مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:12 PM   #7
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مكة المكرمة في عيون المثقفين والأُدباء..!!
د. حسن بن فهد الهويمل


الحديث عن وادٍ غير ذي زرع في عيون المبدعين والمثقفين كافة يصرف الأنظار إلى ما تمتاز به تلك البقاع، وهو امتياز لا يضارعه امتياز، وأيّ مبدع أو متحدِّث أو متعقِّب لفيوض العطاء لا ينفك من ذلك الامتياز، لأنّه المهيمن، ولأنّه ثر العطاء، يجم على المتلقِّي حتى يكاد يغرق بالمعلومات. وكيف لا يكون الأمر كذلك؟ وأفئدة الناس تهوي إليها، ويأتيها الرجال والرّكبان من كلِّ فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، وما من متعقِّب إلاّ ويسْتَشْعِرُ تلك الخصوصية، ويستذكر لحظة اللقاء بين السماء والأرض، آمراً بالقراءة مشيداً بالقلم الذي يتعلّم منه الإنسان ما لم يعلم.
وفي المستهل أود أن أتقرى ولو بلمس مفاهيم: (المكان) و(المثقف) و(الأديب)، ومدى ارتباط الرؤية بالبصر والبصيرة، وانطلاق البصائر من الخلفية المعرفية والروحية. إذ ما من مبصر أو متبصِّر إلاّ وتعدو حواسه مجتمعة أو متفرِّقة إلى ما وراء المشاهد من قيم: روحية وتاريخية، خافقة بأجنحة الدراية والرواية والمواقف. وما الحديث عن الأطلال إلاّ لما تثيره من ذكريات، وحبُّ الديار مرتبط بكوامنها من الأناسي والأحداث، على حد:




(وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديار)


ومكة حين نقرؤها بهذه الرؤية، في ضجّة الاحتفاء، تتكشّف عن قضايا وأحداث ومواقف أحسبها بعدد المتحدِّثين عبر مختلف القرون. أمّا (المثقف) فهو ذلك الإنسان القارئ بنهم لكلِّ ما تصل إليه يده أو عينه، متفاعلاً مع المقروء، مستثمراً له، في ظل فهم دقيق، وتمثُّل واعٍ. أمّا (الأديب) هنا فهو الموهوب الذي يبدع النَّص الشِّعري أو السَّردي مسجِّلاً لتجربة، أو محدِّداً لموقف. ولما أن فُرض عليَّ الحديث عن تلك الرؤى، لم أجد بدّاً من الرجوع إلى حقل (مكة المكرمة) في مكتبتي، مسترفداً من سبق، وتلك سنّة الله في خلقه. فما من كاتب أو متحدِّث إلاّ هو آخذٌ بنواصي مقروئة يحلب أشطره، ومن ادّعى نقاء نصِّه فقد وهم وأوهم. ولقد أحسست وأنا أتصيّد شوارد المقروء أنّني كما (خراش) الذي تكاثرت عليه الضباء، فما يدري ما يصيد وما يدع.
ولأضرب بعض الأمثال، لتجسيد الصعوبة في أطر الموضوع والسيطرة عليه، أشير إلى مفردة واحدة في حقل واحد في زمن محدود، فلو تقصَّينا (أدب الرحلة الحجازية) في العهد السعودي فقط، وهو عهد لم يبلغ القرن، لوجدناه زاخراً بالأعمال الثقافية والأدبية من عرب وعجم: أُدباء وساسة وعلماء ومؤرِّخين واقتصاديين وجغرافيين. وكلُّ راصد لرحلته إلى تلك البقاع يسلِّط الضوء على جانب من جوانب الحيوات الحجازية التي تتنازعها الحاضرة والبادية والأمن والخوف، والرَّخاء والشدّة. والرّاصد الأدبي لهذه الظواهر يتوخَّى أدبيّة النص وثقافته، والراحلون إلى مكة، إمّا أن يكونوا حجّاجاً أو عُمّاراً متعلّمين أو مجاورين، وقد يطلبون على هامش ذلك فضلاً من الله عبر البيع أو الشراء. ولكلِّ قادم خلفّيته الثقافية التي تحمله على تسجيل أحداث وقضايا تختلف عمّا يسجِّله الآخرون، والقارئ لا يستغني بشيء، ولا يستغني عن شيء.
فالأديب المصري (إبراهيم عبد القادر المازني) - على سبيل المثال - بوصفه كاتباً صحفيّاً يسلِّط الضوء على العادات والأزياء، ويصف المَشَاهِد والمشاعر وطرق الحج، فيما يهتم (عبد الغني شهبندر) بالجوانب الاقتصادية. والراحلان متقاربان زماناً، مختلفان ثقافة وهمّا. فيما تأتي رحلة (محمد بهجت البيطار) مركِّزة على حياة البادية. ولو تجاوزنا في (أدب الرحلة) خاصة إلى ما قبل العهد السعودي، لوجدنا العجب العجاب، وللقارئ أن يستعرض (مرآة الحرمين) أو (الرحلات الحجازية والحج ومشاعره الدينية) للواء (إبراهيم رفعت باشا) في السنوات من 1318 إلى 1325هـ ليقف على صور الحياة البائسة واختلال الأمن ومعاناة الحجاج في حلِّهم وترحالهم، واستعدادهم كما لو كانوا محاربين. فأيّ عيون نقتفي أثرها؟ وأيّ رؤية نأخذ بعصمها، وأيّ قول نكتفي به؟ ولك أن تقول أكثر من هذا عن الإبداع السّردي. أمّا الشعر فخلق آخر، لا يحيط ببعضه أولو العزم من الدارسين، ولو استمدّ الكاتب مداد الأرض ما كان له أن يستوفيه.
ولربما كان مشروع الدكتور (عبد العزيز راشد السنيدي) المعجمي الحصري عمّا ألّف عن (مكة) قبل العهد السعودي وبعده، وعن (الحج)، ومشروع الدكتور (منصور بن إبراهيم الحازمي) المعجمي عمّا اشتملت عليه جريدتا: (صوت الحجاز) و(أم القرى) من مقالات ودراسات وإبداعات، ومشروع (دارة الملك عبد العزيز) عن (الملك عبد العزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى)، ومشاريع أخرى لا نعلمها، هذه المشاريع إطلالة متواضعة ومحدودة على الكم الثقافي والأدبي الذي صوّر أرض القداسات في عيون الأُدباء والمثقفين وهي بمجموعها كما الكوّة النافذة إلى عوالم شاسعة، لا تحيط بها الأبصار. وما أحد بقادر على أن يحدد الرؤى والتصوُّرات لو أنّه فرغ لجمع العناوين فضلاً عن الحديث الموجز أو المفصّل عن أنواع النصوص. والقارئ لعناوين الكتب يكتشف أنّ مكة تثير كوامن النفوس، وتثوِّر ما تراكم فيها، ليكون تعبيراً عن الذوات من خلال المثير، وذلك مؤشّر لعبقرية المكان، ومتى عرف أن من فرض في الأشهر الحرم الحج شدته انتماءاته الفكرية والعقدية والمذهبية وخلفيّاته الثقافية، وقال قولاً له خصوصية الذات المثارة بفعل خصوصية المكان.
وفيما يتعلَّق بالرؤية الأدبية الحديثة نجد أنّ موسوعة (مكة المكرمة الجلال والجمال) تمثِّل إطلالة دراسية، سجَّل الباحثون فيها رؤيتهم لهذه البقاع الطاهرة من خلال الأدب العربي في المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص. ومكة تحتلُّ في ذاكرة الشِّعر القديم والحديث أعلى المراتب وأوسع المساحات، وهي الأكثر حضوراً في الشِّعر العربي كافة والشِّعر السعودي خاصة. وكيف لا تكون، وهي مهبط الوحي، ومصدر الإسلام، ومن ربوعها انطلقت قوافل الجهاد والدعوة والتعليم، وعند بيتها المحرّم التطمت أمواج المعارف، وعلى أديمها وُلد الهدى ودرج، وتحت كلِّ صخرة فيها حدث غيّر وجه التاريخ.
ومنذ أن قصدها (أبو الأنبياء) ورفع القواعد من البيت حتى اليوم وهي مادة الحديث ومداده، ومن مغارات جبالها انبثق النور، وأشرقت الدنيا بنور ربها، ولجبالها وشعابها حضور في التاريخ القديم والحديث فضلاً عن مشاعرها وبطاحها، وكلُّ وافد إلى مكة يرى في شواخصها الجلال والجمال. وكلُّ مستعرض للتاريخ يحس بدورها في إلهام الشعراء ونجدة المؤرّخين. والشعراء يفعمهم الحب والوله، ويحدوهم الإيمان إلى تمجيد الجبال والشِّعاب والضراب والآكام:



(أيا قمة فوق هام الخلود
سمت بسناها الشذي العطر)
... (هناك حيث شعاب الله مجدبة
وإنما خصبها عَفْوٌ وغفران)


وإذ لا يكون الإحساس إزاء (مكة) مادياً فإنّ الشعراء رأوها كما لو كانت قنينة عطر أو جدول ماء، حتى لكأنّك تعصر الحجر ميثج الماء الفرات، يقول حسين عرب:



(ترابك أندى من فتيت معطر
وصخرك أجدى من كريم الزمرد)


ويقول:



(والمحاريب والمشاعر كون
ناطق بالتقى وبالإيمان)


ولأنّ ربوع مكة لم تكن مجرَّد مكان تطرقه الأقدام، ويجوس خلاله ذوو المآرب الدنيا، فإنّها ألهمت الشعراء، وأثرت الأُدباء، وفجَّرت المواهب. إنّها أكوان من المعارف والثقافات والأحداث، تموج بها ربوع مكة في الغدوِّ والآصال. إنّها سجلاّت منشورة، لم ترفع أقلامها، ولم تجف صحفها، وكيف يرفع التاريخ ريشته ويريق محابره وأفئدة الناس تهفو إليها من كلِّ الفجاج، وعمّار المساجد يطهِّرون بيت الله للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السُّجود. لقد هبّت طائفة من أصحاب الدراسات العليا لتقصِّي هذا اللون من الإبداع، فكان أن أغنوا المكتبة العربية برسائل التطمت فيها الإبداعات الأدبية والدراسات الأدبية والاجتماعية، بحيث تجسَّدت من خلالها رؤية الأُدباء والمثقفين لتلك البقاع الطاهرة، فكتبوا عن الشِّعر في الحج وعن سائر الحيوات الأدبية والاجتماعية وعن عدد من الأُدباء والعلماء، وعن الزعماء في عيون المبدعين، وكلُّ متحدِّث تفرض مكة نفسها عليه لتحتلّ المكان الأوفى.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل