مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:15 PM   #9
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مواجهة المفاجآت المؤلمة في الحج..!
د. حسن بن فهد الهويمل


من تصور أنه حين يفرض الحج على نفسه أو على من يلي أمره يكون الحج بالنسبة لهما سياحة ممتعة فقد نسي أو تناسى البلد الذي لا يبلغه الراجلون والركبان إلا بشق الأنفس، والحتم المقضي أنه ليس في وسع أحد كائنا من كان أن يتوفر على كامل الراحة له، أو أن يوفرها كما يريد لقاصدي الحج والعمرة. وحين نسلم كرها بالمشقة بكل تصوراتها وتنوعاتها تكون أمامنا احتمالات الكوارث والأوبئة والحوادث والاختناقات المجهدة، وليس بيد المسؤول عن الأمن والراحة إلا وقف الأزمات عند الحد المعقول، ومحاصرة المشاكل في مهدها، بحيث تكون تحت السيطرة.
والسفر بوصفه قطعة من نار، أو هو النار كلها - كما تقول عائشة- رضي الله عنها - جزء من مشقات الحج، بل أكاد أعده الجزء الأسهل في سياق تبعاته، وبخاصة حين أمَّنت السبل وعبدت الطرق، وتعددت وسائل النقل. والخبيرون باستعدادات الدولة للحج يستبعدون كافة الاحتمالات السيئة، ولكن المفاجآت تأتي بما لا يشتهي المسؤول، ولكل موسم مفاجآته غير المتوقعة وغير السارة.
ومن تلك المفاجآت غير الحميدة سقوط العمارة القائمة في موقع حساس ومهم، لا يمكن معه تصور بقاء مبان آيلة للسقوط في موقع كهذا، ولكنه قضاء لا مرد له، ومن ذا الذي يتصور حدوث مثل ذلك في ظل الإمكانيات المذهلة التي تملكها الدولة وتسخرها، ولا أشك أن حدثا كهذا ناتج ثغرة تركها حراسها مثلما ترك الرماة الثنية في (غزوة أحد)، ولقد تداولت المشاهد الإعلامية هذا الحدث الأليم، وتلمست الأسباب، وضربت في متاهات الاحتمالات، وفي زحمة الأقاويل، وتعدد الآراء، وتدفق المعلومات، وقفت على خبرين يجب أن يكونا بداية الخيط الموصل إلى مكمن الداء:
الخبر الأول: ما جاء على لسان العمدة قوله: إن المبنى معروف من ثلاثين عاما، وقد أضيف إليه قبل أربع سنوات طابقان.
والخبر الثاني: قول المالك: إن لجنة الكشف على المساكن أعطت شهادة بالصلاحية.
وأمامهما تكون الكرة في سلة (الأمانة) أو (اللجنة)، وليس الهدف من تحديد المسؤولية التمهيد للقتل، أو الاستعداد لقطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو ممارسة النفي من الأرض لمقترف الخطيئة، وإنما الهدف وضع الأمور في مواضعها، ومساءلة الجهات المهملة أو المواطئة: أفرادا كانوا أو مؤسسات، وإيقاع الجزاء المناسب ليشهده من سيخلفهم، فإذا كان الخطأ ناتج تحميل أدوار على أساسات لا تحتمل، فهذه مسؤولية (أمانة العاصمة المقدسة)، فمن أعطى الفسح؟ وعلى أي أساس أعطاه؟ وهل تم ذلك عن جهل أو إهمال أو محسوبية؟ وإذا كان الخطأ ناتج استهلاك للعمر الافتراضي، فمن منح المبنى حق الاستثمار؟ والخبران مع أهميتهما يحتملان الصدق والكذب، إذ ليس من حق أحد أن يكون الخصم والحكما، وإذا أتى المحاسبون يجادلون عن أنفسهم يوم الدين فإن من حق المتهم أن يجادل عن نفسه، وليس من حقه استبعاد المحاكمة والمعاقبة، والمالك والمسؤول سواء أمام العدالة.
إن تحديد المسؤولية لن يعيد الحياة لمن مات، ولكنه كما القصاص {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}. وعندما جاء الإسلام شرعة ومنهاجا، قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} وكان حقا على السلطة التشريعية محاسبة السلطة التنفيذية أمام السلطة القضائية عن كل تقصير أو تهاون أو تحايل.
والذين يجملون القول، ويلقونه على عواهنه، ويتولون كِبر الإفك يلمزون الدولة بتقصير المنفذين، واحتيال المتلاعبين، ولا يكلفون أنفسهم التفريق بين السلطة المشرعة والسلطة المنفذة، ولا معرفة ما يبذل من أموال وجهود وطاقات بشرية، ولا يقفون على ما يجود به أهل الدثور من مأكل ومشرب ومأوى لأبناء السبيل. وما علموا أن الدولة تنفق بسخاء، وتجند كل الطاقات، وتضع أدق التعليمات، وترسم أشمل الخطط، وتشكل فرق العمل، وإذ لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم فإنه إذا جهل فرد، أو ضعفت نفسه، وأفسد جمال الموقف وجلاله وجب أن يحاسب حسابا عسيرا. و(رئيس لجنة الحج العليا) وعد بأنه لن يدع الأمور تمر بسلام، وحسنا فعل، ذلك أن الدولة حين لا تقصر ولا تبخل يحق لها أن تحافظ على سمعتها، وليس من العفو المحمود الإغماض فيه.
وبعد أن تجرعنا مرارة السقوط غير المتوقع، فوجئنا بما هو أكبر، وهو حادث الجمرات المتوقع، وهذا الحدث تكرر أكثر من مرة، وما كان له أن يكون بهذا الحجم في ظل الإمكانيات المادية والبشرية المبذولة بسخاء، ولكنه وقع، ولقد ردت الأسباب للازدحام ولحمل المتاع في ساعات الذروة، ولجهل الحجاج، وعدم تقيدهم بالتعليمات، أو عدم معرفتهم بها، وهذه الساعة العصيبة تمر بالمنظمين في كل عام، وكم نود أن تكون حاضرة المشرفين، لقد حصل التدافع، ووقعت الواقعة، وكل حاضر يشهد بما علم، والإعلام المرجف يلتقط ما يسمع، وقد يضيف أو يحذف، وما فات لا يرد، ولكننا بصدد ما هو آت، لكيلا تتكرر المأساة. أعرف جيدا أن الدولة لم تدخر وسعا، ولم تتوان في تطهير بيت الله للطائفين والعاكفين والركع السجود، وأنها ستبذل المزيد في سبيل العتق من هذه المنخنقات، والتطوير الذي باركه (خادم الحرمين الشريفين) سيحل كثيرا من إشكاليات الجمرات، ومع كل الاحتياطات تبدو ثغرات وثنيات لابد من استحضارها في كل موسم.
لقد تحدثت مع عدد من الحجاج العائدين واستطلعت آراءهم حول ما كان، وما يجب أن يكون، ولا أستبعد أن يمارس المسؤولون ذات الاستفتاء، وأن يجمعوا كل ما يمكن جمعه من المعلومات، وأن يحللوها، ويخرجوا بنتائج إيجابية، ولا أشك أن (مركز أبحاث الحج) يستبطن الشيء الكثير من الخبرات والتوصيات، وما سنقوله نقطة في بحر لجٍّي، ولكننا سنقول، وعلى المعني بأمر الحج أن يرحب صدره، وأن يلقي السمع وهو شهيد.
ولا مفر، ولات حين مناص من ازدياد عدد الحجاج، وتذليل وسائل النقل البري والبحري، ولا خلاص من المخالفين لأنظمة الإقامة، والجاهلين بتعليمات الحج، والمسنين، والمفترشين، والضعفاء، والمغامرين طلبا للشهادة، والمتشددين في الأنساك، وتلك عوائق لا يمكن حسمها بسهولة، ومهما كانت التعليمات صارمة فإن هناك أكثر من ثغرة ينفذ منها المفسدون لروعة الحج وروحانياته، وأمام تلك الحتميات لابد من أخذ الاحتياطات اللازمة، ومواجهة القدر المأزوم بكل قوة، واختيار الأيسر من الأنساك، واعتماد قول رسول الرحمة للمستفتين: (افعل ولا حرج)، واستبعاد الوقافين عند المقدم في المذهب، وعلى مستوى الكثافة فإن التقديرات المرتبطة بإحصائيات المنافذ البرية والبحرية والجوية وقوائم المصرح لهم من الداخل من الموهمات، إن العدد الحقيقي أكثر من هذا بكثير، فهناك المقيمون بمكة، والمتسللون إليها، والمتخلفون، والمخالفون للتعليمات من حجاج الداخل: مواطنين ومقيمين الذين ينفذون إلى المشاعر مشيا على الأقدام، وترتيب الأمور على ضوء الإحصاءات الرسمية من المضلات، وأقوى المحرضات ما يمارسه الخطباء في المساجد والواعظون المتطوعون في التجمعات من حث على موالاة الحج والعمرة، مع ما في ذلك من مخالفة صريحة وآثمة لأمر ولي الأمر الذي لا تتم مقتضيات البيعة الشرعية إلا بطاعته، متى لم يأمر بمعصية، وحيث إنه ربط الحج بالرخصة تفاديا للاختناقات المهلكة، وقرر عدم التكرار إلا بعد خمس سنوات فإن المتحايل آثم، والمواطئ آثم، والمفتي آثم، وما يتعرض له الحجاج من اختناقات يمس الإثم المخالف والمفتي والمحرض، ولا يستخف بالتعليمات والضوابط المؤيدة من هيئة كبار العلماء إلا من فيه خصلة من الثوريين أو الخوارج.
والحياة بكل وجوهها لا يستقيم أمرها بدون سلطة مطاعة تزن الأمور، وتعرف المباح الممكن والمباح غير الممكن، بل لا تكفي الطاعة وحدها، إذ لا بد من إشاعة الأمر والتأكيد على تنفيذه، وواجب العلماء والفقهاء والمفتين وسائر المتنفذين إعلاما وتعليما أن يؤكدوا على إثم المخالف، وأن يحذروا العامة من مغبة عدم السمع والطاعة. والقادرون على الإنفاق والراغبون في التزود من التقوى لديهم مجالات واسعة، والأفضل من الحج المخالف للضوابط الملزمة شرعا أن يدفع المقتدر الممنوع بقوة المصلحة العامة نفقة حاج فقير، لم يؤد فريضة الحج، أو أن يسهم في أي عمل خيري، حتى ولو كانت نفقة الحج الممنوع.
ومشكلتنا المستعصية أننا لم نعِ بعد الفكر السياسي الإسلامي، ولو فهمناه حق الفهم لكان من أوجب الواجبات الاستجابة لله والرسول وولي الأمر، فالمخالفة مضرة بالحجاج الذي يستهمون في بلادهم لأداء فريضة الحج، وإذا تجاوزنا هذه الإشكاليات التي من الممكن تلافيها، أفضى بنا الحديث إلى ما يمكن تلافيه للتخفيف من توقعات الكوارث والأوبئة والحوادث، والدولة ساعية جهدها لاستكمال البنيتين: التحتية والفوقية للمشاعر، ولكنها بحاجة ماسة إلى مساندة الصفوة من العلماء والمفكرين والإعلاميين للتوعية والإرشاد.
وتلافيا لمفاجآت الجمرات الموجعة لابد من تفادي صد الأمواج أو حبسها وعدم التمكين من التكتلات البشرية، فالأمواج البشرية حين تقدم وهي متماسكة لا تفكر إلا بالوصول إلى حوض الرمي، وحين تصدر لا تفكر إلا بالخلاص، وعامة حجاج الآفاق من الضعفاء والمسنين والعجم، ونظرا لأن الرمي محاط بعقبات زمانية ومكانية محدودة، لا يمكن تفاديها فإن هناك ما يمكن تفاديه، وهو التفويج، وعدم التكتل، وعدم حبس الأمواج البشرية، ولابد والحالة تلك من الأخذ بالفتيا التي تفتح زمن الرمي، وتجيز التأخير والتوكيل، وتوسيع دوائر الرمي قدر المستطاع، حتى تكون بسعة الملعب الرياضي، وتعدد الأدوار والمداخل، بحيث يكون لكل دور مدخل ومخرج مغاير، والتمكن من إقفال أي مدخل يحصل فيه الزحام، وتحويل الأفواج إلى المداخل الأخرى، ولتفادي عقبات الافتراش الاستعجال في استخدام الجبال على شكل طوابق خرسانية مفتوحة ومدرجة تؤدي إليها أنفاق متعددة المداخل والمخارج، وهذا الاستخدام الجانبي يجعل الوادي فضاء رحبا.
وأحسب أنه حان الوقت لاستخدام القطارات التي تحت الأرض لمنع الشاحنات والحافلات وسيارات الأفراد، ولأن الافتراش والتدفق العشوائي مشكلة مستعصية، لا يمكن القضاء عليها بسهولة، ولأن الأثاث المحمول على الظهور من معوقات الانسيابية في العبور والتحرك فإنه لابد من إيجاد آلية تقلص هذه الإشكاليات، وليس هناك ما يمنع من استخدام باطن الأرض في وادي منى كأقبية واسعة للمفترشين، وليس هناك ما يمنع من تسليم قطع من أرض منى للمطوفين والشركات والأثرياء: المحسنين أو المستثمرين لتحويل باطن الوادي إلى أقبية واسعة للافتراش، والامتداد الرأسي على شكل طوابق مكشوفة لكي يخلو وجه الأرض في منى لمن سبق.
إن هناك إشكالية المتخلفين، وهم بمئات الآلاف، وإشكالية العمالة وهم بالملايين، وهؤلاء يفدون إلى مكة راجلين أو مهربين من شهر رجب للعمل في هذا الموسم، ولأداء فريضة الحج بثمن بخس، وهذه الكتل البشرية تشكل عوائق كثيرة، وقد يمارسون أعمالا مخلة بالأمن والصحة، ولا سيما أن الأثرياء يوزعون المشرب والمطعم بشكل يكفي للملايين.
ولكيلا يكون التسابق في إنشاء المبرات مظنة التكاثر فإنه لابد من وضع آليات تفيد المعوزين ولا تغري على المخالفة. إن حجاج الداخل المدفوعين على التطوع والمتخلفين والمتسللين هم مكمن الخطورة، ولابد من التصرف معهم بحكمة وقوة، ووضع آليات تكفل للدولة نفاذ تعليماتها، وإذا تساهل المسؤول أضاع فرص النجاح، والشاعر يقول:




قسا ليزدجروا ومن يك راحما
فليقس أحيانا على من يرحم


ولابد من وضع الأمور في موضعها الصحيح والسليم:



ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى


وأمام هذه الكوارث المؤلمة لابد من القوة، ولابد من فرض النظام، وفرض احترامه، ومتى أحس أي متلاعب أن النظام نافذ، وأن مبدأ الثواب والعقاب قائم، وأن الجزاء من جنس العمل تردد كثيرا قبل أن يقدم على التحايل. إن هناك إزهاق أرواح، والدولة معذورة حين تأخذ الأمر بقوة، وتحاسب المخالفين للتعليمات، والمساعدين، والمشجعين، والمفتين، حتى الخطباء والوعاظ الذين يضربون بالتعليمات عرض الحائط، يجب أن يحاسبوا على مخالفتهم، وأن يمكنوا من التفقه في السياسة الشرعية ولا سيما أن (هيئة كبار العلماء) بوصفها المؤسسة الدينية العليا منحت التعليمات والأنظمة الشرعية والنفاذ.
ولو أن (وزارة الشؤون الإسلامية) عقدت دورات قبل الموسم، وأبانت لأكثر من عشرة آلاف خطيب أن طاعة ولي الأمر واجبة، وأن التحايل على الأنظمة يعد مخالفة شرعية يأثم الفاعل والآمر، وأن إزهاق الأرواح بسبب الازدحام مرده إلى الموالاة بين الحج والعمرة، ومساعدة المتخلفين والمتسللين، وأن الحجاج الوافدين من المسنين والعجزة، وأن من حقهم علينا توفير الراحة لهم، وأن مكة وشعابها ومشاعرها محدودة المساحة، ولا يمكن أن تستوعب تلك الأعداد الهائلة، وأن حجة الإسلام للفقراء والمستضعفين أهم من حج التطوع من الأقوياء والموسرين، ومن بدر منه خلاف ما تقتضيه مصلحة الأمة وجبت مناصحته أولا فإن امتثل وإلا ردع. إننا في زمن أحوج ما نكون فيه إلى (درة عمر).
لقد روعيت مصلحة العامة في التاريخ الإسلامي، والرسول- صلى الله عليه وسلم- ينهى الأقوياء عن المزاحمة في الحج مع أن المزاحمة في سبيل الخير، وينثني عن فعل الفاضل مراعاة لمشاعر العامة. إن الإسلام يقوم على الوسطية والتيسير، ولهذا ربط الحج بالاستطاعة، والرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يحج إلا مرة واحدة طوال حياته مع مرور أكثر من عشر سنوات وهو في المدينة.
إن على الإعلام أن ينقل بالصورة والصوت ما يعانيه الحجاج، وما تغالبه أجهزة الدولة، ومتى تمادى المواطن والمقيم في الغي وجبت مساءلة كل متهاون، ومحاسبة كل مخالف، وإن لم نفعل استفحل الخطر، وظل الحج مظنة الكوارث والأوبئة والحوادث والاختناقات، وعلى الدول الإسلامية توعية حجاجها، وتزويدهم بأساليب الأداء الصحيح للشعائر تفاديا للخطر، وعلى حملة الأقلام والمتفقهين في الدين أن ينذروا قومهم في كل موسم لنكون من مطهري بيت الله لقصاده، وما لم يتعاون المواطن مع الدولة فإن ذلك مؤذن لإجهاض أي نظام يخدم الحجاج ويحفظ سمعتها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل