إلى الظلاميين في زمن الادعاء التنويري..!
د.حسن بن فهد الهويمل
تظل الأيام معي كما هي مع (المتنبي) أشكو إليها ضيق الوقت، وتشتت الفكر، وجور الجشع القرائي، وهي جند ذلك كله، تحرمني من قراءة من يفرحني، ومن يترحني، ومن يجمجم عما في نفسي، ومن يتحدى مشاعري، ومن هو فوق هام السحب، شرفاً في اللفظ، وتألقاً في المعنى، ومن هو مترب مقو، لا يغني ولايقني، ومن يؤذي كما العقرب التي يقول ملسوعها (حب الأذية من طباع العقرب) ومن هو برُّ رحيم، يحمل هم أمته، ويرود لها موارد النجاة، ومن هو فظ غليظ القلب، لايحمي ساقه، ولايرود لمقدمة.
وفي هذا الزمن المتلفت كتبته الأحداث والمتصابئون على كل الضوابط، أمرٌّ بمقترفات كتابية لطائفة من مدعي التنوير والطلائعية، ولمن خلا لهم الجو من مبتدئين، ويسترفدون مقروءهم الآتي، فيأتون به كما (طيلسان ابن حرب). ومع طوفان التعاضد مع المضل، واسترفاده، منَّيتُ نفسي بقراءة ذلك كله، لأتمكن من نصر الأخ الظالم أو المظلوم، استجابة لحديث: - (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). حتى إذا توارت تلك المقالات بالحجاب، بكل ما تحمله من خطأ وخطل ومناصرة وتخذيل، رأيت الناس منها في برم وضيق وتذمر، فقلت مكرهاً: ردوها عليَّ، لتظل في حقيبتي أياماً، وحين لايجود الوقت بساعة من نهار لقراءتها، ألقيها جانباً، وفي النفس ما فيها من الحسرات. غير أن امتعاض الخيرين واستياء الغيورين يضطراني لإرجاع البصر، ولو لمرة واحدة، لأرى أكثر من فطور. وكلما هممت باستخدام المجسات والمسابير، ونقض الأنساق الثقافية التي تصدر منها تلك الآراء الفجة والتصورات الخاطئة، وتحيل إليها، شُغلت بنوازل يرقق بعضها بعضاً.
ولما أن بلغ السيل الزبى، وتجرأ على الثوابت من لايزن الأمور، عقدت العزم على مكاشفة أولئك الموغلين في الإثارة والتجديف ضد التيار. ولقد تذكرت وأنا في حمأة الاستياء قول الله لرسوله {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} ولمحت في هذه الآية معطى دلالياً، في غاية الأهمية، وهو أن عظمة المبدأ لاتكفي وحدها لاستمالة الآخرين وإقناعهم، بل لابد من وسيلة تُمتِّع وتستميل وتقنع، وهي (اللين والتودد) ومن قبل هذا قال الله لموسى وهارون، حين أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} وما أصحابنا الذين أوذينا باستفزازهم ومزايداتهم إلا مسلمون جنحوا للغرب، وأُشربوا في قلوبهم عجله، وقليل منهم مجتهدون، لم يحالفهم التوفيق في كثير مما يقولون. وما هم ونحن إلا طلاب حق، وحقهم علينا ألا نسيء الظن بهم ابتداء، وفي الوقت نفسه لايخدعنا الخبُّ ولا المتماكر، ومن غايته الحق فواجبه ألا تأخذه العزة بالإثم، فإذا قيل له: اتق الله، لزمه الإذعان ومحاسبة النفس قبل أن يحاسب، والكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. والذي أتوقعه في سائر الكتبة في صحفنا - على الأقل- وفي المشاركين في حوار القنوات من أبناء البلاد أنهم لايتعمدون المخالفة. وأن أحدهم يكتب ما يكتب، ويقول ما يقول عن حسن نية وسلامة قصد وحرص على الموافقة لمقتضيات الدين ومقاصده، وإذا اندس فيهم من لايحمل همهم، أو حاد أحد منهم عن جادة الصواب، لزمهم التنبه له، والبراءة مما يصنع. ولنا في (نوح) عليه السلام وابنه قدوة، ولنا في أبي الأنبياء (ابراهيم) عليه السلام وأبيه أسوة. وأملنا أن يكون المثيرون قولا وعملاً واعتقاداً من أهلنا، فأبناء الفطرة رجاعون إلى الحق، ولو ثبت أن أحداً ممن نحسن الظن به يتعمد مناقضة الأحكام، ويصر عليها، لما وسعنا إلا مواجهته بما هو عليه، ولا كرامة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وهناك فرق بين الخطأ ابتداء، والخطأ إصراراً وعناداً، فمن بان له وجه الصواب، ولم يرعوِ، فهو مصر معاند، وعلى من يملك تغيير المنكر باليد أن يأطره على الحق، متى تبين له العناد والإصرار وتعمد المخالفة. ومصائب الأمة في مفهوم الثوريين للحرية، وفي إيمانهم بحتمية العداء لكل أشكال السلطة، وتخوين الموالين لها، وهو مفهوم خاطئ، مخالف لآليات الحضارة الإسلامية وأساليبها في الحكم وإنكار المنكر. ولأن طائفة من الظلاميين باسم التنوير يخلطون بين الشرائع والمناهج والإجراءات، ويدعون أنهم وقَّافون عند الكتاب والسنة، وأنهم يسلمون لهما، وأن ليست لهم الخيرة من أمرهم، متى قضى الله ورسوله أمراً، فإن واجب العلماء أن يرشدوا ضالهم، وأن يعلموا جاهلهم. وإذا لم يقيض الله لهم من يواجههم بالحقائق فإن واجب كل واحد منهم أن يسأل نفسه: لماذا أصادم الرأي العام؟ ولماذا الناس يختلفون معي؟ ولماذا يتعرضون لي بالسب والشتم والمضايقة عبر قنوات الاتصال والمواقع؟ هل الناس جميعاً على ضلال، وأنا وحدي على الحق؟ وهل سألت نفسي يوماً ما: عماإذا كان ما يقوله الناس حقاً؟ وهل تواضعت لحظة من نهار، وحملت مجموعة من مقالاتي أو كتبي المثيرة للاشمئزاز لمن شهد له الناس بالعلم الشرعي والتقوى والوسطية، وطلبت منه عرضها على مقاصد الشريعة ومقتضيات نصوصها القطعية، ؟ وهل اختلافي مع المفكرين الإسلاميين وفقهاء الأمة من الاختلاف المعتبر؟ ولماذا هذه الجفوة بيني وبين حملة العلم الشرعي والفكر الإسلامي المستنير وركوني لمن هم موضع الشبه؟ إن الكلمة مسؤولية، وهي دمار أو عمار، وحملتها ممن يسنون سنناً حسنة أو سيئة، وهم شركاء بالأجر أو بالوزر إلى يوم القيامة، وما قامت الملل والمذاهب والنحل والأحزاب والدول (الدكتاتورية) من (ماركسية) و(فاشية) و(نازية) إلا على اللسان والسنان ({وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}. والمؤسف أن كثيراً من الكتبة والمحاورين يطلقون الكلمات المدانة أو الاتهامات المعمَّمة، لايلقون لها بالاً، تهوي بسمعتهم، وتشكك في نواياهم، فيما يتقحم المشاهد مبتدئين بثقافة سمعية، لاتؤهلهم للقيادة الفكرية، ومع ذلك لايراجعون، ولايتراجعون، ولاينفكون من العناد، ومعول نكراتهم وأحداثهم أنهم لايلوون على مثمنات، ولايخشون استعداء الناس، وكأني بسراتهم وجهالهم يردد كل واحد منهم: - (أنا الغريق فما خوفي من البلل)، وطائفة منهم متمكنون في علمهم غير أنهم فهموا الاصلاح والتجديد على غير مراد الحق، فكان أن عولوا على حضارة الغرب لتنقذهم من التخلف. ولما أن كانت حركات الاصلاح الغربي قائمة على (العلمنة الشاملة) فإن البعض من هؤلاء لايجد حرجاً من مقاربة ذات التوجه، ولايخفي تذمره من نفاذ (التيار الديني) في كبريات المؤسسات، وليس من الكياسة أن نداهن هؤلاء، ولا أن ندعهم وشأنهم، ذلك أنهم معنا في السفينة، وخلخلة الوحدة الفكرية من أخطر الظواهر، وما نعايشه عبر وسائل الإعلام الصحفية والقنواتية ومراكز المعلومات وبعض المواقع نذير شؤم، فالمفكرون ومن دونهم يصطرعون حول الثوابت والمسلمات، وليس الخلاف فيما بينهم معتبراً.
وما أكثر السامريين المصرِّين على أن المناوئين لهم ما ضويون، وأكثر المصدقين لهم، ومتى أطلقوا (الماضوية) ظنوا أنهم حسموا الموقف لصالحهم، وما عرفوا أن أكثر الوقافين عند حدود الله أمضى منهم في التجديد، وهل من التجديد، ما يكتبه نكرات متعالمون، أومثقفون مستغربون؟ يتناولون فيه قضايا (المرأة) و(المناهج) وسائر الأوضاع بطريقة مؤذية، وكأن من حولنا من الدول العربية ممن أتاحوا للمرأة التبرج والاختلاط والخلوة ومزاحمة الرجال، وملأوا مشاهدنا بالمغنيات والممثلات والراقصات قد حققوا من وراء ذلك غزو الفضاء، وصناعة الإنسان، وسلاح الردع، وكانوا أعزة أغنياء، وأننا بالتزامنا ومحافظتنا تخلفنا عنهم، وفاتنا الركب.
ومع ما غمرنا من طفح القول ومشبوه الكلم فإنني لا أجد الوقت الكافي لقراءة كل ما يدور من دعوات مغثية، تثير الاشمئزاز ، وتبعث على الخوف. لقد زودني البعض بقصاصات وكتب، وزودني آخرون بنقاط مستوحاة مما ينقمون به على مثل هؤلاء. وإذا لم تكن تلك النقاط مبتسرة من سياقها فإنهم محقون في تذمرهم. وأحب في غمرة التمرد مناصحة من أتوسم فيهم الخير من شركائنا في مهنة الكتابة، وهي مهنة معتقة أو موبقة، وكلي ثقة برحابة صدورهم وثقتهم بأنفسهم، ومفاتحتي إياهم دافعها الحب لعقيدتي ولوطني وحرصي على سلامة المجتمع الذي أنتمي إليه، وأنعم بأمنه واستقراره وتلاحم أبنائه، وحبي للكتبة أنفسهم، امتثالاً لحديث (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وإذا كنت أحب لنفسي أن يستعملني الله في طاعته، وفي خدمة عباده، وأن أمتلك الشجاعة في محاسبة النفس، والقدرة على كف اللسان، وعدم قفو ما ليس لي به علم، وتحامي افتراء الكذب على الآخرين، وإذا كنت حريصاً على أن تظل الفتن نائمة، والأمة متلاحمة، ولو على المفضول، اقتداء بالرسول الرحيم، يوم فتح مكة، حيث لم يعد بناء الكعبة على قواعد ابراهيم، جمعاً للكلمة، وتفادياً للشقاق والتفرق، إذا كنت في ذلك كله كذلك. فإنني أحب لكل عالم أو مفكر أو كاتب أن يكون كما أريد. ولعل أصحابنا الذين يقترفون ما هم مقترفون من مخالفات لا تحتمل التأويل ولا التبرير على علم بأنني أحرص الناس على أن يأخذ كل مقتدر حيزه، وأنني أبعد الناس عن مصادرة الحقوق والإقصاء، ولست ممن تأسره المذهبية، ولا ممن لا يرى إلا واحدية الرأي، ولست حدياً صارم الحدية. وحين لا تجمعني بأحد منهم إلا اخوة الإسلام، ونعمّا هي من علاقة، إذا أخذناها بحقها، فإن من أولويات حقها أن أصدقهم القول، وأن أنصح لهم، وأرجو ألا يكونوا ممن لايحبون الناصحين. والصدق والنصيحة لا تتحققان إلا إذا كان كل واحد مرآة صافية، ينظر فيها الآخر ذاته المعنوية بكل ماهي عليه. وإذا بدت من أحدنا غلطة فمن حقه على كل متلق أن يبادر إلى إهدائها إليه، ورحم الله من أهدى عيوبنا إلينا، وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه. وكم أود من بعض أولئك الذين يخوضون في مصائر الأمة بغير علم، ويبغون حكم الجاهلية في قضايا المرأة والمناهج والاجتماع، أن يكونوا على علم بفقه الأحكام، وفقه الواقع، وفقه الأولويات، وأن يعرفوا قواعد المذاهب وأصولها وشروط الاجتهاد عندها، وحدود الحرية ومجالات الاختلاف، ومقاصد الشريعة، وسد الذرائع، ودرء المفاسد، والمحرم لذاته، والمحرم لغيره، ومدى حق السلطان في الحظر والإباحة والطاعة، ومقصد الأصوليين من مقولة (لا اجتهاد مع النص) ذلك أن جهل مثل هذه القاعدة بالذات أردت علماء وفقهاء ومفكرين، ف (النص) هنا: هو ما لايحتمل إلا دلالة واحدة، وليس المقصود به مطلق القول. وحين لايحتمل النص إلا دلالة واحدة، لايكون للاجتهاد فيه مكان. وكثير من المتعالمين: إما أن يخوضوا في كل نص، أو يحجموا عن الخوض في كل نص، ولايفرقون بين القطعي والاحتمالي، محققين معجزة من معجزات الرسول الغيبية في (رفع العلم) في آخر الزمان، وذلك ما تعانيه كافة المشاهد في راهنها. فلقد شارفنا على نزع العلم الشرعي أو كدنا، وعلى نزع الورع والحياء أو كدنا. وأين المتسرعون اليوم من (أبي بكر الصديق) الذي سئل عن (الأب) في قوله تعالى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم؟ وأين هم من (الفاروق) الذي يجمع الصحابة عندما تنتاب الأمة نازلة؟ ويطلب من رواة الأحاديث من يشهد لهم، بل أين هم من (لا أدري) وهي نصف العلم، ومن قالها فقد أفتى. لقد سمعنا أغيلمة أحداثاً يتشامخون، ويتعملقون، ويقولون بكل جرأة في قضايا الأمة: الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية. وارتيابنا من الاحتفاء بهم، وتمكينهم من وسائل الإعلام، مع ما هم عليه من ضحالة في التفكير وسوء في التعبير، ورأينا أشيمطين متصابين يوغلون في النيل من حراس الفضيلة، ويبسطون أيديهم لناشئة ليست على شيء من العلم، ولا على شيء من التجربة. وإذا قيل لهم: اتقوا الله، وقولوا قولاً سديداً. قال قائلهم: -نحن رجال وهم رجال، وقال آخرون: -إن ما نقوله من حرية الرأي والتعبير المكفولة لكل إنسان. وحسبك من هؤلاء ما تشاهده من قتل للأبرياء، وهدم للمتلكات، وإخلال في الأمن وخلل في الفكر، وتمردعلى السلطة، وخوض جريء في آيات الله. ولو أنهم لم يؤلهوا الهوى، ولم تعجبهم آراؤهم، ولم يتزببوا في زمن الحصرمة، ولو أنهم عرفوا قدر أنفسهم، لكانوا قد سألوا أهل الذكر، وردوا خلافهم إلى الله والرسول وأولي الأمر منهم. وإذ تكون حجتهم في التغيير ضعف الأمة وتخلفها، تكون حجتنا ذات حجتهم، ولكننا نختلف في الحل، فهم يودون اللحاق بحضارة الغرب والانسلاخ من حضارتهم، فيما نود فهم الإسلام ومقتضياته والانطلاق منه والرد إليه، بحيث يكون النور الذي نهتدي به موقداً من شجرة زيتونة لاشرقية ولاغربية.
وإذ مسنا الضر من تطرف الموغلين في الدين بغير رفق وبغير علم فإننا على وجل من المتطرفين في الفكر، الخارجين على رأي الجماعة، المستمرئين للنيل من كفاءات الأمة العلمية والفكرية، ومن القائلين في القضايا الفكرية والتربوية والاجتماعية دون تثبت، ودون تسليم للمرجعيات المعتمدة، وكيف يقبل عاقل رشيد الخوض في (قضايا المرأة) دون استصحاب الموقف الإسلامي، ودون تحفظ او استثناء في زمن نرى فيه تسليع المرأة واستغلال جمالها في الإعلام والتمثيل والدعاية والتجارة، وقبولها تلك النخاسة، واستمراء الرجل لذلك وما من عاقل رشيد غيور يقبل على محارمه أن يكن كاسيات عاريات مائلات مميلات، ولقد خصم الرسول صلى الله عليه وسلم الشاب الذي طلب منه ان يحل له الزنا، فكان أن سأله عما إذا كان يرضاه لأمه أو لأخته أو لزوجته أو ابنته.
وفي الوقت نفسه لن يمانع اي عاقل رشيد أن تأخذ المرأة وضعها الطبيعي في المجتمع، وأن تكون عضواً عاملاً، متى دعت الحاجة الى خروجها من المنزل. وحين يتحدث مدعو الإصلاح عن (حقوق المرأة) فعلى اية شاكلة يرونها وما التجربة المثلى التي يحيلون إليها؟
إن التجارب القائمة في سائر أنحاء العالم تقتضى المصير الى التحديد والتوصيف ووضع الضوابط، وهذا ما اختلف فيه مع الظلاميين، ولأنني لا اريد نسف الجسور، ولا تعطيل قنوات الاتصال بيني وبين أي محرض على التمرد والسفور والاختلاط وعلمنة المناهج فإنني أحاول أن اضع كل واحد أمام ضميره، ولن أقابل مجازفات اولئك بمجازفات مماثلة، تحيد بكل الأطراف عن جادة الصواب، وتؤدي الى المجاراة في المنهي عنه، ولن أبحث عن شواهد الإدانة، ولن أصعد الخلاف، فأنا طالب حق، ولست طالب انتصار، ومبدي نصح، ولست باحثاً عن إدانة، وكم أود أن يجري الله الحق على لسان من أخاصم. وإذ لا اقطع بضلال أحد، فإنني لا أريد لهذا البلد الذي قام على العقيدة السلفية الوسطية، الرادة عند الاختلاف الى الله والرسول ان تعصف به الأهواء، ولا أن تؤول أموره وأحواله الى ما آلت إليه أحوال الدول التي شط أبناؤها في آرائهم ومواقفهم وتصرفاتهم، فكان ما نراه من تصدع في التلاحم، واختلال في الأمن، ونقص في كل وجوه الحياة، وما ذلك إلا بسبب صدام الأفكار، وتنازع السلطة والخروج على شرعة الله ومنهاجه. وما نقم مني البعض تصريحاً أو تلميحاً إلا لأنني ادعو الى أخذ الحذر من دعاة السوء، والتزود من المعارف قبل التصدي والتصدر، امتثالاً لأمر عمر: (تفقهوا قبل أن تسودوا) والرد عند الاختلاف الى الله والرسول وأولي الأمر.
فإذا قلت: إن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت، فليس معنى هذا انني اعارض التعليم والعمل ومشاركة المرأة بما هي أهل له، ثم إنني بهذا القول أرد الى الله، والله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } فلماذا يحيل الناقمون القول عليّ، ولا يحيلونه الى مصارده. وإذا كان الوضع الطبيعي أن تقرّ المرأة في البيت، فإن الوضع الاضطراري ان تبرحه، وحين تكون المبارحة اضطراراً كان لابد من ضوابط، وليس من متقضيات القرار تحريم الخروج والعمل، ونساء الصحابة خرجن وعملن، والرسول عمل أجيراً عند (خديجة) والتحفظ الذي نقول به حملنا عليه ما آلت اليه أوضاع المرأة من تبذل وامتهان وإخلاء للبيت لتحلته امرأة اجنبية. وإذا قلت: إن عمل المرأة مشروط بشرطين (قيام الحاجة وعدم الاختلاط) فإنما أرد الى الله، والله يقول على لسان ابنتي شعيب: { لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (23) سورة القصص فصدور الرعاة من الموارد خشية الاختلاط، وشيخوخة الأب لتأكيد قيام الحاجة لعمل المرأة، وإذا قلت: إن عمل المرأة خارج المنزل ضرورة تقدر بقدرها، فإنما أرد الى الله، والله يقول لآدم: { فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (117) سورة طه ولم يقل (فتشقيان)، لأن العمل الشاق من مسؤوليات الرجل. ولأن الرجل هو الكادح والمنفق فقد كفي الحمل والرضاعة، وحّمل القوامة والسعي في مناكب الأرض، فيما أعطيت المرأة ما لم يعط الرجل من الحنان والعطف والنعومة،وأعطي الرجل ما لم تعطه المرأة من القوة والخشونة الجسدية، فما عيبت امرأة في بكاء، وما حمد رجل عليه ولأن لكل من الرجل والمرأة خصائصه الجسمية والنفسية، وله مجاله الاختياري الملائم لخصائصه فإن القول بمطلق المساواة، أو القول بتوحيد المناهج قول مخالف للسنن الكونية التي رتبت عليها السنن الشرعية، وإذا قام الاختلاف العضوي والنفسي بين الرجل والمرأة فإنه يلزم من ذلك قيام الاختلاف في المهمات والاحتياجات، وإلا أصبح التنوع من العبث، ولأن الله رتب الكون على ثنائية الازدواج، فقد فضل احدهما على الآخر، ليجعل له سلطة التدبير المتخلية عن التسلط والاستبداد، ومن ثم كان جل الخطاب للمفضل، ولم يكن خطاباً ذكورياً كما يعتقد البعض، ومع ان الغرب أوغل في المساواة الا أن المرأة الغربية تظل دون الرجل في كثير من المسؤوليات بما فيها رئاسة الدولة، ذلك ان الطبيعة تغلب التطبع، فالمرأة الغربية لها مطلق الحرية في الفعل والترك والمشاركة، ومع هذا تظل مسبوقة بمسافات كبيرة من قبل الرجل، لا بقوة القانون، وإنما بتفاوت التكوين والمصير العفوي للطبيعة البشرية، والقائلون بغلبة الخطاب الذكوري العربي لا يفكرون بغلبة الرجل الغربي على المرأة مع غياب الخطاب الذكوري.
وحين أقول بمنع السفور والاختلاط فإنما ارد الى الله، والله يقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} ويقول {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وإيما امرأة خضعت أو اختلطت أو خلت أصبحت عرضة للريبة والطمع، ولنا في أم المؤمنين (عائشة) رضي الله عنها موعظة، لقد تعرضت لخلوة اضطرارية، فكان (حديث الإفك)، وفي الأثر أن نفراً مروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يكلم ابنته، فقال: إنها فاطمة، ولما عجبوا قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، أو كما في الأثر فأين نحن من (عائشة ومحمد وفاطمة)، ولما حصلت الخلوة بين (يوسف) عليه السلام وامرأة العزيز{غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } (23) سورة يوسف ولما كان حديث البعض من دعاة التفرنج عن المرأة يتجاوز المشروع كان لزاماً علينا أن نرد قولهم الى الله والرسول، وعليهم أن ترحب صدورهم إذا قلنا: هاتوا برهانكم ولا برهان إلا من آية أو حديث، نذعن لهما ونسلم، ونحن طلاب حق وبلادنا محكومة بالكتاب والسنة. وتجربة (المنتدى الاقتصادي) خير دليل على أن الناس بحاجة الى وزاع سلطاني، وأطر على الحق، وفي الأثر: أن الله ليزع بالسطان ما لا يزع بالقرآن. وحين لا نتناهى عن منكر فعله المتسرعون طالنا ما يطال اليهود الذين أخبر الباري عن عدم تناهيهم عن المنكرات، ومشروعية اشتراك المرأة في المنتديات والمؤتمرات لا يستدعي السفور ولا الاختلاط، وما أضاع الأمة وحرمها من سماحة الإسلام إلا الافراط في المنع او التفريط في الإباحة، ولو أن النسوة اللائي اشتركن في الملتقى عرفن ما لهن وما عليهن لكان أن تمتعن بحقهن المشروع الذي يوفر كل الحقوق ويمنع كل التعديات.
والذين يدعون فيما يكتبون أنهم مصلحون، وان المرأة محرومة من حقوقها المشروعة، ثم يسوقون شواهد من وقوعات أو من تعامل جائر مع المرأة يحيلون ذلك الى الكافة، والكافة منه براء، وعليهم حين يحكمون على جور أملته العادات أن يربطوا الأسباب بالمسببات، وان يقارعوا تلك الظواهر بما درج عليه سلف الأمة، فالمرأة لها مثل الذي عليها بالمعروف، واشكاليتنا في تحديد هذا المعروف، فهو واقع بين افراط المتشددين وتفريط المتسيبين، أقول قولي هذا وأنا اعرف حق المرأة في (العلم) و(العمل) و(التجارة) والخروج المنضبط، وانها نصف المجتمع، وشقيقة الرجل، وأن قوامة الرجل الشرعية لا تسلب حقاً، ولا تعطل قدرة، ولا تمنع من الاستجابة لخدمة المجتمع في المجال الذي لا تسده إلا المرأة، أو أن من الخير ألا تسده إلا المرأة، وتقرير ذلك كله لذوي الاختصاص والمسؤولية، فمثل ذلك النوازل، و(فقه النوازل) لابد له من اجتهاد جماعي ورؤية مؤسساتية، فحين لا يكون على المرأة (جهاد) ولا (نفقة) وحين تلزمها الشريعة الإسلامية بالمحرمية في السفر، فمن ذا الذي يقرر خروجها وجهادها وانفاقها وسفرها في حالات الضرورة؟
وحين تقتضي الحياة خروج المرأة من البيت للدراسة او للتجارة او للعمل، فمن ذا الذي يحدد ذلك ويرسم طريقه ومجالاته، أهل الذكر والحل والعقد أم المستغربون المتعلمنون؟
أقول ما تقرأون، ولي تجاربي التي تحميني من الاتهام بالشدة والإمعان في منع المرأة من حقوقها المشروعة، فأنا اب لاثنتي عشرة بنتاً هن عندي زينة الحياة وبهجتها، ثمان منهن جامعيات، واربع منهن عشن في أمريكا مع ازواجهن ودرس بعضهن هناك، وواحدة منهن اعطت محاضرات في الكمبيوتر في الجامعة، وهن زوجات موفقات، منهن العاملات، وأكثرهن ربات بيوت، عملن ثم فضلن التفرغ للزوج والأولاد وشؤون البيت بالطوع والاختيار والاستغناء، ولم ازل اشرف على ثلاث رسائل دكتوراه لثلاث طالبات، فهل سيكون موقفي من المرأة القائم على القرار في البيت والتزام الحجاب وتفادي الاختلاط والخلوة والتبرج سبباً في ضياعهن أو جهلهن او تعطيل نصف المجتمع، كما يحلو لدعاة السوء أن يقولوا عني؟
دعك من قضايا المرأة، وخذ بيدي الى قضايا (المناهج)، و(السياسة)، ولما كنت ابني بجدة (المناهج) تعلماً وتعليماً وممارسة منذ نصف قرن فإنني حقيق بالقول، ولا فخر، لقد درست في ثلاث جامعات عربية، وتخصصت في التربية وعلم النفس، ومارست التعليم على مدى خمسين سنة، وحاضرت في المناهج، وألفت في ذلك، وخبرت التعليم من الكتاتيب حتى الدراسات العليا، وأشرفت على رسائل الدكتوراه وناقشتها، ولم أزال اتقلب في التعليم منذ السادسة عشرة من عمري، ومع ذلك لم اسلم من الغمز واللمز والسخرية، وكأنني كهفي أبعث بورقي الى المدينة. وحين أقول: أن مناهجنا لا تصنع ارهاباً، ولا تكفر أعياناً، فإنني أقول: إنها في الغالب لا تخرج إلا كتبه، وانها لا تساير خطط التنمية، ولكنها مع هذا ليست سيئة بالقدر الذي يشيعه المستغربون والمتسرعون، ويكفي أنها خرجت الأطباء والمهندسين والعلماء، وعشرات الآلاف من المتخصصين في مختلف العلوم الإنسانية والعلمية، وربما كانت بلادنا من أكثر دول العالم في الابتعاث للدراسة الى الخارج، وما كان احدهم بدعاً في تربيته وتعليمه، وما كانت مناهجنا من قبل مثل جدل ولا استنكار ولا استغراب.
والذين عادوا متأثرين بالأفكار الغربية شكلوا طوائف (ليبرالية) و(فرانكوفونية) ان هم إلا سليل تلك المناهج التي تتهم من الداخل والخارج، ومع إصرارنا على التطوير فإننا نفرق بين الاتهام السافر والملاحظات المتزنة، وإذا لم نطور مناهجنا يوماً بعد يوم، ونأخذ من مناهج الغير أحسنها وأقدرها على مواكبة الحياة المعاصرة سبقنا العالم. وأسلمة المناهج لا تشكل عقبة في طريق الإصلاح ومواكبة الحياة، ومن فهم الأسلمة على غير ذلك ففهمه مرورد عليه، وعمليات التطوير شيء والاتهام والاستعداء شيء آخر، والذين يسايرون الأعداء في اتهام مناهجنا بالارهاب أو بالتكفير، ويحتمون بمراوغة اللغة، يجهلون او يتجاهلون (سبعين عاماً) من عمر التعليم، ويتجاهلون الملايين من مخرجاته ممن يختلطون مع مختلف الجنسيات والأديان، ويجوبون آفاق المعمورة، دون ان يمسوا أحداً بأذى، ولقد كان (الأمريكيون)، بالذات يذرعون فضاء أرضنا جيئة وذهاباً، منذ عهد الملك (عبدالعزيز) الأشد تمسكاً بالسلفية، ينقبون عن المعادن، لا يرافقهم إلا أعرابي طارت شهرته في الآفاق، ولهم اسهامهم في تعليم أبناء البلاد، مما هم بحاجة إليه في القطاعات العسكرية والتخصصات العلمية، كما أنهم يمارسون مختلف الأعمال في المستشفيات والمصانع والمؤسسات، وما قيل عن احدهم انه قتل غيلة، ولم تكتشف اللعبة، وهمت كل طائفة بأختها وصفيت الثارات، ولكيلا ترد الأحداث الى مصادرها فتتعرى اللعبة، وينفضح اللاعبون، حملت المناهج وزر غيرها، واستخدم طغام الظلاميين لترويج الفرية.
أما السياسة فلست ابن بجدتها، ولكنني قارئ نهم، بدأت قراءتها فيما كتب عن (لعبة الأمم)، وصدام المصالح، وصراع الحضارات، ودسائس الاستشراق، ومكر التبشير، ومكائد الاستعمارو وسير الزعماء ومذكراتهم، والاستخبارات ومغامراتها وقصص الثورات وعمالتها، ومتابعة الوثائق التي يفرج عنها كل حين وملفات القضايا المصيرية، وما تعانيه الشعوب من ويلات، وعايشت احداثاً مؤلمة من نكسات واحتلال وتطبيع ومواطآت وتراجعات مؤلمة، فتبين لي ان العالم العربي والإسلامي يعيش تحت وطأة لعبة سياسية كونية، أتت على مقدارته وأمنه، وأذهبت ريحه، ولما يزل يخرج من لعبة قذرة، ويدخل في أخرى، ومن تعاطى السياسة كما يتداولها الاكاديميون او كما تبثها وسائل الإعلام فقد يضر بمصالح أمته السياسية، فن الممكن، ولقد عايشها عقلاء مجربون، فخرجوا من مستنقعاتها، وهم يلعنون ساس ويسوس وما تصرف منها وعجبي من مفكرين وكتاب يظنون ان ما يقوله الإعلام الغربي حق لا مراء فيه، ومن ثم يرتبون أمورهم ومواقفهم على ما ينتهي إليهم منه وصدق الله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46) سورة الحج
وبعد: كل الذي أرجوه من اولئك الذين آذوا البلاد والعباد ان ينظروا في مسلماتهم، وان يتزودوا من العلم الشرعي، فهو مرجعية حضارتهم، وان يؤصلوا لمعارفهم، وان يمحصوا مواقفهم بالمراجعة والمحاسبة والمساءلة، وحين تلتبس عليهم الأمور، عليهم ألا يجدوا حرجاً في أن يسألوا أهل الذكر، فدواء العي السؤال، وفوق كل ذي علم عليم، وإذا كان بعض اولئك غاضباً على الذين يؤذونه بالاتصالات، ويسبونه من خلال المواقع المعلوماتية، ومن خلال الردود والرسائل فليعلم ان البادئ أظلم، ولو ترك القطا لنام، وما بعد البعد نقول: (انج سعد فقد هلك سعيد).]
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
آخر من قام بالتعديل عباس محمود العقاد; بتاريخ 23-11-2006 الساعة 03:08 PM.
|