مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:22 PM   #14
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
التطاول في زمن التطامن..!
د. حسن بن فهد الهويمل


من عادتي حين أبرح ديار المقامة أن أصطحب معي من الكتب ما يرتبط بالمهمة، أو ما يرتبط بالظرف المعاش: فكرياً أو سياسياً أو أدبياً. وقد أكون ملتزماً بإنجاز عمل ما، فأتأبط شيئاً من مسوَّداته، وجذاذاته، وبعض مرجعياته، ثم لا أجد حرجاً في المبادرة إلى مواعيد السفر قبل أوانها؛ لأنتبذ ممن حولي مكاناً قصياً، أقرأ أو أكتب، أو أراجع، وفي الطائرة أغمس نفسي وسط كتاب أو مسودة عمل، متى رزقت بجار حيي، لا ينبس ببنت شفة، وقلّ أن أنشئ في السفر عملاً.
ولقد كان للعلامة الشيخ (حمد الجاسر) - رحمه الله - أثره عليّ في ذلك، ولما لم تتح لي فرصة مصاحبته في الكثير من أسفاره، إلا أن سفرة أو سفرتين، أدركت من خلالهما أنه يصطحب ما يلزمه من أمهات الكتب للقراءة التحضيرية، ومما هو محفور في الذاكرة أني التقيت به في (أبها) لحضور بعض الفعاليات هناك، وكان رحمه الله يلاطفني، ويبوح لي ببعض القول، ويستعين بي لأقرأ له، عندما يكل بصره أو يضعف عزمه. ويومها كان يحمل مجلداً من كتاب (تاج العروس) (للزبيدي)، وهو من معاجم اللغة الموسوعية، وكانت طباعته رديئة، وحرفه دقيقا، وحجمه كبيرا، وكنت أقرأ عليه حتى يستوقفني؛ ليدون ملاحظاته على ما ورد فيه عن المواقع والجبال والأودية في (جزيرة العرب)، وقد أصبح عمله هذا مشروعاً أنجز من خلاله كتاباً، استدرك فيه على الأوائل ما وهموا فيه، أو تحديد ما عمموا مكانه.
واصطحاب الكتب أو الملفات يمتص فائض الوقت، وإن كانت أجواء السفر لا تساعد على فراغ الذهن، وحين أعود من الرحلة محملاً بما اشتريت، وبما أهدي لي مع ما تيسر من أوراق العمل ومما دونته عن تلك اللقاءات من حوارات ومداخلات، أفرق ذلك كله في حقوله وملفاته في مكتبتي، وقد لا أعود إليه، ولكنه من باب التوثيق. وكلما حطت ركابي في مكان، فرغت للتنقيب فيما معي من كتب، ومستلات صحفية. واصطحاب الكتب من مكتبتي لا يكون اعتباطاً، وإنما هو محكوم بالمناسبة أو بالظرف. وفي مناسبة الاحتفاء ب(مكة المكرمة) كعاصمة للثقافة الإسلامية، أتيحت لي أكثر من مشاركة، ربما تكون محصلتها كتاباً يجمع شتات تلك المشاركات. في هذه الاحتفالية عنّ لي أن أحمل كتاباً من كتب (الفقه المقارن) عن الحج والعمرة ومتعلقاتهما، وبعض ما نشر من مقالات مثيرة، استللتها حين لفت نظري إليها بعض المتحمسين، وهي مقالات مريبة؛ لأنها تتعمد الخوض في المسكوت عنه دون مبرر، وتستعذب التشكيك في كبريات القضايا، وتنتشي بلمز بعض أعلام الأمة. وإشكالية المتزببين في زمن الحصرمة أنهم يستفرغون المقروء ولا يهضمونه، ويستجيبون للخطاب المناوئ، وكأنه القول الفصل. والمسيء لوجه المشهد الفكري بدو الخلط العجيب عند هذه الفئة بين المناهج والآليات والمفاهيم، حتى لكأن ما يفيضون به (كشكول) متنافر الأشكال والألوان، ولو سئلوا عن مقترفاتهم لقالوا بلغة الجزم: (القول ما قاله أساطين الفكر الغربي)، وقد تبلغ بهم الحماقة منتهاها؛ فيقولون بحق الاجتهاد، وحرية الفكر، ونحن رجال وهم رجال. وما علموا أن لكل شيء شرطه وضابطه ودواعيه في ظل حضارة الانتماء لا حضارة الهيمنة.
وكتب التراث - ومنها كتب (الفقه المقارن) - تزخر بما يجهله المتهافتون على المتداوَل الغربي، وتكشف عن جهود متميزة، وإمكانيات متفوقة لعلمائنا الأوائل، لو عرفها المولون الأدبار لما وسعهم إلا الإكبار لسلف الأمة. وسمة المعارف الإنسانية سرعة التحول، وبخاصة ما يتعلق منها بعلم الفقه الحكمي. والفقهاء يواجهون النوازل التي تكشف لهم خبايا النصوص، كما تكشف القنابل الضوئية عتمة الأرض؛ لتسديد الرماية، أو لفتح الطريق أمام زحف الجيوش. والمقالات التي تقمشتها من بطون الصحف لكُتاب يركنون شيئاً كثيراً للفكر الغربي، دون وعي بنمطوياته، ويبتدرون النوازل، ويبادرون بالأحكام، ولا يتورعون من الوقوع في أعراض العلماء، وقد يستلون قولاً شاذاً أو مفردة من مفردات المجتهدين المقيدين أو المطلقين، ليربكوا المشهد، وليلبسوا على الناس ما يلبسون.
ولقد تراءت لي آيات ونذر: أما الآيات فؤلئك اللفيف من العلماء الأفذاذ الذين نذروا جهدهم ووقتهم للجدل العلمي والفكري، وبناء حضارة معرفية متمكنة المنهج والآلية ونظرية المعرفة. وأما النذر فؤلئك النكرات الذين نذروا أنفسهم لهدم الشوامخ، وإخلاء المشاهد من أهل الذكر، وكأن من مستلزمات الاجتهاد والاختلاف التشكيك والإقصاء.
وإذ استكمل ورثة الأنبياء من جهابذة العلماء تجميع النصوص وتصنيفها وتصحيحها وشرحها واستنباط الأحكام منها، فإن في كل نص بقية، يستنبط منه اللاحقون أحكام النوازل، ولو أن الأوائل لم يتركوا شيئاً للأواخر لكانت الأمة في حرج أمام ما تمر به من أحداث وحوادث، ومن ثم لا تثريب على من واجه النوازل بالنصوص متى استطاع ذلك، ولا تثريب على من نظر في مدى قدرة الأحكام السالفة على استيعاب متطلبات العصر. والراصد لجدل العلماء الأوائل في مختلف العلوم النظرية، يُكبر فيهم دقة الملاحظة، وعمق المعرفة، وشمول الثقافة، وانضباط المنهج، والبحث عن وجه الصواب، والزهادة بالغلبة، والتعفف عن تزكية النفس، ومن شذ منهم تعقبه أنداده، إذ لا يخلو عصر من شطحات لا يحتملها السياق، ولا تقبل بها الأنساق، ولكنها من الندرة بحيث لا تشكل ظاهرة مخيفة. ولقد وقعت الواقعة يوم أن ابتدر الراية من لا يأخذها بحقها، ووجد من يشرعن له حق القول بغير علم، والتطاول على الأفذاذ من العلماء. وليس أدل على ذلك مما تعانيه الأمة من كتاب يستبقون الإساءات، ويختلقون الاتهامات لعلماء ومصلحين ودعاة، وإذا نهوا عما هم فيه لجوا في عتو ونفور. ولو أن المتنفذين في المشاهد شغلوا أنفسهم بالمستجدات، وغفلوا عن محاكمة الماضي لإرضاء دول الاستكبار، لكان خيراً لهم. والتفلت على حبل الاعتصام مؤذن بالفشل. ولهذا ما زلت أنادي بتفعيل المجامع العلمية، كمجامع اللغة العربية، والمجمع الفقهي، وهيئة كبار العلماء، وسائر المؤسسات الدينية؛ لملاحقة النوازل، واستنباط أحكامها، والحيلولة دون فوضى الجهود الفردية والفتاوى المرتجلة.
ومثلما أننا نعيش فوضى في المصطلحات وفي الترجمة، فإننا نعيش الفوضى نفسها في القضايا الفقهية، سواء منها ما يتعلق بفقه العبادات والمعاملات أو ما يتعلق بما هو أهم وأخطر ك(الفقه الأكبر) و(الفكر السياسي الإسلامي)، و(فقه العلاقات الدولية) و(الجهاد) و(الولاء)؛ ذلك أن المتسرعين من أنصاف المتعلمين يبادرون النوازل بفتاوى غير ممحصة، والعامة تلتقطها كما التقط آل فرعون موسى عليه السلام، ليكون لهم عدواً وحزناً. ومن لطائف التفسير اللغوي أن (اللام) للمآل، وليست للغاية، وأخطر شيء أن يكون المشهد قسمة بين (الحدّيين) و(المميّعين)؛ إذ لا حياة سوية مع الإفراط والتفريط.
ولو أن هناك مؤسسات متضلعة بفقه الأحكام، وفقه الواقع، وأصول الفقه، والحديث، والتفسير، وعلومها، والاجتهاد وشروطه ومجالاته، ونظرية المعرفة واختلافها من حضارة لأخرى، ولو أن العامة صرفت نفسها عمن يتلقون ركبان القضايا ببضاعة علمية مزجاة؛ لسلمت الأمة من الموبقات. وليس هناك ما يمنع من الخروج بأحكام متباينة، متى ربط كل مجتهد حكمه بأدلته ومقاصده ومشروعية تأويله، ومتى كان ذوو الآراء المخالفة من أهل الاجتهاد الناصحين المشفقين. وكلما أُبْتُ من سفر أتيحت لي فيه لقاءات مفتوحة مع أطياف المجتمع المحلي والعربي أوجست خيفة من التنازع والتنابز، وأحسست أنني مثقل بهمّ المشاهد التي لا تحكمها مرجعية، ولا يأطرها وعي بالسياق والنسق، ولا تسودها روح التسامح والتعاذر والتعاون.
ولما كانت في الأسفار مثل هذه المنغصات فإن فيها بصيص أمل، وخلوصاً من رتابة العمل، وفراغاً للنفس ورغباتها. فعندما ينفض سامر المؤتمرين، يأوي كل مسافر إلى غرفته في الفندق، أو يلتمس مكانه في البهو، ليأخذ بأطراف الأحاديث مع من حوله، ومن عادتي أنني عندما لا أجد طريقي إلى السمر ولا إلى النوم، أجده إلى الكتاب، فإذا أويت إلى غرفتي بادرت إلى القراءة (وخير جليس في الزمان كتاب). وكلما خلوت بكتاب أو مكتبة تذكرت ما قاله (العقاد) عن بيته ومكتبته، وهو القارئ النهم الذي يقضي الساعات الطوال بين الكتب، يحلب أشطرها، ويخرجه عذباً فراتاً سائغاً شرابه، فيما تأتي تلك المقالات المستلة كما الملح الأجاج، فمن خلالها أرى انطفاءات الفكر وضحالته، وسطحية القراء المخفين، مما يذكرني ب(ندل الثعالب)، وكلما تلبثت طويلاً في كتب التراث العربي في سائر المعارف أحسست أن هذه العلوم قد هيئ لها من يحملها، ومن يأخذها بحقها من العدول، وحين آلت إلى العققة من الأبناء، أصبحت كما الفتى العربي في شعب بوان، غريب الوجه واليد واللسان، فحين أفتش فيما استللت من الصحف، وما تولته من كبر النيل من العلماء، أقول في نفسي: ماذا يراد لهذه الأمة؟ ولا سيما أن المجندين والمتطوعين لهذا الفعل المريب، لا يبالون بأي وادٍ هلك الأفذاذ من علماء السلف وأساطين الخلف. والراصد للحراك الثقافي يحز في نفسه ما يراه، وما يسمعه من نيل سافر، وتجريح مريب، وكأن ما تعانيه الأمة الإسلامية من ضعف وهوان، من مقترفات الأعلام.
ولقد تذكرت في هذا الموقف شيئين: - العقوق والعبث. عقوق الخلف للسلف، والعبث المتعمد بالتراث، بحجة أنهم رجال والعابثون رجال. ولقد شهدت في مسارح علمنا وفكرنا وأدبنا وسائر معارفنا لغطاً كثيراً حول تراثنا، نهضت به طائفتان: - أساطين من العلماء والمفكرين الذين استحوذت عليهم شياطين الإنس والجن؛ فباعوا إمكانياتهم بثمن بخس. ومتعالمون تافهون، سدت أمامهم طرق الابتكار، فسلكوا بنيات الإنكار، فكانوا ألج من خنفساء وأتيه من ضب، ومحصلة ذلك كله في سلة المعادي في الدين. وأعداء الحضارة الإسلامية، إما أن يظفروا بمن يكثّر سوادهم، ممن توصف ثقافتهم بثقافة الضرار والانبهار، أو أن يقللوا سواد خصومهم بالتشكيك بالثوابت، وتدنيس المقدس. وكلتا الطريقتين قائمتان على أشدهما. وتلقى المكر والكيد من أبناء الحضارة المغلوبة على أمرها لا ينكرها إلا من ينكر ضوء الشمس من رمد.
واصطحاب كتاب في (الفقه المقارن) إلى جانب مستلات من القول الرخيص محاولة لإسقاط الدعاوى الكاذبة. لقد كان هناك متسع من الوقت لقراءة ما يتعلق بمثل هذا اللون من التراث، وبخاصة أن (مكة) مدعاة لإنشاء بعض الأنساك، ولست هنا مع خصوص الحدث والموضوع، بحيث أقف حيث تكون الأحكام التعبدية، وإنما أنا مع عموم الدلالة، فالخوض في (الفقه المقارن) يجلي قيماً معرفية مدهشة. لقد لفت نظري ما بذله علماؤنا من جهود مضنية في سبيل تحرير المسائل، والتقريب بين وجهات النظر، وأيقنت أن اللائمين لعلمائنا الواصفين لهم ب(الكهنوتية) إما جهلة مغمورون، يودون أن يكونوا على كل لسان، أو مدخولون في أفكارهم، يودون أن يعزلوا الأمة عن علمائها ومنارات الهداية في مسارها.
لقد أحسست بالزهو عندما تعقبت أقوال العلماء في مسائل الخلاف؛ إذ فيه ما يدل على غزارة العلم ورحابة الصدور، وما هم عليه من ثاقب الرأي وسديد الأحكام، وكم أدهشني، وأنا أستعرض ما يدور بين العلماء من سجال مرتفع النبرة، ذلك التداول المعرفي المحكوم بضوابط العلوم وأصولها، والذكاء الخارق في استدعاء الحيثيات، ولو أن الأدباء المهتمين بالتفكيك والتشريح والتقويض ومناهج التناص وكل متعلقات البنيوية نظروا إلى مطارحات علماء الفقه المقارن، وتداولهم للنصوص، وقدرتهم على استنطاقها، واستنباط الأحكام منها، والوصول إلى أدق التفاصيل فيها؛ لما كان منهم ذلك العقوق، ولما كانت منهم الجرأة على المخالفة والاستخفاف، وإذ لم تكن لهؤلاء العققة إلمامات بكتب التراث، وبعلم الأصول، وبنظريات المعرفة، فإنهم لا يجدون حرجاً من الخوض في الحديث عن العلماء وعما خلفوه من علم دون ورع، ودون تحرج، وتلك لعمر الله من مصاب مشاهدنا الفكرية والدينية. ولقد تساءلت من قبل عن دوافع النقمة على مشاهير العلماء والمصلحين ك(ابن تيمية) على سبيل المثال، وهو العالم الفذ الذي جالد وجاهد أصحاب الملل والنحل، وفند أخطاءهم، ورصد لتجاوزاتهم، متسلحاً بأصول المعرفة الإسلامية، متسامحاً مع المخالف غير المعاند، ملتمساً الأعذار لمن تأول، ولم أجد الجواب الشافي. وحين لا يكون الدافع علمياً يكون المتحرشون ممن استحوذت عليهم شياطين الحضارات المهيمنة، ولسنا هنا نمنع مساءلة السلف من العلماء ومراجعة مسلماتهم، ولا نضيق بشيء من ذلك، لو صحب المساءلة إنصاف واحترام واعتراف بالفضل، فحق السلف علينا الاعتراف بحقهم، والذب عن أعراضهم، والاختلاف معهم لا يستدعي النيل منهم.
وحين تصبح المراجعة مشروعة، والاختلاف متوقعاً، يكون من حق سلف الأمة الاعتراف لهم بالفضل، والترحم عليهم، والتماس العذر لهم. لقد حفزني على الدفاع عن علمائنا، ما أسمعه وأراه من نيل سافر، لا يسنده علم، ولا يحميه ورع. ولو أن المستمرئين لأعراض العلماء قرؤوا ما كتبه أولئك في مختلف حقول المعرفة؛ لما كان منهم تطاول عليهم.
وإشكالية المشاهد، أن طائفة من المستبدين بها، يقرؤون عن الأشياء، ولا يقرؤونها، وتلك خليقة ما كان لها أن تكون لمن يبيح لنفسه الحديث في القضايا الكبرى. في عوالم الدين والسياسة والفكر، لقد تبدت لي من خلال الكتب والجذاذات التي حملتها معي أن وراء تلك الحملة على العلماء ما وراءها، وأن ترك الأمور كما قرية (غوار الطوشة) مؤذن بفساد كبير، والأخذ على يد المتسرعين وإشعارهم بأن الرأي العام بحاجة إلى أن نحدثه بما يعقل كما الحيلولة دون خرق السفينة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل