلك في اليوم خمس مرات ..


ليس تعصبا حينما أقول لكم بأن الهنود والباكستانيين وغيرهم أكثر أداءا للسنن الرواتب من السعوديين ..


وأكثر إنفاقا أيضا ..


عندما قام سائل بعد صلاة الجمعة وعرض حاجته وجلس في مؤخرة المسجد .. كنت أراقبه عن كثب ..

لم يخرج هندي واحد إلا ومد له ورقة نقدية حتى ولو كانت يسيرة سوى نزر يسير منهم ..

أما السعوديون فلم يعرج عليه أحد منهم إلا القليل نسبة إلى أولئك ..

قد تقول لي إن مايدفعه سعودي واحد يعادل ماينفقه عشرات الهنود .. وأوافقك على ذلك ولكني أتحدث هنا عن وجود المبدأ أساسا .. وربما كانت حاجة العامل لما أنفقه كبيرة بالنسبة للراتب الذي يتقاضاه بخلاف ماأنفقه السعودي نسبة إلى راتبه ..


عندما قمت من نومي صباح أحد الأيام .. سمعت جلبة خارج المسجد .. أسرعت إلى الباب وإذا إمام المسجد عبدالرحمن وجماعة من جهة تسمى توعية الجاليات ينصبون خيمة كبيرة جدا ..


بادرت لمعاونتهم وعرفت فيما بعد أنها لتفطير الصائمين في رمضان ..


هبت نسائم رمضان الإيمانية الرخية ..


وكنت عضد عبدالرحمن الأيمن في إدارة الإفطار مما جعله يتغيب في بعض الأحيان إعتمادا علي ..










حتى إن رجلا سعوديا حضر التفطير مرتين فرأى كثرة حركتي واهتمامي وحسن تدبيري .. فانفرد بي وأسر إلي بأنه يرغب نقل الكفالة إليه مع مضاعفة الراتب ..

استهجنت منه هذا التصرف القبيح ..

ورفضت عرضه بشدة ..


لقد ودعت رمضان كما لو كنت أودع صاحبا عزيزا على نفسي .. فهذه المناسبات تجعلنا نحس بأننا نعيش في مجتمع أخوي مسلم .. لانحس به في غيرها ..


ولكن عبدالرحمن لم يقوض الخيمة ..


وطلب مني التجهز لإقامة عيدية صباح الغد في يوم العيد .. وكان ذلك فعلا ..


فقد حضر العمال وهم في كامل زينتهم إلى مصلى العيد وشاركوا الأهالي صلاتهم و دعواتهم ثم انقلبوا إلى الخيمة مباشرة دون أن يقبلوا رؤوس آبائهم وفلذات أكبادهم ..


و ماكادت نفحات أيام رمضان تنمحي حتى هبت نفحات الحج العظيمة ..


أسر إلي عبدالرحمن بأن الأخوة في توعية الجاليات معجبون بنشاطي ويرغبون مرافقتي لهم إلى الحج وأن أكتر سيكون معنا .. وأن عبدالرحمن نفسه سيكون برفقتنا أيضا ..

أعتذر إليكم الآن لأني لاأجد وصفا يمكنه استيعاب سعادتي ..

أخذت يد عبدالرحمن لأقبلها فسحبها بسرعة وهو يستعيذ بالله من الشيطان ..

اتصلت بأهلي وبشرتهم ..

كلهم حملوني وصايا من مكة والمدينة ..


ومكثت أعد الليالي انتظارا لساعة الانطلاق ..


في باص كبير كنا مجموعة كبيرة من الهنود والباكستانيين والفلبينيين والبنجلاديشيين .. وجاليات أخرى ..


يدير الباص شباب سعوديون مبتسمون دائما ..


حينما توشحنا بياض الإحرامات وبدأنا بالتلبية خفق قلبي بما لا أدرك كنهه ومعناه ..


وحينما رأيت الكعبة لم تستطع قدماي على حملي ..


تهاويت في مكاني وأنا أرفع يدي بالحمد وأبكي .. ضجيج الطائفين حول الكعبة الواقفة بكل شموخ وهم يجأرون بالدعاء مهيب جدا .. وزمزم .. لقد تضلعت منه وغسلت رأسي به ومسحت على صدري واشتريت منه علبا كبيرة أوقعني في حرج مع إدارة الحملة حيث ذكروا لي أنهم يؤجلون ذلك لآخر الرحلة في العادة ..


كل الحجاج مسلمون .. ولذلك فأنا أحبهم كلهم ..


حالة من اللحمة الأخوية الإيمانية تجل عن الوصف ..


لكنني أصبت بخيبة أمل كبيرة ..


رأيت اثنين يتشاجران بالألسن ثم تفاقم الأمر إلى الاشتباك بالأيدي حتى اجتمع الناس ..


ورأيت حجاجا يرتدون الإحرام الجميل ويدخنون بكل شراهة ..


ورأيت حاجا يقضي حاجته في الشارع ..


وحصلت لي باقعة أقلقتني كثيرا ..


حيث نزعت حقيبتي الصغيرة وعلقتها على مشجب قرب دورات المياه .. كانت فيها أوراقي الرسمية ومئتان وخمسون ريالا .. كنت أقول : في الحرم .. حتى الحمام آمن على نفسه .. ولكنني لم نسيت أنني قلت ذات مرة بأن كثيرا من الحيوانات أقرب من بعض البشر ..


سرقت حقيبتي ..


بحثت عنها وأنا أولول في صدري .. أنقل بصري بسرعة في كل اتجاه .. وفي كل المواضع القريبة ..


يبدو أنها قد سرقت ..


تحدرت من عيني دمعة حارة .. وتأسفت أسفا شديدا ..


في المخيم .. علم عبدالرحمن بما حصل لي فطمأنني .. ودس في يدي أوراقا نقدية حينما رأيتها عرفت أنها مئة وخمسون ريالا ..


وقام أكتر من حيث لاأدري بمخاطبة بعض الهنود فجمع منهم خمسة وستون ريالا ..


عندما عدت من الحج .. كنت أتحسس رأسي المحلوق وأنا أتذكر رأس ذلك الشيخ الحاج الذي احتفل به أهل القرية .. عنما كنت صغيرا ..



في شهر صفر سأكون هناك في قريتنا قرب كيرلا ..



سأرى أمي وأبي بعد ثلاث سنوات قضيتها فيما حدثتكم به ..


وسأتزوج إن شاء الله


ربما تكون لي عودة مرة أخرى


وحتى ذلك الحين ..


أستوعكم الله الذي لا تضيع ودائعه


وتقبلوا السلام مني



أخوكم / وحيد أبو الكلام

الجمعة 22 / شعبان / 1427 هـ









.

آخر من قام بالتعديل كرمع; بتاريخ 15-09-2006 الساعة 05:10 PM.
كرمع غير متصل